|
المؤلف : محمد الغزالي
الناشر : دار نهضة مصر
الطبعة : الأولي
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
مقدمة قد أحزن عندما أبذل جهدى ثم لا أرى الثمرة المرتقبة، ومع ما يخامرنى من ضيق وإن ضميرى يكون مستريحا، وحسابى لنفسى لا يصحبه ندم أو خزى، وقد يجرى على لسانى قول القائل: "صح منى العزم والدهر أبى" وحسبى ذلك تأساء وتعزية.. والأمر على العكس تماما عندما أفرط فأجنى الخسار، وعندما أسيء البذر والحرث فأجد الحصاد الرديء فلا مكان هنا لاعتذار، ولا تقبل المكابرة من مكابر..!! بهذا المنطق العادل أريد أن يحاسب المسلمون أنفسهم، إنهم أمة دعوة عالمية، فما الذى قدموه لهذه الدعوة على الصعيدين المحلى أو الدولى؟ ومحمد نبيهم رحمة للعالمين فما مجلى هذه الرحمة العامة فيما يسود العالم من أفكار وفلسفات ومذاهب.؟ ليس هناك جهد إسلامى واضح لخدمة الرسالة الخاتمة وتبصرة الناس لما فيها من حق وخير، بل الذى يقع داخل الأرض الإسلامية يثير الريب حول القيمة الإنسانية لرسالة الإسلام ومدى انتفاع أهل الأرض منها، وتلك مصيبة طامة، أن يعمل الإنسان ضد نفسه وسمعته!! وسواء درى أم لم يدر فتلك نتيجة تسود لها الوجوه..!! والسنوات الأولى من القرن الخامس عشر للهجرة ضمت فى أضوائها هزائم قابضة، ذكرتنى بـ"ابن الأثير" وهو يصف همجية التتار فى اجتياح بغداد وعواصف الدمار التى هبت على العالم الإسلامى يوم ذاك، وأين المؤرخ الكبير، وهو يقول: ليت أمى لم تلدنى لأشهد هذه الأحداث الجسام!! إننا عشنا لنرى دك مدن عظام وتمزيق أمة كبيرة وغيبوبة الوعى الإسلامى بإزاء آلام تحرك الرواسى!. ومع النشاط الهائل الذى يسود جبهة الأعداء فقد رأيت بنى قومى لا يزالون يمضغون خلافات جوفاء، وتسيطر عليهم أفكار ضحلة، وتسيرهم أهواء قاتلة وشهوات غبية..!! ومن حقى وأنا أحد المشتغلين بالدعوة الإسلامية أن أصرخ بأشجانى وأن أبث همومى، إنه هم، وثان، وثالث..!!
ص _005
(1/1)
أحيانا نتحرك فى موضعنا، وأحيانا نسير فى طريق مسدود!، وأحيانا نضرب عن يمين وشمال وكأن بيننا وبين الصراط المستقيم خصومة..!! فى عالم يبحث عن الحرية نصور الإسلام دين استبداد، وفى عالم يحترم التجربة ويتبع البرهان نصور الدين غيبيات مستوردة من عالم الجن، وتهاويل مبتوتة الصلة بعالم الشهادة، وفى عالم تقارب فيه المتباعدون ليحققوا هدفا مشتركا. فلا بأس أن يتناسوا أمورا ليست ذات بال، فى هذا الوقت ترى ناسا من الدعاة يجترون أفكارا بشرية باعدت بين المسلمين من ألف عام، ليشقوا بها الصف ويمزقوا بها الشمل!! إن الثقافة الإسلامية المعروضة تحتاج إلى تنقية شاملة، وإن الدعاة العاملين فى الميدان التقليدى يجب أن يغربلوا لنعدم السقط، وننفى الغلط.. وفى هذا الكتاب نماذج محدودة لمثار الشكوى، ومصدر الهم!! والله من وراء القصد... محمد الغزالى أكتوبر1982 م- ذى الحجة1402 هـ ص _006
(1/2)
السلفية التى نعرف ونحب الهداة المبلغون عن الله جم غفير من بدء الخليقة إلى ختام النبوات بصاحب الرسالة العظمى، تلك الرسالة التى سوف تصحب العالم حتى يومه الأخير.. وهؤلاء الهداة تتفاوت أنصبتهم فيما أحرزوا من نجاح، وفيما أوتوا من مواهب، مثلما تتفاوت نجوم السماء قدرا وسنى..!! نعم، هناك نبى دعا فما استجاب له أحد، وهناك من دعا فلباه نفر قلائل، وهناك من نجح فى هداية قرية متوسطة العمران والسكان، وهناك من قدر على تربية جيل مضى على الدرب قليلا ثم أدركه الإعياء فتوقف.. وهناك من بلغ الحق واستحفظه صحبه، وما هى إلا سنون طويلات أو قصيرات حتى تسرب الحق من أيديهم، فتلاشى مع الزمن، وحل مكانه باطل خداع.. الرسالة الخاتمة ولكن من خمسة عشر قرنا ظهر إنسان فذ رمق ببصيرته القرون الماضية والقرون الآتية، وأمده الله بروح من عنده، فإذا هو يتحرك في صحراء الجزيرة حاملا البلاغ المبين، كانت الظلمة كثيفة والخصومة ملتهبة، وكسف الضلالة تتراكم فى الشرق والغرب، وكأنما نجح إبليس فى إغواء البر والبحر فما يبدو بصيص أمل.. على أن الرسول العربى الملهم، بدأ عمله بعزم يفل الحديد، وشرع فى تكوين الرجال الذين يؤمنون به، ويجاهدون معه، وأفلست كل المقاومات فى ثنيه عن وجهته، لقد مزق الحجب المسدلة على الفطرة، وانتعش العقل من غيبوبة رضته بالوثنية المخرفة، وصاح فى القلب الإنسانى: ألا تستحى من البعد عن الذى خلق فسوى وقدر فهدى.. وأبصر الرجال من حوله الطريق، فالتفوا به واستمدوا من صلابته بأسا فى إحقاق ص _007
(1/3)
الحق وإبطال الباطل: (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) وتلاوة الرسول ليست قراءة مجردة على نحو ما نألف!، إن تلاوته دليل عمل ورسم منهج وإيضاح خطة، كما يعلن فى زماننا أي حزب عن برنامجه العام وإن كان الفرق بعيدا.. ومنهاج الرسالة الخاتمة تغيير العالم أجمع، والعدة أولئك الأصحاب الذين نفخ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم من روحه، وفقههم فى كتابه، وجعل منهم أساتذة فى فن الحكم، ورعاية الجماهير، وحماية الحقوق، وتزكية السرائر، وبناء الأخلاق الحسنة، ودعم التقاليد الجميلة.. ذلك كله فى سياج من التوحيد المحض والعبادة النقية.. لا يدرى أحد كيف صنع محمد صلى الله عليه وسلم هذا الجيل القوى الوفى الزكى!، لا يدرى أحد ماذا سكب فى أفئدتهم من تقوى وفداء، وشهود لعظمة الله وإقبال على الدار الآخرة، لا يدرى أحد قوة الدفع وراء هذا الجيل الذى هزم فتن الحياة، وكيد الجبابرة، واستطاع بعظمة رائعة أن يسلم القرآن الكريم للأجيال التابعة دينا ودولة، وأن يجنبه ما عرا الكتب الأولى من تحريف وتصحيف.. أولئك هم سلفنا الصالح، الصالح لقيادة الحياة، وإرث الآخرة، عن جدارة لا عن دعوى.. أصارح أننى معجب بمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، مسحور بتربيته لهم وبجهادهم معه ومن بعده لاستبقاء الحق فى الأرض، ونفع العالمين به.. ألا ما أعظم صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وما أكبر دينهم فى رقابنا! أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فى الأولين والآخرين والآن بعد مسيرة طويلة للإنسانية أنظر إلى نفسي ومن حولي، فأجد الشبه قريبا بين أعداء محمد صلى الله عليه وسلم في الأولين وأعدائه في الآخرين! على حين أجد الشبه بعيدا بين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فى الأولين وأتباعه فى الآخرين.. ص _008
(1/4)
إن صحابة محمد صلى الله عليه وسلم عندما قدموا كلمة التوحيد للناس قدموها على أنها فكاك لأعناقهم من ضروب الوثنيات الدينية والاجتماعية والسياسية، فلا مكان فى ظل الإسلام لفرعونية حاكمة، ولا قارونية كانزة، ولا كهنوتية موجهة، ولا جماهير ذلول الظهر لكل راكب أو مستغل، ومن خلال تعاليم الكتاب والسنة أدرك الناس دون تكلف ولا تقعر أن الحريات موطدة وأن الحقوق مصونة، وأن العقل ينبغى أن يفكر دون قيد، وأن أشواق الفطرة تلبى دون حرج، وأن الدولة فى الإسلام مع المظلوم حتى ينتصف وعلى الظالم حتى يعتدل، وأن الصيحة الوحيدة التى يصحو عليها النائم ليصلى، ويصغى إليها المرهق قبل أن يدلف إلى فراشه ليرقد هى "الله أكبر الله أكبر" فجرا وعشاء.. هذه هى الدنيا كما فهمناها من ديننا، بيد أن العالم الإسلامى لا يعرف هذه المعالم فى دنياه، وقد يسمع عن شىء منها فى العالم الذى لا يعرف الإسلام.. ومما يثير الدهشة أن ناسا من المتحدثين فى الإسلام لا يعرفون عن هذه المعالم شيئا يذكر، وعندما يتكلمون فى الدعوة الإسلامية لا يعرجون من قريب ولا بعيد على هذه المعالم.. إننى لا أكلفهم باعتراض أوضاع فاسدة فهم دون ذلك! وإنما أكلفهم ببيان الحقائق العلمية، وشرح المقررات الإسلامية وحسب! منذ أيام قدم استجواب فى "الكنيست" اليهودى عن مقتل شاب عربى فى إحدى المظاهرات، ويظهر أن مقدم الاستجواب من العرب الشيوعيين فى "دولة إسرائيل".. ووقف "مناحم بيجن" يرد فى غضب شديد ويقول: تريدون أن تقيموا الدنيا وتقعدوها لمقتل شاب عربى؟! على حين خيم الصمت التام بعد مقتل عشرة آلاف فى "مدينة عربية مجاورة" وتسوية ثلث مساكنها بالأرض؟؟. وشعرت بالخزى وأنا أسمع الإجابة، وقلت لرجل يسمع معى: إن "بيجن" هنا ينطبق عليه الحديث المشهور: "صدقك وهو كذوب". وإذا كانت مجزرة "هذه المدينة" محنة تقشعر منها الجلود، وتتقرح العيون، فإن الصمت ـ الذى لفت نظر السفاح اليهودى "مناحم بيجن"
(1/5)
بعد وقوعها ـ محنة أنكى وأقسى.. ص _009
وقرأت فى الصحف نبأ هذا الكاثوليكى الذى تبنى ثلاثين ألف طفل مسلم فى الصومال لينشئهم على النصرانية بداهة، وقلت: إن جزءا من المال العربى الضائع فى أندية القمار كان يمكن أن يحفظ مستقبل هؤلاء.. وما أكثر يتامانا الذين استولت عليهم مؤسسات التنصير من جراء هذا التفريط.. الغرابة ليست فى وقوع هذه الجرائم على فداحتها! الغرابة فى ذهول ناس من المتحدثين فى الإسلام عنها، وعن المقدمات النفسية والفكرية التى أدت إليها. إننى أرتاب فى عقل هؤلاء أو دينهم.. فلنتأمل فى ذاتنا نحن المسلمين! إننا نزيد على ألف مليون من البشر، ونسكن أرضا تمتد بين المحيطين الأطلسى والهادى، وتحتوى على معاقل الممرات العالمية، ونملك ثلث ثروات العالم السائلة والجامدة، وهذه إمكانات تجعل منا أمة طليعة لا أمة ذنبا.. وقد كان سلفنا أقل عددا، وأفقر مالا، ويحيا على أرض قفرة معزولة عن الحضارات الإنسانية الكبرى فكيف نجح وساد على حين أخفقنا وتخلفنا؟! فى اعتقادى أن الثقافات المسمومة التى نتناولها، والأحوال المعوجة التى ألفناها هى التى أزرت بنا.! إن الإسلام يدرس بطريقة جنونية، وشياطين الإنس والجن يحرسون هذه الطريقة حتى تسلم لهم مكاسبهم الحرام! وتبقى لهم زينة الحياة الدنيا.. ومع الإحساس العام بضرورة التغيير كى لا نفنى، ومع أننا بصرنا القاصرين بأسباب الانحراف ومصادر الشر، فإن المستقبل غامض إلا أن يشاء الله.. خصومات علمية فات وقتها وفيما كنت أفكر فى هذه الأمور وأمثالها، طرق بابى شاب وكان فى عينيه بريق يدل على الذكاء والحماس معا! قال: قرأت بعض كتبك، ورأيت أن أستكمل معرفتك من أسئلة أوجهها إليك! قلت له: حسبك سؤال واحد فلدى ما يشغلنى.. قال: ما رأيك فى "الفوقية" بالنسبة إلى الله تعالى؟! ومع تعودى لقاء شباب كثير من هذا الصنف إلا أن السؤال فاجأنى.. ص _010
(1/6)
تريثت قليلا ثم شرعت أتكلم: لا أدرى كيف أجيبك؟ أنا مع أهل الإسلام كلهم أسبح باسم ربى الأعلى وبين الحين والحين يطوف بى من إجلال الله وإعظامه ما أظننى به واحدا من الذين قيل فيهم : (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) تسألنى عن هذه الفوقية؟ لا أدرى!، أنا مع العقلاء الذين يقولون: السماء فوقنا والأرض تحتنا، ثم إنى بعدما اتسعت مداركى العلمية عرفت أن الأرض التى أسكنها كرة دائرة طائرة، وأنها مع أخوات لها يتسقن فى نظام مع أمهن الشمس التى تجرى هى الأخرى مع لدات لها فى مجرة معروفة الأبعاد والمدار. وقد أحصى علماء الفلك مجرات كثيرة عامرة بالشموس مثل مجرتنا وحسبوا بعد مطالعات ومتابعات أنهم عرفوا حدود الكون.. ثم كشفت لهم المراصد على مسافة ملايين الملايين من السنين الضوئية أن هناك مجرات أخرى أسطع ضوءا وأشد تألقا.. فعرفوا أن الكون أرحب مما يظنون.. أنا لم يهلنى أمر هذه الكشوف، وإنما زاد إعظامى لربى، الذى بنى فأوسع، وذرأ فأبدع، إنه يهب لهذه الأكوان كلها وجودها وبقاءها لحظة بعد أخرى!. وأذكر أنى رأيت مرة أسرابا من النمل تحف بقطعة من الحلوى وتسلم فتاتها لأسراب أخرى، رأيت ألوفا تأخذ من ألوف، فاتجهت إلى السماء وأنا أقول: وثم ألوف مؤلفة من النجوم الثابتة والكواكب الدوارة. إن الدقة التى تحكم حياة النمل فى جحوره هى هى الدقة التى تحكم الشموس فى مداراتها.. رؤية تامة هنا وهناك (له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي و لا يشرك في حكمه أحدا) ما دامت السماء محيطة بنا فهى فوقنا وتحتنا، ونحن على أرضنا قد نكون فوق قوم يعيشون على الأرض فى جانب آخر منها.. وعلى أية حال فالخالق الأعلى له فوقية تقهر الخلائق جميعا، وتستعلى وتستعلن على الجن والإنس والملائكة وسائر الموجودات.. ذاك ما أعرف، ولا أحب إفساد النظم القرآنى الكريم بتعاريف ما أنزل الله بها من سلطان. ص _0 ص
(1/7)
عقيدة المسلم قال الشاب: ألم تقرأ العقيدة الطحاوية؟ قلت: أوصى المسلمين أن يقرءوا القرآن، وألا يعملوا عقولهم فى اكتناه المغيبات التى يستحيل إدراك كنهها، وكذلك فعل سلفهم الصالح فأفلح.. قال الشاب: كتابك عقيدة المسلم؟ قلت: قررت فيه ما سمعت الآن!.. قال: إنه يتجه مع مذهب السلف ولكنك تبعت فى ترتيب العقائد منهج أبى الحسن الأشعرى وهو مؤول منحرف.. قلت: رحم الله أبا الحسن وابن تيمية كلاهما خدم الإسلام جهده، وغفر الله لهما ما يمكن أن يكون قد وقع فى كلامهما من خطأ. اسمع يا بنى: لماذا تحيون الخصومات العلمية القديمة؟ كانت هذه الخصومات - ودولة الإسلام ممدودة السلطة - خفيفة الضرر، وإنكم اليوم تجددونها ودولة الإسلام ضعيفة! بل لا دولة له، فلم تعيدونها جذعة وتسكبون عليها من النفط ما يزيدها ضراما؟ وجهوا الأمة إلى كتاب ربها وسنة نبيها واشغلوهم بما اشتغل به سلفنا الأول، اشتغل بالجهاد فى سبيل الله فاعتز وساد مع ملاحظة أنهم يحررون غيرهم، أما نحن فمكلفون بتحرير أنفسنا. قال الشاب وهو يتململ: حسبناك من السلف!! قلت: إن الانتماء إلى السلف شرف أتقاصر دونه وفى الوقت نفسه أحرص عليه، لقد جئت تسألنى عن قضية لو سئل عنها الأصحاب ـ رضى الله عنهم ـ لسكتوا.. وأغلب الظن أنك تود لو تعثرت فى الإجابة حتى تتخذنى غرضا أنت ومن وراءك، فلتعلم أن طهر النفس أرجح عند الله من إدراك الصواب.! ليس سلفيا من يجهل دعائم الإصلاح الخلقى والاجتماعى والسياسى، كما جاء بها الإسلام، وأعلى رايتها السلف، ثم يجرى هنا وهناك مذكيا الخلاف فى قضايا تجاوزها العصر الحاضر، ورأى الخوض فيها مضيعة للوقت.. أما كان حسبنا منهج القرآن العزيز فى تعليم العقائد؟. فى تعريف الناس بربهم نسمع قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) ص _012
(1/8)
والاستجابة الفطرية لدى سماع هذه الآية أن نقول: عرفنا ربنا وما ينبغى له من نعوت الكمال! ويقول تعالى : (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) والاستجابة الطبيعية لدى تلقى هذا الأمر أن نقول: سمعا وطاعة، علمنا أن الله واحد، ونستغفره من تقصيرنا فى الوفاء بحقوقه.. ثم تتجه بعد ذلك جهود المربين والموجهين إلى تنمية الإيمان النابت فى مغارسه الصحيحة حتى يتحول من معرفة نظرية إلى خشية وتقوى وحياء وخشوع، ولا نزال ننميه كما فعل سلفنا الصالح حتى يفعم المؤمن بمشاعر التمجيد، فيقول كما علمه الرسول الكريم: "يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك"، فإذا واجه الموت فى سلام أو حرب لم يجزع بل قال: غدا ألاقي الأحبة محمدا وحزبه" كما هتف بذلك بلال رضي الله عنه!. أما جعل الإيمان قضايا جدلية فهذا هو الموت الأدبى والمادى. ولو أن سلفنا مضى مع تيار الجدل ما فتح بالإسلام بلدا، ولا شرح بالإيمان صدرا.. إن منهج القرآن الكريم فى إنشاء العقائد وإنضاجها خفيف رقيق أخف من الهواء وأرق من الماء، أما بعض الكتب التى تعرض العقائد فى كثير من الأعصار والأقطار فعلى نقيض ذلك، وقد ألفت كتابى "عقيدة المسلم" وأنا متشبع بهذه الأفكار، وأحسب أن الله نفع به كثيرا.. إقحام السلف فى فقه الفروع على أن هناك أمورا يقحم فيها السلف إقحاما، ولا علاقة لهم بها، فما دخل السلف فى فقه الفروع واختلاف الأئمة فيه؟! ومن الذى يزعم أن ابن حنبل هو ممثل السلفية فى ذلكم الميدان، وأن أبا حنيفة ومالكا والشافعى جاروا على الطريق، وأمسوا من الخلف لا من السلف؟ إن هذا تفكير صبيانى.. وبعض من سموا بالحنابلة الذين حكى تاريخ بغداد أنهم كانوا يطاردون الشافعية لحرصهم على القنوت فى صلاة الفجر هم فريق من الهمل لا وزن لهم.. وأنا موقن بأن الإمام أحمد نفسه لو رآهم لأنكر عليهم وذم عملهم..! ص _013
(1/9)
التبعة ليست على رعاع يمزقون شمل الأمة بتعصبهم، وإنما تقع التبعة على علماء يعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بأن للمجتهد أجرين إذا أصاب، وأجرا واحدا إذا أخطأ. ولو فرضنا جدلا أن الحق مع الحنابلة والأحناف فى أنه لا قنوت فى الفجر فمن الذى يحرم مالكا والشافعى أجر المجتهد المخطئ. وإذا كان من يخالفنا فى الرأى مأجور فلم نسبه ونحرجه ونضيق عليه الخناق؟؟! المشكلة التى نطلب من أولى الألباب حلها هى معالجة نفر من الناس يرون الحق حكرا عليهم وحدهم، وينظرون إلى الآخرين نظرة انتقاص واستباحة! الواقع أن الأمراض النفسية عند هؤلاء المتعصبين للفرعيات تسيطر على مسالكهم وهم - باسم الدين - ينفسون عن دنايا خفية! وعندما يشتغل بالفتوى جزار فلن تراه أبدا إلا باحثا عن ضحية!! وقريب من ذلك ما أقصه على ضيق وتردد أن البعض ينكر المجاز، أو يستهجن القول به ويغمز إيمان الجانحين إليه. سألنى سائل: تذكر حديث الإبراد بصلاة الظهر؟ لأن شدة الحر من فيح جهنم؟ قلت: نعم!. قال: جاء فى الكلام عن فيح جهنم أن النار اشتكت إلى الله قائلة: أكل بعضى بعضا.. فأذن لها بنفسين فى الصيف والشتاء. فأشد ما تجدون من الحر فى الصيف فهو من أنفاس جهنم، وأشد ما تحسون من برد فى الشتاء فهو من زمهرير النار!!.. قلت: ذلك تقريبا معنى حديث. قال: أتؤمن به؟ قلت: لا أدرى ماذا تريد؟ الإبراد بالظهر مطلوب تجنبا لوقدة الحر ولا غضاضة فى ذلك، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر. قال: أسألك عن المعنى المذكور فى الحديث؟ أتؤمن بأن جهنم شكت بالفعل وأن الله استمع إليها، ونفس عنها؟!.. قلت فى برود: كون النار تكلمت بلسان فصيح وطلبت ما طلبت فهم لبعض الناس، ولهم أن يقفوا عند الظاهر الذى لا يتصورون غيره، وهناك رأى آخر أنا أميل إليه وهو أن هذا أسلوب فى تصوير المعانى يعتمد على المجاز والاستعارة.. ص _014
(1/10)
وهنا تنمر السائل وبدأ فى التشنج وقال: أكثير على قدرة الله أن تتكلم النار؟ أما يقدر ربنا أن تتكلم الحجارة؟ وأجبته ببرود أكثر: ما دخل القدرة الإلهية هنا؟ إن العلماء يفهمون النصوص على ضوء اللغة العربية، وما نقل إلينا من تراكيبها، وقدرة الله فوق الظن والتهم! إن العرب الأقدمين أجروا على ألسنة الجماد والحيوان كلاما ما نعلم نحن أنه ليس على ظاهره، وقد ذكرت فى مكان آخر المثل العربى "قال الجدار للوتد: لم تشقنى؟ قال: سل من يدقنى" وجاء مثل آخر على لسان الثور المخدوع: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض" والجدار ما تكلم، والثور ما نطق!.. ثم قلت يائسا: ومع ذلك فإذا كنت ترى أن الجدار نطق والثور تكلم فلك مذهبك، ولا دخل للسلف أو الخلف فى الموضوع كله! وعاد الشاب يقول: هل فى القرآن مجاز؟ وكتمت الغيظ الذى يغلى فى دمى، وقلت: ما لاكه بعض العلماء فى القرون الوسطى،ثم انتهوا منه وانتهى أهله،تريدون اليوم إحياءه وشغل الناس به؟ مرة حديث الفوقية، ومرة حديث المجاز؟ حدثنى عن هذه الآيات: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا) ترى هذه السدود هى السد العالى أو سد الفرات؟ وهل الأغلال هنا هى القيود التى توضع أحيانا فى أيدى المجاهدين.. أم أن هناك مجازا فى القرآن الكريم.؟ واستأنفت الكلام وأنا أتجه إلى الضحك.. لما سر المتنبى بشعب بوان وراقه الهواء والظل وتسلل الأشعة بين الأوراق والغصون تصنع دوائر شتى على ثيابه قال: وألقى الشرق منها فى ثيابى دنانيرا تفر من البنان! ص _015
(1/11)
ثم قال فى مجون لا يسوغ: يقول بشعب بوان حصانى أعن هذا يسارإلى الطعان أبوكم آدم سن المعاصى وعلمكم مفارقة الجنان هل وقف حصان المتنبى وسط الحديقة الغناء وألقى هذه الخطبة العصماء؟ أم أن المتنبى أنطق دابته بهذا الشعر؟ أظن الحكم على مذهبك أن الحصان هو الذى فسق بهذا الكلام ضد الأنبياء ويجب ذبحه!!. إن هذا الشاب وأمثاله معذورون، والوزر يقع على من يوجههم، لأنه لا يفقه أزمات الحياة المعاصرة، ولا يرتفع إلى مستوى الأحداث، ولا يحس آلام أمته، ولا يخطر بباله ما يبيت للأمة الإسلامية ودينها العظيم من مؤامرات. إننا نريد ثقافة تجمع ولا تفرق، وترحم المخطئ ولا تتربص به المهالك، وتقصد إلى الموضوع ولا تتهارش على الشكل.. ولا أدرى لماذا لا نؤثر العمل الصامت المنتج بدل ذلك الجدل العقيم؟ حاجتنا إلى منهح يصل حاضرنا بغابرنا لا أريد الإطالة في نقد انحرافاتنا الفكرية والنفسية، وأحب أن أخلص إلى منهج يصل حاضرنا بغابرنا، وينشئ خلفا على غرار السلف، ويعيننا على استدامة رسالتنا وهزيمة عدونا.. إننا لا نستطيع ـ فرادى ـ أن نحقق شيئا طائلا، فالجماعة من شعائر الإسلام، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب.. وفى الميدان الدولى نجح أعداؤنا فى طى راية الخلافة، وتقطيع أمة التوحيد أمما شتى التحقت ذيولا بالكتل العالمية الكبرى، واصطبغت ثقافيا وسياسيا بألوان أخرى غير صبغة الله.. والمطلوب من الدعاة الراشدين أن يدركوا الأمة من الداخل، ويقفوا حركة التمزيق الفكرى والروحى الوافدة من الخارج. ص _016
(1/12)
وذلك يفرض علينا إحياء الإخاء الدينى، وتنشيط عواطف الحب فى الله، واختصار المسافات أو ردم الفجوات التى تفصل بين المنتسبين إلى الإسلام. ولكى لا يكون ذلك خيالا أو خطابة منبرية نرى صب الأمة كلها فى تجمعات ذات أهداف حقيقية، تجمعات تشبه حلقات الإخوان التى قام عليها التحرك الإسلامى فى نجد أو السودان أو مصر، تتعارف على نصرة الإسلام وتتجاوب بروح الله وتتكاثر حتى تنضم المدن والقرى. وأتخيل هذا التجمع على صورتين: الأولى أساسها وحدة العمل، كالروابط المهنية والهندسية والقانونية والعلمية وغرف التجارة واتحادات الطلاب والأندية الجامعية.. إلخ. والأخرى مشكلة من طوائف متباينة جمعتها أسباب دائمة أو طارئة. عمل التجمعات الأولى: خدمة الإسلام فى ميادينها التخصصية، ومحو كل أثارة لتخلفنا الحضارى والمنافسة على السبق الشريف والحرص على نصرة الإسلام بدءا من قراءة العداد الكهربائى ـ مثلا ـ إلى ملاحظة تسجيلات "الكمبيوتر". ولا يجوز أن يكون اليهود أقدر منا فى هذا المنحى. وعمل التجمعات الأخيرة توثيق الروابط بين الأعضاء الذين يتوزع نشاطهم على مجالات متباعدة، فالطبيب هنا قد يلتقى بموظف كتابى، والعامل بشركة أقمشة قد يلتقى بعامل فى شركة أدوية، والمحاسب قد يلتقى بمدرس، والنقاش قد يلتقى بصحافى.. إلخ. والمهم أن يرقب هؤلاء جميعا أثر أعمالهم فى النشاط الإسلامى، وأن يتعاونوا على ما فيه الخير لدينهم وأمتهم. ولا بأس أن يتزاوروا ويتهادوا ويعمقوا مشاعر الود بين أسرهم وأولادهم، فى نطاق الأدب الإسلامى المقرر.. وإنما دعانى إلى هذا الاقتراح ما يعانيه أهل الدين من غربة، وما يعانيه الدين نفسه من خذلان فى أخطر شئون الحياة، وما ينحصر فيه الدعاة من كلام حسن أو ممل. إن الوعظ أخف الواجبات التى يتطلبها الإسلام فى عصرنا. ص _017
(1/13)
الجهد الأول هو تحريك قافلة الإسلام التى توقفت فى وقت تقدم فيه حتى عبيد البقر.. وقد تكون الكلمة الجارية داخل معهد، أو مصنع، أو ديوان، أثقل فى ميزان المؤمن من وعظ كثير.. وألفت النظر إلى منع الجدل الدينى داخل هذه التجمعات، وقبول جميع المذاهب الفقهية المعروفة، وتكريس الجهود والأوقات لرد العدوان على ديننا وإعادة بناء أمتنا على قواعدها الأولى.. فإذا كان لابد من بحث علمى، فليوكل كل ذلك إلى الإخصائيين، وهم فيه أصحاب الرأى.. إننى ـ فيما بلوت ـ رأيت الخلاف الفقهى يتحول إلى عناد شخصى، ثم إلى عداء ماحق للدين والدنيا، فكيف إذا تصور البعض أن الأمر ليس خلافا فى الفروع، ولكنه خلاف فى الأصول؟ المصيبة تكون أدهى وأمر! ص _018
(1/14)
لا سنة من غير فقه الاتزان العقلي نصاب لا بد من توفره في أي جو ديني! إنه أساس التكاليف الدينية، ثم هو يعد أساس التحدث إلى الناس باسم الإسلام. وسعة العلم ضرورة لفهم وجهات نظر المجتهدين وترجيح مذهب فقهى على آخر.. أما مرتبة الاجتهاد المطلق فاعتقادى أنها درجة أسنى تقوم ـ بدءا ـ على الفضل الإلهى كما جاء فى الحديث: " إلا فهما يؤتاه رجل في كتاب الله " وكما جاء فى الآيات: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم و كنا لحكمهم شاهدين* ففهمناها سليمان و كلا آتينا حكما وعلما). وانظر إلى عبد الله بن عباس، كيف فهم من سورة النصر ما غاب عن أفهام الصحابة فى مجلس عمر، فقال موضحا المعنى المراد : " أراه حضور أجل النبى صلى الله عليه وسلم "..! إن هذا الذكاء اللماح بعض الحكمة التى ينعم الله بها على من يريد له الخير (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) . عمل الفقهاء أكمل جهد المحدثين إن جو الفقه والفتوى وتربية الأمة وتبصير أولى الأمر شأو يستبعد منه قصار الباع والهمة والفكر، ويستحيل أن يحيا فيه المتطاولون الذين يحسنون الهدم ولا يطيقون البناء، نقول ذلك كله لنلفت الأنظار إلى خاصة بارزة فى ثقافتنا القديمة هى أن عمل الفقهاء أكمل جهد المحدثين وضبطه وأحسن تنسيقه ويسر الإفادة منه. ومن ثم قاد الفقه حضارتنا التشريعية فى أغلب العصور.. والتأمل فى الآثار الواردة يجعل وظيفة الفقهاء لا محيص عنها، ويجعل الاستقاء المباشر من السنة صعبا على العامة ومن فى منزلتهم من ذوى النظر القريب، ذلك أن هناك قضايا وردت فيها آثار متقابلة، وقضايا أخرى لا ينفرد بالبت فيها حديث فذ.. ص _019
(1/15)
روى مالك قال: "بلغنى أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - تكارى أرضا فلم تزل فى يديه حتى مات! قال ابنه: فما كنت أراها إلا لنا من طول ما مكثت فى يديه! حتى ذكرها لنا عند موته وأمرنا بقضاء شىء كان عليه من كرائها، ذهب أو ورق..." وهذا الحديث يجيز استئجار الأرض لزراعتها. وروى الشيخان عن ابن عباس قال: خرج رسول الله إلى أرض وهى تهتز زرعا فقال: "لمن هذه؟" قالوا: ا كتراها فلان، قال:"لو منحها إياه كان خيرا أن يأخذ عليها أجرا معلوما…"! وفى رواية عن رافع بن خديج: سألنى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كيف تصنعون بمحاقلكم؟" فقلت: نؤجرها على الربع وعلي الأوسق من التمر والشعير! قال: "لا تفعلوا، ازرعوها ـ يعنى بأنفسكم ـ أو أَزْرِعوها ـ أى امنحوها غيركم ـ أو أمسكوها" قال رافع: فقلت: سمعا وطاعة..."! وللفقهاء كلام فى هذه المرويات، منهم من رفض الإيجار، حيث تجب المواساة والتراحم، وأباحه فى الأحوال العادية، ومنهم من رفضه إذا كان هناك غبن أو غرر، ومنهم من أبطل المزارعة، ومنهم من أباحها، وكلاهما غلب بعض النصوص على بعض آخر لملحظ ما، وليس هنا مكان التفصيل. وقبل أن نورد نماذج أخرى ننبه إلى أن العقائد والعبادات الرئيسية والسنن العلمية جاءت كلها عن طريق التواتر القاطع، وأن أصول الدين وأركان الطاعات وقواعد السلوك لا يرتقى إليها لبس أو تفاوت، وإنما يحدث الخلاف فى أمور ثانوية لا يضخمها إلا أصحاب الفكر المختل.. ما قيمة أن يشرب امرؤ قائما أو قاعدا؟! لقد جاءت مرويات شتى فى ذلك..! صح عن الخمسة ـ ما عدا أبا فى داود ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: "سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من ماء زمزم فشرب وهو قائم". وعن ابن عمرـ رضي الله عنه ـ قال: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشى، ونشرب ونحن قيام. أخرجه الترمذى وصححه. وعن مالك أنه بلغه أن عمر وعثمان وعليا كانوا يشربون قياما.. وظاهر من
(1/16)
هذه المرويات جواز الشرب عن قيام ومع ذلك فقد روى مسلم عن أنس بن مالك، قال: نهى رسول الله عن الشرب قائما، بل روى عن أبى هريرة أن رسول الله قال: " لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسي فليستقئ"! ص _020
ويرى الفقهاء أن الشرب عن قيام مباح، وأنه عن قعود أفضل ولا حرمة فيما لو شرب قائما ويخيل إلى أن الأحوال التى تكتنف المرء هى التى تحدد طريقة شربه، فلا عزيمة فى القعود ولا جريمة فى القيام، وإن كان بعض الفارغين يريد أن يجعل من الحبة قبة، وأن يكثر حولها اللغو!! ومن المرويات التى تحدثت فيها إحدى الإذاعات أخيرا، ما جاء فى الأمور التى تبطل الصلاة، فقد تعلمنا ونحن صغار أن الصلاة لا يقطعها شيء وأن مرور إنسان أو حيوان أمام المصلى لا يفسد صلاته. وقد أخرج الستة ـ ما عدا الترمذى ـ عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة، فإذا أراد أن يوتر أيقظنى فأوترت.. وروى أبو داود والنسائى عن الفضل بن العباس رضى الله عنهما قال: زارنا النبى صلى الله عليه وسلم فى بادية لنا، ولنا كليبة وحمارة فصلى بنا العصر وهما بين يديه فلم يزجرا ولم يؤخرا.! وظاهر من هذه الأحاديث صحة الصلاة فى الأحوال التى وصفتها، ومع ذلك فقد روى مسلم أن الصلاة ـ من غير سترة ـ يقطعها الكلب الأسود والمرأة والحمار، وأن الكلب الأسود شيطان! وقد استنكرت عائشة هذا الكلام واستغربته وذكرت ما يرده!! وأغلب الأئمة أن الصلاة لا يقطعها شيء، وهم يتجاوزون حديث مسلم ولا يأخذون به، وهناك من أخذ به وبنى عليه مذهبه.. وقال لى أحدهم: إن السيدة عائشة لم تكن مارة بين يدى المصلى حتى تبطل صلاته! فقلت ضاحكا: مرور المرأة أمام المصلى يبطل صلاته ونومها أمامه لا يبطلها!. والأمر عندى أهون من أن تثور حوله معركة.. لكن الذى رفضته أن يتصدى أحد أولئك المبطلين لعلم الأحياء، ويهاجم مقرراته ليقول: إن
