هلمّ نخرج من ظلمات التيه !
محمد قطب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
ِ
( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ الأنعام:153]
صدق الله العظيم
مقدمة
" هلم نخرج من ظلمات التيه . . ! "
هذا نداء للأمة كلها التي تنطق بلسانها " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " .
إن هذه الكلمة العظيمة هي التي أخرجت هذه الأمة إلى الوجود أول مرة ، وهي التي رفعتها إلى مقام الخيرية على كل أمم الأرض ، وكل أمم التاريخ :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(1)
وهي التي دفعتها إلى الحركة في كل مجال من مجالات الحياة الإنسانية ، فأوصلتها إلى مرتبة التفوق في جميع الميادين : الحربية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والخُلقية والروحية ، وجعلت لها ذكرا ضخما في الأرض بعد أن كانت على هامش التاريخ !
ولم يكن النطق بلا إله إلا الله هو الذي صنع ذلك كله !
إنما كان هو النطق بها ، واليقين الذي يملأ القلب بحقيقتها ، والعمل بمقتضياتها ، هو الذي صنع كل تلك الأعاجيب التي وعاها التاريخ ، تحقيقا لوعد الله :
( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً )(2)
لقد كانت الأمة تعيش بكيانها كله في عالم الواقع ، ولكنها تحلق في عالم المثال !
واليوم . . ما أبعد الواقع عن المثال ! بل ما أبعد الواقع عن الحد الأدنى الذي لا يجوز للأمة أن تهبط عنه !(1/1)
اليوم تخبط الأمة على غير هدى في ظلمات التيه . . إلا ما رحم ربك !
ولقد ابتلى الله أمة سابقة بالتيه : ( أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ )(3) .
وكان سبب ذلك الابتلاء أن تلك الأمة تقاعست عن الأمر الرباني الموجّه إليها لدخول الأرض المقدسة :
( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ، وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ . يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ، وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ . قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا ، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ . قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ . قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ، فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ . قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ )(4) .(1/2)
وربما كانت حكمة ذلك التيه أن القوم المستضعفين، الذين تربوا على المذلة للفرعون ، لم يكونوا صالحين لحمل الأمانة المنوطة بهم على الوجه الذي يؤهلهم لتحقيق الرسالة الربانية ، وتحقيق منهج الله في الأرض ، فابتلاهم الله بذلك التيه في تلك الفترة المحددة، التي انتهى فيها ذلك الجيل المستضعف المستذل ، وولد بعده جيل جديد . . ولد في التيه . . في المشقة . . في المعاناة ، فكان أصلب عوداً وأقدر على تحمل المشاق . . فأذن الله له أن يدخل الأرض المقدسة ، ومكّن له في الأرض .
و الأمة الإسلامية اليوم تعيش في التيه . و لكنه تيه معنوي لا كذلك التيه الحسّي الذي عاشت فيه بنو إسرائيل . تيه في الأفكار والمشاعر والتصورات وأنماط السلوك .
وكان هذا ابتلاء لها من الله حين تقاعست عن حمل الرسالة التي حمّلها الله إياها ، وجعل لها فيها خيريتها ، وحدد لها فيها مهمتها :
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(5) .
وقد بدأ ذلك التيه منذ أكثر من قرن ، حين نحّت هذه الأمة شريعتها ، واستبدلت بها الشرائع التي أخبرها ربها أنها شرائع جاهلية لأنها لا تحكم بما أنزل الله ؛ واستبدلت بقيمتها وأخلاقها وأنماط سلوكها قيم الغرب وأخلاقه وأنماط سلوكه ؛ وأدارت ظهرها لكتاب ربها وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لتستورد الأفكار والنظم و" الأيدلوجيات " والمبادئ من المكان الذي توهمت فيه الرقي والتقدم والحضارة الحقيقية .
وكانت الفتنة بالغرب - بعد الانبهار الذي أصاب الأمة على أثر الهزيمة العسكرية أمامه - هي بداية التيه الذي ابتليت به الأمة في محنتها .(1/3)
لقد كانت الأمة قبل ذلك قد أصابها من السقام ما أصابها ، فانكمشت وانحسرت ، وقبعت في داخل ذاتها ، تحتضن البقايا المتبقية لها من دينها ، وتحسب أنها على دين صحيح . ثم اشتد بها السقام حتى كادت تسقط من الإعياء ، وهي في مكانها لا تريم ، ولكنها لا تفكر في تغيير هويتها ، ولا تقبل ذلك لو دعيت إليه . ثم إذا هي فجأة - بعد هزيمتها العسكرية أمام الغرب - تنتفض مذعورة ولكن على غير هدى من ذلك الدين الهادي الذي عاشت به ما سلف من القرون ، وكان فيه مجدها وعزها وقوتها يوم أن كانت مستمسكة به على بصيرة . . وإذا هي - في وهلتها - تدور في التيه ، تبحث عن الهدى في المكان الذي لا تجده فيه !
وأوغلت الأمة في التيه ما يزيد على قرن من الزمان . .
ثم جاءت الصحوة بحمد الله . . وبدأت طلائع الأمة تخرج من التيه لتعود إلى منبع الهدى الحقيقي ومنبع القوة الحقيقية ، الذي كانت قد غفت عنه فترة من الوقت من قبل ، ثم هجرته فترة من الوقت و هي تدور في التيه .
ولكن الصحوة ذاتها ما تزال في أول الطريق ، وما يزال أمامها مشوار طويل لابد أن تقطعه لتحقق أهدافها . وما تزال طوابير طويلة من الأمة تسير في ظلمات التيه .
كم قدّر الله من الزمن لهذه الأمة تقضيه في التيه ؟ ذلك غيب لا يعلمه إلا الله . .
ولكنا نحسب أن آَن الأوان للأمة أن تخرج نفسها من ذلك التيه . فإن تكن الفتنة بالغرب هي التي أدخلتها في التيه بادئ ذي بدء ، فنحسب أن الغرب قد انكشف اليوم على حقيقته بصورة يلمسها من كان له أدنى قدر من البصر بمجريات الأمور .(1/4)
والوحشية الصليبية التي ارتكبها الصرب في البوسنة والهرسك ، ثم السكوت المخزي الذي مارسه الغرب الصليبي كله على هذه الوحشية المسفّة ، لابد أن يكشفا لكل إنسان عن حقيقتين هائلتين : الأولى مدى الحقد الصليبي الكامن في نفوس الغرب تجاه الإسلام والمسلمين ؛ والثانية مقدار الزيف في تلك " الحضارة " التي زعمت أنها حضارة " إنسانية " تقوم على احترام " الاَخر " وإعطائه حقه في الوجود ، وحقه في التعبير عن ذلك الوجود !
إن الغرب هو أكبر أكذوبة حضارية في التاريخ . . برغم كل تقنياته ، وكل تقدمه العلمي و المادي ، ووصوله إلى القمر ووصوله إلى المريخ . . فكل ذلك - وحده - لا يصنع حضارة ، و إن كان العلم و تقنياته من مستلزمات كل حضارة . . إنما الحضارة الحقة هي التي ترتفع " بالإنسان " في جوهره الحقيقي . . في كيانه كله لا في جانب واحد منه . . في " كافة " مجالات حياته كما قال الله للمؤمنين :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )(6)
" ادخلوا في السلم كافة " . . أي بكافتكم جميعا ، وبكافة كل واحد منكم . . بكافة نفسه وعقله ومشاعره وضميره وأنماط سلوكه ، فإن أية جزئية من كيان الإنسان لا تدخل في ذلك السلم الرباني فهي غذاء للشيطان المتربص ، يتلقفها ليجر الإنسان منها ، ليحاول أن يخرجه من السلم في الدنيا ويدخله الجحيم في الآخرة :
( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) (7).(1/5)
والوحشية الصليبية في البوسنة والهرسك ، والسكوت المخزي الذي مارسه الغرب تجاهها ، هما المحك الحقيقي لتلك " الحضارة " الزائفة . المحك الذي يكشف معدنها الحقيقي ، ويكشف كم تركت من جوانب حياتها غذاء للشيطان .
ومع ذلك فهي ليست الوحشية الوحيدة التي مارسها العالم " المتحضر " أو سكت عنها السكوت المخزي ، أو باركها سراً وعلانية ، فمذبحة طاجستان لا تقل وحشية ، ومذابح الهند وكشمير لا تقل وحشية ، ومذابح فلسطين لا تقل وحشية ، ومذابح الفلبين لا تقل وحشية .. وغيرها وغيرها في كل بقاع الأرض ..
وقد آن للمخدوعين بالغرب من هذه الأمة أن يفيقوا ، وأن يخرجوا أنفسهم من ظلمات التيه .
وإذا كان الإنبهار بالغرب - الذي نشأ أساساً من الخواء العقدي الذي عاشته الأمة في فترتها الأخيرة - هو بداية التيه ، فليكن إنكشاف الغرب على حقيقته هو بداية التوجه للخروج من التيه لمن كان ما يزال يسير فيه .. ولن يخرج الإنسان من التيه حقيقة حتى يدخل بكافته في السلم الرباني .. في حقيقة " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " .
والنداء موجّه إلى الأمة كلها للخروج من التيه والعودة إلى الطريق .. ولكنه موجّه بصفة خاصة إلى شباب الصحوة ، فهم الرواد الذين يدلون الأمة على الطريق ، وييسرون لها العودة إليه ، والمسير فيه :
( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) (8) .(1/6)
ولقد كتبت هذه الصفحات لأبين في إيجاز شديد كيف دخلت الأمة في التيه ، والحجم الحقيقي لذلك التيه الذي شمل كل جوانب الحياة : الروحية والفكرية والخلقية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية في فترة من الفترات . ثم الدور الذي قامت به الصحوة المباركة حتى هذه اللحظة على الرغم من كل سلبياتها وتعثراتها ، ثم صورة الغد المأمول بإذن الله ، حين تستكمل الصحوة نضجها ، وتستكمل الأمة خروجها من ظلمات التيه ، فيعود لها التمكن في الأرض بحسب وعد الله الدائم :
( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (9) .
والله المسئول أن يبصّر الأمة بالمخرج الحقيقي من التيه ، وبالسبيل الحق ، والمنهج الصحيح للسير فيه :
( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (10) .
محمد قطب
كيف دخلنا التيه ؟(1/7)
إن الحرب الصليبية التي بلغت ذروتها في البوسنة والهرسك في أيامنا الأخيرة ، قد بدأت في الحقيقة منذ عدة قرون .. نستطيع أن نقول بشيء من التحديد إنها بدأت بطرد المسلمين من الأندلس . وقد سقطت آخر دويلة إسلامية في الأندلس عام 1492 م (11) ، بعد أن عملت محاكم التفتيش بكل فظائعها لإبادة المسلمين ، والقضاء الكامل على الإسلام في تلك البقاع . ثم أمر البابا بمتابعة المسلمين خارج الأندلس ، وفرض النصرانية عليهم بالسيف إن لم يستجيبوا لدعوة التنصير . وكانت الرحلات التي قام بها فاسكو داجاما وماجلان وغيرهما رحلات استكشافية ، لكشف نقاط الضعف التي يمكن عن طريقها اختراق العالم الإسلامي توطئة لغزوه والاستيلاء عليه ، وقد اضطرت كلها أن تسير في اتجاه مغاير للحملات الصليبية الأولى بسبب وجود الدولة العثمانية بقوتها الرهيبة في الشرق ، وتوغلها الكاسح في شرق أوربا ، فكان على الحملة الجديدة أن تدور حول أفريقيا ، وتحاول غزو الأطراف البعيدة أولا قبل أن تتجه إلى قلب العالم الإسلامي ، وبالذات إلى بيت المقدس ، الذي انهزمت عنده الحملات الصليبية الأولى . وفي هذه المرة لم يكن بيت المقدس هدفا للنصارى وحدهم ، بل اشترك اليهود معهم ، ولكن لحسابهم الخاص !
وشهد القرنان الثاني عشر والثالث عشر الهجريان ( الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديان ) تركيزا شديدا في الحملة الصليبية ، انتهى بالاستيلاء على معظم بلاد العالم الإسلامي ، بعد معارك عنيفة بين المسلمين و الصليبيين ، انتهت كلها بهزيمة المسلمين أمام الغزو الكاسح ، وخضوع العالم الإسلامي للغزو النصراني .
وبطبيعة الحال لم تحدث تلك الهزيمة اعتباطا ، وإنما كان لها أسباب .(1/8)
والأسباب الظاهرة هي التخلف الذي أحاط بالمسلمين في ميدان العلم ، وميدان " التكنولوجيا " ، وميدان الاقتصاد ، وميدان التدريب الحربي والتسلح . وقد كانت هذه الأسباب كلها قمينة بإحداث الهزيمة العسكرية أمام الغرب الذي كان قد تقدم في كل تلك الميادين بمقدار ما تخلف المسلمون ! ومعركة إمبابة الشهيرة بين المماليك ونابليون نموذج واضح لهذه الحقيقة ، فقد استغرقت المعركة كلها عشرين دقيقة ! ولم يكن ينقص المماليك الشجاعة الحربية ولا الرغبة في صد العدوان عن ملكهم ، ولكن مدافعهم المتخلفة التي تحتاج إلى فترة زمنية بعد كل طلقة حتى تبرد ويمكن حشوها بالبارود من جديد ، والتي يتناقص مداها كلما حميت ، لم تكن لتصمد أمام المدافع التي تتتابع طلقاتها بسرعة وقوة وتمكن ، ومن مدى أبعد مما تصل إليه مدافع المماليك .
ولكن الدراسة الواعية لتلك الفترة من التاريخ يجب ألا تقف عند الأسباب الظاهرة ، فتفوتها عندئذ الحقيقة الكامنة وراء تلك الأسباب . إنما يجب أن تتعمق لترى الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ذلك الانهيار .
وحين يقوم المؤرخ المسلم بدراسة هذه الفترة من التاريخ فسيكون له بالضرورة موقف مختلف عن المؤرخ الأوربي ، من ناحيتين اثنتين على الأقل .(1/9)
الناحية الأولى أنه سيتتبع الروح الصليبية الدافعة إلى غزو العالم الإسلامي ، التي يخفيها المؤرخ الغربي عامدا رغم وضوحها . فقد ظل الغرب يوحي إلينا أن غزوه الأخير للعالم الإسلامي لم يكن ذا صلة على الإطلاق بالروح الصليبية التي دعت إلى الحملات الصليبية القديمة ، إنما هو منبعث من أسباب اقتصادية بحتة ! فمرة سببه البحث عن التوابل ! ومرة سببه البحث عن الخامات الرخيصة ! ومرة سببه البحث عن أسواق لتصريف فائض المنتجات التي يصنّعها الغرب ! مع أن فاسكو داجاما- الرائد الأول للغزو الصليبي الحديث -قال بعبارة صريحة حين وصل إلى جزر الهند الشرقية - بمعاونة الخرائط الإسلامية ، ومعاونة البحار المسلم ابن ماجد - قال : الآن طوقنا رقبة الإسلام ، ولم يبق إلا جذب الحبل فيختنق ويموت !! كما أن ماجلان - وهو كذلك من الرواد الأوائل لهذا الغزو - ألح على البابا أن يأذن له بقيادة حملة صليبية بهدف محدد ، هو ضم أراضي الفلبين تحت راية الصليب ، ولما أذن له البابا على تردد - لعدم ثقته بقدرته على إنجاح حملته - ذهب بالفعل إلى الفلبين ، ورفع الصليب على إحدى جزرها ، فقتله المسلمون هناك وقضوا على حملته (12) !
وقد كانت للغرب مصلحة ظاهرة في إخفاء الوجه الصليبي للحملة الجديدة ، اتقاء لإثارة الروح الدينية عند المسلمين ، التي تبعث على " الجهاد المقدس " وهو أخطر ما يخشاه الغزاة - صليبين كانوا أو صهيونيين أو عباد بقر أو عباد أصنام - وقد ذاق الغزاة بأسه بالفعل في الهند والجزائر وغيرهما من البقاع .(1/10)
كتب كرومر - المعتمد البريطاني في مصر أول أيام الاحتلال - في مذكراته المسماة " مصر الحديثة Modern Egypt " : " إن مهمة الرجل الأبيض الذي وضعته العناية الإلهية (!) على رأس هذه البلاد هي تثبيت دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن بحيث تصبح هي أساس العلاقات بين الناس وإن كان من الواجب - منعا من إثارة الشكوك - ألا يعمل رسميا على تنصير المسلمين ، وأن يرعى من منصبه الرسمي المظاهر الزائفة للدين الإسلامي ، كالاحتفالات الدينية وما شابه ذلك " !!
و الهدف من هذا الكلام واضح .. إبعاد المسلمين عن الإسلام دون إشعارهم أن الهدف هو إبعادهم عن الإسلام ! وذلك منعا من إثارة الشكوك .. أي منعا من إثارة الروح الدينية عند المسلمين ، حين يتضح الوجه الصليبي على حقيقته !
ونفي الدافع الصليبي عن الغزو الصليبي الحديث كان يهدف إلى ذات الغاية التي قصد إليها كرومر ، وهي عدم إثارة روح الجهاد المقدس ضد الغزاة ، والسعي إلى ترويضهم بحيث يقبلون الأمر الواقع ، وحتى إن اتجهوا إلى مقاومته ، قاوموه بغير روح الجهاد المقدس التي يفزع منها الغزاة !
ولترويج هذه الفرية في نفوس المسلمين في البلاد المحتلة قال الغرب إنه ترك الدين منذ فترة ! ولم يعد الدين هو الذي يحركه ! إنما الذي يحركه هو " المصالح الاقتصادية " فحسب! ولاكت ألسن المسلمين هذه الفرية في فترة التيه ، وروجها دعاة الغزو الفكري - بوعي أو بغير وعي - ليثبطوا أي تحرك جهادي إسلامي ضد الغزاة !(1/11)
نعم ! لقد نبذت أوربا دينها ، فلم تعد تتحرك به داخل بلادها .. ولكنها لم تنس قط الروح الصليبية الكامنة في دمائها ، والتي تحركها دائما ضد الإسلام و المسلمين ! وهذه الحقيقة - حقيقة نبذ أوربا لدينها ، وبقاء الحقد الصليبي تجاه الإسلام مشتعلا رغم ذلك - قد أشار إليها المستشرق النمساوي " محمد أسد " في كتابه الشهير " الإسلام على مفترق الطرق " الذي ألفه بعد أن أعلن إسلامه ، وحاول فيه تفسير هذه الظاهرة الغريبة التي قال إنه لم يحدث مثلها في التاريخ ، فقال : إن هذا الحقد قد ولد في نفوس الأوروبيين في فترة طفولتهم الفكرية والحضارية ، فلم تستطع فترة النضج التالية أن تمحوه من نفوسهم ، لأن ما ينطبع في الطفولة يتبقى عالقا في النفس !!(13)
ولسنا نحن في حاجة إلى شهادة محمد أسد ولا تفسيره ، وعندنا شهادة الله سبحانه وتعالى وتقريره :
( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) (14)
وعندنا مذبحة البوسنة والهرسك شهادة لا تحتمل التأويل . فالمندوب البريطاني " أوين " الذي ليست له أي مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في منطقة البوسنة والهرسك يتكلم حين يتكلم كأنما بلسان الصرب ، بل يطلب للصرب أحيانا أكثر مما يطلبون هم لأنفسهم ، بل طالب في أكثر من مرة بمعاقبة المسلمين لأنهم لم يتقبلوا اغتيال الصرب الوحشي لهم في صمت ولا هتكهم لأعراضهم ، بل كانوا يدافعون عن أنفسهم بين الحين و الحين !!
والأمر الثاني الذي يجب على المؤرخ المسلم إبرازه بينما المؤرخ الأوربي لا يذكره على الإطلاق ، هو أن السبب الحقيقي وراء كل ألوان التخلف التي أحاطت بالمسلمين في الفترة الأخيرة كان هو التخلف العقدي .. التخلف عن حقيقة لا إله إلا الله .(1/12)
إن الضعف ليس من طبيعة هذا الدين ، وهو دين القوة والجهاد والتمكن ، الذي اكتسح في سنوات معدودة الإمبراطورية الفارسية بأكملها ونصف الإمبراطورية الرومانية العتيدة ، والذي هزم التتار في عنفوانهم وهزم الصليبيين في حملاتهم القديمة ، واستقر في معظم الأرض المعمورة في وقته استقرار التمكن والرسوخ والنماء . إنما الضعف عنصر طارئ في حياة المسلمين لم يتأت لهم وهم مستمسكون استمساكا حقيقيا بدينهم . وسواء كان سببه الترف الذي أصاب الحكام العثمانيين بعد أن استتب لهم الملك والغلبة على الأعداء ، أو حلقات الذكر الصوفي التي تستوعب طاقة المسلم الروحية فتصرفها عن الجهاد ، وتحولها إلى سبحات روحية أشبه بالخدر منها إلى الوعي الحيّ ، أو انتشار الخرافة والتعلق بالخوارق الموهومة والكرامات المنسوبة إلى المشايخ ، الأحياء منهم والأموات ، أو إهمال العلوم الكونية وإهمال عمارة الأرض والانصراف عن أسباب التمكن ، أو الاستبداد السياسي الذي يجعل الناس ينصرفون إلى خاصة أنفسهم ويتركون الانشغال بالقضايا العامة التي تقرر مصاير الأمة ، ويتركز " الدين " في حسهم في الشعائر التعبدية فحسب ، أو تَحَوُّلَ الدين كله في النهاية إلى تقاليد تُرْعَى لذاتها ولكنها خاوية من الروح ..
سواء كان السبب هذا أو ذاك أو ذلك فكلها ليست من طبيعة هذا الدين ، ولاهي مستوحاة من نصوصه المنزلة أو سوابقه التاريخية حين كان مطبقا تطبيقا صحيحا في واقع الحياة .
والمؤرخ الأوربي المدقق لن تفوته معرفة هذه الحقيقة :
( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) (15)
ولكنه لن يظهره وإن عرفه وتيقن منه :
( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (16)(1/13)
فإنه لو أظهره فكأنما سيوقظ المسلمين إلى حقيقة انحرافهم عن مصدر قوتهم الحقيقي ، و سيدعوهم إلى محاولة تغيير واقعهم ، والعودة إلى حقيقة الإسلام التي لا يمقت الغرب شيئا كمقته إياها ، ولا يخاف شيئا كخوفه منها .
بل لقد عمد المؤرخ الأوربي - وتبعه من تبعه من " المسلمين " الغارقين في التيه - إلى ما هو أسوأ من إخفاء تلك الحقيقة ، فزعم أن " الدين " ذاته كان هو السبب في كل هذا البلاء ! في الضعف والتخلف والخرافة والجهل والاستخذاء والقعود ! وأنه لابد من نبذ الدين ليتحرر الناس من الجهل والخرافة ، ويزيلوا الأغلال التي تمنعهم من الانطلاق ! وحرص - وحرصوا معه - على منع أية إشارة تنبه الناس إلى حقيقة بعدهم عن حقيقة الدين ، وأن الدين الحقيقي شيء آخر غير الذي يمارسونه باسم الدين !
حدثني ذات مرة صديق كنت أعمل معه في إدارة واحدة (17) ، أنه التقى بأحد المستشرقين أثناء مرور الأخير بالقاهرة في أوائل الستينيات من هذا القرن الميلادي ، فسأله عن جملة أشياء تتعلق بالإسلام والمسلمين وما يدور من أفكار بينهم ، وفي أثناء الحديث سأله : هل تعرف فلانا ؟ ( وذكر له اسمي ) فأجابه بالإيجاب . فسأله : هل هو من خريجي الأزهر ؟ قال له : لا ! إنه من خريجي قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة ! فلم يخفِ عجبه - وإستياءه كذلك - من أن ينشغل واحد من خريجي هذا القسم - الذي أنشئ ابتداء لتخريج " علمانيين " يتبعون طريقة التفكير الغربية ومنهج الغرب في الحياة - أن ينشغل بأمور الإسلام ، ويكتب في موضوعات دينية !(1/14)
ثم راح المستشرق يكيل النقد لكتاباتي ، وخاصة كتاب " شبهات حول الإسلام " (18) وكان أشد حنقه على أمر معين ، هو أنني أنتقد مادية الغرب ، وأهاجم حضارته المادية الخالية من الروح . وقال لصديقي حانقا : ماذا صنعتم أنتم بروحانيتكم ؟! لولا تقدمنا المادي ما استطعتم أنتم أن تعيشوا ! فحدثه الصديق - رحمه الله - أنني أقول بأن الإسلام ليس روحانية فحسب ، وإنما هو يجمع بين عالم المادة وعالم الروح ، ويدعو إلى بذل النشاط في كلا المجالين في آن واحد . فقال له : ولكن واقعكم خلاف ذلك ! فقال الصديق - يتابع حديثه عني - " إنه يقول إن واقع المسلمين اليوم بعيد عن حقيقة الإسلام " ! فانتفض الرجل من كرسيه حنقا وغضبا وقال : هو يقول ذلك ؟! أين يقول هذا الكلام ؟! قال : في كتاب له يسمى " هل نحن مسلمون " . فقال المستشرق وهو ينصرف في عصبية ظاهرة : هذا أمر خطير !!
أمر خطير أن يتنبه أحد - أو ينبه الناس- إلى أن حقيقة الإسلام غير ما يمارس باسم الإسلام ، وأن الواقع السيء الذي يعيشه المسلمون اليوم سببه البعد عن حقيقة الإسلام !
* * *
المؤرخ المسلم - في تناوله لتاريخ تلك الفترة - عليه من إسلامه واجب لابد أن يؤديه ، هو أن يبين للناس السبب الحقيقي فيما حدث من هزيمة عسكرية أمام الغرب ، وأن يفسر لهم كذلك سبب الهزيمة الروحية التي تلت الهزيمة في ميدان الحرب ..
