نَوْعَانِ فَكَذَلِكَ الْحُلُولُ نَوْعَانِ : قَوْمٌ يَقُولُونَ : بِالْحُلُولِ الْمُقَيَّدِ فِي بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَقَوْمٌ يَقُولُونَ : بِحُلُولِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَهُمْ الجهمية الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ ذَاتَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ . وَقَدْ يَقَعُ لِبَعْضِ المصطلمين مِنْ أَهْلِ الْفَنَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ أَنْ يَغِيبَ بِمَحْبُوبِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَحُبِّهِ ؛ وَيَغِيبَ بِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ ؛ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَبِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ ؛ حَتَّى لَا يَشْهَدَ إلَّا مَحْبُوبَهُ فَيَظُنُّ فِي زَوَالِ تَمْيِيزِهِ وَنَقْصِ عَقْلِهِ وَسُكْرِهِ أَنَّهُ هُوَ مَحْبُوبُهُ . كَمَا قِيلَ : إنْ مَحْبُوبًا وَقَعَ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ أَنَا وَقَعْت فَأَنْتَ مَا الَّذِي أَوْقَعَك ؟ فَقَالَ غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ وَضَلَالٌ . لَكِنْ إنْ كَانَ هَذَا لِقُوَّةِ الْمَحَبَّةِ وَالذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ عَنْ سَبَبٍ مَحْظُورٍ زَالَ بِهِ عَقْلُهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي زَوَالِ عَقْلِهِ ؛ فَلَا يَكُونُ مُؤَاخِذًا بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي زَالَ فِيهَا عَقْلُهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ مَحْظُورٍ ؛ كَمَا قِيلَ فِي عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ : إنَّهُمْ قَوْمٌ آتَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا فَسَلَبَ عُقُولَهُمْ وَأَبْقَى أَحْوَالَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ بِمَا سَلَبَ . وَأَمَّا إذَا كَانَ السَّبَبُ الَّذِي بِهِ زَوَالُ الْعَقْلِ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ النِّزَاعُ فِي الْحُكْمِ مَشْهُورًا . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا ؛ وَفِيمَنْ يُسَلِّمُ لَهُ حَالَهُ وَمَنْ لَا يُسَلِّمُ فِي " قَاعِدَةِ " ذَلِكَ . وَبِكُلِّ حَالٍ ؛ فَالْفَنَاءُ الَّذِي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إلَى مِثْلِ هَذَا حَالٌ نَاقِصٌ ؛ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ غَيْرَ مُكَلَّفٍ وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ مِثْلُ هَذَا عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا عَنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ وَإِنْ كَانَ لِهَؤُلَاءِ فِي صَعْقِ مُوسَى نَوْعُ تَعَلُّقٍ وَإِنَّمَا حَدَثَ زَوَالُ الْعَقْلِ عِنْدَ الْوَارِدَاتِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى بَعْضِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ مُسْتَلْزِمَةً لِمُوَافَقَةِ الْمَحْبُوبِ فِي مَحْبُوبِهِ وَمَكْرُوهِهِ وَوِلَايَتِهِ وَعَدَاوَتِهِ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ الْمَحَبَّةَ الْوَاجِبَةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَ أَعْدَاءَهُ وَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ مِنْ جِهَادِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } . وَالْمُحِبُّ التَّامُّ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ لَوْمُ اللَّائِمِ وَعَذَلُ الْعَاذِلِ بَلْ ذَلِكَ يُغْرِيهِ بِمُلَازَمَةِ الْمَحَبَّةِ كَمَا قَدْ قَالَ أَكْثَرُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْمَلَامِ الْمَحْمُودِ وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ مَنْ يَلُومُهُمْ عَلَى مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ جِهَادِ أَعْدَائِهِ . فَإِنَّ الْمُلَامَ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَأَمَّا الْمُلَامُ عَلَى فِعْلِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ أَوْ تَرْكِ مَا أَحَبَّهُ فَهُوَ لَوْمٌ بِحَقِّ وَلَيْسَ مِنْ الْمَحْمُودِ الصَّبْرُ عَلَى هَذَا الْمَلَامِ بَلْ الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ . وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ " الملامية " الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فِي ذَلِكَ وَبَيْنَ " الملامية " الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْمَلَامِ فِي ذَلِكَ .(مجموع الفتاوى )
===========
الركون إلى الظالمين
قال تعالى في سورة هود ( } وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ {113} (
لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا . إلى الجبارين الطغاة الظالمين ، أصحاب القوة في الأرض ، الذين يقهرون العباد بقوتهم ويعبدونهم لغير الله من العبيد . .(1/235)
لا تركنوا إليهم فإن ركونهم إليهم يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه ، ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير . فتمسكم النار . .
جزاء هذا الانحراف .
وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون . .(الظلال)
-----------------
وقال الطاهر بن عاشور :
*ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير[112]* الخطاب في قوله *ولا تطغوا* موجه إلى المؤمنين الذين صدق عليهم *ومن تاب معك*.
والطغيان أصله التعاظم والجراءة وقلة الاكتراث، وتقدم في قوله تعالى *ويمدهم في طغيانهم يعمهون* في سورة البقرة. والمراد هنا الجراءة على مخالفة ما أمروا به، قال تعالى *كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي*. فنهى الله المسلمين عن مخالفة أحكام كتابه كما نهى بني إسرائيل.
وقد شمل الطغيان أصول المفاسد، فكانت الآية جامعة لإقامة المصالح ودرء المفاسد، فكان النهي عنه جامعا لأحوال مصادر الفساد من نفس المفسد وبقي ما يخشى عليه من عدوى فساد خليطه فهو المنهى عنه بقوله بهد هذا *ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار*.
وعن الحسن البصري: جعل الله الدين بين لاءين *ولا تطغوا ولا تركنوا* وجملة *إنه بما تعملون بصير* استئناف لتحذير من أخفى الطغيان بأن الله مطلع على كل عمل يعمله المسلمون، ولذلك اختير وصف *بصير* من بين بقية الأسماء الحسنى لدلالة مادته على العلم البين ودلالة صيغته على قوته.
*ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون[113]* الركون: الميل والموافقة، وفعله كعلم. ولعله مشتق من الركن بضم فسكون وهو الجنب، لأن الماثل يدني جنبه إلى الشيء الممال إليه. وهو هنا مستعار للموافق، فبعد أن نهاهم عن الطغيان نهاهم عن التقارب من المشركين لئلا يضلوهم ويزلوهم عن الإسلام.
و*الذين ظلموا* هم المشركون. وهذه الآية أصل في سد ذرائع الفساد المحققة أو المظنونة.
والمس: مستعمل في الإصابة كما تقدم في قوله تعالى *إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان* في آخر الأعراف، والمراد: نار العذاب في جهنم.
وجملة *وما لكم من دون الله من أولياء* حال، أي لا تجدون من يسعى لما ينفعكم.
و*ثم* للتراخي الرتبي، أي ولا تجدون من ينصركم، أي من يخفف عنكم مس عذاب النار أو يخرجكم منها.
و*من دون الله* متعلق بأولياء لتضمينه معنى الحماة والحائلين.
وقد جمع قوله *ولا تطغوا* وقوله *ولا تركنوا إلى الذين ظلموا* أصلي الدين، وهما: الإيمان والعمل الصالح، وتقدم آنفا قول الحسن *جعل الله الدين بين لائين *ولا تطغوا، ولا تركنوا*.
وقال السعدي :
وقوله: { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ْ} أي: لا يخفى عليه من أعمالكم شيء, وسيجازيكم عليها، ففيه ترغيب لسلوك الاستقامة، وترهيب من ضدها، ولهذا حذرهم عن الميل إلى من تعدى الاستقامة فقال: { وَلَا تَرْكَنُوا ْ} أي: لا تميلوا { إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ْ} فإنكم، إذا ملتم إليهم، ووافقتموهم على ظلمهم، أو رضيتم ما هم عليه من الظلم { فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ْ} إن فعلتم ذلك { وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ْ} يمنعونكم من عذاب الله، ولا يحصلون لكم شيئا، من ثواب الله.
{ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ْ} أي: لا يدفع عنكم العذاب إذا مسكم، ففي هذه الآية: التحذير من الركون إلى كل ظالم، والمراد بالركون، الميل والانضمام إليه بظلمه وموافقته على ذلك، والرضا بما هو عليه من الظلم.
وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة، فكيف حال الظلمة بأنفسهم؟!! نسأل الله العافية من الظلم.
----------------
وفي الوسيط - (ج 1 / ص 2265)
ثم نهى - سبحانه - بعد ذلك عن الميل إلى الظالمين فقالك { وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } .
والركون إلى الشئك الميل إليه . يقال ركن فلان إلى فلان ، إذا مال إليه بقلبه ، واعتمد عليه فى قضاء مصالحه .
والمراد بالذين ظلموا هنا : ما يتناول المشركين وغيرهم من الظالمين الذين يعتدون على حقوق الغير ، ويستحلون من محارم الله .
والمعنى : واحذروا - أيها المؤمنون - أن تميلوا إلى الظالمين ، أو تسكنوا إليهم؛ لأن ذلك يؤدى إلى تقوية جانبهم . وإضعاف جانب الحق والعدل
قال بعض العلماء : ويستثنى من ذلك للضرورة صحبة الظالم على التقية مع حرمة الميل القلبى إليه .
وقوله { فَتَمَسَّكُمُ النار } أى فتصيبكم النار بسبب ميلكم إليهم ، والاعتماد عليهم ، والرضا بأفعالهم
وقوله { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ } فى موضع الحال من ضمير { تمسكم } .
أى : والحال أنه ليس لكم من غير الله من نصراء ينصرونكم من العذاب النازل بكم ، بسبب ركونكم إلى الذين ظملوا ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم .
وثم فى قوله { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } للتراخى الرتبى . أى ثم لا تجدون بعد ذلك من ينصركم بأى حال من الأحوال ، لأن الظالمين ما لهم من أنصار .(1/236)
قال بعض العلماء : الآية أبلغ ما يتصور فى النهى عن الظلم ، والتهديد عليه ، لأن هذا الوعيد الشديد إذا كان فيمن يركن إلى الذين ظلموا فكيف يكون حال من ينغمس فى حمأته؟!!
ثم قال : وقد وسع العلماء فى ذلك وشددوا ، والحق أن الحالات تختلف ، والأعمال بالنيات ، والتفصيل أولى .
فإن كانت المخالطة لدفع منكر ، أو للاستعانة على إحقاق الحق ، أو الخير . فلا حرج فى ذلك . وإن كانت لإِيناسهم وإقرارهم على ظلمهم فلا . . 000000000000
وقال ابن حجر الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر - (ج 3 / ص 19)
( الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ : ظُلْمُ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا بِنَحْوِ أَكْلِ مَالٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ شَتْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَخِذْلَانُ الْمَظْلُومِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نُصْرَتِهِ ، وَالدُّخُولُ عَلَى الظَّلَمَةِ مَعَ الرِّضَا بِظُلْمِهِمْ وَإِعَانَتُهُمْ عَلَى الظُّلْمِ وَالسِّعَايَةُ إلَيْهِمْ بِبَاطِلٍ ) قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } وَالرُّكُونُ إلَى الشَّيْءِ السُّكُونُ وَالْمَيْلُ إلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْآيَةِ : " لَا تَمِيلُوا إلَيْهِمْ كُلَّ الْمَيْلِ فِي الْمَحَبَّةِ وَلِينِ الْكَلَامِ وَالْمَوَدَّةِ " .
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ : لَا تُدَاهِنُوهُمْ ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ : لَا تُطِيعُوهُمْ وَتَوَدُّوهُمْ ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : لَا تَرْضَوْا بِأَعْمَالِهِمْ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُرَادٌ مِنْ الْآيَةِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } أَيْ أَشْبَاهَهُمْ وَأَتْبَاعَهُمْ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ : { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَّالَمُوا } الْحَدِيثَ .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ : { إيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ هُوَ الظُّلُمَاتُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْفَاحِشَ وَالْمُتَفَحِّشَ ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ دَعَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَسَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ : { إيَّاكُمْ وَالْخِيَانَةَ فَإِنَّهَا بِئْسَ الْبِطَانَةُ ، وَإِيَّاكُمْ وَالظُّلْمُ فَإِنَّهُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ الشُّحُّ حَتَّى سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَقَطَعُوا أَرْحَامَهُمْ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا تَظَّالَمُوا فَتَدْعُوَا فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ وَتَسْتَسْقُوا فَلَا تُسْقَوْا وَتَسْتَنْصِرُوا فَلَا تُنْصَرُوا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ : { صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَنْ تَنَالَهُمَا شَفَاعَتِي : إمَامٌ ظَلُومٌ غَشُومٌ ، وَكُلُّ غَالٍ مَارِقٍ } .(1/237)
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَيَقُولُ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا } وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّك إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } } .
وَأَبُو يَعْلَى وَاللَّفْظُ لَهُ بِسَنَدٍ فِيهِ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا أَحَادِيثَ عَامَّتُهَا مُسْتَقِيمَةٌ وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ نَحْوَهُ بِاخْتِصَارٍ : { الشَّيْطَانُ قَدْ يَئِسَ أَنْ تُعْبَدَ الْأَصْنَامُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ وَلَكِنَّهُ سَيَرْضَى مِنْكُمْ بِدُونِ ذَلِكَ بِالْمُحَقَّرَاتِ : وَهِيَ الْمُوبِقَاتُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : اتَّقُوا الظُّلْمَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَسَنَاتِ يَرَى أَنَّهَا سَتُنْجِيهِ فَمَا زَالَ عَبْدٌ يَقُومُ يَقُولُ يَا رَبِّ ظَلَمَنِي عَبْدُك مَظْلِمَةً فَيَقُولُ اُمْحُوا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَمَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى مَا يَبْقَى بِهِ حَسَنَةٌ مِنْ الذُّنُوبِ - أَيْ مِنْ أَجْلِهَا - وَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ كَسَفْرٍ نَزَلُوا بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ لَيْسَ مَعَهُمْ حَطَبٌ فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ لِيَحْتَطِبُوا فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ احْتَطَبُوا فَأَعْظَمُوا النَّارَ وَطَبَخُوا مَا أَرَادُوا وَكَذَلِكَ الذُّنُوبُ } .
وَالْبُخَارِيُّ : { مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عَرَضٍ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ مِنْ قَبْلِ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ لِأَخِيهِ مِنْ عَرْضٍ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ مِنْ قَبْلِ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ إنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ } .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ : اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا : { ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ : الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ ، وَالْإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ : وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّك وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ } .
وَالْبَزَّارُ : { ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرُدَّ لَهُمْ دَعْوَةً : الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ ، وَالْمَظْلُومُ حَتَّى يَنْتَصِرَ ، وَالْمُسَافِرُ حَتَّى يَرْجِعَ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لَا شَكَّ فِي إجَابَتِهِنَّ : دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ } .
وَالْحَاكِمُ وَقَالَ رُوَاتُهُ مُتَّفَقٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِمْ إلَّا عَاصِمَ بْنَ كُلَيْبٍ فَاحْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ وَحْدَهُ : { اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا تَصْعَدُ إلَى السَّمَاءِ كَأَنَّهَا شَرَارَةٌ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { ثَلَاثٌ تُسْتَجَابُ دَعْوَتُهُمْ : الْوَلَدُ وَالْمُسَافِرُ وَالْمَظْلُومُ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ } .(1/238)
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ : { دَعْوَتَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ : دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ ، وَدَعْوَةُ الْمَرْءِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْمُتَابَعَاتِ : { اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ ، يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لِأَنْصُرَنَّك وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ إلَّا وَاحِدًا ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : لَمْ أَقِفْ فِيهِ عَلَى جَرْحٍ وَلَا تَعْدِيلٍ : { دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ : { يَقُولُ اللَّهُ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَى مَنْ ظَلَمَ مَنْ لَا يَجِدُ لَهُ نَاصِرًا غَيْرِي } .
وَمُسْلِمٌ : { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَتْ صُحُفُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؟ قَالَ : كَانَتْ أَمْثَالًا كُلُّهَا : أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ لَمْ أَبْعَثك لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَلَكِنِّي بَعَثْتُك لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنِّي لَا أَرُدُّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ .
وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ : سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ ، وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنْ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ .
وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَكُونَ ظَاعِنًا إلَّا لِثَلَاثٍ : تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ أَوْ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ حَافِظًا لِلِسَانِهِ وَمَنْ حَسَبَ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ .
قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ؟ قَالَ كَانَتْ عِبَرًا كُلَّهَا : عَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ كَيْفَ هُوَ ثُمَّ يَفْرَحُ ، عَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ هُوَ يَضْحَكُ عَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ ، عَجِبْت لِمَنْ يَرَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ اطْمَأَنَّ إلَيْهَا ، عَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لَا يَعْمَلُ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي ، قَالَ : أُوصِيك بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ .
قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ عَلَيْك بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ نُورٌ لَك فِي الْأَرْضِ وَذِكْرٌ لَك فِي السَّمَاءِ .
قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : إيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ .
قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : عَلَيْك بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي .
قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : أَحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَجَالِسْهُمْ .
قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : اُنْظُرْ إلَى مَنْ هُوَ تَحْتَك وَلَا تَنْظُرُ إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَك فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرِيَ نِعْمَةَ اللَّهِ عِنْدَك .
قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : قُلْ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا .
قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : لَا يَرُدُّك عَنْ النَّاسِ مَا تَعْلَمُهُ عَنْ نَفْسِك وَلَا تَجِدْ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي ، وَكَفَى بِك عَيْبًا أَنْ تَعْرِفَ مِنْ النَّاسِ مَا تَجْهَلَهُ مِنْ نَفْسِك وَتَجِدَ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِيَ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ ، وَلَا حُسْنَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ } رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .(1/239)
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ عَقِبَ ذِكْرِهِ هَذَا الْحَدِيثَ : انْفَرَدَ بِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ فِي أَوَّلِهِ ذِكْرُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرْت مِنْهُ هَذِهِ الْقِطْعَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحِكَمِ الْعَظِيمَةِ وَالْمَوَاعِظِ الْجَسِيمَةِ ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ السُّدِّيِّ الْبَصْرِيِّ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِنَحْوِهِ ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِيهِ كَلَامٌ ، وَالْحَدِيثُ مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَحَدِيثُ إبْرَاهِيمَ بْنِ هِشَامٍ هُوَ الْمَشْهُورُ
انْتَهَى وَأَبُو دَاوُد : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَنْصُرُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ }
وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ حِبَّانَ : { أَمَرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى يُضْرَبُ فِي قَبْرِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ اللَّهَ وَيَدْعُو حَتَّى صَارَتْ جَلْدَةً وَاحِدَةً فَامْتَلَأَ قَبْرُهُ عَلَيْهِ نَارًا فَلَمَّا ارْتَفَعَ عَنْهُ وَأَفَاقَ قَالَ : عَلَامَ جَلَدْتُمُونِي ؟ قَالُوا إنَّك صَلَّيْت صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَمَرَرْت عَلَى مَظْلُومٍ فَلَمْ تَنْصُرْهُ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ أَيْضًا ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْتَقِمَنَّ مِنْ الظَّالِمِ فِي عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ ، وَلَأَنْتَقِمَنَّ مِمَّنْ رَأَى مَظْلُومًا فَقَدَرَ أَنْ يَنْصُرَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ } .
وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ : { اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ ؟ قَالَ تَحْجِزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ عَنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ } .
وَمُسْلِمٌ : { وَلْيَنْصُرْ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا إنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ فَإِنَّهُ لَهُ نُصْرَةٌ فَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ } .
وَأَبُو دَاوُد : { مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ ، أَرَاهُ قَالَ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ } الْحَدِيثَ .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادَيْنِ : أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ : { مَنْ بَدَا جَفَا ، وَمَنْ تَبِعَ الصَّيْدَ غَفَلَ ، وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ اُفْتُتِنَ ، وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِنْ السُّلْطَانِ قُرْبًا إلَّا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا } .
وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ : { مَنْ بَدَا جَفَا ، وَمَنْ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ اُفْتُتِنَ } .
وَأَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْبَزَّارُ وَرُوَاتُهُمَا مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : أَعَاذَك اللَّهُ مِنْ إمَارَةِ السُّفَهَاءِ ، قَالَ وَمَا إمَارَةُ السُّفَهَاءِ ؟ قَالَ أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي لَا يَهْتَدُونَ بِهَدْيِي وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي ، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْت مِنْهُمْ وَلَا يَرِدُونَ عَلَى حَوْضِي ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ وَسَيَرِدُونَ عَلَى حَوْضِي .
يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ : الصِّيَامُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ وَالصَّلَاةُ قُرْبَانٌ أَوْ قَالَ بُرْهَانٌ .
يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ : النَّاسُ غَادِيَانِ فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ بَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا } .(1/240)
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ { سَتَكُونُ أُمَرَاءُ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْت مِنْهُ وَلَنْ يَرِدَ عَلَى الْحَوْضِ ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَسَيَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ } الْحَدِيثَ .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : { أُعِيذُك يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ مِنْ أُمَرَاءَ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي فَمَنْ غَشِيَ أَبْوَابَهُمْ فَصَدَّقَهُمْ فِي كَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْت مِنْهُ وَلَا يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ ، وَمَنْ غَشِيَ أَبْوَابَهُمْ أَوْ لَمْ يَغْشَ فَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ فِي كَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ } الْحَدِيثَ .
وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ : وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : { خَرَجَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ تِسْعَةٌ وَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعَةٌ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْآخَرُ مِنْ الْعَجَمِ فَقَالَ : اسْمَعُوا هَلْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ ؟ فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْت مِنْهُ وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَيَّ الْحَوْضَ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَهُوَ وَارِدٌ عَلَيَّ الْحَوْضَ } ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ إلَّا رَاوِيًا لَمْ يُسَمَّ .
عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ خَفَضَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ حَدَثَ فِي السَّمَاءِ أَمْرٌ فَقَالَ : أَلَا إنَّهُ سَتَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يَظْلِمُونَ وَيَكْذِبُونَ فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَمَالَأَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنَى وَلَا أَنَا مِنْهُ ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُمَالِئْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ } الْحَدِيثَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كُنَّا قُعُودًا عَلَى بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ : اسْمَعُوا قُلْنَا قَدْ سَمِعْنَا ، قَالَ اسْمَعُوا ، قُلْنَا قَدْ سَمِعْنَا ، قَالَ إنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَا تُعِينُوهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ لَمْ يَرِدْ عَلَى الْحَوْضِ } .
وَأَحْمَدُ : { يَكُونُ أُمَرَاءُ تَغْشَاهُمْ غَوَاشٍ أَوْ حَوَاشٍ مِنْ النَّاسِ يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ ، فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْت مِنْهُ ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي يَعْلَى وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، { فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ مِنِّي بَرِيءٌ } .
وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ : { إنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَقُولُونَ نَأْتِي الْأُمَرَاءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَنَعْتَزِلُهُمْ بِدِينِنَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ، كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنْ الْقَتَادِ إلَّا الشَّوْكُ كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِمْ إلَّا } .
قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ : كَأَنَّهُ يَعْنِي الْخَطَايَا .(1/241)
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِأَهْلِهِ ، فَذَكَرَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَغَيْرَهُمَا ، فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ؟ قَالَ نَعَمْ مَا لَمْ تَقُمْ عَلَى بَابِ سُدَّةٍ - أَيْ سُلْطَانٍ أَوْ نَحْوِهِ - أَوْ تَأْتِي أَمِيرًا تَسْأَلُهُ } .
وَابْنَا مَاجَهْ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا : { أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ مَرَّ بِرَجُلٍ لَهُ شَرَفٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ لَهُ إنَّ لَك حُرْمَةً وَحَقًّا ، وَإِنِّي رَأَيْتُك تَدْخُلُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ فَتَكَلَّمُ عِنْدَهُمْ ، وَإِنِّي سَمِعْت بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا سَخَطَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، اُنْظُرْ وَيْحَك مَاذَا تَقُولُ وَمَا تَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَرُبَّ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ مَا سَمِعْت مِنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ } وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ وَصَحَّحَاهُ وَرَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيهِ : { إذَا حَضَرْتُمْ عِنْدَ ذِي سُلْطَانٍ فَأَحْسِنُوا الْمَحْضَرَ ، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : فَذَكَرَهُ } .
وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي نِهَايَتِهِ : السَّاعِي مُثَلِّثٌ : أَيْ مُهْلِكٌ بِسِعَايَتِهِ نَفْسَهُ وَالْمَسْعِيَّ بِهِ وَإِلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ الْخَمْسَةِ هُوَ صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَ غَيْرَ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ ، ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَهُمْ ذَكَرَ الرَّابِعَةَ وَعَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ : " وَالدُّخُولُ عَلَى الظَّلَمَةِ بِغَيْرِ قَصْدٍ صَحِيحٍ بَلْ إعَانَةً أَوْ تَوْقِيرًا أَوْ مَحَبَّةً " .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : فَإِطْلَاقُ كَوْنِ السِّعَايَةِ كَبِيرَةً مُشْكِلٌ إذَا كَانَ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا صَغِيرَةً إلَّا أَنْ يُقَالَ تَصِيرُ كَبِيرَةً بِمَا يَنْضَمُّ لِذَلِكَ مِنْ الرُّعْبِ لِلْمَسْعِيِّ عَلَيْهِ أَوْ خَوْفُ أَهْلِهِ أَوْ تَرْوِيعُهُمْ بِطَلَبِ السُّلْطَانِ ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ الْحَلِيمِيِّ السَّابِقَ فِي إعَانَةِ الْقَاتِلِ وَدَلَالَتَهُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ وَقَالَ : لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنَّ السِّعَايَةَ لَيْسَتْ كَبِيرَةً .
انْتَهَى .
وَمَرَّ أَنَّ كَلَامَ الْحَلِيمِيِّ هَذَا مَرْدُودٌ لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ فَلَا نَظَرَ لِمَا اقْتَضَاهُ ، فَالْوَجْهُ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ لِأَنَّهَا نَمِيمَةٌ بَلْ هِيَ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ النَّمِيمَةِ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ تَسْمِيَةُ النَّمِيمَةِ كَبِيرَةً ، ثُمَّ الْمُرَادُ كَمَا ذَكَرْته فِي التَّرْجَمَةِ السَّعْيُ إلَى السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْوُلَاةِ بِالْبَرِيءِ ؛ فَأَمَّا مَا جَازَتْ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ الرَّفْعُ فِيهِ إلَّا لِعُذْرٍ
وَقَدْ قَالَ الْقَمُولِيُّ فِي الْجَوَاهِرِ فِي النَّمِيمَةِ : قَالَ النَّوَوِيُّ فَلَوْ دَعَتْ إلَى النَّمِيمَةِ حَاجَةٌ فَلَا مَنْعَ مِنْهَا ، كَمَا إذَا أَخْبَرَهُ أَنَّ إنْسَانًا يُرِيدُ الْفَتْكَ بِهِ أَوْ بِأَهْلِهِ أَوْ بِمَالِهِ ، أَوْ أَخْبَرَ الْإِمَامَ أَوْ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ بِأَنَّ فُلَانًا يَسْعَى بِمَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَوَلِّي الْكَشْفُ عَنْ ذَلِكَ وَإِزَالَتُهُ ، وَكَذَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَكُلُّهُ لَا حُرْمَةَ فِيهِ بَلْ قَدْ يَجِبُ تَارَةً وَيُنْدَبُ أُخْرَى بِحَسَبِ الْمَوَاطِنِ
وَقَوْلِي فِي التَّرْجَمَةِ فِي الْأَخِيرَةِ بِبَاطِلٍ هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : السِّعَايَةُ بِمَا يَضُرُّ الْمُسْلِمَ كَبِيرَةٌ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَهُوَ مُحْتَمَلٌ بَلْ يَجِبُ الْجَزْمُ بِهِ إذَا اشْتَدَّ الضَّرَرُ بِهِ .(1/242)
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَعْتَادُ الدُّخُولَ عَلَى الظَّلَمَةِ قَدْ يَحْتَجُّ بِأَنَّ قَصْدَهُ نُصْرَةُ مَظْلُومٍ ، أَوْ مُسَاعِدَةُ ضَعِيفٍ ، أَوْ رَدُّ ظَلَّامَةٍ ، أَوْ التَّسَبُّبُ فِي مَعْرُوفٍ ؛ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَتَى تَنَاوَلَ مِنْ مَطْعَمِهِمْ ، أَوْ شَارَكَهُمْ فِي مَقَاصِدِهِمْ ، أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الْمُحَرَّمَةِ ، أَوْ دَاهَنَهُمْ فِي مُنْكَرٍ ، فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ النَّظَرُ فِي سُوءِ حَالِهِ إلَى دَلِيلٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذِي بَصِيرَةٍ يَشْهَدُ أَنَّهُ ضَالٌّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ، وَأَنَّهُ عَبْدُ بَطْنِهِ وَهَوَاهُ ، فَهُوَ مِمَّنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَأَرْدَاهُ ، فَهُوَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا .
وَمِنْ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } وَمَتَى تَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ مَحَلُّ اشْتِبَاهٍ ، وَلِحَالِهِ مِيزَانٌ يَقْضِي بِكَمَالِهِ تَارَةً وَنَقْصِهِ أُخْرَى ، فَمَتَى رَأَى أَنَّهُ كَمُكْرَهٍ فِي دُخُولِهِ عَلَيْهِمْ ، وَيَوَدُّ أَنَّهُ لَوْ كُفِيَ بِغَيْرِهِ وَانْتَصَرَ الْمَظْلُومُ بِسِوَاهُ وَلَا يَتَبَجَّحُ بِصُحْبَتِهِمْ ، فَلَا يَجْرِي فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ قُلْت لِلسُّلْطَانِ مَثَلًا وَلَا انْتَصَرَ بِي فُلَانٌ وَنَحْوَهُ ، وَلَوْ قَدَّمَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ أَحَدًا وَقَرَّبَهُ وَاعْتَقَدَهُ وَقَامَ بِمَا كَانَ قَائِمًا بِهِ لَمَا شَقَّ عَلَيْهِ بَلْ يَجِدُ لَهُ انْشِرَاحًا إذْ أَجَارَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْفِتْنَةِ الْعَظِيمَةِ فَهُوَ صَحِيحُ الْقَصْدِ مَأْجُورٌ مُثَابٌ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ ، وَمَتَى لَمْ تُوجَدْ فِيهِ جَمِيعُ هَذِهِ الْخِصَالِ ، فَهُوَ فَاسِدُ النِّيَّةِ هَالِكٌ ، إذْ قَصْدُهُ طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ وَالتَّمْيِيزُ عَلَى الْأَقْرَانِ .
وَلِنُتَمَّمَ هَذَا الْمَبْحَثَ بِذِكْرِ أَحَادِيثَ وَآثَارٍ أُخْرَى ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ وَعُهْدَةُ أَكْثَرِهَا عَلَيْهِ ، كَحَدِيثِ : { إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَحَدِيثِ : { مَنْ ظَلَمَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَى مَنْ ظَلَمَ مَنْ لَا يَجِدُ لَهُ نَاصِرًا غَيْرِي } .
وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ : لَا تَظْلِمَنَّ إذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا فَالظُّلْمُ تَرْجِعُ عُقْبَاهُ إلَى النَّدَمِ تَنَامُ عَيْنَاك وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ يَدْعُو عَلَيْك وَعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنِمْ وَقَوْلُ الْآخَرِ : إذَا مَا الظَّلُومُ اسْتَوْطَأَ الْأَرْضَ مَرْكَبًا وَلَجَّ غُلُوًّا فِي قَبِيحِ اكْتِسَابِهِ فَكِلْهُ إلَى صَرْفِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ سَيُبْدِي لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : لَا تَظْلِمَنَّ الضُّعَفَاءَ فَتَكُنْ مِنْ شِرَارِ الْأَقْوِيَاءِ : وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوتُ هَوْلًا فِي وَكْرِهَا مِنْ ظُلْمِ الظَّالِمِ .
وَقِيلَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ : يُنَادِي مُنَادٍ مِنْ وَرَاءِ الْجِسْرِ يَعْنِي الصِّرَاطَ يَا مَعْشَرَ الْجَبَابِرَةِ الطُّغَاةِ ، وَيَا مَعْشَرَ الْمُتْرَفِينَ الْأَشْقِيَاءِ ، إنَّ اللَّهَ يَحْلِفُ بِعِزَّتِهِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ هَذَا الْجِسْرَ الْيَوْمَ ظُلْمُ ظَالِمٍ .(1/243)
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَمَّا رَجَعَتْ مُهَاجِرَةُ الْحَبَشَةِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَلَا تُخْبِرُونِي بِأَعْجَبَ مَا رَأَيْتُمْ فِي أَرْضِ الْحَبَشَةِ ؟ فَقَالَ قُتَيْبَةُ وَكَانَ مِنْهُمْ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسًا إذْ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ فَجَعَلَ إحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ الْمَرْأَةُ عَلَى رُكْبَتَيْهَا وَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا ، فَلَمَّا قَامَتْ الْتَفَتَتْ إلَيْهِ ثُمَّ قَالَتْ سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ فَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ، وَتَكَلَّمَتْ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ سَوْفَ تَعْلَمُ مَا أَمْرِي وَأَمْرُك عِنْدَهُ غَدًا ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ قَوْمًا لَا يُؤْخَذُ مِنْ شَدِيدِهِمْ لِضَعِيفِهِمْ ؟ } .
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَمْسَةٌ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إنْ شَاءَ أَمْضَى غَضَبَهُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَإِلَّا ثَوَّى بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ إلَى النَّارِ : أَمِيرُ قَوْمٍ يَأْخُذُ حَقَّهُ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَلَا يُنْصِفُهُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَدْفَعُ الظُّلْمَ عَنْهُمْ ، وَزَعِيمُ قَوْمٍ يُطِيعُونَهُ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ وَيَتَكَلَّمُ بِالْهَوَى ، وَرَجُلٌ لَا يَأْمُرُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَلَا يُعَلِّمُهُمْ أَمْرَ دِينِهِمْ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَعْمَلَهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ ، وَرَجُلٌ ظَلَمَ امْرَأَةً فِي صَدَاقِهَا } .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ وَاسْتَوَوْا عَلَى أَقْدَامِهِمْ رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ إلَى اللَّهِ وَقَالُوا يَا رَبِّ مَعَ مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ مَعَ الْمَظْلُومِ حَتَّى يُؤَدَّى إلَيْهِ حَقُّهُ .
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : بَنَى جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ قَصْرًا وَشَيَّدَهُ فَجَاءَتْ عَجُوزٌ فَقِيرَةٌ فَبَنَتْ إلَى جَانِبِهِ شَيْئًا تَأْوِي إلَيْهِ ، فَرَكِبَ الْجَبَّارُ يَوْمًا وَطَافَ حَوْلَ الْقَصْرِ فَرَأَى بِنَاءَهَا ، فَقَالَ لِمَنْ هَذَا ؟ فَقِيلَ : لِامْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ تَأْوِي إلَيْهِ فَأَمَرَ بِهَدْمِهِ فَهُدِمَ فَجَاءَتْ الْعَجُوزُ فَرَأَتْهُ مَهْدُومًا ، فَقَالَتْ : مَنْ هَدَمَهُ ؟ فَقِيلَ لَهَا الْمَلِكُ رَآهُ فَهَدَمَهُ ، فَرَفَعَتْ الْعَجُوزُ رَأْسَهَا إلَى السَّمَاءِ وَقَالَتْ يَا رَبِّ أَنَا لَمْ أَكُنْ حَاضِرَةً فَأَنْتَ أَيْنَ كُنْت ؟ قَالَ : فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جِبْرِيلَ أَنْ يَقْلِبَ الْقَصْرَ عَلَى مَنْ فِيهِ فَقَلَبَهُ .
وَقِيلَ لَمَّا حُبِسَ بَعْضُ الْبَرَامِكَةِ وَوَلَدُهُ قَالَ : يَا أَبَتِ بَعْدَ الْعِزِّ صِرْنَا فِي الْقَيْدِ وَالْحَبْسِ .
فَقَالَ : يَا بُنَيَّ دَعْوَةُ مَظْلُومٍ سَرَتْ بِلَيْلٍ غَفَلْنَا عَنْهَا وَلَمْ يَغْفُلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا .
وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ حَكِيمٍ يَقُولُ : مَا هِبْت أَحَدًا قَطُّ هَيْبَتِي رَجُلًا ظَلَمْته وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُ إلَّا اللَّهُ يَقُولُ لِي حَسْبِي اللَّهُ ، اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَك .
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : يَجِيءُ الظَّالِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى إذَا كَانَ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ فَلَقِيَهُ الْمَظْلُومُ وَعَرَفَ مَا ظَلَمَهُ فَمَا يَبْرَحُ الَّذِينَ ظُلِمُوا بِاَلَّذِينَ ظَلَمُوا حَتَّى يَنْزِعُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْحَسَنَاتِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا لَهُمْ حَسَنَاتٍ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ مِثْلَ مَا ظَلَمُوهُمْ ، حَتَّى يَرِدُوا الدَّرْكَ الْأَسْفَلَ مِنْ النَّارِ .(1/244)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يُحْشَرُ الْعِبَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا ، فَيُنَادِيهِمْ مُنَادٍ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَلِكُ الدَّيَّانُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ حَتَّى اللَّطْمَةِ فَمَا فَوْقَهَا ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَعِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ حَتَّى اللَّطْمَةُ فَمَا فَوْقَهَا { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّك أَحَدًا } قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا ؟ قَالَ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ جَزَاءً وِفَاقًا { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّك أَحَدًا } } وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ ضَرَبَ سَوْطًا ظُلْمًا اُقْتُصَّ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَمِمَّا ذُكِرَ أَنَّ كِسْرَى اتَّخَذَ مُؤَدِّبًا لِوَلَدِهِ يُعَلِّمُهُ وَيُؤَدِّبُهُ ، فَلَمَّا بَلَغَ الْوَلَدُ الْغَايَةَ فِي الْفَضْلِ وَالْأَدَبِ اسْتَحْضَرَهُ الْمُؤَدِّبُ يَوْمًا وَضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وَلَا سَبَبٍ ، فَحَقَدَ الْوَلَدُ عَلَى الْمُعَلِّمِ إلَى أَنْ كَبِرَ وَمَاتَ أَبُوهُ ، فَتَوَلَّى الْمُلْكَ بَعْدَهُ ، فَاسْتَحْضَرَ الْمُعَلِّمَ وَقَالَ لَهُ : مَا حَمَلَك عَلَى أَنْ ضَرَبْتنِي فِي يَوْمِ كَذَا ضَرْبًا وَجِيعًا مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وَلَا سَبَبٍ ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ ؟ اعْلَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَنَّك لَمَّا بَلَغْت الْغَايَةَ فِي الْفَضْلِ وَالْأَدَبِ ، عَلِمْت أَنَّك تَنَالُ الْمُلْكَ بَعْدَ أَبِيك ، فَأَرَدْت أَنْ أُذِيقَك طَعْمَ الضَّرْبِ وَأَلَمَ الظُّلْمِ حَتَّى لَا تَظْلِمَ أَحَدًا بَعْدُ ، فَقَالَ لَهُ : جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ وَصَرَفَهُ .
وَمِنْ الظُّلْمِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْته فِي التَّرْجَمَةِ الْمَكْسُ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَمَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا مُسْتَوْفًى ، وَالْمُمَاطَلَةُ بِحَقٍّ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى وَفَائِهِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } : أَيْ شِكَايَتَهُ وَتَعْزِيرَهُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ كَمَا مَرَّ أَيْضًا .
وَمِنْهُ تَظَلُّمُ الْمَرْأَةِ فِي نَحْوِ صَدَاقٍ أَوْ نَفَقَةٍ أَوْ كِسْوَةٍ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي لَيِّ الْوَاجِدِ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : يُؤْخَذُ بِيَدِ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنَادَى بِهِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إلَى حَقِّهِ قَالَ : فَتَفْرَحُ الْمَرْأَةُ أَنْ يَكُونَ لَهَا حَقٌّ عَلَى ابْنِهَا أَوْ أَخِيهَا أَوْ زَوْجِهَا ثُمَّ قَرَأَ : { فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ } قَالَ فَيَغْفِرُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ مَا شَاءَ ، وَلَا يَغْفِرُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ شَيْئًا فَيُنْصَبُ الْعَبْدُ لِلنَّاسِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَصْحَابِ الْحُقُوقِ : ائْتُوا إلَى حُقُوقِكُمْ قَالَ : فَيَقُولُ الْعَبْدُ يَا رَبِّ فَنِيَتْ الدُّنْيَا فَمِنْ أَيْنَ أُوتِيَهُمْ حُقُوقَهُمْ ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : خُذُوا مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فَأَعْطُوا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ بِقَدْرِ طِلْبَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا وَلِيًّا لِلَّهِ وَفَضَلَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ضَاعَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ حَتَّى يَدْخُلَهُ الْجَنَّةَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا شَقِيًّا وَلَمْ يَفْضُلْ لَهُ شَيْءٌ ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ رَبَّنَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ وَبَقِيَ طَالِبُونَ ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَأَضِيفُوا إلَى سَيِّئَاتِهِ ثُمَّ صُكُّوا بِهِ صَكًّا إلَى النَّارِ .
انْتَهَى .(1/245)
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْخَبَرُ السَّابِقُ : { أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ ؟ } فَذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِهِ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَأَخَذَ مَالَ هَذَا ، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ } .
وَمِنْ الظُّلْمِ أَيْضًا : عَدَمُ إيفَاءِ الْأَجِيرِ حَقَّهُ كَمَا مَرَّ بِدَلِيلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أُعْطِيَ بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ } .
وَمِنْهُ أَنْ يَظْلِمَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا بِنَحْوِ أَخْذِ مَالِهِ تَعَدِّيًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ ظَلَمَ ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنْ يَقْتَطِعَ حَقَّ غَيْرِهِ بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ } لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ : { مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا ؟ قَالَ : وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ } .
وَرُوِيَ : { إنَّهُ لَا أَكْرَهَ إلَى الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَنْ يَرَى مَنْ يَعْرِفُهُ خَشْيَةَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَظْلِمَةٍ ظَلَمَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا } كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ } .
وَجَاءَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ ، إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ } .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَوَّلُ مَنْ يَخْتَصِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ وَاَللَّهِ مَا يَتَكَلَّمُ لِسَانُهَا وَلَكِنْ يَدَاهَا وَرِجْلَاهَا يَشْهَدَانِ عَلَيْهَا بِمَا كَانَتْ تُعَنِّتُ لِزَوْجِهَا فِي الدُّنْيَا ، وَيَشْهَدُ عَلَى الرَّجُلِ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ بِمَا كَانَ يُولِي زَوْجَتَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ ثُمَّ يُدْعَى بِالرَّجُلِ وَخَدَمِهِ مِثْلُ ذَلِكَ فَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ دَوَانِيقُ وَلَا قَرَارِيطُ ، وَلَكِنْ حَسَنَاتُ الظَّالِمِ تُدْفَعُ إلَى الْمَظْلُومِ وَسَيِّئَاتُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الظَّالِمِ ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَبَّارِينَ بِمَقَاطِعَ مِنْ حَدِيدٍ فَيُقَالُ سُوقُوهُمْ إلَى النَّارِ } .
وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَقُولُ : سَيَعْلَمُ الظَّالِمُونَ حَقَّ مَنْ انْتَقَصُوا ، إنَّ الظَّالِمَ لَيَنْتَظِرُ الْعِقَابَ ، وَالْمَظْلُومُ يَنْتَظِرُ النَّصْرَ وَالثَّوَابَ .
وَرُوِيَ : إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا سَلَّطَ عَلَيْهِ مَنْ ظَلَمَهُ دَخَلَ طَاوُسٌ الْيَمَانِيُّ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ : اتَّقِ يَوْمَ الْأَذَانِ ؛ قَالَ هِشَامٌ .
وَمَا يَوْمُ الْأَذَانِ ؟ قَالَ : وقَوْله تَعَالَى : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } فَصَعِقَ هِشَامٌ ، فَقَالَ طَاوُسٌ : هَذَا ذُلُّ الصِّفَةِ فَكَيْفَ الْمُعَايَنَةُ ؟ وَمَرَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَرَّأَ مِمَّنْ أَعَانَ الظَّالِمَ .
وَفِي حَدِيثٍ : { مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ } .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : لَا تَمْلَئُوا أَعْيُنَكُمْ مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ إلَّا بِإِنْكَارٍ مِنْ قُلُوبِكُمْ لِئَلَّا تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ الصَّالِحَةُ .(1/246)
وَقَالَ مَكْحُولٌ الدِّمَشْقِيُّ : يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُهُمْ ؟ فَمَا يَبْقَى أَحَدٌ حَبَّرَ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إلَّا حَضَرَ مَعَهُمْ فَيُجْمَعُونَ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ فَيُلْقَوْنَ فِي جَهَنَّمَ .
وَجَاءَ خَيَّاطٌ إلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ : إنِّي أَخِيطُ ثِيَابَ السُّلْطَانِ أَفَتَرَانِي مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ ؟ فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ : بَلْ أَنْتَ مِنْ الظَّلَمَةِ أَنْفُسِهِمْ ، وَلَكِنْ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ مَنْ يَبِيعُ مِنْك الْإِبْرَةَ وَالْخُيُوطَ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ السَّوَّاطُونَ الَّذِينَ يَكُونُ مَعَهُمْ الْأَسْوَاطُ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ بَيْنَ يَدَيْ الظَّلَمَةِ .
} وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : الْجَلَاوِزَةُ ، أَيْ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ ، وَالشُّرَطُ أَيْ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ : وُلَاةُ الشُّرْطَةِ وَهُمْ أَعْوَانُ الْوُلَاةِ وَالظَّلَمَةِ ، الْوَاحِدُ مِنْهُمْ شُرْطِيٌّ : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ - كِلَابُ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَرُوِيَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى مُوسَى صَلَّى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ : { أَنْ مُرْ ظَلَمَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يُقِلُّوا مِنْ ذِكْرِي ، فَإِنِّي أَذْكُرُ مَنْ ذَكَرَنِي وَإِنَّ ذِكْرِي إيَّاهُمْ أَنْ أَلْعَنَهُمْ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَإِنِّي أَذْكُرُ مَنْ ذَكَرَنِي مِنْهُمْ بِاللَّعْنَةِ } .
وَجَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مَوْقِفٍ يُضْرَبُ فِيهِ رَجُلٌ ظُلْمًا فَإِنَّ اللَّعْنَةَ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ حِينَ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ } .
وَجَاءَ كَمَا مَرَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أُمِرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ يُضْرَبُ فِي قَبْرِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ وَيَدْعُو حَتَّى صَارَتْ جَلْدَةً وَاحِدَةً فَامْتَلَأَ قَبْرُهُ عَلَيْهِ نَارًا ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ عَنْهُ وَأَفَاقَ قَالَ : عَلَامَ جَلَدْتُمُونِي ؟ قِيلَ : إنَّك صَلَّيْت بِغَيْرِ طَهُورٍ ، وَمَرَرْت عَلَى مَظْلُومٍ فَلَمْ تَنْصُرْهُ } فَهَذَا حَالُ مَنْ لَمْ يَنْصُرْ الْمَظْلُومَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى نَصْرِهِ فَكَيْفَ حَالُ الظَّالِمِ ؟ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : رَأَيْت فِي الْمَنَامِ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ يَخْدُمُ الظَّلَمَةَ وَالْمَكَّاسِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي حَالَةٍ قَبِيحَةٍ فَقُلْت لَهُ : مَا حَالُك ؟ فَقَالَ شَرُّ حَالٍ ، فَقُلْت لَهُ : إلَى أَيْنَ صِرْت ؟ فَقَالَ إلَى عَذَابِ اللَّهِ ، قُلْت : فَمَا حَالُ الظَّلَمَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ؟ قَالَ شَرُّ حَالٍ ، أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } .(1/247)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : رَأَيْت رَجُلًا مَقْطُوعَ الْيَدِ مِنْ الْكَتِفِ وَهُوَ يُنَادِي مَنْ رَآنِي فَلَا يَظْلِمَنَّ أَحَدًا ، فَتَقَدَّمْت إلَيْهِ وَقُلْت لَهُ : يَا أَخِي مَا قِصَّتُك ؟ فَقَالَ يَا أَخِي قِصَّتِي عَجِيبَةٌ ، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ ، فَرَأَيْت يَوْمًا صَيَّادًا قَدْ اصْطَادَ سَمَكَةً كَبِيرَةً فَأَعْجَبَتْنِي ، فَجِئْت إلَيْهِ فَقُلْت : أَعْطِنِي هَذِهِ السَّمَكَةَ ، فَقَالَ لَا أُعْطِيكَهَا أَنَا آخُذُ بِثَمَنِهَا قُوتًا لِعِيَالِي ، فَضَرَبْته وَأَخَذْتهَا مِنْهُ قَهْرًا وَمَضَيْت بِهَا ، قَالَ : فَبَيْنَمَا أَنَا مَاشٍ بِهَا حَامِلَهَا إذْ عَضَّتْ عَلَى إبْهَامِي عَضَّةً قَوِيَّةً فَلَمَّا جِئْت بِهَا إلَى بَيْتِي وَأَلْقَيْتهَا مِنْ يَدِي ضَرَبَتْ عَلَيَّ إبْهَامِي وَآلَمَتْنِي أَلَمًا شَدِيدًا حَتَّى لَمْ أَنَمْ مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ وَوَرِمَتْ يَدِي فَلَمَّا أَصْبَحْت أَتَيْت الطَّبِيبَ وَشَكَوْت إلَيْهِ الْأَلَمَ فَقَالَ : هَذِهِ بُدُوُّ أَكَلَةٍ اقْطَعْهَا وَإِلَّا تَلِفَتْ يَدُك كُلُّهَا فَقَطَعْت إبْهَامِي ثُمَّ ضَرَبَتْ يَدِي فَلَمْ أُطِقْ النَّوْمَ وَلَا الْقَرَارَ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ ، فَقِيلَ لِي اقْطَعْ كَفَّك فَقَطَعْتهَا وَانْتَشَرَ الْأَلَمُ إلَى السَّاعِدِ وَآلَمَنِي أَلَمًا شَدِيدًا وَلَمْ أُطِقْ النَّوْمَ وَلَا الْقَرَارَ وَجَعَلْت أَسْتَغِيثُ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ ، فَقِيلَ لِي : اقْطَعْهَا مِنْ الْمِرْفَقِ فَانْتَشَرَ الْأَلَمُ إلَى الْعَضُدِ وَضَرَبَتْ عَلَيَّ عَضُدِي أَشَدَّ مِنْ الْأَلَمِ فَقِيلَ لِي : اقْطَعْ يَدَك مِنْ كَتِفِك وَإِلَّا سَرَى إلَى جَسَدِك كُلِّهِ فَقَطَعْتهَا فَقَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ : مَا سَبَبُ أَلَمِك فَذَكَرْت لَهُ قِصَّةَ السَّمَكَةِ ، فَقَالَ لِي : لَوْ كُنْت رَجَعْت مِنْ أَوَّلِ مَا أَصَابَك الْأَلَمُ إلَى صَاحِبِ السَّمَكَةِ فَاسْتَحْلَلْت مِنْهُ وَاسْتَرْضَيْته وَلَا قَطَعْت يَدَك ، فَاذْهَبْ الْآنَ إلَيْهِ وَاطْلُبْ رِضَاهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْأَلَمُ إلَى بَدَنِك .
قَالَ : فَلَمْ أَزَلْ أَطْلُبُهُ فِي الْبَلَدِ حَتَّى وَجَدْته فَوَقَعْت عَلَى رِجْلَيْهِ أُقَبِّلُهُمَا وَأَبْكِي وَقُلْت : يَا سَيِّدِي سَأَلْتُك بِاَللَّهِ إلَّا مَا عَفَوْت عَنِّي ، فَقَالَ لِي : وَمَنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْت أَنَا الَّذِي أَخَذْت مِنْك السَّمَكَةَ غَصْبًا ، وَذَكَرْت لَهُ مَا جَرَى وَأَرَيْته يَدِي فَبَكَى حِينَ رَآهَا ثُمَّ قَالَ : يَا أَخِي قَدْ حَالَلْتُكَ مِنْهَا لِمَا قَدْ رَأَيْت بِك مِنْ هَذَا الْبَلَاءِ ، فَقُلْت لَهُ : بِاَللَّهِ يَا سَيِّدِي هَلْ كُنْت دَعَوْت عَلَيَّ لَمَّا أَخَذْتهَا مِنْك ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قُلْت : اللَّهُمَّ هَذَا تَقَوَّى عَلَيَّ بِقُوَّتِهِ عَلَى ضَعْفِي وَأَخَذَ مِنِّي مَا رَزَقْتَنِي ظُلْمًا فَأَرِنِي فِيهِ قُدْرَتَك ، فَقُلْت لَهُ : يَا سَيِّدِي قَدْ أَرَاك اللَّهُ قُدْرَتَهُ فِي وَأَنَا تَائِبٌ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا كُنْت عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَةِ الظَّلَمَةِ وَلَا عُدْت أَقِفُ لَهُمْ عَلَى بَابٍ وَلَا أَكُونُ مِنْ أَعْوَانِهِمْ مَا دُمْت حَيًّا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
==============
أيها الناس.. إياكم والظلم
العقيد- غيثان بن سعد القرني
مدير إدارة الشئون الدينية للقوات الجوية
أكثر الله عز وجل من ذكر الظلم في القرآن الكريم، بصيغ مختلفة مما يدل على خطره وشناعته على جميع المستويات سواء على مستوى الأفراد، أو الأسر، أو الدول، أو العالم بأسره، ويكفي في بيان سوء عاقبة الظلم قول الله عز وجل: ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ( 54 ) {يونس: 54}.
ومن أساليب القرآن في عرضه للظلم:
1- أن الله عز وجل نزه نفسه عنه: إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما 40 {النساء: 40}.
2- أن الله لا يظلم الناس وإنما هم الظالمون لأنفسهم: وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون 117 {آل عمران: 117}، وقوله: وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون 40 {العنكبوت: 40}.
3- ذكر قصص الأمم السابقة الظالمة وما حل بها من عقوبة: كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين 54 {الأنفال: 54}.
4- التذكير بآثار الظالمين التي تركوها وراءهم بعد عقوبة الله لهم: فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون 52 {النمل: 52}.
5- من سنن الله تعالى أن لا يهلك الأمم بظلمها إذا قام فيها مصلحون: وما كان ربك ليهلك القرى" بظلم وأهلها مصلحون 117 {هود: 117}، وهذا يبين فضل القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من أسباب النجاة في الدنيا والآخرة.
6- تسلية المظلومين بأن الله تعالى غير غافل عما يفعله الظالمون: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون 42 {إبراهيم: 42}، وأنه من رحمته وحكمته قد يملي ثم يعاقب عقاباً شديداً: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى" وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد 102 {هود: 102}.
7- لا يجحد بالله وبرسله وباليوم الآخر إلا الظالمون: بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون 49 {العنكبوت: 49}.
8- معاقبة الظالمين بلعنة الله: ألا لعنة الله على الظالمين 18 {هود: 18}.
9- النهي عن مجالسة الظالمين بعد الذكرى: فلا تقعد بعد الذكرى" مع القوم الظالمين 68 {الأنعام: 68}.
10- النهي عن الركون إلى الظالمين: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار113 {هود: 113}.
11- إن العقوبة قد لا تقتصر على الظالمين بل تشمل الجميع، وبالذات إذا كثر الخبث وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة 25 {الأنفال: 25}.
والشريعة الإسلامية قامت على إقامة العدل، وتحريم الظلم بكافة أنواعه صغيره وكبيره؛ ولذلك يمكن تقسيم الظلم إلى ثلاثة أقسام:
1- النوع الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر، والشرك، والنفاق، ولذلك قال تعالى: إن الشرك لظلم عظيم 13 {لقمان: 13}.
2- النوع الثاني: ظلم بين الإنسان وبين خلق الله تعالى: إنما السبيل على الذين يظلمون الناس 42 {الشورى: 42}.
3- النوع الثالث: ظلم بين الإنسان وبين نفسه: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله 32 {فاطر: 32}.
وكل هذه الأنواع الثلاثة هي في الحقيقة ظلم للنفس؛ لأن العقوبة تعود على تلك النفس الظالمة؛ ولهذا تكرر في القرآن قول الله تعالى: وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون 117 {آل عمران: 117}.
وللظلم أضرار وعقوبات كثيرة منها:
1- انتفاء محبة الله عن الظالمين وحلول غضبه عليهم: والله لا يحب الظالمين 57 {آل عمران: 57}.
2- استمرار عذاب الظالمين وشدة ألمه: ألا إن الظالمين في عذاب مقيم 45 {الشورى: 45} .
3- الظالم لا يوفق لهداية الله تعالى: إن الله لا يهدي القوم الظالمين 144 {الأنعام: 144}.
4- الظلم كان سبباً لإبادة الشعوب السابقة وهلاكها وهي سنة باقية لمن نهج هذا النهج: ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا 13 {يونس: 13}، وما كنا مهلكي القرى" إلا وأهلها ظالمون 59 {القصص: 59}.
5- مصير أهل الظلم النار: إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها 29 {الكهف: 29}.
6- انتفاء النصير عن الظالمين: وما للظالمين من أنصار 72 {المائدة: 72}.
7- أن الظالم متوعد باللعنة التي هي الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى: يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار 52 {غافر: 52}.
9- عدم فلاح ونجاح الظالم: إنه لا يفلح الظالمون 21 {الأنعام: 21}.
10- ليس للظالم يوم القيامة من يشفع له أو ينصره: ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع 18 {غافر: 18}.
ويوم حكمت الأمة الإسلامية انتشر العدل وأزيل الظلم حتى قيل للفاروق عمر }: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت"، فالعدل رحمة، والظلم بكافة أنواعه شر وبلاء وساء سبيلاً، فالحذر الحذر منه
================
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى في سورة المائدة ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ {79} تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ {80} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ {81} (
وهكذا يبدو أن تاريخ بني إسرائيل في الكفر والمعصية واللعنة عريق . وأن أنبياءهم الذين أرسلوا لهدايتهم وإنقاذهم ، هم في النهاية الذين تولوا لعنتهم وطردهم من هداية الله ؛ فسمع الله دعاءهم وكتب السخط واللعنة على بني إسرائيل .
والذين كفروا من بني إسرائيل هم الذين حرفوا كتبهم المنزلة ؛ وهم الذين لم يتحاكموا إلى شريعة الله - كما مر في المواضع القرآنية المتعددة في هذه السورة وفي السور غيرها - وهم الذين نقضوا عهد الله معهم لينصرن كل رسول ويعزرونه ويتبعونه:
ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . .(1/248)
فهي المعصية والاعتداء ؛ يتمثلان في كل صورهما الاعتقادية والسلوكية على السواء . وقد حفل تاريخ بني إسرائيل بالمعصية والاعتداء . .
كما فصل الله في كتابه الكريم .
ولم تكن المعصية والاعتداء أعمالا فردية في مجتمع بني إسرائيل . ولكنها انتهت إلى أن تصبح طابع الجماعة كلها ؛ وأن يسكت عنها المجتمع . ولا يقابلها بالتناهي والنكير:
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ! . .
إن العصيان والعدوان قد يقعان في كل مجتمع من الشريرين المفسدين المنحرفين . فالأرض لا تخلو من الشر ؛ والمجتمع لا يخلو من الشذوذ ، ولكن طبيعة المجتمع الصالح لا تسمح للشر والمنكر أن يصبحا عرفا مصطلحا عليه ؛ وأن يصبحا سهلا يجترى ء عليه كل من يهم به . .
وعندما يصبح فعل الشر أصعب من فعل الخير في مجتمع من المجتمعات ؛ ويصبح الجزاء على الشرك رادعا وجماعيا تقف الجماعة كلها دونه ؛ وتوقع العقوبة الرادعة عليه . .
عندئذ ينزوي الشر ، وتنحسر دوافعه . وعندئذ يتماسك المجتمع فلا تنحل عراه . وعندئذ ينحصر الفساد في أفراد أو مجموعات يطاردها المجتمع ، ولا يسمح لها بالسيطرة ؛ وعندئذ لا تشيع الفاحشة . ولا تصبح هي الطابع العام ! والمنهج الإسلامي - بعرضه لهذه الظاهرة في المجتمع الإسرائيلي - في صورة الكراهية والتنديد ، يريد للجماعة المسلمة أن تكون لها كيان حي متجمع صلب ؛ يدفع كل بادرة من بوادر العدوان والمعصية ، قبل أن تصبح ظاهرة عامة ؛ ويريد للمجتمع الإسلامي أن يكون صلبا في الحق ، وحساسا تجاه الاعتداء عليه ؛ ويريد للقائمين على الدين أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها ، فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان والاعتداء . .
ولا يخافوا لومة لائم . سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين بالحكم ؛ أو الأغنياء المتسلطين بالمال ؛ أو الأشرار المتسلطين بالأذى ؛ أو الجماهير المتسلطة بالهوى . فمنهج الله هو منهج الله ، والخارجون عليه علو أم سفلوا سواء .
والإسلام يشدد في الوفاء بهذه الأمانة ؛ فيجعل عقوبة الجماعة عامة بما يقع فيها من شر إذا هي سكتت عليه ؛ ويجعل الأمانة في عنق كل فرد ، بعد أن يضعها في عنق الجماعة عامة . روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عبدالله بن مسعود ، قال:قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم ، وواكلوهم وشاربوهم . فضرب الله بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم . . .
[ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ] . وكان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] متكئا فجلس ، فقال: ولا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا .
وروى أو داود - بإسناده - عن عبدالله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل ، فيقول:يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك . ثم يلقاه من الغد ، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده . فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ثم قال: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم - إلى قوله: فاسقون ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطراً - أو تقصرنه على الحق قصراً -
فليس هو مجرد الإمر والنهي ، ثم تنتهي المسأله ، إنما هو الإصرار ، والمقاطعه ، والكف بالقوه عن الشر والفساد والمعصية والاعتداء .
وروي مسلم - بإسناده - عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ؛ فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه . .
وذلك أضعف الإيمان .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن عدي بن عميره قال - سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول: إن الله لا يعذب العامه بعمل الخاصه ، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم - وهم قادرون على أن ينكروه - فلا ينكرونه . فإذا فعلوا عذب الله العامه والخاصه .
وروى أبو داود والترمذي - بإسناده - عن أبي سعيد قال:قال:رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر . .
وتتوارد النصوص القرآنية والنبوية تترى في هذا المعنى ؛ لأن هذا التماسك في كيان الجماعة بحيث لا يقول أحد فيها - وهو يرى المنكر يقع من غيره -:وأنا مالي ؟! وهذه الحمية ضد الفساد في المجتمع ، بحيث لا يقول أحد - وهو يرى الفساد يسري ويشيع - وماذا أصنع والتعرض للفساد يلحق بي الأذى ؟! وهذه الغيرة على حرمات الله ، والشعور بالتكليف المباشر بصيانتها والدفع عنها للنجاة من الله . . هذا كله هو قوام الجماعة المسلمة الذي لا قيام لها إلا به . .(1/249)
وهذا كله في حاجة إلى الإيمان الصحيح بالله ؛ ومعرفة تكاليف هذا الإيمان . وإلى الإدراك الصحيح لمنهج الله ؛ ومعرفة أنه يشمل كل جوانب الحياة . وإلى الجد في أخذ العقيدة بقوة ، والجهد لإقامة المنهج الذي ينبثق منها في حياة المجتمع كله . .
فالمجتمع المسلم الذي يستمد قانونه من شريعة الله ؛ ويقيم حياته كلها على منهجه ؛ هو المجتمع الذي يسمح للمسلم أن يزاول حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ بحيث لا يصبح هذا عملا فرديا ضائعا في الخضم ؛ أو يجعله غير ممكن أصلا في كثير من الأحيان !
كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية القائمة اليوم في أرجاء الأرض ؛ والتي تقيم حياتها على تقاليد ومصطلحات اجتماعية تسترذل تدخل أحد في شأن أحد ؛ وتعتبر الفسق والفجور والمعصية "مسائل شخصية " !
ليس لأحد أن يتدخل في شأنها . . كما تجعل من الظلم والبطش والاعتداء والجور سيفا مصلتا من الإرهاب يلجم الأفواه ، ويعقد الألسنة ، وينكل بمن يقول كلمة حق أو معروف في وجه الطغيان . .
إن الجهد الأصيل ، والتضحيات النبيلة يجب أن تتجه أولا إلى إقامة المجتمع الخير . .
والمجتمع الخير هو الذي يقوم على منهج الله . .
قبل أن ينصرف الجهد والبذل والتضحية إلى إصلاحات جزئية ، شخصية وفردية ؛ عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
إنه لا جدوى من المحاولات الجزئية حين يفسد المجتمع كله ؛ وحين تطغى الجاهلية ، وحين يقوم المجتمع على غير منهج الله ؛ وحيت يتخذ له شريعة غير شريعة الله . فينبغي عندئذ أن تبدأ المحاولة من الأساس ، وأن تنبت من الجذور ؛ وأن يكون الجهد والجهاد لتقرير سلطان الله في الأرض . .
وحين يستقر هذا السلطان يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئا يرتكن إلى أساس .
وهذا يحتاج إلى إيمان . وإلى إدراك لحقيقة هذا الإيمان ومجاله في نظام الحياة . فالإيمان على هذا المستوى هو الذي يجعل الاعتماد كله على الله ؛ والثقة كلها بنصرته للخير - مهما طال الطريق - واحتساب الأجر عنده ، فلا ينتظر من ينهض لهذه المهمة جزاء في هذه الأرض ، ولا تقديرا من المجتمع الضال ، ولا نصرة من أهل الجاهلية في أي مكان !
إن كل النصوص القرآنية والنبوية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم . مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله ، ويتحاكم إلى شريعته ، مهما وجد فيه من طغيان الحكم ، في بعض الأحيان ، ومن شيوع الإثم في بعض الأحيان . .
وهكذا نجد في قول الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر . .
فهو "إمام" ولا يكون إماما حتى يعترف ابتداء بسلطان الله ؛ وبتحكيم شريعته . فالذي لا يحكم شريعة الله لا يقال له:"إمام" إنما يقول عنه الله - سبحانه - ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . .
فأما المجتمعات الجاهلية التي لا تتحاكم إلى شريعة الله ، فالمنكر الأكبر فيها والأهم ، فهو المنكر الذي تنبع منه كل المنكرات . .
هو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة . .
وهذا المنكر الكبير الأساسي الجذري هو الذي يجب أن يتجه إليه الإنكار ، قبل الدخول في المنكرات الجزئية ، التي هي تبع لهذا المنكر الأكبر ، وفرع عنه ، وعرض له . .
إنه لا جدوى من ضياع الجهد . .
جهد الخيرين الصالحين من الناس . .
في مقاومة المنكرات الجزئية ، الناشئة بطبيعتها من المنكر الأول . .
منكر الجرأة على الله وادعاء خصائص الألوهية ، ورفض ألوهية الله ، برفض شريعته للحياة . .
لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك المنكر الأول وثمراته النكدة بلا جدال .
على أنه إلام نحاكم الناس في أمر ما يرتكبونه من منكرات ؟ بأي ميزان نزن أعمالهم لنقول لهم:إن هذا منكر فاجتنبوه ؟ أنت تقول:إن هذا منكر ؛ فيطلع عليك عشرة من هنا ومن هناك يقولون لك:كلا !
ليس هذا منكرا . لقد كان منكرا في الزمان الخالي ! والدنيا "تتطور" ، والمجتمع "يتقدم" وتختلف الاعتبارات !
فلا بد إذن من ميزان ثابت نرجع إليه بالأعمال ، ولا بد من قيم معترف بها نقيس إليها المعروف والمنكر . فمن أين نستمد هذه القيم ؟ ومن أين نأتي بهذا الميزان ؟
من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم وشهواتهم - وهي متقلبة لا تثبت على حال ؟ إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها ، وإلى خضم لا معالم فيه !
فلا بد ابتداء من إقامة الميزان . .
ولا بد أن يكون هذا الميزان ثابتا لا يتأرجح مع الأهواء . .
هذا الميزان الثابت هو ميزان الله . .
فماذا إذا كان المجتمع لا يعترف - ابتداء - بسلطان الله ؟ ماذا إذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله ؟ بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ ويستنكر وينكل بمن يدعوه إلى منهج الله ؟
ألا يكون جهدا ضائعا ، وعبثا هازلا ، أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، في جزئيات وجانبيات من شئون الحياة ، تختلف عليها الموازين والقيم ، وتتعارض فيها الآراء والأهواء ؟!(1/250)
إنه لا بد من الاتفاق مبدئيا على حكم ، وعلى ميزان ، وعلى سلطان ، وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء . .
لا بد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة . والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة . . وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان !
فلتوفر الجهود المبعثرة إذن ، ولتحشد كلها في جبهة واحدة ، لإقامة الأساس الذي عليه وحده يقام البنيان !
وإن الإنسان ليرثي أحيانا ويعجب لأناس طيبين ، ينفقون جهدهم في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في الفروع ؛ بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم ؛ ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مقطوع !
فما غناء أن تنهي الناس عن أكل الحرام مثلا في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا ؛ فيستحيل ماله كله حراما ؛ ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال . . لأن نظامه الاجتماعي والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله . لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة ؟!
وما غناء أن تنهي الناس عن الفسق مثلا في مجتمع قانونه لا يعتبر الزنا جريمة - إلا في حالة الإكراه - ولا يعاقب حتى في حالة الإكراه بشريعة الله . . لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة ؟!
وما غناء أن تنهى الناس عن السكر في مجتمع قانونه يبيح تداول وشرب الخمر ، ولا يعاقب إلا على حالة السكر البين في الطريق العام . وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله . لأنه لا يعترف ابتداء بحاكمية الله ؟!
وما غناء أن تنهى الناس عن سب الدين ؛ في مجتمع لا يعترف بسلطان الله ؛ ولا يعبد فيه الله . إنما هو يتخذ أربابا من دونه ؛ ينزلون له شريعته وقانونه ؛ ونظامه وأوضاعه ، وقيمة وموازينه . والساب والمسبوب كلاهما ليس في دين الله . إنما هما وأهل مجتمعهما طرا في دين من ينزلون لهم الشرائع والقوانين ؛ ويضعون لهم القيم والموازين ؟!
ما غناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحوال ؟ ما غناء النهي عن هذه الكبائر - فضلا عن أن يكون النهي عن الصغائر - والكبيرة الكبرى لا نهي عنها . .
كبيرة الكفر بالله ؛ برفض منهجه للحياة ؟!
إن الأمر أكبر وأوسع وأعمق ، مما ينفق فيه هؤلاء "الطيبون" جهدهم وطاقتهم واهتمامهم . .
إنه - في هذه المرحلة - ليس أمر تتبع الفرعيات - مهما تكن ضخمة حتى ولو كانت هي حدود الله . فحدود الله تقوم ابتداء على الاعتراف بحاكمية الله دون سواه . فإذا لم يصبح هذا الاعتراف حقيقة واقعة ؛ تتمثل في اعتبار شريعة الله هي المصدر الوحيد للتشريع ؛ واعتبار ربوبية الله وقوامته هي المصدر الوحيد للسلطة . .
فكل جهد في الفروع ضائع ؛ وكل محاولة في الفروع عبث . . والمنكر الأكبر أحق بالجهد والمحاولة من سائر المنكرات . .
والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده . فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه . وذلك أضعف الإيمان . .
وقد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم ؛ ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم ؛ فيبقى أضعف الإيمان ؛ وهو تغييره بقلوبهم ؛ وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه ، إن هم كانوا حقا على الإسلام !
