بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله، يثبت عباده بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء، والصلاة والسلام على النبي الأمين وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد..
فإن كل عاقل يدرك أن هناك نجاةً وهلاكًا، جنةً ونارًا، فكيف تكون النجاة دون الرجوع إلى الله وذكره وشكره والتفكر في آياته، وفي الاقتداء وعرض النفس على الكتاب والسنة والعضِّ عليهما بالنواجذ، والمحافظة على الصحبة الصالحة التي إذا رأتك على خير أيَّدتك، وإن رأتك على باطل أخذت على يديك ونصرتك على نفسك، قال تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف: 28]. وكف الأذى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحفظ الجوارح التي يكون بحفظها النجاة من عذاب النار، والفوز بالجنة والسعادة في الدنيا، كما يكون بإطلاق عنانها الهلاك كل الهلاك والويل والثبور، في الدنيا عيشةً ضنكًا وفي الآخرة نارًا تلظَّى، وإن من أهم هذه الجوارح العين واللسان.
فكم من رجل صالح مستقيم هلك بكلمة أوردته أسفل ما يكون من النار، قال - صلى الله عليه وسلم - : «من ضمن لي ما بين فكيه وما بين فخذيه ضمنت له الجنة»؛ لأن اللسان والفرج مناط كل شر إذا لم يصانا.
وأما العين فهي التي سلبت أفئدة الرجال والنساء؛ فالعين تزني قبل الفرج أحيانًا، وقد أمرنا بغض البصر لما يوقع في القلب،(1/1)
قال - صلى الله عليه وسلم - : «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس»، وإذا كان القلب خربًا غير محصن بذكر الله والعفاف فإن نظرة قد تُخرج من الملة! ويروى أن مؤذنًا رأى امرأة نصرانية جميلة فقطع الأذان وخطبها، وكان مهرها أن ارتد عن دينه وأصبح نصرانيًا.. فالله الله في حفظ الجوارح عما حرم الله، والبعد كل البعد عن الفتن والنظر المحرم والكلام البذيء؛ فإن هلاك العبد بين نظرة قاتلة للإيمان وكلمة مسخطة للرحمن.
أسأل الله أن يحفظ علينا جوارحنا، وأن يكون كتابي هذا طريقًا للنجاة من الهلاك لي ولإخواني المسلمين في كل مكان.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه/ محمد الفرحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
أيها الأحبة في الله.. إن اللسان هو أفضل ما في الإنسان إذا استخدمه فيما يرضي الله؛ فباللسان يسلم الكافر، ويذكر الخالق، ويتوب المذنب، وترفع الدرجات، وتطمئن القلوب.
وهو أخبث ما في الإنسان إذا استخدمه فيما يسخط الله ويغضبه؛ فهو يخرج من الملة، ويوقع في المعصية، ويوجب سخط الرب، وعذاب القبر، وكراهة الخلق.
ما من شيء أولى بحفظ من اللسان، فقد طلب أحد الصحابة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - النصيحة فقال له: «أمسك عليك هذا».
وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن المرء ليقول الكلمة من رضوان الله يرفع بها إلى عليين من الجنة، وإن العبد ليقول الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يخسف به إلى أسفل ما يكون من النار».
إن آفات اللسان كثيرة، ينبغي للعبد البعد عنها والحذر من الوقوع فيها، ولا سيما إذا علم أن كل كلمة يتلقظ بها يحاسب عليها يوم القيامة، قال تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18].(1/2)
وقال معاذ بن جبل - رضي الله عنه - : كنت رديفًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على دابة، فقلت: أوصني يا رسول الله، قال: «أمسك عليك هذا»، وأشار إلى لسانه، فقلت: أوَ نحن مؤاخذون بكل ما نقول؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم عدا حصائد ألسنتهم».
ولكي نحذر كل الحذر ونحافظ على ألسنتنا أورد بعض آفات اللسان:
1- السباب والشتم واللعان. 2- الاستهزاء.
3- الكذب. 4- القذف.
5- الغيبة والبهتان. 6- النميمة.
7- التقعر.
وقد وقع كثير من الناس اليوم في هذه الآفات، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، بل حتى من يظن بهم الخير من طلبة العلم؛ أصبحت مجالس انتقاص للناس وإخوانهم بدون مراعاة أو خوف من العظيم سبحانه.
من آفات اللسان
أولاً: السباب والشتم واللعان:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر».
وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: «المستبَّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان».
والمستبان أي: كل من سب صاحبه، ويتهاتران أي: يقبح كل منهما صاحبه.
قال - صلى الله عليه وسلم - : «أربى الربا شتم الأعراض»، أي: أعظمها إثمًا وأقبحها جرمًا.
وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: «ولعن المؤمن كقتله».
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إذا سبك رجل بما يعلم منك فلا تسبه بما تعلم منه، فيكون أجر ذلك لك ووباله عليه».
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، يلعن أبا الرجل فيلعن أباه، ويلعن أمه فيلعن أمه».
وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء».
وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: «إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة».
وأوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرموزًا الهيجمي قائلاً له: «أوصيك أن لا تكون لعانًا».
ثانيًا: الاستهزاء:(1/3)
قال الله تعالى: { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } [الحجرات: 11]، قال الشيخ الشنقيطي – رحمه الله – في («أضواء البيان» 7/417): «قوله: { لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ } ؛ أي لا يستخفوا ولا يستهزئوا بهم، والعرب تقول: سخر منه بكسر الخاء يسخر بفتح الخاء على القياس إذا استهزأ به واستخف، وقد نهى الله – جل وعلا – في هذه الآية الكريمة عن السخرية من الناس مبينًا أن المسخور منه قد يكون خيرًا من الساخر.(1/4)
ومن أقبح القبيح استخفاف الدنيء الأرذل بالأكرم الأفضل واستهزاؤه به، ومع ما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن السخرية جاء ذم فاعله وعقوبته عند الله في غير هذا الموضع كقوله تعالى: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة: 79]، وقد بين تعالى أن الكفار المترفين في الدنيا كانوا يسخرون من ضعاف المؤمنين في دار الدنيا، وأن أولئك يسخرون من الكفار يوم القيامة، كما قال تعالى: { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [البقرة: 212]، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المطففين: 29-36]، فلا ينبغي لمن رأى مسلمًا في حالة رثة تظهر عليه آثار الفقر والضعف أن يسخر منه لهذه الآيات التي ذكرنا.
ثالثًا: الكذب:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان».
وقال أيضًا: «... وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا».
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «تقبلوا لي بست أتقبل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب...».(1/5)
وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - : «إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب للإيمان» (1) .
وأقبح الكذب وأفحشه الكذب على الله والكذب على
رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } [الزمر: 32]، وقال سبحانه: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } [الأنعام: 21]، وقال – عزَّ وجلَّ -: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ } [الزمر: 60]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن الذي يكذب علي يبنى له بيت في النار».
أصدق حديثك، إن في الصدق
الخلاص من الدَّنس
ودعْ الكذوب لشأنه
خيرٌ من الكذب الخرس
رابعًا: القذف:
__________
(1) أخرجه وكيع في «الزهد».(1/6)
قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 4]، قال الشيخ السعدي – رحمه الله – في تفسيره: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } ؛ أي: النساء الحرائر العفيفات، وكذلك الرجال لا فرق بين الأمرين، والمراد بالرمي الرمي بالزنا بدليل السياق. { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا } على ما رموه به { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } ؛ أي: رجال عدول يشهدون بذلك صريحًا. { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } بسوط متوسط يؤلم فيه، ولا يبالغ بذلك حتى يتلفه؛ لأن القصد التأديب لا الإتلاف، وفي هذا تقرير حد القذف، ولكن بشرط أن يكون المقذوف كما قال تعالى محصنًا مؤمنًا، أما قذف غير المحصن فإنه يوجب التعزير، { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } ؛ أي: لهم عقوبة أخرى وهي أن شهادة القاذف غير مقبولة، ولو حدَّ على القذف حتى يتوب كما يأتي، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ؛ أي: الخارجون عن طاعة الله، الذين قد كثر شرهم؛ وذلك لانتهاك ما حرم الله، وانتهاك عرض أخيه، وتسليط الناس على الكلام بما تكلم به، وإزالة الأخوة التي عقدها الله بين أهل الإيمان، ومحبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهذا دليل على أن القذف من كبائر الذنوب».