فأما الهزيمة الحربية فقد كانت نتيجة طبيعية لترك الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى القوة . ولكن ترك الأخذ بالأسباب كان هو ذاته نتيجةً للخلل العقدي الذي أصاب المسلمين فجعلهم ينحرفون بالدين عن حقيقته ، ولا يعملون بمقتضاه .(1/15)
فالفكر الإرجائي الذي أخرج العمل من مسمى الإيمان ، وجعل الإيمان هو التصديق القلبي والإقرار اللساني فحسب ، كان انحرافا متعلقا بالعقيدة ، ومجافيا لمنهج السلف الصالح الذين قالوا إن الإيمان قول وعمل ، والذين كان في حسهم أن العلم الذي لا يصحبه عمل ليس علما حقيقيا ، وأن العمل هو الثمرة الحقيقية للعلم .
وقد أدى هذا الانحراف العقدي إلى تصور للدين غير صحيح ، وسلوك بالدين غير صحيح ، فزاد تفلت الناس من التكاليف بغير حرج في صدورهم ، لأنهم - في وَهْم أنفسهم - مؤمنون صادقو الإيمان مهما تفلتوا ، ما داموا مصدقين بالقلب ، ومقرين باللسان !
والفكر الصوفي الذي أدى إلى تضخم " الشيخ " في حس " المريد " حتى صار واسطة بينه وبين الله ، كان انحرافا متعلقا بالعقيدة ، ومجافيا لمنهج السلف الصالح ، الذين تعلموا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا وسطاء بين العبد والرب إلا العمل الصالح الذي يرضى الله عنه فيرضى عن صاحبه ، وان من أعظم القربات إلى الله الجهاد في سبيل الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والسعي إلى تقويم المجتمع إذا انحرف عن السبيل .. وكان من نتيجة هذا الانحراف العقدي ألوان من شرك العبادة من جهة ، وتعلق بالأوهام والخرافات من جهة ، وتركٌ للعمل الإيجابي الذي يجري الله به التغيير في الأرض بحسب سنته الجارية ، تطلعا إلى خارقة تتحقق على يد " وليّ " من أولياء الله تنحل بها المشاكل بلا تعب ولا نصب ولا انشغال بال !(1/16)
والإيمان المختل بعقيدة القضاء والقدر ، الذي يسقط مسئولية الإنسان عن أعماله حين يخطئ أو يقصر بدعوى أن ما يصيبه هو قضاء وقدر لا حيلة له فيه ، ويدعو إلى الاستسلام السلبي لكل ما يقع ، وعدم السعي إلى تغييره بدعوى أن العمل على التغيير هو بمثابة التمرد على قدر الله وعدم الرضا بقضائه ، ويدعو إلى عدم الأخذ بالأسباب بدعوى أن هذا نقص في الإيمان ، ودليل على عدم التوكل على الله .. كل ذلك كان انحرافا متعلقا بالعقيدة، ومجافيا لمنهج السلف الصالح الذين كانوا أصفى الناس إيمانا بالقضاء والقدر ، ولكنهم كانوا يعلمون من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الإيمان بالقضاء والقدر لا يسقط مسئولية الإنسان عن عمله حين يخطئ أو يقصر ، ولا يمنع السعي إلى التغيير تطلعا إلى قدر جديد من عند الله ، وان التوكل الصحيح لا يمنع الأخذ بالأسباب ، وأن حتمية تحقق قدر الله ومشيئته لا تتنافى كذلك مع اتخاذ الأسباب .
ففي وقعة أحد قال الله للمسلمين إن ما أصابهم من الهزيمة هو من عند أنفسهم لمخالفتهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو في الوقت ذاته قضاء وقدر :
( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ ..) (19) .
وحين وقعت الهزيمة لم يقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السعي إلى تغيير الموقف ، فأخذ المسلمين - بجراحاتهم - للقاء العدو ، فانصرف العدو بفضل الله وآثر الانسحاب دون قتال :(1/17)
( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) (20).
وتلقى الرسول صلى الله عليه وسلم توجيها من ربه له وللأمة المسلمة من ورائه أن يعدّ العدة ثم يتوكل على اللَه :
( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) (21).
والعزيمة تقتضي الإعداد وإلا فهي مجرد أمانيّ لا تغير شيئا من الواقع .
وقرر الله سبحانه وتعالى أن الذين كفروا لن يسبقوا الله ولن يعجزوه . وأن قدر الله بالتمكين لهذا الدين في الأرض ماضٍ ونافذ . ومع ذلك أمر المسلمين بالإعداد واتخاذ الأسباب في نفس السياق :
( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (22).
وقد أدى هذا الخلل العقدي في عقيدة القضاء والقدر إلى تواكل سلبي بدلا من التوكل الحق ، وإلى إهمال اتخاذ الأسباب - ومن بينها أسباب القوة التي أمر الله بإعدادها لإرهاب عدو الله - وإلى انتشار الفقر والمرض والعجز ، والقعود في الوقت ذاته عن محاولة التغيير .(1/18)
والتصور المختل لطبيعة العلاقة بين الدنيا والآخرة ، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة ، كان انحرافا عن حقيقة الدين ، وعن منهج السلف الصالح الذين فهموا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني جزء من العبادة المطلوبة من الإنسان ، وأن العمل للآخرة لا يتنافى مع السعي في الأرض :
( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(23).
( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )(24) .
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم القوم الذين زعموا أنهم يعملون للآخرة بأن يصوموا الدهر ولا يفطروا أو يقوموا الليل ولا يناموا ، أو يعتزلوا النساء فلا يتزوجوا ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : " ألا إني أعبدكم لله وأخشاكم له ، ولكني أصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " (25).
وقد أدى هذا الانحراف في تصور مقتضيات لا إله إلا الله إلى إهمال العلم بالطب والفلك والكيمياء والفيزياء والرياضيات والجغرافيا وغيرها من العلوم لأنها متعلقة بالأرض ، وبالحياة الدنيا ، فتخلف المسلمون في جميع الميادين .
من هنا يظهر جليا أن التخلف العلمي و " التكنولوجي " والمادي ..إلخ ، الذي كان سببا في الهزيمة العسكرية أمام الغرب قد نشأ أساسا من التخلف العقدي الذي تزايد في حياة المسلمين جيلا بعد جيل ، وتراكم حتى غشّى على العقيدة الصحيحة فلم تعد تتبين من بين الركام ، ولم تعد تعطى شحنتها الحية في حياة المسلمين .
ولكن القضية لا تنتهي مع المؤرخ المسلم عند هذا الحد .(1/19)
فهناك قضية أخرى لا تقل عنها أهمية ، ولا تقل عنها خفاء كذلك في حس الذين يحصرون رؤيتهم في الأسباب الظاهرة ولا يتعمقون وراءها إلى السبب الحقيقي .
وقعت الهزيمة العسكرية فتلتها في نفوس المسلمين هزيمة روحية ، هي الأولى بالنسبة لهم في التاريخ .
وقد قلنا في أكثر من كتاب(26) إن الهزيمة العسكرية وحدها لم تكن لتحدث في نفوس المسلمين ذلك الأثر الهائل الذي أحدثته في المرة الأخيرة حين انهزمت جيوش المسلمين أمام الغرب .
حقيقة إن المسلمين فوجئوا مفاجأة حادة - بعد الهزيمة - بالفارق الهائل بينهم وبين الغرب الذي هزمهم ، في العلم وفي " التكنولوجيا " وفي التقدم المادي والحضاري .. وأن هذا كان له أثره في الهزيمة النفسية التي أصابت المسلمين.
ولكن الهزيمة العسكرية وحدها ، وإدراك المسلمين للفارق الهائل بينهم وبين أعدائهم في الأسباب المادية ، لم يكونا ليحدثا هذا التحول الهائل الذي حدث في حياة المسلمين ، لولا الخواء الروحي والعقدي الذي كان في حياتهم قبل وقوع الصدام .
وقعت الهزيمة العسكرية من قبل فلم تغير شيئا في تصورات المسلمين وأفكارهم وسلوكهم وعقائدهم ..
وقعت أول هزيمة يوم أحد فأنزل الله قوله تعالى : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (27) . وكانوا مؤمنين بالفعل ، فوعوا الدرس ، وأفاقوا من هزيمتهم ، وعلموا أنهم الأعلون بإيمانهم مهما حدث لهم من هزيمة مؤقتة أمام عدوهم . فلم يهنوا بعد ذلك في مواجهتين عظيمتين خطيرتين وقعتا بينهم وبين التتار مرة ، وبينهم وبين الصليبيين مرة . وقد كانت الهزيمة أمام التتار ساحقة ..(1/20)
اكتسح التتار بغداد ، وأزالوا الخلافة العباسية ، وأذلوا المسلمين إلى حد لا يتصور . فكان التتري يخرج من بيته وليس معه سلاحه ، فيلقى المسلم في الطريق ، فيقول له : ابق هنا حتى أحضر السيف لأقتلك ، فيقف المسلم صاغرا مستسلما حتى يعود التتري بسيفه فيقتله .. وليس بعد ذلك إذلال !
ولكن أرواحهم لم تذل !
لم ينظروا إلى التتار نظرة إكبار ! لم يعتقدوا أن التتار خير منهم بسبب أنهم هم الغالبون ! إنما كانوا في حسهم برابرة همجا متوحشين ، وقبل ذلك كله وثنيين لا يعرفون الله ، ولا يدينون دين الحق .
وانهزم المسلمون أمام الصليبيين في مبدأ الأمر ، وأقام الصليبيين دويلات لهم في بعض بقاع العالم الإسلامي استمرت ردحاً من الزمن يتسلطون فيها على المسلمين ويهينونهم ويذلونهم ..
ولكن أرواحهم لم تذل !
لم ينظروا للصليبيين نظرة إكبار ! لم يعتقدوا أن الصليبيين خير منهم بسبب أنهم هم الغالبون ! إنما كانوا في حسهم هم المشركين عبّاد الصليب ، وفوق ذلك كانوا يقولون عنهم إنهم دياييث لا أعراض لهم ، بسبب التحلل الأخلاقي الفاشي في حياتهم ، وضعف الحمية فيهم لأعراضهم .. ومن أجل ذلك كانوا يحتقرونهم .
ثم جاء النصر من عند الله حين توجه المسلمون بالعقيدة الصحيحة إلى الله ، واتخذوا الأسباب ، فكانت صيحة "وا إسلاماه" على لسان قطز ، وهجمته الصادقة على التتار في عين جالوت تغييرا في صفحة التاريخ ، فلم ينتصر المسلمون فحسب ، بل بدأ التتار يدخلون في الإسلام بعد هزيمتهم أمام المسلمين . كما كان توجه صلاح الدين إلى إصلاح عقيدة الناس ، واتخاذ الأسباب ، إيذانا بالنصر الحاسم الذي أعاد بيت المقدس ، وصد الصليبيين عن الشرق الإسلامي عدة قرون . ثم تعدى الأمر آثاره المحلية ، إذ بدأت أوربا نهضتها مستمدة من الحضارة الإسلامية بعد هزيمتها أمام المسلمين ! (28)(1/21)
فإذا نظرنا من ناحية أخرى إلى قضية الفارق "الحضاري" بين المسلمين وأعدائهم ، فقد كان الفارق هائلا جدا لصالح الأعداء حين التقى المسلمون مع الفرس ومع الرومان ، وهم صفر اليدين من أسباب الحضارة المادية أو يكادون ..
ولكن ذلك الفارق الهائل لم يستوقفهم لحظة واحدة ليفكروا فيه ، ولا كان له في حسّهم وزن .. أي وزن !
وانظر إلى ربعي بن عامر وهو يدخل بكل عزة الإيمان على رستم في أبهته وطنافسه وبذخه ، فينظر إلى ذلك كله باحتقار بالغ ، ويتعمد إعلان ازدرائه له وتحقيره ، فيخزّق بسن رمحه سجاجيدهم ، ويربط حماره القصير الأرجل في بعض ما يعتزون به من فراشهم ، ثم يقول لرستم حين سأله : ما الذي أتى بكم إلى بلادنا ؟ : " الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة .. "
أي عزة بالإيمان إزاء الاعتزاز الكاذب بكل " الحضارة المادية " وكل متاع الأرض !
ولكن موقف المسلمين من الهجمة الصليبية الأخيرة لم يكن كذلك .. لم يكن موقف الإعتزاز بالعقيدة الصحيحة ، ولا الاعتزاز بالإيمان .. إنما كان الذلة النفسة والإنكسار ..
أو قل : هو الإنبهار ..
لأول مرة في تاريخهم ينظرون إلى أعدائهم على أنهم أعلى منهم .. لا في مجالات العلم و " التكنولوجيا " وآلات الحرب ، فذلك ظاهر .. ولكن في الأفكار .. والنظم .. والعقائد .. وأنماط السلوك ..
لم يكن السبب هو الهزيمة العسكرية ، ولا فارق الحضارة المادية ..
إنما كان الخلل في الإيمان .. في موطن العزة والاستعلاء ..
(.. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (29)
كان السبب هو الخواء العقدي الذي وقعت فيه الأمة عدة قرون ..
لذلك أدت الهزيمة العسكرية إلى الانبهار ..
وحين بدأ الانبهار .. دخلت الأمة في التيه ..
حجم التيه
كان حجم التيه هائلا جدا .. أكبر بكثير مما يتصور أكثر الناس ..(1/22)
ويكاد لا يوجد جانب واحد من حياة الأمة لم يتأثر بالتيه .. كأنما انقلبت في نصف قرن أو يزيد ، أمة أخرى غير التي كانت من قبل ! انقلبت في كل شيء .. في تصوراتها وأفكارها ومشاعرها وأنماط سلوكها .. في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والفكر والأدب و "الفن" .. في كل شيء !
وكانت الأمة - ولا شك - تشعر بالانقلاب .. فقد كانت المفارقة حادة بين ما كانت عليه وما صارت إليه في تلك الفترة القصيرة من الزمن .. ولكن الكارثة أنها - وهي في التيه - كانت تظن أنها تنقلب إلى الأفضل ! وتنظر إلى نفسها وهي تنسلخ من دينها وتقاليدها وموروثاتها وتصوراتها ، على أنها قد بدأت - الآن - تخطو أولى خطواتها على الطريق المستقيم !
وهنا نقطة يجب أن يتبينها المؤرخ المسلم ويبينها للناس : أن الأمة قبل هذا الانقلاب لم تكن تسير على الطريق المستقيم ! لقد كانت قد حادت كثيرا عن الطريق وهي تظن أنها ما تزال سائرة فيه ! ولكن الذي يجب أن ندركه جيدا أن التوجه الجديد لم يكن إلى الطريق المستقيم حقا ، إنما كان انحرافا جديدا عن الجادة ، ولكنه كان أخطر بكثير من الأول . فقد كان الأول - على كل ما فيه من انحراف - تزييفا لواقع أصيل ، فمن السهل - حين تكشف الزيف - أن تعود إلى الأصل الذي خدعك الزيف عنه . أما الآخر فقد كان في اتجاه مضاد ، وكان أخطر ما فيه أنه يوسوس لك على الدوام أن لا ترجع أبدا إلى الطريق الأصيل .. بزعم أنه منبع الداء .. وأن البعد عنه هو وحده الدواء !!
لم يكن الذي غادره المسلمون ليدخلوا في التيه هو حقيقة الإسلام ..
فالتواكل والسلبية والجهل والخرافة والخمول والضعف والقعود عن اتخاذ الأسباب .. ليس من الإسلام .
وتحقير المرأة وحبسها في ظلمات الجهل والخرافة وتحجيم دورها في الحياة وحصره في الحمل والولادة والإرضاع .. ليس من الإسلام .(1/23)
واستبداد الحكام بالسلطة ، وزجر الرعية عن التدخل في الشئون العامة ، فضلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. ليس من الإسلام .
وقعود الفقهاء عن النظر فيما جدّ في حياة الناس من أمور ، فضلا عن تحريم الإجتهاد واعتباره بدعة ضارة خطرة مخيفة .. ليس من الإسلام .
وعشرات غيرها من الأمور التي كانت سائدة في المجتمع .. كلها دخيلة ، وكلها انحراف عن مقتضيات لا إله إلا الله ..
ولكن العلاج لم يكن نبذ هذا الدين .. إنما كان هو الرجوع إليه ، ونبذ ما وقع في حياة الناس من انحراف .
كان الأمر في حاجة إلى العالم الرباني المجدد ، الذي يجدد لهذه الأمة أمر دينها ، فيكشف الغاشية التي غشّت على بصيرتها ، ويردها إلى الطريق الصحيح ..
وشتان بين ما حدث بالفعل وبين ما كانت الأمة في حاجة إليه في ذلك الحين ..
ولقد كان العدو المتربص يستشعر أن اليقظة يمكن أن تحدث .. فقد كانت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية نذيرا شديدا لهم أن الأمة يمكن أن تصحو وتنفض عنها ما وقعت فيه من البعد عن حقيقة الدين .. وعندئذ ماذا يكون من أمر الحملة الصليبيّة ؟ وكيف يواجه الصليبيون الجدد أمة مجدّدة الإيمان كأمة صلاح الدين ؟!.
لذلك فقد حاولوا كبت الحركة الوهابية في مهدها ، وأغروا بها محمد علي وأبناءه ليحاول القضاء عليها .. وأسرعوا في الوقت ذاته في دفع الأمة إلى التيه .. لكي تزداد بعدا عن طريق النجاة ..
وكان الواقع المشوّه الذي يعيشه المسلمون - بِوَهْم أنه واقع إسلامي - كان هو ذاته وقودا للانحراف الجديد . فقد قيل للناس - كذبا - هذا دينكم قد أوردكم المهالك ، وأوصلكم إلى ما أنتم فيه من الهوان والذل .. وليس أمامكم إلا أحد خيارين إما أن تظلوا متمسكين بالدين ، وتستمروا فيما أنتم فيه من التخلف والضعف ، وإما أن تنبذوا الدين وتسلكوا الطريق الذي سلكته أوربا قبلكم بقرنين من الزمان .. فتقدمت عليكم قرنين من الزمان !(1/24)
وكانت مساوئ الحكم العثماني كذلك وقودا للانحراف الجديد ..
لم يكن الحكم العثماني كله مساوئ كما أُوهِم الناس - عمدا - في ذلك الحين ، لينفروهم من حكم الإسلام ، وييسروا عليهم الانزلاق إلى الحكم بغير شريعة الله !
ويكفي العثمانيين - عند الله وعند الناس - أنهم صدوا الزحف الصليبي أربعة قرون ، وأنهم إلى آخر لحظة من حياتهم لم يفرطوا في فلسطين ، بل جاهدوا مستميتين لصد الزحف الصهيوني إليها ، الذي تؤيده وتباركه الصليبية العالمية بكل ما في وسعها من قوة ، وكل ما تملكه من دهاء ..
ولكن كانت لهم مساوئ ولا شك ..
وكان في حكمهم مظالم كثيرة ..
وقيل للناس : إنه هكذا الحكم الذي يحكم باسم الدين . إنه استبدادي بطبعه ! ولا يمكن أن يكون إلا كذلك ! انظروا كيف كان الحكم الديني في أوربا يوم كان .. كان ظلما كله وتعسفا وطغيانا وهضما لحقوق " الشعب " ، ولم تفق منه أوربا إلا حين تخلصت من سلطان الدين ، وحصرته في شئون العبادة ، وأبعدته عن الهيمنة على شئون الحياة ..
و أنتم ..؟!
لا طريق لكم إلا ذات الطريق .. احصروا الدين - على الأكثر - في شئون العبادة ، ونحّوه عن كل مجال آخر ، وعن مجال السياسة بصفة خاصة ، ولا ضير عليكم .. فستظلون " مسلمين! " ولكنكم ستتحررون ؟؟ وستتقدمون .. وستتحضرون !
وفي التيه لم تتبين الأمة - إلا ما رحم ربك - ما في هذا الكلام من زيف وبعد عن الحقيقة .
فالدين الذي نبذته أوربا لتتقدم وتتحضر لم يكن هو الدين المنزل من عند الله ، إنما كان صناعة بشرية فاسدة ، أفسدته تصورات البشر وأهواؤهم وأوهامهم . وكان الخطأ في حياة أوربا هو اتباع ذلك الدين الفاسد ، وعدم الاهتداء إلى ما فيه من فساد ، وتقبل ما يقوله آباء الكنيسة على أنه قول مقدس واجب الاتباع ، على اعتبار أنهم خلفاء بطرس الذي منحه " الرب " - يقصدون عيسى عليه السلام - حق التحليل والتحريم ، كما منحه العصمة كذلك (30).(1/25)
( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (31) .
ولكن الدين الذي يدين به المسلمون - وإن انحرفوا في ممارسته - هو الدين الحق المنزل من عند الله ، المحفوظة أصوله في الكتاب والسنة بحفظ الله له :
( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (32).
وكان الخطأ في حياة المسلمين هو انحرافهم في ممارسة هذا الدين ، إما بالبدع والمعاصي ، وإما بالتفلت من التكاليف ، وإما بأفكار دخيلة كالفكر الإرجائي أو الفكر الصوفي المنحرف .
لذلك يختلف العلاج في الحالتين . فالعلاج في حالة أوربا هو نبذ ذلك الدين الفاسد ، والاستعاضة عنه بالدين الصحيح . والعلاج في حالة المسلمين هو نبذ الانحرافات التي طرأت في سلوكهم ، والعودة إلى التمسك الصحيح بالدين .
وما أبعد هذا العلاج عن ذاك !
فأما أوربا فقد أخذت نصف العلاج اللازم لها وأبت أن تأخذ النصف الآخر ، فخرجت من دينها الفاسد ولم تدخل في الدين الحق ، فنشأت عن ذلك الأزمة التي يعانيها الغرب اليوم ، وتعانيها معه البشرية المغلوبة على أمرها تحت ضغط الغرب الساحق : وهي غلبة الروح المادية وانسحاق الجانب الروحي من الإنسان تحت ضغط المادة أو - بعبارة أخرى - التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي بغير قيم ولا مبادئ ولا أخلاق !
أما الأمة الإسلامية - في التيه - فلم تأخذ نصف العلاج ولا ربعه ولا ثمنه .. إنما تناولت السموم التي قدمها لها الغرب ، فتلقفتها فرحة بها ، متوهمة أنها طريق الخلاص !(1/26)
فبدلا من أن تعود إلى حقيقة الدين التي كانت قد انحرفت عنها ، نبذت دينها - أو كادت - وفي الوقت ذاته لم تتخذ الأسباب التي اتخذها الغرب في تقدمه العلمي والمادي . فلم تأخذ من العلم إلا قشوره ، وتقاعست عن الجدّ الواجب له ، والجلد والمثابرة والصبر في تحصيله ، والتنظيم الفائق في شئون الحياة ، الذي يجعل الجهد مثمرا ، ويجمّع حصيلة الجهد فلا تتبدد ولا تتناثر !
وأخذت بدلا من ذلك ما في حياة الغرب من فساد ! فتراكم الفساد عندها أضعافا مضاعفة ! فلا هي عالجت أمراضها التي ورثتها من فترة التخلف العقدي ، الذي أنشأ من قبل التخلف الحربي والسياسي والعلمي والمادي ..إلخ ، وأضافت أمراضا جديدة دخيلة على البيئة الإسلامية ، من تحلل خلقي ، وخمر وميسر ولهو وتبجح بالمعاصي الكبائر ..
كذلك لم تدرك الأمة - وهي في التيه - مدى الفارق بين العلاج الذي كان يجب أن تتخذه إزاء مظالم الحكم العثماني ، والعلاج البديل الذي قدمه لها الغرب ..
لقد كان الخطأ في الحكم العثماني هو الاستبداد السياسي .. وكان العلاج الذي يجب أن يقدّم للأمة هو التربية على الروح الإسلامية الصحيحة في السياسة ، وهي السمع والطاعة للحاكم فيما يطيع فيه الحاكمُ الله ورسوله ، ومراقبة الأمة لأعمال الحاكم حتى ينضبط في تصرفاته بضوابط الشريعة . كما يتبين في ذلك المثال الفذ ، حين وقف عمر رضي الله عنه يخطب الناس فيقول : أيها الناس ، اسمعوا وأطيعوا ، فيقول له سلمان الفارسي رضي الله عنه : لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة ! فيقول عمر : ولمه ؟ فيقول : حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به ، وأنت رجل طوال لا يكفيك برد واحد كما نال بقية المسلمين ! فلما تبين لسلمان أن البرد الزائد هو برد عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، أعطاه لأبيه ليكمل به كسوته ، قال لعمر : الآن مر ! نسمع ونطيع !(1/27)
وصحيح أن الأمة قد فرطت في حقها الرباني في مراقبة أعمال الحاكم ، والنصح له ، وأطره على الحق أطرا كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا " (33)
وأن هذا التفريط قديم في حياة الأمة من زمن بني أمية ، وأن الاستبداد العثماني لم يكن بدء الانحراف ، وإنما كان مجرد امتداد تاريخي له .. ولكن الواجب يظل واجبا مهما فرطت فيه الأمة ، ولا يسقط بالتقادم مهما طال عليه العهد .. والإصلاح الواجب يظل هو هو لا يتغير .. ينتظر العالم الرباني المجدد المجاهد ، الذي يأخذ على عاتقه إعادة الأمة إلى الأصل الذي انحرفت عنه ، ولو ضحى في سبيل ذلك بحياته كما فعل أكثر من عالم من علماء الإسلام خلال التاريخ .
ولكن العلاج الذي اتخذته الأمة - في التيه - كان مخالفا تماما لهذا الأمر ..