(1/17)
الكلب الأسود شيطان وليس كلبا كبقية بنى جنسه!! قلت: حديث رفض العمل به جمهور الفقهاء، ولم يروه البخارى وهو يعالج الموضوع ندخل به معركة ضد العلم باسم الإسلام والمسلمين!! إن التعصب المستغرب لوجهة نظر فرعية لا يبلغ هذا الشطط، ولكنه للأسف مسلك ملحوظ على عدد ممن يشتغلون بأحاديث الآحاد. ومن نماذج المرويات المتقابلة، ما جاء فى طريقة البول، فقد وردت آثار بجوازه عن قيام، وجاءت أخرى بمنعه، وروى عن ابن مسعود: إن من الجفاء أن يبول الرجل ص _021
(1/18)
قائما، قالوا الجفاء خلاف البر واللطف، والذى أراه أن ذلك يتبع الأحوال التى تكتنف الإنسان، وفى الأمر سعة. على أن الأمر المثير للقلق أن تجد البعض يعرف أطرافا من المرويات، يكترث بها وحدها ويذهل عن غيرها، ثم يذهب يتحدث عن الإسلام دون فقه أو روية. روى أحدهم حديث: "ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار" ثم حكم على الألوف المؤلفة من عباد الله أنهم من أهل جهنم! قلت له: إن إسبال الإزار كبرا رذيلة وقد كان فى الجاهلية الأولى شارة الرياسة والملك، وقصة الأمير "جبلة بن الأيهم " معروفة أما طول الإزار حتى الكعبين أو دونهما قليلا لستر الجسم وتجميله دون اغترار ولا استكبار فهو لا يدخل النار! فأبى المتحدث أن يستمع إلى شرحى، وعدنى من علماء السوء، الخارجين على السنة..! ونظرت إليه وهو كميش الثوب، بالغ الاعتداد برأيه، وقلت له: إذا كان الكبر بطر الحق وغمط الناس- كما عرفه الرسول الكريم- فأنت متكبر، ولو ارتديت ثوبا إلى الركبتين!! ورأيت نفرا من هؤلاء يغشون المجامع، مذكرين بحديث: أن أبا الرسول صلى الله عليه وسلم فى النار! وشعرت بالاشمئزاز من استطالتهم وسوء خلقهم! قالوا لى: كأنك تعترض ما نقول؟ قلت ساخرا: هناك حديث آخر يقول: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) . فاختاروا أحد الحديثين... قال أذكاهم بعد هنيهة: هذه آية لا حديث! قلت: نعم جعلتها حديثا لتهتموا بها، فأنتم قلما تفقهون الكتاب!! قال: كانت هناك رسالات قبل البعثة والعرب من قوم إبراهيم وهم متعبدون بدينه. قلت: العرب لا من قوم نوح ولا من قوم إبراهيم، وقد قال الله تعالى فى الذين بعث فيهم سيد المرسلين: (وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) وقال لنبيه الخاتم: (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون) ص _022
(1/19)
كل الرسالات السابقة محلية مؤقتة وإبراهيم وموسى وعيسى كانوا لأقوام خاصة!! وللفقهاء كلام فى أن أبوى الرسول ليسا فى النار، يردون به ما تروون.. لقد أحرجتم الضمير الإسلامى حتى جعلتموه ليستريح، يروى أن الله أحيى الأبوين الكريمين فآمنا بابنهما، وهى رواية ينقصها السند. كما أن روايتكم ينقصها الفقه، ولا أدرى ما تعشقكم لتعذيب أبوين كريمين لأشرف الخلق؟ ولم تنطلقون بهذه الطبيعة المسعورة تسوءون الناس.؟ إن المرويات تتعارض فى ظاهر الأمر، وهنا يدخل علماء الفقه والأثر للتنسيق والترجيح، وقد يصح السند ولا يصح المتن، وقد يصحان جميعا ويقع الخلاف فى المعنى المراد، وهذا باب واسع جدا ومنه نشأ ما يسمى بمدرسة الأثر ومدرسة الرأى، والأولون أقرب إلى الفقه الظاهرى، وإن خالفوه كثيرا.. والآخرون أوسع دائرة وأبصر بالحكمة والغاية، وكلاهما إلى خير إن شاء الله. وعندما يخالف أثر صحيح ما هو أصح سمى شاذا ورفض، وعندما يخالف الضعيف الصحيح يسمى متروكا أو منكرا، وقد رأيت ناسا يبنون كثيرا من المسالك على هذه المتروكات والمناكير باسم السنة، والسنة مظلومة مع هؤلاء الجهال.. ضرورة العناية بالقرآن الكريم ولست أقرر جديدا فى هذا الميدان، والذى أرانى مضطرا إلى التنبيه إليه، هو ضرورة العناية القصوى بالقرآن نفسه، فإن ناسا أدمنوا النظر فى كتب الحديث واتخذوا القرآن مهجورا، فنمت أفكارهم معوجة، وطالت حيث يجب أن تقصر، وقصرت حيث يجب أن تطول، وتحمسوا حيث لا مكان للحماس، وبردوا حيث تجب الثورة! نعم: من هؤلاء من ظن الأفغانيين من أتباع أبى حنيفة لا يقلون شرا عن الشيوعيين أتباع "كارل ماركس"، لماذا؟ لأنهم وراء إمامهم لا يقرءون فاتحة الكتاب(!). والذهول عن المعانى الأولية والثانوية التى نضح بها الوحى المبارك لا يتم معه فقه ولا يصح دين.. ذكر أبو داود حديثا واهيا جاء فيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا
(1/20)
تركب البحر إلا حاجا أو معتمرا أو غازيا في سبيل الله تعالى، فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا" هذا الحديث ضعيف أو موضوع خدع به الإمام الخطابى، وعلل النهى عن ركوب البحر بأن الآفة تسرع إلى راكبه ولا يؤمن هلاكه فى غالب الأمر..!! ص _023
والكلام كله باطل، فقد قال المحققون : لا بأس بالتجارة فى البحر. وما ذكره الله تعالى فى القرآن إلا بحق. قال عز وجل: (وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) إن الغفلة عن القرآن الكريم والقصور فى إدراك معانيه القريبة أو الدقيقة عاهة نفسية وعقلية لا يداويها إدمان القراءة فى كتب السنة. فإن السنة تجىء بعد القرآن، وحسن فقهها يجىء من حسن الفقه فى الكتاب نفسه. وقد ذكر ابن كثير أن الإمام الشافعى، قال: كل ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن فكيف يفقه الفرع من جهل الأصل؟! إن الوعى بمعانى القرآن وأهدافه يعطى الإطار العام للرسالة الإسلامية، ويبين الأهم فالمهم من التعاليم الواردة، ويعين على تثبيت السنن فى مواضعها الصحيحة. والإنسان الموصول بالقرآن دقيق النظر إلى الكون، خبير بازدهار الحضارات وانهيارها، نير الذهن بالأسماء الحسنى والصفات العلى، حاضر الحس بمشاهد القيامة وما وراءها، مشدود إلى أركان الأخلاق والسلوك ومعاقد الإيمان، وذلك كله وفق نسب لا يطغى بعضها على بعض، وعندما يضم إلى ذلك السنن الصحاح مفسرة للقرآن ومتممة لهداياته فقد أوتى رشده. والمسلم الذى يحترم دينه وأمته لا يرى الصواب حكرا عليه فيما يعتنق من وجهات النظر! وقد يرى الصمت وراء الإمام عبادة، ولكنه لا يزدرى أو يخاصم من يرى القراءة عبادة! وقد وسعت جماهير الأمة هذه السماحة من عصور طوال، وقامت مذاهب كثيرة متحابة، حتى جاء من يرى فى الحديث رأيا، خطأ كان أم صوابا، ثم يقول: هذا هو الدين، لا دين غيره!! لقد خامرنى الخوف على مستقبل أمتنا لما رأيت مشتغلين بالحديث ينقصهم الفقه،
(1/21)
يتحولون إلى أصحاب فقه، ثم إلى أصحاب سياسة تبغى تغيير المجتمع والدولة على نحو ما رووا ورأوا..! إن أعجب ما يشين هذا التفكير الدينى الهابط هو أنه لا يدرى قليلا ولا كثيرا عن دساتير الحكم وأساليب الشورى وتداول المال وتظالم الطبقات، ومشكلات الشباب ومتاعب الأسرة وتربية الأخلاق.. ثم هو لا يدرى قليلا ولا كثيرا عن تطويع الحياة المدنية وأطوار العمران لخدمة المثل الرفيعة والأهداف الكبرى التى جاء بها الإسلام. إن العقول الكليلة لا تعرف إلا القضايا التافهة، لها تهيج، وبها تنفعل، وعليها تصالح وتخاصم!. هززت رأسى أسفا وأنا أرمق مسار الدعوة الإسلامية! ص _024
(1/22)
إن الرسالة التى استقبلها العالم قديما استقبال المقرور للدفء، واستقبال المعلول للشفاء، هانت على الناس فلم يروا ما يستحق التناول، وهانت على أهلها فلم يدروا منها ما يرفع خسيستهم ويحمى محارمهم.! هبوط عم الدين واللغة معا ويبدو أن الهبوط عم الدين واللغة معا، فهان الأدب هوان الإيمان، ورسب المبنى والمعنى جميعا فى قاع بعيد القرار.. كنت أقرأ صحيفة "الجزيرة" فاستوقفنى عنوان عن القلق والإبداع والأديب المعاصر، وأدهشنى وأنا أقرأ أن المتنبى ذكر اسمه فى سياق واحد مع نزار قبانى... المتنبى الحكيم يقول فى تصوير المجد وتكاليفه: لا يدرك المجد إلا سيد فطِنٌ لِمَا يشق على السادات فعالُ! لا وارثٌ جهلت يمناه ما كسبت ولا سئول بغير السيف سآلُ والقبانى يقول فى رثاء امرأته: السيف يدخل لحم خاصرتى وخاصرة العبارة! كل الحضارة أنت يا "بلقيس"... والدنيا حضارة! الحق أنى استنكرت الجمع بين الحكمة والقمامة، بين الأدب فى الأوج والأدب فى القاع! بيد أنى عدت إلى نفسى أقول: إن ما وقع فى ميدان الشعر والنثر صورة مساوية لما وقع فى ميدان الدعوة، أليس مضحكا أن يدخل داعية فى مسجد، فينظر إلى المنبر ثم يقول: بدعة!! لماذا؟! لأنه من سبع درجات، ويرى أن يقف على الثالثة لا يعدوها.. ثم يرى المحراب فيقول أيضا: بدعة.. لماذا؟! لأنه مجوف فى الجدار، ثم ينظر إلى الساعة ويقول: بدعة.. لماذا؟ لأنها تدق كالجرس.. وأخيرا يتكلم، فيخوض فى موضوع غث لا ينبه غافلا ولا يعلم جاهلا ولا يكيد عدوا. المهم عنده الاستمساك بالسنة..!! على الشكل الذى يراه.. أى سنة تعنى؟! إن النبى العربى محمدا قدر بسنته على إحياء أجيال بدلت الأرض غير الأرض، وحطمت إمبراطوريات ذاهبة فى الطول والعرض! إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنعش بسنته جماهير كانت فى غيبوبة، وأطلقها تسعى بعدما أضاءها من الداخل، فعرفت المنهج والغاية!! إننا بحاجة إلى شعاع على مسار الدعوة، وحقيقة السنة، فكم
(1/23)
ظلمت السنة ممن يتشدقون بها. ص _025
هم بنو إسرائيل.. فبنو من نحن؟ أصغيت بانتباه إلى إذاعات عربية كثيرة شاركت فى الاحتفال "بيوم الأرض" وهو يوم حزين يخرج فيه عرب فلسطين المحتلة ليحيوا ذكرى شهدائهم الذين قاوموا الاغتصاب اليهودى لترابهم الوطنى، هذا الاغتصاب الذى تحول إلى اجتياح مسعور بعد هزيمة سنة 1967 م. وشعرت بالسخط وأنا أسمع ما قيل من شعر ونثر، إذ كان المتحدثون يؤكدون عروبة فلسطين، لأن الكنعانيين هم أصحابها الأوائل، والكنعانيون والعدنانيون والقحطانيون جميعا عرب، أما بنو إسرائيل فهم طارئون غرباء.. وحاولت أن أتسمع معنى آخر يربطنا بأرضنا فلم أرجع بطائل! ما تحدث أحد عن الله ورسوله، ما تحدث أحد عن عمر بن الخطاب وتسلمه الأرض من النصارى لا من اليهود، ما تحدث أحد عن أصلنا الدينى وتاريخنا الإسلامى، ما تحدث أحد عن انتهاء الدور الروحى والحضارى لليهود وبزوغ رسالة أخرى بعيدة عن الأثرة والحقد، ما تحدث أحد عن أن وظيفة الهيكل وبنائه مسكنا للرب قد ألغيت وأن الوظيفة الجديدة هى لمسجد يصيح فى أرجاء العالمين: الله أكبر!!! كان التنادى بالعودة إلى الأرض، وحق أبناء كنعان، فى وراثتها! إن دوران المعركة على هذا المحور هدف استعمارى انزلق إليه العرب فى محنتهم النفسية والعسكرية، ولن ينالوا من ورائه خيرا..! فبنو إسرائيل يديرون المعركة على أساس دينى بحت ويستقدمون أتباع التوراة من المشرق والمغرب قائلين: تعالوا إلى أرض الميعاد، تعالوا إلى الأرض التى كتبها الله لأبيكم إبراهيم كما أكد العهد القديم.. ص _026
(1/24)
مستوطنون باسم التوراة في تقرير "لفرانس برس" نشرته صحيفة "الراية القطرية" 2/5/1982 تحت عنوان "مستوطنون باسم التوراة" التقى الكاتب بنفر من اليهود فى المستعمرات التى أنشئوها، وتحدث معهم ليستكشف سرائرهم وأسباب مجيئهم، ومدى حرصهم على البقاء مع المقاومة العربية المتصلة. قال "هارون" الذى يقيم فى مستعمرة "أوفرا" من خمس سنين: "إننى أمتلك ما لدى باسم التوراة!! واعتراضات العرب لا وزن لها".. ويبلغ هارون من العمر 45 سنة، وهو يضع مسدسا فى حزامه، ويوالى حركة "جوش أمونيم" كتلة الإيمان الدينية المتطرفة. والواقع أن الاتجاه الذى يمثله هو الغالب على جمهور المستوطنين الإسرائيليين..". وفى "كيريات أربع" وهى مستعمرة بجوار مدينة الخليل يؤكد شالوم- وعمره 33 عاما- ما ينتويه فيقول: "إن اهتمامى الرئيسى منصب على عودة الشعب اليهودى للإقامة بأرضه.. وإذا كان العرب لا يرون أن نصوص التوراة ليست سببا كافيا لحق الملكية فليست هذه مشكلتى". وتقول "مريم لوينجز" وهى قرينة حاخام يهودى مشهور: "إن علينا أن نطيع أوامر الله الذى طلب منا العودة إلى الأرض المقدسة"! وهى تقيم مع أحد عشر ابنا لها وسط مدينة الخليل العربية على أنقاض معبد قديم!! ويقول هارون وشالوم ومريم جميعا: إن أمام العرب الفلسطينيين متسعا فى الدول العربية المجاورة فليهاجروا إليها. ويقول كاتب التقرير: إن حدود إسرائيل- كما يرسمها هؤلاء- أبعد من الحدود الحالية، فإسرائيل المذكورة فى التوراة تشمل جانبا كبيرا من لبنان، ودولة الأردن كلها، وشبه جزيرة سيناء حتى قناة السويس.. والمستوطنون مسلحون جميعا بالمسدسات أو المدافع الرشاشة ولهم فرق حراسة تدور حول المستعمرات ليلا ونهارا. ص _027
(1/25)
وختم الكاتب تقريره بهذه العبارات على لسان "هارون ": "لقد صاح وهو يطل من النافذة ويشير إلى مزارع الفاكهة: هذا البلد ملك لنا، عندما وصلنا هنا لم تكن توجد إلا تلال وحجارة! لقد حفرنا الصحراء، ولقد ساعدنا الله منذ ألفى عام ولن يمتنع عن ذلك فجأة، بل سوف يساعدنا على حل مشكلاتنا مع العرب!!.." أرأيت أيها الأخ فلسفة القادمين الجدد، وأحاديثهم السرية والعلنية؟ الله ومواعيده لشعبه المختار! التوراة والحدود التى رسمتها! حق التملك للأرض باسم الدين اليهودى، وجهود البناء والتعمير، ليكن العرب أبناء كنعان أو قحطان فليعيشوا بعيدا عنا..! وما يقوله رجل الشارع العادى هو ما يردده رئيس الوزراء المسئول.. فكيف برب الأرض والسماء، يصرخ القوم بانتمائهم وننسلخ نحن من هذا الانتماء مؤثرين عليه انتماء عرق لا يقدم ولا يؤخر..؟! وعندما يتكلم السياسى اليهودى رافعا بيمينه كتابه المقدس، فهل يسكته سياسى عربى، يستحى من كتابه ولا يذكره لا فى محراب ولا فى ميدان؟؟ ولنعد إلى طيب الذكر "كنعان" الذى أيقظناه من سباته، وقلنا له: نحن أولادك! من هو؟ وما تاريخه؟.. إن اليهود يعرفون كما نعرف أن فلسطين لم تكن خالية من سكانها يوم دخلوها فاتحين باسم التوراة! كان الكنعانيون يحيون فى هذه الربوع التى فاضت عليهم سمنا وعسلا، وكانوا أصحاب تفوق مدنى وعسكرى أغراهم بالترف والعبث والجبروت، وكانوا مرهوبين يخشى الناس بطشهم، ويوجلون من التعرض لهم! فلما خرج موسى وقومه من مصر واحتوتهم سيناء، قيل لهم: ادخلوا فلسطين، فسيناء معبر إليها، ففزع اليهود من هذا التكليف وخشوا مقاتلة أهلها يومئذ، وقالوا: (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) وهذا الرد يقطر جبنا، فإن الكلاب والقطط تدخل بلدا خرج منه أهله، أى شجاعة فى هذا الموقف؟ وحاول موسى وبعض الصالحين تشجيع بنى إسرائيل على الهجوم فقالوا فى إصرار: (إنا لن
(1/26)
ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) ص _028
وعمت الأقدار على بنى إسرائيل أرض سيناء فظلوا يتيهون فيها أربعين سنة، هلكت خلالها الأجيال الجبانة، ونبت جيل أنظف، ولكن بعدما مات موسى، وقاد القوم يوشع الذى دخل فلسطين بعد قتال شديد مع جبابرتها الأولين.. وتحكى كتبنا أن يوشع فى إحدى معاركه طلب من الله أن يتم له النصر قبل غروب الشمس، فأخر الله الغروب، وكانت الشمس أذنت به حتى تم له ما أراد. وإلى هذا يشير "شوقى" فى رثائه لسعد زغلول بعد ثورته الوطنية: شيعوا الشمس، ومالوا بضحاها وانحنى الشرق عليها فبكاها! ليتنى فى الركب لما أفلت يوشع همت، فنادى، فثناها!! ودخل اليهود فلسطين، وأقاموا لهم دولة مكثت قرابة قرنين فماذا فعلوا؟ أضحوا شرا من سلفهم الذاهب، وملئوا الأرجاء خبثا وسفكا وفتكا، وقتلوا الأنبياء المختارين والأئمة المقسطين، فحكم الله عليهم بالطرد والذل، وتوارث الأقوياء نبذهم وتشريدهم. وأشرق الإسلام فى القدس فلما دخل المسلمون بيت المقدس فى الشروق الإسلامى الأول، كانت العاصمة العتيقة فى أيدى الرومان، وكان دخولها محرما على اليهود، وأقبل أمير المؤمنين عمر من جوف الصحراء يتألق جبينه بشعاع الوحى الخاتم، وتمشى فى خطاه معالم التوحيد الحق. قال التاريخ: كان التواضع المذهل يكسو موكبه الساذج، وكان الرجل الذى قوض صرح الدولتين العظيمتين فى العالم يتحرك مطرق الطرف خاشعا لله، فوق رحل رث وبين حاشية مستكينة، يقول بصوت رهيب: "كنا نحن العرب أذل الناس حتى أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز فى غيره أذلنا الله". ولم يقل عمر: الويل للمغلوب! بل أمن النصارى على كنيستهم، وقرر حرية العبادة، ثم شرع يرسى قواعد الدولة الجديدة على التقوى والعدالة والمرحمة، شرف العروبة فى هذه الدولة ذوبانها فى إعلاء كلمة الله..!! ص _029
(1/27)
مهزلة الفصل بين العروبة والإسلام حتى جاءت هذه الأيام النحسات، فإذا ناس من العرب ينسون عمر، والإسلام، والتاريخ كله، ويقولون: نحن أبناء كنعان!! مسحورين بالاستعمار العالمى الذى ألغى الدين وجعل مكانه الوطنية أو القومية!! وبقى أن يقول العرب فى جنوب الجزيرة: نحن أبناء عاد، وأن يقول العرب فى شمال الجزيرة: ونحن أبناء ثمود! وفى الوقت الذى يتعرى العرب فيه عن دينهم ويحيون مكشوفى السوءة، يتسربل اليهود بعقيدتهم ويصرخون بحماس هائل: نحن أبناء التوراة وأولاد الأنبياء، نحن بنو إسرائيل..! ونمضى فى مهزلة فصل العروبة عن النسب الإسلامى فى الميدان الدولى والتربوى على سواء، فنلحظ بقدر من الدهشة أن مسئولين فى المؤتمر الإسلامى أحزنهم بطش اليهود بالعرب داخل إسرائيل ففزعوا إلى "بابا الفاتيكان" يسألونه النجدة لإخوانهم! لقد سألوه باسم الإنسانية التى تجمع الكل، وما أحسبهم سألوه باسم "الوحى" الذى يشمل الأديان الثلاثة.. وجاء الجواب... قالت الصحف: خطب البابا فى مائة ألف مصلٍّ احتشدوا فى الكنيسة لتحية ذكرى دخول المسيح القدس! فقال: إنه لا يسعنا إلا أن نفكر فى أرض المسيح (!) أرض فلسطين، حيث علم المسيح المحبة ومات كى تتصالح الإنسانية. ثم أعرب عن أمله فى مجىء اليوم الذى يوافق فيه شعبا هذه الأرض على وجود وحقيقة كل منهما، حتى يعيش الطرفان ـ يعنى العرب واليهود ـ فى سلام..!! وكتبت صحيفة "الراية" القطرية فى 5- 4- 1982 تحت عنوان "تمخض الجبل... " أخيرا وجد قداسة البابا وقتا كى يكرم الأرض المحتلة بكلمة، فحظيت فلسطين بموعظة منه بعد طول انتظار! وحق لنا أن نقول لقداسته: صح النوم... ص _030
(1/28)
قال كاتب التعليق: إذا تدبرنا موضوع الموعظة نرى أن ما جادت به قريحة البابا يستحق الاستغراب، لقد استكثر قداسته ذكر العرب ـ وهم الشعب المضطهد فى الأرض المحتلة ـ وخلط فى حديثه بين القاتل والمقتول، وأعجب من ذلك أنه ساوى بين حق الشعب الفلسطينى فى أرضه وبين باطل الصهاينة المستعمرين، وشاء أن يسمى شذاذ الآفاق شعبا آخر ينافس العرب على أرضهم.. إلخ. وأقول: إن الذى يرتقب غير هذا الوعظ من بابا روما مخطئ، ولا يعرف حقيقة النصرانية. وقد وقع فى هذا الخطأ عرب آخرون استنجدوا بمجلس الكنائس العالمى، وعادوا من محاولتهم بخفى حنين! إن النصرانية تؤيد قيام إسرائيل، وترى عودة اليهود إلى فلسطين معجزة للكتاب المقدس وآية تشهد بصدقه، وقد نبه "وايزمان" فى مذكراته إلى هذا، وقال: إن "لورد بلفور" وغيره من الوزراء الإنكليز كانوا يعبدون الله حين أصدروا إعلان الوطن القومى، وكانوا يمثلون الإيمان المسيحى!! هل أقول: إن العرب لا يقرءون، وأنهم يجهلون ذلك حقا؟ ما أظن! الواقع أن العرب فتنهم الغزو الثقافى وحسبوا أن الوطنيات أو القوميات الحديثة تخلت عن عقائدها الأولى، فتزحزحوا عن قواعدهم. وفرطوا فى دينهم، على حين بقى خصومهم بمشاعر القرون الأولى... ولو حدث بالفعل أن غيرنا نسى أو تناساه، فهل ذلك عذر للكفر والفسوق والعصيان، إن قضية فلسطين خاصة يستحيل تجريدها من طابعها الدينى، والقول بأنه يجب طرد المستعمرين اليهود من بلادنا، كما يجب طرد المستعمرين البيض من جنوب إفريقية، وأن كلا النظامين يقوم على نزعة عنصرية، هذا الكلام تغطية سخيفة لحقائق مرة... إن العدوان اليهودى المدعوم بقوى الصليبية العالمية له غاية مرسومة معلومة، هى إبادة أمة وإزالة دين، هى الإجهاز على الأمة العربية التى حملت الإسلام أربعة عشر قرنا، وتريد أن تظل عليه شكلا إن تركته موضوعا... والذين يبعدون الإسلام عن معركة فلسطين، يشاركون فى تحقيق هذه الغاية، لأن فلسطين من
(1/29)
غير الدفع الإسلامى زائلة، والعرب من بعدها زائلون، والمسلمون بعد زوال العرب منتهون! وهذه هى الخطة! ص _031
إن ذهاب العرب بأنفسهم وشموخهم بجنسهم وحديثهم عن حضارة كنعان وقحطان وعدنان، إن كانت لهم حضارة، إن ذلك يطعن الأخوة الإسلامية طعنة نافذة، فإذا انضم إلى هذا الغرور نسيان لفضل الإسلام وبعث لنشاط عصرى جديد يقود العروبة فيه الشيوعيون والنصارى والمسلمون فذاك هو الارتداد الذى ينتهى بالعرب إلى مصارعهم ويحولهم أجمعين إلى لاجئين لا وطن ولا دين!! إننى مسلم عربى- من مواليد مصر- تخيلت أن واحدا من إخوتنا التركستانيين جاء يعاتبنى قائلا: يا أخا العرب لقد نجدناكم فى محنتكم باسم الإسلام وحده، تدرى متى وقع ذلك؟ عندما سقطت بغداد تحت أقدام التتار، وقتلت الخلافة والخليفة معا، وأطبق الظلام على كل أفق وانطلق التتار وأمامهم إشاعة أن جيشهم لا يقهر! عندئذ تحرك رجلنا "قطز" ووقف الفارين وثبت المذعورين، وتحت صيحاته المخلصة الجريئة "وا إسلاماه" دحر التتار فى "عين جالوت" وظل يطاردهم حتى بدد جموعهم، فلم تقم لهم بعد قائمة.. ألا تذكر ذلك؟ قلت: أذكر ذلك، ولا أنساه... قال: لا أحدثك عن خدماتنا الثقافية للكتاب والسنة، إن أئمة الحديث منا، وعلى قمتهم أميرهم أبو عبد الله البخارى، وأئمة المفسرين منا وفى طليعتهم الرازى والزمخشرى... قلت: ما ننكر فضلكم على العلوم الإسلامية.. قال: بل نسيتمونا كل النسيان، وتركتمونا وحدنا نقاتل روسيا القيصرية حتى احتل الصليبيون أرضنا وعندما نجحنا فى الخلاص من القياصرة، تركتمونا نقاتل روسيا الشيوعية حتى قهرتنا، وكسرت شوكتنا، واعتبرت أرضنا جزءا لا يتجزأ من الاتحاد السوفيتى، ما بكيتم قتلانا، ولا وديتم مجاهدينا، ولا تحدثتم عن قضايانا، وأظلكم صمت عجيب! لم هذا العقوق؟ لم هذا الكنود؟ ماذا أقول؟ وبم أجيب؟ إن احتباس العرب فى نطاق مآربهم الخاصة رذيلة منكورة. واهتمامهم بقضاياها وحدها أنانية
(1/30)
مرذولة. فى الحرب العالمية الأولى انضمت الثورة العربية الكبرى إلى الإنكليز، وقاتلت الأتراك، وتسببت فى هزيمتهم، فماذا جنى العرب؟ أعطى الإنكليز فلسطين وطنا ص _032
لليهود، وسقطت الخلافة التى رفضت أيام عبد الحميد بيع فلسطين بالقناطير المقنطرة من الذهب، ووقعت وحشة هائلة بين الترك والعرب وانتهت بارتداد الحكم التركى عن الإسلام! أما نتقى الله فى ديننا ورسالتنا بعد هذه النتائج الرهيبة، ونستمسك بالإسلام الذى شرفنا الله به، ونجعل الولاء له بعد ما تبين شؤم ما عداه..؟ فى حمى اعتزاز العرب بقوميتهم وقع تزوير مثير فى دراسة التاريخ، فسمى البطل الكردى المسلم "صلاح الدين الأيوبى" بحامى القومية العربية!، والرجل الضخم لم يكن يعرف قومية لا عربية ولا كردية، كان مسلما فقط. وفى حفل تم فى رمضان الأسبق وقعت مشادة بينى وبين أحد السفراء العرب لأنه يريد جعل "صلاح الدين" بطلا عربيا.. ولولا تدخل العقلاء لوقع ما لا تحمد عقباه! ومن ربع قرن اعتلى شيخ كبير منبر المسجد الأقصى، وخطب الناس قائلا: أيها العرب! وغضب المصلون لهذا النداء، فما كانوا يرتقبون إلا النداء التقليدى العظيم: أيها المسلمون! إن إبعاد العرب من الإسلام خيانة وطنية، إلى جانب أنها ردة دينية، والذين يمضون فى هذا الطريق يخدمون الصهيونية والشيوعية: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) ص _033
(1/31)
أحوالنا العامة قبل الهزائم التاريخية الكبرى تأملت فى تاريخ الأمة الإسلامية طويلا، وتأكدت من أنها لا تصاب من الخارج، وتلحقها الآلام الشداد إلا بعد أن تصاب من الداخل، وينفرط عقدها وتذهب رسالتها.! ليس لنا أن نسيء وننتظر من الله الإحسان، ولا أن نغدر بمعالم دينه وحقائق رسالته، ثم نرقب منه ـ سبحانه ـ البر والنصر! لماذا وهو القائل لنا ـ بعدما حملنا أمانات الوحى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) إن لدينا كتابا يخرج الناس من الظلمات إلى النور، فإذا أبينا المشى فى هداه وإذا غطينا بأهوائنا وهجه فهل يتركنا القدر لنعبث كما نشاء؟ ولأترك الكلام الآن عن حاضرنا الموجع، ولأقلب صفحات الماضى البعيد لأقرأ من سطوره ما يثير العبرة ويوقظ الفكرة. وقد يكون الحاضر صورة من الماضى فندرك أن القضية واحدة والحكم هو هو!! تأملات فى التاريخ قال التاريخ : هجم الصليبيون على العالم الإسلامى بعدما حفرت الفرقة بين دوله خنادق بعيدة القاع، فأمسى بعضها يتربص بالبعض الآخر، ويتمنى له الدمار! الدولة الفاطمية فى الشمال الإفريقى ومصر تغير على الدولة العباسية فى العراق والشام والحجاز، والدولة الأموية فى الأندلس تتمنى البوار للفريقين، كى يئول إليها الميراث الدسم.. والفرقاء المتشاكسون محصورون فى أحقادهم، لا يحسون الزحف الصليبى القادم من الغرب، ولا الزحف التتارى القادم من الشرق..!! أيرضى الإسلام عن هذه الضغائن الخسيسة، أو ينتظر من أصحابها أن يخدموا عقائده وشرائعه؟! ما خدعتنى الألقاب المهيبة التى شهر بها هؤلاء، ولا دلت على رسوخ فى دين أو مكانة فى دنيا! ص _034
(1/32)
هرب الخليفة العباسى "القائم بأمر الله" بعدما سقطت بغداد فى أيدى الفاطميين، واعتقله أحد البدو، ولكن الملك السلجوقى "طغرلبك " استنقذه ورده إلى عاصمة ملكه، فكافأه الخليفة على حسن صنيعه بأن زوجه من أخته، ولقبه ملك المشرق والمغرب، وأطلق يده فى إدارة الدولة!! ومات الملك السلجوقى فورثه ابن أخيه "ألب" ومات الخليفة العباسى وورثه عباسى آخر لقب نفسه "بالمقتدى" وكان شابا فى التاسعة عشرة من عمره.. ولم يكن الشاب الشريف النسب! قديرا على الإدارة، فتولاها عنه سلجوقى آخر يدعى "ملكشاه"، وهو ابن ألب أرسلان الذى توفى بعد حياة عامرة بالجهاد.. قال التاريخ: واستبد "ملكشاه" بالسلطة، وازدرى الخليفة، وبلغ من احتقاره له أن أمره بترك بغداد، وتضرع الخليفة إليه أن يمهله شهرا، فأبى بعد إلحاح إلا أن يمهله عشرة أيام وحسب.!! وشاء الله أن يموت "ملكشاه" قبل انقضاء الأجل المضروب، وتكتمت زوجته نبأ موته، وذهبت إلى الخليفة المهدد طالبة أن يولى ابنه مكانه، وكان الولد لا يبلغ من العمر خمس سنين، ولكن الخليفة المقتدى ولاه، ومنحه لقب ناصر الدين والدنيا.!! أرأيت هذا الهزل كله؟ إنها مساخر يحار المرء كيف تقع باسم الإسلام فى عاصمة الإسلام.! ومتى يحدث هذا السخف فى دفة الحكم؟ يحدث وملوك أوروبا وبابا الفاتيكان ورجال الكنيسة يصرخون بضرورة الثأر من المسلمين والإجهاز على دين محمد.! لكن هذه الصيحات لا يبلغ صداها رجال السياسة العليا فى بلادنا! إنهم ينادون من مكان بعيد! إنهم غرقى فى شهواتهم الشخصية، ومطامعهم العرقية. لقد فهموا من الإسلام شيئا واحدا، أن الوحى الأعلى نزل ليخص أفراد أسرتهم بمكانة ممتازة. فبعد ستة قرون أو أقل أو أكثر من شروق الإسلام، يرى شاب مسكين من ولد العباس أنه جدير بقيادة العالم الإسلامى.! ص _035
(1/33)
أو يرى نظير له من بنى أمية أن المسلمين على شاطئ الأطلسى يجب أن يدينوا له بالطاعة!. ألم... يكن أجداده الأمجاد عمدا فى بطحاء مكة قديما؟ ولو انتقل الإسلام إلى غرب الأطلسى واعتنقه سكان الأمريكتين فينبغى أن يدخلوا فى سلطانه، أليس من قريش؟ إن أى مملوك عديم الكفاية يغنيه هذا الانتساب ليطلب أمرا لا يعرف له رأسا من ذنب!!.. والغريب أن صاحب الرسالة قال لابنته فاطمة: "يا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم- اعملى لا أغنى عنك من الله شيئا"، ثم جاء بعد ذلك من ينتسب إلى فاطمة بالحق أو بالباطل ليتذرع بهذا النسب إلى قيادة المسلمين.!! الحق أن الأجهزة العليا للدولة الإسلامية لحقها عطب مبكر من جراء هذه المزاعم الصبيانية، وأن غلبة التافهين على مناصب الخلافة أصاب الأمة الإسلامية كلها بجرح غائر، ما زال ينزف حتى أفقدها الحياة، ومكن منها الأعداء. ثم كان سببا فى أن ناسا من أهل الطموح والقدرة رأوا العجز الفاضح لأبناء هذه الأسر، فنحوهم عن السلطة واحتازوها لأنفسهم. ولما كان التطلع والادعاء شائعين بين الناس، فقد تهارش على الحكم طامعون كثيرون، وأصبح الاستيلاء على مقاليد الحكم مطلبا ميسورا لكل من يملك سيف المعز وذهبه.. وبديه أن يستخفى فى هذا الجو ذوو المروءة والشرف والعفاف والتقى!، فماذا يصنعون؟ وبأى سلاح يقاتلون؟ لنطو هذا التعليق السريع، ولنعد أدراجنا إلى بلاد الإسلام قبيل الحملة الصليبية الأولى، عندما كان أولاد العباس، وأولاد فاطمة، وأولاد أمية يتنافسون على مقاليد الحكم فى العالم الإسلامى.. فى مقدمة جيدة كتبها الشيخ على محمد يوسف المدرس بكلية الشريعة بجامعة قطر، عن ابن الجوزى جاءت هذه العبارات فى وصف المسلمين قبيل الهجوم الصليبى: "بينما هم فى غمرة انقسامهم على أنفسهم إذ برز عدو يرفع شعار الصليب يريد القضاء عليهم واقتلاع الإسلام من جذوره! ص _036
(1/34)