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «اجتنبوا السبع الموبقات.. وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات».
وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: «من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال».
خامسًا: الغيبة والبهتان:(1/7)
قال تعالى: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } [الحجرات: 12]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سُئل عن الغيبة فقال: «ذكرك أخاك بما يكره»، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : «إن كان فيه ما تقول فقد أغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» (1) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبرين فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما ألآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة»، ثم دعا بعسيب رطب فشقه اثنين فغرس على هذا واحدًا وعلى هذا واحدًا، ثم قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : حسبك من صفية كذا وكذا – تعني قصيرة – قال - صلى الله عليه وسلم - : «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته».
وقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم»، ثم تلا قول الله تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } [الأحزاب: 58] (2) .
وقد روى البيهقي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الغيبة أشد من الزنا»، قيل: كيف؟، قل: «الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه، وصاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه»؛ أي: الذي وقع هو في عرضه واغتابه.
ولأحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ على قبر يُعذب صاحبه فقال: «إن هذا يأكل لحوم الناس».
__________
(1) رواه مسلم، وأبو داود.
(2) رواه أبو داود.(1/8)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافر من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته، ومن يتبع عورته يفضحه ولو في جوف رحله».
وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: ذكرت الغيبة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «الغيبة أن يذكر الرجل بما هو فيه من خلقه»، قالوا: يا رسول الله، ما كنا نرى الغيبة إلا أن يذكر الرجل بما ليس فيه من خلقه؟، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ذلكم البهتان».
سادسًا: النميمة:
وهي: نقل الكلام بين الناس بقصد الإفساد بينهم، والتحريش، وقطع الود، وتمزيق الأرحام، والنميمة الحالقة تحلق الدين، وهي محرمة بنص القرآن والسنة، قال تعالى: { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } [القلم: 11]، وقال - صلى الله عليه وسلم - : «وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة».
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا: فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم».
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «من نقل إليك نقل عنك؛ فاحذره».
فالحذر كل الحذر من ذلة لسان وخير ما يوجب حبسه لسان العبد، فإما خيرًا أو الصمت أولى.
وقال بعض الحكماء: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.
وانشغال العبد في الطاعة، والإصلاح بين الناس، والذكر، خير له من مثالب الناس.
وليعلم العبد أن الكمال لله، وأن له عيوبًا أولى به أن ينشغل في إصلاحها، خير له من الدنيا وما عليها، ورب كلمة قالت لصاحبها: دعني. والله المستعان.
سابعًا: التقعُّر:(1/9)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «هلك المتنطِّعون» قالها ثلاثًا.
قال النووي – رحمه الله – في («رياض الصالحين» ص551): «المتنطعون: المبالغون في الأمور»، وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسانكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون».
وقال الألباني – رحمه الله – في («حاشية رياض الصالحين» ص551): «الثرثار: كثير الكلام تكلفًا، والمتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه؛ تفاصحًا وتعظيمًا لكلامه، والمتفيهق: الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه، ويغرب به؛ تكبرًا وارتفاعًا، وإظهارًا للفضيلة على غيره».
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة».
* * *
المعاكسات: حسرات واعترافات
إن المولى – عزَّ وجلَّ – حبا هذه البلاد بنعم كثيرة، لا تعد ولا تحصى، وجعلها قبلة القاصدين، وأغدق عليها فضله العميم، وهي المعقل الوحيد المتبقى للمسلمين، فأهلُها أهلُ عقيدة نقية، وفيها الحرمان الشريفان؛ لذلك فهي محسودة من القريب قبل البعيد، ومن أهل الكفر والطغيان من الأديان السماوية، والعقائد الخرافية والضلالات؛ يرون أنها تطفئ أنوارهم وتذهب بهاءهم، لذا شنوا عليها حربًا شعواء لا هوادة فيها، ليست بالسلاح فقط، فالمسلمون إذًا تقوى شوكتهم، ويعودون إلى بارئهم، ويعلون بالقرآن والسنة، وبذلك يعلن الجهاد الذي به تكون العزة وتُدحر كل ملة إلا الملة الحنيفية.(1/10)
لذلك خططوا الخطط، ورسموا طريقًا طويلاً، فهم يعلمون أنهم لا يدخلون من الأبواب (كبار السن وطلبة العلم)، لذلك رأوا أن في الأجيال اليافعة بغيتهم، لذلك بدأوا بهجمة شرسة عبر وسائل كثيرة منها: الأطباق والأقمار الصناعية، والأفلام الهابطة، والإنترنت، والغناء، والمجلات والصور العارية، والخمور، والمخدرات، والأسفار، والموضة، والقصات، والملابس العارية.
وإن هناك منظمات لجلب كل ما من شأنه أن يضيع الهوية، ويميع الأخلاق، فها هم شبابنا فتيان وفتيات، بدأوا الخروج على المألوف ألوانًا وأشكالاً لم نكن نعرفها، فقد غُزينا في قعر دارنا، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن تأثير هذه الهجمة الشرسة لم يقتصر على صغار السن والمراهقين والشباب، بل تعداهم إلى الشُّيَّب وكبار السن ممن قلَّ دينهم وحياؤهم، فأمنوا مكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الظالمون.
كبار السن لهم سفرات مشبوهة، وديون فاضحة، وتخل عن المسئولية، وتضييع للأمانة، وإهدار للثروات والطاقات، وزهد الرجال في نسائهم والنساء في رجالهن، حينما ينظر كل منهم إلى من هو أجمل من صاحبه.
معاكسات في الأسواق، وجرائم أخلاقية؛ فهناك من يقع حتى على محارمه أثناء هيجانه وثورة شهوته، وهناك من يعتدي حتى على الأطفال القاصرين، لا يفرق بين طفلة أو طفل صغير.
حكم المعاكسات الهاتفية:
لا يشك عاقل في تحريم المعاكسات الهاتفية، وشدة خطورتها على الفرد والأسرة والمجتمع؛ فهي بريد الزنا ووسيلة من وسائل الشيطان للوقوع في الفاحشة، قال الشيخ بكر أبو زيد: «كنت أظن المعاكسات مرضًا تخطَّاه الزمن، وإذا بالشكوى تتوالى من فعلات السفهاء في تتبع محارم المسلمين في عقر دورهم فيستجبرونهن بالمكالمة والمعاكسة السافلة.(1/11)
ومن السفلة من يتصل على البيوت؛ مستغلاً غيبة الراعي، ليتخذها فرصة علَّه يجد من يستدرجها إلى سفالته، وهذا نوعٌ من الخلوة أو سبيل إليها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم: «إياكم والدخول على النساء»؛ أي: الأجنبيات عنكم، فهذا وأيمُ الله حرام حرام، وإثم وجناح، وفاعله حريٌّ بالعقوبة، فيُخشى عليه أن تنزل به عقوبة تلوِّث وجه كرامته، ومما ينسب للإمام الشافعي – رحمه الله تعالى -:
إن الزنا دين فإنْ أقرضته
كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
نعوذ بالله من العار ومن خزي أهل النار» (1) .