كان العلاج الذي اتخذته هو تنحية الشريعة الإسلامية ، واستجلاب " الدساتير " من الغرب ، من أجل إقامة " دولة حديثة " كالدول الأوربية الحديثة !
ما أبعد المدى بين الطريقين !
لم تدرك الأمة - في التيه - أبعاد القضية على حقيقتها ..
لم يكن الخطأ في حياة الأمة الإسلامية ناشئا من الشريعة ، حتى يكون العلاج هو إلغاء الشريعة ! إنما كان ناشئا من عدم تمسك الأمة بالحقوق التي كفلتها لها الشريعة الربانية .. وعلاج ذلك لا يكون باستيراد أحد النظم الأوربية ومحاولة تطبيقه . فسوف نرى أن استيراد النظم الأوربية لم يحل مشكلة واحدة من مشاكل المسلمين !
لقد كانت مشكلة أوربا في قرونها الوسطى المظلمة نائشة من الحكم " الثيوقراطي " ، أي حكم رجال الدين ، الذين استبدوا بالناس نتيجة تسلطهم الروحي على الناس في ذلك الدين الفاسد ، الذي انقلب كهّانه إلى وسطاء بين العبد والرب ، بسبب تحريف العقيدة ، وإضفاء القداسة على من لا تجوز لهم القداسة من البشر ، وتنحية الشريعة كذلك ، وتقديم الدين عقيدة - محرَّفة - بغير شريعة !(1/28)
هذا السوء كله لم يكن له علاج في نظر أوربا إلا فصل الدين عن السياسة ، أي - في الحقيقة - إبعاد نفوذ رجال الدين عن أمور السياسة ، وجعل السياسة " علمانية " لا دخل فيها للدين .. وربما لم يكن أمام أوربا إلا ذلك الحل ، ما دامت لم تعرف الدين الرباني ، ولم تمارس في حياتها عدالة مستمدة من دين الله .
ولكن أوربا - حين خلعت نير رجال الدين عن السياسة - ابتليت باستبداد الملوك والأباطرة الذين نادوا بفصل الدين عن السياسة ليستقلوا هم بالسلطة الزمنية ، ويشبعوا نهمهم إلى السلطة بغير منافسة من آباء الكنيسة . وهذا الاستبداد هو الذي قامت الثورات المتتالية في أوربا لاجتثاث جذوره - بدءاً بالثورة الفرنسية - وكانت الديمقراطية هي الحل الذي اهتدت إليه أوربا لتأسيس سلطة الأمة في مراقبة أعمال الحاكم ، وجعل التشريع حقا للأمة لا ينفرد به الحكام .
ونصرف النظر مؤقتا عما لا يمكن صرف النظر عنه ، من دخول اليهود في اللعبة ، وتوجيههم " مكاسب الديمقراطية " لحسابهم الخاص ، أي لحساب الرأسمالية التي كانوا هم كهنتها ودهاقنتها منذ بدء الثورة الصناعية ، ولحساب الفساد الخلقي الذي كانوا تواقين إلى نشره في المجتمع الأوربي ، ليركبوا ظهور "الأمميين" ويسخروهم لخدمتهم(34) ، وذلك من خلال مبدئهم الخطير الذي جعلوه شعارا للثورة Faire, Laissez Passer Laissez : دعه يعمل ( ما يشاء ) ، دعه يمر ( من حيث يشاء ) أي حرية الرأسمالي في أن يربح كما يشاء ، وحرية الجماهير في الإلحاد والفساد الخلقي باسم الحرية الشخصية .
بصرف النظر - مؤقتا - عن هذا كله ، فقد كان فصل الدين عن السياسة هو " الحل الأوربي " لأزمة أوربية بحتة ، نشأت ابتداء من كون أوربا لا تملك دينا سماويا ترجع إليه ، إنما تملك عقيدة - محرفة - بغير شريعة .(1/29)
أما المسلمون فقد كانت مشكلتهم بعيدة كل البعد عن هذا المجرى ، وإن وجد التشابه الظاهري في استبداد الحكام بسلطانهم السياسي .. فإعطاؤهم ذات الجرعة التي استخدمتها أوربا لم يحل مشكلتهم ، بل أضاف إليهم مشاكل جديدة ! كالطبيب الجاهل يأخذ عرضا واحدا من أعراض المرض - تشترك فيه أمراض كثيرة - فيعطي - مثلا جرعة من دواء الحمى السحائية لمريض بالتيفود ، لمجرد وجود الحرارة العالية في بدنه ! فلا العلاج يشفيه من مرضه ، وقد يضعف مقاومته فتزداد حالته سوءا على سوء !
مشكلة المسلمين - كما أسلفنا - كانت تفريطهم في الحقوق السياسية التي كفلتها لهم الشريعة الربانية (35) ، التي أقامت خير نظم الأرض السياسية حين طبقت تطبيقا صحيحا ، في فترة الخلافة الراشدة .
والعلاج - الذي يجب أن يقدمه العالم الرباني المجدد المجاهد - هو رد الأمة - عن طريق التربية والتوجيه - إلى الروح التي عاش بها المسلمون الأوائل ، ومارسوا بها الدين بتمامه في عالم الواقع .
أما استيراد الديمقراطية أو غيرها من النظم من الغرب (36) ، مع تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم ، فما الذي أفضى إليه في واقع الأمة ؟
لقد أفضى إلى مجموعة من الشرور ما تزال الأمة تعاني نتائجها ، وستظل كذلك حتى تفيء إلى أمر الله ، فتصلح أخطاءها بالعلاج الرباني الذي أنزله الله هدى للناس وشفاء لما في الصدور .
فأما تنحية الشريعة فسنتكلم بعد هنيهة عن المفاسد التي نجمت عنها في مجتمع التيه .
وأما الديمقراطية فقد أفضت في التطبيق الواقعي إلى مهازل مضحكة ، وإلى مآسٍ كثيرة في حياة الناس .
حين ثار المصريون ثورتهم " الوطنية " (37) في عام 1919 كان " تشرشل " الداهية البريطاني الكبير وزيرا في حكومة المحافظين يومئذ ، فسمع أخبار الثورة فسأل : ماذا يريد المصريون ؟ فقيل له يريدون أن يكون لهم برلمان ودستور . فقال ساخرا : "Give them a toy to play with : أعطوهم لعبة يتلهون بها " !!(1/30)
أما المهازل فتنشأ من تدخل السلطة بالقوة لإنجاح " مرشح الحكومة " ، وتزييف الانتخابات ، واستغلال أمية الناخبين ، وشراء الأصوات بالمال ، وإلغاء الصناديق الحقيقية بالكلية والإتيان بصناديق بديلة معدة من قبل بالنسبة المطلوبة ( 99.9% ) ! واعتقال المعارضين لمنعهم من دخول الانتخابات ، وتقسيم الدوائر تقسيما تحكميا يخدم مصالح بعض المرشحين على حساب الآخرين ..
أما المآسي فليس أقلها تفريق الأسر وإيجاد العداوات ضد بعضها البعض ، بل إيجاد العداوات داخل الأسرة الواحدة أحيانا ، نتيجة الانتماء إلى الأحزاب المتفرقة ، ونشر الكذب السياسي ، وخداع " الجماهير " بالوعود المعسولة ، ونشر " المحسوبية " ، وملء كل حزب يصل إلى الحكم وظائف الدولة بأتباعه ومنافقيه من غير ذوي الكفايات مهما ترتب على ذلك من ضياع مصالح تلك " الجماهير " .. فضلا عن كون الدولة الصليبية المسيطرة في المنطقة هي التي تحكم في الحقيقة من خلال تلك الأحزاب ، والجماهير لاهية عن ذلك ، غير ملتفتة إليه وهي منهمكة في صراعاتها الحزبية التافهة .. فتتضاعف الجريمة بسبب ستر العدو الحقيقي ، وصرف همة الناس عن مجاهدته ، وتوجه الجهد كله إلى صراع الأحزاب بعضها ضد بعض!
وقد كان هذا كله ذريعة لما هو أسوأ منه بكثير .. وهو الانقلابات العسكرية التي قامت بحجة إصلاح الفساد الذي أحدثته الأحزاب في حياة الناس !!
ولقد كانت الانقلابات العسكرية هي قمة المأساة ..(1/31)
فقد كانت الشعوب العربية بالذات قد ثارت على مظالم الحكم التركي ، وطلبت الاستقلال عن الدولة العثمانية فرار من الظلم (38) ، وضحك عليها اليهود والنصارى معاً - عن طريق لورنس ، رجل المخابرات البريطاني الذي قاد " الثورة العربية الكبرى " في حقيقة الأمر - فأفهموها أنها ستحصل على الاستقلال ، وعلى العدل السياسي ، وعلى العصرانية والتمدن والتقدم ، وأنها ستولد ولادة جديدة بعد الثورة ، وتحقق من أحلامها ما لم يتحقق لها في التاريخ !
وعملت " الثورة العربية الكبرى " عملها ، ففتتت وحدة العالم الإسلامي ، وأسهمت إسهاما ظاهرا في هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (39) ، ودمرت الخط الحديدي الذي كان السلطان عبد الحميد قد أنشأه ما بين اسطنبول والمدينة المنورة ، ثم .. تقاسمت بريطانيا وفرنسا بلاد العالم العربي ، وقسّمتاه إلى دويلات ضعيفة هزيلة فقيرة ، خاضعة كلها للاحتلال الصليبي ، ووُضِعت فلسطين - هدف اللعبة كلها - تحت الانتداب البريطاني ، تمهيدا لتسليمها لليهود فيما بعد ، وإنشاء إسرائيل .
وكان هذا هو الثّمَن الذي حصلت عليه الدول العربية حين ثارت - أو أثيرت - ضد مظالم الحكم العثماني : فقدت استقلالها ، وفقدت كرامتها ، وفقدت الأرض المقدسة التي بارك الله فيها وجعلها مسرى رسوله صلى الله عيه وسلم ، وفيها ثالث الحرمين الشريفين ، واستعبدت للغرب الصليبي ، وعاث اليهود في أرجائها .
ولم تكن المظالم العثمانية شيئا مقبولا ، ولا كان السكوت عليها جائزا في شرع الله .. ولكن الحل الذي قدم للأمة كان أسوأ بكثير في مجموعه من الحال التي اشتكى منها المسلمون من قبل ، حتى لقد انطبق عليه قول الشاعر :
رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه !
ومع ذلك فلم تكن تلك قمة المأساة ..(1/32)
كانت القمة - كما أشرنا - هي الانقلابات العسكرية التي جاءت لتصلح الفساد الذي أحدثته الخطوة السابقة ، وتحرر الأمة من النفوذ الأجنبي الذي احتل العالم العربي بعد انسلاخه من الدولة الأم !!
لم تذق الأمة الإسلامية في تاريخها كله ظلما أشد من ذلك الظلم الذي أوقعته بها الانقلابات العسكرية .. فقد كان الاستبداد السياسي في العهود السابقة محدود النطاق .. يتعرض له أفراد بأعيانهم أو جماعة بعينها يقع عليها غضب السلطان ، ولكن الإنسان العادي لا يناله من ذلك الظلم إلا طمع الولاة في ماله ، أو ما يفرضونه عليه من الضرائب الباهظة مع فقره.. ولكنه يذهب إلى عمله وهو آمن ، يسمرون ، أو يتبادلون الحديث عن أوجاعهم ومتاعبهم ، أو يشتمون الوالي - في غيبته - وربما تعدوا الوالي فيشتمون السلطان ذاته .. وهم آمنون !
أما الحكم العسكري فقد كان شيئا يفوق في بشاعته كل حد ..
لا أمن ..
فجواسيس الحاكم يعدّون على الناس أنفاسهم . والويل لمن تكلم بكلمة ينتقد فيها عملا واحدا من أعمال الفرعون الجبار .. السجن والتعذيب والتشريد .. وقد يلقى حتفه في معتقله في ليل أو نهار في أثناء التعذيب ، فلا يجرؤ أهله - لا نقول أن يشتكوا - بل حتى أن يسألوا عنه : أحيّ هو أم ميت .. ومن سأل فجزاؤه على سؤاله أن يؤخذ إلى حيث يعود أو لا يعود !
وألوان من التعذيب تعفّ عنها الوحوش ..
فالوحش يفترس ليأكل ، فإذا شبع انصرف وكف عن الافتراس . ولكنه لايفترس من أجل تعذيب فريسته ، والتلذذ برؤية العذاب ينصب عليها ، كما يصنع الإنسان حين يفقد آدميته ، وينتكس أسفل سافلين .
وقد مارس العسكر هذه الوحشية كلها وهم " يحررون " الشعب من الخوف ! ويحررونه من الذل ! ويحررونه من الاستعباد ! وكان أحد هؤلاء الطغاة ينادي وهو يمارس أبشع ألوان الإذلال لشعبه : ارفع رأسك يا أخي ! فقد مضى عهد الاستبداد !!(1/33)
ذَلَّ الناس .. وانكسرت أنفسهم .. وشملهم الرعب القاتل من " زائر الليل " الذي ينتزع الناس في جوف الليل من ديارهم وأزواجهم وأطفالهم ، ليلقيهم في ظلمات لا يعلم أحد مداها ، بل أخذت النساء كذلك لأول مرة في تاريخ الأمة ليعذبن داخل السجون .
ومع الفزع عم الفقر الشعب كله ، إلا المحظوظين الذين اكتنزت جيوبهم بالمال الحرام المسلوب من الأمة تحت سطوة القهر .. وطُحِنتْ مع كرامة الأمة أخلاقياتها ومثلها وقيمها ، وأصبح الهم الأكبر للناس البحث عن لقمة الخبز ، لهثاً وراءها حتى يجدوها - إن وجدوها - منقوعة في الذل والخوف والهوان .
ولحساب من يحدث هذا كله ؟!
لحساب من يسحق الشعب ، وتلقى كرامته في الأرض وتداس بأقدام الطغاة ؟!
لحساب الصليبية العالمية والصهيونية العالمية ، حتى تأمن إسرائيل وتستقر وتتوسع ، والشعوب الإسلامية حولها مسحوقة لا تملك الاعتراض ، فضلا عن الرفض .. فضلا عن الجهاد المقدس ضد الغاصبين .
وهذا الذي ظفرت به الشعوب التي ثارت على مظالم العثمانيين !!
مرة أخرى نقول : لم تكن مظالم العثمانيين مقبولة ، ولا كان السكوت عليها مقبولا في شرع الله . ولكن العلاج الذي تناولته الأمة - في التيه - كان أفظع بكثير ، وأمرّ بكثير .. كان هو الذل والهوان والضياع .
و من عجب أنه كان في التيه - دائما - طبالون وزمارون ، يطبلون ويزمرون لكل مرحلة من مراحل التيه . فإذا جاء غيرها لعنوا الأولى التي كانوا يطبلون لها ويزمرون ، وبدءوا طبلهم وزمرهم للمرحلة الجديدة بنفس الحماسة ونفس " الولاء " !(1/34)
حين جاءت الديمقراطية وتشكلت الأحزاب وخاضت " المعارك " ضد بعضها البعض ، هلل الدعاة وكبروا ، وقالوا : الآن تحررت الأمة وارتقت ، وأصبحت تعبر عن إرادتها من خلال الأحزاب .. وحين جاءت الدكتاتورية الاشتراكية قام الدعاة يلعنون " العهود البائدة " التي أفسدت الأمة بالصراعات الحزبية ، وشتتت كلمتها ، وأفقدتها وحدتها .. ويلعنون في الوقت ذاته أنه قد آن الأوان للأمة أن تتوحد ، وتتحرر من الفساد ، وتستعيد شخصيتها المفقودة ، وتسير في طريق الفلاح ..!
ويدور الطبالون والزمارون .. كتابا وصحفيين ، وخطباء وفنانين ، وقصاصين ومسرحيين .. والأمة تدور وراءهم في ظلمات التيه !
* * *
ولم يكن ذلك هو التيه الوحيد في المجال السياسي ..
فقد نُشِرَتْ - وانتشرت - دعاوى القومية والوطنية في مقابل الوحدة الإسلامية ..
لم تكن الوحدة الإسلامية في تاريخ هذه الأمة دعوة ولا دعوى .. إنما كانت واقعا معيشيا ، لا تفكر الأمة في غيره ، بحكم أنها تدين بالإسلام .
وقد تفككت " الدولة الإسلامية " أكثر من مرة ، في المشرق والمغرب ، لأسباب كثيرة ، ولكن شعور الأمة بأنها أمة واحدة من المغرب إلى المشرق لم يتأثر بتفكك الدولة ، بل لم يتأثر بالحروب التي قامت بين بعض الدويلات الإسلامية وبعض . " فالدول " بسلاطينها وأمرائها شيء ، و "الأمة " بوحدة عقيدتها ، ووحدة شعائرها ، ووحدة أفكارها ، ووحدة قيمها وتصوراتها شيء آخر ، لا دخل فيه لصراعات السلاطين والأمراء ..
حتى دخلت " الأمة " في التيه ..
عندئذ تفككت وحدتها لأول مرة في التاريخ .. ذلك أن الرابط الجامع لم يعد هو الذي تجتمع عليه الأمة .. وإنما حلت محله الأفكار الدخيلة المستوردة من الغرب ، وهذه من شأنها أن تفرّق لا أن تجمّع .. من شأنها أن تحوّل الأمة إلى فتات ..
ولكن الأمة - في التيه - لم تكن تعي ذلك ..(1/35)
كانت تظن - وهي تتزيا بزي الوطنية والقومية - أنها ترتدي آخر " موضة " في عالم الفكر السياسي ، وأنها تخلع رداءها القديم البالي الذي مرت عليه القرون الطوال !
وحقيقة لقد كان الثوب قد أخذ يبلى .. لا لأنه قديم ! فهو ثوب من طبيعة خاصة ، تتجدد خيوطه - تلقائيا - مع كل جيل جديد .. إنما كان قد أخذ يبلى لأن " الروح " التي تجدد الخيوط كانت قد خمدت في داخل القلوب .
ولم يكن الحل أن تخلع الأمة رداءها .. إنما كان الحل أن تجدده .. فبمجرد أن تحيا العقيدة في القلوب تتجدد خيوط الرداء من تلقاء نفسها ، كما تتجدد أوراق الشجرة بمجرد أن تتحرك العصارة الحية في أليافها :
( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا .. ) (40).
ولكن الأمة نظرت إلى ثوبها الذي أخذ يهتريء فلم تقدره حق قدره .. لم تقدر قيمته ، ولم تقدر قدرته العجيبة على التجدد ، التي أودعها الله في الكلمة الطيبة ، كلمة لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
خلعته زاهدة فيه .. وهفت في سذاجة - أو في بلاهة - إلى الأثواب المزركشة المستوردة من الغرب ، ولم تختبرها بعين بصيرة لكي تكتشف رداءة النسيج ..
لقد كانت القومية والوطنية ردود فعل أوربية لأزمة أوربية بحتة .. ولم تكن نتاجا " إنسانيا " كما زعم موردوها إلى العالم الإسلامي .
لقد كان طغيان الكنيسة الأوربية بدينها المحرف أساس البلاء كله الذي وقع في الغرب.
فحين زاد الطغيان عن الحد المحتمل ، أو قل حين دب الوعي بالطغيان في نفوس الأوربيين بعد احتكاكهم بالإسلام ، حاولوا الانسلاخ من نفوذ ذلك الغول البشع الذي يفسد عليهم حياتهم ، فاستقلوا بادئ ذي بدء في كنائس - أي مذاهب - لا تخضع لنفوذ البابا ، وانتهى الأمر إلى أن تصبح تلك السلخ المنسلخة قوميات ووطنيات ..(1/36)
ثم قامت بينها الحروب التي كادت تعصف بكيان أوربا ، لولا تزامن أمرين اثنين على الأقل أعطيا تلك القوميات قوة ورسوخا ظن الأوربيون أنهما من طبيعة القومية والوطنية فزاد تمسكهم بهما ، حتى أدركوا أخيرا مقدار الشر الكامن فيهما ، فأخذوا يحاولون التجمع تحت رايات جديدة تذيب حواجز القومية والوطنية ، وتجمّع أوربا في وحدة شاملة (41) ..
أما الأمران اللذان أعطيا القوميات قوة - لفترة من الزمن - فأولهما الثورة الصناعية ، وثانيهما ضعف العالم الإسلامي !
الأول حفز كل قومية أن تنافس الأخرى بالقوة الاقتصادية الناجمة عن الصناعة ، والثاني جعل القوميات الأوربية تكف - مؤقتا - عن قتال بعضها البعض ، وتتجه إلى غزو العالم الإسلامي ، ونهب خيراته ..
وكان من همّ الغزو الصليبي للعالم الإسلامي أن يفتته لقيمات صغيرة ليستطيع ابتلاعه ، فزين للأمة - وهي في التيه - أن تلقي رداءها ذا النسيج الفذ ، وتتزيا بتلك الأثواب الرديئة النسيج ، المزركشة الألوان ..
ولما فعلت ذلك تم المطلوب ! وازدرد الغرب الصليبي فريسته ، بعد أن ساعدته على نفسها ، بتحويل نفسها إلى فتات !
* * *
لم تكن قضايا السياسة وحدها هي التي فسدت وأفسدت الأمة في مرحلة التيه ..
فقد كانت تنحية الشريعة شراً شاملاً ، شمل من حياة الأمة كل شيء ، وأفسد من حياتها كل شيء ..
لقد أفسدت بادئ ذي بدء عقائد الناس وتصوراتهم عن " الدين " .
فالدين - كما نزل من عند الله - عقيدة وشعيرة وشريعة .. دين ودولة .. ومنهاج حياة (42).
ولكن الناس - في التيه - فقدوا ذلك التصور الواضح ، وتشربوا بدلا منه المفهوم الغربي الكنسي ، الذي يفصل الدين عن الدولة ، ويصور الدين علاقة بين العبد والرب محلها القلب ، ولا علاقة لها بواقع الحياة !(1/37)
فقدوا الإحساس بمعنى قوله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (43).
وقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (44) .
وقوله تعالى : ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) ؟ (45) .
وهم يتلون ذلك كله في كتاب الله ، ولكنه لا يصل إلى أفئدتهم - في التيه - إلا أصداء بعيدة غير ذات مدلول ..
وصحيح أن مفهوم " الدين " ومفهوم " لا إله إلا الله " ومفهوم " العبادة " كان كله قد انحسر في نفوس المسلمين قبل مجيء الغزو الصليبي ، وهزيمة الجيوش الإسلامية أمامه . ولكن الانحسار كان قد توقف عند آخر حاجزين لم يكن يمكن - في حس المسلمين - أن يحدث التراجع عنهما وهما الصلاة وتحكيم شريعة الله . فقد يتهاونون في كل شيء ، ويغضون الطرف عن أي مخالفة ، ولكن يبقى في حسهم أن المسلم يصلي ، ولا يمكن أن يكون مسلما إذا ترك الصلاة ، ويتحاكم إلى شريعة الله ، ولا يمكن أن يكون مسلما إذا تحاكم إلى غير شريعة الله ..
ولكنهم - في التيه - تراجعوا عن كلا الحاجزين في وهلة الانبهار ! تراجعوا أولا عن الشريعة ، ثم تراجعوا عن الصلاة !
وأسرع الطبالون والزمارون يزينون للأمة ما فعلت ، ويقولون لها في الخطوة الأولى : لا بأس عليكم من عدم تحكيم شريعة الله ، فتلك مسألة خاضعة " للتطور " ! وما دمتم تصلون وتصومون فأنتم مسلمون ! ثم زينوا لهم - كما سيأتي بيانه - أن يتركوا الصلاة والصوم وسائر الشعائر التعبدية ، ثم قالوا لهم : لا بأس عليكم وإن لم تصلوا ولا تصوموا .. فما دمتم تقولون لا إله إلا الله ، فأنتم مسلمون !!(1/38)
ووقعت الأمة في الفتنة من جانبين .. جانب الطبالين والزمارين - دعاة الغزو الفكري - وجانب علماء السوء ، عبيد السلطان .
فأما الطبالون والزمارون فقد قالوا للأمة : لقد كنتم تطبقون الشريعة وتقيمون الشعائر وتملئون المساجد فماذا أصابكم من ذلك كله إلا الضعف والتأخر والخذلان أمام الغرب ؟ وها هو ذا الغرب لا يحكّم شريعتكم الجامدة ! إنما يحتكم إلى قانون متطور مواكب للأحداث ، وها هو ذا لا يصلي مثلكم ولا يصوم .. فأين هو وأين أنتم ؟ هو في القمة وأنتم في الحضيض ! فدعكم من تلك الأغلال التي كانت تكبلكم .. وانطلقوا .. انطلقوا إلى الحضارة والقوة والرقي والتقدم !
وأما علماء السوء فقد اتكئوا على الفكر الإرجائي : من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن ، ولو لم يعمل عملا واحدا من أعمال الإسلام !! ربكم رب قلوب ! ما دام قلبك عامرا بالإيمان فلا يهمك شيء .. ولا يضر مع الإيمان معصية !
وتلاقت الفتنة من هنا ومن هناك .. واندفعت الأمة في التيه !
فأما " الطيبون " فقد ظلت عواطفهم مع الإسلام ، ومع كتاب الله ، ولكنهم جلسوا يتحسرون على الأيام الفائتة ، ويقولون لأنفسهم : ما حيلتنا ؟ لقد تغير الزمان ! ولم يعد في الوسع الرجوع إلى ما كان !
وأما العملاء فقد فركوا أيديهم سرورا بتخلص البلاد من عدو أسيادهم الذين يدينون هم لهم بالولاء !