وقد قدمت أولى الحملات الصليبية سنة 492 هـ. وقال عنها ابن الجوزى: وردت الأخبار بأن الإفرنج ملكوا أنطاكية، ثم جاءوا معرة النعمان فحاصروها، وقتلوا ونهبوا، وقيل: إنهم قتلوا ببيت المقدس سبعين ألف نفس، وكانوا قد خرجوا فى ألف ألف..." ونقف عند عبارة ابن الجوزى: قيل: إنهم قتلوا سبعين ألفا! الأمر عنده، وعند سكان بغداد، وفى مركز الخلافة الإسلامية لا يعدو أن يكون إشاعة!! إن دار الخلافة آخر من يعلم، وأنى لها العلم ورجال الدولة فى شغل بصيد المتع ونشدان الملذات والتقاتل على السلطة.. كان الحكم مغنما يستحق المخاطرة! أَبَلَغَ أولئك النتنى من الخلفاء، أن عمر بن الخطاب آثر صرف الخلافة عن ابنه ضنا عليه بمتاعبها ومغارمها قائلا: " بحسب آل الخطاب أن يحاسب واحد منهم عن المسلمين". كانت الخلافة أيام الرجل الكبير عبئا ومغرما.. ثم جاءت أيام الملك العضوض فأصبحت بقرة حلوبا.. فلما هجم الصليبيون على فلسطين كان التقطع فى كيان الأمة الكبيرة قد بلغ مداه، ولولا أن مذبحة بيت المقدس طمت وعمت واستحال حصر أبنائها لبقى النائمون نياما. ولم تلبث دولة الخلافة غير قليل حتى دفعت ثمن بلادتها فاجتاحها التتار، وجعلوها خبرا كان، ولم تغن عنها الألقاب الخادعة من مسترشد بالله! ومقتف لأمر الله، ومستنجد بالله! وناصر لدين الله.. الخ!. إن الظن لا يغنى من الحق شيئا، فكيف بالكذب الصراح؟ والمسلمون إذا لم يصدقوا الله فلا يلومون إلا أنفسهم!! أثر الاستبداد السياسى على الدين والحياة قد يقال: أين جهاد العلماء فى مقاومة هذه الفوضى؟ والجواب يقتضينا شيئا من التفصيل، فإن أصحاب العقول الكبيرة والهمم البعيدة حاربهم الاستبداد السياسى، وفض مجامعهم، فضاقت الدائرة التى يعملون فيها، وتضاءل الأثر الذى يرتقب منهم.. ص _037
(1/35)
والمرء لا يسعه إلا الحزن لمصائر قادة الفكر الدينى الذين قتلوا أو أهينوا وحيل بينهم وبين نفع الجماهير.. ومع غياب هؤلاء انفسح المجال لعارضى الأحاديث الذين يخبطون فى السنة الشريفة خبط عشواء.. ولفقهاء الفروع الذين خدعوا العوام بسلعهم، وأوهموهم أنهم يشرحون لباب الدين وشعب الإيمان الكبرى، وهم فى الحقيقة يذكرون تفاصيل ثانوية يكثر فيها الأخذ والرد، ولا تمس جوهر العقيدة أو الشريعة. إن الأحاديث الشريفة ـ بعد تمحيص سندها ـ تحتاج إلى الفقيه الذى يضعها فى الإطار العام للإسلام الحنيف، ولكن جاء ناس يروون للعامة ـ مثلا ـ حديث الترمذى عن أبى هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام" أو حديث أبى داود عن أبى سعيد قال: جلست فى عصابة من ضعفاء المهاجرين ـ وإن بعضهم ليستتر ببعض من العرى ـ وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا، فسكت القارئ، فقال: "ما كنتم تصنعون؟" قلنا: كان قارئ يقرأ علينا نستمع كتاب ربنا، فقال: "الحمد لله الذى جعل فى أمتى من أمرت أن أصبر نفسى معهم" وجلس وسطنا ليعدل نفسه بنا. ثم قال بيده هكذا ـ يعنى أمرهم أن يصنعوا دائرة ـ فتحلقوا وبرزت وجوههم، فما رأيت رسول الله عرف منهم أحدا غيرى!! ثم قال: "أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بخمسمائة سنة". بديه أن هذه الأحاديث للمواساة والبشرى، ولا تعنى أبدا أن الغنى عيب، وأن الثراء يؤخر المنزلة. بيد أن جهلة المحدثين أرادوا إقامة مجتمع من الصعاليك ورووا آثارا تجعل عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا! وهذه بلاهة منكورة، فإن المال قوام الحياة وأساس الدولة، وكافل المؤسسات المدنية والعسكرية، وعبد الرحمن بن عوف هو بنص القرآن من السابقين الأولين، الذين حازوا الرضوان الأعلى، وبشروا قبل غيرهم بالجنة.. وتحبيب الفقر للناس كما يفعل أولئك
(1/36)
المحدثون القاصرون جريمة. ص _038
فإذا انضم إلى هذا أن العرب يحتقرون الحرف- تمشيا مع جاهليتهم الأولى- ويفضلون عليها الفقر عرفت أى مجتمع تصنعه هذه التعاليم. والغريب أن هذه الأحاديث كانت تروى وفى الأمة الإسلامية طبقات انتفخت من السحت. وبدلا من تقويم عوجها بالآيات والسنن الصحاح، انتشرت هذه المرويات، وانتشر مثلها فى ميادين كثيرة، مما بلبل المجتمع وكاد يفقده وعيه..! معارك فى فقه الفروع أما فقهاء الفروع فقد زادوا الطين بلة، وزحموا أوقات الناس بصور من الأحكام تكتنفها التهاويل المزعجة، مع أنها لا تستحق لا هذا الجهد ولا هذا الوقت.!! ثم أعلنوا حروبا غير شريفة على من يخالفهم فى تلك الأحكام الجزئية. روى ابن الجوزى عن الشيخ ابن عقيل، قال: رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز! لا أقول: العوام، بل العلماء. كانت أيدى بعض الحنابلة مبسوطة فى أيام ابن يوسف - الحاكم السابق - فكانوا يتسلطون بالبغى على أصحاب الشافعى فى الفروع ـ التى يخالفونهم فيها ـ حتى لا يمكنوهم من الجهر بالقنوت، وهى مسألة اجتهادية ـ يعنى لا حرج فى الاختلاف فيها ـ فلما جاءت أيام النظام ومات ابن يوسف، وزالت شوكة الحنابلة استطال عليهم أصحاب الشافعى استطالة السلاطين الظلمة فاستعدوا عليهم، وآذوا عامتهم بالسعايات، والفقهاء بالنبز والاتهام بالتجسيم! قال ابن عقيل: فتدبرت أمر الفريقين فإذا هم لم تعمل فيهم آداب العلم، وهل هذه إلا أفعال العسكر؟ يصولون فى دولتهم ويلزمون المساجد فى بطالتهم!". وذكر ابن الجوزى عن أبى نصر القشيرى ـ الواعظ بالنظامية ـ أنه كان يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، فرموه بالحجارة حتى وصلت إلى حاجب الباب، وتقاتل القوم مرة بسببه، حتى وقع بينهم قتلى وجرحى وحرق ونهب إلى أن أرسل الخليفة من أخمد الفتنة..! ص _039
(1/37)
يحدث هذا التمزق فى الأمة الإسلامية والعالم الصليبى يحترق شوقا إلى ضرب الإسلام فى عقر داره ومحو أعيانه وآثاره. وعلام الخلف والتظالم؟ على قضايا تركُها كفعلها أو فعلها كتركها، لا يخدش إيمانا ولا يجرح المروءة! وهل فى قنوت الفجر إن فعلناه أو تركناه ما يضير؟ إن العرى عن الأخلاق، وإبطان الكره للآخرين والعجب بالنفس هو الجريمة التى ارتكبها نفر من فقهاء الفروع غرتهم بضاعتهم فقدموها للناس مقرونة بالغلو، ولم يبالوا بما تتركه من فرقة! وفساد المتدينين من أهل الكتاب صدر عن هذا المنبع، زوقوا الشعارات، وخربوا القلوب فقال الله فيهم: (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) وكانت عقبى الشقاق وعوج الصفوف واضطراب الحكم وحب الرياسة أن اقتحم الصليبيون والتتار حدود الأمة المختلة وفعلوا بها الأفاعيل. لماذا أذكر ذلك الآن؟ لماذا أنفض الغبار عن صحائف مضت؟ ما أشبه الليلة بالبارحة لأني أرى العلل القديمة تتجمع ونذر العاصفة المدمرة تبدو في الأفق البعيد، بل إن الأعداء شرعوا في الهجوم، والأرض الإسلامية تنتقص من أطرافها، والخطط توضع لضرب القلب بعد قص الأجنحة! نجح الصليبيون فى تنصير أربعة أخماس الفليبين، ثم اتجهوا إلى جزر إندونيسيا يحملون الخطة ذاتها، وقد محوا المعالم الإسلامية من "سنغافورة" وهم الآن يبعثرون طلائعهم فى شرق وجنوب آسيا.. وقد نشرنا فى أحد كتبنا مقالا كاثوليكيا عن ضرورة إزالة الإسلام من إفريقية مع نهاية القرن العشرين! وبابا الفاتيكان يتنقل بين أقطار شتى ليطمئن إلى نجاح الخطة المرسومة ويزيدها ضراوة..!! ص _040
(1/38)
كيف لا يقشعر جلد المؤمن وهو يطالع هذه الأنباء؟ كيف يطيب له منام أو طعام؟ أعرف أن الأمة الإسلامية أحست الخطر المحدق وهبت لتحيا، وعلائم الصحو تنتشر بسرعة مع اقتراب الفزع واكفهرار الجو. وإنى لمؤمل الخير من وراء هذا الصحو الشامل، بيد أنى أحذر من الأمراض القديمة، من فساد السياسة بالفرقة وفساد الثقافة بالجهل والهوى. من الناحية العلمية يجب أن نتعاون فى المتفق عليه، ونتسامح فى المختلف فيه، ونتساند صفا واحدا فى مواجهة الهجمة الجديدة على ديننا وأرضنا حتى نردها على أعقابها. وعلى أهل المسئولية الإسراع فى جمع القوى، وسد الثغرات وحشد كل شىء لاستنقاذ وجودنا المهدد..! إن أى امرئ يشغل المسلمين بغير ذلك، إما منافق يمالئ العدو ويعينه على هزيمتنا، وإما أحمق يمثل دور الصديق الجاهل، ويخذل أمته من حيث لا يدرى! وكلا الشخصين ينبغى الحذر منه وتنبيه الأمة إلى شره. ص _041
(1/39)
عدوان من البشر.. أم عقاب من القدر؟ الخبراء بالتاريخ الإسلامى فى عصوره الوسيطة والحديثة يكادون يتفقون على أن أضعف نقطة فى الكيان الإسلامى هى الحكومات، إنها الثغرة التى نفذ منها الغزو الصليبى واستطاع بعدها أن يفسد ويعربد كيف شاء. وكان الإسلام هو الضحية، وكانت أمته هى التى حملت أفدح العبء والخسار... ثغرات نفذ منها الغزو الصليبى وقبل أن نصف أشخاص الحاكمين، نذكر نماذج لما اقترفوا... قال الأستاذ أحمد الشقيرى وهو يتحدث عن الحملة الصليبية الأولى، ويصور الهجوم على "إنطاكية"- وإنطاكية هى المدينة التى تسمى الآن "الإسكندرونة". وقد انتزعها الفرنسيون من سورية وضموها إلى تركيا " مكافأة لقائدها المرتد": ...امتدت المعركة شهورا مضنية، كان القتال خلالها يدور داخل المدينة وخارجها، وعلى أبراجها وأسوارها، وبين شوارعها وساحاتها. والحامية الشجاعة تستصرخ وتستنجد! ولا مجيب... وكانت حلب ودمشق أقرب الحواضر إلى إنطاكية ولكن الصراع بين الأخوين العدوين الألدين "رضوان" ملك حلب "ودقاق" ملك دمشق كان على أشده، وكانت الحرب ناشبة بينهما حين وصلت قوات الفرنجة إلى أسوار إنطاكية!" ما سبب هذه الحرب بين الأخوين الملكين؟ "السبب أن رضوان ملك حلب يطمع فى دمشق ويريد انتزاعها من أخيه دقاق. ومن هنا وقف الملكان: دقاق ورضوان يتفرجان على إنطاكية وهى تقاتل الصليبيين وحدها دون أن يدريا ما يخبئه لهما القدر!". "ولعل الصليبيين كانوا على علم بالصراع بين الملكين، فاتصلوا بدمشق وكتبوا إلى ملكها يطمئنونه على ملكه، فاستكان إلى هذه الموادعة الذليلة، ما له ولإنطاكية؟ ليكن من بعدها الطوفان!" ص _042
(1/40)
قال ابن القلانسى: "إن الصليبيين كاتبوا صاحب دمشق بأننا لا نأخذ ولا نقصد غير البلاد التى كانت بيد الروم ولا نطلب سواها ـ مكرا منهم وخديعة ـ حتى لا يساعد صاحب إنطاكية". وصمدت "إنطاكية" وحدها، لكن من الذى صمد وبذل دمه فى سماحة للدفاع عن البلد المهدد؟ طلاب الآخرة وحدهم! أما ملك إنطاكية نفسه فقد كان فاسقا ظالما شديد الوطأة على الرعية، كما يقول مؤرخونا.. بل ذكروا أن أهل مدينة "ارتاح" وكانت تحت سيطرته استجاروا منه بالإفرنج، وطلبوا منهم مددا لمقاومته! وهذا لقبح سيرته وظلمه فى بلاده. على أن مسلمى إنطاكية نسوا كل شىء، وقاوموا الغزاة إلى آخر رمق، بيد أن الخيانة والفرقة عجلتا بمصير المدينة الباسلة فسقطت بأيدى الصليبيين. قال ابن القلانسى: "فقتل وأسر وسبى من الرجال والنسوان والأطفال ما لا يدركه حصر" وقال المؤرخ الأوربى "رانسيمان ": "إن الصليبيين ذبحوا فى إنطاكية ما لا يقل عن عشرة آلاف من الأهلين، واضطر الجند إلى المسارعة فى دفن الجثث قبل أن ينتشر الوباء فى المدينة". ومضى الصليبيون فى طريقهم إلى بيت المقدس، لم يكن أمامهم كيان إسلامى متماسك، ولا حكم موحد معروف. يقول الأستاذ أحمد الشقيرى: "كانت ديار الشام مهيأة للهزيمة، إذ كانت جملة ممالك وإمارات لا رباط بينها. إمارة إنطاكية يحكمها الأميران "سيان" ومملكة حلب على رأسها الملك "رضوان" ومملك دمشق وعلى رأسها الملك "دقاق" وإمارة حمص يحكمها الأمير "كربوغا" وإمارة حماة يحكمها الأمير "سليمان" ثم هناك الدولة الفاطمية فى القاهرة.. والدولة العباسية فى بغداد... وكانت الجماهير الغاضبة تذهب جموعا جموعا إلى عاصمتى الخلافتين المتنازعتين على الرئاسة دون جدوى. ما فكرت إحداهما فى عمل شىء يعين المدافعين أو يعرقل المهاجمين.. كان الحرص على البقاء فى السلطة هو المهيمن على فكر الحكام، وإذا كان هناك من اتصال ص _043
(1/41)
بالصليبيين الهاجمين فهو للتفاوض معهم على منفعة خاصة، وترضيتهم ببعض الأقطار من أرض "الخصوم السياسيين"!. ودخل الصليبيون بيت المقدس ولم يجد أعداء الإسلام أفضل من هذه الفرصة لبلوغ مآربهم، فانطلقوا خفافا إلى بيت المقدس يحطمون المقاومات الشعبية التى تعترضهم، ومع أن الجماهير استماتت فى الدفاع عن المدينة المقدسة، وتحملت الحصار الرهيب نحو خمسين يوما، إلا أن النتيجة الكئيبة لم يكن منها بد. ماذا تفعل الحامية القليلة المعزولة أمام جيوش أوروبا كلها. ما تحركت دولة إسلامية لنجدة البلد المحروب! ترك وحده ليواجه مصيره! ولنسمع كلام المؤرخين المسيحيين، يصفون هذا المصير الفاجع.. يقول ابن العبرى المالطى: "لبث الإفرنج فى البلد أسبوعا يقتلون المسلمين، فقتل بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا". أما المؤرخ متى الرهاوى فقد نقص العدد خمسة آلاف فقال: "إن عدد من قتلهم الإفرنج من المسلمين زاد على خمسة وستين ألفا". ويقول المؤرخ وليم الصورى: "إن المدينة المقدسة قد أصبحت مخاضة واسعة من دماء المسلمين". ويقول المؤرخ ريمون ديجل ـ وكان من الذين قاتلوا فى صفوف الصليبيين ـ: "إنه ذهب لزيارة الحرم الشريف بعد المذبحة الرهيبة، فلم يستطع أن يشق طريقه وسط أشلاء المسلمين إلا بصعوبة بالغة، وإن دماء القتلى بلغت ركبته". قال الأستاذ الشقيرى ـ وعنه نقلنا الروايات السابقة ـ: "شاء القدر أن يحفظ لنا مذكرات وافية كتبها أحد الذين قاتلوا فى تلك المعركة، وترجمت أخيرا إلى اللغة العربية، جاء فيها: إن الإفرنج جدوا فى قتال الأهلين ومطاردتهم حتى قبة "عمر" حيث تجمعوا واستسلموا لرجالنا الذين أعملوا فيهم أفظع القتل طيلة اليوم بأكمله، حتى فاض المعبد كله بدمائهم، وانطلق رجالنا فى جميع أنحاء المدينة يستولون ص _044
(1/42)
على الذهب والفضة والجياد والبغال، وكما أخذوا فى نهب البيوت الممتلئة بالثروات. وفى صباح اليوم التالى تسلق رجالنا أسطح المعبد وهجموا على الرجال والنساء، وراحوا يعملون فيهم القتل، فرمى بعضهم بنفسه من أعلى المعبد وصدر الأمر بطرح الموتى كافة خارج البلد لشدة النتن المتصاعد من الجثث، ولأن المدينة كادت بأجمعها تغص بهم، فتعالت أكوام الجثث حتى جاوزت البيوت ارتفاعا.. " هل يعيد التاريخ نفسه؟! لماذا نقل هذه الذكريات الفظيعة الآن لأن التاريخ يعيد نفسه والهجوم على الأرض الإسلامية يتجدد في هذا العصر، فالمطلوب منا طال الزمن أو قصر أن نرتد عن ديننا وأن نتنازل عن بلادنا.. وأحوال المسلمين صورة قريبة الملامح من صورتهم قبل الهجوم الصليبى الأول، والفجوات الواقعة بين شتى الحكومات هى هى، وكذلك البعد عن تعاليم الدين، واتخاذ القرآن مهجورا، ونسيان محمد وسيرته وسنته... والسؤال الذى أطرحه على نفسى وعلى غيرى: ماذا كان موقف الفقهاء من الحكام الذين جلبوا هذه الهزائم وأحلوا قومهم دار البوار؟ لا أعنى محاكمة ناس جيفوا، وانتقلوا إلى دار أخرى يلقون فيها جزاءهم! إنما أعنى: كيف بلى المسلمون بأولئك الرؤساء؟ كيف وصلوا إلى مناصبهم؟ هل ناقش الفقهاء الطرق التى وصلوا بها إلى الحكم؟ هل كانت هناك أجهزة تشير عليهم وتضبط أعمالهم؟ وإذا فقدت الدولة هذه الأجهزة، فهل اقترح وجودها وضمن بقاؤها؟ هناك حكام ارتدوا بتعاونهم مع الصليبيين، فهل أعلن ارتدادهم؟ وكيف تمر خيانة عظمى بهذه السهولة؟؟ وهناك حكام أضعفوا الجبهة الداخلية بمظالمهم ومآثمهم فكيف تركوا يمهدون لسقوط البلاد بين أيدى أعدائها؟ ص _045
(1/43)
إن المسلمين الذين جاء فى وصفهم أنهم جسد واحد، صعقهم شلل رهيب، فكان كل عضو يقطع ويمزق وبقية الجسد لا يدرى أو لا يحس، كيف حدث هذا؟ ومن المسئول..؟ ترى ماذا يشغل فقهاءنا ومفكرينا إذا كانت حياة الدين كله فى مهب العواصف؟ ما هى القضايا الأهم التى تشد انتباههم ويبدءون فيها ويعيدون؟! وإذا كان المسلمون حملة دعوة عالمية، فهل دهسوا العالم حولهم وعرفوا ما يسوده من ملل ونحل؟ وهل عرفوا العدو والصديق؟ وإذا قيل لهم ـ فى كتابهم عن المتربصين بهم ـ: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) فهل فتحوا عيونهم على مكامن الخطر واتخذوا أسباب الحيطة؟! كيف بوغتوا بالهجوم الصليبى؟ وبعدما بوغتوا به، كيف تقاعسوا عن رده؟ ما هى الملذات وأنواع الترف التى فتنتهم عن دينهم؟ وهل جفت منابعها أم بقيت تجعل الحكم مغنما لا مغرما؟ وتجعل المناصب العليا مصيدة للحرام لا خدمة للصالح العام. الشورى والحرية من قضايا الإسلام الأولى في عملى بميدان الدعوة الإسلامية اكترثت لهذه الأسئلة، ورفضت تجاوزها، وقلت: لابد من إكراه الكبار والصغار على الاهتمام بها، فإن فساد نفر من الحكام جر على ديننا وأمتنا بلايا غليظة. إن الخونة الذين مهدوا لسقوط إنطاكية والقدس وغيرهما نسلوا فى عصرنا هذا من يمهد لضياع عواصم الإسلام كلها، والسكوت كفر..!! ص _046
(1/44)
فى القارات الخمس تعطى الشعوب الحق فى أن تستبقى الحاكم الذى تحب، وتستبعد الحاكم الذى تكره، فما الذى يجعل الأمة الإسلامية تشذ عن هذه القاعدة فى أغلب أقطارها؟ وارتقت أجهزة الشورى ارتقاء عظيما، وتطورت محاسبة الحاكم تطورا جذريا، فكيف تبقى لحاكم فى بلادنا عصمة؟ وكيف يبقى فوق المساءلة؟ وظفر الفرد فى أرجاء الدنيا بضمانات لصون دمه وماله وعرضه، ومثوله أمام قضاء عادل حصين إذا بدر منه خطأ، فلماذا يحرم الفرد عندنا مما توفر لغيره من خلق الله؟ وعجبت لمتحدثين فى الإسلام يسكتون عن هذه القضايا ويستمرئون الثرثرة فى قضايا أخرى لا تمس الحاضر ولا المستقبل. وإنما تشغل الفراغ وتقتل الوقت وحسب. كل شىء يمر بأذهانهم إلا قضايا الحرية الفكرية والسياسية وحقوق الأفراد والشعوب!! مع أن هناك من الحاكمين من يرفض علانية الولاء للإسلام، ومن يطوح بنصف أصوله العلمية فى التراب، ومن يأبى باستهانة تنفيذ شرائعه، ومن يفخر بتحلله من روابط العقيدة، ومن لا يرى بأسا بتحليل الحرام وتحريم الحلال، ومن لا يبالى بقتل الألوف المؤلفة من الناس توطيدا لسلطانه.. كيف يصح الرضا عن هؤلاء؟ ونريد ـ والإسلام يتعرض لمحنة كبرى ـ أن نحدد المواقف!. إن أعداءنا لم يكتموا من نياتهم شيئا، لأنهم لم يروا أمامهم ما يبعث الكتمان أو الحذر.. اليهود يقولون: لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل! والمعنى واضح فإن الهيكل المطلوب فوق تراب المسجد الأقصى!. والصليبيون الجدد يقولون: خلقت إسرائيل لتبقى.. بل يهددون بنسف هيئة الأمم إذا اتخذت قرارا بفصل إسرائيل..! هل بقى غموض حول أوضاعنا بعد تصريحات الفريقين؟! إن المعركة ـ فى حقيقتها ـ ليست حشد بضعة ملايين من اليهود فى فلسطين لسبب أو لآخر!! إن المعركة حول الوجود الإسلامى كله. ص _047
(1/45)
وتساؤل القوم هو: لماذا يبقى الإسلام أكثر مما بقى؟! واليهود والنصارى معا يؤمنون بالعهد القديم، ويرون أن إسرائيل حقيقة دينية لا تقاوم ولا يجوز تركها!!. فإذا تحدد موقف أعداء الإسلام على ما رسموا هم فما هو موقفنا؟ أنستسلم للفناء. وندع ديننا ورسالتنا للجزارين الجدد أم ماذا؟ معالم المنهج للصحوة الإسلامية إن العالم الإسلامى لا يبيع دينه، ويؤثر أن يهلك دونه ولا يغض من موقفه نفر شذاذ من الخونة والجبناء، فقدوا الدين والشرف، ونشدوا العيش على أى حاجة وبأى ثمن!. ولكى نحسن الوقوف أمام عدو الله وعدونا يجب أن تتوفر لجبهتنا العناصر الآتية: أولا: يعود الولاء للإسلام ويستعلن الانتماء إليه، وفى حرب تعلن علينا باسم الدين لا مجال لإطفائها بالتنكر لديننا!. لماذا يتقرر إبعاده عن المعركة؟ ولحساب من؟ إن رفض الإسلام فى هذه الساعة هو الانتحار، وطريق الدمار، بل هو قرة عين الاستعمار.. ثانيا: الولاء الشكلى للإسلام مخادعة، ومن المستحيل أن نرتبط روحيا ومنهجيا بالماركسية أو بالصليبية وفى الوقت نفسه ندعى الإسلام.. يجب أن تعود الروح لعقائدنا وشعائرنا وشرائعنا، والمسلم الذى يستحى من الصلاة بينما يستعلن اليهودى بصلاته فى أرقى العواصم لا يمكن عده مسلما!. ولن ننال ذرة من عناية الله إذا اتخذنا الدين لهوا ولعبا.. ثالثا: يقصى من ميدان التدين العلماء الذين يحرقون البخور بين أيدى الساسة المنحرفين، ويزينون لهم مجونهم ونكوصهم.. ص _048
(1/46)
والعلماء الذين يشغلون الناس بقضايا نظرية عفى عليها الزمن.. أو خلافات فرعية لا يجوز أن تصدع الشمل أو تمزق الأهل.. والعلماء الذين يظلمون الإسلام بسوء الفهم، ويرونه فى سياسة الحكم والمال ظهيرا للاستبداد والاستغلال وإضاعة الشعوب..! إن المسلمين فى المشارق والمغارب مهيئون ليقظة عامة تحمى كيانهم وتستبقى إسلامهم.. وهم كارهون أشد الكره لأن تكون الأحوال المعاصرة صورة طبق الأصل لما كان عليه المسلمون قبل الهجوم الصليبى فى العصور الوسطى!!. أطلب من عباد الله الصالحين أن يصيخوا السمع للنذير العريان.. قبل أن يأخذنا الطوفان، فإن الأقدار تقتص من المستضعفين المفرطين، كما تقتص من المجرمين المعتدين. وينبغى أن نزيد الأمر وضوحا فيما يفعل اليهود، وفيما يراد منا فعله، فإن مسافة الخلف واسعة بين الموقفين، لقد تأملت فى الأحداث المثيرة التى وقعت فوجدت أن الذى أضرم النار فى المسجد الأقصى من بضع سنين يهودى أسترالى، وأن الذى أطلق الرصاص على المصلين فقتل وجرح عشرات، وصوب طلقاته على قبة الصخرة فكاد يهدها يهودى أمريكى!. إن الأخوة الدينية جمعت بين الأستراليين والأمريكيين لدعم "إسرائيل" وكذلك جمعت هذه الأخوة بين شرق أوروبا وغربها، وبين اليهود العرب فى إفريقية وآسيا! وعد أولئك كلهم أولاد الأنبياء، ونسل يعقوب المبارك!. والعالم المتحضر لا يرى فى هذا الرباط شيئا ينكر... الشىء الذى ينكر حقا هو الإخاء الدينى بين المسلمين وحدهم وتحول هذا الإخاء إلى سياج يحمى عرب فلسطين من الهاجمين عليهم!! ومن ثم كانت قضية فلسطين عنصرية لا دينية، كما يصورها لنا الخادعون المخدوعون! ص _049
(1/47)
والوجود اليهودى فى فلسطين المحتلة لا يجوز أن يستغربه العرب، لماذا لا يكون إحساسهم به على أنه واقع طبيعى لابد منه؟ ونتساءل: هل الوجود العربى إلى جوار اليهود له أى احترام فى توراة اليهود وتلمودهم..؟ إن إسرائيل من الفرات إلى النيل ومن دمشق إلى المدينة..!! وبلوغ المرام يتم خطوة خطوة عند قوم يستغلون الزمن، ويحسنون التريث ويعرفون متى يضربون..! ظاهر أن المراد تنويم الأمة المثخنة من الداخل والخارج حتى يتم الإجهاز الكامل عليها.. إن المأساة المقلقة وقوع الغارة اليهودية، ومن قبلها الغارة الصليبية فى أيام نحسات من تاريخنا المديد... فالعلم بالدين سيئ والعمل به أسوأ، وقد استطاع الاستعمار الثقافى خلق جيل مهزوز الإيمان والفقه، ضعيف الثقة بنفسه وأمته، فهو يعطى الدنية فى دينه ودنياه غير شاعر بأولاه وعقباه.. إننا بحاجة إلى يقظة عامة تتناول أوضاعنا كلها حتى نحسن الدفاع عن وجودنا ورسالتنا فى عالم لا تسمع فيه إلا عواء الأقوياء.. ص _050
(1/48)
عوائق مزعومة أمام الإسلام صلة أوروبا بالإسلام قديمة، لعلها بدأت منذ بدأ، لكنها صلة مصبوغة بالدم، ملفوفة بالضغائن، وهذا ما نأسف، ونكره بقاءه. من المسئول عن هذا التاريخ الكالح؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل تختلف اختلاقا كبيرا. موقف الكنيسة التاريخى من الإسلام فأنا عن الجانب الإسلامى أرى أن آباء الكنيسة وساسة الغرب هم الذين شوهوا معالم الإسلام، وأشاعوا عنه الإفك! وسيقول الأوروبيون: بل أنتم الذين أعلنتم الحرب وبدأتم العدوان! وسنرد قائلين: حاربناكم مستعمرين ظلمة، فمن الذى جاء بكم إلى مصر والشام وغيرهما من أقطار الأرض؟ ولماذا وضعتم العوائق أمام الدعاة المسلمين المسالمين؟؟ ولا أريد الإيغال فى هذا الجدال، كما أنى لا أريد تجاهل واقع كئيب يمتد هنا وهناك! إن الأوروبيات كن يخفن أولادهن بـ"التركى"، كما يصنع القرويات فى بلادنا حين يخفن أولادهن بالعفريت!. والتركى فى أوروبا رمز الإسلام! وتخيل ما تكون عليه مشاعر طفل هذه نشأته!. وما تكون نظرته إلى الإسلام حين يكبر؟ هل اجتهدنا نحن فى تصحيح هذا الوضع الشاذ؟ الحق أن العسكرية التركية لم يصحبها جهاز دعاية معقول!، أحسبها لم تفكر فى صنع هذا الجهاز.. فماذا كان يصنع العرب الذين حمل أسلافهم الإسلام إلى العالم، وفتحوا به أعينا عميا؟ العرب نسوا جهاد الآباء وإن عاشوا على جناه...! كان ينبغى- كما قلنا مرارا- ألا يفوتهم العمل للإسلام فى ميدان الثقافة إن فاتهم العمل له فى ميدان الحكم!، كان ينبغى أن يخدموا فى ميدان الدعوة، وأن يحسنوا العرض العلمى، إن فاتهم الكفاح السياسى. ص _051
(1/49)
بيد أن بعضهم أبوا إلا أبهة الحكم ومنازعة غيرهم السلطة، فسقطوا جميعا، ولولا أن الله يجدد هذا الدين بالصالحين من عباده لكانت نكبة الإسلام أشد وأنكى، وأوروبا الآن تحيا بشارات صليبية وحقائق مادية مقطوعة عن السماء، نعم إنها تحيا بكل ما فى الإنسان من خصائص عقلية وغرائز حيوانية، ونظرتها إلى الأديان جملة لا تسر وإن خصت الإسلام بشر أكثر!. ربما قبلت الإيمان بإله واحد، ورفضت الإيمان بإله مثلث إن هذا الإله الواحد أقرب إلى الفطرة والتعقل! أما أن تكون رءوس المثلث آلهة متعددة، وهى فى الوقت ذاته إله فرد، فذاك ما تحار فيه الألباب. وقد شعرت أن آباء الكنيسة أنفسهم أخذوا يبرزون معنى التوحيد، وتخفت أصواتهم أو يتجاوزون على عجل الكلام عن الثالوث! كأنهم يشعرون بما فيه من تناقض، وهذا بلا ريب جنوح إلى الإسلام. صور أبعدت الأوروبى عن الإسلام ومع ذلك فإن الإسلام بعيد عن الأوروبيين، تصدهم عنه - كما قرأت - أسباب ثلاثة، هى: 1- قسوة أحكامه. 2- موقفه من تحريم الربا. 3- موقفه من المرأة ونظام الأسرة. وأريد هنا تسجيل بعض الحقائق عن هذه الأسباب الثلاثة: 1- قسوة أحكام الشريعة الإسلامية بزعمهم يقولون: أحكام الإسلام قاسية، فما الموقف إذا كانت هذه الأحكام هى ما لدى اليهود والنصارى فى الكتاب المقدس؟ سيقولون: لقد تركنا رجم الزناة مع وجوده فى التوراة لأنه قاس عنيف، وتركنا القصاص كذلك نفسا بنفس وعينا بعين، لأن تنفيذ ذلك أمر مخيف!. ولا أريد أن أقول: لا تذموا الإسلام بأمر هو فى كتابكم المقدس، وإنما أريد أن أتساءل: ماذا كسبتم من جحد القصاص وإلغاء عقوبة الإعدام؟ إنكم خدمتم المجرمين وأشعتم العدوان فى أقبح صوره! ص _052
(1/50)
قرأت هذا الخبر الآتى من "لندن" تحت عنوان "السجن مدى الحياة لثلاثة بريطانيين مزقوا ضحيتهم إلى شرائح". استدرج رجال ثلاثة، وهم حفار قبور، وبواب، وعامل، ضحيتهم إلى منزل أحدهم لسرقته وبعد ضربه على رأسه بمدية، قطعوا الجسد إلى شرائح باستخدام سكين كهربائى يعين على تمزيق اللحم، بينما كان المسكين لا يزال حيا (!) ثم نثروا اللحم الممزع فى منطقة قريبة لإلقاء القمامة وتنبه الجيران عندما رأوا دماء الضحية تنساب من أبواب المنزل، كما أبلغت سيدة الشرطة أن القتلة دعوها إلى تناول بعض اللحم الطازج(!) وظلت محاكمة القتلة شهرين، وقد تأجلت فى إحدى الجلسات عندما شعر المحلفون بالغثيان بعد أن رأوا الصور الملتقطة للأشلاء ـ التى كانت سابقا رجلا يحيا لنفسه وأهله. بماذا جوزى المجرمون؟ بالسجن يأكلون ويسكرون ما بقوا أحياء!! إن قتل هؤلاء عيب يوصم به الإسلام، ويصد عن الدخول فيه!! وننتقل من أوروبا إلى أمريكا، حيث حكم القاضى فى مدينة "أطلانطا" بالسجن مدى الحياة على مجرم متهم بقتل ثمانية وعشرين شابا من الزنوج صرعهم واحدا بعد الآخر خلال عام تقريبا.. قالت صحيفة الراية القطرية: إن موجة القتل توقفت بعد اعتقال المتهم، كما انتهى الرعب الذى كان يسود المدينة، وعلى الدولة أن تطعم هذا المجرم كذلك حتى يموت حتف أنفه لأن القصاص عيب، والإسلام يؤكد هذا العيب! ومن ثم فلا يجوز أن ندخل فيه! أهذا ما يرضى آباء الكنيسة؟ يوم يكون الخطأ زلة قدم لم تألف العوج، أو انهيارا مباغتا فى الإرادة الإنسانية وهى تنشد الخير، فإن الإسلام يقف مع العاثر حتى ينهض ومع المنهار حتى يثبت، والشروط التى وضعها لإقامة الحدود والقصاص تؤكد هذه الحقيقة. أما تحول الرذيلة إلى عمل معتاد لا حياء فى مواقعته ، فإن ذلك ما تنهض السلطة فى الإسلام لمقاومته بالرجم أو الجلد، ولست أتصور فاحشة ترتكب أمام أعين أربعة من الرجال إلا أنها مسلك دابة هائجة فى إحدى الغابات أو أحد
(1/51)
الأجران!! كيف تستغرب الصرامة فى منع هذا البلاء؟ إن الحد تسقطه شبهة!!.. وقد تسقطه ـ فى بعض المذاهب ـ التوبة، والقضاء بصير بمواضع العنف واللطف، والمهم صون المجتمع من استقرار الفساد والجرأة على المحرمات.! ص _053
أما القصاص فهو مشروع للإحياء لا للإماتة، وإبطال القصاص ذريعة للمزيد من سفك الدماء وإهدار حق الحياة، ونشر القلق فى كل ناحية. والغريب أن الاستعمار الثقافى جعل بعض المسلمين المعاصرين يستحى من شرائع الحدود والقصاص، ويريد أن تكون دار الإسلام مرقصا عاما تنمو فيه الدنايا، أو مسرحا يجد فيه المتوحشون فرصا شتى للاغتيال والاعتداء كما حكينا عن بعض العواصم..! هذه ملاحظة خاطفة عن صرامة العقوبات الإسلامية التى يقال: إنها تصد الناس عن الإسلام، أو التى زعمها المبشرون مآخذ على الإسلام..! 2- قضية الربا أما قضية الربا فإن الكلام فيها يشبه ما سبق، هل الربا حلال فى التوراة والإنجيل؟ كلا، إن الإسلام لم يبتدع تحريم الربا، وإنما جدد الحرمة النازلة فى الوحى القديم! واليهود والنصارى يعلمون أن الربا مستقبح، ولكن اليهود استبقوا قباحته فيما يدور بينهم من معاملات، وأطلقوا العنان لأنفسهم فى أكل أموال الناس بالباطل. وقد انساق النصارى فى هذا الانحراف، فاستباحوا الربا بعدما كان بينهم محظورا، ثم زال كل استنكار له على مر الأيام وأصبح اليوم من أركان الاقتصاد العالمى، واختفى تمام الاختفاء معنى الإثم فيه..! عندما ساعدت دول أوروبا "بولندا" وأمدتها بقروض ضخمة، ظننت أن ذلك تراحم أملاه الإخاء المسيحى، فإن فى بولندا جمهورا يتشبث بدينه ويلتف حول كنيسته، وينحرف عن الشيوعية الحاكمة. ولا ننسى أن بابا الفاتيكان بولندى الموطن! ويظهر أنى كنت مخطئا، فإن الغرب كان يتعامل بالربا مع الشعب المحتاج إلى العون.. وأى ربا؟ يقول السيد محمود سيف الدين فى مجلة "الاقتصاد الإسلامى": "إن بولندا تقترب من كارثة مروعة بعدما عجزت عن