فتوى: سئل الشيخ ابن جبرين السؤال التالي:
ما الحكم فيما لو قام شاب غير متزوج وتكلم مع شابه غير متزوجة في الهاتف؟
فأجاب: لا يجوز التكلم مع المرأة الأجنبية بما يثير الشهوة، كمغازلة وتغنج، وخضوع في القول، سواء أكان في الهاتف أو في غيره؛ لقوله تعالى: { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [الأحزاب: 32].
فأما الكلام العارض لحاجة فلا بأس به؛ إذا سلم من المفسدة، ولكن بقدر الضرورة (2) .
أين مراقبة الله؟
أيها المعاكس: أما سمعت قول الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18].
أما علمت أن كل قول تتكلم به محسوب عليك، مكتوب في صحيفتك؟
أما تعلم أن الله مطلع عليك، عالم بأسرارك، قادر على عقوبتك؟
إذا كنت تعلم ذلك فأين مراقبتك لله، وقد جعلته أهون الناظرين إليك؟
يا مدمن الذنب أما تستحي
والله في الخلوة ثانيكا
غرَّك من ربك إمهاله
وستره طول مساويكا
أما تستحي أيها المعاكس وأنت أيتها المعاكسة من رب السماوات والأرض، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء!! لعلك تقول: إنه لا يراني أحد!! كلا.
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل
خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما تخفي عليه يغيب
__________
(1) «أدب الهاتف».
(2) «فتاوى المرأة».(1/12)
ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب
وأن غدًا لناظره قريب
قال تعالى: { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف: 47-49]، يا له من يوم عظيم: { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ } [الطارق: 9، 10]، { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم: 48].
كيف يكون حالك أيها المعاكس في هذا اليوم العظيم؟
كيف يكون حالك حينما يُنادى عليك بأخبث الأسماء: فلان ابن فلان الزاني، الفاجر، المعاكس؟
ليس ذلك أمام فرد أو اثنين أو جماعة، بل أمام الخلائق أجمعين!!
هل تساوي هذه الشهوة التي لا تتجاوز سويعات العذاب الأليم الدائم غير المنقطع في نار جهنم؟
أين عقلك؟ أين فكرك؟ أين بصيرتك؟!
أقسام المعاكسين:
يمكن تقسيم هؤلاء المعاكسين إلى قسمين:
الأول – محترف: وهو الذي اعتاد المعاكسات، وأدمنها حتى صارت جزءًا من شخصيته لا يستطيع الفكاك منها، وهذا أخطر القسمين؛ لأنه لا يكتفي بالمعاكسات عبر الهاتف، ولا يهدأ له بال إلا بهتك عرض ضحيته، فإذا نال منها مراده؛ استراحت نفسه الخبيثة، وهدأ باله القذر، وأخذ في البحث عن ضحية جديدة، ينسج عليها شباك دناءته ووقاحته.(1/13)
وهذا المحترف يعدُّ نفسه وزملاءه فاشلاً إذا لم يصل إلى تلك النهاية المبكية، أما تلك الضحية فإنه يتنكر لها، وينفر منها فلا يرد على هاتفها، بل ربما سبَّها ورماها بكل فاحشة.
الثاني - هاوٍ (مبتدئ) وهو (من الجنسين) الذي يمارس المعاكسات الهاتفية في بعض الأحيان ولا يدمنها، بل يجد فيها متعة مؤقتة، ومجالاً للتسلية، وتضييع الأوقات.
وهذا الصنف على خطر عظيم؛ لأنه ربما وقع الشاب في شباك امرأة محترفة، لن تقنع منه إلا بارتكاب الفاحشة، وكذلك الفتاة ربما وقعت في شباك فتى محترف، قادها بمعسول قوله وخبث منطقه إلى الهاوية والضياع.
كوني حاسمة
لم تكن حاسمة في الرد على هذا الذئب المعاكس، فمع تكرار الاتصالات عليها أبدت التجاوب معه.. وكثرت المكالمات بينهما.. وتطور إلى أن طلب مقابلتها.. وبعد إلحاح منه وافقت بشرط ألا تزيد المقابلة على خمس دقائق فقط، ويكون ذلك داخل السيارة... تقابلا بالفعل.. وتركها الذئب أول مرة.. فأحسَّت من جانبه بالأمان.. فتكرر اللقاء بينهما.. وصارت تخرج معه وتركب بجانبه في السيارة.. فكان إذا أنزلها والدها أو السائق إلى الجامعة.. انتظرت ولم تدخل.. فيأتي هذا الذئب وتذهب معه، ثم تعود إلى الجامعة قبل موعد الخروج.. ثم تذهب إلى بيتها. وفي يوم من الأيام أدخلها بيتًا زعم أنه بيت أخته التي تعمل في الصباح، ثم خدعها بإعطائها حبة مخدرة فلم تفق تلك الفتاة إلا وقد سلبها هذا المجرم أغلى ما تملك، وتظل بعد ذلك ألعوبة في يده، وتتكرر المأساة مرات ومرات طمعًا في أن يعطف عليها ويتزوجها.. ولكن هيهات هيهات.. فقد انقطعت عنها أخباره ولم تعد تستطيع لقاءه.. فعرفت – بعد ذلك – أنها خُدعت.. ولكن دون فائدة.. فقد وقعت الكارثة.
أقسام المعاكسات:
يمكن تقسيم المعاكسات الهاتفية إلى قسمين:
الأول – معاكسات مرتبة: وهي التي قصدت بالاتصال، ولها أشكال متعددة، وصور مختلفة سوف نذكرها في هذا الكتاب إن شاء الله.(1/14)
الثاني – معاكسات غير مرتبة: وهي التي لم تقصد بالاتصال؛ بل إن المعاكسة تحدث أثناء المكالمة الطبيعية نتيجة للتساهل بين المتحدثين.
مثال ذلك: أن يتصل شاب بصاحب له، فتردُّ عليه إحدى الفتيات مخبرة إياه أنه غير موجود، فيأخذ في إطالة المكالمة، وطرح الأسئلة التي لا داعي لها، مع تجاوب من تلك الفتاة فيسألها: أين ذهب؟ وهل سيرجع قريبًا؟ ولماذا ذهب في هذا الجو الحار؟ وغير ذلك من الكلام.. فيجد لينًا في القول.. وتساهلاً واضحًا في الحديث.. إشعارًا له بالرغبة في إطالة زمن المكالمة.. فيحضر الشيطان ويكون ثالثهما.. وتبدأ العلاقة المحرمة.
نصيحة للرجل:
يقول الشيخ محمد الصباغ: «إذا كلمتك امرأةٌ فليكن حديثك معها ملتزمًا بآداب الإسلام: فلا تمزح، ولا تثرثر، بل قل ما تريد قوله بإيجاز وموضوعية».
همسة للمرأة:
«وكذلك فإن على المرأة إذا كلمها الرجل أن ترد برزانة ووقار، وألا تجمِّل صوتها عن ردِّها؛ لأنها بذلك تعرِّض نفسها إلى الخطر والريبة، وتقع في الإثم، وتكون سببًا في فتنة من تُكلِّم، وفي تهويش باله، وإثارة كوامن الرغبات في نفسه، وهذا عام في كل رجل وامرأة، ولكنه وارد بنسبة أعلى إذا كان أحد المتحدثين أو كلاهما من المراهقين».
ضعي السماعة فورًا:
«إن على المرأة الكريمة إذا سمعت أسلوبًا غير مناسب في الحديث ألا تجاري المتحدث، بل تسكت وتضع السماعة.. هذا أضعف التصرفات، ولو أنها وبَّخته، وأقفلت الهاتف في وجهه لكان أحسن؛ لأنها في مسايرتها ومجاملتها تطمع الذي في قلبه مرض، وكم من الخزايا والنكبات جرت من وراء التهاون في مثل هذه الأمور» (1) .
وصية نبوية:
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» (2) .