وأما جموع أخرى من الناس فقد وقفوا حائرين : هل من المعقول أن يكون هؤلاء " الإفرنج " الراقون المتحضرون المتقدمون الذين نجلس نحن عند أقدامهم - إن سمحوا لنا أن نجلس هناك - هل من المعقول أن ينطبق عليهم ما جاء من وصفٍ في القرآن : أنهم الخاسرون .. أنهم الضالون .. أنهم هم الصم الذين لا يسمعون ، العمي الذين لا يبصرون ؟!
وي!
ومن الرابح إذن ومن المهتدي .. ومن المفتوح البصر والبصيرة ، الواصل إلى جوهر المعرفة وعلم اليقين ؟!(1/39)
كلا ! لابد أن يكون القرآن يصف قوما آخرين .. كانوا في الماضي .. أما حاضر الغرب فلا يمكن أن ينطبق عليه الوصف !
ونحن أيضا ! أتنطبق علينا الأوصاف الواردة في القرآن إذا قلدنا الغرب وحاولنا أن نصنع مثلما يصنع ؟
حين نتعلم مثلهم ، ونرتقي مثلهم ، ونحطم الأغلال مثلهم ، ونحرر المرأة مثلهم ، ونشرع لأنفسنا مثلهم .. أنكون عندئذ في حكم " الجاهلية " كما يقول القرآن ؟!
كلا ! كلا !
إما أن القرآن قد نزل لقوم معينين ، كانت أحكامه صحيحة بالنسبة إليهم ، لأنهم كانوا في بداوتهم لا يملكون فكرا راقيا ينظمون به حياتهم ، فكان القرآن رفعاً لهم وتقدماً بالنسبة إليهم ، وإما أن الدين كله - كما تقول أوربا - قد أخلى مكانه اليوم للتقدم البشري المبني على " العلم " .. فلا علينا إذن أن نخالف أحكامه ونحن مطمئنون !
* * *
كانت الشريعة هي العقدة الضامّة .. فلما انحلت انفرط عقد كل شيء ..
ولم يكن التغيير كله ذاتيا بطبيعة الحال .. بل أقله هو الذي كان تلقائيا ، وأكثره كان مدفوعا مدبرا مخططا من قِبَل القوى الصليبية المسيطرة ، تعاونها الصهيونية الداخلة تحت كنفها ، العاملة في إطارها . ولكن الأمة - في التيه - كانت سرعان ما تتقبل التغيير ، سواء كان ذاتيا من المنبهرين ، أو مدفوعا مدبرا مخططا من الصليبيين والصهيونيين .
ولم يبق مجال واحد من مجالات الحياة بعيدا عن تيار التغيير ..
تغيرت الحياة الاقتصادية
دخل الربا رسميا وعلنياً في حياة الناس . فقد قيل للناس : كيف تحكّمون مفاهيمكم الدينية الجامدة في دورة الحياة العصرية المتقدمة الموارة بالنشاط الحيّ ؟ تريدون أن تجمدوا الحياة على صورتها البدائية التي كانت عليها في القرون الوسطى ؟!(1/40)
إن الاقتصاد الحديث لا يمكن إدارته بدون الربا .. لا يمكن ! لأنه لا بد من بنوك تقرض أصحاب الأعمال .. والبنوك شأنها هكذا .. لا تعمل بغير ربا ! لأنها لا بد أن تضمن أموالها التي تقرضها لأصحاب الأعمال .. فكيف إذا حكّمتم شريعتكم التي تحرّم الربا ؟! تتوقف البنوك عن الإقراض ، ويعجز أصحاب الأعمال عن إدارة أعمالهم ، فتتوقف دورة الاقتصاد ، وتتخلف الأمة ، ويسبقها غيرها . الربا ضرورة . والضرورة تبيح المحظور .. فاحتفظوا بشريعتكم في قلوبكم .. أما واقعكم فاتركوه ينطلق مع دوامة الحياة الحية .. أو فلتبقوا جامدين ، ودعوا أوربا تسبقكم في جميع المجالات !
وتقبلت الأمة - في التيه - كل القول على عواهنه .. وانساقت مع " الأمر الواقع " .
ولم يكن لديها من الوعي أو البصيرة ما تفند به القول ، فضلا عن أن يكون لديها مبادرتها الخاصة المستمدة من فكرها وتصوراتها وعقيدتها .. فضلا عن أن تعتز بوضعها الذي أخرجها الله من أجله فتكون هادية ورائدة تصحح للبشرية أخطاءها وانحرافاتها ..
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(46) .
فأما أن بنوكهم هكذا .. فنعم !
فالبنك - في صورته الغربية - فكرة يهودية بحتة ، وتنفيذ يهودي كذلك ..(1/41)
فحين قامت الثورة الصناعية في أوروبا - وكانت في حاجة إلى المال لتمويل مشروعاتها - لم يكن هناك من يملك المال المطلوب إلا أمراء الإقطاع والمرابين اليهود .. وقد أحجم أمراء الإقطاع عن تمويل الحركة الصناعية لأكثر من سبب ، فتقدم المرابون اليهود لعملية التمويل ولعابهم يسيل ! فقد أتيحت لهم فرصة " ذهبية " لتشغيل أموالهم بالربا على نطاق واسع . فهم لم يكونوا يشاركون بالمال الذي في أيديهم في المشروعات الصناعية - وقد كان كثير منها يخسر في مبدأ قيام الثورة الصناعية لإحجام كثير من الناس عن استخدام ما تنتجه الآلة ، كما كانت طرق المواصلات غير ممهدة ، وكان التخطيط شبه معدوم ، والإعلان عن المنتجات غير متوفر - إنما كانوا يقرضون المال بالربا .. وسواء كسب المقترض أم خسر ، فهم في مأمن من الخسارة بما يفرضون من ربا مقابل إقراض المال .. وحتى ذلك المال لم يكن كله مالهم الخاص ! فقد كان كثير منه من الودائع التي تعوّد الناس في أوربا أن يودعوها عند اليهود . وهكذا ولدت فكرة البنك الذي يأخذ ودائع المودعين فيقرضها للمقترضين مقابل جعل ربوي يفرض عليهم ، ويعطى صاحب الوديعة جانبا من الفائدة على وديعته ، ويأخذ البنك - أي أصحابه اليهود - بقية " الفوائد " ربحا خالصا مقابل لا شيء ! أي مالا حراما لا يحله الله :
( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) (47) .(1/42)
وأما أن الاقتصاد " الحديث " لا يصلح بغير الربا ففرية يهودية ، أطلقها اليهود وروّجوها ليضمنوا لأنفسهم السيطرة المستمرة على عالم الاقتصاد - الذي يسيطرون عن طريقه على حياة الأمميين السياسية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية والإعلامية ، ويستحمرونهم به لحسابهم الخاص - وعقلاء الغرب أنفسهم بدءوا يرون بأعينهم ويلات الربا ، ويفكرون في منهج بديل .
ولكن الأمة الإسلامية - في التيه - لم تكن تجرؤ حتى أن تحدث نفسها في سريرتها بأن الغرب يمكن أن يخطئ ! إنما المخطئ من يخالف الغرب ! وعلى المخالف أن يصحح موقفه ليتناسق مع " الأمر الواقع " أو " مع الرأي العام العالمي " أو مع " مقتضيات الحياة الحديثة " أو مع ما يكون من المسميات !
وقام " المفتي " يحلل الربا " البسيط " .. ربا " صندوق البريد " .. بحجة أن المحرم هو " الأضعاف المضاعفة " وليس أصل الربا ! وقام غيره يحلل ربا السندات التي تصدرها الدولة ، بحجة أن الدولة لا ينطبق عليها ما ينطبق على الأفراد !! وقام غيره وغيره وغيره .. وقام آخرون - في التيه - ينادون علانية بوجوب تنحية الشريعة من أجل التقدم الاقتصادي الذي تتحقق به " مصلحة " الشعوب !
* * *
وتغيرت الحياة الاجتماعية ..
تفككت روابط الأسرة ..
وأصبحت " الأسرة الكبيرة " عيبا يتندر به " المثقفون " !(1/43)
ذلك أن " المثقفين " قرءوا فيما قرءوا عن حياة الغرب أن الأسرة الكبيرة التي تشمل الأجداد والأحفاد إلى جانب الآباء والأبناء كانت سمة من سمات المجتمع الزراعي - الذي يوصف دائما بأنه مجتمع متخلف - أما المجتمع الصناعي - الذي يوصف دائما بأنه المجتمع المتطور - فقد ذابت فيه الأسرة الكبيرة ، وصارت الأسرة تقتصر على الأب والأم والأولاد .. وحتى الأولاد فإلى سن معينة ثم ينفصلون عن آبائهم ، ويؤسسون لأنفسهم حياتهم الخاصة ، ولو لم يتزوجوا ويكوّنوا أسرة .. فهذا أمر آخر ! إنما المهم هو الاستقلال الاقتصادي الذي يصحبه الانفصال عن الأبوين !
يا له من تقدم !
وإذا كنا نحن بعواطفنا " الشرقية " لا نتحمل هذه الجرعة الكبيرة من التقدم الحضاري ، فلنقتصر على إخراج الأجداد والأحفاد من نطاق الأسرة .. ولتظل الأسرة هي الأب والأم والأولاد ، إلى أن يتزوجوا ويكوّنوا أسرهم الخاصة ، ولنترك الأسرة الكبيرة لسكان الريف ، بحكم أنهم مجتمع زراعي متخلف ، لا يرجى له أن يتحضر من قريب !
أما الروابط الأسرية الموروثة التي كان منبعها تعاليم الدين فقد آن لها أن تتغير ، لأن الدين لم يعد في هذا العصر مصدر التوجيه . لقد صارت العلاقات الاقتصادية هي محور الحياة " الحديثة " ( يقولها قائلها مفتخرا بأنه نال شيئا من " الحداثة " ولو بلمس اليد من بعيد ! ) وصارت هي التي تقرر للناس روابطهم (48) ، فإذا تعارضت معها تعاليم الدين ، فتعاليم الدين هي التي ينبغي أن تتنحى .. لأنها نزلت في جو آخر ، ولقوم آخرين .. ولم يعدلها مجال في عالمنا المتطور الحديث ..
وانفك رباط الناس بالبيت ..
لقد كان البيت المسلم هو " المجتمع " الصغير الذي ينشأ فيه الصغار ويرتبطون بالكبار ، يرتبطون رباط الأبناء بآبائهم ، ورباط القيم والأخلاق والتقاليد ، ورباط الألفة والمودة ، ورباط الاستقرار النفسي والعاطفي ، وكلها معانٍ - كانت - مستمدة من الدين ..(1/44)
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (49) .
( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) (50) .
ولكن الأحوال تغيرت ..
أصبحت هناك - في الخارج - جواذب تجذب الناس إلى خارج البيت ..
هناك المقاهي .. يمكن أن يسهر فيها الناس إلى منتصف الليل ، يلعبون النرد ، أو يلعبون الورق ، أو يشربون " الشيشة " ، أو يثرثرون في شتى الأحاديث التي كان مكانها من قبل زيارات الناس بعضهم لبعض في البيوت ..
وتلك المقاهي هي على أي حال " للأتقياء " من الناس !
أما غير الأتقياء فلهم أماكن أخرى - كثيرة - يسهرون فيها خارج البيت ..
أمامهم البارات والحانات .. وقد سارع الغازي الصليبي بعد تنحية الشريعة إلى إعطاء تصاريح رسمية ببيع الخمر ، وإيجاد أماكن مرخص بها يجلس الناس فيها ليحتسوا الخمر علانية .. وكتب عليها أن تقدم " المشروبات الروحية " ! (51) لروادها ! وأمامهم المسارح والمراقص ودور اللهو ..
وأمامهم بيوت الدعارة الرسمية ، مفتوحة بإذن الدولة .. الدولة " المسلمة ! " وعليها حراسها يحمون القائمات ببيع الرذيلة فيها كما يقومون بحماية أي مرفق من مرافق المجتمع..(52).
وأصبح السهر خارج البيت سمة من سمات " المجتمع الجديد " الذي استحدثته الأمة في التيه ، يفكك روابط البيت التقليدية ، وينشئ أجيالا لا تستمتع بما كانت تستمتع به الأجيال السابقة من رعاية الأب ، ووحدة المشاعر ، وألفة النفوس ..(1/45)
ثم جاء دور المرأة لتخرج كذلك من البيت !
جاءت قضية " تحرير المرأة " ..
ولقد كانت المرأة في حال ممعنة في السوء ..
جاهلة لا تقرأ ولا تكتب ولا تتعلم .. مغلفة بالوهم والخرافة ، لا تفقه شيئا مما يدور في مجتمعها ولا في العالم كله من حولها . حديثها مع جاراتها هو عن الأضرحة والمشايخ ، والحسد و " العمل "، والعفاريت والجن ، وما أصاب الأولاد من أمراض ، وما وصف الشيخ من علاج بالأحجبة والتمائم .. والتي طلقها زوجها ليتزوج الأخرى التي سحرت له ، والتي اشتعلت غيرة من ضرتها .. والتي كادت لحماتها وكادت حماتها لها ..
ثم كانت مهينة مهضومة الحقوق سواء كانت فتاة في بيت والدها ، أو زوجة في بيت زوجها ، أو مطلقة محرومة من أولادها ..
وكانت نظرة الرجل إليها نظرة نظرة أقرب إلى الحيوانية ، فإن خرجت عن الحيوانية فهي في محيط الحمل والولادة والإرضاع وتدبير المنزل ولا زيادة ..
ولم يكن ذلك كله من تعاليم الإسلام .. بل كان خروجا على تعاليم الإسلام ، التي تقرر المساواة في الإنسانية وتوجب على الرجال معاملتهن بالمعروف :
(.. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ .. )(53) .
( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (54) .
( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (55) .
( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (56) .(1/46)
( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا ) (57).
( خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي ) (58).
( لا تنكح الثيب حتى تستأمر ، ولا تنكح البكر حتى تستأذن . وإذنها صمتها ) (59).
وقد كانت المرأة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " شقيقة " الرجل كما بيّن عليه الصلاة والسلام في قوله : " إنما النساء شقائق الرجال " (60). فكانت شريكة في الإيمان ، وشريكة في الدعوة ، وشريكة في الجهاد ، وشريكة في بناء المجتمع الجديد على قيم الإسلام ومبادئه ، ولا تقوم هذه الشركة إلا بالممارسة الفعلية لتلك القيم والمبادئ .. كل ذلك في نظافة خلق ، وطهارة من الدنس ، وعفة عن الحرام ، والتزام بالحجاب ،والتزام بأمر الله ورسوله ، التي تحرّم الخلوة بالأجنبية ، وتحرّم الاختلاط بغير موجب ، وتحرّم السفر بغير محرم ، وتحرّم النظرة التي هي سهم من سهام إبليس ..
ولكن المجتمع الإسلامي كان قد وقع في ردة جاهلية بالنسبة للمرأة - إلا من رحم ربك - فعاد ينظر إلى المرأة النظرة الدون ، ويعيرها بأنها تحمل وتلد ولا زيادة ..
وكان الأمر في حاجة إلى العالم الرباني ، المجدد المجاهد ، الذي يرفع المجتمع إلى مستوى الإسلام الحق في قضية المرأة ، وكل قضايا الوجود .. ولكن الأمة - في التيه - تناولت علاجا آخر .. !
كان العلاج الذي تناولته هو " تحرير المرأة " على الطريقة الغربية ..
وما بنا أن نعيد هنا ما قلناه في كتب أخرى عن قضية تحرير المرأة ، والخطوات التي مرت بها حتى وصلت إلى صورتها الأخيرة (61) .. ولكنا نتكلم هنا عن صور التيه التي دخلت فيها الأمة حين بعدت عن الطريق ..(1/47)
خرجت المرأة من بيتها ، وكان هذا هدفا من أهداف التوجيه الصليبي الصهيوني للبلاد الإسلامية ، مقصودا بذاته ، كما كان إغواء الرجل للسهر خارج البيت هدفا مقصودا كذلك . ولكن هذا وذاك كانا مجرد خطوة في طريق أطول وأبعد ..
حين هجرت المرأة البيت ، هجرت معه كل القيم والمفاهيم المتعلقة به ، حتى ما كان من أصل الدين الذي أمر به الله ورسوله ، والذي لا يجوز تغييره ، لأن تغييره يحدث الفساد في الأرض ..
كله تغير ..
ألقت المرأة حجابها وانسلخت منه ، وهو من أصل الدين الذي أمر به الله ورسوله .
وتدرجت في تعرية جسمها حتى وصلت شبه عارية إلى شاطئ البحر .. وهي أمور حرمها الله ورسوله ..
وحين خرجت إلى الطريق ، وأعطت نفسها حق الكشف عما تريد كشفه من جسدها ، بدأت الفتنة .. وكان مستحيلا ألا تحدث .. وحتى لو فرضنا - جدلا - أنها في مبدأ الأمر - لم تخرج للفتنة ، فقد وجدت الفتنة طريقها إلى قلبها - وقلب الرجل كذلك - من أيسر سبيل ! فها هي ذي تظهر أمام الرجل ، وها هي ذي تبدي له من زينتها ما من شأنه أن يستثيره ، واستثير بالفعل ، وعلمت ذلك يقينا ، ورضيت عن نفسها وهي تفعل ذلك .. وبالتدريج أصبحت الإثارة هدفا ، تعمل على ترويجه بيوت الأزياء " بالمودات " المختلفة ، وبيوت الزينة بالعطور والمساحيق .. والصحافة النسوية وركن المرأة في الصحف العامة بالصور والأخبار والتوجيهات والتعليقات : " فستان يبرز مفاتن الصدر " ! و " فستان يبرز مفاتن الظهر " ! و " كيف تجذبين انتباه الرجل " و " كيف تكسبين عواطف الرجل " وكيف .. وكيف وكيف (62) ..
وحين صارت الفتنة هدفا مقصودا لم يكن يُتَصَوّرُ أن يظل الأمر كله نظريا ولا شفويا .. ولا بد أن يقع المحظور ..
ووقع المحظور ..
وكان مخالفا بطبيعة الحال لكل أعراف المجتمع وتقاليده وموروثاته وقيمه ومبادئه وأخلاقه ..(1/48)
وهنا قام الطبالون الزمارون بمهاجمة تقاليد المجتمع وموروثاته التي تحظر المحظور ! ونادت بضرورة إباحة ما حظره الدين !
وانحل المجتمع بالفعل ، وصار ينظر إلى المحظور على أنه مباح ، وينظر إلى الحظر بعين الاستنكار !
لم تعد القضية : كيف جرؤ الناس على إباحة المحظور .. وإنما أصبحت : لماذا يحظر الدين ما يجب أن يباح ؟!
ونشرت - عمدا - آراء فرويد وتعاليمه ، وتخصصت لها صحف ومجلات ، لتقول إن الحظر - سواء كان منبعه الدين أو المجتمع أو الأخلاق - يورث الكبت ، والعقد النفسية ، والاضطرابات العصبية .. ولا بد من إباحة المحظور لتستقر النفوس !!
وانفلت الأولاد والبنات - وهم في ظلمات التيه - يحسبون أنهم أحرزوا أعظم نجاح في التاريخ !
* * *
ما حال البيت .. ؟
وما حال المسجد ؟
البيت الذي هجرته سيدته لتخرج إلى الشارع ، سواء للعمل أو للفتنة ، أو للعمل والفتنة معا .. كيف يتوفر فيه السكن الذي جعله الله آية من آياته :
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا .. ) (63).
وكيف تتوفر فيه العناية اللازمة للطفولة ، التي يتربى فيها الطفل على القيم والمبادئ والأفكار والعقائد التي يقوم المجتمع عليها ؟(1/49)
لقد كان تدمير البيت هدفا مقصودا في المخطط الشرير الذي وضعه اليهود لإفساد حياة الأمميين من أجل استحمارهم في النهاية ، وقد وجدوا المجال مفتوحا أمامهم في أوربا فاستغلوه جيدا ، حين خرجت المرأة للعمل من أجل الحصول على لقمة الخبز ، ثم أشعلوا قضية " تحرير المرأة " لينفروها من البيت و يحببوا إليها هجره .. فتفككت الأسرة وانحل المجتمع .. وبقي المجتمع الإسلامي على كل ما فيه من اختلالات محافظا على روابط الأسرة وروابط " البيت " .. وكان هذا عقبة في طريق المخطط اليهودي العالمي لإفساد الأمميين جميعا في كل الأرض ، والمخطط الصليبي لإفساد المجتمع الإسلامي بخاصة ، ليسهل على الجميع السيطرة والتمكن ، وإزالة العدو الباقي لهم في الأرض ..
وتم المطلوب ..
لم يعد " البيت " بالمعنى الإسلامي موجودا في المجتمع .. لم يعد ذلك المحضن الذي يعلّم الأطفال الإسلام ، ويربيهم على تقاليده ، ويرسّخ فيهم قيمه وتصوراته .. وفرك الأعداء أيديهم سرورا بهدم الركن الركين الذي يمكن أن ينبعث منه الإسلام من جديد .. فلا خطر اليوم من الرجل ولا من المرأة ولا من الأطفال ..
وهُجِرَ المسجد ..
المسجد الذي كان دائما في حياة المسلمين مركز الإشعاع ..
كان رمزا لكل معاني الخير ..
فيه يذكر الله وتقام الصلوات .. وفيه يتعلم الناس العلم .. وفيه يتربون على القيم الإسلامية .. ومنه ينطلق الجهاد .. وفيه تبرم الأمور ..
كان البيت محضن الصغار ، والمسجد محضن الكبار .. والمؤسستان معاً تتعاونان على إقامة البناء على أسس راسخة .. وهدم " البيت " بالمعنى الإسلامي ، وهجر المسجد .. فهدمت المحاضن التي تربي الناس على الإسلام ..
وبقدر ما هجر المسجد امتلأت السينمات والمسارح ودور اللهو ودور الفساد ..
وهنا قيل للناس : لا بأس عليكم ! ما زلتم مسلمين ما دمتم تقولون لا إله إلا الله ، فأنتم مسلمون !
* * *
لم يقف التيه بالأمة عند هذا الحد ..(1/50)
ففي عالم الفكر كان التيه واسعا إلى أقصى حد ..
لقد انفتح " المثقفون " على الفكر الغربي ، ثم ترجموه إلى العربية سواء نسبوه إلى أصحابه الأصليين - إن كانوا أمناء - أو نسبوه إلى أنفسهم وتفاخروا به كذبا وزورا إن كانوا غير أمناء . وكثيرٌ ما هم !
وقد كانت في الفكر الغربي قضايا تستحق الوقوف عندها بالفعل .. قضايا عن " الإنسان " ، وغاية وجوده ، وعلاقات الفرد بالفرد ، والفرد بالمجتمع ، والفرد بالدولة ، والإنسان والطبيعة .. والإنسان والله .
وكان أفسد ما في هذا الفكر حديثه عن الإنسان والله .. فقد كان الوضع فيه مقلوبا مائة في المائة .. تأليهٌ للإنسان وإنكار لألوهية الله .
ولا نخوض هنا في الأسباب التي أدت بأوربا إلى هذا الانحراف الحاد في هذه القضية بالذات ، فقد تحدثنا عنها في أماكن أخرى (64) .. ولكنا نذكر فقط أن الفكر " الإسلامي ! " قد تتبع الفكر الغربي في جميع انحرافاته ، ولم يمنعه شيء من أن يخوض كذلك انحرافات الغرب في قضية الإنسان والله (65) .. وكان ذلك في عدة مجالات ..
من بين تلك المجالات - وفي مقدمتها - قضية التشريع ..
لمن يكون حق التشريع ؟ لله أم للإنسان ؟
كان من الواضح أن الإسلام يقرر أن حق التشريع لله وحده بلا شريك : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )(66) ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ )(67) ( وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(68) في شئون الكون وشئون التشريع سواء ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )(69) ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ )(70) .
وكان من الواضح كذلك أن أوربا تقرر - قولا وعملا - أن الله لا شأن له بالتشريع ، وأن حق التشريع موكول للإنسان .(1/51)
ودارت الأمة دورة في التيه فقال قائل منها : إن الإسلام لا علاقة له بنظام الحكم ! وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حاكما ، إنما كان قاضيا يقضي بين الناس ! وإن الخلافة لم تكن نظام حكم !
ودارت دورة أخرى في التيه فقال قائل منها : إن الشريعة التي نزلت قبل قرون طويلة لم تعد تصلح لأن تحكم حياة البشر اليوم في عالم متطور ، لا وجه للشبه بينه وبين العالم الذي نزلت فيه تلك الشريعة قبل ذلك المدى الطويل من القرون !
ودارت دورة أخرى فقال قائل منها : إن الإسلام نظام دكتاتوري .. يقوم على الإستبداد بالسلطة ، ويهمل " الأمة " التي هي - في الدولة " العصرية " - مصدر السلطات ..
وإذا كان الجدل قد ثار - بالعدوى من أوربا - حول حق الله في التشريع ، والتحليل والتحريم ، فقد ثار كذلك حول حق الله في تقرير القيم وتقرير المعايير ..
من الذي يقرر القيم التي تحكم حياة الإنسان ؟ الإنسان أم الله ؟
فأما الإسلام فقد قرر بوضوح أن الله هو الذي يقرر القيم كما يقرر الشرائع لأنه هو الخلق المدبر الرزاق :
( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )(71).
(.. هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) (72)
وأما أوربا فقد تمردت على ألوهية الله ، وألّهت الإنسان بدلا منه ، وقالت إن الإنسان هو الذي يقرر قيمه لأنه أعلم بواقعه ، وأعلم بمصلحته !!
وكتب أحد كتابها كتابا سماه " الإنسان يقوم وحده Man Stands Alone " أي بعيدا عن وصاية الله ، وكتب آخر كتابا سماه " الإنسان يصنع نفسه Man Makes Himself " أي بعيدا عن تعاليم الله .