(1/52)
تسديد (500 مليون دولار) قيمة الفوائد المستحقة عن ديونها لعام 1981 وحده. وقد اضطرت إلى اقتراض 350 مليون دولار لتستطيع أداء الفوائد المطلوبة عن هذا العام التعيس..!" ص _054
وقد صرح أحد المصرفيين الإنكليزيين الدائنين بأنه يفضل احتلال الروس لبولندا ليقوم الضامنون الروس بدفع الفوائد المستحقة!. والمعنى واضح فى هذا الكلام، المال أهم من الدين، ومن حرية الشعب البولندى، والغريب أن أحدا من الكاثوليك لم يحاول تذكير رجال السياسة والاقتصاد الغربيين بأن الربا حرام! فإن هذه الحرمة قد تلاشت من الأذهان تلاشيا تاما!، ورجال الكنيسة مشغولون بمحو الإسلام فى إفريقية وآسيا، ولا وقت لديهم للتفكير فى حلال أو حرام. إن المسلمين كانوا وما زالوا يرون الربا من أخبث المعاصى، والضمير الديني عندنا ـ برغم ما أصاب الإسلام من هزائم ـ باق على رفضه للربا، قل أو كثر.. لكن الموقف السلبى فى عالم متحرك لا يجدى فتيلا، وسيقع الناس فى الحرام إن لم نيسر لهم الحلال، وندفعهم فى طريقه دفعا.. وقد كان حقا على المسلمين أن يقدموا المعاملات البديلة عن الربويات، ويقيموا لها مؤسسات شامخة. وأيا كان الأمر فقد استفاقوا متأخرين، وبدأت مصارف إسلامية تعمل عملها هنا وهناك. وبعض الناس يتصور أن التجربة سوف تولد عملاقة، وهذا خطأ، فبين النظرية والتطبيق مسافة لا يطويها إلا الزمن. وبعض آخر يريد الارتباط بكل قول ورد، وهذا أيضا خطأ، فإن الإسلام فى ميدان العبادات منشئ مبدع ـ كما قال ابن القيم ـ أما فى ميدان المعاملات فهو مصلح لا مخترع وحسبه أن يقى الناس رذائل الغبن والتغرير والاستغلال الردىء. وعندما تنجح مشروعاتنا فى ضمان الربح الحلال، وتنقية المكاسب من الربا، فسوف نغير الاقتصاد العالمى كله، ومن ثم فإنى أناشد المتربصين والناقمين لأمور صغيرة أن يتقوا الله فى هذه المصارف الإسلامية الناشئة، وأن يدعموها حتى تنجح وتؤتى ثمارها.. 3- المرأة والأسرة فى
(1/53)
الإسلام بقي مما يريب أوروبا من الإسلام أمر المرأة! فقد زعم الزاعمون أن الإسلام يهينها وينتقص إنسانيتها، والحق أن تعاليم الإسلام المستفادة من كتابه وسنة رسوله وتطبيق السلف الأول لا يمكن أن ترفضها الغربيات الواعيات. ص _055
حتى تعدد الزوجات! فإنى رأيت فى حديث بعض النسوة الألمانيات أن التعدد أفضل وأشرف من المخادنة، وكاد الألمان فى أعقاب الحرب العالمية الثانية يصدرون تشريعات تبيح التعدد لمعالجة الزيادة الهائلة فى عدد النساء! غير أن الكنيسة تدخلت معترضة فوقف التشريع!. والنساء العاقلات يرين أن كفالة الآباء والأزواج للمرأة أفضل وأشرف من مطالبتها بالإنفاق على نفسها منذ أن تبلغ سن النضج، أو بعد ذلك! إن المرأة تتعرض لبلاء مثير فى طلبها للرزق، وانطلاقها للكدح فى أرجاء الأرض..! وما ركبت طائرة يوما إلا ونظرت للفتيات العاملات نظرة أسف، وقلت فى نفسى: لماذا لا يخدمنا رجال بدل هؤلاء الفتيات؟ إنهن يقمن بعمل شاق، ويتنقلن بين العواصم المتباعدة، ويبتن بعيدا عن أهلهن!، إن اختيار النساء لهذه الأعمال ليس دلالة إنسانية، بل هو أقرب إلى المسالك الحيوانية، وإن حملن اسم "مضيفات". إن الإسلام يعلو بالمرأة فوق هذا المستوى! بيد أن نساء كثيرات يفزعن من "التقاليد الإسلامية" التى يسمعن عنها، أو يعرفن نماذج لها فى شتى الأقطار الإسلامية.. ولست أدافع عن هذه التقاليد أو أرتضيها! إن كل امرأة تتبع دينا من الأديان يتاح لها أن تذهب إلى معبدها، أما المرأة المسلمة وحدها فمحظور عليها أن تدخل المسجد، لأن التقاليد فرضت عليها ألا تشارك فى جماعة! وعشرات الألوف، بل مئات الألوف من المساجد لا يلمح فيها شبح امرأة فى القرى والمدن! كيف وقع هذا، مع أن الصحابيات ما انقطعن عن المسجد النبوى يوما، ولا خلت صفوف النساء منهن على عهد النبوة والخلافة الراشدة. إن الإسلام شىء، واتجاهات الناس فى معاملة المرأة شىء آخر، ولا ريب أن ذلك يسىء إلى
(1/54)
الإسلام، ولعله يوقف رسالته فى هذا العصر! كنت أقرأ فى حياة "أسامة بن منقذ" وهو شاب صاحب بطولات باهرة فى قتال الصليبيين وعصابات الحشاشين وفرق الباطنية التى ظهرت فى القرن الخامس الهجرى، ويبدو من سيرته أنه صاحب مغامرات وبأس، وكان لأسرته حصن فى ضواحى "حماة" يأوون إليه ويحتمون به. ص _056
خرج أسامة هذا فى إحدى المعارك وتغيب عن الحصن طويلا تاركا أمه وأخته، فماذا حدث بعده؟ فرقت الأم السيوف على المقاتلين الذين انبثوا بعيدا للدفاع، ثم جاءت الأخت وأمرتها أن ترتدى ملابسها، ثم أجلستها فى شرفة تطل على واد سحيق! وأخذت الأم مكانها قريبا من الباب ترقب الموقف وتنتظر ما يكون! وعاد أسامة إلى الحصن بعدما أدى واجبه، ومد بصره ليرى أسلحته فلم يجدها فقال لأمه: أين السيوف؟ قالت: أعطيتها من يقاتل عنا، وما ظننتك سالما! ورمق أخته جالسة على شفا الوادى، فتساءل: أختى، أى شىء تفعل هنا؟ قالت الأم: أجلستها فى الشرفة، وجلست بمرأى منها حتى إذا وصل العدو إلينا دفعت بها فى أعماق الوادى، لأن تموت خير من أن تقع أسيرة بين هؤلاء الكفار، قال أسامة بن منقذ: فشكرت أمى على حسن تصرفها، وتقدمت الأخت إلى أمها بالشكر قائلة لها: جزاك الله خيرا..! غصت فى لجة من الذكريات وأنا أطالع هذه القصة، الأم تريد إراحة نفسها وابنتها والأسرة من عار الأسر بالموت فى هاوية سحيقة، والابن يشكر، والبنت توافق راضية! وتذكرت قول الشاعر: تبغي حياتي وأبغي موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم! هذه مكانة الشرف فى حياتنا وتاريخنا، وهى مكانة ينبغى أن نحافظ عليها، لكن لماذا لم تدرب هذه الأخت النبيلة على الكفاح لتكون كصفية بنت عبد المطلب التى نزلت من الحصن وقتلت يهوديا كان يطيف به، وتركت تجريده من سلاحه لحسان بن ثابت، لأنها استحت من تجريد رجل قتيل!! إن المرأة ينبغى أن تجيد القتال دفاعا عن الأرض والعرض والدين والدنيا!! إننا أهملنا ذلك كما أهملنا ربطها
(1/55)
بشعائر المسجد!!. ولست أدعو إلى تجنيد النساء، وإن فعل ذلك الآن بنو إسرائيل استعدادا ليوم ما معنا! فإن الألوف المؤلفة من الرجال لم تؤد هذا الواجب بعد، وإنما ألفت النظر إلى تفاوت بين ديننا وحياتنا، ربما يؤثر فى مسيرته أو ينال من دعوته، أو يجعل البعض يتهم الإسلام باحتقار المرأة. ص _057
أين الإسلام فى هذا الركام زادت أعداد المسلمين في هذا العصر زيادة محسوسة، ومع ذلك لم يفرح بهم صديق أو يخف منهم عدو! وما ظهر لهم نتاج حضاري في بر أو بحر أو جو، كأن الدنيا لغيرهم خلقت، أو كأن القدر لم يكلفهم بعمل..! الحق أن كثيرين ينتمون إلى الإسلام ولا علاقة لهم به، ولا اكتراث عندهم لحقائقه ومطالبه، بل إن هناك من يطعن الإسلام فى صميمه ولا يرى أنه فعل شيئا..! أرأيت هذا الذى يبيع أرض الإسلام لليهود والنصارى ويعقد معهم أخوة وثيقة وموالاة سافرة، فإذا حاولت مراجعته قال لك ولمن معك: ما أريكم إلا ما أرى... وتركك مستخفا بقولك، ومقبلا على خصمك..!. نماذج محسوبة على الإسلام كيف يعد ذلك فى جماعة المسلمين؟!، مع أن الله يصف هذا السلوك وأصحابه فيقول: (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون* ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء) . كيف يسلك فى عداد المسلمين امرؤ خالى الذهن عن الله؟ يسمع من بعيد عن اسمه وصفاته، ويسمع من بعيد أنه لابد بعد الموت من لقائه، ومع ذلك يبتسم فى بلاهة ويمضى فى طريقه مشغولا عن ذلك بعمل يدر عليه ربحا ويضمن له طعاما أو شهوة؟؟ فإذا أوقفته لتعيد إليه رشده ظنك عابثا وتركك وهو ثائر أو بارد حتى لا تعطله عن شأنه. نظرت يوما إلى نفر يقيمون فى أحد الفنادق، وخيل إلىّ من ملامحهم أنهم أجانب، ولكنى عرفت بعد زمن ليس بقصير أن هذا مسلم، وهذا كاثوليكى وهذا شيوعى، ما يوجد شىء يميز أحدهم عن الآخر، ولو بقوا سنين ما عرفت إلى أين
(1/56)
ينتمون؟. ص _058
إن الشيوعى يتعصب لزملائه فى شتى القارات، ويتحدث عن الألوهية بسوء، ومن هنا عرفت نزعته، والنصرانى يحترم يوم الأحد ويشرب الخمر ويرقص فى عيد الميلاد المسيحى، وبذلك عرفت هويته... أما المسلم المزعوم فحيوان مستأنس يشارك هذا وذاك ويحيا وسط ضباب فكرى محيط، ولا يعى عن محمد شيئا. كيف يحسب هذا المخلوق من المسلمين؟ وهناك ألوف مؤلفة ولدت فى وصاية الاستعمار وسيطرته المادية والأدبية، ومائلة مع توجيهاته القانونية والخلقية والسياسية والاقتصادية. ربما ربطها بالإسلام أنها تسمع القرآن يتلى... ربما دخلت المساجد يوما أو حينا بعد حين..! ربما وصل إليها من عظة عابرة أن الإسلام عقيدة وشريعة، بيد أنها اكتفت بما سمعت ورأت تجميد هذه المعلومات، لأن هناك ما هو أهم! هناك البحث عن المستقبل، عن العمل الرابح، عن الاستقرار الاجتماعى والمكانة المرموقة وحسب. أذلك يحسب من جمهور المسلمين، ويزيد به عددهم كما يحسب فى عداد اليهود ذلك الأمريكى الذى جاء من "سان فرانسيسكو" مهاجرا إلى فلسطين، ملبيا نداء العقيدة حتى بلغ مدينة "الخليل" وهناك نزل مقاتلا العرب ليقيم بين ظهرانيهم مستعمرة تضمه وإخوانه الوافدين!!. مصارحة لا بد منها إن الفارق بعيد بين المثالين.. إن "المليار" مسلم الموجودين الآن فيهم أصفار كثيرة، وإحصاء الصفر واحدا خطأ فاحش. من أجل ذلك لابد من وضع نهاية لهذه المأساة، ولابد من مصارحة حاسمة بالحقيقة الدينية المظلومة. نعم.. لابد من كشف القناع عن هذا الخداع، حتى نستطيع الدفاع عن بيتنا المستباح وحقوقنا المهدرة (ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة) ص _059
(1/57)
نريد أن نعرف من له دين ينتسب إليه حقا، ويحامى عنه فى الضائقات، ومن فرض عليه وصف لا يقدره قدره. وحاشاى أن أكفر مسلما أو أفسق مخلصا، ولكنه الحساب الذى لابد منه أمام هجوم متتابع لا يغنى فى رده الادعاء ولا يسد ثغراته الكذب.. كان الفرار من الزحف كبيرة تعاقب بالموت، فكيف الحال إذا وجد من يفلسف فراره ويمجد عاره؟ أنترك هذه الفوضى لتأتى على ديننا وأمتنا من القواعد؟ أريد فى تلك السطور أن أبين من هو المسلم؟ المسلم الذى ينطق الشهادتين يعلن بهذا النطق أنه يعرف الله، ويحيا على ضوء تلك المعرفة. لو قال لك شخص: إنه يعرف الكهرباء ثم مد يده إلى سلك مكشوف مشحون بالتيار فهلك أكان صادقا حين قال: إنه يعرف الكهرباء؟! كذلك المسلم الذى يعلن أنه مؤمن بالله، إن كان صادق الإيمان لم يجز له أن يخشى الناس ولا يخشى الله، وأن يدعو الناس ويرجوهم، ولا يدعو الله ويرجوه. المسلم الحقيقى إن للإسلام أخلاقا لا يمكن أن تنفك عن المسلم، إنها تصبغ سريرته، وتحد مسيرته، وتجعله يتوكل على الله، ويفوض إليه أمره، ويتعلق برفده، ويوجل من غضبه، ويتشبث بحبله، ويثق بما عنده، ويحب ويبغض فيه، ويعطى من أجله ويمنع، ويخاصم ويسالم ويختلط ويعتزل.. إن لمعرفة الله آثارا حاسمة فى الأخلاق والأعمال، وفى هذه الأيام التى يتعرض الإسلام فيها للموت، لا نقبل عالما يتملق الظلمة بالفتوى الضالة، ولا مداهنا يبيع دينه بعرض من الدنيا، ولا خائنا يسوغ الهزيمة قبولا للأمر الواقع، ولا أنانيا تهمه نفسه ولا تهمه أمته. فى الخلاص من هزيمة أحد ومحوا لآثارها بين المؤمنين والكافرين، صدر أمر عام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج المسلمون لملاقاة جيش الشرك ومواجهته على أية حال، وأرجف المنافقون أن حشود العدو كبيرة لا يثبت أمامها أحد، وقال المؤمنون: ليكن!. ص _060
(1/58)
لن ننكص عن القتال... وواجهوا الموقف وابيضت وجوههم وأخزى الله عدوهم، وقال سبحانه: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) نعم.. ثمرة الإيمان أن يكون الخوف والرجاء فى جنب الله وحده.. وتوقع النصر أو الهزيمة من عنده وحده، وذلك معنى قوله سبحانه: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون). ويخامرنى شعور أن أعداء الإسلام على اختلاف مللهم رأوا أن يبتوا فى مستقبله على نحو هائل! فهل يفل هذا العزم الخبيث تردد وارتياب؟ ليس أمامنا إلا أن نصدق الله، ونثوب إلى رشدنا وندخل أفواجا فى ديننا، وندع التفريط أبدا… وإلا صرنا أحاديث يرويها التاريخ، وأثرا بعد عين.. عمل الإيمان فى النفس كعمل الكاتب على آلة الكتابة، أو عمل جامع الحروف فى المطبعة وفق أصل معين. كانت الحروف خليطا مبعثرا لا يفيد معنى ما، ثم صارت رسالة ذات غرض، أو كتابا مفهوم العبارات والغايات... صياغة الإسلام للنفس البشرية كذلك كانت النفس الإنسانية قبل أن ينظمها الدين أو يشكلها على نسق مقصود، لقد كان العرب ركاما غامضا قبل أن يسلموا، فلما دخلوا فى دين الله تحول هذا الركام إلى كيان آخر فيه وسامة، وله معنى يستفاد. وكانت الملكات الإنسانية فوضى فرتبت، وعقيمة فأثمرت، ومتضاربة فتعاونت، فأصبح العرب بالإسلام كتابا يقرأ ويفيد ويعجب ويغرى الآخرين بالاقتداء!!. إننى الآن أنظر فى الملكات الإنسانية والتقاليد الاجتماعية والأخلاق العامة التى تسود أمتنا فأرى أن الإسلام لم يصنع بها شيئا! لأن الأمة التي تنتسب إليه تأبى عليه أن يقوم بعمله! يكفيها الانتماء!. ص _061
(1/59)
الإسلام يبنى اليقين على الفكر الثاقب، والنظر الحسن فى الكون وآفاقه.. والمسلمون تغلب عليهم الأمية أو الثقافات الضحلة، أو المعارف التى مزجت الغيوب بالخرافات، فلا هى دين ولا هى دنيا. الإسلام يسخر الكون للإنسان العاقل الذكى الدءوب المكافح. واقع أليم والمسلمون اليوم مسخرون فى الكون لكل ذى غلبة وبأس بعدما فقدوا الذكاء والكفاح على ظهر الأرض. أركان النفاق كما عرفها نبينا هى: الكذب، والخيانة، والغدر، والفجور، فماذا صنعنا لنبنى الفرد والجماعة على الصدق، والأمانة، والوفاء، والشرف؟ تركنا الاتجاه، ثم شرعنا نقول: النفاق قسمان: نفاق فى العقيدة ونفاق فى العمل، الأول: كفر. والثانى: عصيان، والكفر ينتفى بكلمة التوحيد، والعصيان مهما قدح مفوض للمشيئة العليا، فلنرج الخير..!!! ونتج عن ذلك انهيار هائل فى بنيان الأخلاق، واستهانة مقبوحة بجملة الفضائل، ولم يهتم أحد ببيان أن النفاق العملى منته بأصحابه إلى البوار، وأن النفاق فى العقيدة كثيرا ما ينشأ عن فقدان الشرف، والصدق، والأمانة، والوفاء. إن الأخلاق الشخصية والإدارية والاجتماعية أصبحت لدينا شيئا لا يطاق. والناس تصنع التقاليد لتستجم بعد تعب، ولتتلاقى بعد وحشة، ولتتغلب على صعاب الحياة. ونحن نصنع التقاليد مبنية على التكلف والمراءاة، وتغطية الحقائق، فتقاليد الزواج تقصم الظهور وتخلق الأزمات وتخلف وراءها أحزانا ومتاعب، وتقاليد الأعياد كذلك، بل تقاليد الأحزان أيضا... أكاد أقول: إن الدين المبنى على الفطرة انتهى، وحل محله شىء آخر قوامه القيود والأوهام والإخلاد إلى الأرض.. إن منطق الفطرة وجد مجالاته الواسعة فى أقطار أخرى، وبين أناس أقل منا تكلفا ورياء. إن العبادات حق فلابد من الصلاة والصيام والحج.. الخ. غير أنى أسائل: ص _062
(1/60)
ما هى الصلاة الواجبة؟ جاء فى القرآن الكريم : (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) وجاء فى السنة المطهرة : أن آخر ما يحل من عرا الإسلام الصلاة… فما معنى ذلك هنا؟ معناه أن الصلاة الحقيقية واجب كبير يحتاج إلى الرجال ذوى القلوب الحاضرة والنفوس المتسامية، ومن ثم كان أثرها عميقا فى الأخلاق والأعمال. أما صلاة الوقوف والانحناء والذهول والانصراف فهى آخر ما ينحل من عرا الدين ولو بقيت ما أجدت شيئا، إن الشكل لا يغنى عن الموضوع!!. إننى أشعر بخزى يوم تكون كلماتنا سائبة، وكلمات غيرنا مربوطة!، وأعمالنا ناقصة وأعمال غيرنا متقنة، ومن حقى أن أقول: إن بيئة هذا إنتاجها لم يصنعها الإسلام، وعلينا أن نسارع إلى تغيير التناقض بين ديننا وحياتنا، وأن نفهم كل منتسب إلى هذا الدين، أن الأمر جد لا هزل، وأن استبقاء هذه الفوضى طريق الكفر إن لم تكن الكفر نفسه. معاصى القلوب معاصى الجوارح قال لى صديق مشفق: يظهر أنك مبهور بأخلاق النظافة والنظام والإجادة التى تسود مجتمعات أخرى لا تؤمن بالإسلام، هون عليك، فإن وراء هذا التقدم ضياعا رهيبا للعفة، وانحلالا جنسيا موغلا فى السقوط. وأمتنا والحمد لله بعيدة عن هذه الآفات، ولا تزال بعيدة عن الفحشاء والمنكر. أجبت: اسمع يا صديقى، إننى مسلم أشكر ربى أن عرفنى به، وأن جعلنى من أتباع نبيه الخاتم، ونعمة الإسلام لا ترجحها نعمة أبدا. والفلاح الساذج الذى يقف بين يدى ربه صباحا ومساء يقول له: الحمد لله رب العالمين هو أرقى إنسانية ـ فى نظرى ـ من غاز للفضاء قلبه خال من الله، ولكننى تعلمت من قرآنى وسيرة رسولى أن أحترم الحق وأحتفى به وحده. تقول: إن المدنية الحديثة غارقة فى الآثام الجنسية وهذا شين فى وجهها.. ص _063
(1/61)
وأقول: هذا واقع ما يدافع عنه عاقل، والانطلاق المادى الجامح داء أهلك مدنيات قديمة، وقد يبيد هذه المدنية أيضا: (ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين * كذلك نفعل بالمجرمين* ويل يومئذ للمكذبين) إن رذائل الجنس شاعت بين غيرنا، وهذا يذكرنى بقانون تربوى تعلمناه ونحن طلاب، مؤداه أن معاصى القلوب أخطر من معاصى الجوارح، وأخشى أن يكون ما ينشر بيننا وبين غيرنا من عوج خاضع لهذا القانون!!. قال صديقى: لا أفهم ما تعنى! قلت: تذكر حرب 1967 التى خسر العرب فيها القدس وسيناء والجولان والضفة الغريبة فى حرب لم تدم إلا بضع ساعات؟ قال: أذكر هذه الحرب الفاجعة، ولا أنسى مصابنا فيها.. قلت: لو أن الذى قاد هذه الحرب أحد الخواجات لآثر أن يطلق على دماغه الرصاص واستحى أن يقابل أمته بهذا العار.. لكن قائد الهزيمة عندنا عاد إلى قواعده سالما ليكافئ من يقول له : الحمد لله على سلامتك، وليطارد من يقول له : كيف ألحقت بنا هذه الفضيحة!!؟ إن أوروبا وأمريكا التى يشيع فيها الانحراف الحيوانى لا تقبل ولا يمكن أن تقبل أن يقع فيها هذا الانحراف الإنسانى، هذا هو الفرق بين الرذيلة عندنا وعندهم.. قال صديقى: مرة أخرى أكرر أننى لا أفهم ما تعنى؟ قلت: إن الأكل من الشجرة المحرمة كما فعل آدم معصية دون التكبر على الله كما فعل إبليس!. معصية الإرادة المنهارة أمام شهوة الأكل دون معصية الأنانية المستعلية على الآخرين، ولست أهون من معاصى الجوارح ولكنى أقبح معاصى القلوب! وأكشف مبلغ الدمامة فى وجهها.. ص _064
(1/62)
إن الكبر والحسد والافتخار بالنفس أو النسب أو المال، وحب الخلاف، وحب الظهور، وحب السمعة، والرغبة فى التسلط، والرغبة فى هضم أولى الكفاية، إن هذه الرذائل أشنع من ترك العنان للغريزة الجنسية تنطلق على النحو السيئ الموجود فى ظل المدنية الحديثة، ومن هنا فإن خصومنا لن يضاروا كثيرا أو على عجل من عللهم، كما نضار نحن المسلمين من آفات الرياء والكبرياء المبعثرة فى كل ناحية. إن الإسلام ـ بداهة ـ عافية سابغة من أنواع العلل التى تستهلك النفوس والمجتمعات وهو يحارب المعاصى ويحصن أبناءه ضدها. وهو يرمق الحضارات ليرى أولا مبلغ معرفتها بالله وتوحيدها لذاته ـ تبارك اسمه ـ على أن القيادة الإسلامية للعالم ـ كما عرفت قديما ـ كانت تصدر قيما نفيسة، وتقاليد سمحة رائعة، ومناهج إنسانية جديرة بالاحترام كله. أى أن الارتقاء العقلى والخلقى لدى المسلمين كان الرصيد الذى ينفق منه الدعاة، والسياج الذى به يحتمون. وإنها لجريمة قتل عمد أن ننتمى إلى الإسلام، ثم لا نحسن فهمه، ولا عرضه، ولا العمل به، ولا الدفاع عنه!. والقدر لا يترك هذه الجرائم دون قصاص، فهل نحسن العمل قبل أن نؤخذ بجريرتنا؟ ص _065
(1/63)
خلاف جذري وراء أحقاد لم تطفئها الأيام النصرانية التى جاء بها عيسى بن مريم ديانة جليلة القدر، طيبة الثمر، إلا أنها رسالة محدودة فى مساحتها المعنوية والمادية، فهى مقصورة على شعب إسرائيل، مختصة بمعالجة العلل التى شاعت بين أولئك الناس وحدهم. وما تزيد فى مساحتها عن رسالة زكريا وابنه يحيى، أو رسالة داود وابنه سليمان، وإن كان عيسى ـ عليه السلام ـ يرجحهم فى معاناته وجلادته ومزيد من الحكمة فى معاملة اليهود!! والنصرانية النازلة من السماء تتسق مع ما قبلها وما بعدها من رسالات الله، أى أنها قائمة على الإيمان بالله وحده، ومنبهة إلى أن الساعة حق، وأن كل امرئ ـ عند لقاء الله ـ مسئول برأسه عن نفسه: (واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا) معالم النصرانية نبتت فى الأرض بعيدا عن وحى السماء ولم يقع قط من بدء الخلق أن نبيا جاء من عند الله، فيذكر أن الآلهة ثلاثة، ولم يقع قط من بدء الخلق أن نبيا جاء فزعم أن فلانا قتل ليحمل خطايا أبناء آدم حتى الأنبياء الذين ذكروا فى العهد القديم عاشوا وماتوا وما يعرف أحدهم شيئا عن الثالوث والفداء!!. والحق أن معالم الصليبية التى تكونت فى العصور الأولى للتاريخ الشمسى نبتت من الأرض، ولا علاقة لها بوحى!. وما يدرى آدم ولا نوح ولا إبراهيم شيئا عنها، وقد نفاها النبى الخاتم، وبين أنها شىء يغاير كل المغايرة رسالة عيسى عليه السلام!. وعيسى ـ وإن أوتى الإنجيل ـ إلا أنه لم يزد عن أنبياء بنى إسرائيل فى سياسته العامة فهو مكلف بتنفيذ التوراة، مع بعض التيسيرات التى لا تنقض الأساس، ولا يخرج بها عن نطاق الشعب الغليظ الرقبة، نعم.. هو مكلف بهداية أولئك وحدهم!!. ص _066
(1/64)
وقد تدبرت قصص القرآن الكريم فوجدته ـ فى أغلب السور ـ يكتفى بذكر النبى الأول، أو الأهم لبنى إسرائيل أعنى موسى ويستغنى به عن سائر النبوات اليهودية!. ففى سور: الأعراف وهود والشعراء والقمر، وفى سورة الكهف والإسراء والذاريات، لم يذكر عيسى وقومه، كما ذكر نوح وقومه وهود وقومه استغناء بذكر بنى إسرائيل فى إيجاز وإطناب.. لقد ذكر موسى نحو ثلاثين ومائة مرة!. أما عيسى فقد ذكر دون ذلك بكثير، وليس ذلك غضا من شأنه، فكلا الرجلين من الرسل أولى العزم، وإنما الذى لفت نظرى أن أمة عيسى طويت فى الكيان الإسرائيلي لأنها جزء منه، ثم يجئ الكلام بعد شعيب ومدين عن موسى والفراعنة، أو عن موسى وقومه إجمالا.. وينتقل الحديث بعد ذلك إلى الرسالة الخاتمة، طاويا الأجيال والرجال، وكما طوى اسم عيسى طوى اسم الإنجيل، لأن الإنجيل فى حقيقته كتاب ملحق بالتوراة مؤكد لعقائدها وشرائعها، فلا غرابة فى الاستغناء بالأصل عن الملحق، وتلمح هذا فى قوله ـ تعالى ـ على لسان الجن: (إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به) وهذا التعبير واضح فى ذكر القرآن بعد التوراة. وفى موضع آخر تقرأ قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات) ثم يمتد السياق مباشرة متخطيا القرون ليقول:( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) وتتضح الصورة أكثر وأكثر عندما يتحدث القرآن عن حياة موسى حديثا مستفيضا يستغرق النصف الأول من سورة القصص، ثم يعقب على ذلك بقوله: ص _067
(1/65)
(ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون) والقرون الهالكة هى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين وغيرهم.. ثم يختار الله نبيه موسى لينزل عليه التوراة فيها هدى ونور، ولعل حملتها يؤدون حقها ويعبدون ربهم على سناها. وبعد تلك الإلماحة التاريخية يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين * ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر . .) وهذه القرون هى التى توارثت التوراة وأساءت العمل بها، لأن قلبها- مع تراخى الزمان قسا، وعزمها وَهَى! واحتاج إصلاح الأرض إلى نبوة جديدة وكتاب أوثق وأعمق، فاختار الله محمدا ليقيم ما اعوج من شئون الناس، وليعيد الدين إلى قواعده التى زاغ عنها، قال تعالى : (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون) إن الإنجيل لم يرد له ذكر هنا، لأن أصل الشرائع فى التوراة لا فى الإنجيل، ولأن موسى هو كبير أنبياء بنى إسرائيل، وصاحب الجهد الهائل فى استنقاذهم وتربيتهم. وقد ظل كتابه كذلك حتى نزل القرآن الكريم، فهيمن على التوراة والإنجيل معا، بل نقى الوحى كله مما عراه فى سيره الطويل. إن قصة مريم وابنها عيسى ـ عليه السلام ـ فى القرآن الكريم ذكرت بقدر من التحقيق والتصحيح فى سياق الكلام عن بنى إسرائيل أنفسهم، وعن عبثهم بالمواثيق التى أخذت عليهم، وعن جمعهم بين المعصية والإصرار أو الجهل والكبرياء. وفى هذا السياق من التقريع لليهود والتشنيع على مخازيهم أثبت القرآن الكريم أطرافا من حياة عيسى وأمه، فنفى أن تكون مريم البتول زانية، وأنكر ذلك بغضب، ونفى أن ص _068
(1/66)
يكون عيسى قد صلبه اليهود، وأظهر أن ذلك إشاعة لا نصيب لها من الصحة، وأن الله سبحانه لم يمكن اليهود ولا الرومان منه..!! قال تعالى معنفا لليهود ومزريا عليهم: (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا * وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) أرأيت كيف تناول القرآن النصرانية ونبيها الكريم؟ إنه تناول مدرج فى أثناء الكلام على بنى إسرائيل ومخازيهم ولا شبه بينه وبين تناول القرآن الكريم لقصة عاد مثلا! إذ جاء الحديث مستقلا واضح البدء والختام.. وهذا الشرح الحاسم لوفاة عيسى بعد ادعاء اليهود أنهم قتلوه، وقع له نظير عند الكلام عن حياة عيسى، أو طريقة وجوده..! إن عيسى طلب من اليهود أن يؤمنوا به، وبالله الذى بعثه، وأن يحسنوا عبادة الخالق الأعلى قائلا : (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) بيد أن اليهود التووا به، واستعصوا عليه وظهر كفرهم به وبمن أرسله: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) فى هذا الجو ظهر الحواريون مصدقين ومؤيدين للرسول الذى جحده قومه، وقالوا : (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) لقد آمن الحواريون بالله، وبعيسى الذى أرسله داعيا إلى عبادته وحده، وناعيا على بنى إسرائيل ما يفعلون، هل كون عيسى لا أب له يعنى أنه إله؟! لو كان الأمر كذلك لكان آدم أولى بالألوهية فإنه لا أب له ولا أم. (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) ص _069
(1/67)
تلك هى النصرانية الصحيحة! وهذه هى مساحتها الروحية والتشريعية! ذلك هو وضع النبى الذى جاء بها وبلغ كتابها، ديانة محدودة الزمان والمكان توافق ما قبلها وتمهد لما بعدها. الصليبية ديانة جديدة فى منبعها ومصبها وهذا شرف كبير يتوج صاحبها ومن سار فى ركابه ومن تحمل المتاعب معه.. أما الصليبية فشأن آخر، إنها تشبه أن تكون ديانة جديدة فى منبعها ومصبها!! والمتفرس فى هذه الديانة يجد أنها من ناحية الإيمان جمعت بين التوحيد والتعدد، ومن ناحية السلوك جمعت بين المسئولية الشخصية والقربان الفادى المخلص، ولما أحست بغرابتها عن تعاليم الرسل الماضين، وصفت نفسها بأنها عهد جديد!! والمنهج الذى اتبعه القرآن فى مواجهة ذلك كان سهلا حاسما، فعندما حمل على الوثنية فى مكة رفض بصيغة عامة أن يكون لله أولاد، وكان المشركون يسمون أصنامهم بنات الله. وتدبر الآيات النافية للتعدد، يشعرك بأنها تعنى الوثنية والصليبية معا، وانظر فى قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون) إن الرد هنا يتناول الصليبية قبل أن يتناول الوثنية، ويؤيده ما جاء عقب ذلك: (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين) إن الأصنام الحجرية لا يتصور منها هذا القول، وإنما يتصور من الأصنام البشرية! وعلى أية حال فما زعم نبى قط أنه إله مع الله!!. وفى سور أخر مكية كثرت الآيات النافية للشفعاء والأولياء والوسطاء، وتحدد بجلاء أن من أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها: (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) وهذا التوضيح لمبدأ المسئولية الشخصية يستبعد أن يكون المسيح ربا أو فاديا أو حاملا خطايا الآخرين أو مكفرا عنها بدمه. ص _070
(1/68)
ويكتفى القرآن الكريم بتقرير عقائده وتكثير أدلتها ومناقشة خصومه بالأسلوب العقلى واثقا من أن المصير إليه مهما طالت اللجاجة وتراخت الأيام.. أما الصليبية فقد قررت الإجهاز على هذا الدين والخلاص منه بأى ثمن، وقد مضت القرون وهى تحاول، ونحن نقاوم!!. ولا نستعرض الآن الماضى، وإنما ننظر فى حاضرنا الدامى وما يتربص بنا من أحداث جسام. العالم الصليبى الآن راجح الكفة بالغ القوة تسود أرجاءه حضارة بشرية متفوقة فى ميادين الصناعة بعيدة السبق فى استغلال التقدم العلمى لخدمة مآربها المادية والمعنوية..! وعنوان "العالم الصليبى" يطلق على كيان موار بالمذاهب الفكرية والخلقية والنزعات المادية والإباحية، والمسالك الروحية والفوضوية. ولا شك أنه يحتوى على بقايا من النصرانية الموحدة القديمة، كما يحتوى على أعداد من أتباع الكنائس المثلثة!. ومن المكابرة الكاذبة القول بأن الحضارة البشرية السائدة فى ربوع هذا العالم من صنع الصليبية، وأن الصليبية أسهمت فى رفعتها. الحق أن المدنية الحديثة شاركت فى بنائها عناصر بشرية حرة الفكر، نيرة العقل، ليس لها انتماء دينى مؤثر، ثم جاءت بعد ذلك الصهيونية والصليبية والشيوعية، ووضعت يدها على الحصيلة الأخيرة لتجعلها فى رصيدها الخاص!.. وصادف ذلك كله أن الأمة الإسلامية كانت تتلوى مكانها من علل فادحة برحت بها وعطلت حراكها، ومن ثم أخذت تتلقى الضربات من كل ناحية. والذى يدعو للغرابة أن الضربات لا تفتر، وأن الكيان لا يسقط! ترى كم سيبقى؟ إن الأعداء ماضون فى الهجوم وقد أصابهم فى الأيام الأخيرة لون من الهوس، لأنه خيل إليهم أن الدين الضحية، غالب آلامه، وعاودته العافية، ولذلك فإن العدوان زاد.. ولا يزال الدين الجلد صامدا، بل بدا كأنه يتأهب لأمر ما..! ص _071