وليس هذا موقفا سلبيا من المنكر - كما يلوح في بادىء الأمر - وتعبير الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته . فإنكار المنكر بالقلب ، معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر . . إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له ، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به . .
وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر ، ولإقامة الوضع "المعروف" في أول فرصة تسنح ، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة . . وهذا كله عمل إيجابي في التغيير . . وهو على كل حال أضعف الإيمان . فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان ! أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع ، ولأن له ضغطا - قد يكون ساحقا - فهو الخروج من آخر حلقة ، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان ! هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل:
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . لبئس ما كانوا يفعلون ! . .(الظلال)
*****************
العقوبات والآثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
سنن الله الماضية أن يسلط عقوباته على المجتمعات التي تفرّط في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79)[ سورة المائدة.
وتلك العقوبات كثيرة ومتنوعة , ولكن من أظهرها:(1/251)
- كثرة الخبث : عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ يومًا من نومه فزعًا , وهو يقول: [لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ] رواه البخاري ومسلم و الترمذي وابن ماج .
إن المنكر إذا أعلن في مجتمع , ولم يجد من يقف في وجهه؛ فإن سوقه تقوم ويصبح دليلاً على تمكن أهل المنكر وقوتهم , وذريعة لاقتداء الناس بهم، ولهذا توعدهم الله جل وعلا فقال: ] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(19)[ سورة النور.
فإذا قلد بعض الناس أهل المنكر أخذ الباطل في الظهور وهان خطبه شيئًا فشيئًا في النفوس، وسكت الناس عنه، وما تزال المنكرات تفشو ؛ حتى يكثر الخبث، ويصبح مستساغاً، وينحسر بالمقابل المعروف ويصبح مستغرباً ، لذلك قال عمر بن عبد العزيز في كتابه إلى أمير المدينة الذي يأمره فيه بأن يأمر العلماء بالجلوس لإفشاء العلم في المساجد: ويفشوا العلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا .
2- إن كثرة الخبث تؤذن بالعذاب الإلهي العام والهلاك الشامل: دل على ذلك حديث زينب المذكور أنفًا , وقد قصّ الله عز وجلّ علينا خبر بني إسرائيل حين نهاهم أن يعدوا في السبت , ولنا في تلك القصة عبرة: ] وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(164)فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(165)فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(166)[ سورة الأعراف , إذن فقد أنجى الله تعالى الذين ينهون عن السوء فقط، وأما البقية فقد عذبهم كلهم , فإن لم يكن في الأمة من ينهى عن السوء والفساد فلا نجاة لأحد منها , ]فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ(116)[ سورة هود , وفي حديث جرير: [ مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فَلَا يُغَيِّرُوا إِلَّا أَصَابَهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمُوتُوا]رواه أبو داود وابن ماجة, وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه : أنه قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (105)[ سورة المائدة , وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ] رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة , وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ ] رواه الترمذي .(1/252)
وقبل أن أترك الحديث عن هذه العقوبة أود أن أنبه إلى أمر لا يكاد ينقضي؛ وهو أن بعض الناس يستغربون من قول الناصحين : إن ما أصابنا من الأحداث الأخيرة المؤلمة إنما هو بسبب الذنوب والمعاصي؛ فيعزوا أهل المعاصي ما حدث إلى الأسباب المادية , وهذا منطق الذين لا تتعدى نظرتهم الحياة الدنيا، ومنطق الماديّين الذين يتنكرون لوحي الله عز وجل: ] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ(97)أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ(100)[ سورة الأعراف , وقال تعالى : ] وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا(17)[ سورة الجن , وقال سبحانه :] وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ(33)وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ(34)وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ(35)[ سورة الزخرف .
3- الاختلاف والتناحر: إن من أنكى العقوبات التي تنزل بالمجتمع المهمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتحول المجتمع إلى فرق وشيع تتنازعها الأهواء؛ فيقع الاختلاف والتناحر: ] قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ...(65)[ سورة الأنعام .
ولا يحمي المجتمع من التفرق والاختلاف إلا شريعة الله؛ لأنها تجمع الناس وتحكم الأهواء ، وإن مما يدل على ارتباط التفرق والتناحر بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قول الله عز وجل: ] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(104)[, ثم قال بعد ذلك مباشرة : ] وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ....(105)[ سورة آل عمران.
والمتأمل في حال عدد من البلاد الإسلامية يجد أن من أهم أسباب تفرق المجتمع فيها أنهم أهملوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فترتب على ذلك شيوع الفساد , وهذا الفساد يغيظ الصالحين , فيغارون على حرمات الله, فيحاولون تغيير المنكر , فلا يجدون قناة شرعيًا تمكنهم من تغيير المنكر فيضطرون إلى أساليب مندفعة تجعل المجتمع أطرافًا متصارعة متناحرة , ونماذج ذلك في المجتمعات الإسلامية غير قليلة.
فمن ذلك ما نشرته بعض الصحف عن أندونيسيا أن هناك مجموعة من الناس غير معروفة تتصيد المجرمين خفية وتقضي عليهم , ومن ذلك ما يجري من بعض الغيورين في مصر ـ مثلاً ـ من إنكار بعض المنكرات بصورة حماسية ؛ فقد أعلن مثلاً في جامعة أسيوط عن حفل غنائي مختلط ، فقام عدد من الطلاب ضد هذا المنكر ودخلوا مكان الحفلة بالقوة وحطموا آلات الفسق ومنعوا إقامة الحفل في تلك الليلة.
ومن صور التفرق والتمزق التي تحدث في المجتمع بسبب ترك هذه الشريعة أن تتفشى بين الناس منكرات القلوب من الغل والحقد والحسد والبغضاء والتناحر، وما يترتب على اختلاف القلوب من اختلاف التوجهات والآراء والأعمال والأقوال، ثم إن معاصي البيع والشراء من النجش والغش وبيع المعدوم والمجهول وسائر أنواع البيوع المحرمة والمعاملات المنكرة لها من الأثر الكبير في تشتيت القلوب وتدابرها وتباغضها ما لا ينكره ذو عقل , والسكوت على هذه المنكرات هو نوع من الرضى بها وإقرارها.
4- تسليط الأعداء: فإن الله عز وجل قد يبتلي المجتمع التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن يسلط عليهم عدوًا خارجيًا , وقد مُني المسلمون في تاريخهم بنماذج من ذلك ؛ لعل منها ما وقع للمسلمين في الأندلس ؛ حيث تحولت عزتهم حتى صار ملوكهم وسادتهم ينادى عليهم في أسواق الرقيق، وهم يبكون وينوحون كما قال الشاعر:
فلو رأيت بكاهم عند بيعهم
... ... لهالك الوجد واستهوتك أحزان
وشبيه بذلك ما حدث في لسطين حتى صارت أخت الأندلس وحتى ذهبت كما قال الشاعر:(1/253)
يا أخت أندلس صبرًا وتضحية
ذهبت في لجة الأيام ضائعةً
... ... وطول صبر على الإرزاء والنوب
ضياع أندلسٍ من قبل في الحِقبِ
5-عدم إجابة الدعاء: المسلمون التاركون لشعيرة الأمر بالمعروف النهي عن المنكر عندما ينزل بهم العقاب يتجهون إلى الله عز وجل يدعونه، ولكنه لا يستجيب لهم كما جاء في حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ
6- الأزمات الاقتصادية: قد تحل الأزمات الاقتصادية بالمجتمع المفرّط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فتتلاطم به أمواج الفقر، ولقد وصلت الأزمات ببعض المجتمعات الإسلامية إلى حال من الفقر يرثى لها حتى أصبح الفرد يكدح في سبيل الحصول على لقمة العيش فلا يجدها؛ مما قد يحوجه إلى ما في أيدي النصارى الذين يسخرون طاقاتهم لتنصير المسلمين فيؤدي ذلك إلى وقوع المسلم في التنصير خاصة أن انشغاله بلقمة العيش قد ينسيه كثيرًا من أمور دينه؛ مما يبعده عنه ويهوّنه عليه.
7- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوجب الوقوع في الشهوات والإغراق فيها: لا شك أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبب غرق أبناء المجتمع في الملذات والأهواء التي تقعد بهم عن معالي الأمور؛ حتى صار الناس مرتبطين بالدنيا, أصحاب نفوس ضعيفة, غير جادين , فالشاب الذي أصبحت حياته كلها شهوته؛ هل يستطيع أن ينعتق من إسار الدنيا ويجد في تحصيل العلم النافع؟
وهذه الحقيقة أدركها كل البشر حتى الوثنيون منهم؛ فإن اليابان ـ مثلاً ـ لما بعثت أول بعثة من أبنائها للتعليم في بلاد الغرب , ورجع أولئك المبتعثون متحللين من مبادئهم , ذائبين في الشخصية العربية , منغمسين في الشهوات الفردية , لم يكن من اليابانيين إلا أن أحرقوهم جميعاً على مرأى من الناس ليكونوا عبرة لغيرهم، ثم ابتعثوا بعثة أخرى , وأرسلوا معهم مراقبًا كان يقدم عنهم تقاريراً متواصلة تبين حريتهم ومحافتهم على تقاليدهم الوثنية وغيرها.
8- الإهمال في أخذ العدة: سواء كانت عدة معنوية بقوة القلوب وشجاعتها , أو عدة مادية محسوسة تجهز لمقاومة الأعداء , فإن الاستعداد لا يتقنه إلا أصحاب الهمم , أما صرعى الشهوات فليسوا أهلاً لذلك.
9- تغير مسار الأمة في عدد من البلاد الإسلامية : وهي عقوبة جد خطيرة , فالمنافقون لم يكتفوا بإشاعة المنكرات؛ بل مضوا يخططون لسلخ الأمة عن دينها جملة؛ حتى تتحول إلى أمة علمانية لا دين لها , تقبل أن تحكم بأي شريعة , وأن يشيع فيها أي انحراف فكري أو خلقي.
وهذا التحول أخطر من سيطرة الكافرين والمنافقين عسكريًا على البلاد الإسلامية , وهذا بسبب غياب المصلحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر عن الساحة , أو ضعفهم في أداء رسالتهم.
إن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قضية مصيرية , يترتب عليها احتفاظ الأمة بمسارها الإسلامي.
00000000000000000000
وفي كتاب قبسات من الرسول - (ج 1 / ص 35)
قَبْلَ أن تَدعوا فَلاَ أجيبْ
عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فعرفت في وجهه أن قد حضره شيء ، فتوضأ وما كلم أحداً ، فلصقت بالحجرة أستمع ما يقول ، فقعد على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : " يا أيها الناس . إن الله يقول لكم : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم ، وتسألوني فلا أعطيكم ، وتستنصروني فلا أنصركم " . فما زاد عليهن حتى نزل . رواخ ابن ماجة وابن حبان في صحيحه (1)
* * *
يا الله ! أو حقاً يدعو الناس فلا يستجيب الله لهم ؟ الله الذي يقول : وسعت رحمتي كل شيء ؟ الله الذي يقول : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " ؟
هل يمكن أن يحدث ذلك ؟
صدق الله . وصدق رسوله . وما يمكن أن يكون ذلك إلا حقاً !
وإنه لحق ترتجف له النفس فرقاً ويقشعر الوجدان رعباً .
وماذا يبقى للناس إذن ؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمة الله ؟ ولمن يلجئون في هذا الكون العريض كله وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب .. ويبقى الإنسان في العراء . العراء الكامل الذي لا يستره شيء ، ولا يحميه شيء من لفحة الهاجرة وقسوة الزمهرير ؟
ألا إنه الهول البشع الذي يتحامى الخيال ذاته أن يتخيله .. لأنه أفظع من أن يطيقه الخيال .
__________
(1) الترغيب والترهيب . ج 4 ص 12 رقم 29 .(1/254)
الخيط الذي يمسكه بالقدرة القاهرة القادرة قد انقطع .. فراح يهوي . يهوي إلى حيث لا يعلم أحد ولا يلاحقه خيال . يهوي في الظلمات . يتقلب على الدوام . يصطدم في كل شيء . يتحطم .. تتمزق أوصاله .. يتناثر في كل اتجاه .. وكل " جزء " من نفسه يذوق من الآلام ما لا يطيق : ( فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) (1) .
ذلك هو المخلوق البائس الذي يدعو الله فلا يجيبه ، ويسأله فلا يعطيه ، ويستنصره فلا ينصره .
فهل كتب الله ذلك الهول البشع على عباده - المسلمين - الذين يدعونه ويسألونه ويستنصرونه ؟!
نعم .. حين يكفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. ولو بأضعف الإيمان .
* * *
لقد اقتضت إرادة الله أن يكون الإنسان خليفة في الأرض .
واقتضت إرادته كذلك أن يكون الإنسان - الذي يستمد قوته من الله - هو القوة الفعالة في هذا الوجود .
( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) (2) .
الإنسان هو الذي يعمل . والإنسان هو الذي ينتج . والإنسان هو الذي غير الواقع ، والإنسان هو الذي ينشئ النظم ويقيم الأوضاع .
الإنسان هو القوة الإيجابية في الأرض ، في ذات اللحظة التي يسلم كيانه كله لله . بل من هذا الإسلام الكامل لله ، يستمد الإنسان طاقته الإيجابية كلها على الأرض ! ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) (3)
لقد اختار الله أن يكون الإنسان هو أداته العاملة في الأرض . ( سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) وعلى ذلك جرت سنته منذ خلق الأرض والإنسان .
__________
(1) سورة الحج [ 31 ] .
(2) سورة الجاثية [ 13 ] .
(3) انظر " السلبية والإيجابية " في فصل " خطوات متقابلة في النفس البشرية " من كتاب " منهج التربية الإسلامية " .
والله سبحانه وتعالى ليس " مقيداً " بسنته على النحو الذي يتصوره العقل الغربي الجاحد الضيق المغلق البصيرة ، وهو يتحدث عن " القوانين الطبيعية " وحتميتها التي لا يمكن أن تتغير .. ومن ثم ينكر المعجزات !
كلا ! ليس الله مقيدا بسنته ولا محكوماً بها ، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً . والدليل أنه يصنع الخوارق والمعجزات حين يريد ، وفق حكمته التي يعلمها وحده ولا يطلع عليها أحداً من خلقه .
ولكن مشيئته سبحانه هي التي اقتضت أن تسير الأمور على هذه السنة ، حتى يعرف الناس النتائج حين يعرفون الأسباب ، فيسيروا في الأرض على بصيرة ، حتى وهم لا يعلمون الغيب المحجب عن الأبصار .
وكان ذلك رحمة بالناس وهدى لبصائرهم .
فعلى أساس هذه السنة الثابتة - التي شاءت إرادة الله الحرة القادرة أن تكون ثابتة - يستطيع الناس تفهم الكون من حولهم ، والتعرف على أسراره ، والتوفيق بين أنفسهم وبين الكون والحياة .
وكل " العلم " الذي علمه الناس منذ البدء حتى اليوم ، وكل المخترعات التي اخترعوها ، وكل الفوائد التي جنوها ، والخدمات التي حصلوا عليها لم تكن لتوجد لولا ثبوت السنة واطرادها وعدم تخلفها .
وكذلك الحياة الإنسانية في محيطها الشامل .. فكل النظم القائمة على تجارب البشرية : النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية .. لم تكن لتقوم لولا ثبوت هذه السنة واطرادها . فهذا وحده هو الذي يجعل للتجربة قيمة ، ويجعلها مجالاً للفائدة ومحلاً للاعتبار .
وإلا فما قيمة التجارب - علمية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية - إذا كانت كل تجربة منقطعة عن غيرها ، قائمة بذاتها ، لا تتصل بشيء ولا تنتهي إلى شيء ؟ وكيف يتعلم الناس أن هذا ضار وهذا نافع ، فيعرضوا عن الأول ويقبلوا على الأخير ؟
هي رحمة الله إذن بالناس أن يجعل لهم سنة ثابتة ، ويجعلها واضحة ، ويجعلها محلاً للعبرة ، ويوجه إليها الضمائر ، ويوقظ لها القلوب :
( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) (1)
* * *
وقد اقتضت هذه السنة - كما قلنا - أن يكون البشر هم أدوات العمل في الأرض وهم كذلك أدوات التغيير :
( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (2)
ولن يعجز الله سبحانه أن يغير ما بالقوم دون أن يغيروا ما بأنفسهم . فالسماوات والأرض ومن فيهن ملكه . وهو القاهر فوق عباده . وهو المتصرف وحده في الجميع بما يشاء وكيفما يشاء .
ولكنه هكذا شاء .. أن يكون الإنسان عنصراً إيجابياً في الحياة . وأن يكون التغيير - وهو إرادة الله - مرتبطاً بإرادة الإنسان ، مقضياً عن طريقه ، نافذاً من خلاله ، ممتزجاً بكيانه كله من عمل وفكر وشعور .(1/255)
والحمد لله من الإنسان أن جعل له كل هذه القيمة في الأرض .. وإلا فما هو في ذاته لولا هذا العطف الرباني عليه ؟ لولا تلك النفخة الإلهية التي جعلت منه ما هو عليه . أليس هو من طين هذه الأرض ، يستوي في ذلك مع الصرصار الحقير والوحش الكاسر والحيوان البهيم ؟
ولكن لهذا التكريم تبعاته ومقتضياته ..
تبعاته أن يكون الإنسان قوة إيجابية حقاً ، وأن يعمل بمقتضى ذلك في واقع الحياة .
تبعاته أن يعمل ، وأن يكافح ، وأن يصارع ، ولا يسلِّم ، ولا ينخذل ، ولا يستكين .
تبعاته أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويؤمن بالله : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) (3) .
تبعاته إذا رأى المنكر أن يغيره .. بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه .. فإن لم يستطع فبقلبه .. وهو أضعف الإيمان .
* * *
__________
(1) سورة آل عمران [ 137 - 138 ] .
(2) سورة الرعد [ 11 ] .
(3) سورة آل عمران [ 110 ] .
وليس المعروف أو المنكر شيئاً محدوداً في هذه الأرض ، أو ميداناً دون ميدان .
كل شأن من شئون الناس ، كبر أو صغر ، يمكن أن يجري بالمعروف ويمكن أن يجري بالمنكر . وتبعات الإنسان تستلزم ملاحقته لهذه الشئون كلها ، والرقابة عليها ، والتأكد من جريها بالمعروف وبعدها عن المنكر ! وإلا .. فالنتيجة هي الفساد !
تلك أيضاً هي سنة الله . فقد اقتضت سنته أن يراقب الناس شئون الأرض ، ويدفع بعضهم بعضاً إلى الصلاح والرشد ، وإلا فسدت الأرض : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (1) .
وإنها لتبعة ثقيلة تنوء بحملها الأكتاف .. ولكنها كذلك هي السبيل الأوحد لانتظام الأمور ، فحين يؤدي كل إنسان واجبه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مع الإيمان بالله - لا يجرؤ الباطل أن يعيش ، ولا يجرؤ المنكر أن يستأسد . ويظل الحق هو القوة الغالبة الفعالة التي تسيطر على الأمور .
أما حين ينام عن هذا الواجب المقدس فالشر يغري ، والشر يهيج ، والشر يسيطر على الحياة .
وقد جرت سنة الله بذلك في التاريخ ..
أيما أمة حية متيقظة ، ترقب شئونها بنفسها ، وتحرص على أداء كل واجب ، وتنفر من كل تقصير ، فهي الأمة الناجحة ، وهي التي تملك السلطان .
وأيما أمة تراخت وأهملت ، وتركت الباطل يسيطر على شئون الناس فلم تنصره ، فهي الأمة الفاشلة ، وهي الأمة التي حل بها الدمار .
وقوة المجتمع وضعفه رهين بهذا وذاك .
__________
(1) سورة البقرة [ 251 ] .
فالمجتمع الذي يتناصح الناس فيه بالخير ويتناهون عن المنكر ، هو المجتمع المترابط المتساند القوي ، الذي يتقدم إلى الأمام حثيثاً ، وينتقل من خير إلى خير ، بحكم تضافر الطاقة وتوجهها إلى الإصلاح . والمجتمع الذي يأتي المنكر فيه كل إنسان على مزاجه ، ويتركه الآخرون لما يفعل ، هو المجتمع المفكك المنحل ، الذي يمضي إلى الوراء حتماً ، وينتقل من ضعف إلى ضعف ، بحكم تبدد الطاقة وانصرافها إلى الشر .
( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (1)
وكذلك لعن الغرب في التاريخ الحديث .
أما المسلمون الأوائل ، الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس ، والذين كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ، فقد كانوا أمة قوية قاهرة غلابة . أمة متينة البناء وثيقة الأساس . أمة استطاعت أن تكافح كل قوى الشر وتعيش . تكافح الحكومات الظالمة من داخلها ، والغزاة البرابرة من خارجها ، من التتار مرة والصليبيين مرة .. وتصمد لهذا الشر كله وتتغلب عليه .
فلما كفوا .. لما تعبوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. لما عادوا لا يتناهون عن منكر فعلوه .. جرت عليهم السنة الأبدية الخالدة التي بينها لهم الله وحذرهم منها .. فصاروا فتاتاً متهاوياً تلتقمه قوى الشر من الداخل والخارج على السواء .
__________
(1) سورة المائدة [ 78 - 79 ] .
ولقد يبدو لأول وهلة أن العالم الإسلامي قد ضعف وهان واستُعمر لأنه غرق في الجهالة والتأخر والانحطاط والجمود . ولأنه انقسم على بعضه فتنازعته الأحقاد . ولأن حكامه الطغاة كانوا مشغولين بلذائذهم عن أن يلتفتوا لإصلاح الشعب . ولأن المظالم الاجتماعية والاقتصادية قسمت الناس إلى طغمة ظالمة من الملاك تملك كل شيء ، وعبيد من الشعب لا يملكون شيئاً غير الذل والفقر والهوان . ولأن القوة الحربية والإنتاجية للعالم الإسلامي تضاءلت وانحسرت بينما كانت أوربا تصعد في كل ميدان ..
وإنه لكذلك حقاً وصدقاً .. ولكن ما ذاك ؟ ما هو في حساب الحقائق إلا السكوت عن المنكر وعدم الأمر بالمعروف ؟!(1/256)
ألم يأمر الله بالعدل : ( وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (1)
وعدم السكوت للظلم : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) (2) ولكنهم تركوا حكامهم يظلمونهم واستكانوا لهم فلم يغيروا عليهم ؟
ألم يأمر الله بإعداد العدة واستحضار القوة : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) (3) ولكنهم سكتوا عن الاستعداد وضعفوا واستكانوا ، ولم يطالبوا بالجهاد في سبيل الله ولم يتجهوا إليه ؟
ألم يكرم الله العلم : ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (4) وحض عليه رسوله : " طلب العلم فريضة " (5) فلم يسعوا إلى العلم وغرقوا في الجهالة ؟
__________
(1) سورة النساء [ 58 ] .
(2) سورة النساء [ 97 ] .
(3) سورة الإنفال [ 60 ] .
(4) سورة العلق [ 3 - 5 ] .
(5) انظر الفصل السابق بهذا العنوان .
ألم يأمر الله بألا يكون المال ( دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) (1) فتركوه دولة بين الإقطاعيين ولم يثوروا عليهم إحقاقاً لكلمة الله في الأرض ، وإحقاقاً للعدل الذي أمر به الله ؟
ألم يأمر الله الرجال أن يعاشروا النساء بالمعروف ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (2) فعاشروهن بالظلم وأجحفوا بحقوقهن ، وتركوهن طعمة للجهل وانزواء الشخصية وضآلة الكيان - وهن صانعات الطفولة - فخرجت من بين أيديهم أجيال من البشر هابطة الأنفس محدودة الآفاق ضئيلة الإنسانية ؟
فأي معروف أمروا به وأي منكر نهوا عنه ، وأي إيمان بالله ؟
عندئذ جرت عليهم سنة الله .. وغضب عليهم الله .. فاستعبدوا وهم الأعلون لو كانوا مؤمنين : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (3) .
* * *
تلك سنة الله .. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .. أو يدعونه فلا يستجيب لهم ، ويسألونه فلا يعطيهم ، ويستنصرونه فلا ينصرهم ..
لأنهم - شاءت حكمته ذلك - هم أدوات الله في الأرض . وعن طريقهم ينفذ الله أمره . كذلك اقتضت سنته : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) لا عجزاً من الله - سبحانه - عن التغيير بغير تلك الأدوات ، أو بغير أدوات على الإطلاق ، ولكن تكريماً لهذا الخليفة في الأرض ، ومنحَه حرية التصرف وحرية السلوك .