وقد كانت لأوربا ظروفها التي أدت بها إلى هذا الموقف المتمرد على الله ، وهي ظروف قد تفسر ولكنها لا تبرر ، فإنه لا شيء على الإطلاق يبرر الكفر بالله .(1/52)
ولكن الأمة - في التيه - لم تدرك القضية على حقيقتها ، وظنت أنه من دلائل " التقدم " أن يصوغ الإنسان قيمه بنفسه ، ويحدد معاييره ! أليس الله قد وهب للإنسان عقلا يفكر به ؟ وها هو ذا الإنسان يشغّل عقله ليضع منهاج حياته ، مستعينا بثمار العلم وثمار التجربة .. وأي إنسان هو الذي يصنع ذلك ؟! إنه " ذلك " الإنسان ! القوي المتمكن المتفكر المتعمق ، الذي يسيطر على كل الأرض ، والذي نحبو نحن من خلفه حَبْواً ، بينما هو يكتسح الطريق !
لم تدرك الأمة أوجه الخلل في هذه القضية .
لم تدرك أولا مجالات العمل المطلوبة من العقل البشري ، الذي أنعم الله به على الإنسان ، وفضّله به على كثير ممن خلق ..
( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (73) .
إن المجال الأول والأعظم لهذا العقل هو الاهتداء إلى وحدانية الله سبحانه وتعالى ، ومن ثم عبادته وحده بلا شريك . فالإنسان عابد بفطرته .. ودَعْ عنك موجة الإلحاد المصطنعة التي روّج لها شياطين الأرض في هذا القرن الأخير خاصة ، والتي تلاشت من ذات نفسها حين انهارت الشيوعية حامية الإلحاد ، فعاد الناس - المهتدون منهم والضالون - يهرعون إلى مساجدهم وكنائسهم ومعابدهم كأن لم يكونوا قد ألحدوا قط !
الإنسان عابد بفطرته .. وإنما الفرق بين عابد وعابد أن احدهما يعبد الله الحق ، ويعبده وحده بلا شريك ، وآخر يعبد آلهة أخرى غير الله ، معه أو من دونه ، ويتصور الله على غير حقيقته ، أو يعبد هواه :
( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) (74) .
والمهمة العظمى للعقل الذي وهبه الله للإنسان أن يبحث في تلك القضية الأساسية ، التي يترتب عليها كل مصير الإنسان في الدنيا والآخرة : ( أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ) (75) .(1/53)
فأما في الآخرة فيترتب عليها الخلود في الجنة أو الخلود في النار ..
وأما في الدنيا فيترتب عليها إجابة أسئلة كثيرة : من المعبود الذي تجب له العبادة ؟ من المشرع الذي يحل ويحرم ؟ من المقرر الذي يقرر منهج الحياة ؟ ما مصدر التلقي في قضايا الحياة الكبرى ؟ فضلا عن الإجابة على أسئلة أخرى تخطر على الفطرة وتحتاج إلى إجابة ، وإن لم تتلق الإجابة الصحيحة تحيّر الإنسان وتشقيه : من أين ؟ وإلى أين ؟ ولماذا ؟ وكيف ؟ من أين جئنا ؟ إلى أين نذهب بعد الموت ؟ لأي شيء نعيش ؟ كيف ( على أي منهج ) نعيش ؟
فإن لم تتلق الفطرة الإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة فإنها تهيم في ضلالة كضلالة الشاعر " الجاهلي " المعاصر ، إيليا أبو ماضي :
جئت .. لا أعلم من أين ! ولكني أتيت !
ولقد أبصرت قدامي طريقا .. فمشيت !
وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت !
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي ؟ .. لست أدري !!
وهو يعبر في الحقيقة عن أزمة الجاهلية المعاصرة ، التي استبد بها القلق حين استبد بها الضلال .. حين لم تستطع أن تجد الإجابة الشافية على أسئلة الفطرة .. فهامت في الظلمات على الرغم من كل ما لديها من " العلم " !
( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) (76) .(1/54)
فإذا فرغ العقل البشري من مهمته الأولى - التي يترتب عليها منهج حياته في الدنيا ومصيره في الآخرة - فأمامه مهام كثيرة أخرى في مقدمتها التعرف على الكون المادي ، وعلى خواص المادة ، من أجل استغلال ذلك في عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني - وذلك ميدان العلوم سواء منها النظرية والتجريبية - والتعرف على الوحي الرباني لإدراك مراميه ، لإدارة الحياة بمقتضاه - وتلك هي العلوم الشرعية بما فيها الفقه والأصول وعلوم القرآن وعلوم الحديث - والتعرف على السنن الربانية التي تحكم الحياة البشرية ، من أجل إقامة الحياة متناسقة مع تلك السنن غير حائدة عن مقتضياتها - وذلك علم الاجتماع - والتعرف على التاريخ البشري الذي هو مقتضى تعامل البشر مع تلك السنن خلال ما مر من الزمان ، للاعتبار به في حاضر الأمر ومستقبله - وذلك علم التاريخ - ثم أي علم بعد ذلك ينفع الإنسان في حياته الدنيا وفي الآخرة ..
وذلك هو " التنوير " الحق ، النابع من الإيمان بعالم الغيب وعالم الشهادة ، والذي يعمل فيه العقل مهتديا بالهدي الرباني فلا يشطح ولا يضل ..
ولكن الأمة - في التيه - لم تدرك ذلك .. ولم تدرك أن " التنوير " على المنهج الغربي كانت له أسبابه المحلية البحتة في أوربا ، وكانت له نتائجه المغرقة في السوء ..
لقد كانت " عقلانية " الغرب رد فعل لحجر الكنيسة على العقل عشرة قرون متوالية على الأقل هي ما سموه في تاريخهم " القرون الوسطى المظلمة " وقد كانت مظلمة حقا ، ولكن لا بسبب " الدين " كما تصورت أوربا في أثناء هروبها من طاغوت الكنيسة ، وإنما بسبب " ذلك الدين " الذي اعتنقته أوربا محرفا لا تسيغه العقول ، فقررت الكنيسة أن تحجر على العقول لكي لا تكشف زيفه ومتناقضاته ، فقالت للناس آمنوا ولا تناقشوا .(1/55)
فلما احتكت أوربا بالمسلمين ، ورأت أنهم " يفكرون " وأن لهم نتاجا فكريا يملأ مئات الكتب بل ألوفها ، هفت نفوسهم " للتفكير " فاتهمتهم الكنيسة بالزيغ والهرطقة ، فكان رد الفعل المتحدي لطغيان الكنيسة هو نبذ الدين كله ، وإعمال العقل بدلا من الدين ، وهدم ما أسموه " خرافة الميتافيزيقا " ، والاعتماد في كل شيء على مقولة العقل ، سواء كان مما يدخل في طوق العقل إدراكه أو لا يدخل ، وسواء كان مما يحل للبشر أن يختاروا فيه بعقولهم أو لا يحل !
وقد " تنورت " أوربا ولا شك في مجال العلوم - حين أخذت عن المسلمين المنهج التجريبي في البحث العلمي - ونبذت خرافات الكنيسة " العلمية " التي كانت تفرضها على الناس باسم الدين ! ولكنها ضلت ضلالا شديدا فيما أسمته " العلوم الإنسانية " - أي العلوم التي يؤخذ العلم فيها من الإنسان لا من مقولات الدين - فأوصلها ضلالها إلى الإيمان بحيوانية الإنسان وماديته ، وإلغاء القيم العليا ، وتطبيق قانون الغاب : القوي يأكل الضعيف أو يزيحه من الطريق ، بصرف النظر عن الحل والحرمة ، وبصرف النظر عن كون القوي صاحب حق أم صاحب باطل .. وثمرته ما يجري اليوم على الساحة الدولية من ظلم وحشي ، فضلا عن القلق والجنون والانتحار والخمر والمخدرات والجريمة داخل المجتمع الغربي " المتنور "!(1/56)
ولقد كانت " الميتافيزيقا " عندهم ضلالا صارفا عن الحق ، وصارفا عن العمل في واقع الأرض ، لا لأنها في ذاتها " غيبيات " . فالغيب حقيقة . ولكن لأن الفكر الكنسي اللاهوتي صبغها بصبغته فأفسدها كما أفسد الدين كله . وكان التنوير الصحيح يقتضي الإيمان بعالم الغيب على بصيرة ، والإيمان بعالم الشهادة على بصيرة كذلك ، فتكتمل المعرفة ، ويتوازن " الإنسان " . أما " التنوير " الذي يجعل عالم الشهادة بديلا من عالم الغيب ، والعقل بديلا من الدين ، والعمل للدنيا بديلا من العمل للآخرة .. فلا يفترق كثيرا عن " الظلام " الأول ! فقد كانت جريمة الظلام الأول أنه اتخذ نصف الإنسان بديلا من نصفه الآخر ! فجعل عالم الغيب بديلاً عن عالم الشهادة ، وجعل الدين بديلا من العقل ، وجعل العمل للآخرة بديلا من العمل للدنيا ، فجاء الظلام الآخر - الذي يسمى " التنوير " - فأبرز النصف الذي كان مهملا من قبل ، وأهمل النصف الذي كان بارزا من قبل ، فارتكب نفس الجرم الذي عابه على غريمه من قبل ، ووقع الافتئات في الحالين على كيان " الإنسان " .
ولقد كانت الحياة قد ركدت وأسنت في بلاد العالم الإسلامي ، بما غشّى العقيدة من أمراض وانحرافات ، وبما اعترى السلوك من تفلت متزايد من مقتضيات لا إله إلا الله .(1/57)
وكان الأمر في حاجة إلى من يعيد الحيوية والنشاط للأمة لتستيقظ من غفوتها وتنطلق من جديد .. فكانت في حاجة إلى العالم الرباني ، المجدد المجاهد ، الذي يمسح آثار الفكر الإرجائي والفكر الصوفي ، والتفلت من التكاليف ، والكسل والتراخي ، ويعيد إلى عقيدة الإيمان بالغيب حيويتها وصفاءها وإيجابيتها بإزالة ما علق بها من خرافة وتواكل وسلبية وتعلق بالخوارق ، كما يعيد الصفاء والحيوية والإيجابية إلى التعامل مع عالم الشهادة بإزالة ما علق به من كسل وتراخٍ وقعود عن الأخذ بالأسباب ، فتعود للأمة انطلاقتها السوية المتكاملة المتوازنة التي صنعت بها من قبل ما صنعت من الأعاجيب ، من نشرٍ لعقيدة التوحيد في أرجاء الأرض ، وإنشاء حركة علمية فذة ، وحركة حضارية فريدة في التاريخ ..
ولكن الأمة - في التيه - جنحت إلى النموذج الغربي المختل ، دون أن تفطن إلى ما فيه من اختلال ، ودون أن تدرك في الوقت ذاته أن الذي وقع في أوربا في ذلك الخلل هو دينها المحرف وكنيستها التي طغت بذلك الدين ، وأنها لم تكن تملك دينا صحيحا ترجع إليه لتصحيح مسارها حين تنحرف عن الطريق .
* * *
وفي تلك المناسبة قالوا إن الحملة الفرنسية على مصر كانت مفتاح الخير لها وللمنطقة كلها من حولها ، وأنها كانت باعث " النهضة " التي بعثت " النور " و " الحركة " في الظلام الراكد الذي كان يلف العالم الإسلامي كله !
وأما أن الحملة الفرنسية أيقظت مصر من سباتها وحرّكتها فحق لا شك فيه .. وأما أنها " نوّرتها " فأمر أقل ما يقال فيه أنه يحتاج إلى مراجعة شديدة !
لو أن إنسانا نائما في الطريق دهمته سيارة فخلعت بعض أوصاله ، وكسّرت بعض عظامه ، ولوت عنقه بحيث لم يعد يستطيع أن يحرك رأسه إلا في اتجاه معين .. فماذا يقال عندئذ ؟!
إما أن السيارة أيقظته وحرّكته من مكانه فذلك أمر مؤكد !
وإما أنها نوّرته ورشّدته وهدته إلى الطريق السوي فأمر يفتقر إلى الدليل !(1/58)
لقد كانت عناية الصليبية مركزة على نقطتين بعينهما في العالم الإسلامي : اسطنبول والقاهرة . اسطنبول مركز الخلافة ، أي مركز القوتين الحربية والسياسية ، والقاهرة مركز الإشعاع الروحي والثقافي للعالم الإسلامي ، المنبعث من الأزهر ، وما فيه من علوم دينية ، وعناية باللغة العربية ، لغة القرآن .
وكانت عناية الصليبية بهذين المركزين تهدف إلى تقويض أركان الإسلام فيهما أولا ، فيسهل تقويض أركان الإسلام في كل الأرض الإسلامية بعد ذلك . وبالنسبة لمصر كانت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون هي بداية التحرك الصليبي لمحاولة القضاء على الإسلام في مركز الإشعاع الروحي والثقافي (77) .
وكان من بين وسائل الحملة محاولة إحلال " قانون نابليون " بالتدريج محل الشريعة الإسلامية في صورة " أوامر " صادرة من " سر عسكر " نابليون بونابرت ، في منشورات متلاحقة .
وكان من الوسائل كما يقول الجبرتي - الذي أرخ تأريخا تفصيليا للحملة - " بغايا الحملة " .. أولئك الساقطات اللواتي يسرن حاسرات في الشوارع ، متهتكات متخلعات ، لإغراء النساء المسلمات " بالتحرر " (78) .
وكان من الوسائل كذلك إثارة النعرة الفرعونية عن طريق التنقيب عن آثار الفراعنة ، وإبرازها ، وبث الاهتمام بها .
وهذه الأخيرة يحسب بعض الناس أنها بريئة ! وأنها قضية " علمية " بحتة !
ولكن مستشرقا صريحا قال في كتاب " الشرق الأدنى مجتمعه وثقافته " (79) : إننا في كل بلد إسلامي دخلناه ، نبشنا الأرض لنستخرج حضارات ما قبل الإسلام . ولسنا نطمع بطبيعة الحال أن يرتد المسلم إلى عقائد ما قبل الإسلام ، ولكن يكفينا تذبذب ولائه بين الإسلام وبين تلك الحضارات !
فما الفرعونية ؟
إنها تشتمل - ولا شك - على تقدم علمي وفني وتكنولوجي بارز .. ولكن ما وزنها في النهاية ، وما وصفها في كتاب الله ؟(1/59)
إنها جاهلية .. إحدى جاهليات التاريخ الوثنية الحائدة عن الطريق ، المجافية للهدي الرباني ، المستحقة لغضب الله :
( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ..) (80) .
إنها عبادة الفرعون ، وعبادة الأصنام من دون الله ..
وهي جاهلية تاب الله على أهل مصر منها حين دخلوا في النصرانية أول مرة ، ثم تاب عليهم التوبة الكبرى حين دخلوا في الإسلام ، لما جاءهم الإسلام .
فما إثارتها في حياتهم من جديد ، إلا - كما قال ذلك المستشرق - لذبذبة ولائهم بين الإسلام وبين " حضارة " ما قبل الإسلام ، لتسهيل انزلاقهم في النهاية بعيداً عن الإسلام !
لقد كانت الحملة الفرنسية على مصر هي رأس عملية " التغريب " ، أو عملية " التخريب " المقصود لإبعاد مصر عن الإسلام ، بل عن العروبة كذلك ، فأين مواطن الخير المزعوم الذي انهمر على مصر انهمارا بواسطة الحملة الفرنسية ؟!
اليقظة من الغفوة ؟
نعم .. ولكن مع تقطيع أوصال الأمة بإبعادها التدريجي عن تراثها ودينها وأخلاقها وتقاليدها وذاتيتها ، ولىّ عنقها نحو الغرب ليتوغل الغزو الفكري في جنباتها ، وتغرق في تبعية للغرب لا يُعْلَمُ لها قرار ..
أما اليقظة السليمة الصحيحة فقد كانت وشيكة دون تدخل الحملة الصليبية ، فقد كانت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي البشير الحقيقي بيقظة الأمة من غفوتها ، ومعاودة السير في الطريق ..
ولكن السيارة دهمت النائم فأيقظته .. نعم .. ولكنها قذفته بعيدا عن الطريق .
* * *(1/60)
وحين بدأت العدوى تسري من الانحراف الغربي إلى الأمة الضاربة في التيه تغيرت " القيم " في حياتها ، فلم تعد هي القيم التي قررها الله - التي يلتزم بها بعض الناس ويتفلت منها بعض الناس - إنما حلت محلها القيم التي وضعها " الإنسان " .
فإذا كان الله قد جعل القيمة الكبرى هي " التقوى " : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (81) بالمعنى الشامل للتقوى ، الذي يشتمل على الفضائل الإنسانية كلها ، التي ترفع الإنسان في فكره ومشاعره وسلوكه إلى أعلى ما يستطيع أن يصل إليه ، فإن " الإنسان " الذي ألّه نفسه بدلا من الله ، قال إن القيمة الكبرى هي القوة ، وهي العمل من أجل التمكين في الحياة الدنيا بصرف النظر عن الآخرة ، وهي الاستمتاع بملذات الحياة الدنيا بصرف النظر عن المبادئ والأخلاق .. ولقد عاش الناس حتى رأوا مقدار الخلل الذي حدث في حياة البشرية من جراء نبذ القيم التي قررها الله ، واتباع القيم التي قررها الإنسان .
ولكن الأمة - في التيه - لم تستطع أن تدرك مدى الخلل في هذا المنهج ، وما يمكن أن يترتب عليه من آثار خطيرة في حياة الناس ، فوق أنها - في وهنها الذي كانت فيه ، والذي زاده الغزو الفكري والسياسي والعسكري والاقتصادي وهنا على وهن - لم تجد في نفسها القدرة ولا الجلد ولا العزيمة التي اكتسب الغرب عن طريقها تقدمه المادي ، إنما أخذت الفساد الخلقي وحده ، وعجزت عن اللحاق بالغرب في ميدان قوته ، ففقدت التقوى والقوة جميعا وصارت مسخا مشوها لا يقدر على شيء !(1/61)
واضطربت كذلك المعايير ، حين صار مصدرها الهوى البشري بدلا من الوحي الرباني . فراح قوم يقولون إن العفة ليست معياراً للفضيلة ! وإن الاختلاط ، واتخاذ الأخدان ، وقيام علاقات لا يقرها الدين ليس معياراً للرذيلة ! وإن تعرية المرأة ما تشاء من جسدها ليس معياراً للانحلال الخلقي ! وإن الحديث عن الله سبحانه وتعالى أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن كتاب الله المنزل ، أو عن السنة النبوية المطهرة بغير التوقير الذي تعوده المسلمون ، ليس معيارا للكفر أو ضعف الإيمان ! فالمعايير كلها نسبية ، ولا وجود لمعايير ثابتة أو مطلقة .. وما كان ينظر إليه في وقت من الأوقات على أنه هو الفضيلة قد يبدو اليوم رذيلة ! وما كان ينظر إليه على أنه الواجب قد يكون اليوم أبعد شيء عن الواجب ! وما كان ينظر إليه على أنه خطأ قد يكون اليوم هو عين الصواب ..!
* * *
وسرت إلى الأمة في تيهها كذلك عدوى " التطور " الذي يلغي فكرة الثبات في كل شيء .. حتى الدين .. حتى القيم .. حتى الأخلاق !
أما قرأت دارون .. أو قرأت عنه ؟!
إن دارون يقول إن كل الكائنات قد تطورت ، وإن التطور هو قانون الحياة . وإن الإنسان لم يخلق منذ البدء على هيئته الإنسانية التي هو عليها الآن ، إنما تطور عن أحد القردة العليا ، وكان الشعر يغطي جسده كله ، وكان يمشي على أربع .. ثم تساقط عنه الشعر خلال ملايين من السنين ، وانتصب واقفا على قدميه ، فأتيح لمخه أن يكبر حين صار رأسه مرتكزا على الجذع وليس معلقا في الفضاء كبقية الحيوان ، فزاد ذكاؤه فتعلم وتكلم !!
وتخصصت صحف بعينها في نشر الفكر الدارويني ، وبث فكرة الخلق الذاتي الذي لا دخل للمشيئة الربانية فيه ، وأن " الطبيعة " هي التي تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق ! وليس لها في الوقت ذاته غاية محددة من وراء الخلق !!(1/62)
ولم تدرك الأمة - في التيه - أن " نظرية دارون " لم تكن تزيد في الحقيقة عن كونها فروضا علمية ، وإن أطلق عليها أنها نظرية .. وأنها حتى لو كانت نظرية فقد كانت - وما تزال- قيد الإثبات ، ولكنها لم تصل قط أن تكون حقائق علمية نهائية . وأن قضية الخلق الذاتي قضية لا برهان لها على الإطلاق ، لا عند دارون ولا عند غيره ممن ادعوها . وأن جوّ المعاندة الذي اتخذه العلماء في أوربا تجاه الكنيسة منذ حرّقت العلماء أحياء لقولهم بكروية الأرض ، هو الذي جعل دارون يكسو نظريته - أو بالأحرى فروضه العلمية - بهذا الرداء الإلحادي الذي ينكر أثر المشيئة الربانية في عملية الخلق (82) ، والذي ينسب الخلق لشيء غيبي خرافي اسمه " الطبيعة " مع أن هذا الرداء لم يكن من مستلزمات نظريته - على فرض صحتها ! - وأنه لولا هذا العناد مع الكنيسة فقد كان دارون قمينا أن ينسب الخلق والتطوير إلى الله ، فقد كتب رسالة إلى أحد أصدقائه ( نشرت فيما بعد ) قال فيها : لست أدري لماذا يتهمونني بالإلحاد مع أني أومن بوجود إله !!
ولم تدرك كذلك أن شياطين الأرض هم الذين نشروا هذه النظرية - أو هذه الفروض العلمية - على نطاق واسع في كل الأرض ، لهدف غير خاف بيّنوه صراحة في " برتوكولاتهم " حيث قالوا : " لقد رتبنا نجاح دارون ونيتشه وإن تأثير أفكارهما في عقائد الأمميين واضح لنا بكل تأكيد " (83) . فحين يُنْفَى الخلق عن الله ، وحين يكون الإنسان متطورا عن أصل حيواني ، وحين لا يكون لخلقه غاية ، فما مجال الدين ؟ وما مجال القيم ؟ وما مجال الأخلاق .. المبنية كلها على أساس أن الإنسان كائن متفرد عن عالم الحيوان ، وأن أشد ما يميزه عنه هو الوعي والإرادة والحرية ، وأن له طريقين لا طريقا واحدا كالحيوان ، وله القدرة على التمييز بين الطريقين والقدرة على اختيار أحد الطريقين :(1/63)
( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)(84).
* * *
وسرت كذلك عدوى الانغلاق في حدود ما تدركه الحواس ، وحصر المعرفة في حدود المحسوس ، أو المعقول الذي يشهد له المحسوس التجريبي ، أي " العقلانية التجريبية " التي تنكر عالم الغيب ، وتهمل من عالم الشهادة ذاته ما يخرج من دائرة التجربة المحسوسة .. فقام من يفسر الجن والملائكة بأنها انعكاس روح الشر وروح الخير عند الإنسان ، ولا وجود لها في الحقيقة ، ويفسر معجزة انفلاق البحر بعصا موسى على أنها من أثر المد والجزر ، ويفسر الطير الأبابيل على أنها جراثيم الجدري .. وراح غيره ينكر القيامة والبعث والحساب والجزاء ، وراح ثالث ينكر الوحي والرسالة ، وراح غيره يقول : للقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللتوراة والإنجيل أن يحدثانا عنهما كذلك ، ولكن هذا وذاك لا يثبت لهما وجودا تاريخيا !!
* * *
وفي التيه تنكرنا لتاريخنا وأمجادنا ، ونظرنا إليها - في أحسن الأحوال - على أنها أحداث زمان ولّى ولن يعود .. وفي بعض الأحيان على أنها أحداث هامشية لا وزن لها في خط سير التاريخ .. وفي بعض الأحيان على أنها أحداث مخزية يتنصل من الارتباط بها " المثقف " الحق .. والمتحرر الحق .. والمعاصر الحق .. وفي جميع الأحيان على أنها أحداث ساذجة ليس فيها الذخر الحي المتدفق ، الذي يوجد في أحداث الغرب وتورايخه !!
ولا شك أن الغرب كان هو البارز في صفحة الأحداث يومئذ ، وهو القوي المتمكن الفعال المؤثر ، والأمة الإسلامية في ضعفها وتخاذلها وانحسارها مهمشة مغلوبة على أمرها في الواقع الحي الموار ، ينطبق عليها قول الشاعر :
ويقضي الأمر حين تغيب تيمٌ ... ولا يستأذنون وهم شهود !(1/64)
نعم ! ولكن ما علاقة هذا بالتاريخ الماضي وأمجاده ؟! أتتغير حقائق التاريخ الماضية الثابتة الموثقة بتأثير الحاضر السيئ ؟! أتمحّى أمجاد أمة بسبب انتكاس جيل من أجيالها ؟!
حقيقة إن التغني بأمجاد الماضي على سبيل التعويض النفسي عن الواقع المنحسر ظاهرة مرضية ، لا تفترق كثيرا عن تعاطي المخدر للهروب من الواقع السيئ الذي يعجز الإنسان عن تغييره ، فيهرب منه في سبحات الخيال ..