(1/69)
مصادر الحقد على الإسلام ونريد أن نعرف مصادر الحقد على الإسلام وأمته فى النفس الأوروبية والسياسة الأوروبية! إن انسلاخ المرء عن ماضيه صعب مهما ارتفع مستواه الثقافى! والعالم الصليبى ضائق بالإسلام منذ ظهر، وقد اشتبك معه فى حروب طويلة، اشتركت فيها شعوب أوروبا جمعاء، وترادفت حملاتها حينا من الدهر.. وإذا كانت هذه الحروب لم تقض على الإسلام، فإن مخلفاتها الدامية رسبت فى نفوس الصليبيين، والتصقت بأفئدتهم وأمست ذكريات متقدة فى السرائر..!! ورؤساء الكنيسة يسرهم بين فترة وأخرى، أن يصبوا الزيت على النار لتزداد اشتعالا، ولا تدع مكانا لتراحم أو سماح!. بل إن أولئك الرؤساء تدخلوا فى صياغة التاريخ ودفع العلاقات الدولية فى مجار رسموها بعناية حتى لا تتاح فرصة يلتقط الإسلام فيها أنفاسه. ومنطق الصليبية هنا يصرخ بالثأر، وينادى بالموت، على عكس منطق النصرانية القديمة القائم على العفو والمرحمة. والواقع أن الخلاف واسع بين القيم النصرانية، والمسالك الصليبية، وهو نضج التفاوت بين عقيدتين متباعدتين! والعالم الصليبى ـ كما قلنا ـ تسوده حضارة بشرية، تزامل فى إقامتها يهود ونصارى وملاحدة ومحايدون. وكراهية اليهود للإسلام معروفة، فهم يرون العرب مغتصبين للنبوة التى كانت حكرا فى بنى إسرائيل، كما يرونهم المطاردين الأوائل ليهود الحجاز ووارثى أملاكهم! وقد وجد هذا الضغن متنفسه عندما تمهدت ميادين العمل لليهود فى العالم الصليبى! وكيف تمهدت هذه الميادين؟ فى رأينا أن الطابع البشرى العام للمدنية الغربية هو الذى يسر لليهود أن يعملوا وينتجوا ويبلغوا مرادهم!. ص _072
(1/70)
وهناك أمر آخر مهم، إن القصور فى تعاليم الصليبية، ونسيانها للعهد القديم جعل العلوم الإنسانية تنشأ لتسد الفراغ الواقع، فكانت علوم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة... الخ. وقد نجح اليهود فى قيادة هذه العلوم، وتضمينها ما يشتهون، وعن طريقها قادوا وسائل الدعاية المسموعة والمقروءة والمرئية، فتلاقى الحقد اليهودى مع الحقد الصليبى فى تشويه سمعة الإسلام وتحريف قضاياه كلها. وكره الملاحدة للإسلام معروف البواعث، فإن الحديث عن الله وحقوقه لم يقو فى مكان مثل ما قوى فى الإسلام، وقد أمكن صرف أمم شتى عن مواريثها الروحية وتلقينها الفكر المادى وحده. أما المسلمون فما فتئوا متشبثين بدينهم يثوبون إليه، كلما أبعدتهم الظروف عنه، إن هذه المصادر الكثيرة الجياشة بالبغضاء ضد الإسلام وأمته، تلاقت جميعا فى هذه الأيام لتبت فى مصيره!. وهذه المصادر كلها تتحول تراثا تذروه الرياح يوم يصحو المسلمون من رقادهم العميق! أما آن الأوان لهذه الصحوة المرتقبة؟ إن كل ساعة تمر دون يقظة منا ندفع ثمنها باهظا وتحقق لخصومنا انتصارات رخيصة، وما أظن العالم ـ فى عصرنا هذا ـ امتهن حقوقا ولا ازدرى قضايا مثل ما فعل فى حقوقنا وقضايانا، وخطته الموضوعة ألا تقوم لنا قائمة.. خطر عودة الإسلام في رسالة للدكتور إدريس الكتانى عن أوضاع المسلمين ومكر أعدائهم بهم جاءت هذه العبارات: من النصوص الاستعمارية السرية التى نشرت أخيرا، ما ورد فى تقرير وزير المستعمرات البريطانية "أورمسى غو" لرئيس حكومته فى 9- 1- 1938 إن الوزير المذكور أشار أولا إلى أنه ظل ربع قرن شديد الاهتمام بالسياسة البريطانية فى الشرق الأوسط، وأنه يلح على استمرار نهجها المدروس لأنه أكثر تمشيا مع مصالح بريطانيا البعيدة المدى فى ذلك الجزء من العالم. ص _073
(1/71)
ونتساءل: ما هذا النهج المدروس؟ تاركين الإجابة لوزير المستعمرات كما ذكرت الوثيقة المحفوظة بالمركز العام للوثائق بلندن تحت رقم 371- 5595، وقد نشرت هذه الوثيقة فى جريدة العلم نقلا عن مجلة "درع الوطن" بالإمارات العربية المتحدة.. وهاك نص الوثيقة: "إن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية، هى الخطر الأعظم الذى ينبغى على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه!". وليست إنجلترا وحدها هى التى تلتزم بذلك، بل فرنسا أيضا..! من دواعى فرحنا أن الخلافة الإسلامية زالت، لقد ذهبت ونتمنى أن يكون ذلك إلى غير رجعة! إن سياستنا تهدف دائما وأبدا، إلى منع الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامى، ويجب أن تبقى هذه السياسة كذلك! إننا فى السودان ونيجيريا ومصر ودول إسلامية أخرى شجعنا ـ وكنا على صواب ـ نمو القوميات المحلية، فهى أقل خطرا من الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامى! إن سياستنا الموالية للعرب فى الحرب العظمى ـ يعنى الأولى ـ لم تكن نتيجة متطلبات "تكتيكية" ضد القوات التركية، بل كانت مخططة لغرض أهم، هو إبعاد سيطرة الخلافة على المدينتين المقدستين مكة والمدينة، فإن العثمانيين كانوا يمدون سلطانهم إليهما لمعان مهمة!.. ومن أسباب سعادتنا أن "كمال أتاتورك" لم يضع تركيا فى مسار قومى علمانى فقط، بل أدخل "إصلاحات" بعيدة الأثر، أدت إلى نقض المعالم الإسلامية لتركيا. وفى إيران أيضا وقع مثل ذلك، فإن "رضا شاه" اتبع سياسة تحد من إرادة ومقدرة المؤسسات الدينية، وأدخل القبعة كما فعل الأتراك بكل ما تحمل القبعة من دلالات على رفض(!) العادات الإسلامية والتقاليد الموقرة المتبعة من قبل. وهذه العادات والتقاليد السائدة فيما كان يسمى قديما بالعالم الإسلامى تجب مقاومتها". ونبهت الوثيقة فى ختامها إلى أن الوحدة العربية قد تكون حركة تمهيدية ص _074
(1/72)
لإقامة وحدة الإسلامية، ويعنى الوزير بذلك ضرورة الحذر من هذا الاتجاه حتى لا يواجه الاستعمار خطر عودة الإسلام. إن قيادة العالم الصليبى تداولتها أجناس شتى، وفى هذه الأيام انتقلت من قارة إلى قارة، بيد أن الخطة هى هى، ومن ورائها حقد رهيب وتربص عنيد. والشىء الذى يدعو للأسف أن الفريسة غافلة، لا تعرف ما يبيت لها بليل، ولا ما يكاد به فى النهار. والأعجب أن الذين يحاربون الإسلام من بنى جلدتنا يسمون أنفسهم بالأحرار (!) أو بالمتقدمين. وقد رأيت لحساب من يتحركون!! وأى عقائد عفنة يخدمون!! إنهم يحاربون الإسلام وأمته الكبرى استعادة لجاهليات يزدريها العقل وتعافها الفطرة. إن هناك من يتلو القرآن الكريم فيصل إلى قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة) فيحسب أن هذه الصفات يمكن ارتقابها فى الصليبية الحديثة، وهذا حسبان موغل فى السذاجة. إن الناس غير الناس، والتوجيه غير التوجيه، ونحن المسلمين نجنى العلقم من أقوام لا يعرفون فى معاملتنا إلا الفتك والاستئصال، فإذا لم يباشروه بأيديهم أعانوا من يباشر ذلك من اليهود والوثنيين والملاحدة، ووضعوا فى أيديهم السلاح، وأشاروا عليهم بالرأى. علينا أن نعتمد على الله ونيأس من طهارة هذه النفوس، فإن صدقنا الله صدقنا: (والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) ص _075
(1/73)
مستقبلنا رهن بوفائنا لديننا أكان المسلمون في مطلع القرن الماضي يعرفون أن لهم رسالة يجب أداؤها؟ ما أظن الخلافة العثمانية قد اكتمل لديها هذا الإحساس! لقد كانت أشبه بالغريق الذى يلتمس النجاة، يغالب الأمواج الطاغية طلبا للحياة وحسب. أما المسلمون فكانت لديهم رسالة غبرت أيام، وهى وسيمة الوجه مقبولة الطلعة، فما زالوا يلوثون محياها بالأهواء ويشوبون كيانها بالخرافات حتى أمست دميمة المحيا ثقيلة الظل!! اجتماع أهل الديانات المحرفة على الإسلام ومن هنا استطاع أعداؤها الأيقاظ أن يستأجروا أحد الساسة المرتدين ليدفن الخلافة المعتلة، وليمزق الرسالة التى أهانها أهلها، ويعلن البعد عنها!! ما فعله "كمال أتاتورك" كان واضح المعنى، فقد طوى الوجود الدولى للإسلام، ومحا شارته العالمية، وجعل الأمة الكبيرة تحيا بلا كافل يحنو ويكافح، وانقطعت العروة التى كان يهفو إليها المسلمون فى المشارق والمغارب.. وفى الوقت الذى نزلت بالإسلام هذه الضربة الشديدة، كانت الأديان الأخرى تلم شملها وتجمع شتاتها. وخلال سنوات معدودة تجمع النصارى الكاثوليك وراء بابا روما، ثم تجمع النصارى البروتستانت وراء مجلس الكنائس العالمى، ثم أنشئت لأول مرة فى التاريخ بابوية لتجميع النصارى الأرثوذكس - بإيعاز أجنبى - ثم أنشئ مجلس صهيونى عالمى ليقيم كيانا لليهود بعد التيه الذى عاشوا فيه عشرات القرون.. أما الإسلام فهو وحده الدين الذى حُظر على أهله التجمع!، والذى اعتبرت خلافته أمرا لا يجوز!! والذى اعتبر الولاء له رجعية منكورة!!. ومضى أعداء الإسلام يتابعون ضرباتهم، لقد تفكك الكيان الكبير سبعين جزءا، لكن كل جزء يحمل طبيعة الأصل الذى انفصل عنه، وإذا بقى كذلك فمن يدرى؟ ربما تضامت الأجزاء مرة أخرى فعاد الكيان المحظور! ص _076
(1/74)
لا بد إذن من تغيير كل جزء وتنسيته أصله، وصبه فى قالب جديد كل الجدة وشرع الاستعمار السياسى والثقافى يعمل عمله، ويستغل تفوقه العسكرى والحضارى لينشئ أجيالا كافرة بدينها وتراثها وتاريخها، همها أن تحيا على أى نحو لا فكر ولا ضمير ولا هدف، تخدعها كل هيعة ويمتطيها كل خبيث.. ومن ثم قسم الإسلام قسمين: عقيدة وشريعة، فوضع لمحو العقيدة سياسة بعيدة المدى إذ لا يمكن غير هذا.. أما الشريعة فقد محا وجودها بجرة قلم، وجعل القانون الغربى أساس الحكم والتقاضى ونفذ ذلك لفوره! واستبقى ـ مؤقتا ـ قوانين الأسرة، حتى استطاع أن يكون من المسلمين أنفسهم من يغيرها كلا أو بعضا. وقد كتبت امرأة تحمل اسما إسلاميا: "إن تغيير شرائع الزواج والطلاق والحضانة هو تمهيد لتغيير شرائع الميراث نفسها ليتساوى الرجال والنساء فى أنصبتهم، وبذلك تمحى معالم الإسلام كله فى عالم القانون.." على أن تكوين دويلات غير إسلامية لتحكم الشعوب الممزقة، بدل الخلافة الإسلامية التى كانت تحكم أمة شبه موحدة ـ لم يشغل الأعداء المنتصرين عن الكيد المتين للعقيدة ذاتها. غارات وحروب تشن ضد الإسلام فإذا الغارات تشن بانتظام على القرآن والسنة، على وحدانية الله وشخص محمد صلى الله عليه وسلم، على الصلاة والصيام، على شعب الإيمان من أدناها لأعلاها، على التاريخ الإسلامى طولا وعرضا، على اللغة العربية شعرا ونثرا، على كل ما يمت إلى الإسلام من قرب أو بعد.. وما استعصى على التلاشى بالخداع فليعامل المعاملة التى تهدر حقه، وترخص دمه، وتحرمه هو وذريته من حق الحياة وكرامة العيش. ولا بأس من كل وسائل البطش والفتك حتى يمكن الخلاص من هذا الدين والمتشبثين به!، وشرعت الأمة اليتيمة المهزولة تجابه حرب الاستئصال، وحرب ص _077
(1/75)
الخيانة وحرب الختل! واشترك فى ضربها الشيوعيون والوثنيون والصليبيون واليهود! وشارك فى ضربها متفرجون استهواهم الخطف من تراث لا صاحب له.. وكان ميدان المعركة من الرحابة بحيث لا يمكن إحصاء الخسائر فى النفوس والأموال والأعراض. فالحرب لسحق الإسلام تدور رحاها من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب! والذين يلفظون أرواحهم سرا أكثر من الذين يلفظونها علانية! والذين يغتالون فى المنافى والسجون أكثر من الذين يغتالون فى البيوت والشوارع!، والحرب تهدأ لتندلع وقد مر أكثر من قرن على هذا البلاء الموصول ومع ذلك كله، فقد أبى المسلمون نسيان ربهم ونبيهم، ولا تزال بين الأنقاض والآلام جماعات غفيرة تعلن بقاءها على الإسلام واستمساكها بكتابه وسنته ولغته وقيمه.. إن المدافعين لم يستكينوا، ولكن المهاجمين مصرون على الحنث العظيم، وماضون فى طريق العدوان، كأى وحش مفترس لا يقفه إلا العجز أو الموت.. وقد لجئوا إلى حيلة أخيرة للنيل من الإسلام وأمته، وأوعزوا إلى عملائهم كى ينفذوها لعلها تختصر لهم الطريق إلى ما يبغون! الدعوة إلى أخوة الأديان مشبوهة قالوا: الأديان كلها سواء، وأتباعها جميعا إخوة لا فرق بين يهودى وبوذى ونصرانى ومسلم.. فلم هذا التصارع المتوارث؟ إن راية الإنسانية تظل هذا وذاك، فليبق اليهود فى فلسطين ولتدم لهم دولتهم! وليترك للبعثات الكنسية أن تنصر مسلمى إندونيسيا، ما المانع؟! الأديان كلها سواء أمام رب واحد! ينبغى أن نقيم مجمعا للأديان فى كل قطر، يكون رمزا للتسامح والتآخى..! والحيلة ساذجة، فإن اليهود الذين أقاموا دولتهم اغتصابا يرفضون إقامة دولة العرب إلى جوارهم (!) ص _078
(1/76)
والزحف التبشيرى فى الفلبين وأندونيسيا يرفض إقامة كيان إسلامى للمسلمين المضيعين هناك.. أى أن السلام المقترح أساسه أن يرضى المسلمون بزوالهم شعبا وحكما، ويعقب ذلك على مر الأيام زوالهم أفرادا وجماعات.! وهذا السلام الذى روج له سماسرة معروفون، يرفض من قبل ومن بعد أن يكون الإسلام دينا له خصائصه التى تميز بها!، إنه دين له قيمة روحية كالقيمة المقررة للهندوكية مثلا!! ومن المفيد أن يعرف القارئ أن كلمة "القيم الروحية" من وضع الزعيم الهندي "جواهر لال نهرو" وقد عنى بها الأديان كلها، ونقلها عنه بعض الزعماء العرب، فلما خفت تأثير الكلمة حل محلها مجمع الأديان وتدريس الأديان كلها فى كتاب واحد، فالأديان كلها سواء على أن ينفرد اليهود بفلسطين، وتملك الصليبية حق التوسع، خصوصا فى أرض الإسلام وبين أبنائه. الاقتراح ينطوى على بلاهة سمجة كما يلحظ كل عاقل.. بيد أن سماسرته يعرضون مع ثرثرة طويلة! وإذا عجزت الثرثرة عن كسب المؤيدين، تولت القوة الإقناع! ونحن نؤكد أن كل الجهود المبذولة كيما نرتد عن ديننا سوف تبوء بالفشل، وأن الآلام التى تفرض علينا ستصقل معادننا وتنقينا مما أزرى بنا وتجعلنا ـ إن شاء الله ـ أهلا لكسب المعركة الأخيرة. تحت شعار التوحيد نحيا ونذكر المسلمين بحقائق ما إخالهم يجهلونها.. إننا نعبد الله الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ولا يعنى هذا أننا نشترى العداوات أو نفرض على غيرنا ديننا بالإكراه.. فليعبد من شاء ما شاء!، وليتركنا تحت شعار التوحيد نحيا وإلى نهجه ندعو. وليست الإنسانية المزعومة أن تجمع الواحد الذى أومن به مع الثلاثة التى تؤمن بها، فيكون الحاصل أربعة!!، ويؤمن كل منا باثنين على التساوى، وبذلك تتحقق العدالة!! هذا جنون.. ص _079
(1/77)
وليست الإنسانية أن أكفر بما عندى، وتكفر بما عندك ثم نلتقى على الإلحاد المشترك!! هذا أيضا جنون.. الإنسانية المحترمة أن أظل على وحدانيتى، وتظل- إن شئت- على شركك وتظلنا مشاعر البر والعدالة والتعاون الكريم. لن أجعل حقى باطلا لترضى.. ولن يعنينى سخطك آخر الدهر إذا حنقت بى! وأنا أومن بأن النبى العربى صلوات الله عليه أشرف من مشى على الثرى، وأن أمجاد البشرية كلها التقت فى شخصه، وأن تراث النبوات من بدء الخلق إلى الآن موجود فى كتابه وسنته، وأن تعاليمه نسيج محكم من الوحى الأعلى تزدان الأجيال به وترشد.. الإسلام رسالة سماوية وليس حركة قومية ومن هنا فأنا أرفض ما يزعمه العروبيون من أن الإسلام حركة قومية أو نهضة عربية، وأرى هذا الكلام ارتدادا صريحا عن الإسلام وجحودا تاما لرسالته، وهو والوثنية والإلحاد سواء. إن نعت محمد بكل ما فى القواميس من محامد مع قطع صلته بالسماء هو فى نظرنا هجاء خبيث!! فشرف محمد عندنا مبلغ عن الله. وصحيح أن عباقرة الحروب والسياسات دون قدمه، بيد أن بشريته السامية تأهيل مجرد لحمل أمانات الرسالة الخاتمة، وتربية الأجيال التى تبقى عليها أبدا. ونحن المسلمين نعى هذه الآية التى وجهت إلى صاحب الرسالة الخاتمة: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) وكذلك هذه الآية: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه) ص _080
(1/78)
إن محمدا بشر له منهاجه المرسوم من وحى الله، فنحن نتبعه لنرضى ربنا ولنقف فى محراب عبادته راغبين راهبين.. وستبوء بالفشل جميع المحاولات لإبعادنا عن محمد وصرفنا عن رسالته.. البدائل الاستعمارية عن الإسلام تفرست فى بدائل كثيرة قدمها الاستعماريون لنا كى تصرفنا عن دين محمد، إنها بدائل فى ميادين السياة والاقتصاد والقانون والأخلاق والأدب والسلوك...!الخ. قالوا: الولاء للتراب الوطنى.. قلنا: فنحن نحب أوطاننا ولكن ولاءنا لرب الأرض والسماء!. قالوا: الولاء للدم والجنس.. قلنا: نحن نحب قومنا ولكن حبنا لربنا أقوى وأوثق، ولا تناقض بين حبنا لربنا وحبنا لأهلنا..! وبدأت غارات اليهود على فلسطين يؤازرها الحق الاستعمارى القديم! وإذا يهود اليمن والعراق ينضمون إلى يهود بولندا وروسيا فى ضربنا.. أين الوطنية المزعومة؟ سبحان الله كأن الوطنية استجلبت لتمزيق الإسلام وحده.. وبدأ الانفصاليون اللبنانيون ينشقون على إخوانهم العرب! وإذا نصارى قادمون من وادى النيل جاءوا لشد أزر المنشقين الغادرين! إذن المراد الالتفاف بالأمة الإسلامية وحدها ومخادعتها عن رسالتها ومواريثها! وما هذا..؟ هذا قانون وضعى أجدى من الشرائع السماوية! وما هذا أيضا؟ هذه تقاليد مستوردة ميزتها أنها واقعية أما تقاليدكم فمثالية أو خيالية. قبحكم الله، الشيطانة الراقصة فى أحضان الأصدقاء والخصوم أفضل من الخفرات التقيات!. إن الحقد كله على الإسلام ونبى الإسلام ورجال الإسلام ودعاة الإسلام، وإن استتر تحت عناوين خداعة، وكلمات حديثة. ص _081
(1/79)
قلت ومازلت أكرر: إن هذا العصر هو العصر الذهبى للأديان كلها ما عدا الإسلام! أكذوبة كبيرة الزعم بأن الأديان انسحبت تاركة مكانها للإنسانية العامة، وهيئة الأمم وحقوق الشعوب، وشتى المؤسسات البعيدة عن التعصب والجمود. إن الأديان الأرضية والسماوية استغلت هذه المؤسسات لخدمة مآربها، وقد استطاعت أن تدعم قضاياها الثقافية والسياسية دعما دفعها إلى الأمام وبقينا نحن وراء وراء..! إن اليهودية لم تكن فى قرن من القرون أقوى منها فى هذه الأيام الكالحة، والصليبية التى حاربت الحضارة، وقتلت العلماء وتخلصت من هذه الذكريات وفرضت نفسها بقوة على سياسة الدول العظمى، حتى الوثنية ما تستحى من أصنامها وأوهامها، بل تسخر شارات الدول الحديثة لتكريمها..! وتلك الجبهات كلها تريد اهتبال الفرصة واقتطاع جزء ما من الكيان الإسلامى الأعزل، يقع ذلك جنوب شرقى آسيا، كما يقع فى الشرف الأوسط، كما يقع فى وسط إفريقية، كما يقع فى جنوب أوروبا. تفاهة دفاع الأمة عن حماها ومع أن العداوات تطفح من حولنا بالبغضاء والتحدى، فإن القلق لا يخامرنى من ضراوة الهجوم، بل يخامرنى من تفاهة الدفاع وسذاجته، ومن نوم الحراس في مواقع خطيرة أو جريهم وراء المتع. ويبدو أن أمتنا نسيت أن استحقاقها للبقاء فى الأرض يرتبط بمدى ولائها للإسلام وعملها له! إننى تابعت احتفال عرب فلسطين "بيوم الأرض" وسمعت كلاما كثيرا عن الإنسان العربى وكرامته وحقوقه، وعن فلسطين وضرورة تحريرها ورد العدوان عنها... وترقبت أن أسمع كلمة عن الله وعن الإسلام، عن الآباء الذين طردوا الرومان من هذه الأرض! فلم أسمع شيئا قط! كيف يقع هذا الذهول! وما المستقبل إذا كان اليهود لا يتحدثون إلا عن حدودهم التوراتية ومواريثهم الدينية!، هل الانتماء اليهودى تقدمية والانتماء الإسلامى رجعية؟! يجب أن نتوب عن هذه الغفلة وإلا كان ضياع الأبد..! ص _082
(1/80)
والانتماء النظرى إلى الإسلام لا يكفى، لا بد من الارتفاع إلى مستوى الدين فى جميع المجالات العلمية والعملية، إن الحكوهة جسم روحه الشعب، وفى أقطار الدنيا ترى الروح والجسم مقترنين فى كيان الدولة وكأنهما قلب وقالب!. أما فى كثير من أجزاء أمتنا المترامية الأطراف، فالحكم جسد بلا روح، لأن ولاء الشعوب للإسلام واتجاه بعض الحكومات إلى قبلة أخرى، وهذا فى ميدان الحياة الخاصة والعامة معناه الموت!!. إن أسلافنا سادوا الدنيا فى العصور الوسطى لأنهم كانوا أعلم وأعدل، فلم يكن رجحان كفتهم مصادفة أو شذوذا، فإذا استوحشت المعرفة والعدالة فى بلادنا فالمصير معروف. يا حسرتنا على العباد!، يفتخر اليهود بأسلافهم ويستحيون تاريخهم، وننأى نحن عن أسلافنا ونستحى من قرآننا وتاريخنا. إن أى رجل فى أى موقع ينسى الإسلام، ويرخص رسالته ويريد الالتحاق بأى جهة أخرى فى الشرق أو فى الغرب، لا يمكن أن يتم على يديه نصر، بل سيجر علينا العار والنار: "إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " ص _083
(1/81)
كلمات فى القدر بين الكتاب والسنة القرآن الكريم ينبوع الهداية الأول، ولباب الحق الذى لا يرقى إليه زيغ، ولا تلتبس به شبهة. وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يتلوه بلسانه، وأن يشغل بدراسته ويزكو ببيناته ويخرج الناس به من الظلمات إلى النور، وعلى فمه وفى ضميره هذا القول الكريم: "إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين" والسنة الشريفة أثر هذا الهدى المستقيم، منه تنبجس وفى وجهته تنطلق! وصاحبها المعصوم يستحيل أن ينطق بباطل أو يفعل شيئا لهوى يعرض أو شهوة تغلب، فهو من جهاته كلها محفوظ بأعين الله.. ومن هنا نستطيع الحكم بأنه من الممتنع أن يكون فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف القرآن فى معنى أو اتجاه، كيف والمنبع واحد؟؟.. ولما كان القرآن الكريم متواترا حرفا حرفا فهو جملة وتفصيلا قطعى الثبوت، أما السنة ففيها الكثير من المتواتر لفظا أو معنى، وفيها أخبار آحاد، بذل العلماء والنقاد جهودا هائلة فى ضبطها، لم يعرف لها نظير فى تراث عظيم من العظماء. ولا عجب فما التفت قلوب حول بشر، كما التف المسلمون حول نبيهم، وما ظفر أحد بإعزاز وحب كما ظفر بذلك صاحب الرسالة الخاتمة. ولو استمعنا إلى من يرى تجاوز السنة لوجب أن ترتفع الثقة بتاريخ البشر كلهم، فإن الروايات التى ثبت بها التاريخ أخف وزنا من الروايات التى ثبتت بها السنة المحمدية.. حديث الآحاد وقد سمعت إلى مغموصين أنكروا السنة كلها فما وجدت فى سيرتهم أو منطقهم ما يستحق الاحترام، ولو ادعوا الإسلام، وكانوا من الحكام..! ص _084
(1/82)
ولكن تراث السنة نفسه تعرض لمتاعب من مسلمين مخلصين لم يحسنوا تناوله، ولم يلتزموا الضوابط التى وضعها أئمة السنة الأولون، فكانوا للأسف بلاء على السنة وفتانين عن الإسلام كله، ولو لزموا موقف الأئمة الأوائل لكانوا أهدى سبيلا.. هناك من يسوى بين الأخبار المتواترة، وبين أخبار الآحاد فى إفادة اليقين، وهذا غلو مرفوض.. وهناك من يرحب بأخبار الآحاد دون تطبيق للشروط العلمية المقررة عن ضرورة خلوها من الشذوذ والعلل القوادح. وهناك من يقضى سحابة عمره فى دراسة السنن، وصلته بالقرآن الكريم واهية، وبصره بهداياته كليل، ولذلك لا يحسن وضع الأحاديث فى مواضعها العتيدة من كتاب الله، ولا وضع النسب بين الأركان والنوافل والوسائل والغايات..! ويتضح هذا المعنى قليلا إذا عرفنا أن علماء المذهب الحنفى يرون أن لا فرض إلا بنص قاطع، وأنه لا حرمة إلا بنص قاطع، وأن أخبار الآحاد لا تفيد القطع، بل هى ـ كما يرى الجمهور ـ تفيد الظن العلمى أو العلم الظنى..! ولنترك رأى الأحناف جانبا لنشرح ما نريد عن طريق ضرب الأمثال.. يقول الله تعالى فى جلالة كتابه: "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد" فهل وعى ذلك من قبل حديث الغرانيق، وقال: إن تظاهر الروايات يجعل له أصلا ما.. والقائل محدث كبير، وقد قبل فرية الغرانيق مدع للسلفية كبير، ووضعها فى سيرة ألفها..! الحرث مكان الإنبات بإجماع أولى الألباب، فهل وعى ذلك من روى فى شرح الآية "نساؤكم حرث لكم" أنه يجوز إتيان النساء فى غير مكان الحرث؟ قتال العدوان مرفوض بنص القرآن الكريم، فهل درى ذلك من روى أو رأى جواز القتال دون دعوة إلى الإسلام، وبالتالى جواز أخذ الناس على غرة؟ ص _085
(1/83)
الإنسان صانع مستقبله ولأدخل فى الموضوع الذى أريده.. فى سورتى الشمس والليل نقرأ هذه الآيات: "ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها" "فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى" السياق فى السورتين الكريمتين صارخ فى إظهار الجهد البشرى، صارخ فى أن الإنسان صانع مستقبله!. السياق مبين كل الإبانة عن كسب الإنسان واكتسابه، وأنه هو لا غيره الذى يغرس ويجنى ما غرس. ويتجه ـ دون شائبة إكراه ـ إلى ما يبغى، ولا يخرج هذا عن قدر الله الذى علم بفعله من الأزل.. ولكن بعض المحدثين يذكرون من مروياتهم هنا لتقتل هذا السياق قتلا، وتجعل المرء مقهورا مجبورا مغلوبا على أمره لا حيلة له ولا عزم.. من السياق القرآنى نقول فى جزم: إن من زكى نفسه وكبح هواه فقد أفلح.. لا مرية فى ذلك، وإن من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فهو إلى خير يقينا لا شك فى ذلك.. وزلزلة هذه الروابط بين السبب والنتيجة مرفوض فى دين الله، بل هو جريمة نفسية واجتماعية.. ولا يجوز تأويل الآيات البينات لتوافق ما روى من أخبار الآحاد، بل الواجب أن تؤول أخبار الآحاد لتستقيم مع الآيات، ولتنسجم مع العقل والنقل. إن الفرع يمال به إلى الأصل لا العكس.. وإذا كان لبعض الناس ذاكرة جيدة، وليس لهم بصيرة نيرة، فعليهم تسليم محفوظاتهم إلى الفقهاء لينزلوها فى مكانها الصحيح.. ص _086
(1/84)
وهذا هو السر فى نعيى على نفر من علماء السنة أنهم أفنوا أعمارهم فى دراسة الحديث، وبقوا سطحيين فى فهم القرآن الكريم. وَهْم المحدثين وبهذه السطحية رووا ما نعده وهما فى إدراك المقصود، مثل وهم "نافع" مولى ابن عمر فى قضية الغارة على العدو دون دعوة.. ومن هذا القبيل ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى يده كتابان، فقال: "أتدرون ما هذان الكتابان؟ فقلنا: لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا..! فقال: للذى فى يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال للذى فى شماله: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا.. فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه..؟ فقال: "سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل ..وإن صاحب النار يختم له بعمل النار وإن عمل أي عمل" والعبارات الأخيرة هى التى نريد التعقيب عليها، فهى فى نظرنا من أوهام الراوى، ومخالفتها للكتاب والسنن الصحاح ظاهرة. فإن التيسير لليسرى يتم لمن أعطى واتقى وصدق بالحسنى ولا يتم لمن عمل أى عمل.. وكذلك التيسير للعسرى يتم لمن بخل واستغنى وكذب بالحسنى ولا يتصور البتة أن يكون ختام امرئ مخلص لربه مستغفر من ذنبه..! وتوهين راو خالف النقل الثابت والعدل السائغ هو مسلك أئمة السنة. فتعريف الحديث الصحيح بعد اتصال السند بالثقات، أن يكون خاليا من الشذوذ والعلة القادحة. ص _087
(1/85)
وأى شذوذ أشد من مخالفة الآى، وأى قادح أقوى من مصادمة العدل؟. أما صدر هذا الأثر فهو تصوير للعلم الإلهى، وما تضمن فى سجلاته مما كان ويكون أزلا وأبدا.. وهذا ما لا شك فيه. على أن علاقة العلم الإلهى بأعمال الناس علاقة انكشاف وإحاطة، وليست علاقة سلب وإيجاب، أو إيجاد وإعدام أو ضغط وإكراه.. وعلماء الأمة متفقون على أن خبر الآحاد مردود إذا ما خالف المتواتر، وبديهى أن يتلاشى الظن أمام اليقين.. ويشاء الله أن نرى مثالا لذلك فى سورة الليل ذاتها... خبر الواحد تتلاشى صحته بمخالفة المتواتر قال القرطبى وهو يفسر قوله تعالى: (وما خلق الذكر والأنثى): روى عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: (وَ النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَ الذَّكَرَ وَ الأُنْثَى) ويسقط (وَ مَا خَلَقَ). وفى صحيح مسلم عن علقمة قال: قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء، فقال: فيكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله؟ فقلت: نعم أنا.. قال: فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية: (و الليل إذا يغشى) قال: سمعته يقرأ: (و الليل إذا يغشى * و النهار إذا تجلى * و ما خلق الذكر و الأنثى ) قال: وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها! ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ (و ما خلق) فلا أتابعهم!! قال ابن العربى فى كتابه الأحكام: هذا مما لا يلتفت إليه بشر، إنما المعول عليه ما فى المصحف، فلا تجوز لأحد مخالفته.. فإن القرآن لا يثبت بنقل الواحد وإن كان عدلا، وإنما يثبت بالتواتر الذى يقع به العلم، وينقطع معه العذر، وتقوم به الحجة على الخلق. ويعقب القرطبى على حديث أبى الدرداء السابق برفضه وضرورة الأخذ برواية الجماعة وإبطال نقل الواحد لما يجوز عليه من النسيان والإغفال..!! والواقع أن خبر الواحد تتلاشى صحته عندما يخالف المتواتر. والمسلمون على هذه القاعدة. ص _088
(1/86)