وحين نفهم هذه السنة نفهم ذلك الحديث الذي نطق به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
فإذا كانت الأدوات جاهزة للعمل ، متوجهة إليه ، متوفرة له .. فإن السنة تمضي ، والعمل ينفذ ، والإصلاح يتم .
وإذا كانت الأدوات معطلة أو فاسدة .. فإن السنة تمضي كذلك في طريقها . تمضي بالإبقاء على الفساد ، والزيادة فيه ، وعدم التغبير عليه ، وعدم الإصلاح فيه .
__________
(1) سورة الحشر [ 7 ] .
(2) سورة النساء [ 19 ] .
(3) سورة آل عمران [ 139 ] .
وعندما يدعو الناس وهم قاعدون عن العمل ، وحين يسألون وهم كسالى ، وحين يستنصرون وهم لا يعدون عدة النصر .. فعند ذلك لا يستجيب الله لهم ولا يعطيهم ولا ينصرهم ..
لأنهم لا يستحقون النصر ..
وكيف يستحقون وهم قاعدون ؟!
وكيف يثبتون عليه لو منحهم الله إياه ؟!
هب أن الله غير سنته - سبحانه - فأنزل عليهم النصر وهم قاعدون . أَوَ يحفظونه ؟ أيدوم لهم ؟ وكيف يحفظونه وهم فاسدون مفسدون ، متهالكون متهاوون ، لا قدرة لهم ولا عزيمة ولا دراية بأمر من الأمور ؟
من أجل ذلك لا ينصرهم . ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (1) .
إن طريق النصر والاسستنصار واضحة . إن الله قد اختار أن يكون الإنسان هو أداته المنفذة في الأرض ، حين يستقيم إلى الله ، ويهتدي إليه ، ويعمل من أجله ، ويحبه ويخشاه .
فمن أراد النصر ، من أراد أن يدعو الله فيجيبه ، ويسأله فيعطيه فليكن حيث يريده الله ، وحيث يُنْزِل عليه نصره وعطاءه فينفع النصر ، وينفع العطاء .
وطريق الله واضحة . والنصر والعطاء من هذا الطريق وحده . فمن أراد النصر فليسر في الطريق وليمض قدماً . فإنه ملاق وعد الله الحق . ولا يخلف الله وعده . أما إن هجر الطريق الأوحد ، وراح يتسكع في كل طريق غيره ، فمن أين يصيبه النصر ، وهو منصرف عنه وموليه الأدبار ؟
* * *
ولقد وعت أوربا جانباً من سنة الله في الأرض - الجانب الذي نسيه المسلمون اليوم . ونسيت منها جانباً آخر - الجانب الذي وعاه المسلمون !
ولقد وعت أوربا أن الإنسان هو القوة الفعالة في الأرض . وأن الطاقة البشرية هي أداة الإصلاح . من أجل ذلك اتجهت همتهم لتجنيد هذه الطاقة ، وتوجيهها إلى العمل المنتج في واقع الحياة .(1/257)
ووصلوا في ذلك إلى درجة معجِبة من النشاط والتنظيم والدأب المنتج العجيب .
ذلك ما نسيه المسلمون اليوم وهم يتواكلون ويتقاعسون ، وينتظرون وهم قاعدون .
__________
(1) سورة العنكبوت [ 40 ] .
ولكن أوربا نسيت الله !
نسيت أن تعمل في سبيله ، وتعيش في سبيله ، وتنتج في سبيله .
ومضت بطاقتها الإنتاجية الضخمة في سبيل الشيطان .
ومن ثم قام هذا الصراع الرهيب الذي يوشك أن يدمر وجه الأرض .
والمسلمون يعرفون الله .
ولكنهم يعرفونه في ظاهر قلوبهم ولا يحفظونه : " احفظ الله يحفظك (1) " .
يعرفونه ولا يأتمرون بأمره ولا ينتهون بنهيه ولا يعملون في سبيله ، ويشركون به كثيراً من قوى الأرض المادية أو البشرية سواء . ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) وما عبدوه حق عبادته . ومن ثم فهم لا يسيرون بعد على الطريق .
وقد اقتضت سنة الله أن من يعمل ويجتهد يصل إلى شيء .. وإن كانت سنته قد اقتضت كذلك أنه يضيع هذا الشيء في النهاية ما لم يسر في الطريق الذي رسمه الله . وهو ما يوشك أن يحدث في الغرب اليوم .
ولكن من لا يعمل لا يجد على الإطلاق .. ولو كان - نظرياً - يعرف الله ويدعوه ويسأله العطاء !
والمسلمون هم المكلفون أن يهدوا البشرية الضالة إلى الطريق : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (2) ) .
ولن يهدوا الناس حتى يهتدوا هم أولاً إلى الله ويسيروا على الطريق . والطريق معروف كما رسمه الله : " إن الله يقول لكم : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب ... "
**************
فقه إنكار المنكر
مقدَمة ...
المنكر حين يكون ظاهرة فردية ... المنكر حين يصبح ظاهرة اجتماعية ... المنكر حين يكون عمل مؤسسة أو عمل الدولة
... قول النووي ، السيوطي وذكر السندي ... ...
قال الله تعالى: (كنتم خير أمّة خرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( سورة آل عمران، الآية )11. فجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من علامات خيرية هذه الأمة. ثمّ أمرنا بأن يكون من بيننا من يقوم بهذا الواجب )ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون(. ولا أريد أن أدخل في خلاف العلماء حول (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهل هو فرض عين أم فرض كفاية، طالما أنّ الذين يقولون بالوجوب الكفائي يعتبرون أنّه إذا لم تحصل الكفاية لا يسقط الوجوب عن الباقين، ومعلوم أنّه من المحال أو من الصعوبة بمكان كبير حصول الكفاية في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ورغم أنّ الأمر بالمعروف لا يخلو من بعض الإشكالات أحياناً، إلاّ أنّ إنكار المنكر تحيط به مجموعة من الالتباسات تترك أثراً كبيراً على مسار الدعوة الإسلامية، وقد تؤدّي أحياناً إلى وقوع منكر أكبر دون التمكّن من تغيير المنكر القائم، وهذه نتيجة لا يمكن أن تقبلها الشريعة بحال. ومن أجل ذلك رأيت من الواجب أن أتحدّث عن جوانب محدّدة في فقه إنكار المنكر فأقول:
المنكر قد يكون: - ظاهرة فردية
- أو ظاهر جماعية
- أو عمل مؤسسة
- أو عمل الدولة.
وفي جميع الحالات يطلب من المسلم أولاً: التغيير باليد إن أمكن، وهو إزالة المنكر.
ثانياً: التغيير باللسان، وهو الإنكار.
ثالثاً: التغيير بالقلب، وهو الكره.
وسأتناول كلّ حالة من هذه الحالات مع بيان كيفية إنكار المنكر فيها بشيء من التفصيل.
المنكر حين يكون ظاهرة فردية:
وهذا يقع في مجتمع إسلامي تسوده أحكام الشريعة وأخلاقها، لكن بعض الأفراد ينساقون وراء شهواتهم أو مصالحهم، بل وربّما تكون عندهم قناعات فكرية فيرتكبون بعض المنكرات. والمجتمع الإسلامي يحاصر هذه الحالات الفردية بكلّ الوسائل الممكنة، ومنها إنكار كلّ فرد يراها فيزيلها إن استطاع، أو يكتفي بإنكارها باللسان إن لم يستطع، أو بإبلاغ السلطات المختصّة إن كان هذا المنكر يخضع للعقاب ووقع فيه صاحبه علانية دون أن يتجسّس عليه أحد.
فحين يكون المنكر ظاهرة فردية، فإنّ الواجب:
• تغييره باليد إن أمكن، ولا يكون ذلك إلاّ لصاحب السلطان ضمن سلطانه أو بإذن منه. فالرجل صاحب سلطان في بيته، وصاحب المصنع يملك السلطة في مصنعه، وصاحب المؤسسة يملك السلطة في مؤسسته، وولي الأمر صاحب السلطان في المجتمع كلّه وعلى كلّ أفراده. وفي المجتمع الإسلامي قد يأذن ولي الأمر لبعض الناس بإزالة بعض المنكرات باليد، فيكون من حقّ هؤلاء تغيير هذه المنكرات المحدّدة باليد، وليس لهم أن يزيلوا غيرها، وهؤلاء هم المحتسبون.(1/258)
• التغيير باللسان، وهو إنكار المنكر بالنصيحة، وهذه قد لا تؤدّي إلى التغيير الفعلي، ولكنها سمّيت كذلك من قبيل المجاز. فالمسلم إذا رأى منكراً يقع خارج سلطانه، وهو لا يملك أن يغيّره بيده، وجب عليه أن ينصح صاحب المنكر نفسه، وصاحب السلطة عليه. قال رسول الله صلى الله عليه وةسلم (الدين النصيحة. قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمّة المسلمين وعامّتهم) رواه أصحاب السنن.
• التغيير بالقلب، وهو شعور يحسّ به المسلم عندما يرى منكراً لا يستطيع إزالته، ولا يستطيع أن ينصح صاحبه بإزالته خوفاً من ضرر يلحق به، لكنّه في هذه الحالة يجب عليه أن يشعر بالاشمئزاز من هذا المنكر، والغضب من فاعله، والخوف من الله بسببه، ولقد كان من دعاء الصالحين في مثل هذه الحالة قولهم: (اللهمّ إنّ هذا منكر لا نرضى به فأعنّا على إزالته).
المنكر حين يصبح ظاهرة اجتماعية:
يظهر هذا الأمر بوضوح في غياب دولة إسلامية تنفّذ أحكام الشريعة، فإذا ببعض المنكرات تنتشر، ففي لبنان مثلاً تنتشر ظاهرة خلع الحجاب حتّى بين المسلمات، ولو أنّ النسبة الكبرى منهنّ يلتزمن بالحجاب، لكن كشف الرأس ليس ظاهرة فردية تقوم بها امرأة أو عشرات أو مئات، إنّما هي ظاهرة اجتماعية واسعة. ومثلها - ولو بنسبة أقلّ - ظاهرة الجلسات المختلطة مع التبرّج، وظاهرة التعرّي على الشواطئ، وكلّ هذه المنكرات تدعمها القوانين السائدة. فتغيير المنكر هنا لا يمكن أن يكون باليد إلاّ لصاحب السلطان وهو الرجل في بيته سواء كان أباً أو زوجاً، ومن يكون له سلطان آخر. وهذا التغيير يزيل المنكر في حالات فردية ولا يغيّر الظاهرة الاجتماعية التي تحتاج إلى تغيير في القوانين السائدة باتجاه تطبيق الأحكام الشرعية. ويبقى الإنكار باللسان واجباً تجاه المنكرات التي تشكّل ظواهر اجتماعية، ولو أنّ إزالة هذا النوع من النكرات لا يمكن أن تتحقّق إلاّ بعد نجاح الدعوة وشيوع الالتزام الإسلامي في المجتمع وتطبيق الأحكام الشرعية، وقبل ذلك يكون أمام الداعي أمران:
الأول: إزالة بعض هذه المنكرات باليد حين الاستطاعة.
الثاني: الدعوة العامّة لإزالة جميع المنكرات من المجتمع كلّه، وهذه لا تكون إلاّ باللسان، وبالحكمة والموعظة الحسنة.
المنكر حين يكون عمل مؤسسة أو عمل الدولة:
نحن نعيش في مجتمع مختلط، والمؤسسات فيه تخضع لقوانين هذا المجتمع وليس للأحكام الشرعية - إلاّ إذا كانت مؤسسات إسلامية واختارت الالتزام بالأحكام الشرعية إلى جانب هذه القوانين - وقد يكون بعض أعمال هذه المؤسسات الاجتماعية منكراً، كما قد يكون عمل الدولة نفسها في كثير من الأحيان منكراً في نظر الأحكام الشرعية. وقد تشمل هذه الأعمال بعض المسلمين ممّن لا يرضون بهذا المنكر ولا يستطيعون تغييره.
1. إنّ المطلوب منّا في هذه الحالة السعي لإزالة المنكر من المؤسسة أساساً ومن سائر المؤسسات المماثلة ومن الدولة كلّها، وهذا لا يكون إلاّ بتغيير القوانين التي تحكم عمل الدولة والمؤسسات، وهو لا يمكن أن يتحقّق إلاّ عن طريق العمل السياسي. وهذا يدخل في إطار إنكار المنكر باللسان والدعوة إلى الله.
2. وإذا لم يكن ممكناً إزالة هذا المنكر بالكلّية، فإنّ المطلوب هو إزالته جزئياً من قبل المؤسسات الاجتماعية التي يملكها أو يديرها مسلمون، وذلك عن طريق نصحهم والتأثير عليهم، وقد يتجاوبون بالنسبة لبعض المنكرات دون غيرها حسب مصالح المؤسسة وإلزامية القوانين العامّة وقناعات أصحاب المؤسسة. وهذا أيضاً يدخل في إنكار المنكر باللسان والدعوة.
3. وإذا لم يكن ممكناً إزالة المنكر لا كلياً ولا جزئياً، فإنّ إنكاره يبقى واجباً، وهو جزء من دعوتنا إلى الإسلام، ومطالبتنا بإصلاح أحوال المجتمع. وهذا لا يكون إلاّ باللسان.
إنكار المنكر باللسان وكراهته بالقلب فرض دائم، أمّا تغييره باليد فهو مقيّد بالاستطاعة:
وأختم الكلام في هذه المسألة بحديث رسول الله صلى الله عليه وةسلم الصحيح المشهور (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه الستّة إلاّ البخاري.
قال النووي في شرحه لهذا الحديث - في صحيح مسلم - : (إن غلب ظنّه أن تغييره بيده يسبّب منكراً أشدّ منه، من قتله أو قتل غيره بسببه، كفّ يده، واقتصر على القول باللسان، فإن خاف أن يسبّب قوله مثل ذلك غيّر بقلبه، معناه فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير للمنكر، ولكنه هو الذي في وسعه، وهذا هو المراد من الحديث). والمسلم مكلّف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب، فلا عتب بعد ذلك على الفاعل - أي الذي نهى عن المنكر - لكونه أدّى ما عليه) فالنهي عن المنكر قد يؤدّي لإزالته، وقد لا يؤدّي لذلك.(1/259)
ونقل السيوطي عن العزّ بن عبد السلام - في شرح هذا الحديث في سنن النسائي المطبوع بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة رحمه الله، طبعة دار البشائر ببيروت - قوله: (التغيير لا يتأتّى باللسان ولا بالقلب، فيتعيّن أن يكون المعنى فلينكره بلسانه وليكرهه بقلبه، فيثبت لكلّ واحد من الأعضاء ما يناسبه). أمّا قوله في الحديث: "وذلك أضعف الإيمان" (فلم يذكر للذمّ، وإنّما ذكر ليعلم المكلّف حقارة ما حصل في هذا القسم - وهو الكراهة بالقلب - فيرتقي إلى غيره) وإلاّ (فقد يعظم إيمان الشخص، وهو لا يستطيع التغيير بيده، فلا يلزم من العجز عن التغيير ضعف الإيمان).
وذكر السندي - في شرحه لهذا الحديث - المطبوع مع سنن النسائي بتحقيق الشيخ أبو غدّة المذكور آنفاً - : ("فإن لم يستطع فبلسانه" أي إن لم يستطع تغييره وإزالته بيده، فبلسانه، أي فلينكر بلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، أي فليكرهه بقلبه، وليس المراد: فليغيّره بلسانه وقلبه، إذ اللسان والقلب لا يصلحان للتغيير عادة سيما بالنظر إلى غير المستطيع. والاكتفاء بالكراهة بالقلب هي أضعف الإيمان، أي أضعف أعمال الإيمان المتعلّقة بإنكار المنكر في ذاته، لا بالنظر إلى غير المستطيع، فإنّه بالنظر إليه هو تمام الوسع والطاقة، وليس عليه غيره). المستشار الشيخ فيصل مولوي
================
في إشراقة أية((كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ))
د. عبد الكريم بكار
يشكل انهيار العلاقات الاجتماعية إحدى أهم المشكلات التي تعانى منها المجتمعات الحديثة حيث نما الشعور بالفردية والتوحد، وحُكمت المصالح الخاصة في كثير من شئون الحياة، وقد أصاب أمة الإسلام شيء من ذلك، فاضمحلت ضوابط التربية الاجتماعية التي تشكل الحس الجماعي لدى الفرد المسلم مما أشاع الفوضى الفكرية والاجتماعية، وضخم مشاكل المسلمين الاقتصادية لأن عمليات التنمية لا تتم على ما ينبغي في مجتمع واهي الروابط مختلف الأفكار والمفاهيم.
ومن هنا شددت تعاليم الإسلام على ضرورة المحافظة على العلاقات الاجتماعية وإقامتها باستمرار على هدي الرسالة الخاتمة التي تعد استمراراً لدعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وتحقيقاً لذلك التواصل قصَّ الله تعالى علينا أخبار الأمم السابقة والعواقب الوخيمة التي انتهوا إليها حين شاعت فيهم الانحرافات والمخالفات دون أن يرفع أحد منهم رأساً أو يقول كلمة لأولئك الذين يستعجلون أيام الله لأنفسهم ولأممهم فقال تعالى: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) [المائدة:78-79].
فقد أجرم القوم مرتين: مرة حين وقعوا في الآثام، وأخرى حين تركوا المعاصي تشيع فيهم دون أن تسود فيهم روح التناهي عنها.
وقد جاء في الحديث ما يفسر تدرجهم نحو الحال التي استوجبت لهم اللعن، فقد روى ابن مسعود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: »إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال:((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا..))«(1)
لقد طال العهد بصالحي بني إسرائيل فبدأت المناكر تزحف إلى حياتهم عن طريق أهل الأهواء والشهوات، وكان فيهم صالحون فقاموا ونهوا أصحاب المعاصي ووعظوهم ولكن هؤلاء تأصل فيهم المنكر وصار النزوع عنه أمراً عسيراً، وكان الأمر يتطلب من صالحيهم جلداً وصبراً ومفاصلة إلا أن درجة التوتر الحيوي عند أولئك الصالحين لم تكن كافية بحيث يشعرون بالتميز ويشكلون تياراً نشطاً يحاصر أولئك العصاة ويشعرهم بالشذوذ والإثم...
وكانت المرحلة التالية سيطرة شعور العجز والضعف على أولئك الصالحين مما جعلهم يخالطون أهل المعاصي ويرضون عن أعمالهم أو يظهر للناظر أنهم كذلك فضاعت معالم الحق وجاءت أجيال تالية فنشأت في الانحراف وشبت فيه وصار التفريق بين المعروف والمنكر أمراً غير متيسر لكل الناس.
وكانت العاقبة أن ضرب الله قلوبهم بعضهاً ببعض، وهذه العبارة في الحديث النبوي ترمز إلى حالة من الفوضى المصحوبة بالعذاب حيث فقدت تجمعاتهم الشروط الضرورية لبقائهم واستمرارهم المادي والمعنوي فكانت أيام الله في خاتمة المطاف جزاء ما فعلوا.(1/260)
إن كل مجتمع مهما بلغ من الفضل والرقي لا يستغنى عن شريحة فيه تتمثل فيها المثل العليا لذلك المجتمع تحفظ عليه وجوده المعنوي المتمثل في عقيدته وأخلاقه وضوابط علاقاته وهؤلاء يمثلون الخيرية في ذلك المجتمع كما قال عليه الصلاة والسلام: »ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون...« [رواه مسلم ].
إن هؤلاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يملكون من التوهج في أرواحهم والحيوية في نفوسهم ما يجعل همَّ مجتمعهم همهم الأكبر، فيسعد بهم ذلك المجتمع إذ يحفظون عليه توازنه واستقامته وشروط استمراره، وكما لا يشترط لصحة المجتمع جسمياً وبيئياً أن يكون كل أفراده من الأطباء كذلك لا يشترط في المجتمع المسلم أن يكون كل أفراده من الدعاة الناصحين ولكن ينبغي أن تتوفر نسبة كافية في المجتمع مسموعة الصوت واضحة التأثير تملأ الفراغ الثقافي وتملك من الوسائل المؤثرة ما يسمح باستمرار وضوح جادة الحق والخير والصواب ويسمح باستمرار سنة المدافعة بين الحق والباطل على وجه مكافىء وهذا ما يشير إليه قوله عز اسمه: ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)) [آل عمران:104].
وقد جرت سنة الله في الابتلاء أن تلقى هذه الفئة الطيبة الخيرة المُحَارَبة دائماً وتلقى الأذية والعنت وما ذلك إلا لأنها تسير في الاتجاه المضاد لأهل الشهوات والأهواء الذين يمكن أن نسميهم بـ ( المختزلة ) حيث يكثفون هموم البشرية كلها في هم واحد هو همهم، ويتجاوزون رغبات الخلق ومصالحهم مهما عظمت إلى رغباتهم ومصالحهم هم، وعلى كل حال فإن الذي يظن أنه باستطاعته أن يسير في دروب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقوماً للمعوج ومحارباً للأهواء والشهوات وناصراً للمظلوم ثم لا يلحقه شيء مما لحق بهم فهو واهم في ذلك وإلى هذا أشار لقمان وهو يعظ ابنه حين قال: ((يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)) [لقمان:17] فقد أشعر ابنه بما يلحقه من الأذية إذا هو قام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكن نظراً للأخطار التي تهدد الأمة بخلوِّها من هذه الشريحة المباركة التي تعد قلبها النابض وبصيرتها النافذة فإن الله تعالى قرن محاربة هذه الفئة بالكفر به وقتل رسله حيث قال جلَّ وعلا: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ)) [آل عمران:21-22].
واليوم والأمة تسعى جاهدة إلى الخروج من نفق الظلمات نافضة عنها غبار الضعف والفرقة والتبعية والتخلف ؛ تكثر المشاريع الحضارية المطروحة في البلاد الإسلامية من قبل أهل العلم والفكر، كما يكثر الضرب في الأرض لدراسة التجارب الحضارية الحديثة والمعاصرة للأمم الأخرى، والنتيجة الملموسة إلى هذه الساعة من وراء كل ذلك سلبية والسبب في ذلك - والله أعلم - أننا نأتي البيوت من غير أبوابها ذلك لأن التخلف المادي الذي يعاني منه المسلمون ليس هو المرض ولكنه من أعراض المرض، والمعالجة الصحيحة تكون بتفحص المرض وأسبابه وجذوره فإذا عالجنا المرض ذهبت كل أعراضه، أما المرض فهو كامن في الخلل الذي أصاب رؤية المسلمين للدنيا والآخرة، والخلل الذي أصاب أخلاقهم ومقاصدهم وعلاقاتهم ببعضهم بعضاً، مما ترتب عليه مفاسد جمة قعدت بالسواد الأعجم من المسلمين عن أن يكونوا لَبِنَاتٍ صالحة في أي بناء حضاري فذٍ متميزٍ، وغاب عنا روح الفريق حين التفت كلٌّ إلى مصلحته الخاصة ضارباً عرض الحائط بكل شيء وراءها. ولابد من وقفة متأنية عند هذه النقطة نظراً لخطورتها وكثرة المشكلات الناشئة عنها.
إن كثيراً من مجتمعات المسلمين اليوم لا يتوفر فيه ما يجعله صالحاً لإطلاق اسم (مجتمع) عليه لأن التفلت من الواجبات الشرعية والوقوع في المحظورات - والتي في مجملها تشكل الحس الجماعي عند المسلمين- يجعل صفة الفردية طاغية على هذه التجمعات وإن بدت حسب الظاهر في صورة مجتمعات منظمة متحدة..
إن المجتمع - كما يقول مالك بن نبي - الذي يعمل فيه كل فرد ما يحلو له ليس مجتمعاً ولكنه إما مجتمع في بداية تكونه وإما مجتمع بدأ حركة الانسحاب من التاريخ فهو بقية مجتمع.(1/261)
واليهود حين أرادوا تدمير المجتمعات الغربية خططوا لتضخيم جانب الفردية على حساب الحس الجماعي حتى كثرت القضايا التي يعدها العرف هناك خصوصيات تخضع بمزاج الفرد ومصلحته، وكانت النتيجة التي انتهوا إليها تفكك تلك المجتمعات على نحو مخيف ذهب بأمن الحياة وروائها وسيعصف بكل الجهود العزيزة التي بذلت في بناء الحضارة الحديثة في يوم من الأيام.