ولكن الأمر يمكن أن يكون ظاهرة صحية لو سار في اتجاه آخر .. ذلك أن أمجاد الماضي حقائق مشهودة وليست سبحات من الخيال ، فإذا استخدمت - تربويا - لحفز الهمم المتقاعسة ، وإحياء العزة المتهاوية ، فهي رصيد حيّ يصلح لعلاج حالة اليأس التي أصابت المسلمين من جراء الهزيمة العسكرية والهزيمة النفسية . ولكن دعاة الغزو الفكري وقفوا بالمرصاد لأي محاولة من هذا النوع ، كأنما يخشون أن تؤتي تلك المحاولات ثمارها ، فيعود المسلمون إلى ذوات أنفسهم التي هجروها في وهلة الانبهار ، ويبدءوا مسيرة جديدة على هدى ذلك الماضي المجيد الذي عاشوه عدة قرون .. والغريب في الأمر أن موقفهم ذلك لم يكن صادرا من عند أنفسهم ! فقد كانت كتابات المستشرقين تصدر النغمة أول مرة ، فيتلقفها دعاة الغزو الفكري ، ويرددونها بلا وعي - أو ربما بوعي ! - لتخذيل كل من يحاول إعادة الأمة إلى مجدها القديم !
وبدلا من ذلك كان التوجيه إلى أمجاد أوربا ! انظروا إلى التقدم العلمي ! انظروا إلى التقدم الحضاري ! انظروا إلى الرقي الفكري ! انظروا إلى الديمقراطية ! انظروا إلى الحقوق السياسية ! انظروا إلى الكرامة التي يتمتع بها الإنسان !
وأما التقدم العلمي ، والتكنولوجي ، والمادي ، والكرامة التي يتمتع بها الإنسان في المجتمعات الغربية فقد كانت كلها حقيقة .. أما الوزن النهائي لهذه " الحضارة " فقد كان أمراً مختلفا كل الاختلاف !(1/65)
ولكن الأمة - في التيه - لم تستطع أن ترى السلبيات في " الحضارة " الغربية . فالعين المبهورة لا ترى إلا الأضواء ، وتعجز عن رؤية السواد الذي يحجبه الضوء اللامع ! كما أن دعاة الغزو الفكري كانوا يوجهون تلك العيون المبهورة دائما إلى الأضواء ، ويزجرونها زجرا أن تنقب بين الأضواء لتكتشف اللطخ السود !
لقد كان السواد الأعظم الذي يلقى ظله على العالم الإسلامي - والذي ينبغي أن يكون المسلمون أول من يحس وطأته - هو الاستعمار ، وما يرتكب ذلك الاستعمار من فظائع ، وما يوقعه بالمسلمين من إذلال .
ولقد كان الاستعمار هو التكذيب الفعلي لكل دعاوي الغرب في رفعة قيمه وإنسانية حضارته وإيمانه الحقيقي بما يرفعه من شعارات .. وكان واقعه الأسود قمينا أن يوقظ المسلمين من وهلة انبهارهم إلى حقيقة تلك الحضارة الزائفة ، الموغلة في الأنانية ، المسفّة في وجدانها " الإنساني " إلى الحضيض ، وأن يعودوا إلى أمجاد تاريخهم المهجورة ، ليقارنوا بين حركة الفتح الإسلامي والاستعمار الصليبي ( الذي أخفيت صبغته الصليبية كما ألمحنا من قبل ) ليعرفوا الفارق بين الأمة الربانية ، والمنهج الرباني ، والأخلاق الربانية ، وبين مناهج الشياطين ، وإن كانت بشرتهم بيضاء ، وملابسهم نظيفة ، وألفاظهم منمقة ، وعلومهم فائقة !
وإذا كان الاستعمار - بكل ظلماته ومظالمه - لم يوقظ الأمة المبهورة من غفلتها ، ولم يخرجها من تيهها ، ولم يكشف لها سوءات تلك الحضارة الزائفة ، فلم تكن الأمة لتدرك - من باب أولى - أن " أخلاقيات " الغرب ليست أخلاقيات حقيقية نابعة من إيمان حقيقي بالقيم العليا التي يكثرون الحديث عنها في آدابهم ، إنما هي أخلاق نفعية ، تمارس بقدر ما تجلبه من النفع لأصحابها ، ولكنها تتذاوب إذا تعارضت مع " المصلحة " .. والمصلحة مرتبطة بالمنفعة ، وليست مرتبطة بصلاح البشرية ، أو إصلاح " الإنسان " !
* * *(1/66)
وفي التيه اتخذنا قادة أوربا كأنهم قادتنا ! ومفكري أوربا كأنهم مفكرونا ! وأدباء أوربا كأنهم أدباؤنا ، فترنمنا بأسمائهم ، ورددنا كلماتهم ، واتخذنا شعاراتهم ، وحفظنا تواريخهم ، في الوقت الذي أغفلنا فيه ذكر قادتنا ومفكرينا وأدبائنا ، وجهلنا كل شيء عنهم ، حتى الصحابة رضوان الله عليهم ، حتى الوقائع الكبرى التي جرت للمسلمين الأوائل ، وكتب تاريخ هذه الأمة بحروف من النور الوهاج !
ونسينا حركتنا العلمية التاريخية ، فلم ندرك أن المسلمين هم الذين أنشئوا المنهج التجريبي في البحث العلمي ، وهم الذين اكتشفوا كروية الأرض وقاسوا أبعادها ، وهم الذين اكتشفوا الدورة الدموية ، وهم الذين رسموا الخرائط الأولى للعالم ، وهم الذين حددوا مواقع الكواكب ومنازلها ، وهم .. وهم .. وهم .. وخيل إلينا أن العلم كله بدأ في الغرب ، وبزغ من عبقرية الغرب ، وأنه لا عبقرية إلا في الغرب !
ونسينا سمات حضارتنا .. وأنها الحضارة التي تعاملت مع الإنسان كله : جسمه وعقله وروحه ، في شمول وترابط وتوازن ، الحضارة " الإنسانية " الحقيقية ، التي فتحت قلبها للبشر كلهم بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وحتى عقائدهم .. بينما حضارة الغرب حضارة للرجل الأبيض وحده في عنجهية كريهة لا تفيء قط إلى المفهوم الرباني :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (85) .
" كلكم لآدم ، وآدم من تراب " (86) .
* * *
وفي التيه تحول الكتاب المنزل إلى " تراث " ..(1/67)
تراث ورثناه من آبائنا وأجدادنا ، كانوا - هم - يلتزمون به . ولكن لا إلزام له علينا ! نحن أمة أخرى وجيل آخر ! لسنا نحن المخاطبين به ، ولا المطالبين بتنفيذ ما فيه . غاية تعلقنا به - إن تعلقنا - أن نطرب لمن يترنم به ، وتهتز أسماعنا لجرسه .. ولكنه ليس موضع التدبر ، ولا التفكر ، ولا موضع الاستمداد في شئون الحياة اليومية ، ولا الحياة الفكرية ، ولا الحياة الاجتماعية ، ولا الحياة الاقتصادية ، ولا الحياة السياسية .. فتلك كلها صار لها مصدر آخر .. هناك .. عند القوم الذين لا يتكلمون العربية .. ولا يؤمنون بالقرآن !
* * *
ولم ينج عالم الأدب من التيه ..
وهل الأدب إلا التعبير عن كوامن النفس وخطرات العقل وتجربة الإنسان في الحياة ؟ وحين تكون هذه كلها ساربة في التيه ، فكيف يكون التعبير عنها في صورة أدبية أو فنية .. إلا أن يكون أدب التيه ، وفن الضياع ؟!
كان أول التيه أننا حملنا أدبنا العربي كله فوضعناه على الميزان الغربي ، فاتضح لنا - ويا للأسف - أنه ليس عندنا أدب !
شعرنا كله - أو جلّه - يندرج تحت بند واحد من بنود الشعر اليوناني ، الذي هو أصل الأصول في فن القول وفن الفكر وفن الحياة .. ذلك البند هو " الشعر الغنائي " "Lyrical Poetry " الذي كان الرعاة يتسلون بغنائه وهم يرعون أغنامهم ، فيبثون فيه أشواقهم وأحزانهم ، وذكرياتهم وهمومهم الذاتية .. ولكن ليس عندنا ملحمة ، وليس عندنا مسرحيّة شعرية .. وليس عندنا .. وليس عندنا .. والمأساة الكبرى أنه ليس لدينا في أدبنا مأساة !
المأساة اليونانية هي أدب الدنيا والدين . هي عصارة التجربة البشرية العميقة الواصلة إلى الأغوار .. أغوار النفس البشرية ، وأغوار السنن التي تحكم حياة الإنسان على الأرض .. وخلوّ أدبنا منها عار ما بعده عار !
والمأساة اليونانية في حقيقتها - مع كل " أغوارها " ودقتها وبراعتها في الأداء الفني - هي صراع البشر مع الآلهة !(1/68)
الإنسان يريد أن يثبت وجوده .. يريد أن يبرز .. يريد أن يكون فاعلا مريدا .. يريد أن يبني ويصنع البطولات والأمجاد والخوارق ( يريد في الحقيقة أن يكون إلهاً ) والآلهة تغار من الإنسان ، فتسعى إلى وضع العقبات في طريقه ، وفي النهاية تحطمه حين يصر على عزيمته ويرفض الانصياع لكيد الآلهة .. وعندئذ تحدث المأساة !
أرأيت ؟!
وأدبنا ليس فيه مأساة .. لأننا أمة سطحية لا طاقة لها بالوصول إلى الأغوار .. تعيش على هامش الحياة ولا تغوص في أعماقها .. !
وقد كنت أَدْرُسُ الأدب الإنجليزي في الجامعة ، وكانت الأصول الإغريقية تدرس لنا باعتبارها المنابع التي كان يستقي منها الأدب الأوربي فترة من الزمن غير قصيرة ، وهي كذلك المعايير التي كان يستقي منها النقّاد نظرتهم إلى الأدب وتقويمهم له ، وكنت في الوقت ذاته أستمع إلى ما يلوكه " نقّادنا " عن الأدب العربي في جملته ، فأعجب في نفسي .. كيف يمسخ الناس إلى هذا الحد ؟!
ليس دفاعاً عن الأدب العربي .. ما كان فيه وما لم يكن .. فليست هذه هي القضية ! القضية هي نحن : كيف ذابت شخصيتنا إلى هذا الحد ، فلم نعد ننظر بعيوننا ، إنما نستعير عيون غيرنا لننظر بها إلى أنفسنا ؟!
ولم أكن أديبا ولا ناقدا ..
ولكن عنّت لي ملاحظة في أثناء دراستي للأدب الإنجليزي ، وهو نموذج للأدب الأوربي عامة ، مع وجود الفوارق الذاتية بطبيعة الحال بين شعب وشعب ، وأديب وأديب ..
إن فكرة الصراع بين البشر والإله ( أو الآلهة كما صورتها وثنية اليونان ) عميقة جدا في الأدب الغربي في جميع أطواره .(1/69)
كانت واضحة جدا في الأساطير اليونانية ، وبخاصة أسطورة بروميثيوس سارق النار المقدسة ، التي تروي أن الإله زيوس - إله الآلهة - خلق الإنسان من قبضة من طين الأرض وسواه على النار المقدسة ( ترمز في الأسطورة إلى المعرفة ) ثم أهبطه إلى الأرض وحيدا في الظلام ( يرمز الظلام إلى الجهل ) فأشفق عليه كائن أسطوري يسمى بروميثيوس ( لعله يرمز إلى الشيطان والله أعلم ) فسرق له النار المقدسة من الإله ( يرمز إلى كون الإنسان بدأ يتعلم ) فغضب الإله على الاثنين معا ، " بروميثيوس " سارق النار المقدسة ، و" إيبيميثيوس " الإنسان الذي خلقه من طين الأرض ، فوكل ببروميثيوس نسراً أكل كبده طوال النهار ، وفي الليل تنبت له كبد جديدة فيأتي النسر في الصباح ليأكل كبده طوال النهار . هكذا في عذاب أبدي .. أما إيبيميثيوس الذي عجز الإله عن استرداد النار المقدسة منه ( يرمز ذلك إلى أن المعرفة لا يمكن سلبها من الإنسان إذا حصل عليها ) فقد أرسل إليه امرأة تسمى باندورا ( ترمز إلى حواء ) لتؤنسه في وحدته ، ولكنه أرسل معها صندوقا هدية ، فلما فتح الصندوق إذا هو مملوء بالشرور ! فقفزت الشرور من الصندوق وملأت أرجاء الأرض !!
هكذا تصور الأسطورة الإغريقية العلاقة بين الإنسان وبين الله ! فالعلم ليس نفحة ربانية أفاضها الله على الإنسان من فضله : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) (87) .. ( عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (88) .. ( خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (89) إنما هو مغتصب اغتصابا من الإله ! والإله - بدافع الغيرة ( نستغفر الله ) - لا يريد للإنسان أن يتعلم ، ولا أن ينتفع بعلمه ، فينتقم منه هذا الانتقام الفظيع !
تلك هي بذرة " المأساة " في حياة الإنسان كما تصورها الأسطورة الإغريقية ..
وتلك - رعاك الله - هي التي تنقص الأدب العربي والأمة العربية !(1/70)
ولقد تتبعت أثر الأسطورة الإغريقية في الأدب الأوربي بعد أن نزعت أوربا سلطان الكنيسة من حياتها ، وعادت إلى الأصول الإغريقية تستمد منها مفاهيم حياتها منذ عصر النهضة ، فوجدت عجبا !
عادت أوربا - في الأدب على الأقل - إلى الوثنية الإغريقية في فترة الرومانسية فعبدت " الطبيعة " إلها جديدا بدلا من إله الكنيسة الذي استعبدت باسمه الناس .. فنشأ في النفس الأوربية صراع بين الإنسان وذلك الإله الجديد ! وتحدثوا في كتاباتهم عن " صراع الإنسان مع الطبيعة " وقالوا : " الإنسان يقهر الطبيعة " !
ثم ألهت أوربا الإنسان بدلا من الله .. فعاد الصراع مع الإله الجديد ! إما صراعا نفسيا داخل الإنسان الفرد ، وإما صراعا اجتماعيا بين بعض البشر وبعض !
لا سلام ! لا بد من وجود الصراع ..
وهو ليس ذلك الصراع الذي أذن الله به وباركه ، صراع الخير ضد الشر الذي قال الله فيه : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) (90) ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (91) .
إنما هو الصراع بين الإنسان وبين الله !
وذلك يا رعاك الله - هو الذي ينقص الأدب العربي ليكون أدبا عالميا له أغوار !
ثم تخبطت أوربا في آدابها فتخبطنا معها .. فقط من أجل ألا يفوتنا التخبط معها !
ظهرت السريالية - بعد شطحات فرويد في " العقل الباطن " و " اللاشعور " - فقلنا لا بد أن يكون لدينا سريالية .. يا للعيب .. كيف لا " نَتَسَرْيَل " معهم ؟!(1/71)
وظهر اللامعقول ، فقلنا لا بد أن يكون لدينا أدب لامعقول ! وأنشأ أحد أدبائنا " الكبار " مسرحية " لامعقولة " سماها " يا طالع الشجرة " كتب لها مقدمة قال فيها : كتبت هذه المسرحية على طريقة اللامعقول لكي لا يقال عنا إنه ليس لدينا أدب لامعقول !
يا عجبا ! لقد تخبطت أوربا في " نهضتها " فلجأت إلى " العقلانية " المسرفة انتقاما من حجر الكنيسة على العقل عشرة قرون كاملة ، فأدخلت العقل في كل شيء سواء كان للعقل فيه مجال أم لم يكن .. ثم وجدت - بعد لأى - أن العقل لم يحل لها كل مشاكلها بل أنشأ مشاكل جديدة حين أُقحم فيما لا طاقة له به .. فقفزت إلى " اللامعقول " فرارا من العقلانية المسرفة .. أما نحن فما بالنا ؟! لماذا نلجأ إلى اللامعقول ؟!
ثم ظهرت الحداثة .. فقلنا لا بد أن يكون لنا أدب حداثي .. يا للعار ! أيكون أدبنا بلا حداثة ؟! ونكون متخلفين ؟!
والجوهر الحقيقي للحداثة هو تحطيم " التراث " والانفلات منه ولو إلى لا شيء !
المهم أن نحطم التراث - الذي يمثل الأغلال - ونخرج إلى الحرية والانعتاق .. وأوربا حين تصنع ذلك فهي حرة تصنع في نفسها ما تشاء . وقد يكون لها عذرها ، فالتراث عندها هو الكنيسة وخرافاتها وطغيانها وجبروتها ، وتعطيل قوى الإنسان عن العمل المثمر في واقع الأرض . فتحطيم " ذلك " التراث والانفلات منه أمر " معقول " ..
أما المسلم حين يحطم تراثه الرباني ، فماذا يبقى له إلا الضرب في التيه ؟!
* * *
هكذا كان حجم التيه الذي دخلت فيه الأمة .. واسعا شاملا ، شمل كل جوانب الحياة .. وبعبارة أخرى شمل الانحراف كل مقتضيات لا إله إلا الله ، فإن مقتضيات لا إله إلا الله تشمل كل جوانب الحياة (92) ..
( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ .. ) (93) .(1/72)
ولا نقول بطبيعة الحال إن كل الناس قد لفّتهم الدوامة ، وإنه لم يبق في الأمة من يدرك مقدار الخلل الذي أصابها حين دخلت في التيه ..
كلا ! إن هذا لم يحدث قط ، ولا يمكن أن يحدث :
" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خالفهم .. " (94) .
ولكن الدوامة كانت من العنف بحيث قذفت المعارضين لها فأقصتهم عن مركز التوجيه ، وهمّشتهم على جوانبها ، وأبرزت أولئك الذين تشربوا السم كله فجعلتهم هم القادة الذين يقودون .. في جميع الميادين .. في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والأدب والفن .. وفي كل شيء .
وبدا لفترة من الوقت أن الأمة قد قطعت ما بينها وبين دينها ، وما بينها وبين تراثها ، وما بينها وبين تاريخها .. وأنها اتخذت طريق أوربا .. ولن تعود !
ولكن الحقيقة أن الأمة كانت تعيش بشخصية مزدوجة ..
فإذا استثنينا أولئك الذين انسلخوا تماما من دينهم وتراثهم وتاريخهم ، وأعلنوا انسلاخهم ، وتفاخروا به ليكونوا - في وهم أنفسهم - " مفكرين أحرارا " كمفكري أوربا الأحرار .. Free Thinkers (95) .
وإذا استثنينا من الجانب الآخر الذين ثبتوا في مكانهم على وعي بدينهم وتراثهم وتاريخهم ، وتشبثوا به ، ولم يتزحزحوا عنه ، وإن غُلبوا على أمرهم فصمتوا ، أو ضاعت أصواتهم في هدير الدوامة المدوى ، الذي لا يكاد الإنسان يسمع فيه حتى نفسه !
إذا استثنينا هؤلاء وهؤلاء وهم قلة من الطرفين ، فإن مجموع الأمة - الذي لفه التيه - كان يعيش بشخصية مزدوجة : بقايا الدين في العواطف والوجدان وبعض ألوان السلوك ، والفكر الوافد بضغطه العنيف المتوالي يَحْرِفُ الأفكار والمشاعر والسلوك ، ويجعل الصورة أمام الأعين مهتزة على الدوام ، لا تتبين ملامحها للرائي ، ولا يستيقن تفصيلاتها ..
ولقد عاشت أوربا من قبل فترة مماثلة ، مع فارق الدين ، وفارق التصورات ، وفوارق السلوك ..(1/73)
فحين اهتز سلطان الكنيسة ولم تعد له تلك السيطرة التي كانت له على أرواح الناس من قبل ، وبدأت " النهضة " التي ارتدت في مفاهيمها إلى التراث الإغريقي ، أو الروماني الإغريقي Greco-Roman ، كان الناس - في مجموعهم - يعيشون بشخصية مزدوجة : بقايا دين ، وبدايات انسلاخ من الدين ..
ولكن هذه الحالة لا يمكن أن تستمر ..
فرويدا رويدا لا بد أن تتغلب إحدى الشخصيتين على الأخرى حتى تمحوها ، أو في القليل تخفيها في ظلها ..
وحدث ذلك في أوربا بالفعل . وكما كان متوقعا من أحوال أوربا ظلت الشخصية المنسلخة من الدين تقوى وتقوى ، حتى محت الشخصية المتدينة تماما ، أو في القليل أخفتها في الظل ..
وكان المتوقع للأمة الإسلامية أن تمر بذات الظاهرة ، ظاهرة ازدواج الشخصية لفترة من الزمن ، ثم تتغلب إحدى الشخصيتين على الأخرى في النهاية .
وبالفعل خاضت الأمة التجربة ، وقطعت فيها شوطا غير قصير ..
ثم بدأت إحدى الشخصيتين تتوارى .. وبدأت الأخرى تظهر وتبرز . ولكن الأمر كان على غير ما توقع الكثيرون ! كان مخالفا تماما لما وقع في أوربا .. !
كانت الشخصية التي بدأت تبرز هي الشخصية العائدة إلى الإسلام !
الصحوة المباركة
جاءت الصحوة على غير توقع من كثير من الناس ، سواء منهم من كان يتمناها في قرارة نفسه ، ومن كان يرجو ألا تحدث أبد الدهر !
كانت الأمة قد أوغلت كثيرا في التيه ، وبعدت كثيراً عن خط الإسلام .(1/74)
فأما الصليبيون والصهيونيون ، الذين كانوا يخططون منذ مائتي سنة على الأقل لإبعاد الأمة عن دينها فقد كانوا يظنون أنهم أفلحوا تماما في الفضاء الأخير عليها .. وكان لديهم ما يسوّغ هذا الظن مما يرون من أحوال الأمة ، وسرعة انسلاخها من كل ما يمت للدين بصلة ، حتى الشعائر التعبدية لم يعد يؤديها إلا سكان الريف ، والمتقدمون في السن من أهل المدينة ، أما الشباب ، الذي أقبل على " المدنية " و " التقدم " و " التحرر " فقد هجر المسجد - كما أسلفنا - وصار همه تتبع " الفنانين " و " الفنانات " وأغاني الميوعة والرخاوة ، وأفلام السينما ، فوق انشغاله " بالصداقات " البريئة وغير البريئة مما عجت به الساحة بعد " تحرير المرأة " ..
ولم تكن الطامة في انحراف السلوك وحده ، ولكن الأخطر من ذلك كان انحراف التصورات ، فانحراف السلوك وحده مع صحة التصور والاعتقاد يمكن أن يرجع صاحبه فيصحح سلوكه ، في لحظةٍ يستيقظ فيها ضميره ، فينتهي عن المعاصي ويستقيم . أما الذي فسد تصوره واعتقاده فلماذا يرجع ، وهو يرى ما هو فيه صوابا لا خطأ فيه ، ويرى - على العكس - أن الخطأ في العودة إلى الدين ؟
وأما أذيالهم من " المثقفين " الذين تشربوا سمومهم ، وفرحوا بها ، وراحوا يفاخرون بأنهم أصبحوا " كالخواجات " في كل شيء .. تصوراتهم واعتقاداتهم وأنماط سلوكهم .. فقد ظنوا - كما ظن سادتهم - أن لن تقوم للإسلام قائمة بعد ذلك أبدا ، وأنهم هم - طلائع التحول ورواده - قد دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه ، وأنهم هم القيادة الجديدة للمجتمع ، التي ستقود المجتمع كله إلى النور .. وتخرجه من الظلمات ..
وكان ظن هؤلاء وهؤلاء مبنيا أساسا على التجربة الأوربية ..(1/75)
فتلك أمة كانت متدينة في يوم من الأيام ، وكان الدين حياتها وفكرها ومرجعها الذي ترجع إليه في أمورها .. ثم تحولت عنه ، ونسيته كأن لم يكن قط ، وأحالته إلى متحف التاريخ ، وَوُلِدَتْ ميلادا جديدا لا علاقة له بأوضاعها السالفة ..
وهذه أمة كانت متدينة كذلك في يوم من الأيام ، وكان الدين حياتها وفكرها ومرجعها .. ثم أخذت تتحول عنه بذات الوسائل وذات الأفكار التي جعلت أوربا تخرج من دينها ثم تنساه .. فما الذي يمنع أن تكون النتيجة هنا مثل النتيجة هناك ؟!
وهنا أخطئوا التقدير .. !
نقول ابتداء إن الله شاء للأمة الإسلامية غير ما شاء لأوربا .. والذي يكون بالفعل هو ما يشاؤه الله ، لا ما يشاؤه العبيد ..
ولكنا نقول كذلك إن قدر الله يجري من خلال سنن وأسباب ..
فما الذي اختلف في الأوضاع هنا عن الأوضاع هناك ، فجعل النتيجة هنا غير النتيجة هناك ؟!
أمور كثيرة في الحقيقة ، لم يدركها الصليبيون والصهيونيون وأذيالهم من " المثقفين " .. ولم تلتفت إليها الأمة ذاتها إلا بعد أن بدأت طلائعها تخرج من التيه ..
كان هناك أولا فارق الدينين .. وهو عظيم .
هنا دين الله الحق ، الذي حفظ الله كتابه وسنته ، ومهما انحرف الناس عنه في وقت من الأوقات ففي إمكانهم أن يعودوا إليه ، لأن المرجع موجود ، لم يحرف ولم يبدل ، ولم تمتد إليه يد بالتغيير ؛ وهناك دين لم تعرف أوربا أصله في واقعها القديم ولا في واقعها الحديث ، فالكتاب المنزل حُرف وبدل ، واستبدلت بعقيدة التوحيد المنزلة من الله على نبيه عيسى عليه السلام عقيدة أخرى ما أنزل الله بها من سلطان ، جعلت الواحد ثلاثة ، والثلاثة واحدا ، وأنشأت خليطا متناقضا لا تسيغه العقول ، فضلا عن فصل العقيدة عن الشريعة وتقديم الدين للناس عقيدة بغير تشريع .