بيد أن ناسا خفاف الفقه يرون أو يروون ما يخالف المقطوع به، وينتظرون أن نستمع إليهم! ومن المقطوع به أن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يزل قدم عابد أخلص له لأنه يريد إيذاءه وسبق بذلك قضاؤه. ولا يقبل مجون فاجر تمرد عليه لأنه يريد إدخاله الجنة وسبق بذلك علمه!! ويستحيل شرعا أن يسوى بين مؤمن وكافر، كما يستحيل شرعا أن يدخل المؤمنين النار ويدخل الكفار الجنة.. وفى طبيعة الجزاء الأعلى يقول الله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون) ويقول : (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) ومع ذلك، فإن البعض يريد أن يثير الخلل فى هذه الموازين قائلا: إن الله لا يسأل عما يفعل، وله أن يتصرف فى ملكوته كيف يشاء! وهذا حق أريد به باطل. وهو ينطوى على جهل بأمجاد الألوهية وبأسماء الله الحسنى، وما يقول ذلك من يعرف أن الله هو الحميد المجيد الحكيم الرحيم العدل المقسط.. إنه قادر واسع القدرة، وفى الكتاب العزيز: (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا) بداهة لا أحد يملك شيئا لو أراد مالك الملك أن يهدمه على رءوس الأنبياء والملائكة.. ولكنه ـ عز وجل ـ ما أهلك نبيا ولا ملكا وإنما أهلك الكفرة الفجرة وحدهم.. وعندما نفهم أنه يرد التائبين، ويقبل الفاسقين لأنه لا يسأل عما يفعل فنحن نعبث بالدين كله، وننسب إلى الرحمن الرحيم ما لا يليق به.. ص _089
(1/87)
العلم الإلهى لا يعنى الجبر وهنا يرد الحديث المشهور عن سبق الكتاب وأثره فى مصادر العباد.. والمعنى الصحيح لهذا الحديث يحتاج إلى بيان، ونرى أن نضرب مثلا بين يدى المعنى المراد.. قد ينظر المدرس إلى طلابه نظرة فاحصة، ثم يصدر أحكاما عليهم حسب ما يرى من ذكائهم وجهدهم، ويذكر أحكامه هذه لصديق له قد يرى فى مظاهر الطلاب ما يغاير ذلك.. ويجئ الامتحان النهائى وتظهر النتيجة، ويسأل أستاذ الفصل صديقه عن أحوال الطلاب فيقول له هذا الصديق: لم يفلتوا من حكمك أو: نفذ فيهم رأيك..!! سقط من قدرت سقوطه ونجح من قدرت نجاحه!. هل معنى هذه العبارات أن علم الأستاذ بخبايا الطلاب الفكرية والخلقية هو الذى أحدث ما حدث؟ العبارات كلها مجازية، والجهد الدراسى وحده هو الذى أسقط من سقط، وأنجح من نجح..! على ضوء هذا المثال ندرك أن العلم المكتوب لا يعنى الجبر الإلهى، وأن عبارة "سبق الكتاب " لا تفيد إلا التنويه باستحالة تخلف هذا العلم لكماله لا لشىء آخر.. ولو أن حديث سبق الكتاب لا يفيد إلا الجبر لرددناه ـ وإن صح ـ لأن خبر الواحد لا يعترض يقينا عقليا أو نقليا.. قال صديق: إن المعنى الذى قررته يخفى على كثيرين! قلت: وينبغى عدم ذكر هذا الحديث للناس إلا مقرونا بمعناه الحق.. فليس كل حديث يروى وإن صح إذا كان سيعقب فوضى فى سلوك العامة! إن النبى صلى الله عليه وسلم عرف معاذ بن جبل أن حق العباد علي الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا، قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: " لا تبشرهم فيتكلوا " رواه مسلم. وقد استجاب رسول الله لرأى عمر بن الخطاب فى منع أبى هريرة من التحدث بمثل هذا قائلا:"يا رسول الله أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون قال رسول الله: "فخلهم" ص _090
(1/88)
وورد عن على بن أبى طالب : "حدثوا الناس بما يطيقون أتحبون أن يكذب الله ورسوله" رواه مسلم. وكذلك قال : "إنك ما حدثت قوما بحديث لم تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". ويؤسفنى أن حديث سبق الكتاب يذكر الآن فى بعض المواعظ والدروس الدينية، دون التأويل الواجب، وأن ناقليه يسهمون فى إشاعة عقيدة الجبر واليأس من قيمة العمل والاتكال على حظوظ غائبة وغيوب مبهمة.. وعلماؤنا يرون أن خبر الواحد لا يرده المتواتر وحسب، بل يرده الأرجح!. سئل ابن عباس: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ـ أى السورة ـ في الظهر والعصر؟ فقال: لا. فقيل له: لعله كان يقرأ في نفسه؟ فقال:خَمْشًا هذه شرُّ من الأولى..الخ. والمعروف أن القراءة فى الأوليين تدور بين الوجوب والندب عند الجمهور! وكلام ابن عباس هنا لم يؤخذ به، مع قيام سنده! ومع جلالة قدر ابن عباس، فهو على أية حال ليس بمعصوم، والحق فى خلافه، وما زلنا نؤكد أن خبر الآحاد لا يفيد إلا العلم الظنى، ولا مدخل له فى إنشاء العقائد.. العلم الإلهى لا يلغى الإرادة. ونلفت النظر بعد ذلك البحث إلى أمور أولها: أن نفرا من ذوى القصور العقلى ظنوا أن الله ـ سبحانه ـ لا يعلم ما يكون حتى يقع، وجاءهم هذا الظن الضال من أخذهم لظاهر قوله تعالى : "وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء" وقوله : "وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا" ص _091
(1/89)
وهذا ضلال بعيد، فإن المعنى انكشاف العلم القديم، ووقوع الأحداث على النحو الذى تتم به محاكمة هؤلاء فى الدنيا والآخرة، فالقاضى لا يحكم بعلمه، ومهما كانت خبرة الأستاذ بتلامذته فلا نجاح ولا رسوب إلا بامتحان يظهر الخبايا.. وعلم الله بكونه ليس معجزا ولا مضنيا، ألا يعلم من خلق؟ إن الأمس واليوم والغد صفحة واحدة أمام شهود لا يغيب، وعلم لا يضل ولا ينسى.. ومن هنا قال المفسرون: (كل يوم هو في شأن) شئون يبديها ولا يبتديها..! الأمر الثانى: ما يكلف العباد به لا تلغى إرادتهم بإزائه! فحريتهم النفسية والفكرية قائمة وعلى أساسها تتم محاسبتهم! وإذا حدث ـ لأمر ما ـ أن صودرت هذه الحرية فإن التكليف الأعلى يقل بنسبة ما يصادر! ويمتنع عقلا وشرعا أن يؤاخذ الله عبدا ليس له كسب أو اكتساب.. وكل أثر يفيد أن الجنة والنار مصادفات، وأن الناس يقادون إلى مصايرهم وفق مخطط لا دخل لهم فيه، فهو مرفوض!. إن النصوص القطعية والقواعد الثابتة تأبى ذلك كل الإباء.. الأمر الأخير.. يعلم الناس، مؤمنهم وكافرهم، أن الأعمال التى يحسونها قسمان: إرادية وغير إرادية، قد أدخل البيت أو أخرج منه بمشيئتى، وقد أرفع يدى أو أخفضها بمشيئتى.. ولكن أين مشيئتى فى حركتى الزفير والشهيق، فى دقات قلبى وأنا نائم أو يقظان؟ بل أين مشيئتي فى ميلادى ووفاتى، وتيارات الحياة التى تتقاذفنى كما تتقاذف الأمواج زورقا خفيفا؟ وأين مشيئتى فى قدراتى المادية والأدبية التى زودنى الله بها وانفرد بتحديد كمها وكيفها..؟ إن غددا معينة ـ لا سلطان لى على إفرازها ـ قد تسبب الخوف أو الجرأة أو العفة أو الجماح..! ص _092
(1/90)
وقد يكون اللقاء برجل ما سببا فى رفعة أو هبوط، وهذا اللقاء لا سلطان لى على تقريبه أو تبعيده.. تلك كلها "جبريات" يعرفها المؤمنون والكافرون على سواء، وتحديد وضع المرء معها مضبوط عند من لا تخفى عليه خافية، ومن يحسب مثقال الذرة فى موازين الجزاء.. وأحسب أن ذلك كله من وراء التعبير المطرد فى الكتاب العزيز: (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) فالمشيئة هنا لا تعنى الفوضى كما يتصور الجهلة، وإنما تعنى أن الله وحده هو الخبير بخلقه، العليم بحساب المعوقات والمنشطات فى حياتهم على ظهر الأرض إلى يوم يلقونه... ونعود إلى ما بدأنا به، على الدعاة أن يدرسوا كتاب الله وسنة رسوله ببصر مفتوح، وأن يعرفوا علاقة النصوص بعضها ببعض.. إن البناء الإسلامى شامخ، ومن المضحك أن يجىء أحدهم بهيكل نافذة ليضعه فى فتحة باب أو ليضعه فى كوة جانبية.. لابد من فقه، لابد من ذوق، وإلا حرفنا الكلام عن مواضعه وأسأنا قيادة المجتمع باسم الله.. ص _093
(1/91)
حقائق خفية وراء حروب تعيسة الدولة التى أقامها بنو إسرائيل على أنقاضنا تتمتع بميزات محلية ودولية كثيرة.. لكن شيئا من ذلك لا يجديها إذا عرفنا من نحن؟ وقررنا أن نعمل! أى إذا انطلقنا بعقائدنا الإسلامية، ومضينا نطلب إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، وكان وراء المقاتلين جمهور جاد كادح مستميت..! إن تفوق السلاح وتظاهر الأعداء من كل فج لن يفتا فى عضدنا! فنحن خلال تاريخنا الطويل لم نكسب معاركنا الكبرى بكثرة العدد ورجحان السلاح، بل كسبناها بالاستناد إلى الله وبذل كل ما لدينا من طاقة.. وجميع المعارك التى كسبها اليهود فى عدوانهم علينا فى السنين الأخيرة لم تكن لبسالة المقاتل اليهودى أو لعظمة أسلحته، بل كانت ـ ونقولها محزونين مكسورين ـ لتفاهة القيادات وسذاجة الخطط وعربدة الشهوات فى صفوف العرب..!! ولو كان العرب بهذه الخصال يقاتلون جيشا من القردة لانهزموا، فأنى لهم النصر، وبعضهم يأكل بعضا ويتربص به الدوائر، والكل بعيد عن الإسلام منسلخ من تعاليمه...؟ إن أبناءنا المخدوعين دفعوا من لحومهم ودمائهم ثمنا فادحا لمسالك قادة فقدوا الدين والشرف! وجعلوا اليهود يقولون فى تبجح: إن جيشهم لا يقهر!! أضحوكة نرويها ونحن نهز رأسنا من عجب! متى كان لليهود جيش لا يقهر؟ ولكن حفنة من ساسة العرب خرب الإلحاد قلوبها، وأطاشت الأهواء ألبابها هى التى صنعت هذه الفرية! كيف انهزم العرب؟!! كان أهل فلسطين يقاتلون اليهود قبل إعلان دولتهم فما انتصر اليهود فى معركة! لولا الجيش الإنجليزي فى البر والأسطول الإنجليزي فى البحر ما قدر يهودى على البقاء فى الأرض المقدسة.. ص _094
(1/92)
ثم استدرجت الجيوش العربية- وفق خطة دولية ماكرة- بعد ما أعلن اليهود دولتهم، وأعدوا للنزال عدتهم وأقنعوا العالم أنهم قادرون على كسب الحرب! ووقعت المفاجأة وأحيط باليهود! وكادت "تل أبيب" تسقط.. وهنا تدخلت هيئة الأمم المتحدة لتفرض هدنة إجبارية على العالم ربما تجىء النجدات لليهود من أرجاء العالم الصليبى والشيوعى. واستؤنف القتال، وكان الجنود العرب قادرين على محو الدويلة الوليدة، ولكن الساسة العرب ـ وفق خطة موضوعة ـ توقفوا، فاشتغلت مصر بضرب الحركة الإسلامية، وأبى العراق إصدار أوامر لجيشه بالتحرك نحو "تل أبيب" وكان قريبا منها! وأعان الجنرال "جلوب" القائد الإنجليزي فى الجبهة الأردنية على تسليم "اللد" و "الرملة" لليهود. وانطلقت الصيحات فى كل مكان: انهزم العرب! كانت مهزلة سياسية وعسكرية فغر الناس أفواههم مبهوتين بإزائها، ثم توجت هذه المهزلة باعتراف الأمم المتحدة "بإسرائيل". ثم قال رؤساء الدول الكبرى: إن إسرائيل خلقت لتبقى! ولكى تبقى يجب تغيير البيئة من حولها، فكيف يبقى لليهودية الظافرة كيان وحولها الإسلام؟! أو كيف يبقى للغرباء الهاجمين كيان وحولهم عرب أحرار؟! فلينزف الإسلام دما حتى يموت! ولتوضع أكوام التراب على الحريات حتى تختنق وتتلاشى، ومن يؤدى هذه المهمات الهائلة؟ بعض من حكومات عسكرية يقيمها شبان طائشون. وقامت حول فلسطين الجريح أو حول إسرائيل الغاصبة حكومات عسكرية أعلنت على الإسلام حروب استئصال، وعلى الحريات الدستورية حروب إبادة، ونجحت خلال ربع قرن فى دعم الحكم الفردى والاستبداد السياسى، ونجحت كذلك فى جعل الدعوة إلى الإسلام صيحة ضد القانون السائد!!. وعن طريق حكومات العسكر القائمة هنا وهناك كسبت إسرائيل حربين أخريين!! كسبتهما بداهة فى غيبة الوعى الإسلامى والحريات الإنسانية!!. ص _095
(1/93)
واستطاعت أن توسع رقعتها، وتفرض شخصيتها، بل استطاعت أن تكرر أكذوبتها الحقيرة: الجيش اليهودى لا يقهر!. تصعيد الروح المعنوية قوة ونصر وعقب هزيمة 1967 كان الجيش المصرى يعانى آلاما هائلة، وكنت مع عشرات من الدعاة نختلط برجاله ونتحدث معهم حديثا ذا شجون. كان الحاج "حافظ سلامة" إمام مسجد الشهداء قد عقد اتفاقا مع الضباط المنبثين فى الجبهة أن يزودهم بخطباء يصلون الجمعة بالجنود، وآخرين يسمرون معهم الليل، ويدرسون معهم فصولا من الجهاد الإسلامى. وكانت السيارات تنقلنا عشرات الأميال لنقوم بهذه الواجبات، ثم تعود لتجمعنا من الفرق التى توزعنا عليها لنبيت فى مسجد الشهداء، أو ليعود بعضنا إلى القاهرة. وبقينا سنين لا نسأم من التحشيد وتصعيد الروح المعنوية، وبين الحين والحين كنت أذهب مع بعض الإخوة لنرى اليهود قابعين على الضفة الشرقية، فتسرى الكآبة فى فؤادى، وأتراجع مخترقا الدور المهدمة ـ وما أكثرها ـ وأقول فى نفسى: لو كان هذا التخريب أثر مقاومة شريفة من بيت إلى بيت ما حزنت، ولكنه عمل قادة صغار ضاعت عقولهم من فرط الإدمان، وضاعت أخلاقهم من فرط التهارش والأثرة..! وكان آخر العهد بهذه الجبهة أوائل سنة 1973، فى ليلة غاب القمر فيها، وتغورت النجوم، وفهمت من الحاج "حافظ سلامة" أن العمل سيكون فى أحد الخنادق أبعد من "الشلوفة" بعدة أميال.. نزلت من السيارة، وتيممت الخندق، وأنا لا أرى شيئا أبدا، وشرع رفاقى ينحدرون بى رويدا رويدا حتى بلغت المكان، وكانت تنبعث منه أضواء خافتة، وتحدثت مع مجموعة من الضباط فى موضوعات كثيرة، وأجبت عن أسئلة مختلفة، ونفست عن بعض الأحزان، وسكنت بعض القلق.. ثم خرجت من تحت الأرض ومشاعرى تغلى، وكان الجنود الذين يصحبوننى يحسون أنى أضع قدمى حيث لا أدرى، وأنى أتعثر فى ليل ليس فيه بصيص نور، وصحراء متماوجة الكثبان. ص _096
(1/94)
وبلغت السيارة وعدت إلى القاهرة، والأرض التى خلفتها ملأى برجال نفد صبرهم يريدون إنهاء هذه الحال بأى ثمن!. كنت يومئذ المدير العام للدعوة، وكنت أخطب الجمعة فى مسجد عمرو بن العاص، وفوجئت بدعوة إلى الدروس "الحسنية" فى المغرب مع الشيخ الكبير حسنين مخلوف المفتى الأسبق.. ولم أُلق الدرس الذى كلفت به لأن الدروس كلها ألغيت فى النصف الثانى من شهر رمضان، بعدما بدأت الحرب بين مصر واليهود!. كنا نصغى إلى الأنباء بانتباه حاد، وكلما سمعنا نبأ شاقنا إلى مزيد! وكان أصدقاؤنا يتسمعون الإذاعات الأوروبية ويترجمون لنا آخر ما أعلنته واتفقت المصادر كلها على أن المصريين أقاموا معابر على القناة، وأنهم أخذوا يتدفقون حول خط "بارليف" وأن التكبير يقصف كدوي الرعد من شمال إلى جنوب، وأن الرمال الساكنة تحولت إلى خلايا محمومة لا تسمع منها إلا جؤار الجنود باسم الله. وأخذت مطارق المؤمنين تنهال ببأس شديد على سلسلة الحصون التى شادها النبوغ العسكرى، وبرز فيها آخر الإبداع الأمريكى! فإذا المدافع التى تتحرك من تحت الأرض قاذفة الحمم تتبلد، وإذا البروج المشيدة تندك. والمفزع هذا التكبير الذى لا تنقطع أصداؤه بين حصن وحصن، إن طنينه يصم الآذان. إن المسلمين المقاتلين تحولوا جنا لا يقفهم شىء! ولقد تلاشى الخط المنيع المبنى من أحدث الاستحكامات، أمام هذا السيل الذى يضرب باسم الله ويسحق ما يعترضه..!! قلت لمن حولى: أنا أدرى! إن جنودنا قاتلوا اليوم فقط بطبيعتهم الإسلامية. لقد أصابت القيادة غيبوبة بعد هزيمة سنة 1967، أضعفت قبضتها على كل شئ، وانتهز الضباط المؤمنون الفرصة وأعادوا الوعى الإسلامى إلى أفئدة الرجال، فعادت الصلوات وارتفع الأذان، واستيقظ حب الله وطلب الآخرة والغضب للعار القديم، فإذا هذا الفيضان من الرجال، وهذا الهدير من طلاب الآخرة، وهذا العشق للاستشهاد فى سبيل الله.. ص _097
(1/95)
آه لو كانت لأولئك الأبطال قيادة على مستواهم! إذن لبلغوا "الممرات" فى عدة أيام، ولوثبوا منها إلى "العريش "! أتحسبون أن هذه الحركة لو تمت باسم الله ستلقى برودا داخل فلسطين؟ كلا والله إن النساء الفلسطينيات قبل الرجال سيقلن لقادة إسرائيل: إما أن تذهبوا من حيث جئتم وإما جعلنا قبوركم بطون الأمواج.. القيادة حولت النصر إلى هزيمة إن القيادة كانت دون مستوى الجيش، بل لعلها بوغتت بالنصر العاجل فلم تدر كيف تستغله!! وكان بعض القادة المحليين يعتذرون بأن الأوامر تجئ من القاهرة، وأنهم طولبوا بالتوقف بعدما حطموا الجيش اليهودى فى معركة دبابات من أهم ما سجل تاريخ الحروب. وسمعنا أن هدنة فرضت، وأن مصر قبلتها، ورأيت الشيخ حسنين مخلوف يرسل الدمع من عينيه وهو يغالب أنينه!. لقد انهزمت تسعون سنة فى كيان الرجل المهيب فلم يجد بدا من البكاء، وهو يهمس: هدنة مرة ثانية، أما كفتنا الهدنة الخادعة سنة 1948؟ وأحسست أن الأيدي الخفية تعبث بمصير المسلمين فى الظلام وهم لا يدرون، وشعرت أنى عاجز عن معرفة شئ! ولم نمكث طويلا حتى انكشف المخبوء، ولكى نأخذ بطرف من الحديث الكئيب، نتابع الدكتور "هيثم عبد الكريم" فى مقالاته بصحيفة "الراية القطرية" تحت عنوان "قراءة فى مذكرات كيسنجر" قال: "... قرر كيسنجر تحويل انتصار العرب إلى هزيمة، وتأكيد هذه الهزيمة على أرض المعركة، فى الميدان نفسه! قبل أن تتوصل هيئة الأمم إلى قرار يفرض على المتحاربين إلقاء السلاح والتوجه إلى مائدة المفاوضات..! لابد من إقدار إسرائيل على تحطيم الجيش المصرى، وتمكينها من اختراق صفوفه، وتأمين وجودها غربى قناة السويس، وإتمام حصار الجيش الثالث، وإزالة قواعد الصواريخ المصرية لتصبح الطائرات اليهودية سيدة الجو! ص _098
(1/96)
وكم من الخطط والمؤامرات حاكها "كيسنجر" لبلوغ هذا الهدف؟ عندما جاءه "سميحا دينيتز" سفير إسرائيل بالولايات المتحدة يقص عليه نبأ المعركة قال: فلنترك إسرائيل تضرب العرب يوما أو يومين لتؤدبهم، ولتضعهم فى مكانهم الصحيح! وبعد ذلك يمكن أن نتعامل معهم ونفرض عليهم ما نشاء..!! وجاء السفير اليهودى مرة ثانية يقول له: إن الخسائر بلغت خمسمائة دبابة، منها أربعمائة على الجبهة المصرية وحدها، وحوالى خمسين طائرة منها أربع عشرة من طراز الفانتوم، وإن الوضع سيئ جدا، وإن رئيسة الوزراء "جولدا مائير" تنوى المجيء غدا ـ إلى الولايات المتحدة ـ تطلب النجدة! وتنتفض فى قلب وزير خارجية أمريكا يهوديته، ويطلب من السفير إبلاغ "مائير، بالبقاء فى إسرائيل تقود الجيش والشعب حتى لا تهتز ثقته وينهار، وإن كل شيء سيسير على ما يرام ! وسار كل شىء على ما يرام، وتدخلت الولايات المتحدة وأقيم جسر جوى تعبر عليه الأسلحة إلى إسرائيل، واشتركت طائرات الاستطلاع والتجسس الأمريكية فى استكشاف الجبهة المصرية، وتعرف المواقع الضعيفة، وأدركت أن الفرقة المدرعة الحادية والعشرين التى كانت رابضة غرب القناة لحراسة الجيش العابر، تحركت نحو الشرق، فنصبت لها الكمائن وبدأ هجوم يهودى مضاد فى الوقت نفسه، وكان الهجوم مزودا بالأسلحة الأمريكية القادمة على عجل خصوصا الطائرات العمودية المضادة للمدرعات، والمجهزة بتوجيه تلفزيونى.. ويقول كيسنجر ـ وملء فمه الفخر ـ: إن الجسر الجوى السوفيتى الذى كان يمد مصر وسوريا والعراق لمدة أربعة أيام لم يصنع شيئا، فإن الجسر الأمريكى لإسرائيل كان يمدها فى اليوم الواحد بضعف الإمدادات الروسية للدول الثلاث خلال الأيام الأربعة، كانت خمسون طنا من العتاد العسكرى تصل إسرائيل كل ساعة..!!". وبهذا العون الأمريكى الكثيف انفتحت ثغرة فى الخطوط المصرية انتهت بكارثة كبيرة غيرت الوضع كله! ص _099
(1/97)
حرب الانسحاب وحرب الهجوم قد يقال: وماذا كان بوسع المقاتل المصرى وهو يواجه أقوى دول العالم؟ والإجابة عندى حاضرة إننى أكره التهويل وخداع الأسماء، إن المجاهدين الأفغان يحتقرون الجنود الروس ويصمونهم بأخس النعوت، ويذكرون أنهم ما لاقوهم فى معركة إلا اضطروهم للهرب..! ولولا القصور الهائل فى أسلحتهم ما بقى للروس وجود.. وما يقوله الأفغانيون عن الروس يقوله الفيتناميون عن الأمريكيين، حذوك النعل بالنعل. إن الخلل الذى وقع فى صفوفنا هو الذى حول المعركة عن مسارها..! لماذا لم نتابع الزحف بعد الضربة الأولى المظفرة؟ إن الذى أمر بالتوقف هو الذى أمر بأن تدع الفرقة الحادية والعشرين مكانها إلى الضفة الأخرى، وهو خطأ فاضح! قلت لصديق لى: كيف وقع هذا؟ قال: إن الرئيس "حافظ الأسد" طلب من صديقه أنور السادات معاونة الجبهة السورية بهذا العمل..! ولما كنت ضعيف الخبرة فى هذه الشئون فقد لذت بالصمت، إلا أن هناك ما لا يصمت عليه أبدا، إن حرب الانسحاب لا تقل خطورة عن حرب الهجوم، وعمل الإيمان فيها بعيد المدى.. ولنثبت هذه القصة، بعدما نجح اليهود فى الوثوب إلى الضفة الغربية للقناة، سيروا دباباتهم نحو السويس لاحتلالها ورأى المحافظ أن الاستسلام أولى تجنبا للخسائر الكبيرة، وأعد علما أبيض لرفعه! ولكن الشيخ "حافظ سلامة" إمام مسجد الشهداء صرخ: لن نسلم بلدنا أبدا، سنموت دونها. واحتشد مع إخوانه المدربين على القتال، وساروا على أقدامهم يعترضون الدبابات الزاحفة، ويرمونها بما فى أيديهم من متفجرات. ص _100
(1/98)
ومرة أخرى انشقت الحناجر بالتكبير، وصرخ أهل الفداء يطلبون الشهادة، وتوقفت الدبابات عن المسير، فقد أصيبت فى مقاتلها! ها هى ذى الأولى تحترق، والثانية تتبعها، والثالثة تعطب، إن الصف كله اختل. وتراجع اليهود مذعورين وقد أحسوا أن الزبانية سوف تتخطفهم إن تقدموا، فنكصوا على أعقابهم، ونجت المدينة المعزولة! تحول المسجد إلى غرفة عمليات باهرة، إنه لا يسهر على الدفاع وحسب، وإنما يرسل بالمؤن إلى الجيش الثالث الذى كان مستر " كيسنجر" قد خطط له أن يموت جوعا وعطشا.. ورأيت مكاتبات من الضباط المعزولين فى الصحراء، يطلبون لجنودهم ما يحتاجون إليه، وقفت المآسى شيئا ما بعد النجدة التى نهض بأعبائها إمام المسجد! والأمر الذى يدعو للدهشة أن صنيع الرجل الشجاع وإخوانه الشهداء أو الذين بقوا أحياء قد أهيل عليه التراب عمدا.. إن أهل السويس يعرفون رجلهم كما يعرفون أبناءهم. وكان جزاؤه السجن والاتهام بالجنون. وتربص به حتى سنحت فرصة فاعتقل بين الرجال الذين أمر باعتقالهم قبيل مصرعه !! ما أخس العقوق والخيانة!! وأترك هذه القصة لأقول رأيى فى هذه الحرب وغيرها: إن القادة الكبار أو الساسة المسئولين كانوا دون مستوى الجيوش التى فرضوا عليها. هذه أضعف كلمة تصف ملكاتهم وقدراتهم النفسية، ولا أحب أن أقول كلمات أقسى أو أصرح.. إن الجمهرة الكبرى من الضباط والجنود كانوا أهلا لكسب أعتى المعارك، ولا تزال مخايل البطولة والفداء تتألق فى شمائلهم، وهم يؤدون واجباتهم بسرور ورضا فى أحرج المواقف.. ولكنهم وقعوا ضحايا ساسة محقورين، ومؤامرات عالمية تريد أن تصف اليهود بالشجاعة البالغة وأن جيشهم لا يقهر، حتى يفقد العرب كل ثقة فى أنفسهم ومستقبلهم. ص _101
(1/99)
والمتابع لسير المعارك كلها يعرف أن اليهود كسبوا معاركهم بغير قتال جاد.. وأنهم لما قاتلوا انهزموا وفروا. محاربة البواعث الدينية كان الساسة ـ أعنى ساستنا ـ يريحونهم من أعباء المعارك ويهيئون لهم الغنائم الباردة! ثم يقال بعد ذلك فى افتراء صفيق: إن الجيش اليهودى لا يقهر..! كانوا يأبون أن يكون للدين ـ أعنى الإسلام ـ أى أثر فى المعركة! وهذا المسلك قرة عين إسرائيل، فهى ببواعث دينية باطنة وظاهرة تحرك أجهزتها المدنية والعسكرية، وتجند الرجال والنساء والشباب والشيوخ، وتستجيش أحقاد الصليبيين على العرب، وتستجمع كل متاح من الأقلام والأفكار وفنون الدعاية كى تنتصر! آما ساستنا فكانوا أمام هذا التحدى الدينى الصارخ، يقولون لشعوبهم: لا دخل للدين فى السياسة، ولا صلة للدين بالحكم ولا بالحرب! بل يصبون الويلات على رأس من يتحدث عن الإسلام وضرورة الولاء له.. ماذا تنشد إسرائيل أكثر من هذا؟ لتلتقى برجال خواء فتحصدهم حصدا؟ قلت: إننى كنت فى المغرب يوم قامت حرب العبور، وكنت أتسمع ترجمات الأنباء من شتى الإذاعات العالمية، إن بعض هذه الإذاعات علق على تجاوب الصحراء بتكبير الجنود الهاجمين قائلا: عادت الهمجية! وهو تعليق تشم منه فتن الضغائن التاريخية علينا.. والغريب أن مفاوضات "فض الاشتباك" كانت تجرى أحيانا أثناء صلاة الجمعة والمفاوضون العرب ذاهلون عن معنى ذلك ومغزاه، أما المفاوضون اليهود فيستحيل أن يقبلوا أى حراك يوم السبت؟! التدين عندنا تهمة وتخلف، أما عندهم فشرف وثقة. وقد تابعت كلمات "كيسنجر" فى مواقف شتى، فرأيت كراهيته للمسلمين تقطر بالعداء البالغ.. يقول فى أسباب سقوط الشاه: "إنه حاول الانطلاق بشعبه نحو الحضارة بسرعة لا تتفق مع تخلفه الشديد! إن الشاه لم يفهم طبيعة أمته الجاهلة! ص _102
(1/100)
إن الشعب الإيرانى لا يمكن أن يحكم إلا بالحديد والنار والذل والجوع والقهر، كما كان يفعل والده فى سياسته الناجحة. أما الجديد فهو الذى قاد الشاه إلى السقوط عن عرشه". يقول الدكتور هيثم عبد الكريم: "إن هذا الأسلوب الذى يتكلم به "كيسنجر" ليس موجها إلى الشاه الذى رحل عن الحياة، إنه إنذار موجه إلى الرؤساء العرب كى يحذروا.." أى كى يضربوا بيد من حديد كل يقظة فى بلادهم.. ولعل هذه النصيحة هى ما قرر نفر من الرؤساء اتباعه لما لجئوا إلى فتح السجون واعتقال الأحرار وقتل طلائع الإيمان..!! إننا مكلفون بالإخلاص لديننا، سواء كفر الناس بأديانهم أم أصروا عليها. فإذا استمسك كل ذى عقيدة بعقيدته، فكيف نكلف وحدنا بترك الإسلام واطراح شعائره واستدبار توجيهاته؟؟ إن صدور هذه الدعوة من فم إنسان لا تعنى فقط أنه مرتد، بل تعنى أنه جاسوس قذر، كلفته المخابرات العالمية للقوى المعادية لنا أن يبث بيننا جراثيم الخذلان والضياع!. ص _103
(1/101)
على مسار الدعوة نحن ندعو ربنا فى كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، و الصراط المستقيم ليس خطا وهميا ينشأ عن هوى الأفراد والجماعات، وإنما هو حقيقى يرسمه من الناحية العلمية: القرآن الكريم، ومن الناحية العملية: الرسول الذى حمل الوحى وطبقه وربى جيلا من الناس على عقائده وشرائعه. والتاريخ الإنسانى يشهد بقوة ووضوح أن قافلة الإسلام لزمت هذا الصراط حينا من الدهر، وأنها قدمت للعالم نماذج حية فى بناء الخلق والمجتمع والدولة.. نعم.. كان السلف الأول عابدين لله، ذوى بصائر ترنو إليه وتستمد منه، وتنضح بالتقوى والأدب فى كل عمر يباشرونه. وكانوا ـ إلى ذلك ـ خبراء بالحياة يسوسونها بالعدل والرحمة، ويقمعون غرائز التطلع والحيف، ويرفضون ما سبق الإسلام فى ميدان الحكم من فرعونية وكسروية وقيصرية، كما يرفضون ما سبق الإسلام فى ميدان التدين من شرك أو تجسيد أو تعطيل.. إن الصراط المستقيم ليس وقوف فرد فى المحراب لعبادة الله وكفى، إنه جهاد عام لإقامة إنسانية توقر الله، وتمشى فى القارات كلها وفق هداه، وتتعاون فى السراء والضراء حتى لا يذل مظلوم، أو يشقى محروم، أو يعيث فى الأرض مترف، أو يعبث بالحقوق مغرور، وقد وقعت خلال القرون الطويلة انحرافات دقيقة أو جليلة! وقبل أن نتفرس فى هذه الانحرافات ونتحدث عن مداها نريد أن نقرر حقيقة مهمة: إن السلف الأول وحدهم هم مصدر الأسوة، ويعجبنى ما روى عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحى لا تؤمن عليه الفتنة! " أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم". إن بعض الذين ضاقوا بالانحرافات المعاصرة فى العالم الإسلامى فكروا فى العودة إلى الأمس
(1/102)
القريب، أو إلى بضعة قرون مضت! فقلت لهم: لا. ص _104
مثلنا الأعلى فى القرن الأول وحده، ففى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ " والاقتداء بداهة ليس فى ركوب الخيل والإبل، والحرب بالسيف والرمح! الاقتداء فى التجرد والخشية وإيثار الآخرة!! أما تأمين الحقيقة فقد استحدثت له وسائل مدنية وعسكرية لا حصر لها، ويجب على حملة الرسالة إتقان هذه الوسائل.. وقد بين أولو العلم ما يجب التزامه شكلا وموضوعا من شئون العبادات المحضة أما غيرها فنسق آخر.. العدل هو العدل، ولكن ضمانات وصوله إلى ناشديه تكثر وتتغاير على مر العصور، وقد قيل: تحدث للناس أقضية بقدر ما استحدثوا من فجور.. والشورى هى الشورى بيد أن ضمانات التعبير عن الرأى وضمانات الوقوف أمام الاستبداد تختلف باختلاف البيئات والملل.. وفى عصرنا هذا قامت أجهزة للدعاية تخدم شتى الملل والنحل بأساليب فاتنة، فإذا لم نسبقها نُسبق، ظلمنا ديننا، وأضعنا حقنا، وكان علينا وزر المفرطين. الصراط المستقيم إذن معروف بالعقل والنقل فلماذا يقع الانحراف عنه؟ والجواب: طبيعة البشر! إننا نخطئ وليس فى ذلك عجب! ولكن العجب أن يبقى الخطأ وأن نصر عليه!! الانحراف عن الصراط المستقيم والأعجب من ذلك أن يمضى البعض فى طريق الانحراف وهو لا يدرى! أو لعله .. يحسب نفسه على صواب.. وميلاد الانحراف خلقيا كان أو اجتماعيا أو سياسيا يبدأ من نقطة ما، ثم يسير مشكلا مع الخط المستقيم زاوية حادة، فإذا قست المسافة بين خط الزيغ والخط المستقيم وجدتها قدر أصبع، ثم تمتد فتصير قدر شبر، ولا يزال الزمان يطيل المسافة بين الخطين حتى تصير قدر ميل أو أميال، ويكون البعد عن الحق شاسعا!! ص _105
(1/103)
والانحراف المعيب لا يقع فى مكان واحد، بل قد تتعدد أسباب الميل، وتكثر المتعرجات التائهة، وتنحل عرا الإسلام عروة عروة بالصمت الجبان وترك الفتن تمشى حبلها على غاربها، بل إن معالم الصراط المستقيم تكاد تخفى مع توارث العوج وذيوع الجهل لولا أن الله سبحانه تعهد دينه بمن يجدد أمره، ويجلو بريقه، ويذود عنه الآفات.. إذا ذكرت كلمة " الدين " سبق إلى فكر الناس ما وراء المادة والبحوث الغيبية المحيرة فى هذا المجال .. فهل الأمر كذلك عندنا؟ كلا. إن الفاتحين الأوائل ما أثاروا بين الشعوب قضية من هذا الطراز، لقد انطلقوا باسم الله الواحد ينقلون الجماهير من الظلمة إلى النور، من الظلم إلى العدل، من الخرافة إلى الحق فشغلوا الناس برؤية الميزان الذى أقاموه لكفالة معاشهم ومعادهم عن بحوث ما وراء المادة. الكلام فى العقيدة موجز مجمل: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) والتفاصيل أعمال صالحة تبدأ من إقام الصلاة وتنتهى بتنظيف الطرق! وتقصى من الحياة العامة أسباب الشكوى والهوان: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) ما ينبغى أن يهتم به العقل الإسلامى اليوم كان السلف الذين يحملون الإسلام قديما واقعيين يعرفون مراد الله بذكاء وينفذونه بدقة، والإسلام - كما نعرفه من كتاب ربنا وسنة نبينا - فطرة سليمة لا فطرة ملتاثة، وتعاليم يعيها أولو الألباب لا أولو الثقافة القاصرة والأحكام البلهاء. وقد أحس ورثة المدنيات القديمة أنهم أمام عقل أذكى من عقولهم، وخلق أنبل من أخلاقهم، وبر بالشعوب أوسع من برهم، وأدركوا أن صفحتهم يوم تطوى، فلكى يرى العالم صفحة جديدة أملا بالرحمة والعدل يخطها أولئك الذين رباهم محمد صلى الله عليه وسلم. فهل كذلك الداعون إلى الإسلام فى يوم الناس هذا؟ ص _106