جاهد نفسك أيها المعاكس! جاهد نفسك على ترك المعاكسات الهاتفية.
__________
(1) «توجيهات قرآنية في تربية الأمة».
(2) متفق عليه.(1/15)
تجنب الخبيث من الكلام، والهجين من الألفاظ؛ لأن المؤمن لا يكون فاحشًا ولا بذيئًا.
إذا غلبتك نفسك على معاكسة فتيات المسلمين ونسائهم، فتذكر أن لك أخوات ومحارم، فاحفظ الله في محارم المسلمين يحفظك في محارمك.
واعلم أن الله حيي ستِّير يحب الحياء والستر، فاستحي من الله، واستر على نفسك وعلى من تعرف من النساء، ستر الله علينا وعليك.
أساليب المعاكسين:
المعاكس ذئب، والذئب يتميز بالحيلة والدهاء في إيقاع فريسته، ولذلك تتنوع أساليب المعاكسين وحيلهم، حتى إذا ما فشل أحد تلك الأساليب كان هناك بديل عنه، يمكن أن يؤدي إلى حصول المقصود، ومن تلك الأساليب:
1- الاتصال العشوائي وله أساليب:
الأول- يظهر المعاكس عند أول وهلة أنه اتصل للمعاكسة والحديث مع إحدى الفتيات التي لا يعرفها، وغالبًا ما يوبَّخ المعاكس على هذا الأسلوب.
الثاني- يتصل المعاكس عشوائيًا ويسأل عن أحد الأشخاص، فيجاب بأن الرقم خطأ، فيقوم بالاعتذار بأسلوب مهذب وصوت رخيم، ثم يتصل مرة أخرى، فإذا لم يجد حسمًا في الرد، ووجد ليونة، وراحة، من الجانب الآخر تجرأ على إظهار معاكسته.
الثالث- الاتصال العشوائي، ويدعي المتصل أنكم اتصلتم على جهاز النداء الآلي لديه (البيجر) فإذا لم يجد حسمًا في الرد تجرأ في إظهار معاكسته.
2- تردُّد المعاكس على الأسواق والبحث عن الفتاة المناسبة للمعاكسات الهاتفية، وهذه الفتاة غالبًا ما تكون غير محتشمة في ملابسها، تظهر وجهها أو بعضًا منه، ترتدي البنطلون تحت العباءة المزركشة، والحذاء ذا الكعب العالي، تكثر التلفت والنظر إلى الرجال، تتعمد الضحك بصوت مرتفع، يظهر من هيئتها عدم الالتزام والاستعداد لارتكاب المخالفات الشرعية.
فإذا وجد المعاكس هذه الفتاة قام بإلقاء رقم هاتفه لها، فإما أن تتركه وإما أن تلتقطه.. فتبدأ رحلة الضياع.
مأساة في السوق:(1/16)
التقت به في السوق.. كان يلاحقها بنظراته ويتبعها من محل إلى محل.. كانت متزينة متعطرة.. كاشفة ما حرم الله كشفه، تمشي بتمايل واختيال، بخبرته الشيطانية عرف أنها ما يبحث عنه.. ألقى إليها رقم هاتفه.. لم تتردد في التقاطه، اتصلت به؛ وعرف منزلها، واسمها؛ وأشياء عن حياتها.. توالت الاتصالات حتى أمنت جانبه.. كان يحدثها عن الحب والشوق والغرام.. صدقته.. طلب الخروج معها.. توالت اللقاءات.. وكانت المأساة.
3- استخدام بعض النساء اللاتي لا دين لهن في توصيل رقم هاتف المعاكس إلى من تريد.
4- استئجار بعض العاملين في المحلات التجارية مثل محلات الخياطة والتموينات، التي تتردد عليها النساء دون محرم وغيرها، فيقوم المعاكس بإعطاء بعض هؤلاء العاملين رقم هاتفه، وهم بدورهم يتصيدون الفتاة التي يرون منها ميوعة ولينًا وتساهلاً في الحديث واللباس، ثم يقومون بإعطائها هذا الرقم لتتم المعاكسة.
5- وقد يستغل المعاكس سذاجة الأطفال الذين يقومون بالردِّ على الهاتف، فيعرف منهم كثيرًا من الأمور عن المنزل، وعدد الغرف، وأشكال أثاث البيت، وبخاصة غرفة النوم، وبعض المعلومات عن الأم والأب، ثم يقومون باستغلال هذه المعلومات؛ في الضغط على فريستهم ومحاولة إيقاعها في شباكهم.
وقد يستغل بعض المعاكسين أصدقاءهم المغفلين في معرفة بعض المعلومات عن البيت والزوجة وبعض الأسرار الزوجية.
صديقه يهدم بيتي:(1/17)
نشرت صحيفة المدينة قصة امرأة متزوجة تقول فيها: للأسف الشديد، تسلط على هاتفنا الخاص شاب يتصف بالنذالة والخسة؛ بسبب الأسلوب الذي اتبعه لتطليقي من زوجي، فكان دائمًا ما يتعمد الاتصال وقت قدوم زوجي إلى المنزل، وبمجرد رفع زوجي للسماعة يغلق الخط فورًا، مما أثار الشك في نفسه.. وتحولت حياتنا بسبب تكرار ذلك إلى نفورٍ ثم قطيعة.. ويستشير زوجي أحد أصدقائه المخلصين في شأني فيقول له: لقد سمعنا كثيرًا عن علاقات زوجتك ببعض شباب الحي، ولكننا لم نخبرك بذلك.. فعند ذلك قرر زوجي الكشف عن رقم الشخص المتصل، وذلك عن طريق الاشتراك في خدمة كاشف الرقم.. ويفاجأ زوجي برقم صديقه المخلص.. ويتضح له أن صديقه هذا هو الذي يعتدي على حرمات بيته، ويحاول تطليقي وهدم بيتي (1) .
7- وقد تلعب الخادمة أو السائق دورًا مهمًا في تسهيل أمور المعاكسات، وتسريب المعلومات، وأرقام هاتف المنزل الذي يعملان فيه.
8- والمعاكس المحترف يستخدم الهواتف العامة، أو هواتف أناس آخرين أبرياء لا يعرفون أنه يستخدم هواتفهم في المعاكسات؛ وذلك حتى لا يُكشف أمره.
9- وهناك من يتخذ هواية المراسلة التي تنشرها بعض الصحف والمجلات سُلَّمًا لتكوين علاقة محرمة عن طريق الهاتف.
لحظة من فضلك أيها المعاكس! لماذا خُلقت؟
وما هو هدفك في الحياة؟ وما نهايتك بعد الموت؟
إنك لم تُخلق للمعاكسات الهاتفية أو غير الهاتفية، ولم تُخلق للهو واللعب، بل خُلقت لأمر عظيم؛ وهو عبادة الله تعالى وإقامة دينه، كما قال سبحانه: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56].
فينبغي أن يكون هدفك في الحياة موافقًا لما خلقت له، وهو الفوز برضا الله تعالى، والنعيم المقيم في جنة الخلد، والنجاة من النار.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
__________
(1) صحيفة المدينة (العدد: 13182) بتصرف.(1/18)
قال الحسن: ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي حتى أنظر أعلى طاعة أم على معصية؛ فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كان معصية تأخرت.
أسباب المعاكسات الهاتفية:
أسباب المعاكسات الهاتفية كثيرة جدًا، ومعظمها هي نفس الأسباب المتعلقة بفتنة الشهوات، بدءًا من النظر المحرم ومرورًا بالعادة السرية والعشق، وانتهاءً بالفجور والزنا.. ومن هذه الأسباب:
1- ضعف الإيمان: فالإيمان عند أهل الحق: قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، فالمعاصي تضعف الإيمان، وقد تُذهبه بالكلية: إما على الحقيقة، وإما على المجاز، كما قال
النبي - صلى الله عليه وسلم - : «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (2) .