وكان هناك ثانيا فارق الرجال الذين حملوا الدين وعلموه للناس .(1/76)
فهنا علماء وفقهاء ، ورجال صالحون أتقياء ، يدعون إلى دين الله بالقدوة والموعظة الحسنة والعلم والفقه ، فيتعلم الناس الدين على أيديهم ، ويقتدون بهم على بصيرة ، ويمارسون الدين على وعي بأن هؤلاء الرجال معلمون ومربون ، وليسوا وسطاء بين العبد ومولاه .. وهناك " رجال دين " .. كهنة يقومون بالوساطة بين العبد والرب ، ويحتكرون تفسير الدين ، فتظل العقول مغلقة عن حقيقة الدين ، لا تعرف إلا ما يقوله لها هؤلاء .. وهؤلاء لا يقولون ما يشفي الصدور ، ويحتفظون لأنفسهم بمكانة زائفة في نفوس أتباعهم على زعم أنهم هم الذين يعرفون " الأسرار " ، بينما الحقيقة أنهم لا يزيدون علما بها عن أي شخص آخر ، لأنها - بطبيعتها - غير قابلة للفهم ، وغير قابلة للتصديق !
وكان هناك ثالثا فارق الواقع التاريخي .. وهو فارق ضخم .
فلدى المسلمين واقع تاريخي طبق فيه الدين بتمامه ، فكان أروع ما عرفته البشرية في تاريخها كله .. ذلك عصر النبوة والخلافة الراشدة . ثم واقع تاريخي امتد بعده عدة قرون ، وقعت فيه انحرافات وتجاوزات ، ولكن بقي فيه من حقيقة الدين ما أنشأ حضارة رائعة ، وحركة علمية فائقة ، وتمكنا في الأرض في جميع المجالات : السياسية والحربية والعلمية والفكرية والخلقية والاقتصادية والاجتماعية ، ملأ سمع الدنيا وبصرها ، ووعاه التاريخ .. وعند أوربا في مقابل ذلك - باعترافهم - ظلمات القرون الوسطى المظلمة ، المرتبطة في حسهم بسيطرة رجال الدين وطغيانهم الروحي والمالي والسياسي والفكري والعلمي .. وفي جميع الميادين .
وهذه الأمور وحدها كافية لجعل النتيجة هنا غير النتيجة هناك .
فالدين الحق في يسره وبساطته ، ومخاطبته لكيان الإنسان كله : روحه وعقله وجسمه ، وشموله لكل جوانب الحياة ، غير الدين المحرف الزائف الذي يحاول اللاهوت تيسيره فلا يزيده إلا تعقدا وعسرا ، فضلا عن كونه يشغل جانبا واحدا من الحياة ويترك بقية الجوانب في خواء .(1/77)
والعلماء الفقهاء ، المعلمون المربون ، غير الكهنة المغلفين بالأسرار المحجوبة عن الناس والواقع المشرق الطويل ، غير الواقع المظلم الذي استمر عشرة قرون .
فحين يعود المسلمون إلى دينهم بعد فترة من انحرافهم عنه فلا عجب في ذلك ، بل العجب ألا يعودوا إليه !
ومع وضوح الفوارق بين حال المسلمين وحال أوربا ، تلك الفوارق التي ترشح لاختلاف النتيجة هنا وهناك ، فإن الصحوة كانت مفاجأة عنيفة لكثير من الناس !
ذلك أنهم نظروا فقط إلى عوامل الهدم المبثوثة - التي جربت أول مرة في أوربا فآتت ثمارها - فظنوا انها - في ذاتها - كفيلة بهدم أي دين في الوجود !
فنشر النظريات " العلمية " الزائفة ، التي تحارب الدين والأخلاق والتقاليد ، وإنشاء مجتمع لا يمارس فيه الدين في واقع الحياة ، ويطلق فيه العنان للشهوات لتستوعب طاقة الإنسان واهتماماته بحيث ينسى ربه وآخرته ، ووضع مناهج تعليمية لا يذكر فيها اسم الله ولا اسم رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبث توجيهات في وسائل الإعلام تزين للناس متاع الأرض وتشغلهم به عن الآخرة .. كل ذلك كان كفيلا - في نظر المخططين - بالقضاء على بذرة الدين في نفوس المسلمين ، وإخراجهم من تراثهم وتقاليدهم إلى غير رجعة !
ولكنهم لم يفطنوا إلى حقيقة بدت واضحة فيما بعد ، وهي أن البذور السامة التي ألقوها لتأكل جذور الدين لم تتعمق في التربة الإسلامية كما تعمقت من قبل في التربة الأوربية ، بسبب الفوارق الهائلة بين ما هنا وما هناك !
* * *
ولم تكن هذه وحدها هي الأسباب .. وإن كانت هذه وحدها - كما أسلفنا - كفيلة بجعل النتائج تختلف ما بين هنا وما هناك ..
كانت هناك أسباب أخرى صاحبت الناس في التيه ولكنهم لم ينتبهوا لها في حينها .. ثم انتبهوا !(1/78)
إن النظم المستوردة ، وإن " الزعماء " الذين استوردوا النظم لم ينجحوا في حل مشكلة واحدة من مشاكل الأمة ، برغم كل الدعاية الكاذبة ، وبرغم الجهد كله الذي بذله الطبالون والزمارون .. !
حدث تقدم شكلي في بعض الأمور .. ولكنه لا يخفي الفشل الذريع في سائر الأمور..
خرجت جنود العدو ، ولكن نفوذه السياسي والاقتصادي لم يخرج ، وفي بعض الأحيان زاد !
تعلم الناس قشورا من العلم في المدارس والجامعات ، ولكن الهوة العلمية والتقنية بينهم وبين الغرب لم تنقص .. وفي بعض المجالات زادت عدة أضعاف !
تكونت جيوش " حديثة " ، ولكن سلاحها وذخيرتها في يد الغرب ، هو الذي يقرر النوعية والمقدار ، وهو لا يعطى إلا بالقدر الذي لا ينشئ قوة حقيقية ، إنما يستنزف أموال المسلمين ، ويحتفظ لنفسه بالتفوق الجبار !
وامتلأت دور العرض وامتلأت البيوت بالبضائع " الاستهلاكية " التي تستهلك أموال الناس في أدوات الترف ، أما الإنتاج الصناعي الذي يغني الاقتصاد ، ويغني الناس عن الاستيراد ، فبعيد جد بعيد ! بل زاد الاقتصاد تدهورا ، وهبطت العملات إلى القاع !
وفسدت الأخلاق .. لا في مجال الجنس وحده كما يتبادر إلى الأذهان حين تذكر الأخلاق .. ولكن في مجال القيم والمعايير ، فصارت القيم المادية هي المسيطرة على وجدان الناس ، وصار النفاق والوصولية عملة معتمدة في المجتمع ، وصارت أمور الناس تقضى بالرشوة ، ولا تقضى إلا بالرشوة .. وصارت الخيانة هي الأصل ، والأمانة الاستثناء !
وأخيرا جاء العسكر ليحرقوا ما بقي في نفوس الناس من خير من أي نوع .. ويبذروا الشر بذرا في الأرض كالشياطين ..
وفوق ذلك كله ضاعت فلسطين ..
* * *
يحسب بعض الناس أن الصحوة لم تكن إلا رد فعل لهذا الفشل في جميع الميادين ..
فشل النظم المستوردة و " الزعماء " المزيفين الذين صُنعوا على عين الغرب ، ونُصِّبوا ليقوموا بالإفساد في بلاد الإسلام .(1/79)
ولا ينكر أحد أن هذا الفشل كان من المحفزات للصحوة ..
ولكن الناس ينسون أن الجذور الحقيقية للصحوة كانت سابقة على استيراد النظم وفشل الزعماء .. فقد كانت الحركة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب لتصحيح العقيدة هي الباعث الحقيقي ليقظة العالم الإسلامي ، على الرغم من كل الجهود التي بذلت لمحاولة كبتها والقضاء عليها .
ولقد بدا - لفترة من الوقت - أن الدعوة قد حُصِرَتْ وسُدَّت عليها المنافذ فلم تعد قادرة على الامتداد .. ولكنها لم تكن دعوة ذاتية للشيخ محمد بن عبد الوهاب في داخل الجزيرة العربية حتى يسدوا المنافذ عليها ويكتموها .. إنما هي هي الدعوة التي قال الله عنها : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ..) (96) .
دعوة تمتد بما أودع الله فيها من الحق ، وما أودع فيها من القوة ، وما أودع فيها من البيان ، يحملها قلبٌ مؤمن فتشتعل في قلبه ، فتمد إشعاعها في الآفاق ..
وحين يحاربونها فقد تسكن حركتها إلى حين .. ولكنها تعود فتؤتي أكلها بأمر الواحد القهار ..
* * *
جاءت الصحوة المباركة وهدفها أن تخرج الناس من التيه الذي غرقوا فيه ، وتردهم إلى الطريق الذي تاهوا عنه في وهلة الانبهار .
بل جاءت لتنفض ما كان قد تراكم من الغبش على طريق الدعوة قبل الهزيمة وقبل الانبهار .
جاءت لترد الدين صافياً كما نزل أول مرة ، بالرجوع إلى منابعه الصافية : كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وسيرة السلف الصالح .
جاءت لترد الدين واقعا معيشيا ، لا مجرد وجدانات في داخل القلب ، ولا مجرد كلمات تنطق باللسان ..
جاءت لتربي جيلا جديدا على مقتضيات لا إله إلا الله ..
مهمة صعبة ، ومشوار طويل .. فثمت في الطريق عقبات وعقبات ..(1/80)
إن العقبات القائمة في وجه الصحوة ليست هي الحرب الخارجية وحدها كما يرى كثير من الناس ..
حقيقة إنها حرب شرسة . فقد تجمع العالم كله اليوم لحرب الإسلام : الصليبية العالمية كلها ، والصهيونية العالمية كلها ، والشرك العالمي كله ، فضلا عن عملاء الصليبية الصهيونية في داخل البلاد ، الذين يحاربون الدعوة بالحديد والنار .. بالسجن والتعذيب .. بالتشويش الإعلامي .. بكل وسائل الكيد التي تخطر على البال .
ولكن هناك عقبات أخرى لا تقل تعويقا للصحوة .. بل قد تكون أشد تعويقاً لها من تلك الحرب .
هناك الركام الذي كان قد تراكم في طريق الدعوة قبل الغزو الصليبي الصهيوني ، من انحراف في العقيدة ، وانحراف في التصورات ، وانحراف في السلوك ، جعل الإسلام غريبا في أرضه ، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم : " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ " (97) .
وهناك ركام الغزو الفكري الذي ضلل الناس في مرحلة التيه ، وتوغل في جميع الاتجاهات .
وهناك ثقل " الأمر الواقع " في حس كثير من الناس ، وتصورهم أنه غير قابل للتغيير.
وهناك عدم الإدراك الكامل من جانب الصحوة لمهمتها على وجه التحديد ، ولترتيب الأولويات في مشوارها الطويل ..
وذلك فضلا عن تشرذم الجماعات القائمة بالدعوة ، وتفرقها وتخاصمها ، وغياب القيادة الكبيرة التي تجمّع الشمل وتقود المسيرة .
ولكن الصحوة - على الرغم من ذلك كله - قد قامت بجهد كبير ..
* * *
لقد وعي شباب الصحوة الخطوط العريضة على الأقل لحقيقة المشكلة والخطوط العريضة لحقيقة الحل ..
لم يكن ما حل بالعالم الإسلامي من جمود وضعف وتخلف وانحسار نتيجة للتمسك بالدين ، كما أوهموا الناس ، وكما صدقهم كثير من الناس في فترة التيه ! إنما كان السبب بعد الناس عن حقيقة الدين !
ولم يكن الحل هو نبذ الدين واتباع الغرب فيما ذهب إليه من مذاهب .. إنما كان الحل هو العودة إلى الدين !(1/81)
أصبحت هذه القضية - في صورتها العريضة على الأقل - واضحة تماما في حس الصحوة الإسلامية ، ومنها أخذت تتسرب إلى جمهور كبير من الناس ، فلم يعودوا يصدقون ما يقوله لهم دعاة الغزو الفكري ، ودعاة العلمانية ، ودعاة " التنوير " على منهج الغرب ، بل صاروا يصرفون سمعهم عنهم ، ويتجهون إلى النداء الإسلامي ، وصارت شكوى أولئك أن الكتاب الإسلامي هو أروج الكتب في التوزيع ، وأن الدروس الإسلامية والمحاضرات الإسلامية هي أكثف التجمعات في كل مكان !
وأدرك شباب الصحوة جيدا أن لا إله إلا الله التي تدخل الجنة ، وتغير الواقع المنحرف ، وتنشئ الواقع المنشود ، ليست هي مجرد الكلمة المنطوقة باللسان ! إنما هي الكلمة ، واليقين الذي يملأ القلب ، والعمل بمقتضى لا إله إلا الله .
وأدرك شباب الصحوة أن تربية الروح واجبة ، ولكن لا على طريقة السبحات الروحية المهومة ، التي تستهلك الوجدان الديني دون أن تتحول إلى عمل وجهاد لإزالة المنكر وإقامة المعروف في مكانه .
وأدركت المرأة المسلمة في كثير من بقاع العالم الإسلامي أن الحجاب جزء من دينها فالتزمت به ، على الرغم من كل الدعاية المضادة ، والدفع المضاد ، الذي يقوم به دعاة الغزو الفكري ، والمنحلون والمنحلات ، الغارقون في حمأة الطين .
وأدرك شباب الصحوة أن الثقافة المسمومة التي تقدم إليهم في وسائل الإعلام المختلفة ليست زاداً صالحا لإنشاء الأجيال المسلمة ، وأنه لا بد من ثقافة إسلامية أصيلة ، تستمد مناهجها من التصورات الإسلامية لا من تصورات الجاهلية المعاصرة .(1/82)
وأن ما يسمى بالعلوم الاجتماعية بصفة عامة ، وعلى وجه الخصوص علم التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع ، ليست علوما موضوعية تؤخذ مقرراتها قضايا مسلمة ، كما حاول الغزو الفكري أن يوهم الناس ، إنما هي " وجهات نظر " في قضايا " الإنسان " و " الحياة الإنسانية " ملونة ابتداء بمواقف أصحابها من قضية الألوهية ، وتصورهم لطبيعة العلاقة بين الكون والحياة والإنسان وبين الله ، خالق الكون والحياة والإنسان . ومن ثم فإن ما يأتي من هذه العلوم من عند الغرب مشوب بالروح المتمردة على الله ، التي تسيطر على القوم هناك ، فلا تؤخذ قضايا مسلمة ، وإنما لا بد من بديل إسلامي في كل هذه العلوم .
وأدرك شباب الصحوة أن الاقتصاد الربوي حرام حرمة لا شبهة فيها ، مهما حاول المزورون أن يزوروا من الحجج والبراهين ، وأنه وصمة عار في جبين المسلمين حين يستخدمونه ، وأنه لا بد من السعي إلى إيجاد بديل إسلامي في مجال الاقتصاد ..
وأدرك شباب الصحوة قبل هذا كله أن الحكم بما أنزل الله قضية متصلة بأصل الاعتقاد ، وأننا لا نستطيع أن نكون مسلمين إذا رضينا بتشريع يحل ويحرم من دون الله .
وسرت هذه المقررات كلها إلى جماهير الناس بخطى ثابتة ، برغم الحديد والنار .. برغم التشريد والتعذيب .. برغم الضغط الإعلامي المصوب بكل عنف ضد هذه المقررات ..
* * *
ليس هنا مجال تفصيل القول فيما قامت به الصحوة وما لم تقم به .. إنما كان حديثنا هنا عن الظاهرة في ذاتها .. ظاهرة الصحوة ..
إنها - كما نقول دائما - هي العودة إلى النبض الطبيعي لهذه الأمة . لذلك لا نعجب لكون الأمة قد عادت إلى نبضها الطبيعي ، إنما كان العجب أنها حادت عنه في وقت من الأوقات .
إن الإسلام دين الفطرة .(1/83)
( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (98) .
وأيًّا كانت الأسباب التي دعت الناس إلى الزيغ في الماضي (99) ، فقد جاءت الصحوة لتردهم إلى الطريق .
جاءت قدراً ربانياً قدّره الله ، ليوقظ الأمة من سباتها ، ويردها من تيهها ، لتتسلم مهمتها في الأرض مرة أخرى ، وقد آذنت شمس الحضارة الغربية بالغروب .
إنها حدث تاريخي ، وليست مجرد سطور متناثرة على صفحة التاريخ ..
* * *
ونحن نستبشر بالصحوة المباركة على الرغم من كل عثراتها ، ومن كل العقبات المرصودة لها في الطريق .. وعلى الرغم من معرفتنا بطول الطريق ، وأنها ما تزال بعد في أول الطريق !
إنها - بحول الله - أقوى من كل العثرات ، ومن كل العقبات ..
وهذه الحرب المرصودة لها في الطريق لم تكن لترصد ، ولم يكن العالم الصليبي الصهيوني ليتجمع هذا التجمع الشرس الذي رأينا نموذجا منه في البوسنة والهرسك ، لو لم تكن الصحوة شيئا حقيقيا ماثلا في عالم الواقع ، ومبشرا بالمزيد ..
إن الأعداء يعرفون حقيقة هذا الدين :
( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ..) (100) .
ويعرفون أنه إذا استيقظ في النفوس فهو قادر على مصارعة أعدائه مهما تكن قوتهم .. وقادر بعد ذلك على التمكن في الأرض بما أودع الله فيه من قوة الحق ، ورصيد الفطرة ، وعمق اليقين .
وهذا الذي نستبشر به ، ونتوقعه في الغد المأمول .
الغد المأمول
ليس الطريق إلى الغد المأمول مفروشا بالأزهار والورد .. بل هو مفروش بالأشواك والآلام والدماء .. دماء الشهداء الذين سيسقطون في الطريق ..
إن العالم كله اليوم مصرّ على محاولة محو الإسلام من الأرض .(1/84)
وليست هذه هي المرة الأولى التي يصرّ فيها الأعداء على هذه المحاولة ، منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى اليوم ، فقد جاء في كتاب الله الذي أنزل من نيّف وأربعة عشر قرنا قوله تعالى :
( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (101).
( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(102).
والضمير في الآيتين يعود إلى ذات الأعداء الذين يريدون اليوم أن يطفئوا نور الله : اليهود والنصارى والمشركين ، وعملائهم من المنافقين :
( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) (103).
( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ) (104).
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (105).
ولكن ربما كان الفرق بين المحاولة الحاضرة والمحاولات السابقة أنه في المحاولات السابقة كان بعض الأعداء يهاجمون أجزاء من العالم الإسلامي في الوقت الواحد . أما في هذه المرة فالهجوم واقع من جميع الأعداء ، وعلى العالم الإسلامي كله في وقت واحد .
وثمت فارق آخر ، ربما كان هو السبب في الحقيقة في وجود الفارق الأول : هو أن العالم الإسلامي - في مجموعه - لم يكن في وقت من الأوقات أضعف منه الآن ..
وقد تبدو الهجمة الشرسة مستغربة مع ضعف العالم الإسلامي ، واستسلامه لما يراد به عسكريا وسياسيا واقتصاديا وفكريا ، وعجزه عن رد اللطمات المتلاحقة الموجهة إليه عن يمين وشمال .
ولكن ربما يزول العجب إذا عرفت الأسباب ..(1/85)
وهناك سببان اثنان على الأقل لهذه الهجمة الشرسة التي يتكاتف على توجيهها كل أعداء الإسلام ، حتى الذين بين بعضهم وبعض عداوات حادة كالتي بين الصرب والكروات ، تمنع التقاءهم على أي شيء .. إلا محاربة الإسلام !
السبب الاول أن أعداء الإسلام الذين تآمروا ضده خلال القرنين الماضيين ، وخططوا وأحكموا التخطيط ، ونفذوا بدقة كل مخططاتهم ، كانوا قد ظنوا أن تخطيطهم سيقضي على الإسلام القضاء الأخير ، وأنهم سيرتاحون إلى الأبد من ذلك العدو الذي دوخهم خلال التاريخ . وكان القضاء على الدولة العثمانية بالذات ، وتفتيت تركة " الرجل المريض " إلى دويلات هزيلة ضعيفة فقيرة وفوق ذلك متعادية متنابزة ، أكبر نصر انتصروه على الإسلام في التاريخ كله ، ففركوا أيديهم سرورا بنجاحهم ، وجلسوا يقطفون الثمار ..
وفجأة برزت الصحوة !
ولك يكن إمكان حدوث اليقظة غائبا عن أذهانهم ، بل كان له مكانه الواضح في تخطيطهم ..
في عام 1907م ظهر تقرير لورد كامبل . وهو أحد اللوردات البريطانيين ، كانت بريطانيا ( العظمى يومئذ ! ) قد عهدت إليه بدراسة ما كان قد بدأ يقلق الدول الاستعمارية من بوادر اليقظة في المنطقة العربية من العالم الإسلامي . فقام بالمهمة ودرس الأمر ، وخرج بتقريره الموجه إلى الدول الإستعمارية كلها في الحقيقة ، وإلى بريطانيا وفرنسا بصفة خاصة ، بوصفهما المهيمنتين الرئيسيتين على القسم العربي من العالم الإسلامي ، فقال " هناك شعب واحد يسكن من الخليج إلى المحيط ، لغته واحدة ، ودينه واحد ، وأرضه متصلة ، وتاريخه مشترك . وهو الآن في قبضة أيدينا ، ولكنه أخذ يتململ ، فماذا يحدث لنا غدا إذا استيقظ العملاق ؟ " . ثم أجاب على السؤال بما يطمئن " أصحاب الشأن " فقال : " يجب أن نقطع اتصال هذا الشعب بإيجاد دولة دخيلة ، تكون صديقة لنا وعدوة لأهل المنطقة ، وتكون بمثابة الشوكة ، تخز العملاق كلما أراد أن ينهض !! " (106).(1/86)
تلك هي إسرائيل .. مؤامرة صليبية صهيونية واضحة ضد الإسلام ..
ولكن " أصحاب الشأن " لم يكتفوا بذلك في مواجهة الصحوة المتوقعة التي عبر عنها " كامبل " بأن العملاق قد " أخذ يتململ " . فقد ربوا " زعامات " و" قيادات " تستوعب الغضبة إذا حدثت في نهاية الأمر على الرغم من كل الاحتياطات ، وتحولها إلى زَبَدٍ ، ينتشر على السطح ، ثم ينفثئ بعد فترة دون أن يخلف شيئا على السطح ! زعامات " سياسية " وقيادات " شعبية " تملأ الجو عجيجا ، ثم لا تمس في النهاية " مصالح " أصحاب الشأن ، بل قد تزيدها رسوخا ، والشعوب لاهية تصفق للقادة " الأبطال " وهو يُسْلِمُون بلادهم للدمار !
وهذا بجانب السينما والمسرح والإذاعة ( ولم يكن التليفزيون قد ظهر بعد ) والصحافة ومناهج التعليم .. وتحرير المرأة (107)!
ومع ذلك كله قامت الصحوة !
فماذا تتوقع من الذين كانوا قد خططوا ، وظنوا أن تخطيطهم قد قضى على الإسلام بغير رجعة ؟!
أما السبب الثاني - المتصل بالصحوة كذلك - فهو ما ألمحنا إليه من قبل ، من معرفتهم بحقيقة هذا الدين ، وبأن هذه الصحوة إن استقرت في القلوب فلا سبيل إلى وقفها حتى تأخذ مداها ..
من هذين السببين معاً : الحنق من فشل مخططات قرنين من الزمان أو أكثر ، والفزع على " المصالح " التي تهددها الصحوة الإسلامية إذا استمرت في الامتداد ، نستطيع أن ندرك السعار المحموم الذي يجري في الأرض كلها لضرب الحركة الإسلامية .
ولو كانت هذه " المصالح " مشروعة ، أو معقولة ، فما كان لها أن تخشى من الإسلام من شيء ، والإسلام هو الذي أمَرَ بالعدل مع أهل الكتاب ، فوجه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : (.. وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ(108) وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ..) (109).(1/87)
ولكن " مصالحهم " التي يعلنونها أحيانا ويسرونها أحيانا هي ألا يكون إسلام في الأرض .. ودون ذلك تقف مشيئة الله .
(.. وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (110) .
* * *
إذا فهمنا سر الهجمة الشرسة ، وأدركنا الإصرار المحموم على ضرب الحركات الإسلامية لإبادتها ، فما الذي نتوقع من أمرها في الغد القريب أو الغد البعيد ؟
نتوقع كل الخير .. !
ولا نقول هذا من باب تصديق الأمانيّ ! إنما نقوله على ثقة بوعد الله ، وعلى ضوءٍ من السنن الربانية التي يجريها الله ويُجْري بها أمور البشر في الأرض .
فأما الغرب الصليبي الصهيوني وعملاؤه فإنهم يعملون بحماقة شديدة ضد " مصالحهم " !
إنهم بهذا السعار المحموم الذي يمارسونه في محاولة إبادة الحركات الإسلامية ، يربون الجيل الذي لن يقدروا عليه ! ويتم ذلك في غفلة منهم ، بتدبير رباني ، كأنما قدر الله يسوقهم سوقا لإخراج ذلك الجيل على أيديهم !
إن الانفجار يحدث دائما حين يستوي الموت والحياة عند الناس ، أو حينما يكون الموت أيسر على الناس من الحياة !
وكل الانفجارات التي حدثت في التاريخ سبقها سعار محموم لإبادة تيار متصاعد ، ظن الطغاة أنهم يستطيعون القضاء عليه بالقهر والتعذيب !
والذي يجري في الأرض كلها اليوم من محاولات لإبادة المسلمين ، سواء في البوسنة والهرسك ، أو كشمير ، أو فلسطين ، أو بورما ، أو طاجكستان ، أو داخل سجون التعذيب .. لن تكون نتيجته إلا إخراج أجيال أصلب عودا ، وأكثر عنادا ، أطول نفسا ، وأكثر وعيا بحقيقة المعركة التي تدور في الأرض بين دين الله وأعداء الله .