(1/104)
إن التفكير الواقعى فى معالجة شئون الناس هو الذى أنجح الإسلام قديما، وجعل الناس يدخلون فى دين الله، أما معظم مسلمى اليوم فأبعد شىء عن قضايا الشعوب المصيرية الشاملة! وأحب أن ألفت الأنظار إلى تغير فى الفكر العالمى، صبغ الإنسانية الآن، أساس هذا التغير الحفاوة بالمنطق التجريبى والزهد فى المنطق الفلسفى، وقد نشأ عن ذلك إهمال متعمد للفكر اليونانى فى الإلهيات باعتبار هذا الفكر رجما بالغيب وبحثا لا طائل تحته.. وينبنى على هذا أن ما انشغل به العقل الإسلامى قديما من تراث الإغريق، يجب وضعه على الرف إن لم يرم فى سلال المهملات!! وعلى الدعاة المسلمين من سلف وخلف أن يلزموا أسلوب القرآن الكريم فى عرض المعتقدات، وأن يشغلوا أنفسهم بتقديم حلول إسلامية للمشكلات المحدثة والأزمات المادية والأدبية الطارئة. إن ذلك ما فعله السلف الأول فأعانه على فتح المشارق والمغارب.. أما المشتغلون اليوم بإعلان حرب على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة فإنهم قد يحرزون نصرا فى ميدان لا عدو فيه، إنه نصر على الأشباح ولا يغنم إلا الوهم!! ولست أمنع بعض المتخصصين من دراسات تاريخية لماضينا القريب والبعيد، بيد أن ميدان الدعوة يجب إبعاده عن هذه المخلفات البالية، ويجب شحنه برجال لهم عقول ناضرة تعرف ما يقدم الإسلام وما يفتقر إليه الناس. وكما تراجعت خيالات الفلسفة النظرية أمام تقدم العقل العلمى، وأمام انتقال العلم بالتطبيق إلى المصانع، وارتقاء الحضارة المادية إلى آفاق أخرى، كما حدث ذلك تراجعت تقاليد كثيرة أمام الدراسات النفسية والقانونية والاجتماعية التى تجتاح العالم كله، وهنا أصيح بصوت عال: لا يجوز الخلط بين تعاليم الإسلام والتقاليد التى تسود بلدا ما، إن للناس تقاليد لبسوها الزى الإسلامى وهى من عند أنفسهم وليست من عند الله، والدعوة إلى هذه التقاليد على أنها المنهج الإسلامى جهل قبيح! فمصادر الإسلام معروفة، وميزانه فى الحلال والحرام
(1/105)
حساس، والأمم التى دخلت فيه كثيرة، وتاريخ ص _107
تقلب بين مد وجزر، وفقهاؤه المجتهدون تعرضوا للصواب والخطأ، وحكامه على اختلاف الأيام والدول فيهم من أحسن وفيهم من أساء، وقد بقى الكتاب الكريم معصوما لا ترقى إليه ريبة، ولم يلق تراث بشر من العناية ما لقيه تراث محمد عليه الصلاة والسلام. ويعنى ذلك أن نتحرى فى ميدان الدعوة، فلا نصد عن سبيل الله بأمر نحسبه من مسلمات الدين وليس كذلك، أو من فرائضه وهو إن عد من النوافل فعلى سبيل الإغماض والتجوز. مزاج منحرف لبعض من يتصدى للدعوة في تطوافى بالعالم الإسلامى رأيت ناسا يتحدثون عن الإسلام حديثا تأباه الفطرة ويمجه العقل. إذا كان العقلاء يتعشقون الحرية، فهم يتعشقون القيود، وإذا كان العقلاء يؤثرون السهولة والمياسرة فهم يؤثرون التعقيد والمعاسرة، ومهمتهم بعد هذا الطبع المريض أن يتأولوا النصوص أو يصطادوا من الشواهد النادرة ما يؤيد نظرتهم ويرجح كفتهم.. قال أحدهم ـ وهو يشتغل بعلم الحديث ـ: إن إلغاء الرق ليس من الإسلام.. قلت له: آفتك أنك اشتغلت بالأحاديث قبل أن توثق صلتك بالقرآن الكريم، فلم تتكون لديك الحصيلة العلمية التى تعينك على ضبط الأحكام، واستتليت: إن تحرير العبيد لا تقوم به دولة واحدة ما دام القتال يسود الأرض وما دام الأسرى يسترقون فإذا اتفقت الدولة على ميثاق لتكريم الأسرى ومنع استرقاقهم، فهل نحن المسلمين نرفض ذلك؟ وليس فى كتابنا أمر باسترقاق، وإنما فيه أوامر بالإعتاق! هل إشاعة الاسترقاق هدف إسلامى؟ ما قال ذلك أحد!!. وقال أحدهم ـ وهو يشتغل بالفقه ـ: يجوز للقرشى أن يتزوج من يشاء من العرب أو العجم، أما القرشية فلا بد من مراعاة الكفاءة فى النسب.. قلت له: إن البيوت مغلقة على عوانس بائسات محرومات من الزواج فهل هذا الكلام يحل مشكلاتهن؟ ص _108
(1/106)
إن هناك أقطارا واسعة فى العالم الإسلامى تشقى فيها النساء لأن التقاليد جعلت دما دون دم وأبا دون أب، أفهذا إسلام؟ ولا أريد المضى فى سوق الأمثال، وإنما أذكر الشارة العامة عند هؤلاء المتحدثين الخطرين على الإسلام ودعوته. إن العقل عند هؤلاء متهم حتى تثبت براءته، والقياس الصريح مؤخر عن الأثر الضعيف، والمصالح المرسلة مذهب مردود على أصحابه، والسيف لا الإقناع أساس نشر الدعوة! وملابس البداوة أمارة على التقوى، أما الأزياء الأخرى فإن لم تدل على التحلل فهى موضع ريبة، وعدم البصر لا غض البصر أساس العلاقة بين الجنسين! وقلما يعرف هؤلاء شيئا عن ضوابط الحكومة العادلة، ولو سألتهم لعادوا يبحثون فى التاريخ عن أساليب الحكم فى الكوفة أو بلخ ليعطوا صورة شرعية للحكم المطلوب..!! اننى أصادف هذه المناظر المؤذية فى طريق الدعوة فأشعر بالنكد، وآخر ما لقيت من هؤلاء شاب يقول لى: أليس فى الالتحاق بالجيش شىء من الوثنية؟ قلت: ويحك كيف! قال- فض الله فاه-: إنهم يحيون العلم كل يوم وهذه وثنية..!! دعاة مرضى ظلموا الدين هؤلاء المرضى مع ديننا المظلوم يشبهون الزمان المدبر الذى قال البحترى فيه: وكأن الزمان أصبح محمو لاً هواه مع الأخس الأخسِّ تساءلت: هل وراء هؤلاء أحد يكيد للإسلام؟ فقد ظهروا بغتة فى عدة أقطار متباعدة. وجاءنا الجواب على غير انتظار، فقد كنت أحاضر فى مدينة "المنيا" وعقب المحاضرة رأيت أن أنصرف مسرعا، لأنى كنت متعبا، ولكن شابا ألح على أن أنتظر لأجيب عن سؤال أثار بعض البلبلة، واضطررت للانتظار، فإذا السؤال المعروض عن حكم "الخل". وعقدت لسانى الدهشة! حكم ماذا؟ قالوا: حكم الخل! قلت: ماذا جرى للخل؟ ص _109
(1/107)
قالوا: نسأل عن حله أو حرمته. قلت وأنا ضجر: حلال! فرد أحد المتقعرين: الدليل؟ قلت: الأصل الحل، ومن زعم الحرمة فهو المطالب بالدليل، وتركت المكان وأنا أتعجب.. وشاء الله أن أسافر إلى "أبي ظبى"، وأن أخطب الجمعة فى مسجد حاشد، وعقب الخطبة تلقيت أسئلة مكتوبة لأجيب عنها، وإذا سؤال يتصدرها عن حكم "الخل". قلت للمصلين: هل هذا السؤال مكتوب فى عاصمة أجنبية، أشرف على وضعه مع غيره من الأسئلة المحقورة بعض المبشرين والمستشرقين الذين يعملون لحساب الاستعمار الثقافى ويريدون شغل العوام بما يصرفهم عن لب الإسلام؟! وقصصت عليهم كيف سبق لى هذا السؤال فى صعيد مصر، وإذا كنت أسمعه الآن فى غرب آسيا بعد شرق إفريقيا فلابد أنه مع أسئلة أسخف منه سوف يصدر للهند والسند، وغانا والسنغال!!. ولست أرمى بالتبعة على أعداء الإسلام، فإن القانون لا يحمى المغفلين، وإنما أَلفت النظر إلى هذا الهوس الفكرى وحملته فى كل مكان.. لقد أصبح هناك متخصصون فى إثارة الخلافات الغريبة وشحن القلوب بالغضب من أجلها، فلحساب من يقع هذا؟ أعرف متعصبين ذوى قلوب طيبة لبعض وجهات النظر الخفيفة الوزن، وهؤلاء صيد سهل لأعداء الإسلام، وينبغي تفتيح أعينهم على مغبة سلوكهم حتى لا ينكبوا دينهم وأمتهم. ولقد سمعت فى إحدى المحافظات شكوى من أن هؤلاء تجيئهم الكتب بسهولة من وراء الحدود وتبذل لهم بالمجان وآخر ما شغلوا الأذهان به قضية "خلق القرآن" التى ماتت من اثنى عشر قرنا ولم يعد أحد يحسها، إن هؤلاء الملتاثين رأوا إحياءها أو رئى لهم ذلك!!. وتوجد قوى محلية وعالمية تعين على ذلك حتى تنتكس النهضة المعاصرة، ويتدحرج المسلمون من العالم الثالث إلى.. عالم الفناء والتلاشى!!. ص _ ص 0
(1/108)
من جوانب انهيار المسلمين الحضارى الاستعدادات كبيرة لتوديع القرن الرابع عشر، واستقبال القرن الذي يليه.. وسأشارك في أحفال كثيرة تقام لذلك الغرض.. ولكني ـ بعد طول تجربة ـ وَجِلٌ من أحوال أمتنا.. وقلق مما ينتظرها إذا بقيت على ما أرى.. بعض المرضى يحتاج إلى صدمات كهربائية لتصحيح وعيه، وإيقاظ ما تخدر من حسه.. والمسلمون يحتاجون إلى أمثال هذه الصدمات كى يحسموا الخلاص مما حل بهم.. والسير على نهج يشبه أو يقارب نهج الراشدين من أسلافهم!!. أمتنا تعانى تخلفا حضاريا إن أمتنا الآن جزء كبير من العالم الثالث.. تخلفها الحضارى لا ريب فيه.. ومظاهر التقدم المجلوب من هنا ومن هنا عارية قد تسترد. إنها ليست إفرازا لكيانها الخاص.. ولا أثرا لنشاطها الأصيل.. ما الذى أوصلنا إلى هذا الدرك؟ إن التقدم والتأخر ليس حظوظا عمياء!. إن ما نزل بنا هو نتائج لمقدمات طال عليها الأمد.. وعلل هدت قوانا جيلا بعد جيل!.. وبعض الأجسام يصيبها فى سن مبكرة مرض شديد ولكن عافية الشباب تهزمه.. فتكمن الجرثومة متربصة الفرص السوانح لتثبت عندما تريد ملحقة بالجسم ما تشاء من عطب.! وأمتنا الكبيرة تعرضت لأدواء وبيلة خلال عصورها الخوالى.. وقد قاوم كيانها الصلب هذه الأدواء، وبدا للعين المجردة كأنه سليم معافى.. ولكن الجراثيم الخانسة برزت من مكامنها خلال القرون الأخيرة. فلما اصطدمت بنا القوى المعادية للإسلام فضحتنا المعارك فى كل ميدان، وسقط المسلمون بين المحيطين الأطلسى والهادى بين أواسط أوروبا وآسيا شمالا، وجزائر إندونيسيا والفليبين والمحيط الهندى وأقطار ما تحت الصحراء الكبرى جنوبا.. إن هذا الكيان الإسلامى تهاوى تحت ضربات المغيرين وأصبح بين عشية وضحاها أسيرا تدميه القيود، ويرهقه الإذلال.. ص _ ص 1
(1/109)
لقد حدث هذا.. وكان لابد أن يحدث.. لأن المسلمين فقدوا أسباب التمكين فى الأرض فعصفت بهم الرياح الهوج.. إن الرياح مهما اشتدت لا تنقل الجبال، ولكنها تنقل كثبان الرمال.. وإذا كنا على أبواب نهضة حقة فلندرس بدقة وبصيرة أسرار ما أصابنا.. فإن العافية لا تتيسر بدواء مرتجل، والنصر لا يجيء باقتراح عشوائى.. إن الأسلاف تصدروا قافلة العالم بجدارة. والأخلاف ملئوا ذيل القافلة بجدارة أيضا. وقد تأملت فى أحوال الناس الذين يعملون فى الحقل الإسلامى ويتحمسون لنصرة دينهم.. ولكنهم يحملون فى دمائهم جراثيم الفوضى القديمة.. والجهالة المدمرة.. فأدركت أن هؤلاء يتحركون فى مواضعهم، وأنهم يوم يستطيعون نقل أقدامهم فسيتجهون إلى الوراء لا إلى الأمام، وسيضيفون إلى هزائمنا الشائنة هزائم قد تكون أنكى وأخزى. من أجل ذلك رأيت استثارة الهمم لبدء نهضة واعية هادية تعتصم بالوحى الأعلى. وتتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، وتنتفع بتجارب القرون الأربعة عشر التى مرت بنا. قد تقول: وهل يخالف أحد فى هذا حتى تتناوله بالغمز واللمز؟! وأجيب: إن أحدا لن يجرؤ على هذه المخالفة بقوله ولكنه بفراغ فكره أو فساد باطنه قد يجر الكوارث على الكتاب والسنة. ولا يزيد الطين إلا بلة.. الفساد السياسى الفساد السياسى مرض قديم فى تاريخنا، هناك حكام حفروا خنادق بينهم وبين جماهير الأمة.. لأن أهواءهم طافحة وشهواتهم جامحة.. لا يؤتمنون على دين الله ولا دنيا الناس.. ومع ذلك فقد عاشوا آمادا طويلة. وقد عاصرت حكاما تدعو عليهم الشعوب، ولا تراهم إلا حجارة على صدرها توشك أن تهشمه.. انتفع بهم الاستعمار الشرقى والغربى على سواء فى منع الجماهير من الأخذ بالإسلام والاحتكام إلى شرائعه.. بل انتفع بهم فى إفساد البيئة حتى لا تنبت فيها كرامة فردية ولا حرية اجتماعية.. أيا كان لونها. ص _ ص 2
(1/110)
ومع هذا البلاء، فقد رأيت منتسبين إلى الدعوة الإسلامية يصورون الحكم الإسلامى المنشود تصويرا يثير الاشمئزاز كله.. قالوا: إن للحاكم أن يأخذ برأى الكثرة أو رأى القلة، أو يجنح إلى رأى عنده وحده..! أهذه هى الشورى التى قررها الإسلام؟ فما الاستبداد إذن؟! ووضع بعضهم دستورا إسلاميا أعطى فيه رأس الدولة سلطات خرافية لا يعرفها شرق ولا غرب.. وعندما تدبرت هذا الكلام وجدت أن معايب ثلاثا تلتقى فيه: الأول: سوء فهم لمعنى الشورى، وغباء مطلق فى إنشاء أجهزتها المشرفة على شئون الحكم. الثانى: عمى عن الأحداث التى أصابت المسلمين فى أثناء القرون الطوال والتى نشأت عن استبداد الفرد، وغياب مجالس الشورى. الثالث: جهل بالأصول الإنسانية التى نهضت عليها الحضارة الحديثة والرقابة الصارمة التى وضعت على تصرفات الحاكمين. فإذا استقبل المسلمون القرن الخامس عشر، وفهم عدد منهم لوظيفة الحكم لا يتجاوز هذا النطاق العقيم.. فكيف تسير الأمة، وأين تتجه؟؟! إن الفقه الدستورى فى أمتنا يجب أن تنحسر عنه ظلال الحجاج، وعبيد الله بن زياد، وبعض ملوك بنى العباس، وبعض سلاطين آل عثمان.. ويجب أن يمنع عن الخوض فيه شيوخ يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم افتات على الصحابة فى عمرة الحديبية.. فمن حق غيره أن يفتات على الناس ويتجاوز آراءهم. إن ذلك الضلال فى تصوير الإسلام يفقد الإسلام حق الحياة.. والمعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم احترم الشورى، ونزل على حكمها فيما لا وحى فيه، وأن قصة الحديبية تصرف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم على النحو المروى لما حبس ناقته حابس الفيل، وأحس أن الله تعالى يلزمه بمسلك يجنب الحرم ويلات حرب سيئة. فكيف يجيء من يعطى الرؤساء حق الحرب والسلام.. بعيدا عن الشورى.. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك يوما ما فى مكة، التى يعلل القرآن منع الحرب فيها بقوله: ص _ ص 3
(1/111)
(وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا * هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) وظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتجه مع توجيه السماء له. وظاهر كذلك أن الشورى تكون حيث لا نص فيه يوجه، وأن الأمة هى مصدر السلطة حيث لا نص بداهة. ويؤسفنى أن الكلام عن تكوين الدولة عندنا تعرض له أقوام على حظ كبير من الطفولة العقلية، أو على حظ من الزلفى يكسبون به الدنيا ويفقدون به الإيمان. وإصلاح أداة الحكم وأصله الأول يحتاج إلى فقهاء أتقياء أذكياء.. التخلف الاقتصادي والأوضاع الاقتصادية في عالمنا الإسلامى تحتاج من أعصار طويلة إلى النظر الفاحص والقلب النقاد.. وكثيرا ما تساءلت: إلى متى يظل التنفير من الحرام شغل واعظ ناصح، أو وصية مرب مخلص بصورة تدعو إلى اليأس أو الزهد فى الدنيا.. لتظل هذه الدنيا فقط فى أيدى أعداء المسلمين؟ ما أقل جدوى ذلك الكلام فى مواجهة الغرائز المريضة والأمانى السيئة!!. لو أننا جئنا إلى كل ميل مربع من الأرض الممهدة للزراعة أو المعدة للبناء، وتساءلنا: أمن الحلال تم تملكه أم من الحرام؟ لكان الجواب مفزعا. ص _ ص 4
(1/112)
إن تاريخ التملك أو واقعه المعاصر يشهد بأن كفة الشر أرجح، وأن المسلمين من أفقر أهل الأرض إلى قوانين صارمة تحرس قيمهم الدينية ونصوصهم السماوية. وما يقال فى ملكية الأرض، يطرد فى سائر الأموال..! ثم لماذا تبقى محاربة البطالة، والبأساء والضراء خاضعة لتطوع أفراد بأداء الزكاة وبذل المعونة؟ لقد كان من أول أعمال الدولة الإسلامية ـ بعد حراسة الإيمان ـ أخذ الزكاة.. وهذا ما عزم عليه الصديق، وتابعه فيه بقية الصحابة. ومعنى الأخذ من الأغنياء أن الدولة هى التى تتولى الإنفاق فى المصارف المقررة.. وأنها مسئولة عن رعيتها أمام الله. وأمام جماعة المسلمين.. وسؤال آخر له خطره، وتجاربنا نحن المسلمين مع الزمن توحى بتوجيهه إلى كل ذى لب: هل راقبنا سير المال فى المجتمع وطرق تداوله بين شتى الطبقات، ومساوئ تكدسه فى ناحية وإقفار ناحية أخرى منه، أو نواح كثيرة؟ وهل أدركنا آثار الترف المادى فى انتهاء الوجود الإسلامى بالأندلس ـ مثلا ـ وعلمنا على منع تكرار المأساة.. إن المال قوام الحياة وسياج المروءة، وعندما يكون دولة بين جماعة من الناس، فإن نتائج ذلك مدمرة.. إذ الجوع كافر.. وحقد المحرومين قاتل. وهل انتشرت الشيوعية إلا مع هذه الخلخلة التى أحدثها العصيان لأوامر الله، واعتداء حدوده؟! فحتى متى يسترسل المسلمون مع أخطاء قديمة؟! لقد رأيت فى أوروبا وأمريكا دولا شتى تشرع قوانين دقيقة لضبط سياسة المال والحكم.. وذلك لأنها تعرضت لنزوات الجور والأثرة والطغيان، وكما قال الشاعر: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم! فإذا وجدنا مجتمعات بشرية حصنت نفسها من هذه المآسى.. فلماذا لا نقتدى بها.. أو نقتبس منها. قال لى البعض: هذا ما نخافه منك.. إنك تستورد الإصلاح من منابع بعيدة عن ديننا وتراثنا.. ونحن أغنياء عن مقترحاتك تلك.! ص _ ص 5
(1/113)
قلت: تمنيت لو كانت غيرتك هذه فى موضعها! إننى معتز بدينى ولله الحمد.. ولكن ليس من الاعتزاز بالدين أن أرفض الجهاد بالصواريخ والأقمار الصناعية لأنها بدعة..! إن التفتح العقلى ضرورة ملحة لكل من يتحدث فى الفقه الإسلامى. إننا فى صمت نقلنا تسجيل كل مولود فى دفاتر خاصة واستعنا بذلك على تحصينه من الأمراض، وإلحاقه بمراحل التعليم، واقتياده للجيش كى يتم تدريبه وإعداده للقتال. وذلك إجراء نقلناه عن دول أخرى دون حرج.. فماذا يمنع الفقيه المسلم من قبول كل وسيلة أصيلة أو مستوردة لتحقيق الغايات التى قررها دينه؟ إن النقل والاقتباس فى شئون الدنيا.. وفى المصالح المرسلة وفى الوسائل الحسنة ليس مباحا فقط.. بل قد يرتفع الآن إلى مستوى الواجب. ثم إن الدين فى باب المعاملات مصلح لا منشئ كما يقول ابن القيم، إنه لم يخترع البيع أو الزواج.. وإنما جاء إلى هذه العقود فضبطها بتعاليمه!. فالبيع ـ مثلا ـ بإيجاب وقبول ولا يجوز فيه الغش، أو الربا، أو الاحتكار.. الخ. والزواج ـ مثلا ـ بإيجاب ولا يجوز فيه الاتصال بالمحارم، ولا الافتيات على الولى.. ولا ترك الإشهار.. الخ. وفى شتى المعاملات إذا تحققت المصلحة فثم شرع الله! فما الذى يمنعنا؟ نحن- الذين جمدنا فقهنا وأغلقنا باب الاجتهاد ألف عام- أن ننظر فى الوسائل التى اتخذها غيرنا لمنع الفساد السياسى أو منع الاعوجاج الاقتصادى، ونقتبس منها ما لا يصادم نصا، ولا يند عن قاعدة؟ الحق أن التوقف فى هذا المجال ليس إلا امتدادا للكسل العقلى الذى سيطر على مسيرة الإسلام التاريخية أمدا ليس بالقصير..!! التردى الاجتماعى وهناك تقاليد اجتماعية لابد من إعادة النظر فيها، لتستقيم مع ديننا وأحكامه الصحيحة.. وهى تقاليد تتصل بوضع المرأة وتكوين الأسرة. إننى أحد الذين حاربوا تقاليد الغرب الجنسية، وجاهليته الذميمة فى إشباع الغرائز من الحرام.. وقد وقفت فى وجه الذين يحاولون نقل هذه التقاليد إلى بلادنا
(1/114)
وقفة جرت ص _ ص 6
علىّ المتاعب.. وإنى لراض كل الرضا عما أصابنى فى هذا الميدان.. لأنه فى سبيل الله.. إلا أنه حدث ما جعلنى أطيل الفكرة فى العلاقة بين الجنسين، ومكانة المرأة فى بنائنا الاجتماعى، لقد رأيت البعض يؤكد أن المرأة قعيدة بيتها.. لا تخرج منه أبدا إلا إلى الزواج أو إلى القبر.. قلت: أهذا هو البديل الإسلامى عن حالة المرأة فى الغرب.. بشقيه الشيوعى والرأسمالى؟ لا.. الإسلام غير ذلك.. إن قرون التخلف التى مرت بنا انتهت فى القرن الماضى بوضع للمرأة المسلمة لا يقول به فقيه مسلم!. لقد رأيت المرأة فى بلادنا لا تدخل مسجدا أبدا.. بل فى قرانا.. وكثير من المدن كانت المرأة لا تصلى وهى إلى جانب هذا الحرمان الروحى كان التعليم محرما عليها.. فلا تدخل مدرسة أبدا.. وقلما يؤخذ لها رأى فى الزواج.. ويغلب أن يجتاح ميراثها. وإذا انحرف الشاب تسوهل معه.. أما إذا انحرفت المرأة فجزاؤها القتل..! هل هذه المعالم المنكورة لحياة المرأة تنسب إلى الإسلام؟ الله يعلم أن الإسلام برىء من هذه التقاليد، كما هو برىء من المفاسد الجنسية فى أوروبا وأمريكا..! ومع ذلك فإن منتسبين إلى الإسلام وعلومه، يرتضون هذه الأحوال أو لا يتحمسون لتغييرها.. وأذكر أنى كنت ألقى محاضرة فى اليوم العالمى للمرأة، فلما قلت: إن وجه المرأة وصوتها ليسا بعورة.. حدثت ضدى مظاهرة صاخبة، وسمعت طالبا يقول لزميله: كنا نحسن الظن بهذا الرجل فإذا هو شر من قاسم أمين!. ولست ـ ولله المنة ـ مفرطا فى دينى، ولكنى مشفق على حاضره ومستقبله من الجهال القاصرين.. لا سيما إذا واتتهم فرصة فتحدثوا عنه وتكلموا باسمه. وأسوق للقراء قصة وقعت فى مؤتمر نصرانى ـ إسلامى انعقد فى أستراليا فى السنة الماضية 1399 هـ : ص _ ص 7
(1/115)
روى هذه القصة الدكتور "حسن باجودة" رئيس قسم الدراسات العليا العربية ـ كلية الشريعة، قال: "نظرت فوجدت المرأة فى سمت عفريت داخل قاعة المؤتمر.. كانت مغطاة من أعلاها إلى أدناها مستخفية الوجه واليدين، تطل على الحضور من وراء ثقبين فى نقاب الوجه عليهما غطاء من زجاج أو باغة.. قلت: ما هذا؟ قالوا: سيدة نصرانية جاءت تحتج على ظلم الإسلام للمرأة.. فارتدت هذا الزى الشرعى! عند المسلمين لترى النساء فى أستراليا ما يعده الإسلام لهن إذا انتشر فى هذه القارة الجديدة..". إن الحجاب الإسلامى يحفظ للمرأة شرفها. ويرد عنها عيون الذئاب.. وليس كما يتصور القاصرون أنها فى سمت عفريت.. لماذا تحترم الراهبات ولا تحترم المحجبات وزيهما واحد؟!. قال لى أحد المبعوثين فى لندن: إن رجلا إنجليزيا أبدى إعجابه بالإسلام ثم قال: لكنى أذهب مع امرأتى إلى الكنيسة يوم الأحد.. فأين تذهب امرأتى إذا كنتم تمنعونها من المسجد فلا تدخله طوال الأسبوع؟.. قلت: ما حدث فى أستراليا وفى إنجلترا حجة على المسلمين لا على الإسلام !. فليس فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن وجه المرأة عورة يجب أن تستر.. ولا فى كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنها تمنع من دخول المسجد.. إن ناسا غلبهم الهوى هم الذين شرعوا هذه التقاليد بعدما تعسفوا فى شرح الآى بتفاسير مرفوضة، تفاسير لم يقل بها واحد من الأئمة الأربعة الذين انتشر فقههم فى طول البلاد وعرضها.. وقد دهشت لأن عالما من شنقيط ـ وهو قطر مالكى المذهب ـ وقف فى المسجد النبوى يقول أثناء إلقاء درس له: إن مالك بن أنس يقول: إن وجه المرأة ليس بعورة.. وأنا أخالف مالك بن أنس!! قلت: ليس مالك وحده الذى يقول ذلك.. بل سائر الأئمة الأربعة إلا رواية واهية عن أحمد بن حنبل تخالف المقرر من مذهبه، كما حكى ذلك ابن قدامة الحنبلى. ص _ ص 8
(1/116)
والشيخ الشنقيطى ـ غفر الله له ـ حين يخالف أو يوافق ما يقدم ولا يؤخر، وذكرت قول الشاعر: يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتمُ حتى يكون لكم عندُ؟!. إن التربية الراشدة الناضجة هى الضمان الأول لكل نهضة، والبيت هو المدرسة الأولى لتلك التربية، وعندما تكون المرأة صفر العقل والقلب، لا ثقافة فى مدرسة.. ولا عبادة فى مسجد.. فمن أين تحقق التربية المنشودة. إنه لا مجتمع يصلح عندما تكون المرأة حيوانا يحسن تقديم الأكل والمتعة.. وحسب! أسباب الانهيار والانهيار الذى عرض لأمتنا فى العصور الأخيرة يرجع إلى أسباب علمية واقتصادية وسياسية كثيرة.. بيد أن فقدان التربية السديدة، والأخلاق الصلبة يرجع إلى العوج الهائل فى وسائل التربية وأول ذلك المرأة المخرفة الغافلة، والبيت الساذج المحدود.. لقد كانت النساء فى العصر الأول تصلى التراويح فى مساجد خاصة بهن حتى جاء أخيرا من يمنعهن أداء الفرائض فى بيوت الله.. وكن يبايعن الإمام على نصرة الإسلام، ومكارم الأخلاق.. حتى جاء من يقوم بتجهيلها عمدا فى قضايا الإسلام الكبرى، ومكافحة أعدائه المتربصين به.. وقال لى رجل ـ ممن يرون سجن المرأة ـ: نحن نعلمهن كل شىء، ولا يخرجن من بيوتهن!. فقلت له: إننا نغرق فى محاولات مضنية لرفع مستواكم الفكرى، ولا نكاد ننجح! فكيف نأمنكم على وظائف التربية والتعليم؟ ثم هذا الذى تقوله.. أما كان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعرفونه عندما فتحوا المسجد للمرأة، وأذنوا لبعضهن بالمسير مع الجيش؟! إن الإسلام لا يؤخذ من أصحاب العقد النفسية.. سواء كانت غيرتهم عن ضعف أو شبق جنسى.. إن الإسلام يؤخذ من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمجتمع الذى يصنعه الكتاب والسنة يجعل المرأة تلد ذريات مشرفة، باهرة الأخلاق.. لا دابة تلد حيوانات. ص _ ص 9
(1/117)
فى هذه السنة قرأت أسماء من نالوا جائزة "نوبل" العالمية.. فإذا بين العمالقة المختارين اسم راهبة فى الهند تدعى "تريستا"!. وتساءلت: لماذا منحت هذه الجائزة؟ وكانت الإجابة: أنها نجحت نجاحا تاما فى أداء رسالتها التبشيرية!. قالت صحيفة "الرائد" التى تصدر فى الهند: "إنها من مركز عملها فى "كلكتا" منذ سنة 1947 م كانت تقوم بخدمات عظيمة فى إغاثة المنكوبين ورعاية المرضى.. وتقدر قيمة الجائزة التى نالتها بمليون ونصف روبية.. وكان "السيناتور كيندى" قد رشح الراهبة عندما زار الهند فى أثناء أزمة "بنجلاديش" واطلع على الجهود التى بذلتها لإسكان لاجئى باكستان الشرقية، وقد شاهد بنفسه نشاط الراهبة التى تعمل لنشر الدين المسيحى بين شتى الطبقات وبين البؤساء والمساكين والمضطهدين.. وذلك عن طريق فتح شبكات "كذا " المدارس والمستشفيات والملاجئ، ودور رعاية اللقطاء والأطفال المهجورين. ويعرف مدى نشاط هذه الراهبة، واتساع الرقعة التى تعمل فيها إذا ذكرنا أن 250 راهبة يعملن تحت إشرافها فى دائرة "كلكتا" وحدها، ويبلغ عدد الراهبات التابعة لمركزها 1800 راهبة فى عشرين بلدا منها بلاد عربية!! وتدير منظمتها الخيرية 87 دارا للأيتام فى الهند و 40 دارا فى خارجها و 213 مستشفى للعلاج بالمجان و 54 مستشفى للمجذومين و60 مدرسة للتعليم، ومستشفى من مائة سرير للمرضى اليائسين الذين ينتظرون الموت!!". قالت جريدة "الرائد": "واعترافا بخدماتها منحتها الخطوط الجوية الهندية، وكذلك السكك الحديدية رخصة للسفر بالمجان". إننى أسوق هذا الخبر لنفر من المتكلمين باسم الإسلام يرون المرأة فى الجامع أو الجامعة قذى فى أعينهم، ويضعون العوائق من عند أنفسهم ـ لا من عند الله ـ كيلا يكون للنساء وجود فى ميادين الأمر والنهى، والنصح للعامة والخاصة.. وهم مهرة فى لى أعناق الآيات، وقلب الأحاديث النبوية رأسا على عقب، وتحريف الكلم عن مواضعه حتى يأخذ الناس دينهم من
(1/118)
عقول بها مس.. ص _120
وأعرف الآن نساء يقمن بعمل رحب فى خدمة بيوت الطالبات، و إنشاء المؤسسات الصحية والثقافية.. فى مقدمتهن السيدة الجليلة "زهيرة عابدين" الأستاذة بكلية الطب جامعة القاهرة.. وقد استعانت بى فى فتوى متواضعة لتمنع متخرجة فى كلية الصيدلة من القعود فى البيت والارتزاق من آلة الخياطة.. لأن أحد المشايخ قال لها: "إن المرأة لا يجوز أن ترى أحدا أو يراها أحد!". قلت لها: هذه فتوى مخبول لا يعرف الإسلام.. بل هو وأمثاله قرة عين لأعداء الإسلام.. فلا يحرم الإسلام على المرأة أن تبيع وتشترى. وأن تتعامل مع الناس، ما دامت مستترة فى زيها الإسلامى متأدبة بآداب الإسلام، غير متبرجة بزينة.. تحفظ نفسها وعرضها من الذئاب. الثقافة الإسلامية السائدة وضرورة الانتفاع من عبر الزمان ومر القرون تقودنا إلى حديث عن الثقافة الإسلامية السائدة وجرائم الاسترخاء والفناء التي تسرح فيها.. إن هذه الثقافة اختلطت بها عناصر سامة من جهالات الدهماء، وأهواء الخاصة، وخرافات أهل الكتاب، وزيغ الجاهلية القديمة، وإيحاءات الحكام الطاغين.. وكم أذكر حاجة المسلمين بين الحين والحين إلى علماء نقدة من الصنف العبقرى الذى قال فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". وكما اختلطت بالثقافة الدينية هذه المواد الضارة، فإنها نقصت أجزاء مهمة.. لتكون صورة صحيحة للقيم والغايات الإسلامية. وهذا النقصان هو السبب فى اضمحلال العلم الدينى داخل حدود العالم الإسلامى وخارجه.. ولا أريد الآن ضرب أمثلة كثيرة من علوم الكلام والتفسير والحديث والفقه.. فإن الأمر فى هذه الميادين يحتاج إلى مؤتمرات تنعقد باستمرار.. لمصادرة الزوائد المؤذية، واستكمال العناصر المفقودة. وإنما أضرب المثل من علمين شعرت ـ وأنا أحدث الجماهير ـ بمدى عجزنا فيهما.. الأول: علم التاريخ،
(1/119)
والثانى: علم الدعوة. ص _121
إن التاريخ يسجل الوقائع ويستخلص منها العبر.. وعلم التاريخ الإسلامى فى كلا المجالين مقصر. ونظرة عجلى إلى الأربعة عشر قرنا التى غبرت، وإلى الأقطار الفيحاء التى انداح فيها الإسلام خلال هذه المدة الطويلة، ونظرة أخرى إلى الهزائم والانتصارات، وظروف التقدم والتأخر التى عرضت لهذه الأمة.. تبرز بقوة أن علم التاريخ لم يتناول إلا مساحة محدودة من الزمان والمكان، وأن حساب الأرباح والخسائر مضطرب حينا ومعدوم حينا آخر. وأن محاكمة الأشخاص والأشياء إلى المثل الإسلامية غامضة أو ضائعة.. بل إن الوحدة الجامعة للأمة كلها على اختلاف الأعصار والأمصار تائهة فى هذا التاريخ الطويل.. كأن الأمر قصة مؤسسة افتتحت لها فروعا فى عواصم عديدة ثم طال الأمد ونسى الأصل ما تفرع عنه هنا وهناك..! ولولا لقاء الحجيج فى مكة ما عرف مسلمو (داكار) و(لاجوس) على المحيط الأطلسى أن لهم إخوة فى (إندونيسيا) و(الفليبين) على المحيط الهادى..!! أين التاريخ الذى يعرض هذا الكيان الطويل العريض فى نسق واحد، صفحات متقاربة؟ عندما كان تاريخ الإسلام سنين عددا، كان الصحابة يروون لأولادهم مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلاقة هذه الأمة بغيرها. فلما طال التاريخ وجد نفر من الرجال قد يروون الجد والهزل، وقد يعقبون بعبر قليلة أو لا يعقبون. ثم عجز التاريخ عن ملاحقة التحرك الإسلامى، ثم عجز أقبح العجز عن لفت الأنظار إلى غارات العدو على هذه الأمة. فإذا (الفليبين) مثلا تضيع منا فى صمت.. وهذا العنوان جلبته الصليبية الغازية لشرق العالم الإسلامى، ووضعته على مجموعة الجزر القريبة من إندونيسيا. وكانت هذه الجزر إسلامية مائة فى المائة، ثم أخذ الغزو النصرانى يلح عليها، ويتغلغل فيها قرنا بعد قرن حتى وضع عليها اسم "فيليب الثانى" ملك إسبانيا.. فأصبحت " الفليبين". ص _122