فالمعاكسات الهاتفية دليلٌ على ضعف الإيمان، وخفة التدين، والاستهانة بالضوابط الشرعية.
2- ضعف العقل: فالعاقل لا يسعى في هلاك نفسه وجلب الأضرار لها في العاجل والآجل، أما المعاكس فإنه يعرِّض نفسه للفضائح والعقوبات الدنيوية، وكذلك يعرِّض نفسه لغضب الله وسخطه واستحقاق عقابه في الآخرة.
3- الغفلة واتباع الهوى: ومنهما يتولد كل شر، قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: «ومن تأمل حال هذا الخلق وجدهم كلهم إلا أقل القليل ممن غفلت قلوبهم عن ذكر الله تعالى، واتبعوا أهواءهم، وصارت أمورهم ومصالحهم فرطًا؛ أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود بصلاحهم، واشتغلوا بما لا ينفعهم، بل يعود بضررهم عاجلاً وآجلاً.. والغفلة عن الله والدار الآخرة متى تزوجت باتباع الهوى تولد من بينهما كل شر، وكثيرًا ما يقترن أحدهما بالآخر ولا يفارقه» (3) .
__________
(1) رواه أحمد، والترمذي، وصححه الألباني.
(2) متفق عليه.
(3) رسالة من ابن القيم إلى أحد إخوانه.(1/19)
4- الفراغ: وهو داءٌ قتال للفكر، والعقل، والطاقات الجسمية والإبداعية، ومع أن الواجبات أكثر من الأوقات، فإن كثيرًا من الناس لا يجدون ما يملؤون به فراغهم سوى اللهو والكلام الباطل، والاشتغال بالمعاكسات الهاتفية وغيرها، ولو تدبروا الأمر لعلموا أنهم يضيعون أعمارهم هباءًا منثورًا، والواجب على هؤلاء أن يسعوا في تحصيل ما يناسبهم من أعمال مفيدة من قراءة أو كتابة أو تجارة أو غيرها، مما يحول بينهم وبين هذا الفراغ المدمر، قال الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدةٌ للمرء أي مفسدة
5- فساد القلب: وفساد القلب من ثمرات تضييع الأوقات.. قال الإمام ابن القيم: «وكل آفة تدخل على العبد فسببها ضياع الوقت وفساد القلب، وتعود بضياع حظه من الله، ونقصان درجته ومنزلته عنده، ولهذا وصى بعض الشيوخ فقال: احذروا مخالطة من تُضيع مخالطته الوقتَ وتفسدُ القلب؛ فإنه متى ضاع الوقت وفسد القلب انفرط على العبد أموره كلها» (1) .
6- صحبة الأشرار: فإنها تغري الإنسان بكل معصية، وتهوِّن عليه ارتكاب الفواحش والمنكرات ومن ذلك المعاكسات الهاتفية، وعلاج ذلك أن يختار المرء لصحبته أهل الدين والصلاح والعقل؛ عملاً بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي» (2) .
وقال المباركفوري في «تحفة الأحوذي» (7/76): «ولا يأكل طعامك إلا تقي»؛ أي: متورع يصرف قوة الطعام إلى عبادة الله، ثم قال: وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي، وزجر مخالطته ومؤاكلته؛ لأن المطاعم تُوقع الألفة والمودة في القلوب».
وصدق الشاعر حين قال:
وخير جليس المرء كتبٌ تفيده
علومًا وآدابًا وعقلاً مؤيد
وخالط إذا خالطت كل موفق
من العلماء أهل التقى والتسدد
يفيدك من علم وينهاك عن هوى
فصاحبه تهدي من هداه وترشد
وإياك والهماز إن قمت والبذى
فإن المرء بالمرء يقتدي
__________
(1) رسالة من ابن القيم إلى أحد إخوانه.
(2) رواه الترمذي، وحسنه الألباني.(1/20)
ولا تصاحب الحمقى فذو الجهل إن يرم
صلاحًا لشيء يا أخا الحزم يفسد
وخير مقام قمت فيه وخصلة
تحليتها ذكر الإله بمسجد
وصدق الآخر القائل:
نعم الصحاب والجليس كتاب
تلهو به إن خانك الأصحاب
وصدق الآخر وأحسن عندما قال:
ما تطعمت لذة العيش حتى
صرت في البيت للكتاب جليسا
إنما الذل في مخالطة الناس
فدعهم تعش عزيزًا رئيسا
وأحسن من ذلك كله قول الرسول الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - : «مثل الجليس الصالح، والجليس السور؛ كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك؛ إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيث» (1) .
7- قراءة الكتب والمجلات المنحرفة: التي تظهر العلاقات المحرمة بين الرجل والمرأة على أنها أمر طبيعي، بل إنها تدعو إلى التحرر الكامل من القيود التي ترفض هذه العلاقات، أي: التحرر من الدين!!
8- وسائل الإعلام: وبخاصة تلك القنوات الفضائية التي حسَّنت كل قبيح، وأماتت الغيرة في النفوس، ووأدت الحياء والعفاف في كثير من البيوت، فهذه القنوات تهدم القيم والأخلاق، وتنشر المنكرات والرذيلة، وتُحسِّن في عيون الشباب والفتيات إقامة العلاقات المحرمة ومنها: المعاكسات الهاتفية.
9- التبرج والاختلاط: فالتبرج آفة العصر التي هدمت كثيرًا من المجتمعات والحضارات، والاختلاط سبب كل شر وبلاء.
قال الإمام ابن القيم: «ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة.
واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام المتصلة.. فمن أعظم أسباب الموت العام: كثرة الزنا؛ بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال بينهم متبرجات متجملات» (2) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) «الطرق الحكمية».(1/21)
10- طول الأمل: والتسويف بالتوبة، ونسيان أن الموت يأتي بغتة.
تؤمل في الدنيا كثيرًا ولا تدري
إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
قال الإمام ابن الجوزي: «يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدًا، ولا يغتر بالشباب والصحة؛ فإن أقل من يموت من الأشياخ، وأكثر من يموت من الشباب، وقد أنشدوا:
يعمر واحد فيغر قومًا
وينسى من يموت من الشباب
عاقبة التسويف:
أيها المعاكس، إياك والتسويف بالتوبة؛ فإن المرء لا يدري متى يأتيه الأجل، وقد يكون الموت أسبق إليه من التوبة، فتندم ندمًا لا سرور بعده. قال الحسن – رحمه الله -: «إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة.. يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب... لو أحسن الظن لأحسن العمل».
أيها المبارك:
خذ من شبابك قبل الموت والهرم
وبادر التوب قبل الفوت والندم
واعلم أنك مجزي ومرتهن
وراقب الله واحذر ذلة القدم
11- الاتكال على العفو والمغرفة وسعة رحمة رب العالمين: وهذا مما يُجرِّئ كثيرًا من الناس على ارتكاب المخالفات ومنها المعاكسات الهاتفية، والواجب على هؤلاء أن يكونوا بين الرجاء والخوف، يحسنوا العمل، ويخافوا ألا يتقبل منهم، فالله تعالى يغار على محارمه، وهو سبحانه شديد العقاب، ذو بطش شديد، وأخذ أليم، كما قال تعالى: { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [البروج: 12]، وقال: { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود: 102]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» (1) .
12- عدم تدبر العواقب والجهل بعقوبات الذنوب والمعاصي: فإن المرء إذا تدبر عواقب المعاكسات الهاتفية من إفساد بنات المسلمين ونسائهم، وشبابهم، وهدم البيوت، وتشريد الأطفال، ووقوع الخيانات الزوجية، وكذلك استحقاق العذاب الأليم يوم القيامة، فإذا تدبر العاقل هذه العواقب الوخيمة قاده ذلك إلى ترك هذه العادة الذميمة.