وتلك النتيجة هي - بيقين - ضد " مصالح " أصحاب الشأن !
ولو تعقلوا ما فعلوا ذلك .. ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) (111).(1/88)
إن الإسلام قادم ، من أيّ طريقيه جاء ، كما قلنا في كتاب " دروس من محنة البوسنة والهرسك " ، إما بتيار هادئ يعمل في رزانة وتؤدة ، ليصل على مهل إلى أهدافه ، وإما بتيار غاضب صاخب ، يلجأ إلى العنف ويستعجل الطريق !
ونحن - كما قلنا في ذلك الكتاب - نفضل ألف مرة التيار الهادئ ، الذي يعمل في رزانة وتؤدة ، ولو استغرق عمله بضعة أجيال ! ولكن ما حيلتنا في حماقات الغرب ، وحماقات إسرائيل ؟!
* * *
إذا كان هذا حال الأعداء .. فما حال الصحوة ؟
إذا راجعنا مسار الصحوة - كما ينبغي لنا أن نفعل - فسنجد - كما ألمحنا من قبل - أنها قامت بجهد كبير ، تبدو آثاره واضحة على الساحة . ولكنها تعجلت كثيرا في بعض الخطوات ، وأبطأت كثيرا في بعض المجالات ، وتركت بعض المجالات فلم تبذل فيها الجهد المطلوب ..
وليس هنا مجال التفصيل في ذلك كله (112) . ولكن لا بد من إشارات سريعة توضح ما نقول .
قامت الصحوة بجهد " إعلامي " كبير ، على الرغم من حرمانها المتعمد من معظم وسائل الإعلام !
والوعي الإسلامي القائم عند الجماهير اليوم ، مرده - بعد فضل الله - إلى الصحوة المباركة ، وإلى الجهد الدائب الذي بذلته خلال أكثر من نصف قرن في تعريف الناس بالإسلام .
وذلك جهد لا بد أن يذكر ..
فلو أننا راجعنا حال المسلمين في القرن الماضي ، ومدى الغربة التي لفّت الإسلام في طياتها ، حتى أصبح غريبا على أهله ، وأصبح ما يتمسكون به على أنه الإسلام كأنه دين آخر غير دين الله المنزل .. إذا راجعنا تلك الحال ، وقارناها بالحاضر الذي تمور به الساحة مورا ، أدركنا على الفور مدى الجهد الذي بذلته الدعوة في هذا المجال .
ولقد كان أبرز ما قامت به الصحوة في هذا المجال هو العمل لإزالة آثار الفكر الإرجائي والفكر الصوفي والتفلت من التكاليف ، أو في القليل تخفيف آثارها .. وقد كانت هذه الثلاثة من أشد ما أصاب الأمة الإسلامية بالضعف والخذلان .(1/89)
وكان من أبرز ما قامت به كذلك التركيز على معنى لا إله إلا الله ، وأنها ليست مجرد الكلمة المنطوقة باللسان ، وأن الإيمان ليس قولا معزولا عن العمل ، إنما هو - كما قال السلف - قول وعمل .. عمل بمقتضيات لا إله إلا الله في الواقع المشهود .. وقد كان حصر الإيمان في نطق لا إله إلا الله ، أثرا من أثار الفكر الإرجائي من ناحية ، والرغبة في التفلت من التكاليف من ناحية ، والتضليل الذي قامت به أجهزة الغزو الصليبي الصهيوني من جهة ثالثة ، لتخدير المسلمين عن حقيقة لا إله إلا الله ، وصرفهم عن أي محاولة جادة لترجمتها واقعا حيا متحركا كما هي حقيقتها التي نزلت بها من عند الله .
كذلك كان من آثار الصحوة إزالة الانبهار بما عند الغرب ، أو - في القليل - التقليل من آثاره على أرواح الناس .. وقد كان هذا الانبهار من أشد عوامل عبودية الناس للغرب المستعمر ، وتخذيلهم عن مجرد التفكير في مقاومته حتى داخل أفكارهم ومشاعرهم ، فضلا عن مقاومته في الواقع المحسوس .
ومن ميزات الصحوة هنا أنها لم تناد بإغلاق الأبواب على كل ما يجيء من عند الغرب ، ولم تدع إلى العزلة عن ركب الحياة الحيّ ، إنما نادت بضرورة الانتقاء - على بصيرة - مما عند الغرب ، وأخذ ما لا بد من أخذه ، وترك ما لا بد من تركه ، والاستفادة بما أخذ بتطويعه للمنهج الإسلامي ، وليس بتطويع الإسلام لمناهج الغرب ..(1/90)
ويحسب للصحوة كذلك عملها الضخم في ميدان المرأة .. وقد كان ميدان المرأة من أكبر المجالات التي عمل فيها الغزو الفكري ، لإخراج المجتمع كله من الإسلام .. فالأم هي التي تبذر في أطفالها في سنيهم الأولى مبادئ العقيدة ومبادئ الفضيلة ومبادئ الأخلاق ، فإذا أفسدت الأم وهي بعد فتاة ، فنزعت حجابها ، وأهملت عبادتها ، وشُغِلَتْ عن ربها وآخرتها بالجري وراء " المودة " وأدوات الزينة والخروج من البيت ابتغاء الفتنة والتبرج ، فلن تربي أبناءها حين تصبح أُماًّ على شيء من العقيدة ولا الفضيلة ولا الأخلاق ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه . وقد بذل الغزو الصليبي الصهيوني جهدا جبارا في هذا المضمار ، بحيث يصبح من المتعذر على المرأة المسلمة الملتزمة المتحجبة أن تعيش في المجتمع السافر المتفسخ المتسيب الذي يعج بألوان الفساد .. لذلك ينظر دعاة الغزو الفكري اليوم في ذهول بالغ وحنق محموم إلى ظاهرة الحجاب ، التي لم تشمل فتيات الجامعة فحسب ، بل وصلت إلى " الفنانات " ، آخر من يتصور أن يعدن إلى الله !
كل ذلك يحسب - من بعد فضل الله ومَنِّه - لجهود الدعوة في أكثر من نصف قرن .
ولكن الدعوة تعجلت في أمور ، ظناً منها أنها أصبحت كفئاً لتلك الأمور ..
تعجلت في الصدام مع السلطة ، وتعجلت في طلب الوصول إلى الحكم .
إن الصدام بين السلطة والدعوة - في فترة الاستضعاف - لا يجوز أن يجيء من جانب الدعوة ، إنما هو يأتي دائما من جانب السلطة . وحين تضرب السلطة الدعوة الإسلامية وهي لا تصنع شيئا إلا أن تبيّن للناس حقيقة لا إله إلا الله ، فسيعرف الناس - بشهادة الواقع - مكان تلك السلطة من الإسلام ، وموقفها من دعوة لا إله إلا الله .(1/91)
أما حين تجد الفرصة لاستدراج الحركات الإسلامية إلى معركة غير متكافئة ، فهي تنجح في تلبيس الأمر على " الجماهير " فتوهمها أنها لا تحارب الإسلام ، وإنما تحارب " التطرف " .. فيتأخر بذلك وعي الجماهير بالقضية ، وهو عنصر مهم في الحركة لا غنى عنه.
كذلك التعجل في طلب الوصول إلى الحكم .. إنه قائم على الانخداع بحماسة الجماهير .. والحماسة الوجدانية شيء ، وتجنيد الناس أنفسهم لقضية لا إله إلا الله شيء آخر مختلف .. شيء تصنعه التربية ولا تصنعه الخطب الحماسية ولا الكتب ولا المحاضرات !
والتربية هي الجانب الذي نقول إن الصحوة قد أبطأت فيه ، مع أنها هي العصب الحيّ للدعوة ، الذي يضمن - بعد فضل الله - ثبات القلوب على الحق ، واستقامتها على الطريق ، سواء في مرحلة الدعوة أو في مرحلة التمكين حين يمنّ الله بالتمكين .
إن الحماسة للإسلام جميلة .. ويحسب للصحوة بلا شك تغييرها الصورة العامة للمجتمع - وللشباب خاصة - من الصورة اللاهية العابثة ، المتفلتة المتسيبة ، اللاهثة وراء الغرب ، الغارقة في دنس التصورات ودنس السلوك ، إلى صورة فيها التزام وتعبد ، وانشغال عن اللهو وتوجه إلى الله ، وحماسة للدعوة .
ولكن هذه هي البداية في حين ظن كثير من الدعاة أنها الغاية ..
ما بين الحماسة الملتهبة للإسلام وبين تحقيق متطلبات الإسلام في النفس والواقع وتجنيد الناس أنفسهم له بوعي وبصيرة ، مسافة طويلة تغطيها التربية البطيئة الهادئة الهادفة المستنيرة ..(1/92)
ولا يمكن بطبيعة الحال أن تُرَبّي أمة بكاملها دفعة واحدة ، ولا يمكن - مهما كان جهد التربية - أن يتربى كل فرد في الأمة على النمط المطلوب . فإن هذا لم يحدث في أي مجتمع من مجتمعات التاريخ ، ولا حتى في المجتمع الذي أنشأ أعظم مرب في تاريخ البشرية ، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد كان في ذلك المجتمع منافقون ، ومُبَطِّئون ، ومثّاقلون ، وقوم ضعاف الإيمان ، وقوم خفاف الأحلام تستطيرهم الشاردة والواردة كما جاء وصفهم جميعا في كتاب الله :
( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (113).
( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ) (114) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيل ٌ) (115) .(1/93)
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) (116).
( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً ) (117) .
نعم .. ولكن القاعدة التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه خلال ثلاثة عشر عاما في مكة وعشر سنوات في المدينة كانت من القوة والصلابة ورسوخ الإيمان بحيث حملت هؤلاء جميعا وتحركت بهم لتحقيق الأهداف التي أخرج الله هذه الأمة من أجلها :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (118) .
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(119) .
وبناء القاعدة الصلبة ينبغي أن يكون هو الشاغل الأول والأكبر للحركة الإسلامية قبل أن تتحرك في أي اتجاه .. وهذه القاعدة - بعد إنشائها بالمواصفات المطلوبة - ستكون هي القيادة التي تقود الأمة للخروج من التيه ..
* * *
إذا كان هذا هو حاضر الدعوة ، وحاضر العالم المتكتل اليوم في سعار محموم للقضاء على الإسلام .. فما المتوقع في الغد ؟(1/94)
المتوقع - من خلال هذا الاضطهاد العالمي للإسلام - أن تنضج الدعوة !
وتلك سنة ربانية يجريها الله من خلال حماقات الطغاة في كل التاريخ :
( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) (120) .
ستتعلم الحركات الإسلامية من خلال الواقع أن الأعداء لا يحاربون جماعة بعينها ، لأسباب كامنة في تلك الجماعة ، إنما يحاربون الإسلام كله ، في أي صورة من صوره ، والمتوقع - من فضل الله - أن يقرب هذا الأمر بين الجماعات المتباعدة ، ويزيل بالتدريج ما بينها من خلافات ، حين تجد نفسها كلها في خندق واحد ، يحيط به الأعداء من كل جانب ..
وستتعلم الحركات الإسلامية من خلال الواقع أن " معرفة " مقتضيات لا إله إلا الله شيء والقيام بتحقيقها في داخل النفس ثم في واقع المجتمع أمر آخر مختلف ، ومن ثم فإن تعريف الناس بمقتضيات لا إله إلا الله - على كل ضرورته وأهميته - لا يكفي وحده ! إنما المطلوب تحقيق هذه المقتضيات في النفس وفي الواقع ، وتلك مهمة التربية التي لا غنى عنها ، وأنه بغير هذه التربية - في القاعدة على الأقل - تظل الحركة شعارات بغير واقع ، فلا تستحق عند الله التمكين ، ولا تقنع الناس بإمكان التغيير !(1/95)
وستتعلم الحركات الإسلامية من خلال الواقع أنه لا بد لها من وعي سياسي ، يمنع عنها الانخداع بكل مدّعٍ يدعي أنه تاب وأناب ، وأصبح قائدا للمسلمين ! أو يتظاهر بأنه واقف ضد أمريكا أو إسرائيل وهو على رأس العملاء المتآمرين ! ووعي حركي يمنع عنها الوقوع في المنزلقات التي يستدرجها إليها الأعداء ، ويضبط إيقاع حركتها مع مقتضيات الأحداث ..
وحين تنضج الحركة فكريا ، وأخلاقيا ، وحركيا ، فإنها ستكون أصلب من أن يؤثر فيها كيد الأعداء ، لأنها ستكون على الشرط الذي اشترطه الله :
( إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) (121) .
* * *
أما الأعداء فلهم شأن آخر ..
إنهم اليوم - في كل الأرض - طغاة متجبرون يكيدون للإسلام بكل ما يملكون من وسائل الكيد .. والقوة السياسية والعسكرية والإقتصادية والعلمية والتكنولوجية في أيديهم ..
وقد علمتنا وقائع التاريخ - التي هي تحقيق السنن الربانية في واقع الأرض - أن هذا كله بغير " قيم " لا يعيش ! وأن هذه الوسائل كلها تمكّن للباطل فترة من الوقت - بحسب سنة ربانية - ثم ينهار الباطل في النهاية :
( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (122).
وقد انهار الباطل في نصف الأرض ، وانهياره في بقية الأرض قاب قوسين ..
والبديل الذي يحمل القيم هو الإسلام .. والقيمة العظمى فيه هي الإيمان بالله على بصيرة ، وضبط الحياة بالضوابط الربانية ، وتحقيق المنهج الرباني الخيّر المبارك في واقع الحياة ..(1/96)
ولكن لا بد من جهد يبذله البشر لتحقيق ذلك كله . فبغير جهد وجهاد لا يتحقق شيء في واقع الأرض ..
وفي الغد المأمول يقوم بهذا الجهد فريقان من البشر ، أحدهما تمثله الصحوة القائمة اليوم في العالم الإسلامي ، التي تزداد قوة ونضجا بما يقع عليها من المذابح والاضطهاد .. حسب سنة الله . والفريق الآخر الذي لا يحسب حسابه كثيرا اليوم ، وهو قدر من أقدار الله ، يجيء في وقته المقدور عند الله ، هو المسلمون من عالم الغرب ذاته ، الذي يتزايد عددهم باستمرار ، وهم من مثقفي الغرب النشيطين في حقل الدعوة ، والنساء منهم خاصة ، اللواتي يتحدين بواقعهن كل مفتريات الغرب عن ظلم الإسلام للمرأة ، ويعلنّ - بواقعهن - أن أعظم تكريم للمرأة هو الذي يقدمه الإسلام .
وفي الوقت المقدور عند الله تقع المعركة الفاصلة التي تتزايد اليوم إرهاصاتها .
( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً ) (123).
( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ) (124).
" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ، فيقتلهم المسلمون ، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر ، فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم ، يا عبد الله ! هذا يهودي خلفي ، فتعال فاقتله .. " (125).
وعندئذ يتغير التاريخ .. ويدخل الناس في دين الله أفواجا كما دخلوا أول مرة ـ ويقدر الله جولة أخرى ممكّنة للإسلام في الأرض . ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (126) .
الفهرس
مقدمة
..................................................................
3
كيف دخلنا التيه
..................................................................
8
حجم التيه
..................................................................
19(1/97)
الصحوة المباركة
..................................................................
61
الغد المأمول
..................................................................
70
(1) سورة ال عمران : 110
(2) سورة النور : 55
(3) سورة المائدة : 26
(4) سورة المائدة : 20 _ 26
(5) سورة البقرة : 143
(6) سورة البقرة : 208
(7) سورة الأعراف : 16 - 17
(8) سورة الأنعام : 153
(9) سورة النور : 55
(10) سورة يوسف : 108
(11) احتفلت أسبانيا في عام (1992م) بمرور خمسمائة سنة على طرد المسلمين من الأندلس و بمناسبة هذه الذكرى بالذات اختيرت مدريد مكانا " للمفاوضات " بين العرب و اليهود في قضية فلسطين .. أي قضية طرد المسلمين من الأندلس الثانية ! ووافق العرب !
(12) ومع ذلك ندرس نحن لأبنائنا أن هذه الرحلات كانت رحلات استكشافية "علمية" ! ونقول لأبنائنا إن "المتبربرين" لم يقدروا الروح العلمية التي دفعت ماجلان للقيام برحلته فقتلوه !!
(13) انظر كتاب "الإسلام على مفترق الطرق" ترجمة عمر فروخ ص 58-59.
(14)سورة البقرة : 120
(15) سورة البقرة : 146
(16) سورة البقرة : 146
(17) إدارة الثقافة العامة بوزارة التعليم العالي بالقاهرة .
(18) أثار هذه الكتاب بالذات حنق أكثر من واحد من المستشرقين ، لأنه يرد على الشبهات التي حاولوا جاهدين أن يصرفوا الناس بها عن التمسك بالإسلام ، ولأنه يكشف للناس عن مساوئ الحضارة الغربية التي ينادي بها أولئك المستشرقون بديلا من الإسلام.
(19) سورة آل عمران : 165- 166
(20) سورة آل عمران : 172- 174
(21) سورة آل عمران : 159
(22) سورة الأنفال : 59-60
(23) سورة الملك : 15
(24) سورة القصص : 77
(25) أخرجه الشيخان .
(26) انظر على سبيل المثال كتاب "واقعنا المعاصر" .
(27) سورة آل عمران : 139.(1/98)
(28) هذه النقطة لم تأخذ حظها من الدراسة العلمية الواجبة لها ، وهي تأثير هزيمة الصليبيين أمام المسلمين في نهضة أوربا ، وقيام هذه النهضة على أسس مستمدة من الإسلام . والسبب أن الأوربيين نادرا ما يعترفون بذلك ، وأن المسلمين في هزيمتهم الحالية لا يصدقون أن الإسلام كان له ذلك الأثر في حياة أوربا ! وهي قضية جديرة بدراسة علمية موسعة .
(29) سورة آل عمران : 139
(30) يزعمون - بغير سند حقيقي - أن عيسى عليه السلام قال لحواريه بطرس : أنت بطرس ، وعلى هذه الصخرة تبنى كنيستي ، وما ربطته في الأرض لا يحل في السماء ، وما حللته في الأرض لا يربط في السماء !! وهو قول لايمكن أن يصدر عن نبي من أنبياء الله .
(31) سورة التوبة :31.
(32) سورة الحجر : 9.
(33) رواه أبو داود والترمذي.
(34) يقول اليهود في تلمودهم " الأمميون هم الحمير الذين خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار ، وكلما نفق منهم حمار ركبنا حمارا آخر " فتلك نظرتهم إلى "الأمميين " أي كل الأمم غير اليهود ، والديمقراطية الرأسمالية هي إحدى وسائلهم التي يستخدمونها لتسخير الأمميين لمصالحهم . اقرأ إن شئت فصل " الديمقراطية " من كتاب " مذاهب فكرية معاصرة " .
(35) مما يلفت النظر أن ما تسميه الديمقراطية " حقوقا " للشعب ، في الرقابة على أعمال الحاكم ، تسميه الشريعة " واجبا " مفروضا على الأمة.
(36) تم استيراد الديمقراطية أولا ثم الاشتراكية والآن عود للديمقراطية بشرط ألا يليها المسلمون !.
(37) كانت الثورة في منشئها إسلامية ، فجاء سعد زغلول فحولها إلى وطنية علمانية تحت شعار " الدين لله والوطن للجميع " ! انظر إن شئت قصة سعد زغلول في كتاب "واقعنا المعاصر" ص 311 - 324 .
(38) ثار الشعب التركي أيضا - أو أثير - وكان نصيبه بعد ثورته على يد أتاتورك أقسى بكثير مما اشتكى منه أثناء حكم السلاطين!(1/99)
(39) قال اللورد أللنبي - قائد الجيش العربي الثائر - لولا معاونة الجيش العربي ما استطعنا أن نتغلب على تركيا !!
(40) سورة إبراهيم : 24 - 25 .
(41) كانت آخر محاولاتهم هي " السوق الأوربية المشتركة "
(42) اقرأ - إن شئت - كتاب " لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة "
(43) سورة النساء : 65.
(44) سورة المائدة : 44
(45) سورة الشورى : 21.
(46) سورة البقرة : 143 .
(47) سورة البقرة : 275 - 276.
(48) قد يلاحظ أن هذه المقولة هي مقولة التفسير المادي للتاريخ ، ولكن التفسير المادي للتاريخ ليس خاصا بالفكر الشيوعي كما قد يظن البعض . إنما هو فكر أوربا كلها في عصرها الحديث بتأثير اليهود فيها .
(49) سورة الروم : 21.
(50) سورة الإسراء : 23 - 24.
(51) هذه ترجمة لكلمة Spiritual في الإنجليزية وهي لفظة مزدوجة المعنى ، فهي إما أن تعني الروحية أو الكحولية ، ولكن المغالطة واضحة في وصف الخمر بأنها روحية !!
(52) ألغيت دور البغاء الرسمي فيما بعد ، لا تأثما ، ولا تحرجا من المهانة التي وقعت فيها الدولة " المسلمة " ولكن لأن الهاويات أغنين عن المحترفات !
(53) سورة آل عمران : 195.
(54) سورة النحل : 97.
(55) سورة النساء : 124.
(56) سورة النساء : 19.
(57) سورة البقرة : 231.
(58) أخرجه الترمذي بإسناد صحيح .
(59) أخرجه الشيخان .
(60) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي .
((61 انظر إن شئت كتاب " واقعنا المعاصر " وكتاب " معركة التقاليد " .
((62 هذه كلها عناوين حقيقية كانت تنشر في الصف والمجلات .
(63) سورة الروم : 21.
(64) انظر إن شئت كتاب " رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر " .
(65) من الكتب الجيدة في هذا الشأن كتاب الدكتور محمد البهى " الفكر الإسلامي الحديث ، وصلته بالاستعمار الغربي " طبع القاهرة .
(66) سورة الأعراف : 54.
(67) سورة يوسف : 40.
(68) سورة الرعد : 41.
(69) سورة المائدة : 50.
(70) سورة الشورى : 10.(1/100)
(71) سورة الأعراف : 54.
(72) سورة فاطر : 3.
(73) سورة الإسراء : 70
(74) سورة الجاثية : 23 .
(75) سورة النمل : 60 .
(76) سورة الروم : 7 .
(77) في نفس الوقت أو قبله بقليل كان هناك تحرك موجه إلى دولة الخلافة ، ومحاولات للتنصير والتغريب ، تراجع في كتب التاريخ التي تتناول فترة حكم السلطان مراد الثالث ، واتجاهه إلى " تحديث " دولة الخلافة .
(78) انظر الجزء الثاني من كتاب " عجائب الآثار " للجبرتي ( طبع القاهرة ) صفحات 231،244- 245، 251، 272- 273، 302، 436- 437 .
(79) انظر كتاب Near East : Culture and Society ، جمع وإشراف T . Cuyler ) ت : كويلر ) الترجمة العربية من منشورات " الألف كتاب " بالقاهرة .
(80) سورة الفجر : 6 - 13 .
(81) سورة الحجرات : 13 .
82)) قال دارون إن تفسير النشوء والارتقاء بتدخل المشيئة الإلهية هو بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت !!
(83) البروتوكول رقم (2) - انظر الترجمة العربية للبروتوكولات لمحمد خليفة التونسي - طبع الدار السعودية للنشر - ص 113
(84) سورة الشمس : 7 - 10 .
(85) سورة الحجرات : 13 .
(86) أخرجه مسلم وأبو داود .
(87) سورة البقرة : 31 .
(88) سورة العلق : 5 .
(89) سورة الرحمن : 3 - 4 .
(90) سورة البقرة : 251 .
(91) سورة الحج : 40 .
(92) انظر إن شئت فصل " مقتضيات لا إله إلا الله في الرسالة المحمدية " من كتاب " لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة " .
(93) سورة الأنعام : 162 - 163 .
(94) أخرجه الشيخان .
(95) Free Thinkers في المعاجم الإنجليزية ليس معناها " المفكر الحر " وإنما معناها " الملحد " !
(96) سورة إبراهيم : 24 - 25 .
(97) أخرجه الشيخان .
(98) سورة الروم : 30 .
(99) ذكرت جملة من هذه الأسباب في كتاب " واقعنا المعاصر " فصل " خط الانحراف " وفصل " آثار الانحراف " .
(100) سورة البقرة : 146 .
(101) سورة الصف : 8.(1/101)
(102) سورة التوبة : 32.
(103) سورة البقرة : 120.
(104) سورة البقرة : 217.
(105) سورة المجادلة : 14.
(106) راجع تقرير لورد كامبل في منشورات الجامعة العربية بالقاهرة .
(107) تحدثت عن هذا الأمر بشيء من التفصيل في كتاب " واقعنا المعاصر " ص 215- ص 263 .
(108) ومنها الكتب المنزلة إليكم .
(109) سورة الشورى : 15.
(110) سورة التوبة : 32.
(111) سورة الأنعام : 112.
(112) أرجو أن يوفقني الله إلى كتابة بحث بعنوان " كيف ندعو الناس ".
(113) سورة المنافقون : 1 .
(114) سورة النساء : 72 - 73 .
(115) سورة التوبة : 38 .
(116) سورة النساء : 77 .
(117) سورة النساء : 83 .
(118) سورة آل عمران : 110 .
(119) سورة البقرة : 143 .
(120) سورة آل عمران : 139 - 142 .
(121) سورة آل عمران : 120.
(122) سورة الأنعام : 44- 45 .
(123) سورة الإسراء : 7.
(124) سورة الإسراء : 104
(125) أخرجه مسلم .
(126) سورة يوسف : 21.
??
??
??
??
- 17-(1/102)