(1/120)
ومضى التنصير فى طريقه الدامى.. ومنذ قرن كان المسلمون نصف السكان.. وهم الآن خمس السكان.. والمراد الإجهاز عليهم واستئصال بقيتهم. ماذا كان يصنع الترك والعرب خلال هذه الحقب المشئومة؟ أين كتاب التاريخ والمعلقون على أحداثه الكبرى؟! لقد سكتوا كما سكت إخوان لهم من قبل وبعد كارثة الأندلس.. كأن ضياع الأندلس سقوط بضعة دريهمات من جيب ثرى متلاف..! عندما كنا طلابا درسنا للشيخ الخضرى محاضرات عن التاريخ العباسى.. وضعها رجل ذكى بصير.. ساق الأحداث بين يدى شرح ضاف للصعود والهبوط، والنصر والهزيمة، قلت: ما أحوج أمتنا إلى مثل هذا المؤرخ يلقى الضوء على تاريخها كله طوال أربعة عشر قرنا، متناولا بقلمه الكشاف أبعاد هذا التاريخ على خطوط الطول والعرض، وأجناس الدول التى صنعته أو شاركت فيه. إن ذلك لزام علينا حتى نواجه الردة المجنونة التى وقفت بتاريخ الإسلام العام، وجعلت العرب يضعون لهم تاريخا، والترك تاريخا، والعجم تاريخا، والهنود تاريخا..الخ.. إن للتاريخ رسالة واضحة الهدف، انتظمت أجناسا شتى، وعاشت أعصارا متطاولة.. رسالة مفروض أن تبقى إلى آخر الدهر.. إن هذا التاريخ يجب أن يكتب بأسلوب أجمع، وأفق أوسع مما هو الآن! ذاك عن علم التاريخ.. أما الدعوة إلى الإسلام فشأنها عجيب.. فى عصرنا الحاضر توجد أنواع من الإعلام تخدم بذكاء ودهاء ألوانا شتى من الإلحاد والانحراف. والأجهزة الخادمة للشيوعية والصهيونية والصليبية، بلغت من النجاح حدا كاد يقلب الحق باطلا.. ويجعل النهار ليلا.. أما الإسلام.. فإن الجهود الفردية التى بلغت رسالته من قديم لا تزال تواصل عملها بكلال وقصور.. وأكاد أوقن بأنه لولا عناية عليا ما بقى للإسلام اسم ولا كتاب. فإن أجهزة الدعاية الإسلامية وهم كبير.. حتى بعد قيام جامعات كبرى على الاهتمام بعلوم الدعوة وطرائق نشرها. ص _123
(1/121)
أين عمل الحكومات الإسلامية معروف أن الدعوة إلى الله تعالى عبادة يقوم بها المسلم القادر.. مرضاة لربه. وابتغاء ما عنده.. وقد نشط أفراد كثيرون لتبليغ الإسلام فى أرجاء العالم، وشرح صدور به كانت مغلقة. والجهد الفردى مهما قارنه من إخلاص قليل الثمر.. إنه يشبه نشاط التجار الصغار أمام الشركات الكبرى. أين عمل الحكومات الإسلامية؟.. وأين ما وضعته من خطط لنشر رسالة عالمية؟! إن الفساد السياسى عندنا كان السرطان الذى أودى بحضارتنا ورسالتنا خلال قرون مضت.. إن بعض حكامنا كانوا القشرة العفنة فى كياننا من زمن بعيد..!! ولكى نعرف الفروق بين نشاط ونشاط. نلفت النظر إلى أن "الفاتيكان" استطاع بأجهزته المنظمة أن يجعل عشرين دولة فى أمريكا الجنوبية تتبع مذهبا واحدا، وتنطق لغة واحدة.. أما نحن ففى الشام وحده جمدنا نحلا داخل الكيان الإسلامى، أو وفرنا لها النماء المستغرب.. فبقيت الفرق الباطنية إلى جانب اليهودية والنصرانية، بقيت داخل قطر إسلامى واحد ألف عام! أين أجهزة الدعوة.. بل أين أجهزة التعليم العادى؟؟! وكان فى الهند عشرات الملايين من المنبوذين.. هل فكرت الحكومات الإسلامية فى اجتذاب هؤلاء إلى الإسلام وحركت العلماء لدرس أحوالهم وكسب جانبهم؟ إن ما كان على الدولة أن تقوم به نهض به أفراد احتسابا.. ولا ننكر نجاحهم فى توسيع دائرة الإسلام شرفا وغربا. لكن الأفراد قد ينجحون فى نشر الإسلام لسهولة تعاليمه ومواءمته للفطرة.. بيد أنهم يعجزون عن تعليم اللغة العربية، وتيسير قواعدها. والعرب الآن سبع، أو ثمن مسلمى العالم الإسلامى. وقد نشأ عن توقف العربية.. وعجز اللهجات المحلية أن اهتبل أعداء الإسلام الفرصة فقاموا بعملين مهمين عميقى الآثار: الأول: نشر اللغات الأوروبية، خصوصا الإنجليزية والفرنسية.. ص _124
(1/122)
الثانى: كتابة اللغات القومية بالحروف اللاتينية.. ومعنى ذلك أن ما كتب باللغات المحلية والحروف العربية عن الإسلام خلال ألف عام أمسى لا قيمة له. انقطعت صلة الأجيال الجديدة به.. وسهل الطريق أمام هؤلاء ليتصلوا بثقافات أخرى. وديانات أخرى عن طريق اللغات العالمية التى تساندها الدول الاستعمارية!! الدعوة علم وفن ورسالة وفهم هذا جانب من عجزنا عن تبليغ دعوتنا.. أما علم الدعوة نفسه، وتكوين الدعاة الأكفاء لما يناط بهم.. فالكلام فيه مر المذاق.. وربما كان فى حديثنا المستأنف ما يشير إلى ما نقصد.. نظرت بعيدا عن دار الإسلام، وراقبت زحام الفلسفات والملل التى تتنافس على امتلاك زمام العالم.. فوجدت الإعلاميين أو الدعاة يختارون من أوسع الناس فكرا، وأرقهم خلقا، وأكثرهم حيلة فى ملاقاة الخصوم، وتلقف الشبهات العارضة. حتى البوذية ـ وهى دين وثنى ـ رزقت رجالا على حظ خطير من الإيمان والحركة.. لقد طالعت صور الرهبان البوذيين الذين يحرقون أنفسهم فى (فيتنام) ليلفتوا الأنظار إلى ما يصيبهم من اضطهاد.. وعرتنى رجفة لجلادة الرجال والنساء الذين يفعلون ذلك!. فلما رجعت ببصرى إلى ميدان الدعوة فى أرض الإسلام غاص قلبى من الكآبة!. كأنما يختار الدعاة وفق مواصفات تعكر صفو الإسلام وتطيح بحاضره ومستقبله.. وما أنكر أن هناك رجالا فى معادنهم نفاسة، وفى مسالكهم عقل ونبل.. بيد أن ندرتهم لا تحل أزمة الدعاة التى تشتد يوما بعد يوم. والغريب أن الجهود مبذولة لمطاردة الدعاة الصادقين من العلماء الأصلاء، والفقهاء الحكماء للقضاء عليهم، وترك المجال للبوم والغربان من الأميين والجهلة والسطحيين يتصدون للدعوة ويتحدثون باسم الإسلام. وراء ذلك مخطط استعمارى مدروس بدهاء، تنفذه الحكومات المدنية بدقة، حتى لا يبقى للإسلام لسان صدق، وحتى تبقى العقول المختلة هى التى تحتكر الحديث عن هذا الدين المظلوم! ص _125
(1/123)
ويوجد الآن شباب وشيوخ يعملون فى ميدان الدعوة، أبرز ما يمتازون به الجهل.. بالنسب التى تكون معالم الدين وتضبط شعب الإيمان..! تصور تلميذا يقال له: ارسم خريطة لجزيرة العرب.. ووضح مكان الحرمين بها.. فإذا هو يرسم الخريطة وليس بها إلا الربع الخالى.. فإذا سألته: وأين مكان الحرمين؟ وضع نقطا بين تبوك والأردن! أو تلميذا يقال له: ارسم خريطة لنهر النيل.. فإذا هو يجعل فرعى الدلتا يبدأان من الخرطوم لا من القاهرة. إن كلا التلميذين ساقط لا محالة فى هذا الاختبار.. فما الرأى إذا اختير كلاهما مدرسا للجغرافيا؟! أعداد غفيرة من المتحدثين فى الدعوة يشبهون هذا المدرس الجهول. قضايا صغيرة تتضخم فى رءوسهم، وقضايا تستخفى وحماس فى موضع البرود، وبرود فى موضع الحماس، وأحاديث ضعيفة أو منكرة تصحح، وصحيحة تضعف وترد. كنا ضيوفا عند أحد الناس. فسكب فى يدى قطرات من ماء الكولونيا.. فإذا أحد الدعاة يصرخ: "حرام! نجس!" فقلت له: دعنى ورأيى، إن مالكا ـ رضى الله عنه ـ يرى ريق الكلب وعرقه طاهرين.. ويراهما غيره نجسين. فلنتعاون فيما اتفقنا عليه.. ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه. فقال: اليد التى بها (كولونيا) نجسة، وتحرم مصافحتها! وعلمت أنى أحدث من لا يستحق المحادثة.. علمت أنى أمام امرئ مسعور! ورأيت طالبا فى القاهرة يريد أن يدخل كلية الطب بجلباب وقلنسوة.. وسألته: لم هذا الشذوذ؟ قال: لا أتشبه بالكفار فى ارتداء البدلة الفرنجية.. قلت: التشبه الممنوع يكمن فى انحلال الشخصية، وإعلان التبعية النفسية والفكرية لغيرنا، ولقد لبس الرسول صلى الله عليه وسلم جبة رومية كانت ضيقة الأكمام.. فلما أراد الوضوء أخرج ذراعيه أسفل.. ولكن الطالب الأحمق أبى وترك الدراسة الجامعية. نماذج من سوء الفهم وكنا يوما فى حفل جامع وكنت ألقى محاضرات "ذات بال" فى موضوع خطير.. ورأى أحد الصحافيين التقاط صورة للجمع الحاشد.. ولكن الداعية نهض يمنع ص _126
(1/124)
التصوير.. فلما أصر الصحافى على المضى فى عمله اتجه الداعى إلى الآلة ليكسرها. وجاءنى الواعظ الغيور يسألى: لماذا لم تمنع التصوير؟ قلت: لأنى أراه مباحا. قال: ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذابا المصورون"؟. قلت: إنه يعنى صانعى التماثيل للعبادة.. ولا يتصور أن يكون هذا الصحافى أشد عذابا من الزناة والقتلة والمرابين والظلمة.. قال: الحديث عام فلماذا تخصصه؟ قلت: خصصه الواقع الذى لا يمكن تجاهله.. فالوثنيون كانوا يعبدون أصناما مجسمة ولم يعبدوا صورا شمسية.. وعندما تكون الصورة الشمسية لصنم أو لصليب أو لمعنى دينى مرفوض فسنحرمها. أما التقاط الصوت فى شريط مسجل، أو التقاط الظل والملامح على ورقة لأغراض علمية أو اجتماعية فلا علاقة له بالوثنية، ولا يحكم عليه بتحريم.. بل هو كما نبه مسلم فى صحيحه ليس (إلا رقما فى ثوب).. قال: هذ ا الكلام مردود، ومحاضرتك عن الوحدة الإسلامية، وعن التناحر بين المسلمين لا تقبل. ما دامت مقرونة بإقرار التصوير! وشعرت بالضيق.. ثم كظمت غيظى ورفضت مواصلة النقاش. وأحيا آخرون السنة النبوية بالأكل على الأرض، واستخدام الأيدى، رافضين الأكل على الموائد، واستعمال الشوك والملاعق. قلت: من قال: إن الأكل على المائدة، أو استخدام الملاعق مخالف للسنة؟ إن فهم هؤلاء الناس للدين غريب، وإثارة هذه القضايا دون غيرها من أساسيات الإسلام مرض عقلى.. إنه ضرب من الخبال. إن المؤامرات تستحكم يوما بعد يوم لاغتيال الإسلام أو الإجهاز عليه جهرة.. فكيف يشتغل قوم بهذه السنن فقط ثم يتساهلون فى الواجبات وعظائم الأمور؟!! جاءنى أحدهم يسألنى بأدب: أنت فلان؟ قلت: نعم. قال: قرأت رسالة وزعت علينا تصفك بأنك تهاجم السنة! وأنك مع الشيخ "أبى رية" فى تكذيب الأحاديث! قلت فى سكون: وقعت هذه الرسالة فى يدى..! ص _127
(1/125)
قال: ما رأيك فى هذه التهم؟ قلت: ما رأيك؟ هل قرأت لى كتبا؟ قال: نعم، قرأت كتابك "خلق المسلم". قلت: فى هذا الكتاب وحده أكثر من ألف حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفى فقه السيرة وكتابين آخرين نحو ألفى حديث. فإذا أثبت رجل فى عشر مؤلفاته نحو ثلاثة آلاف حديث، فكيف يتهم بتكذيب السنة؟!. قال: إنك رددت حديثا صحيحا رواه البخارى ومسلم. وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أغار على بنى المصطلق وهم غارون! قلت على عجل: لقد رددت الفهم القذر الذى استقر فى ذهن بعض الناس لما قرأ هذا الحديث.. إننا نحمى السنة من أفهام الأراذل. قال: وحديث آخر من الصحاح رددته.. وهو حديث "أنه ما من يوم يجيء إلا والذي بعده شر منه" قلت: بل رده حديث آخر: "أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره" وحديث حذيفة الذى رواه مسلم وجاء فيه: "أن بعد الخير شرا وبعد الشر خيرا". ومن جملة الأحاديث الواردة فى القضية يفهم أن تاريخ الإسلام بين مد وجزر، وكربة وإيناس، ونصر وهزيمة.. أما القول بأن الإسلام يسير كل يوم إلى الهاوبة، وأن مستقبله مشئوم.. فقول مكذوب. قال: هذا ظاهر الحديث.. قلت: هذا ظاهر فهمكم أنتم لحديث لم تبلغ عقولكم غوره.! بم سينزل عيسى بن مريم؟ وحديث نزوله صحيح؟ أليس نزوله لمقاتلة الصليبيين ونصرة التوحيد، وذبح الخنزير، ووضع الجزية.. ألستم تقرءون هذا.. فأين الهاوية التى ينتهى إليها الإسلام حتما. هل السلفية التى تزعمونها هى اتهام رجل بتكذيب السنة لأنه أول حديثا يشعر ظاهره بسوء مستقبل الإسلام. أى تدين هذا الذى تزعمونه. وأى دعوة هذه التى تنشرون؟!.. الحق أن هناك أناسا يشتغلون بالدعوة الإسلامية وفى قلوبهم غل على العباد، ورغبة فى تكفيرهم أو إشاعة ص _128
(1/126)
السوء عنهم.. غل لا يكون إلا فى قلوب الجبابرة والسفاحين وإن زعموا بألسنتهم أنهم أصحاب دين.. إن فقههم معلوم. وتعلقهم إنما هو بالقشور والسطحيات. تطاول بغير علم إن الاكتراث البالغ بالشكل يتم عادة على حساب الموضوع، كما أن الاهتمام الشديد بالنوافل يكون على حساب الأركان.. وأذكر أنى دخلت المسجد النبوى عقب أذان المغرب وجلست فى انتظار الصلاة التى قدرت أنها ستقام توا.. فإذا شخص يقول لى بكبرياء؟ لماذا لم تصل النافلة؟ فقلت له: هما ركعتان لمن شاء! لا إلزام هنالك! قال: أعنى تحية المسجد.. قلت: لا إلزام كذلك.. وما هى إلا لحظات حتى أقيمت الصلاة وتهيأ للفريضة وقال لى مراقب الحوار: أيمكن أن يكون قبل المغرب أربع ركعات؟ فقلت له: لا.. وهذا امرؤ يريد الاستطالة علىّ بغير علم، ولو أنه صرف نشاطه فى تعليم اللغة العربية لرجل أعجمى لكان ذلك أرجى له عند الله من النوافل التى يريد توبيخنا على تركها. إن هناك مشتغلين بالعلم الدينى، قاربوا مرحلة الشيخوخة ألفوا كتبا فى الفروع، وأثاروا معارك طاحنة فى هذه الميادين.. ومع ذلك فإن أحدا منهم لم يخط حرفا ضد الصليبية، أو الصهيونية، أو الشيوعية. إن وطأتهم شديدة على الأخطاء بين أمتهم، وبلادتهم أشد تجاه الأعداء الذين يبغون استباحة بيضتهم. بأى فكر يحيا أولئك؟! تصور شخصا ذهب إلى خياط ليصنع له جلبابا، فهو يقول له: أريد الكم مضاعف الأساور، واصنع فى كل طرف عروة مكشوفة لتظهر الأزرار منها! لكن بلغنى أن الصيحة الأخيرة فى دنيا الأزياء مضاعفة العرا وتغطيتها، اصنع لى عروتين فى كل كم وغطها بحيث تخفى من تحتها الأزرار!! وإذا كان لديك (كباسين) بدل الأزرار ربما كان ذلك أفضل، وقد رأيت البعض يصنع ثلاث عرا لوضع ثلاثة أزرار.. ماذا ترى؟ أيكون ذلك خيرا أم.. الخ. ص _129
(1/127)
هل الدماغ المشغول بهذه القضايا يصلح لشىء طائل فى الحياة.. أهذا رجل يتماسك فى تفكيره أمر ذو بال؟ إن أعدادا كبيرة من المتدينين تائهون فى هذه الموضوعات، وقد استقلت الباكستان من ثلث قرن. ولكن الخلاف بين الأحناف وأهل الحديث، وبين التبليغيين ورجال الجماعة الإسلامية، وبين فرق أخرى نسيت أسماءها.. هذا الخلاف جعل الهند الوثنية تظفر وتستقر وتفجر الذرة. الاشتغال بالجزئيات على حساب الكليات أما الدولة المسلمة فهى منتكثة الشمل داخل فنون من النزاع الطائش قصم ظهرها وهدد وجودها! إن هذا الدوخان فى دوامة الرسوم والمظاهر، أو فى دائرة هيئات العبادة وأقدارها نشأ عنه أمران خطيران.. كلاهما يهوى بالأمم من حالق، ويذهب بريحها: الأول: ضعف الخلق.. فقد ترى الرجل دقيقا فى التزام المندوبات الخفيفة.. فإذا كان تاجرا احتكر السلع دون مبالاة، وإذا كان موظفا تبلدت مشاعره فى قضاء مصالح الجمهور، وإذا كان رئيسا وجدته سيئ الملكة، قاسى القلب، مكشوف الهوى. وقد ترى العابد من هؤلاء يضع يديه على صدره وهو قائم للصلاة ثم يعيد وضعهما بعد الرفع من الركوع، ويثير زوبعة على ضرورة ذلك.. فإذا كلفته بعمل ترقى به الأمة اختفى من الساحة!. وكم تفتقر أمتنا داخل البيوت، وأوساط الشوارع، وفى الدكاكين والدواوين، وفى الأسواق والمعاهد، وفى كل مكان، إلى الأخلاق الضابطة الصارمة كى تؤدى رسالتها الجليلة على نحو جدير بالاحترام.. ولكن الاكتراث بالمراسم غض من هذه الأخلاق. أما الأمر الثانى: فهو العجز العجيب عن فقه الدنيا، والاقتدار على تسخيرها لخدمة الدين.. إن الدين الحق تقوى تعمر القلوب، من العبادات، لا يستغرق تعلمها زمانا. ثم مهارة فى شئون الحياة تتحول مع صدق النية إلى وسائل لدعم الحق وسيادته. إن تعلم الصلاة ـ وهى الركن الأول فى الإسلام ـ لا يستغرق دقائق معدودات.. ص _130
(1/128)
ولكن التدريب على اقتياد دبابة أو طائرة أو غواصة يحتاج إلى زمان طويل.. فبأى فكر يطلع علينا القرن الخامس عشر وجمهورنا جاهل فى فنون الجهاد، وبارع فى الحديث حول تحية المسجد، ووضع اليدين فى الصلاة؟ مستغرق فى قضايا جزئية. إن هناك علماء- هم فى حقيقتهم عوام- لا شغل لهم إلا هذه الثرثرات والتقعرات، وقد أضاعوا أمتهم، وخلفوا أجيالا من بعدهم لا هى فى دنيا ولا هى فى دين!! لننظر كيف يحيا أعداؤنا اليهود وقد تأذنت الأقدار بقيام إسرائيل على أرض فلسطين الإسلامية.. فهل مددنا أبصارنا لنعرف كيف يحيا القوم وكيف ينصرون اليهودية؟! لقد بنوا وجودهم على إقامة مجتمع صناعى متمرس بالعلوم المادية، خبير بأسرار الكون.. يستغل الهواء والشعاع لدعم إسرائيل وتبويئها الذروة..!! المراوح تستخدم لاستخراج المياه الجوفية، والشمس تستغل لتسخين المياه..!! وجن سليمان ينظرون إلى العرب الذين ينشدون اللذة، أو العرب المشغولين بقشور العبادة.. على أنهم قطعان تسرح فى أقطارها إلى حين.. لماذا جهلنا أسرار الحياة، وعمينا عن قوى الكون.. ولدينا كتاب لا نظير له فى لفت الأبصار إلى هذه وتلك؟ بم شغلنا؟ وما هى البحوث والقضايا التى حبست أفكار العامة والخاصة؟! إذا كان الآباء قد شغلهم الترف العقلى.. فإن الأبناء قد شغلهم السخف العقلى. فى رسالة عن التقدم العلمى داخل إسرائيل قرأت هذه العبارات عن الدولة التى تبنى نفسها فوق أنقاضنا.. قال الكاتب: "إن فشلها فى الحصول على طاقة كهربائية رخيصة من المصادر المائية قد جعل معظم الأبحاث العلمية والتطبيقية تتجه نحو إيجاد بديل للطاقة الكهربائية.. مثل الطاقة الهوائية والشمسية والذرية.." وقال: "نجح الجيولوجيون فى إيجاد المياه اللازمة للمزارع القريبة من شاطئ المتوسط، ويعمل الخبراء فى حفر عدد كبير من الآبار الارتوازية فى منطقتى: الجليل ويهودا.. ص _131
(1/129)
وقد تعاون المهندسون المائيون ومعهم الفيزيائيون فى دراسة حركة المياه الجوفية، واستخدموا النظائر المشعة فى مثل هذه الدراسات.. حيث حقنوا مياه بعض الآبار بمحلول مشع ثم أخذوا عينات من مياه الآبار الأخرى القريبة من مركز الحقن، وحللوها وعينوا كمية تركيز الإشعاع فيها.. وبذلك استطاعوا أن يحسبوا كمية المياه الجوفية واتجاهها وسرعتها، وأن يعينوا عمقها وتركيبها. كما أنهم استخدموا تطبيقات النظائر المشعة فى تعيين واختبار التبخر الكلى والجزئى.. كما أن خبراء الرى قد استخدموا أحدث الطرق الفنية فى شق القنوات لتحويل مياه الأردن إلى صحراء النقب.." وقال: "نجح الإسرائيليون سنة 1964 فى استغلال بعض الأراضى الصحراوية وتشجيرها، وأقاموا مزارع نموذجية فى أفدات Avdat وشيفا Shive، ولا تزال أبحاث مستمرة فى مختبرات معهد أبحاث المناطق الجافة (فى بئر السبع) من أجل تحلية المياه الصحراوية.. " وقال : "ويستخدم خبراء المائيات طريقة جديدة مشجعة تعرف باسم طريقة زاركين للتحلية (Zrakin Desalination Process) نسبة إلى اللاجئ الروسي "الكسندر زاركين" الذى اكتشف هذه الطريقة.. وتقوم هذه الطريقة الجديدة على تجميد مياه البحر، وفصل الأملاح آليا.. فعندما ينخفض الضغط الجوى الواقع على الماء فى وعاء محكم الإغلاق.. يمكن عندئذ جعل غليان المياه أدنى بكثير مما هى عليه فى الحالة العادية.. وهكذا فإن مياه البحر توضع فى غلاية مفرغة من الهواء فى درجة حرارة أقل من درجة الصفر المئوى.. وعندما يتبخر الماء فإن الحرارة الباقية فيه تنفذ منه فيتحول رأسا إلى جليد.. ولكن الملح لا يتجمد، بل ينفصل عن الماء آليا.. حيث يمكن جمع الجليد على حدة، والملح الذى كان ذائبا فى الماء يجمع على حدة أيضا.. وأقيم فى إيلات مصنع لفصل الملح عن الماء على هذا الأساس ينتج يوميا 24000 لتر من الماء العذب، وقامت تعاونية "فيربنكس ويتنى Fairbanks Whitncy" ببناء مصنع آخر عام
(1/130)
1962 ينتج يوميا مليون لتر من الماء العذب.. ويهدف المشروع إلى تأمين مياه عذبة رخيصة بحيث يكون سعر كل 100 لتر حوالى 3 قروش لبنانية. وهذا السعر أرخص من سعر الماء العذب فى القدس مثلا". ص _132
وعن جهود اليهود فى توليد الطاقة الكهربائية قال: تزود إسرائيل بالطاقة الكهربائية بواسطة التعاونية الفلسطينية المحدودة للكهرباء التي تحمل اسم "ب.روتنبرغP. Rutenberg " الذى عمل مديرا لهذه المؤسسة حتى وفاته عام 1942. وتمون هذه التعاونية إسرائيل بالطاقة الكهربائية ما عدا مدينة القدس وضواحيها وتشير الإحصائيات إلى أن استهلاك الطاقة الكهربائية خلال الثلاثين سنة الأخيرة قد ارتفع من مليونى وات عام 1928 إلى 360 مليون وات عام 1958، وتتراوح مجموعة مبيعات الطاقة الكهربائية فى الفترة نفسها من 3 ملايين كيلو وات/ ساعة إلى 1800 مليون كيلو وات/ ساعة". وعن الطاقة الهوائية: Wind Energy "قام المهندس ج. فرانكيل J. Frankiel من مهندسى التكنيون بإجراء دراسة شاملة للرياح فى إسرائيل.. واقترح على الدولة البدء باستغلال الطاقة الهوائية فى الأمور الصناعية ومما قاله فى تقريره: (إن استغلال الطاقة الهوائية مهم جدا فى تطوير الصناعة الإسرائيلية ما دمنا لا نزال نستورد الوقود اللازم - لتوليد الطاقة - من الخارج!). ووضع فرنكيل برنامجا خاصا لاستغلال الطاقة الهوائية وقام الخبراء بناء على هذا البرنامج بمسح مناخى للمناطق التى تتوفر فيها الطاقة الهوائية بكمية صالحة للاستغلال، وتبين أن مناطق الجليل، ومرج ابن عامر، وجب الكرمل، وعرفة (Arave) فى النقب هى المناطق الصالحة لإقامة منشآت استغلال الطاقة الهوائية. وأجريت تجارب ناجحة على محرك صغير طاقته 3 كيلو وات فى إيلات خلال 3 سنوات متتالية.. ونتيجة للأبحاث والدراسات المستفيضة وقع الاختيار على منطقتين لبناء المنشآت الخاصة باستغلال الطاقة الهوائية واستخدامها.. وأقيم فى كل محطة برج عال يبلغ
(1/131)
ارتفاعه 40 مترا. ونصبت فى أعلى البرج الأجهزة العلمية الدقيقة مثل: جهاز قياس سرعة الرياح (Ane Mographe)، وقياس اتجاه الرياح (Aue Montez) وقياس ضغط الهواء (Manoneter)، وقياس طاقة الرياح (Wind Energy Counter) واستخدم فى إحدى المحطات طوربين هوائى لتوليد الكهرباء تبلغ طاقته 200 كيلووات. ص _133
وتقوم محطة هامة للطاقة الهوائية فى جيفات هامور (Givat Hamore) فى مرج ابن عامر.. وتبين الأرصاد التى سجلتها هذه المحطة حول سرعة الرياح فى شتى الاتجاهات أن سرعة الرياح تزيد عن عشرة أمتار فى كل ثانية كلما ارتفعنا فى الجو مقدار 100 متر.. وهناك محطة أخرى فى شمالى غرب النقب.. وبناء على الأرصاد التى سجلتها هاتان المحطتان خلال 5 سنوات قامت السلطات المختصة ببناء22 مركزا لتوليد الطاقة الكهربائية للأغراض الصناعية بواسطة الرياح. وبلغ مقدار الطاقة الهوائية المسجلة بين 1200- 1300 كيلو وات/ ساعة فى المتر المربع سنويا، وتستغل الطاقة الهوائية حاليا فى إسرائيل لرفع المياه من الآبار ولتوليد الطاقة الكهربائية" الطاقة الشمسية (Solar Energy) قال: "تدل الأرصاد المناخية على أن إسرائيل تتمتع خلال السنة بمدة 8 أشهر تكون الشمس مشرقة إشراقا كاملا دون غيوم. وهذا ما يشجع الخبراء على دراسة إمكانات استغلال الطاقة الشمسية فى الأمور الصناعية. ونجح الخبراء الإسرائيليون حتى الآن فى استخدام الطاقة الشمسية فى كثير من التطبيقات الصناعية. فالمنازل فى النقب تحتوى على سخانات شمسية لتسخين المياه والتدفئة المركزية. وتجمع الطاقة الشمسية بواسطة أجهزة خاصة تسمى لوحة التجميع المسطحة (lat Plate Collector) حيث يمكن بواسطتها تسخين المياه باستمرار. وحقق العلماء فى معهد النقب عام 1958 مشروعا ضخما لتوليد البخار بواسطة الطاقة الشمسية.. ولقد أقيمت منشآت كبيرة، تتضمن أجهزة للتجميع (الجوامع) (Collectors) ومركزات (Concentrators) ومحركات شمسية
(1/132)
(Solar Motors) واستخدمت فى أجهزة التجميع مرايا من الألمنيوم أسطوانية مخروطية (Cylindrical Parabolas) تعمل على جمع الأشعة فى نقطة اجتماع واحدة (بؤرة) وهذه المرايا ترتكز على محور شرق- غرب وتتجه نحو الجنوب، وتتحرك الأسطوانات الجامعة آليا باتجاه حركة الشمس.. وينتج هذا المصنع طنا من البخار يوميا.. وهناك إمكانيات أخرى لاستغلال الطاقة الشمسية عن طريق بناء أحواض شمسية خاصة تكون قليلة العمق، وقاعها مطلى بطلاء أسود اللون.. فعندما تسقط أشعة ص _134
(1/133)
الشمس على ماء يسيل فوق سطح أسود قليل العمق.. فإن الماء يتبخر بسرعة.. وتعتبر محطة الطاقة الشمسية القائمة على شاطئ البحر الميت من أهم المحطات التجريبية فى هذا الصدد. وحدث تطور هام فى استخدام الطاقة الشمسية فى عام 1960.. إذا نجح الخبراء الإسرائيليون فى صنع برادات شمسية تقوم على استخدام تيار دائم من بخار الماء وبعض المركبات الغازية، وتمكنوا من الحصول على البخار بواسطة جهاز خاص من المرايا والعدسات المتحركة باتجاه حركة الشمس.. وفى نهاية عام 1961 بنت السلطات المختصة 45 محطة لقياس الطاقة الشمسية، وزودت كل منها بجهاز لقياس مدة الانقشاع أو الإشعاع (Insoletione) يعرف باسم هيليوغراف (Heliograph) وجهاز قياس الطاقة الشمسية المعروف باسم (Actmometer) الذى يقيسها بالشعرة فى كل سم مربع وفى كل دقيقة. وغير ذلك من الأجهزة الدقيقة التى تلقى ضوءا على العلاقات القائمة بين الطاقة الشمسية وأوضاع المنطقة الجغرافية من حيث الارتفاع عن سطح البحر وخطى الطول والعرض الجغرافيين". ماذا يصنع المسلمون فى أقطارهم ؟ وهكذا بنى اليهود دولتهم فى فلسطين تحت علم إسرائيل فماذا يصنع المسلمون فى أقطارهم الفيحاء؟ عندما شكا رئيس وزراء مصر السابق الدكتور مصطفى خليل من أن الدولة تدفع أربعة جنيهات ثمنا لعبوة أنبوبة (البوتوجاز) تساءلت: أين الطاقة الشمسية ولماذا استغلت فى فلسطين المسروقة، ولم تستغل فى أراضينا الواسعة؟! لقد قال حافظ إبراهيم من خمسين سنة: شمسهم غادة عليها حجاب شمسنا غادة جلاها السفور هل نحن مهرة فى الغزل وحسب؟ وأين صراخ علماء الدين بإعداد ما نستطيع من قوة؟ لا صراخ ولا همس!.. لأن هناك شغلا بقضايا، وخلافات فرعية. ص _135
(1/134)
والصغار دائما يهتمون بالصغائر، فإذا رأيت من يهتم اهتماما هائلا بقبض اليدين فى الصلاة.. أهو فوق السرة أم أعلى الصدر.. ويستثير ذلك أعصابه أكثر مما يستثيره قتل عشرة آلاف مسلم فى (تشاد) فاعلم أنك أمام مسخ من الخلق لا يؤمن على دين الله ولا دنيا الناس، وهذا النفر من المتدينين عبء على الأرض والسماء. والأمة التى تسلم زمامها إلى هذا الإنسان المخبول إنما تسلمه لجزار. ودين الله أشرف من أن يتحدث فيه هؤلاء الحمقى. بين يدى القرن الخامس عشر بين يدى القرن المقبل أطلب من المسلمين أن يطرحوا الأسمال العقلية والاجتماعية التى أزرت بهم، وحطت مكانتهم، وأن ينصفوا الإسلام من أنفسهم حتى يستطيع هذا الدين الانطلاق فى الأرض، وإسعاد البشرية، وتحقيق الرحمة العامة للعالمين.. أما استقبال القرن الخامس عشر بحكم فردى يخنق الحرية، ويستبيح الحرمات. أو استقباله بقوانين تملك المال ولا تملك العدالة والرحمة. أو استقباله ببطالة عقلية تهمل العمل والفكر وتحقر نتائجهما، وتؤخر العباقرة وتقدم التافهين.. أو استقباله بعوائل همها فى الحياة المتعة لا التربية، والفوضى الاجتماعية لا الأخلاق الدقيقة والتقاليد الزكية. أو استقباله بقصور علمى فى المادة وما وراء المادة.. أى فى شئون الدين والدنيا جميعا. أو استقباله بذاكرة مفقودة.. لا تستفيد من التجربة ولا تنتفع من عبر التاريخ. أو استقباله بدعاة يتساءلون عن الصلاة مع دم البعوض في قمصانهم.. ولا يتساءلون عن مستقبل أمة أرخص دمها، حتى أصبح سفكه لا يثير جزعا ولا فزعا.. إن استقبالنا للقرن الخامس عشر على هذا النحو هو خزى الأبد.. فإما عشنا مسلمين حقا.. وإما ممات لا قيامة بعده ممات لعمرى لم يقس بممات!
ص _003
(1/135)
تمهيد لا أدرى لماذا يخالطنى شعور بأنى أعيش فى القرن السابع أيام سقوط "بغداد" ووفاة الدولة العباسية، أو بعد ذلك بقرنين أيام سقوط "غرناطة" واختفاء الإسلام من "الأندلس"؟!! نعم أنا أحيا فى القرن الخامس عشر للهجرة. والمسلمون خمس العالم ومنتشرون فى كل القارات، بيد أن هزائم ثقيلة تنزل بهم، ومؤامرات لئيمة تحاك لهم، وظلمات كثيفة تتجه إلى مستقبلهم، ويستحيل أن يبتسم مسلم مخلص وهو يرى هذا الهوان يكتنف دينه وقومه! وكيف يبتسم وهو يرى الأخطار تتجه إلى قلب أمته وأطرافها، والأعداء وهم جادون فى الإجهاز عليها، ومع ذلك فجماهيرنا تلهو وتلعب! إن الذنوب التى نقارفها، والتوافه التى تشغلنا هى الثغرات التى ينفذ العدو إلينا منها، ويحكم قبضته علينا، ولا نزال نلفت الأنظار إلى مصادر الخطر على حياتنا كلها إنها: أولا: مواريث الثقافة المغشوشة التى تحتضن البدع والخرافات، ولا تعرف عادة من عبادة، ولا ركنا من نافلة، ولا دنيا من آخرة، ولا ترسم للإسلام صورة صحيحة تبرز فيها أجهزته المرئية وسماته التابعة، وأهدافه الأولى، ومطالبه الثانوية... وثانيا: ما وفد به الاستعمار الثقافى للحضارة المنتصرة! إنها حضارة تعبد اللذة، تزدرى الآخرة، وتنسى الله وتجحد حقوقه. وقد سخرت الأرض ـ التى خلقها الله لعباده ـ لخدمة إلحادها على حين وقف المؤمنون الذين يجهلون قواها لا يحسنون دفاعا بل لا يستطيعون حراكا... إن الدعاة الحقيقيين للإسلام لابد أن يكتئبوا، ولا يعنى ذلك تكاسلا واستسلاما، إنهم يشمرون عن سواعدهم ويرتبون صفوفهم، ويدافعون عن دينهم، ولا يزالون فى كفاح حتى يحكم الله لهم.. محمد الغزالى 3/12/1995
(1/136)