وقد انتقلت هذه العدوى إلى بلاد المسلمين فصار كثير من المسلمين غير مستعد لقبول نصيحة من أحد بحجة أن ما يلاحظ عليه يعود إلى خصوصياته التي لا تقبل أي نوع من التدخل. وهذا الصنف من الناس - وهو يمثل اليوم في المسلمين الأكثرية - على غير دراية بفلسفة هذا الدين في إقامة المجتمعات وإنشاء الحضارات مما يجعل رؤيتهم للحياة كثوب ضم سبعين رقعة مختلفة الأشكال والألوان.
وبإمكان المسلم من خلال نظرة سريعة في بعض النصوص أن يتعرف وجهة الشريعة في هذا، وإليك حديث السفينة الذي وضع النقاط على الحروف في هذه المسألة بصورة مدهشة، فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:»مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم. فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن اخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً« [رواه البخاري ].
إن هذه السفينة تمثل المجتمع الإسلامي الذي توحدت عقائده وتوحد اتجاه سيره وتوحدت غاياته والمخاطر والتحديات التي تواجهه، وإن القائم في حدود الله تعالى هو تلك الفئة الصالحة الملتزمة بشرع الله الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر، وإن الواقعين فيها هم أولئك الذين ينتهكون حرمات الله من ترك الواجبات والوقوع في المحرمات، والحديث يقرر أن ما يتوهمه بعض الناس من خصوصياته ليس كذلك كما أن الذين احتلوا أسفل السفينة كانوا واهمين قي ظنهم أن لهم الحرية الكاملة في التصرف في أرض السفينة.
وذلك لأن تصرفهم فيها بخرقها يمس مصالح الذين فوقهم بل مصائرهم. ولنضرب لما يتوهمه بعض الناس من خصوصياتهم مثلاً من حياتنا المعاشة حيث وقع في خلد كثير من الناس أن الصلاة عبادة بدنية تعبر عن صلة خاصة بين العبد وربه، وأن المقصر في أدائها لا يؤذي جاراً ولا ينتهك لمجتمعه حرمة، وبذا تكون الصلاة من المسائل الخاصة بالمرء، يؤديها كلما حلا له ذلك، ويتركها كلما عنَّ له ذلك، ومن ثَمَّ فإن مساءلة الناس له عنها يعد ضرباً من الفضول الذي ينفر منه ذوق الإنسان المعاصر ذي الإحساس المرهف والرسوم الاجتماعية الدقيقة.
ولكن الأمر في نظر الشريعة الغراء ليس كذلك إذ إن فقهاء الأمة مجمعون على أن الصلاة ليست من خصوصيات الإنسان التي يقف المجتمع المسلم تجاه تاركها صامتاً غير مبال ولا مؤاخذ، لذلك رأى بعض الفقهاء أن تاركها (كسلاً) مقراً بفرضيتها يقتل كفراً، وبعضهم قال يقتل حداً، وبعضهم ذهب إلى أنه يسجن إلى أن يصلي، وهم في هذا يصدرون عن فهم صحيح لطبيعة عمل هذا الدين في تسيير دفة الحياة الاجتماعية، لأن المعصية حين تشيع في الناس يستوجبون نزول العقوبة وذهاب الريح، ولا تشيع الفاحشة إلا حين يغض المجتمع الطرف عنها وطالما أجهض الجهد الإنساني الضخم في إعمار الأرض بسبب التقصير في جانب العبودية لله تبارك وتعالى وشواهد الماضي والحاضر ناطقة بذلك، وكيف لا والله تعالى يقول: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ)) [الأنفال / 50]. وكيف لا والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول مجيباً لمن سأله: أنهلك وفينا الصالحون ؟: »نعم إذا كثر الخبث« [أخرجه الشيخان ].
نعم إن الأمن حين يضطرب حبله لا يضطرب على الطالحين وحدهم، وإن الأسعار حين تغلو لتفوق طاقة الناس لا ترتفع بالنسبة للطالحين فقط، وإن العدو حين يستبيح الحمى لا يستثنى أحداً وهكذا...
وإذا كان أصحاب الأهواء والشهوات لا يبصرون أكثر من مواقع أقدامهم ولا يعبأون بحاضر ولا مستقبل فإن على المجتمع أن يتحمل المسؤولية تجاه حاضره ومستقبله وآخرته.
الهوامش:
1 - أخرجه الترمذي وحسنه.
===============
أسباب نجاة الأمة (1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين صلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد،(1/262)
فإن الله سبحانه وتعالى حكمته أجرى الامتحان والابتلاء على بني آدم من أول الخلق إلى أخره أولهم أبوهم أدم عليه السلام وما جرى له من المحنة والابتلاء مع عدوه إبليس الذي حسده وتكبر عليه ماذا حصل لآدم عليه السلام وزوجه حواء عليها السلام ثم إن الله سبحانه وتعالى وفق الأبوين للتوبة والرجوع على الله عزّ وجل فال ربنا ظلمنا نفسنا وإن لم تغفر لنا فارحمنا لنكونن من الخاسرين تاب الله عليهما تلقى آدم من ربه كلمات وتاب عليه إنه هو التواب الرحيم لكن بعد الابتلاء والامتحان وكذلك توالت المحن على بني آدم عبر القرون بين الرسل وأتباعهم وبين أعدائهم من الكفار والمنافقين شياطين الإنس والجن وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفا بربك هادياً ونصيراً ولكن الرسل وأتباعهم من المؤمنين ثبتوا على الحق فأنجاهم الله سبحانه وتعالى ثم ننجي رسلنا والذين امنوا كذلك حق علينا ننجي المؤمنين ننجي رسلنا والذين امنوا غير الرسل لا ينجوا إلا بالإيمان ثم أكد ذلك بقوله تعالى وكذلك ننجي المؤمنين قال تعالى :
__________
(1) - محاضرة بثت في قناة المجد بتاريخ 27 /11/2004
وكان حقاً علينا نصر المؤمنين بهذا الوصف وصف الإيمان فإذا تمسك المؤمنون بإيمانهم وثبتوا على دينهم نجاهم الله سبحانه وتعالى من الفتن وجعل العاقبة لهم على مدار الأزمان إلى أن تقوم الساعة والدنيا دول والحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذه سنة الرحمن وهذه حكمة الله جلّ وعلا من أجل أن يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق وحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم وليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم يا أيها الذين امنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فلا نعجب في هذه الأيام من تطاول الكفار والمنافقين على أهل الإيمان وعلى أهل الإسلام لا نعجب هذه سنة الله جلّ وعلا في خلقه ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون لا نعجب إذا حصل للمسلمين في هذا الزمان من أعداء الله من الكفار اختلال في توجهاتهم ومحنهم ومن المنافقين والذين في قلوبهم مرض من الذين يدعون الإسلام أن حصل على المسلمين ما ترونه وتسمعونه من الابتلاء والامتحان ولكن لابد من الصبر ولابد من الاحتساب والعاقبة للمتقين لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذاً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وفي آية أخرى وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيء إن الله بما يعملون محيط بهذا الشرط صبر والثبات وعدم التنازل عن شيء من الدين لأجل إرضاء الكفار والمنافقين مهما كلف الأمر ومهما بلغ الثمن لابد من الثبات ولابد من الصبر كما قال جلّ وعلا وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون.(1/263)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند هذه الآية بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين لما صبروا وكانوا بآياتنا يقيمون بالصبر واليقين تنال الإمامة والدين أما بدون صبر بدون يقين فإن الإمامة صعب منالها ونبينا صلى الله عليه وسلم في أخر حياته وعظ الناس كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وزرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإن من يعش منكم فسيرى اختلاف كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم بمحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية أوصانا بتقوى الله وهي كلمة جامعة تجمع خصال الخير كلها والتقوى معناها أن تجعل بينك وبين من تخاف وقاية تقيك منه وقاية تقيك من المحذور فاجعلوا بينك وبين الرمضا وقاية تقي رجلك وبينها و بين الشوك وقاية تجعل بينك وبين السلاح وقاية تقيك منه تجعل بينك وبين الحر والبرد وقاية تقيك منه هذا في الأمور المحسوسة وكذلك تجعل بينك وبين غضب الله وعقابه وبين النار وقاية لتقوى الله جلّ وعلا بفعل أوامره وترك نواهيه لا يقيك من عذاب الله ومن غضب الله ومن النار لا تقيك الدروع والحصون والجنود والثياب وإنما يقيك تقوى الله سبحانه وتعالى بفعل أوامره وترك نواهيه ثم قال و السمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد من أسباب النجاة أن الأمة تطيع وتسمع لولي أمرها حتى يكون لها جماعة يكون لها دولة يكون لها قوة يكون لها جنة تتقي بها الأعداء الجماعة والاجتماع بين المسلمين واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ولا تتم الجماعة إلا بقيادة إلا بإمامة ولا تتم الإمامة والقيادة إلا بسمع وطاعة لولي الأمر ما لم يأمر بمعصية الله وإن تأمر عليكم عبد مهما كان هذا الأمير حتى ولو كان ليس له نسب عربي ونسب قبلي ولو كان عبداً مملوكاً أو معتقاً أو ليس له نسب عربي العبرة ليست هي بالنسب العبرة بالمنصب فولي الأمر يطاع ولي أمر المسلمين يطاع مهما كان لأن هذا من مصلحة المسلمين من جمع الكلمة السمع والطاعة السمع لولي الأمر والطاعة لولي الأمر إلا ما استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله صلى الله عليه وسلم :
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فهو لا يطاع في المعصية وإنما يطاع في ما عدى المعصية ليس معنى أنه إذا أمر بمعصية إننا نخرج عليه ونشق العصا لا لا نطيعه في تلك المعصية ولكن نطيعه في الأمور الأخرى التي ليس فيها معصية ثم بينت صلى الله عليه وسلم بين صلى الله عليه وسلم ما يكون في المستقبل وأن الأمة بحاجة إلى هذه الوصية وهي السمع والطاعة لولي الأمر فقال فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين هذا سبب أخر من أسباب النجاة السبب الأول السمع والطاعة لولي الأمر ولأمر المسلمين السبب الثاني التمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم تمسك في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال اختلافاً كثيراً وليس اختلافاً يسيراً وإنما كثير وكثير ولا ينجي الأمة من هذا الخلاف إلا التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه خلفائه الراشدون بل وما كان عليه المهاجرون والأنصار والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار هذا هو السبب الثاني التمسك لما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيحصل اختلاف وافتراق قال افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة افترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستختلف هذه الأمة على ثلاثاً وسبعين فرقة أكثر من الأمم السابقة ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قلنا من هي يا رسول الله قال:(1/264)
من كان على ما أنا عليه وأصحابي ما أنا عليه وأصحابي فلا ينجي من فتنة الاختلاف في كل وقت ولا سيما في أخر الزمان لا ينجي إلا التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما كان عليه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه هذا هو الذي ينجي من النار ولذلك سمت فرقة أهل السنة والجماعة سميت الفرقة الناجية من أي شيء من الفتن والناجية من النار يوم القيامة هي الناجية وما عداها فإنه لا ينجوا كلها في النار إلا واحدة كلها في النار لمخالفتها وافتراقها إلا من ثبت إلا من ثبت على الحق ولا يحصل الثبات على الحق وعلى سنة الرسول الصحابة إلا بالعلم النافع كيف تثبت على شيء وأنت تجهله لا بد نتعلم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه هو وأصحابه حتى نثبت عليه ونتمسك به وقال حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني شوف كنت أسأله عن الشر مخالفة أن يدركني يطلب من الرسول أن يبين له ما يحصل من الشر في المستقبل حتى يكون على علم منه وحتى يسلم منه وهذا لا يحصل عفواً يحصل إلا بالعلم أسأله تعلم هذا أسأله عن الشر مخالفة أن يدركني فلما بين له صلى الله عليه وسلم ما يحصل بعده من الاختلافات المتكررة قال له حذيفة ما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك قال أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ولا تذهب مع الفرق تطير مع الفرق الطائشة بل عليك بالثبات عليك بالتأني عليك بالفقه في دين الله عليك بالنظر إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فتأخذ به عليك بالسمع والطاعة لولي أمر المسلمين وتكون مع جماعة المسلمين قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت يا رسول الله فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فاعتزل تلك الفرق كلها اعتزل كل الفرق كلها ما دام ليس لهم جماعة ولا إمام ثابتون على كتاب الله وسنة رسوله فاعتزلها كلها لأن كلها على ضلال ولا تكن معها ولو أن تغض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت حتى يأتيك الموت أما ما دام يوجد للمسلمين جماعة وإمام فلا تنفرد كن مع المسلمين مع جماعة المسلمين حتى تنجوا وتسلم كذلك من أسباب النجاة التمسك بعقيدة التوحيد وإفراد الله جل وعلا بالعبادة وتجنب الشرك تجنب الشرك الأكبر والأصغر هذا هو أصل العقيدة وهذا هو أصل النجاة من النار لن تمسك به قال تعالى : الذين أمنوا ولم يلمسوا إيمانهم بظلم أولائك لهم الأمن وهم مهتدون أمنوا الإيمان هو التوحيد لعبادة الله وترك عبادة ما سواه ولم يلبسوا إيمانهم أي توحيدهم بظلم أي بشرك لأن الشرك إذا خالط التوحيد أفسده لا يستقيم التوحيد مع وجود الشرك أبداً ضدان لا يجتمعان لا يجتمع توحيد وشرك أكبر أما شرك أصغر يمكن لكن توحيد وشرك أكبر لا يمكن أن يجتمع أبداً ولم يخلطوا إيمانهم توحيدهم بشيء بظلم بشرك كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم لما أشكلت هذه الآية على الصحابة وقالوا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه قال إنه ليس بالذي تعنون إنه الشرك أما سمعتم قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم فالمراد في الظلم في هذه الآية الشرك فمن سلم من الشرك حصل له الأمان في الآخرة والدينا وحصلت له الهدايا بأن يكون على الحق قال سبحانه وتعالى وعد الله الذين أمنوا منكم وعلموا الصالحات أمنوا شوف أمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ولا يمكن لهم يدنهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا بهذا الشرط لا تحصل هذه المطالب العظيمة إلا بهذا الشرط يعبدونني ولا يشركون بي شيئا فإذا حصل هذا الشرط وهو عبادة الله وترك عبادة ما سواه حصلوا على هذه الوعود الكريمة من الله سبحانه وتعالى يستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم يبدلنهم من بعد خوفهم أمنا مقاصد عظيمة التحصل إلا بالتوحيد وهو عبادة الله جل وعلا وترك عبادة ما سوا هذا هو التوحيد إفراد الله جل وعلا بالعبادة وكذلك تجنب البدع لأن البدع بريد التوحيد بريد الشرك البدع بريد الشرك توصي إلى الشرك ولهذا قال صلى الله عليه وسلم وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وفي رواية وكل بدعة وكل ضلالة في النار فكما نتجنب الشرك نتجنب البدع وتجنب الشرك هو معنى لا آله إلا الله لا آله إلا الله معناها إفراد الله جل وعلا بالعبادة وترك عبادة ما سوا هذا هو معنى لا آله إلا الله ومعنى محمد رسول الله ترك البدع لأن الرسول هو الذي جاءنا ببيان الحق والدين فنحن نعبد الله على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك لنا شيء فيه خير إلا بينه لنا ما ترك شيئاً فيه شر إلا بينه لنا عليه الصلاة والسلام .(1/265)
فهذا من أعظم أسباب نجاة الأمة تمسكها بالعقيدة تمسكها بالتوحيد تجنبها للشرك تجنبها للبدع والمحدثات هذه أسباب بل هو الأصل أصل الأسباب هو التوحيد وتجنب الشرك وتجنب البدع والمحدثات في الدين وكذلك من أسباب النجاة نجاة الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر المعروف والنهي عن المنكر هو أعظم أسباب نجاة الأمة فمادام الأمر بالمعروف لا يعني المنكر موجودين فإن الأمة تنجوا وإذا تركت الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هلكت كما ذكر الله لنا في قصة بني إسرائيل لما اعتدوا في السبت لما اعتدوا في السبت ونهاهم الصلحاء عن عدوانهم فلم يمتثلوا وسكت من جماعة من الصلحاء لم ينهوهم بل قالوا لما تعظون قوم الله مهلكهم أو معذبهم عذاباًَ شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون قال الله جل وعلا قال الله سبحانه وتعالى فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين قال سبحانه وتعالى وأسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذا يعدون في السبت اعتدوا في أي شيء في السبت يوم السبت على صيد الحيتان فقد نهاهم الله تعالى عنه لكن احتالوا عليه بوضع الشباك التي تمسكه لهم إلى يوم الأحد ثم يأخذونه يوم الأحد ويظنون أنهم ما اعتدوا عملوا حيلة على حرمات الله فقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين وأسألهم عن القرية التي كانت حاصرة في البحر إذا يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرع هذا من الابتلاء يوم السبت تكثر الحيتان يشوفنه فتغريهم في الصيد إبلاء وامتحان ويوم لا يثبتون لا تأتيهم إبلاء وامتحان كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وإذ قالت أمة منهم لما تعظون قوماًُ الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به ما قبلوا النصيحة نسوا ما ذكروا به لما يقبلوا النصيحة فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلم ينج إلا الذين أنكروا المنكر فلا نجاة لهذه الأمة إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكما مثل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر والذين لا يأمرون ولا ينهون شبههم صلى الله عليه وسلم بقوم استهموا على سفينة استهموا يعني اقترعوا عملوا القرعة أيهم يكون في أعلى السفينة وأيهم يكون في أسفلها استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها فقال الذين في أسفل السفينة لو خرقنا في نصيبنا خرقاً نأخذ منه الماء ولا نؤذي من فوقنا سفاها يعني يخرقون السفينة وهي في عباب البحر لو خرقنا في جانبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ما هم راجعين لأهل العلم وأهل الفضل وأهل التقى بل يبون يمسون على رأيهم وهذا مثل من وقع في المنكر قال صلى الله عليه وسلم مثل القائم على حدود الله وهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر مثل القائم على حدود الله والواقع فيها وهم الذين يعملون المنكرات كمثل قوم استهموا أي اقترعوا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها هذا هو الطيب هو الزين وأصاب بعضهم أسفلها وكان الذين في الأسفل إذا أرادوا الماء يصعدون ويأخذون الماء من فوق فقالوا ما هو لازم نرجع ونؤذي من فوقنا نخرق في نصيبنا حرقاً ونأخذ الماء من عندهم فلما خرقوه يعني لو خرقوه لخرقت السفينة بالجميع فإذا أخذ الذين في أعلى السفينة على يد الذين في أسفلها ومنعوهم من الخرق نجوا جميعاً ولو تركوهم يخرقون لهلكوا جميعاً كذلك هذا مثال واضح أن أهل المعاصي وأهل الفجور وأهل الشهوات لو تركوا لأهلكوا الأمة فلا بد أن أهل الحلم وأهل الرأي وأهل الدين لا بد أن يأخذوا على أيديهم حتى ينجوا المجتمع كله من عذاب الله فإن تركوهم في المعاصي والمخالفات والشهوات هلك الجميع الصالح والطالح واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وأعلموا أن الله شديد العقاب العقوبة إذا نزلت على العصاة فإنها تأخذ الصالح والطالح إلا من أنكر فإنه ينجوا وأما لم ينكر فإنه يهلك ولو كان صالحاً يهلك مع الهالكين كما سمعتم في قصة أصحاب السبت الذين سكتوا ما ذكر الله عنهم شيء إنما ذكر الذين ينهون عن السوء أنجينا الذين ينهون عن السوء أما الفريق الثاني الذي قالوا لماذا تنصحون أتركوهم الله جل وعلا سكت عنهم فلا يدرى هل هم من الناجين ولى مع الهالكين والظاهر أنهم مع الهالكين ولما قرأ رسول الله صلى الله علبيه وسلم قوله تعالى : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون سبب اللعنة أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه فلعنهم الله جميعاً قال صلى الله عليه وسلم كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما(1/266)
لعنهم كثير من الناس يلقون بالمسؤولية على غيرهم الأمر بالمعروف يقولون الشرع على فلان فلان هو اللي الهيئة فلان نعم الهيئة عليها هيئة الأمر بالمعروف والنهي على المنكر عليها واجب عظيم وهذا عملها لكن أيضاً أنت عليك مسؤولية كل مسلم عليه مسؤولية من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقله وذلك أضعف الإيمان أما أن تقول أن هذا ما هو بعلي هذا على الهيئة فقط وتدلس تكون مع الناس ولا تنكر ولا تنهى ولا تنصح ولا تدعو إلى الله ولا تعظ ولا تذكر هذا هلاك من لم يستطع فبلسانه من لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ثم أنت عليك واجب أيضاً عليك أهل بيتك يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة الهيئة ما تدري عن الذي في بيتك ولي الأمر ما يدري عن الذي في بيتك أنت المسؤول عن الذين في بيتك من النساء والضيوف أنت المسؤول لأن الناس ما يدرون عن الذين في بيتك فأنت المسؤول قد قال صلى الله عليه وسلم كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الأمير راع ومسؤول عن رعيته وصاحب البيت راع ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشترك لا يعفى عنه مسلم لكنه بحسب الاستطاعة من رأى منكم منكراً فليغيره بيده صاحب البيت يغير باليد له اليد على أهل بيته له اليد على أهل بيته الله أعطاك اليد على أهل بيتك تغير بيدك تخرج المنكر من بيتك تضرب تؤدب في بيتك ولا أحد يعترض عليك لأنك راع على أهل بيتك تقول لا هذا على الهيئات تخلي بيتك يخرب وتقول هذا على الهيئات هذا غلط عظيم فعلى المسلمين أن يقوم كل منهم بما ولاه الله فراعي البيت مسؤول عن أهل بيته مدير المدرسة مسؤول عن مدرسته وما فيها من أسرة التدريس والطلاب مسؤول عنهم مدير الإدارة مسؤول عن الموظفين الذين يتبعون كل واحد عليه مسؤولية يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة أما أنه كل يسكت ويدلس ويقول الشرع على فلان لا يا أخي فلان نعم عليه مسؤولية لكن أنت عليك مسؤولية فلا بد من هذا الأمر هذا هو سبيل النجاة للأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يقوم كل واحد من المسلمين بما يستطيع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتركه وهو يستطيع أبداً حتى ولو في قلبه ما أحد يعجز أن ينكر المنكر بقلبه أبداً يعني يكره المنكر ويبتعد عنه ويبتعد عن أهله ما أحد يعجز هذا نعم يعجز عن اليد يعجز عن اللسان لكن القلب ما أحد يعجز عن إنكار المنكر بقلبه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل فالذي لا ينكر المنكر بقلبه ليس بمؤمن ليس في قلبه ولا حبة خردل من الإيمان إذا رضي بالمنكر ولم ينه عنه ولكم يكرهه في قلبه فليس فيه إيمان ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل فهذه أسباب مجملة أسباب النجاة نجاة الأمة أولاً السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف ثانياً التمسك بالكتاب والسنة واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتغرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ثالثاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل بحسب استطاعته ومقدرته وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان كذلك من أسباب نجاة الأمة أيضاً التآخي والمحبة بين المسلمين المسلم للمسلم كالجسد الواحد المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى تناصح بين المسلمين الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال :(1/267)
لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم المحبة بين المسلمين قال صلى الله عليه وسلم لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم الإصلاح بين المسلمين لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون وكذلك من أسباب نجاة الأمة زوال البغضاء بينها وزوال السخرية بعضهم من بعض يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم هذه أسباب النجاة أن يكون المجتمع نزيهاً متحاباً في ما بينه لا يغش المسلم لا يغش أخاه في المعاملة ولا يخدعه في البيع ولا يخطب على خطبته ولا يبع على بيعه ولا يشتري على شرائه يحترم أخاه المسلم أخو المسلم لا يحقره ولا يخذله بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه هكذا هذه أسباب النجاة .(الفوزان)
============
الترف
قال تعالى في سورة المؤمنون ( حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ {64} لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ {65} قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ {66} مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ {67} (
. والمترفون أشد الناس استغراقا في المتاع والانحراف والذهول عن المصير . وها هم أولاء يفاجأون بالعذاب الذي يأخذهم أخذا ، فإذا هم يرفعون أصواتهم بالجؤار ، مستغيثين مسترحمين [ وذلك في مقابل الترف والغفلة والاستكبار والغرور ] ثم ها هم أولاء يتلقون الزجر والتأنيب:
لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون . .
وإذا المشهد حاضر ، وهم يتلقون الزجر والتأنيب ، والتيئيس من كل نجدة ومن كل نصير ، والتذكير بما كان منهم وهم في غمرتهم مستغرقون: قد كانت آياتي تتلى عليكم ، فكنتم على أعقابكم تنكصون فتتراجعون على أعقابكم كأن ما يتلى عليكم خطر تحاذرونه ، أو مكروه تجانبونه ، مستكبرين عن الإذعان للحق . ثم تزيدون على هذا السوء القول وهجره في سمركم ، حيث تتناولون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وما جاء به بكلمات السوء . (الظلال)
===============
الترف .. وخطره على الدعوة والدعاة
فيصل البعداني
إن زينة الحياة الدنيا وشهواتها أخذت بألباب وعقول أفراد من الأمة حتى عبدوها وأصبحوا يرون في تعاليم الإسلام وأحكامه ما يفسد عليهم متعتهم بها فصاروا يحاربون تعاليم الإسلام والداعين إليه ، ويقفون في وجه كل دعوة جادة إلى الإسلام تريد إعادة الأمر إلى نصابه ، وتقوم ببيان خطر الاغترار بالدنيا ، منبهة إياهم إلى ما أحدثه من آثار سلبية كثيرة على دينهم ودنياهم .
وشباب الصحوة الإسلامية بعامة والدعاة إلى الله (سبحانه) بخاصة ، جزءٌ من أفراد المجتمع الإسلامي يصيب بعضهم - سواء أكان ذلك في حياتهم الشخصية والاجتماعية أو في البيئة الدعوية التي يعملون من خلالها - ما يوجد في مجتمعاتهم من أمراض وأدواء ، ومن ذلك وجود ظاهرة الترف والرفاهية الزائدة في حياة بعضهم ، وانشغالهم بذلك عن تربية أنفسهم والقيام بواجبهم تجاه دينهم وأمتهم ، بل إن الأمر لدى أولئك تجاوز حد التشاغل إلى مرحلة التساقط عن الطريق وترك الطاعة ومبارزة الله (تعالى) بالمعاصي .
وهذه محاولة لمعالجة تلك الظاهرة ببيان حقيقتها ، وإيضاح موقف الشرع منها، وإبراز مظاهرها ، وتحليل أسبابها وبيان خطورتها وآثارها ، مع محاولة تقديم وصف لعلاجها ، عَلَّ الله (سبحانه وتعالى) أن يوفقنا إلى تلافيها وتجاوز آثارها .
حقيقة الترف :
جاء في القاموس : التُّرفة : النعمة والطعام الطيب ، والشيء الظريف تخص به صاحبك ، والمترف كمكرمَ : المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع ، والمُتَنَعَّمُ لا يمنع من تنعمه [1] .
والمراد بالترف في هذا المقال : مجاوزة حد الاعتدال بنعمة أو الإكثار من
النعم التي يحصل بها الترف [2] ، وعليه فإن المترفين هم : الذين أبطرتهم النعمة
وسعة العيش ، الحريصون على الزيادة في أحوالهم وعوائدهم ، الساعون إلى بلوغ(1/268)
الغاية في حاجات الذات الحسية من مأكل ومشرب ومسكن ومركب .. الخ ، ومع أن
الترف قائم على الغنى ومبني عليه إلا أنه ليس بلازم له ، فكم من غني وهو بخيل، يعيش هو وأهله عيشة البؤساء والمعوزين ، وكم من فقير حرص على توفير النعم
وتحصيل ملذات الحياة وشهواتها من أي سبيل ! !
موقف الإسلام من الترف :
ورد ذكر الترف في القرآن الكريم في ثمانية مواضع كلها في موضع الذم له والتحذير منه ، كما ورد العديد من الأحاديث النبوية التي ينهى بعضها عن الترف جملة وتحذر من تعلُّق القلب به ، وغلو الإنسان في الانغماس في متع الحياة وملذاتها، وبعضها الآخر ينهى عن مظهر من مظاهر الترف ، ويحث على تركه والانصراف عنه إلى ما هو خير في الدارين .
فمن الآيات : قوله (تعالى) : ? وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ? الإسراء : 16] ، وقوله (تعالى) : ? حَتَّى إذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إذَا هُمْ يَجأرُونَ ? [المؤمنون : 64] ، وقوله (سبحانه) : ? وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ? [الزخرف : 23] .
ومن الأحاديث ما رواه عمرو بن عوف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم) [3] ، وما رواه عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة) [4] .
ودعوة الإسلام إلى ترك الترف ، ومحاربته له ، لا تعني ترك النعم والملذات، وإنما المراد الاقتصاد في الإنفاق وعدم تعلق القلب بها والركون إليها ، وإلا فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي حذر من الترف وأحوال المترفين قد قال : (إن الله جميل يحب الجمال ، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس والتباؤس) [5] وقال -صلى الله عليه وسلم- لوالد أبي الأحوص : (فإذا آتاك الله
مالاً فليُرَ أثر نعمة الله عليك وكرامته) [6] ، وقد كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- : (اللهم أصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي) [7] .
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه عندما ذكروا عنده الدنيا : (ألا تسمعون ، ألا تسمعون : إن البذاذة من الإيمان ، إن البذاذة من الإيمان ! ) [8] ، فالمراد به : التواضع في اللباس وترك التبجح به [9] ، وعدم غلو الشخص في الاهتمام بمظهره حتى يشار إليه بالبنان .
مظاهرات الترف :
للترف مظاهر كثير ، من أبرزها ما يلي :
* الإفراط في تناول الطعام والشراب وتوفير متطلبات النفس مما لذ وطاب ، مما جعل الجم الغفير من الناس - دعاة وغيرهم - يعانون بسبب ذلك من السمنة وكثيرٍ من الأمراض الناشئة عن التخمة .
* جعل المال في الملابس الراقية ، والاكتفاء بلبس الجديد والفاخر ، حتى كثرت بسبب ذلك الملابس غير المستخدمة في المنازل ، وتكدست مع وجود تنوع في الاستعمال حسب تعدد فصول العام ، واختلاف أوقات اليوم ، ويبرز الترف في هذا الجانب لدى النساء .
* صرف الأموال الكثيرة في السيارات والحرص على ضخامتها وتعددها حسب أحجامها وأنواعها ، وتسليم بعضها لمراهقين يستخدمونها - غالباً - في غير ما وضعت له .
* صرف الأموال الضخمة في بناء المنازل والدور ، والتباهي في إعدادها وتصاميمها البديعة في الشكل الخارجي والداخلي ، مع الحرص على تعدد مواقعها فبعضها للشتاء والآخر للصيف ، وبعضها للسكن وبعضها للنزهة ، ومع الحرص على سعتها وكثرة غرفها ووجود ملحقات لها ووفرة وسائل الترفيه فيها مع أن الذي يكفي الإنسان من ذلك الشيء القليل .
* نعومة الأجساد وطراوتها وترهل الأطراف ونعومتها والتهاون أثناء أداء الأعمال مما أدى إلى أمراض حديثة ولدتها هذه الظواهر .
* الاستكثار من وسائل الزينة والاعتناء الزائد بالنفس ، والإفراط في التدهن والتطيب والترجيل للشعر ، ونحو ذلك من أمور الناس حتى إن بعضهم ليزيد إنفاقه على زينته وبعض مظاهر الترف الأخرى على دخله ، مما يضطره إلى الاقتراض أو إلى تعاطي أمور أخرى لا تحمد عقباها .
* جعل المال في الفرش الوثيرة والأواني الفاخرة والمتاع الراقي ، أو الإكثار من ذلك - وإن لم يكن الشيء غالي الثمن - كثرة تقصر معها أيام العمر وتأبى أن تتسع للعبد لكي ينتفع بها ويستخدمها .
* عدم قيام الإنسان بحاجاته الذاتية والاجتماعية التي يتمكن من القيام بها والمجيء بالخدم رجالاً ونساء ، لكي يقوموا بذلك من غير حاجة وإنما رغبة منه في ترفيه نفسه وتقديم الراحة لأهله وأولاده ، وحباً منه في التفاخر والتباهي والظهور بمظهر المتميز أمام بقية أفراد المجتمع .(1/269)
* كثرة استخدام وسائل الترويح عن النفس من مزاح وألعاب ونزهة وزيارات كثيرة تخرج بالترويح عن الأمر الذي شرع له ، وتصبح في حياة كثير من الناس كأنها هي الأصل والجد هو الفرع .
* ضياع الأوقات وانتشار البطالة في حياة بعض من الدعاة والمصلحين ، حيث تكثر ساعات نومهم ويتتابع فناء أعمارهم دون أن يقضوا شيئاً منها في أمر ينفعهم في دينهم أو دنياهم .
* التعلق بالتوافه ، وضعف التفكير ، وغياب القدرة على النقد البناء ،وانتشار التقليد ، والتسرع في الحكم على الأشياء بناءً على ظواهرها ، وإمكانية التلاعب بالشخص واستدراجه إلى ما يراد من قبل الآخرين بيسر وسهولة وبدون عناء أو مشقة .
* عدم الحرص على الطاعة ، والتواني عن القيام بما يقِّرب في الآخرة سواء أكان ذلك فيما يتعلق بذات الشخص كصلاة النفل وصيام التطوع ، أو فيما يتعلق بشؤون الدعوة ، إذ تكثر عند التنفيذ المشاغل وتتعدد المبررات للتقاعس عن العمل أو التأخر في أدائه ، وفي المقابل توجد - لدى ذلك الصنف - عجله في تحصيل وسائل الترف ، وسرعة في تحقيق مطلوبات النفس وشهواتها .
* تتبع أقوال أهل العلم للأخذ بالأيسر منها ، ويرجع ذلك إلى أن كثرة النعم تقود إلى الدعة والراحة ، وتلك تقود إلى اقتحام سبيل الشهوات والانغماس في الملذات ، التي قد لا يجد العبد متنفساً له فيما أحل الله فيقرر الأخذ بما يراه حراماً ، ولكن لكي يزيل الحرج عن نفسه ، ويدفع عنه لوم الآخرين - إن وجد - يقوم بتتبع أقوال أهل العلم في الأمر الذي قرر إتيانه إلى أن يجد له عالماً في القديم أو الحديث يقول بجواز فعله ، فيفرح به ويبدأ بإعلانه ونشره لا اعتقاداً بصحة ذلك القول والرغبة في إذاعته ، ولكن حباً في رفع الحرج عن النفس نظراً لموافقة ذلك القول لما قد عزمت نفسه على فعله .
أسباب الترف :
لانشغال بعض المنتسبين إلى الدعوة بالترف أسباب عديدة ، منها :
1- طول الأمل ونسيان الموت :
الانشغال بمتاع الدنيا وشهواتها ناتج عن طول الأمل ونسيان الإنسان كونه في رحلة إلى الدار الآخرة تكتمل بنزول ملك الموت لقبض الروح ، ونظراً لخطورة تلك الغفلة عن ذلك المصير وما تنتجه من ضعف الخوف من الله (تعالى) وقلة الخشية له ، وبالتالي عدم المحاسبة للنفس والمراقبة لعملها ، قال (عز رجل) محذراً من ذلك : ? ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ? [الحجر : 3] ، وقال -صلى الله عليه وسلم- موصياً ابن عمر : (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) [10] ، (وذلك لأن الغريب لا تعلق له ببلد الغربة ، ولا تشاغل لديه بملذاتها وملهياتها ، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه) [11] (والمسافر لا هم له في الاستكثار من متاع الدنيا أثناء قطعه لمنازل السفر ، وإنما يكتفي بتحصيل زاد السفر له ولراحلته لا غير) [12] .
2- عدم موازنة الإنسان بين جوانبه المختلفة :
الانغماس في زهرة الحياة وبهارجها ناتج عن تغليب الإنسان لمتطلبات ، جسده من مأكل ومشرب وملبس ومركب ومسكن ووسائل ترويح … الخ وإغفاله لمتطلبات مهمة أخرى من عقل وروح ، وعدم قيامه بالأخذ بالهدي النبوي الرشيد الداعي إلى الموازنة بين تلك الجوانب المختلفة ، روى البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الله بن عمرو حين -علم بمغالاته في العبادة : (ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ، فقلت : بلى يا رسول الله ، قال : فلا تفعل صم وأفطر ، وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقاً ، وإن لعينك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً ، وإن لزورك عليك حقاً) [13] .
وروى البخاري أيضاً (أن نفراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوا عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، وقالوا : أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فقال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبداً ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني) [14] .
3- حب التقليد أو التأثر بضغوط الواقع :
يرغب بعض الدعاة في أن يكون ابن بيئته - كما يقولون - فيرى أنه لابد له من الظهور بالمظهر اللائق به مطعماً ومشرباً ومركباً ومسكناً وخدماً وترفيهاً فيضطر لكي يصل إلى ذلك الهدف إلى تقليد المترفين في بيئته ممن لا خلاق لهم مباهاةً وتفاخراً وحباً في مساواتهم في أحوالهم ومعاشهم ، إن لم يصل به الأمر إلى حد الرغبة في التفوق عليهم وتجاوز ما هم فيه من ترف .(1/270)
وهذا مرض داخلي يوجد لدى بعض الدعاة ، وقد يكون الأمر على العكس من ذلك فلا يوجد لدى ذلك الداعية رغبة ذاتية في الترف ، لكن أفراد مجتمعه الذي يعيش فيه من أقارب وأصحاب - ممن رفعوا شأن زخرف الحياة وصارت شهوات الدنيا وملذاتها في نظرهم قيمة يقاس الإنسان نجها ؛ فبمقدار ضخامة منزل الشخص وكثرة خدمه وعدد مراكبه وبذخه في مأكله ومشربه وملبسه : تكون مكانته
ومنزلته - يدفعونه إلى ذلك دفعاً من خلال المطالبة بإلحاح شديد من قِبَلِ الأهل والأقارب بتوفير وسائل الترف ، أو من خلال النقد الجارح واللوم اللاَذعَ من الأصحاب على ما يسمونه بحرمان النفس من خيرات الله (تعالى) ونعمه التي لا تعد ولا تحصى ، بل إن المطالبة واللوم قد يصحبهما سوق العديد من المبررات التي يجدها الداعية تحت ضغط الواقع الشديد مقنعة نوعاً ما فتتغير نظرته شيئاً فشيئاً إلى أن تزول قناعاته السابقة فتتبدل حاله ، ويصبح في غالب أمره كسائر أفراد مجتمعه .
4- ضعف التربية :
من أبرز أسباب الترف ضعف التربية وضعف التوجيه الجاد والمناسب للشباب من قبل بعض المربين في كيفية التعامل مع فتنة الحياة الدنيا وزخرفها وما نتج عن ذلك من عدم تربية النشء على الجَلَدَ والخشونة بذريعة الخوف من انفراط اجتماع الطلاب حول المربي والخشية من انصرافهم عنه بالكلية !
5- كثرة المال ووفرة النعم :
زيادة المال ووجود النعم ووفرتها تكون أحياناً من أكبر دواعي الترف وأسبابه، وذلك لأن المال يعمي ويصم ، ويدعو إلى الركون والمتعة والراحة ويدفع صاحبه إلى البذخ والإنفاق في غير حاجة ، وقد أوضح الله (تعالى) في كتابه هذه الحقيقة في آيات ، منها قوله (تعالى) : ? كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ? [العلق :
6-7] ، ومن أجلى صور الطغيان وأوضحها البطر بالنعمة والإنفاق في غير حاجة ترفاً ومباهاة وحباً للظهور .
يقول (سبحانه) على لسان المترفين الذين أبطرتهم النعمة : ? وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ? [سبأ : 35] ، فكثرة الأموال قادتهم إلى الترف والبطر والكبر ، وتلك الأمور جرتهم إلى تكذيب الحق ، ورفض قبوله والإذعان له. ويزداد تأثير كثرة المال ووفرة النعم على الإنسان وجره إلى الترف وغاية الرفاهية حين يكون مولوداً في النعم ، لم تمر به حالات بؤس ، ولم يعرف شدة البلاء ومعاناة الفقر ، بل جاءه المال وتوفرت لديه النعم بسهولة ويسر من دون ما كسب أو بذل جهد .
6- حب النفس للشهوات :
حبب الله (تعالى) للبشر زينة الحياة الدنيا وزخرفها ، فقال (سبحانه) : ? زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ والْبَنِينَ والْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ والْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأَنْعَامِ والْحَرْثِ … ? [آل عمران : 14] ، وليست المشكلة في ذلك الحب الذي وضعه الله (تعالى) في القلوب ، بل إنه فطري وضروري لاستمرار الحياة والقيام بواجب الخلافة في الأرض ، ولكنها تكمن في تقديم حب تلك الأشياء على محبوبات الله (تعالى) ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ، وما ينتج عن ذلك من
التشاغل بها والركون إليها حتى يصير الإنسان كأنه مسترق لها لا يستطيع عمل ما يخالفها وإن كانت في ذلك سعادته ونجاحه ، وقد حذر الله (عز وجل) في كتابه عباده من تقديم حبهم لشهواتهم وملذاتهم على حبه (سبحانه) وحب رسوله -صلى الله عليه وسلم- والعمل لدينه ، فقال (سبحانه) : ? قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ ? إلى قوله (تعالى) : ? وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِي ? [التوبة : 24] .
7- الإغراء بالوقوع في الشهوات :
يسعى أعداء الدين من يهود ونصارى وأذنابهم في أوساط المسلمين إلى إلهاء الأمة - وبخاصة شباب الصحوة المنتسبين منهم إلى الدعوة - بالشهوات وغمسها بالملذات لتلهو وتعبث حتى لا تفيق على ما يفعلون بها من محاولة طمس عقيدتها ، وعدم استعادتها لمكانتها وكرامتها ، حيث أغرقوا أسواق المسلمين بوسائل الترف وفنون الملذات ، وزينوا ذلك في نفوسهم وبثوا لها الدعايات وأقنعوا الكثيرين بأنها دليل من أدلة الحضارة وعنوان من عناوين التقدم والتميز والرقي في المجتمع . ولقد أفصح أولئك الأشرار عن نواياهم الخبيثة ؛ ومن ذلك ما جاء في البروتوكول السادس من (بروتوكولات حكماء صهيون) : ( ... سنشجع حب الترف المطلق ... ) [15] ، وما جاء في البروتوكول الثالث عشر : ( ... سنلهيها - أي : الجماهير - أيضاً بأنواع شتى من الملاهي والألعاب ومزجيات للفراغ والمجامع العامة وهلم جرا …) [16] .
هذه آثار الترف :(1/271)
لتوجه بعض الدعاة إلى معيشة الترف آثار عامة وآثار خاصة بمسيرة الدعوة، سأتحدث أولاً عن آثار الترف العامة ، ثم أتبعها ثانياً بآثار الترف الخاصة وآثارها السيئة على مسيرة الدعوة .
من آثار الترف العامة :
* قلة العبادة والتكاسل عن الطاعة ونسيان الآخرة ، وذلك لأن القلب له حد لا يستطيع تجاوزه ، فمتى ملىء بشيء حتى فاض استحال ملؤه بغيره حتى يلقي صاحبه ما فيه أو ينقص منه ، والمترف قد ملأ قلبه أو كاد بِهَمّ الدنيا وتحصيل متعها وشهواتها ، فلم تجد العبادة وتذكر الآخرة المكان الكافي لهما في قلبه ، مما اضطر غالبها إلى الرحيل ، قال أبو حازم -رحمه الله- : (يسير الدنيا يشغل عن كثير الآخرة) [17] ، فإذا كان هذا حال اليسير من الدنيا فكيف بحال الكثير ؟ ! .
* جعل الإنسان نفسه عرضة لعبودية الهوى والشهوات ، ورد الحق والتكذيب به ، وقد أبان الله (تعالى) في كتابه أن الترف سبب لذلك في آيات عديدة ، منها : قوله (تعالى) : ? واتَّبَعَ الَذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وكَانُوا مُجْرِمِينَ ? [هود : 116]، وقوله (عز وجل) : ? وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ? [سبأ : 34] ، وقوله (سبحانه) : ? وذَرْنِي والْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ ومَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ? [المزمل : 11]
* ضياع ساعات عمر الإنسان وأيامه في أمور إن لم تكن مع سيئاته فلن تكون مع حسناته بحال ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محذراً من ذلك : (ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة) [18] ، ومما استحسن من كلام الحجاج قوله على المنبر : (إن امرءاً ذهب من عمره ساعة في غير ما خلق له لخليق أن تتطاول عليه حسراته) [19] .
* ضعف استشعار مراقبة الله (تعالى) للعبد وندرة محاسبته لنفسه ومراجعتها فيما تعمل ليعرف المرء ما له وما عليه فيتزود من الخيرات ويترك اقتراف ما لا يُقَرِّبُه من الله (تعالى) من آثام أو مباحات .
* زيغ بعض الناس وانحرافهم وخروجهم من عداد الصالحين نتيجة الإكثار من الملذات والشهوات المباحة أولاً ، ثم التوسع فيها حتى يخرجوا عن دائرة المباح إلى دائرة المشتبه فيه ، ومع الزمن يقعون في المحرمات قليلاً قليلاً حتى يصلوا إلى مرحلة الهلكة وزيغان القلب ، وخروجه إلى دائرة الفسق إن لم يتجاوزها ، نسأل الله السلامة .
* العُجْب بالنفس والتكبر على الآخرين ، وهاتان الصفتان موجودتان لدى بعض الدعاة نتيجة عيشهم في أوساط النعيم ، ولكنهم لا يتمكنون - في الغالب - من الشعور بها إلا من أدام منهم النظر في حاله أو نبهه عليها آخر ممن وفقهم ربهم وصانهم من الوقوع فيها ، وذلك راجع إلى كونهما تبدءان في النفوس كخيط رفيع جداً لا يُرى ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يبين ويتضح ، ويكون الداعية عند ذلك قد غفل وخف مبدأ محاسبته لنفسه .
* كسر قلوب الضعفاء وذوي الفقر والحاجة في المجتمع من جهة ، وتكون الحقد لديهم على ذوي اليسار والترف من جهة أخرى ، نتيجة ما يلاحظونه من وجود فوارق كبيرة في العيش والإنفاق بين طبقات المجتمع المختلفة ، وذلك من خلال المقارنة بين حال المترفين العابثين بالأموال اللاهين بالنعم ، الذين لا يعرفون فضل الخيرات وقيمتها ممن لا يقدمون معروفاً لمستحقيه ، وبين أحوالهم حين يرون أنفسهم لا يستطيعون الحصول على ضروريات الحياة وحاجياتها .
* عدم القدرة على تحمل المشقة والتجلد للشدائد والتأهب لمجيء الفتن وتقلب الأيام ، وذلك نتيجة عجز الإنسان وعدم تهيئته لنفسه وترويضه إياها على تحمل ذلك لو نزل به .
* ضياع الأموال والعبث بها في الترهات مما أدى إلى عجز بعض الناس عن القيام بالواجبات ، فكيف بالمستحبات ؟ بل إن الأمر قد وصل بأناس إلى الاقتراض للإنفاق على الملذات وما تشتهيه الأنفس .
* نجاح مخططات الكفار في إلهاء المسلمين بالترف والبذخ وما صاحب ذلك النجاح من ازدهار صناعاتهم لوسائل الترف التى يرسلونها إلى أوساط المسلمين ليلهوا بها ويترفهوا ، وينشغلوا عن قضاياهم الكبرى ، وهذا ملموس .
* قساوة القلب وغلظة الحس وثقل البدن مما يؤدي إلى نسيان العلم وزوال الفطنة والحرمان من متعة ، التطلع إلى ما وراء اللذة الآنية بالإضافة إلى الحرمان للنفس من متعه الاهتمامات الكبرى اللائقة بالدور العظيم للمسلم في هذه الحياة مع انشغال القلب عن التبصر بما يدور حوله للعبرة والعظة من ذلك نتيجة غرقه في لجة اللذائذ والشهوات [20] ، قال الشوكاني -رحمه الله- عند قوله (تعالى) : ? إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ? : (وخصص
المترفين تنبيهاً على أن التنعم هو سبب إهمال النظر) [21] .(1/272)
* انتشار البطالة وظهور العجز والكسل وشيوع التواني عن أداء الأعمال النافعة بحيث يقوم بعضهم بإنجاز عمل يوم في أسبوع ، وإنجاز عمل أسبوع في شهر ، ... وهكذا ، ولخطورة هذا الأثر في حياة المسلم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو فيقول : (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ... ) [22] .