__________
(1) متفق عليه.(1/22)
13- الشهوة المتأججة: فإن من لم يضبط شهوته قادته إلى ما فيه هلاكه، وحسَّنت له كل قبيح، وفتحت له أبواب الشرور والمخالفات، قال تعالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [مريم: 59].
14- إطلاق البصر: من الرجال للنساء، ومن النساء للرجال، من أعظم أسباب المعاكسات الهاتفية، فالنظر بريد الزنا والعياذ بالله، تكون نظرة، ثم خطوة، ثم خطوة، ثم خطيئة.
قال الإمام ابن القيم: «والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإن النظرةَ تولد الخطرة، ثم تولد الخطرةُ فكرة، ثم تولد الفكرةُ شهوة، ثم تولد الشهوةُ إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع مانع، ولهذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده».
كل الحوادث مبدؤها من النظر
ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها
فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها
في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته
لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر
15- كثرة اختلاط الشباب والفتيات في الأماكن العامة كالأسواق والحدائق: فإن ذلك يؤدي إلى المعاكسات بجميع أشكالها، ويزداد الأمر سوءًا إذا كانت الفتيات دون محارم أمام العابثين الفارغين من الشباب، بل إن بعض الفتيات تقوم بإغراء الشباب على المعاكسة.
16- وجود رقم خاص للشاب أو الفتاة في الغرفة؛ فإن ذلك يغري الشاب أو الفتاة بالمعاكسات، كما أنه يجرئهما على إعطاء هذا الرقم لمن يريدا، ويكون هناك اتفاق في الغالب على موعد الاتصال بعيدًا عن أعين الأهل، وفي هذه الحالة تكون المعاكسة فاحشة جدًا!!(1/23)
17- انتشار العزوبية والعنوسة بين الشباب والفتيات بسبب وجود معوقات الزواج من كثرة تكاليف الزواج، والعادات الموروثة التي حرمت كثيرًا من أبناء المسلمين الزواج الشرعي الحلال، فإذا اجتمعت العزوبية والعنوسة مع ضعف الوازع الديني تولَّد من ذلك شرور كثيرة منها المعاكسات الهاتفية.
18- وجود أكثر من جهاز هاتف في المنزل الواحد، وعدم رقابة الأهل لذلك، وأحيانًا تتم المعاكسة أمام الأهل، فتتحدث البنت إلى الشاب بالتأنيث وكأنها تحادث صديقتها، مع أن الأب اللبيب والأخ الفطن يمكن أن يدركا الحقيقة؛ إلا أن التسيب وعدم الغيرة قد غلب على كثير من النفوس.
19- الثقة الزائدة في البنت أو الشاب: مما يغريهما بالإقدام على الأفعال القبيحة مع الاطمئنان التام من جانب الأهل، ونحن لا ندعو إلى ترك الثقة في الأبناء، ولكن لا ينبغي أن يترك الأهل رقابة أبنائهم وتوجيههم المستمر بدعوى الوثوق فيهم؛ فإن ذلك يؤدي بهم إلى النسيب والانحراف.
20- الزواج غير المتكافئ: فقد يُزوج الرجلُ ابنته من فاسق ليس لديه مروءة ولا غيرة، مع كثرة علاقاته المريبة واتصالاته المشبوهة، فلا تلبث الزوجة أن تكتشف هذا الأمر مع زوجها، فإما أن يعصمها دينها وخلقها من الانحراف، وإما أن تسير على نفس منهج زوجها، وتبحث هي الأخرى عن مثل تلك العلاقات والاتصالات المشبوهة.
21- كثرة الخلافات العائلية: داخل المنزل والمعاملة السيئة للبنت أو الشاب؛ فإن ذلك يؤدي إلى البحث عن شخص خارج البيت تبث إليه البنت همومها، ويبث إليه الشاب شجونه، وقد يكون هذا الشخص من محترفي الإجرام فتضيع البنت ويضيع الشاب.
22- المراسلة هي إحدى أبواب المعاكسات الهاتفية والعلاقة المحرمة بين الرجل والمرأة: سئل الشيخ ابن جبرين: إذا كان الرجل يقوم بالمراسلة مع المرأة الأجنبية، وأصبحا متحابين، فهل يعتبر هذا العمل حرامًا؟(1/24)
فأجاب – حفظه الله -: «لا يجوز هذا العمل؛ فإنه يثير الشهوة بين الاثنين، ويدفع الغريزة إلى التماس اللقاء والاتصال، وكثيرًا ما تحدث تلك المغازلة والمراسلة فتنًا، وتغرس حب الزنى في القلب، مما يوقع في الفواحش أو يسببها، فننصح من أراد مصلحة نفسه وحمايتها، أن يصونها عن المراسلة والمكالمة ونحوهما؛ حفظًا للدين والعرض، والله الموفق» (1) .
آثار المعاكسات:
نظرًا لتعدد أسباب المعاكسات الهاتفية، وأساليب المعاكسين، واختلاف نمط المعاكسة ذاتها، فإن آثار المعاكسات الهاتفية تتنوع وتعم أضرارها الفرد والأسرة والمجتمع بأسره، ومن تلك الآثار:
1- انحراف كثير من الفتيات والشباب والرجال والنساء.
2- انتشار الخيانات الزوجية بأنواعها وأشكالها.
3- الوقوع في جريمة إيذاء المسلمين، وخيانتهم، وظلمهم في أعراضهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف داره» (2) .
4- إفساد الزوجة على زوجها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس منا من خبب امرأة على زوجها – أي أفسدها عليه – أو عبدًا على سيده» (3) .
5- كثرة الطلاق، وتشتت الأسر، وتضييع الأبناء؛ فالزوج إذا اكتشف عبث زوجته وخيانتها له عن طريق الهاتف قام بتطليقها، والزوجة كذلك إذا اكتشفت خيانة زوجها لم تستطع العيش معه، فالطلاق حاصل غالبًا، وقد يتزوج الأب، وتتزوج الأم، ويكون الأبناء هم الضحية.
صديقتها سبب الطلاق:
__________
(1) «فتاوى المرأة المسلمة».
(2) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
(3) رواه أبو داود، والحاكم، وصححه الألباني.(1/25)
نشرت صحيفة المدينة القصة التالية: طالبة بجامعة الملك عبد العزيز بجدة تقول: إحدى صديقاتي كانت دائمة السؤال عن زوجي خصوصًا عند مشاهدتها لصوره، فأجبت لها عن كل استفساراتها، وأعطيتها صورة متكاملة عن أسرارنا الشخصية – وهذا من أكبر الأخطاء – فاستغلت كل ذلك بحنكة ودهاء لتتصل في الأوقات التي أكون فيها نائمة، أو متواجدة عند أهلي، ولاحظت أكثر من مرة تكرار الاتصالات الهاتفية في الليل، مع العلم أن زوجي لا يحب السهر، وعند استفساري عن المتصل يتغير لون وجهه ويقول: ما أدري.. فدق ناقوس الخطر عندي، وقررت أن أراقبه بالمنزل، وأعرف من الذي يتصل به في هذا الوقت.. وفي إحدى الليالي وضعت هاتفًا آخر في غرفة نومي، متصلاً بجهاز تسجيل لأسمع كل ما يدور.. نعم إنها زميلتي التي أحبها، وأكن لها كل الاحترام والتقدير.. وقد اتفقا أخيرًا على الارتباط واعدًا أنه سيطلقني في أقرب فرصة.. وبعد العشاء اللذيذة أهديته مفاجأة لن ينساها طول عمره.. شريطًا خاصًا عن مكالمته.. ليعلن بعدها اعتذاره وأسفه، ولكنِّي فضلت أن أنفصل عنه؛ لخيانته وتآمره عليَّ» (1) .
6- تضييع الأوقات فيما يضر، وفيما يجب على المرء خسارته في الدنيا والآخرة، والوقت هو عمر الإنسان، وجوهرة لا تقدر بثمن.
قال أحد السلف: يا ابن آدم، إنما أنت أيام كلما مضى يوم مضى بعضك.
وقال آخر: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما.
وقال أبو العباس الدينوري: ليس في الدنيا أعز وألطف من الوقت والقلب، وأنت مضيع لهما.
وقال أبو يزيد: إن الليل والنهار رأس مال المؤمنين، ربحهما الجنة، وخسرانهما النار. وقد أنشدوا:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها
وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا
فإنما الربح والخسران في العمل
شرف الزمان:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» (2) .
__________
(1) «المدينة» العدد (13152).
(2) رواه البخاري.(1/26)
قال الإمام ابن الجوزي: «واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة، ففي الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة»، فكم يضيع الآدمي من ساعات، يفوته فيها الثواب الجزيل.
وهذه الأيام مثل الزرعة، فكأنه قيل للإنسان كلما بذر حبة، أجرنا لك ألف كر – والكر: مكيال يقدر بأربعين أردبًا – فهل يجوز للعاقل أن يتوقف في البذر ويتوانى؟» (1) .
7- استحقاق العقوبة في الدنيا والآخرة، فكثيرًا ما يكشف الله أستار المعاكسين والمعاكسات، ويفضحهم بين أهليهم وعلى رءوس الأشهاد، وتتنوع عقوباتهم في الدنيا ما بين جلد وحبس وتشهير، ناهيك عن الاحتقار والازدراء الملازم لهم، أما في الآخرة فالخزي، والحسرة، والندامة، والعذاب الأليم كل بحسب جرمه وجريرته.
8- الابتلاء بالشكوك والوساوس وعدم الاستقرار، فالمعاكس دائمًا يعتريه الشك والوسواس، ولا يطمئن إلى أحد، يشك في زوجته.. في أخته.. في أبنائه.. في أصدقائه.. في جيرانه.. في زملائه في العمل.. ذلك لأنه يثق في نفسه أولاً، ولا يثق في جنس النساء، ويحسب أنهن جميعًا على شاكلة من يهاتفها، ويقيم معها علاقة محرمة.
9- وأد الحياء والغيرة في نفوس المعاكسين والمعاكسات، والحياء من شعب الإيمان، كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد حياءً من العذراء في خدرها، وهو كذلك من أشرف صفات المرأة، أما الغيرة على محارم الله فهي صفة محمودة من صفات أهل الإيمان، فمن حرم الغيرة حرم طهر الحياة، ومن حرم طهر الحياة فهو أحط من بهيمة الأنعام، قال - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله» (2) .
فلا والله ما في العيش خير
ولا في الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير
ويبقى العود ما بقي اللحاء
__________
(1) «صيد الخاطر».
(2) متفق عليه.(1/27)
10- ومن أعظم الآثار اتهام الأبرياء، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فيمكن أن يتسبب نذل بسبب كثرة اتصالاته في تشكيك الزوج في زوجته، أو اتهامها مع أنها بريئة عفيفة طاهرة نقية، ولكن هذا النذل الجبان يتعمد الاتصال وقت وجود الزوج ليشك في زوجته.
وقد يقوم هذا النذل بالمعاكسات عن طريق هواتف أصدقائه، فإذا اكتشف الرقم كان صاحب الهاتف هو المتهم بجريمة المعاكسة.
أما والله إن الظلم شؤم
وما زال المسيء هو الظلوم
إلى الديان يوم الحق نمضي
وعند الله تجتمع الخصوم
11- التشبه بأعداء الله المجرمين، فإنهم أول من سن هذه السنة السيئة، وأصبحت عندهم عادة وأمرًا طبيعيًا، بل أنشئت لأجل المعاكسات الهاتفية في بلاد الغرب كثير من الشركات والمؤسسات التي تقوم باستئجار شباب وفتيات الهوى المدربين جيدًا على الأحاديث الجنسية الصريحة، وتكون هناك أرقام هواتف معلومة يتصل عليها من يريد أن يتحدث ويستمع إلى أحاديث الجنس نظير أجرة يدفعها، وقد ربحت هذه الشركات أموالاً طائلة من وراء ذلك.
12- انتشار الجريمة: فالزوج قد ينتقم من زوجته الخائنة، والزوجة قد تنتقم من زوجها الخائن، ويمكن كذلك أن يكون المعاكس هدفًا للانتقام، فتنتشر بذلك الجرائم الناتجة عن تلك المعاكسات الهاتفية.
علاج المعاكسات الهاتفية
علاج المعاكسات الهاتفية هو نفسه علاج كل المعاصي المتعلقة بالشهوة كالزنا واللواط، والعشق والعادة السرية، والنظر إلى النساء، والخلوة والاختلاط، إضافة إلى بعض الأمور المتعلقة بالهاتف، ويمكن حصر العلاج فيما يلي:
1- تقوى الله ومراقبته: فالتقوى هي السلاح الأقوى في التخلص من أي معصية، والمراقبة تدعو إلى تعظيم جناب الرب سبحانه أن يراك حيث نهاك، قال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [الطلاق: 4]، وقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [النحل: 128].(1/28)
2- التوبة إلى الله والتطهر من الذنوب: فالتوبة باب مفتوح لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة: 222].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه» (1) .
3- شغل الأوقات بما يفيد: فإذا لم تشغل الأوقات في المفيد النافع حرص شياطين الجن والإنس على إشغالها في المعاصي والمنكرات. قال أحد السلف: من حفظ على نفسه أوقاته فلا يضيعها فيما لا رضا لله فيه، حفظ الله عليه دينه ودنياه.
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق
والليالي متجر الإنسان والأيام سوق
4- اجتناب مجالسة الأشرار؛ فإن الطبع يسرق من خصال المخالطين؛ فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» (2) ، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المرء مع من أحب» (3) .
5- المحافظة على الصلاة: وذلك بإقامتها في أوقاتها، ومحافظة الرجال على أدائها مع الجماعة في المساجد، وكذلك تحري الخشوع والسنة فيها، قال تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [العنكبوت: 45]، فالصلاة طريق المسلم إلى الطهارة، ونقاء السريرة، والبعد عن الشهوات المحرمة.
6- الإكثار من الصيام: فإنه يضعف الشهوة ويكبح جماحها، وقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - الشباب بالصيام في قوله: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (4) .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أبو داود، والترمذي: وقال: حسن غريب.
(3) متفق عليه.
(4) متفق عليه.(1/29)
7- الزواج المبكر: للحديث السابق، ولأن الزواج هو الطريق الشرعي لتنظيم أمور الشهوة وقضاء الوطر، والزواج المبكر عصمة للشباب من الجنسين من الانحراف، والوقوع في حمى المعاكسات الهاتفية التي هي بريد الزنى والعياذ بالله.
8- التربية الإيمانية: فعلى الوالدين أن يقوما بدورهما في تربية الأبناء وتوجيههم وربطهم بالقضايا الإيمانية الكبرى، وتحمل أمانة هذا الجيل الذي هو عمار الحاضر وعدة المستقبل، قال - صلى الله عليه وسلم - : «مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع» (1) .
9- الحذر من خضوع المرأة بالقول: قال الشيخ بكر أبو زيد: «وإذا كان أحد المتهاتفين امرأة،ـ فلتحذر الخضوع بالقول، فإن الله سبحانه نهى نساء نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين رضي الله عنهن اللاتى لا يطمع فيهن طامع أن يخضعن بالقول، فقال تعالى: { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا } [الأحزاب: 32]، فكيف بمن سواهن؟
ولتحذر المرأة الاسترسال في الكلام مع الرجال الأجانب عنها، بل ومع محارمها بما تنكره الشريعة وتأباه النفوس ويحدث في نفس السامع علاقة.
ولتحذر رفع الصوت عن المعتاد، وتمطيط الكلام وتليينه، وترخيمه، وتنغيمه بالنبرة واللينة، واللهجة الخاضعة.
وإذا كان يحرم عليها ذلك، فيحرم على الرجال سماع صوتها بتلذذ، ولو كان صوتها بقراءة القرآن، وإذا شعرت المرأة بذلك حرم عليها الاستمرار في الكلام معه لما يدعو إليه من الفتنة» (2) .
__________
(1) رواه أحمد، وأبو داود، وحسنه الألباني.
(2) «أدب الهاتف».(1/30)
10- قيام الرجل (راعي البيت) بمسئوليته تجاه الهاتف وأهل الدار: قال الشيخ بكر: «سعيدٌ ذلك البيت الذي تحت قوامه راعٍ عاقل بصير، غير فظ ولا غليظ.. وكان من تدبيره في الهاتف أن المرأة لا ترفع يد الهاتف وفي الدار رجل من أهلها، وأن الأهل محجوبون عن فضل الاتصال، ولقد لقنهم آداب الهاتف، ونشأ أولاده على ذلك.
ومسكين صاحب البيت المشبوه، هاتفه في الدار مبثوث، واقع في كف لاقط من بنين وبنات، وكبار وصغار، إذا دق جرس الهاتف لقطه أكثر من واحد، وإذا كلمت المرأة المهاتف استرسلت معه كأنما تهاتف والدها بعد غيبة طويلة، فيا الله كم يقع في الدار من شر، فاللهم لطفك وسترك يا كريم، يا رحمان يا رحيم» (1) .
11- غض البصر والتزام النساء بالحجاب الشرعي الكامل وتطهير البيت من آلات اللهو والفساد وبخاصة ما يسمى بالطبق الفضائي.
12- التحلي بعلو الهمة: فيكون ذا عزيمة صادقة، وصبر جميل، ونفس قوية، مع التفكير في أنه لم يخلق لمثل هذا العبث والضياع، إنما خُلق لأشرف الغايات وأجلها وهي عبادة الله الواحد الأحد.
13- التفكير في عواقب معصية المعاكسات الهاتفية والتأمل فيها: فكم أماتت من فضيلة، وكم أوقعت من رذيلة، وكم من لذة فوتت لذات، وكمن من شهوة كسرت جاهًا، ونكست رأسًا، وقبحت ذكرًا، وأورثت ذمًا، وأعقبت ذلاً، وألزمت عارًا.. غير أن عين الهوى عمياء!!
فضل حفظ اللسان:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «اثنتان تدخلان الجنة؛ من حفظ ما بين لحييه ورجليه دخل الجنة»؛ أي: لسانه وفرجه.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «رحم الله عبدًا قال خيرًا فغنم، أو سكت عن سوء فسلم».
وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: «طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته».
وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: «من صمت نجا».
* * *
__________
(1) «أدب الهاتف».(1/31)
أيها الأخ المبارك.. لقد عنونت كتابي هذا بـ (هلاكي بين عيني ولساني) ومرت بين يديك صفحات طويلة كلها تدور حول هلاك العبد بسبب لسانه فها أنا ذا أضع بين يديك هلاك الإنسان بسبب عينه.
فيقول ابن القيم – رحمه الله – في كتابه الجواب الكافي (ص222-225) متحدثًا عن النظرة: «فهي رائد الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ الفرج؛ فمن أطلق نظره أورد نفسه موارد الهلاك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الثانية».
وفي المسند عنه - صلى الله عليه وسلم - : «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس»، فمن غض بصره عن محاسن امرأة لله؛ أورث الله قلبه حلاوة العبادة إلى يوم القيامة، هذا معنى الحديث وقال: «غضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم».
وقال: «إياكم والجلوس على الطرقات»، قالوا: يا رسول الله، مجالسنا ما لنا بد منها، قال: «فإن كنتم لابد فاعلين فأعطوا الطريق حقه»، قالوا: وما حقه؟، قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام».
والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإن النظرة تولد الخطرة ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع مانع، وفي هذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده».
ومن آفاته أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد ما ليس قادرًا عليه ولا صابرًا عنه، وهذا من أعظم الذنوب أن ترى ما لا صبر لك عنه ولا عن بعضه ولا قدرة لك عليه، قال الشاعر:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدًا
لقلب يومًا اتعبتك المناظر
رأيتُ الذي لا كله أنت قادر
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وهذا البيت يحتاج إلى شرح ومراده: أنك ترى ما لا تصبر عن شيء منه ولا تقدر عليه؛ فإن قوله: لا كله أنت قادر عليه نفي لقدرته على الكل الذي لا ينتفي إلا بنفي القدرة عن كل واحد.
وكم من مراسل لحظاته فما أقلعت(1/32)
إلا وهو يتشحط بينهن قتيلا
كما قيل:
يا ناظرًا ما أقلعت لحظاته
حتى تشحط بينهن قتيلا
ولي من أبيات:
مل السلامة فاغتدت لحظاته
وقفًا على طلل يظن جميلا
ما زال يتبع أثره لحظاته
حتى تشحط بينهن قتيلا
ومن العجب أن لحظ الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه حتى يتبوأ مكانه من قلب الناظر، ولي من قصيدة:
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدًا
أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له
احبس رسولك لا يأتيك بالعطب
وأعجب من ذلك: أن النظرة تجرح القلب جرحًا؛ فيتبعها جرح على جرح، ثم لا يمنعه ألم الجراحة من استدعاء تكرارها، ولي أيضًا في هذا المعنى:
ما زلت تتبع نظرة في نظرة ... في إثر كل مليحة ومليح
وتظن ذاك دواء جرحك وهو في ... التحقيق تجريح على تجريح
فذبحت طرفًا باللحاظ وبالبكا ... فالقلب منك ذبيح أي ذبيح
وقد قيل: إن حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات. اهـ.
وقال أيضًا – رحمه الله – في («الجواب الكافي» ص262): «إن بين العين والقلب منفذًا أو طريقًا يوجب اشتغال أحدهما بما يشغل به الآخر، يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، فإذا فسد القلب فسد النظر، وإذا فسد النظر فسد القلب، وكذلك في جانب الصلاح، فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ؛ فلا يصلح لسكن معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه، والأنس به والسرور بقربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك.
فهذا إشارة إلى بعض فوائد غض البصر نطلعك على ما وراءها». اهـ.
والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
الفهرس
مقدمة ... 5
من آفات اللسان ... 6
أولاً: السباب والشتم واللعان: ... 6
ثانيًا: الاستهزاء: ... 6
ثالثًا: الكذب: ... 6
رابعًا: القذف: ... 6
خامسًا: الغيبة والبهتان: ... 6
سادسًا: النميمة: ... 6
سابعًا: التقعُّر: ... 6
المعاكسات: حسرات واعترافات ... 6
حكم المعاكسات الهاتفية: ... 6
أين مراقبة الله؟ ... 6
أقسام المعاكسين: ... 6
كوني حاسمة ... 6
أقسام المعاكسات: ... 6(1/33)
نصيحة للرجل: ... 6
همسة للمرأة: ... 6
ضعي السماعة فورًا: ... 6
وصية نبوية: ... 6
أساليب المعاكسين: ... 6
1- الاتصال العشوائي وله أساليب: ... 6
مأساة في السوق: ... 6
صديقه يهدم بيتي: ... 6
أسباب المعاكسات الهاتفية: ... 6
عاقبة التسويف: ... 6
صديقتها سبب الطلاق: ... 6
شرف الزمان: ... 6
علاج المعاكسات الهاتفية ... 6
فضل حفظ اللسان: ... 6
الفهرس ... 6(1/34)