* ظهور السمنة لدى كثير من الناس وانتشار كثير من الأمراض الناتجة عن التخمة وقلة السعي والحركة . وللحديث بقية ..
* * *
_______________
(1) القاموس المحيط ص 1026 .
(2) الترف للأستاذ / ناصر بن عمار ، ص 7 .
(3) مسلم 4/2274 ، ح 2961 .
(4) ابن ماجة 2/1192 ، ح 3605 ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2 /830 ، ح 4505 .
(5) صححه الألباني في صحيح الجامع 1/359 ح 1742 ، وعزاه للبيهقي في الشعب عن أبي سعيد.
(6) أبو داود 4/3331 ح 4063 وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/ 284 ح 1333 .
(7) مسلم 4/2087 ح 2720 .
(8) أبو داود 4/392 ح 4161 وصححه الألباني في صحيح أبي داود 2/ 784 ح 3507 .
(9) جامع الأصول 4 / 680 .
(10) البخاري مع الفتح 11/237 ح 6416 .
(11) جامع العلوم والحكم 2/378 .
(12) السابق 2/381 .
(13) البخاري مع الفتح 4/256 ح 1975 .
(14) السابق 59 ح 5063 .
================
أسباب ضعف المسلمين أمام عدوهم ووسائل العلاج لذلك :
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين . أما بعد :
فلقد اهتم أرباب الفكر الإسلامي وأصحاب الغرة الإسلامية وأصحاب التفكر الكثير بحال المسلمين وما آل إليه أمرهم . .
لقد شغلهم هذا الأمر كثيرا وفكروا كثيرا في أسباب ضعف المسلمين وفي أسباب تأخرهم أمام عدوهم وفي أسباب تفرقهم واختلافهم ، وفي أسباب تسليط العدو عليهم حتى أخذ بعض بلادهم .
ثم بعد أن عرفوا الأسباب - وهي واضحة - اهتموا أيضا بأن يعرفوا العلاج لهذه الأسباب التي أوجبت التأخر والضعف وهي معلومة أيضا ، ولكن يجب أن تنشر وأن تبين ، فإن وصف الداء ثم الدواء من أعظم أسباب الشفاء والعافية .
فإن المريض متى عرف داءه وعرف دواءه فهو جدير بأن يبادر إلى أخذ الدواء ثم يضعه على الداء .
هذه طبيعة الإنسان العاقل الذي يحب الحياة ويحب الخلاص من الأمراض ، يهمه أن يعرف الداء وأن يعرف الدواء .
ولكن بعض الناس قد يغلب عليه الداء ويستولي عليه حتى يرضى به ويستلذ وحتى يموت شعوره ، فلا يبالي بمن يصف له الدواء لأن الداء صار سجية وطبيعة له يرتاح له ويقنع بالبقاء معه لانحراف مزاجه وضعف بصيرته وغلبة الهوى عليه وعلى عقله وقلبه وتصرفاته كما هو الواقع في أكثر الناس بالنسبة للأدواء الدينية وعلاجها .
فقد استلذ الأكثر وطاب له البقاء على أمراضه وسيئاته التي أضعفته وعطلت حركاته وجعلته لا يحس بالداء في الحقيقة ولا يحس بنتائجه ولا بما يترتب عليه في العاجل والآجل ولا ينشد الدواء ولا يحرص عليه ولو وصف له وبين له ولو كان قريبا منه؛ لأنه لا يهم ذلك ، وما ذاك إلا لاستحكام الداء وارتياح النفس له وخفاء ضرره عليه وعدم الهمة العالية لتحصيل المطالب العالية .
وقد بين العلماء وأصحاب الفكر النير وأرباب البصيرة النافذة والخبرة بأحوال الأمم في هذا العصر وقبله بعصور أسباب ضعف المسلمين وتأخرهم ، كما بينوا وسائل العلاج الناجع ونتائجه وعاقبته إذا أحسن استعمال الدواء .
وترجع أسباب الضعف والتأخر وتسليط الأعداء إلى سبب نشأت عنه أسباب كثيرة وعامل واحد نشأت عنه عوامل كثيرة ، وهذا السبب الواحد والعامل الواحد هو : الجهل؛ الجهل بالله وبدينه وبالعواقب التي استولت على الأكثرية ، فصار العلم قليلا والجهل غالبا .
وعن هذا الجهل نشأت أسباب وعوامل منها حب الدنيا وكراهية الموت ، ومنها إضاعة الصلوات واتباع الشهوات ، ومنها عدم الإعداد للعدو والرضى بأخذ حاجاتهم من عدوهم وعدم الهمة العالية في إنتاج حاجاتهم من بلادهم وثرواتهم ، ونشأ عن ذلك أيضا التفرق والاختلاف وعدم جمع الكلمة وعدم الاتحاد وعدم التعاون .
فعن هذه الأسباب الخطيرة وثمراتها وموجباتها حصل ما حصل من الضعف أمام العدو والتأخر في كل شيء إلا ما شاء الله والإقبال على الشهوات المحرمة والشغل بما يصد عن سبيل الله وعن الهدى وعدم الإعداد للعدو لا من جهة الصناعة ولا من جهة السلاح الكافي الذي يخيف العدو ويعين على قتاله وجهاده وأخذ الحق منه وعدم إعداد الأبدان للجهاد وعدم صرف الأموال فيما ينبغي لإعداد العدة للعدو والتحرز من شره والدفاع عن الدين والوطن .(1/273)
ونشأ عن ذلك المرض الحرص على تحصيل الدنيا بكل وسيلة وعلى جمعها بكل سبب وأصبح كل إنسان لا يهمه إلا نفسه وما يتعلق ببلاده وإن ذهب في ذلك دينه أو أكثره . هذا هو حال الأكثرية وهذا هو الغالب على الدول المنتسبة للإسلام اليوم بل يصح أن نقول إن هذا هو الواقع إلا ما شاء الله جل وعلا من بعض الإعداد وبعض التحرز على وجه ليس بالأكمل وليس بالمطلوب من كل الوجوه .
محاضرة ألقاها سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله في ندوة المسجد الجامع الكبير بالرياض في 29 / 5 / 1399 هـ .
---------------
ويدل على أن أعظم الأسباب هو الجهل بالله وبدينه وبالحقائق التي يجب التمسك والأخذ بها - هو قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين ، مع آيات في المعنى وأحاديث كلها تدل على خبث الجهل وخبث عواقبه ونهايته وما يترتب عليه بل القرآن الكريم مملوء بالتنديد بالجهل وأهله والتحذير منه كما قال الله تعالى : وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ وقال سبحانه : وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على ذم الجهل بالله والجهل بدينه والجهل بالعدو وبما يجب إعداده من الأهبة والاتحاد والتعاون وعن الجهل نشأت هذه الأشياء التي سبقت من فرقة واختلاف وإقبال على الشهوات وإضاعة لما أوجب الله وعدم إيثار الآخرة وعدم الانتساب إليها بصدق بل لا يهم الأكثرية إلا هذه العاجلة كما جاء في الآية الكريمة من كتاب الله كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ وكما في قوله جل وعلا فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى إلخ .
وعن الجهل أيضا نشأت هذه الكوارث وهذه العواقب الرديئة التي هي حب الدنيا وكراهية الموت والإقبال على الشهوات وإضاعة الواجبات والصلوات وإضاعة الإعداد للعدو من كل الوجوه إلا ما شاء الله من ذلك . ومن ذلك التفرق والاختلاف وعدم الاتحاد والتعاون إلى غير ذلك
فقوله صلى الله عليه وسلم : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين يدل على أن من علامات الخير والسعادة للفرد والشعب والدولة أن يتفقهوا في الدين ، فإن الإقبال على التفقه في الدين والتعلم والتبصر بما يجب عليهم في العاجل والآجل من أوجب الواجبات ، وفي ذلك علامة على أن الله أراد بهم خيرا .
ومن ذلك - مع إعداد للعدو - تأدية فرائض الله والانتهاء عن محارم الله والوقوف عند حدود الله .
ومن ذلك أيضا أن يوجد في بلاد المسلمين من الصناعة والإعداد والقوة ما يستطيع كل فرد بكل وسيلة ، حتى لا تكون حاجاته عند عدوه ، وحتى يعلم عدوه ما لديه من الإعداد والاستعداد فيرهبه وينصفه ويعطيه حقوقه ويقف عند حده وحتى يحصل إعداد الأبدان وعدم الرفاهية التي تضعف القوى والقلوب عن مقاتلة العدو وحتى تقوى على الجهاد .
والتفقه في الدين أيضا يعطي المعلومات الكافية عن الآخرة وعن الجنة ونعيمها وقصورها وما فيها من خير عظيم وعن النار وعذابها وأنكالها وأنواع ما فيها من العذاب فيكسب القلوب نشاطا في طلب الآخرة وزهدا في الدنيا وإعدادا للأعداء وحرصا على الجهاد في سبيل الله والاستشهاد في سبيله سبحانه وتعالى .
كما أن التفقه في الدين يعطي الشعب والوالي النشاط الكامل في كل ما يحبه الله ويرضاه وفي البعد عن كل ما يغضب الله سبحانه وتعالى ويعطي القلوب الرغبة الكاملة في الاتحاد مع بقية المسلمين والتعاون معهم ضد العدو وفي إقامة أمر الله وتحكيم شريعته والوقوف عند حدوده ، ويحصل بذلك أيضا التعاون على كل ما يجب لله ولعباده ، فإن العلم النافع يدعو إلى العمل والتكاتف والتناصح والتعاون على الخير ، ويعطيهم أيضا الحرص الكامل على أداء الفرائض والبعد عن المحارم والشوق إلى الآخرة وعدم كراهية الموت في سبيل الحق وفي الجهاد في سبيل الله وفي قتال العدو وأخذ الحقوق منه .
وبالعلم تكون النفوس والأموال رخيصة في جلب رضا الله وفي سبيل إعلاء كلمة الله وفي سبيل إنقاذ المسلمين من سيطرة عدوهم وتخليصهم مما أصابهم من أنواع البلاء وفي سبيل استنقاذ المستضعفين من أيدي أعدائهم وفي سبيل حفظ كيان المسلمين وحوزتهم وأن لا تنتقص بلادهم وحقوقهم . فإذا كان الجهل فقدت هذه الأشياء وهذه الحقوق وهذه الخيرات وهذه المعلومات وهذا الإيثار وهذا الإرخاص للنفوس والأموال في سبيل الحق ، وقد قال الشاعر :
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه(1/274)
فالجهل داء عضال يميت القلوب والشعور ويضعف الأبدان والقوى ويجعل أهله أشبه بالأنعام لا يهمهم إلا شهوات الفروج والبطون وما زاد على ذلك فهو تابع لذلك من شهوات المساكن والملابس . فالجاهل قد ضعف قلبه وضعف شعوره وقلت بصيرته ، فليس وراء شهوته الحاضرة وحاجته العاجلة شيء يطمح إليه ويريد أن ينظر إليه . وقد جاء في الحديث الذي رواه أحمد وغيره بإسناد حسن عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها قيل يا رسول الله أمن قلة بنا؟ قال لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل تنزع المهابة من قلوب عدوكم منكم ويوضع في قلوبكم الوهن قالوا يا رسول الله وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت
وهذا الوهن الذي ورد في الحديث إنما نشأ عن الجهل الذي صاروا به غثاء كغثاء السيل ، ما عندهم بصيرة بما يجب عليهم بسبب هذا الجهل الذي صاروا به بهذه المثابة .
فقد سيطر الوهن عليهم واستقر في قلوبهم ولا يستطيعون الحراك إلى المقامات العالية والجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته؛ لأن حبهم للدنيا وشهواتها من مآكل ومشارب وملابس ومساكن وغير ذلك أقعدهم عن طلب المعالي وعن الجهاد في سبيل الله فيخشون أن تفوتهم هذه الأشياء .
وكذلك أوجب لهم البخل حتى لا تصرف الأموال إلا في هذه الشهوات ، وأفقدهم هذا الجهل القيادة الصالحة المؤثرة العظيمة التي لا يهمها إلا إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيل الله وسيادة المسلمين وحفظ كيانهم من عدوهم وإعداد العدة بكل طريق وبكل وسيلة لحفظ دين المسلمين وصيانته وإعلائه وحفظ بلاد المسلمين ونفوسهم وذرياتهم عن عدوهم .
فالجهل أضراره عظيمة وعواقبه وخيمة ومن ذلك ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من ذل المسلمين أمام عدوهم ووصفهم بأنهم غثاء كغثاء السيل وأن أسباب ذلك نزع المهابة من قلوب أعدائهم منهم؛ أي أن أعداءهم لا يهابونهم ولا يقدرونهم لما عرفوا من جهلهم وتكالبهم على الدنيا والركون إليها .
فالعدو إنما يعظم القوة والنشاط والهمة العالية والتضحية العظيمة في سبيل مبدئه . فإذا رأى العدو أن هذا الخصم المقابل له ليس له هذه الهمة وإنما هو يهتم لشهواته وحظه العاجل أعطاه من ذلك حتى يوهن قوته أمامه ويصرفه عن التفكير في قتاله لانشغاله بحب الدنيا والانكباب على الشهوات .
فالوهن أصاب القلوب إلا ما شاء الله واستحكم عليها إلا من رحم ربك وما أقلهم ، فهم في الغالب قد ضعفوا أمام عدوهم ونزعت المهابة من قلوب أعدائهم منهم وصار أعداؤهم لا يهتمون بهم ولا يبالون بهم ولا ينصفونهم لأنهم عرفوا حالهم وعرفوا أنهم لا قوة ولا غيرة عندهم ولا صبر لهم على القتال ولا قوة أيضا تعينهم على القتال ولم يعدوا لهذا المقام عدته ، فلذلك احتقرهم العدو ولم يبال بشأنهم وعاملهم معاملة السيد للمسود والرئيس للمرءوس وهم سادرون في حب الدنيا والبعد عن أسباب الموت إلا من رحم ربك حريصون على تحصيل الشهوات المطلوبة بكل وسيلة ، حذرون من الموت حريصون على العلاج والدواء عن كل صغيرة وكبيرة من الأدواء خوف الموت ، وحريصون أيضا ألا يتعاطوا أمرا يسبب الموت والانقطاع عن هذه الشهوات .
ومن أراد الآخرة وأراد إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيل الله لا تكون حاله هكذا ، وفيما جرى لسلفنا الصالح في عهد نبينا عليه الصلاة والسلام وعهد صحابته المرضيين ومن سار على طريقهم بعد ذلك فيما فعلوا من الجهاد وفيما أعدوا من العدة وفيما صبروا عليه من التعب والأذى قدوة لنا وذكرى لنا لإعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله وإنقاذ بلادنا وقومنا من أيدي أعدائنا صبرا وتحملا وجهادا وإيثارا للآخرة وبذلا للمال والنفس للجهاد في سبيل الله عز وجل وتدربا على الجهاد والقتال وحرصا على الخشونة والصبر والتحمل وذكرا للآخرة دائما وعناية بكل ما يعين على جهاد الأعداء وصبرا على ذلك وتعاونا وجمعا للكلمة واتحادا للصف حتى يحصل المراد من إعلاء كلمة الله وإنقاذ المسلمين من كيد عدوهم .
وإذا علمنا الداء وهو بين وواضح وهو كما علمنا غلبة الجهل وعدم التعلم والتفقه في الدين والإعراض عن العلم الشرعي ورضا بالعلوم الدنيوية التي تؤهل للوظائف فقط غير العلوم التي توجب الاستغناء عن الأعداء والقيام بأمر الله والبعد عن مساخطه سبحانه ، وإنما هي علوم قاصرة ضعيفة قصاراها أن تؤهل لعمل عاجل دنيوي في بلاد الفرد ودولته - إذا علم ذلك فإن الواجب علاجه بالعلم الشرعي ، إذ قَلَّ من يعنى بالعلم النافع الذي جاء به المصطفى عليه الصلاة والسلام وقل من يعنى بالإعداد للأعداء حتى يتمكن ذلك الشعب وتلك الدولة من إيجاد ما يغني عن الأعداء .(1/275)
فالداء واضح وبيِّن وهو مكون من عدة أدواء نشأت عن الجهل والإعراض والغفلة حتى صار الموت مرهوبا والدنيا مؤثرة ومرغوب فيها وحتى صار الجهاد شبحا مخيفا لا يقبله إلا القليل من الناس وصار الهدف ليس لإعلاء كلمة الله بل إما لقومية وإما لوطنية وإما لأشياء أخرى غير إعلاء كلمة الله وإظهار دينه والقضاء على ما خالف ذلك . فالإعداد ضعيف أو معدوم والأهداف منحرفة إلا ما شاء الله . فطريق النجاح وطريق التقدم ضد الأعداء وعدم الضعف أمامهم وطريق الفلاح والنجاح والحصول على المقامات العالية والمطالب الرفيعة والنصر على الأعداء - طريق كل ذلك هو في الإقبال على العلم النافع والتفقه في الدين وإيثار مرضاة الله على مساخطه والعناية بما أوجب الله وترك ما حرم الله والتوبة إلى الله مما وقع من سالف الذنوب ومن التقصير توبة صادقة والتعاون الكامل بين الدولة والشعب على ما يجب من طاعة الله ورسوله والكف عن محارم الله عز وجل وعلى ما يجب أيضا من إعداد العدة كما قال الله سبحانه وتعالى وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ إلخ .
فلا بد من إعداد العدة البدنية والمادية وسائر أنواع العدة من جميع الوجوه حتى نستغني بما أعطانا الله سبحانه عما عند أعدائنا فإن قتال أعدائنا بما في أيديهم من الصعب جدا الحصول عليه ، فإذا منع العدو عنك السلاح فبأي شيء تقاتل؟ مع ضعف البصيرة وقلة العلم .
فلا بد من إعداد المستطاع ، ويكفي المستطاع ما دام المسلمون قاصدين الاستغناء عن عدوهم وجهاد عدوهم واستنقاذ بلادهم قاصدين إقامة أمر الله في بلاد الله قاصدين الآخرة ما استطاعوا لكل ذلك . فإن الله سبحانه وتعالى يقول وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ إلخ ، ولم يقل وأعدوا لهم مثل قوتهم؛ لأن هذا قد لا يستطاع .
فإذا صدق المسلمون وتكاتفوا وأعدوا لعدوهم ما استطاعوا من العدة ونصروا دين الله فالله يعينهم وينصرهم سبحانه وتعالى ويجعلهم أمام العدو وفوق العدو لا تحت العدو ، يقول الله وهو الصادق في قوله ووعده : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ والله ليس بعاجز ولا في حاجة إلى الناس ولكنه يبتلي عباده الأخيار بالأشرار ليعلم صدق الصادقين وكذب الكاذبين وليعلم المجاهد من غيره وليعلم الراغب في النجاة من غيره ، وإلا فهو القادر على نصر أوليائه وإهلاك أعدائه من دون حرب ومن دون حاجة إلى جهاد وعدة وغير ذلك ، كما قال سبحانه ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ
وقال سبحانه في سورة الأنفال في قصة بدر : وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ يعني إمدادهم بالمدد من الملائكة ، وقال سبحانه وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وفي آية آل عمران كذلك قال تعالى : وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فالنصر من عنده جل وعلا ، ولكنه سبحانه جعل المدد بالملائكة ، وما يعطي من السلاح والمال وكثرة الجند كل ذلك من أسباب النصر والتبشير والطمأنينة ، وليس النصر معلقا بذلك ، قال سبحانه كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر ، والسلاح قليل والمركوب قليل والمشهور أن الإبل كانت سبعين وكانوا يتعاقبونها وكان السلاح قليلا وليس معهم من الخيل في المشهور سوى فرسين ، وكان جيش الكفار حوالي الألف ، وعندهم القوة العظمية والسلاح الكثير ، ولما أراد الله هزيمتهم هزمهم ولم تنفعهم قوتهم ولا جنودهم ، وهزم الله الألف وما عندهم من القوة العظيمة بالثلاثمائة وبضعة عشر وما عندهم من القوة الضعيفة ، ولكن بتيسير الله ونصره وتأييده غلبوا ونصروا وأسروا من الكفار سبعين وقتلوا سبعين وهزم الباقون لا يلوي أحد على أحد وكل ذلك من آيات الله ونصره .
وفي يوم الأحزاب غزا الكفار المدينة بعشرة آلاف مقاتل من أصناف العرب من قريش وغيرهم وحاصروا المدينة واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم الخندق ، وذلك من أسباب النصر الحسي ، ومكثوا مدة وهم يحاصرون المدينة ، ثم أزالهم الله بغير قتال ، فأنزل في قلوبهم الرعب وسلط عليهم الرياح وجنودا من عنده حتى لم يقر لهم قرار وانصرفوا خائبين إلى بلادهم ، وكل هذا من نصره وتأييده سبحانه وتعالى ، ثم خذلوا فلم يغزوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، بل غزاهم هو يوم الحديبية وجرى الصلح المعروف ، ثم غزاهم في السنة الثامنة في رمضان وفتح الله عليه مكة ، ثم دخل الناس أفواجا في دين الله بعد ذلك .(1/276)
فالمقصود أن النصر بيد الله سبحانه وتعالى ، وهو الناصر لعباده ، ولكنه سبحانه أمر بالأسباب ، وأعظم الأسباب طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن طاعة الله ورسوله التعلم والتفقه في الدين حتى تعرف حكم الله وشريعته لنفسك وفي نفسك وفي غيرك وفي جهاد عدوك وحتى تعد العدة لعدوك وحتى تكف عن محارم الله وحتى تؤدي فرائض الله وحتى تقف عند حدود الله وحتى تتعاون مع إخوانك المسلمين وحتى تقدم الغالي والنفيس من نفسك ومالك في سبيل الله عز وجل وفي سبيل نصر دين الله وإعلاء كلمته لا في سبيل الوطن الفلاني ولا القومية الفلانية .
فهذا هو الطريق وهذا هو السبيل للنصر على الأعداء بالتعليم الشرعي والتفقه في دين الله من الولاة والرعايا والكبير والصغير ، ثم العمل بمقتضى ذلك وترك ما نحن عليه مما حرم الله ، قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فمن أراد من الله النصر والتأييد وإعلاء الكلمة فعليه بتغيير ما هو عليه من المعاصي والسيئات المخالفة لأمر الله ، وربك يقول جل وعلا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ما قال الله : وعد الله الذين ينتسبون إلى قريش أو العرب أو الذين يبنون القصور ويستخرجون البترول . . . إلخ ، بل علق الحكم بالإيمان الصادق والعمل الصالح سواء كانوا عربا أو عجما .
هذه هي أسباب النصر والاستخلاف في الأرض لا العروبة ولا غير العروبة ولكنه إيمان صادق بالله ورسوله وعمل صالح .
هذا هو السبب وهذا هو الشرط وهذا هو المحور الذي عليه المدار ، فمن استقام عليه فله التمكين والاستخلاف في الأرض والنصر على الأعداء ، ومن تخلف عن ذلك لم يضمن له النصر ولا السلامة ولا العز ، بل قد ينصر كافر على كافر ، وقد ينصر مجرم على مجرم وقد يعان منافق على منافق ولكن النصر المضمون الذي وعد الله به عباده المؤمنين لهم على عدوهم إنما يحصل بالشروط التي بينها سبحانه وبالصفات التي أوضحها جل وعلا وهو الإيمان الصادق والعمل الصالح .
ومن ذلك نصر دين الله قال تعالى : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ هذا هو نصر دين الله فمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقد نصر دين الله؛ لأن من ضمن ذلك أداء فرائض الله وترك محارم الله . وقال تعالى : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وقال سبحانه وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
فأهل الفلاح والنصر والعاقبة الحميدة هم الذين عملوا الصالحات وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ونصروا الله عز وجل . وهم المذكورون في قوله تعالى : وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ فالدواء واضح والعلاج بيِّن ، لكن أين من يريد الدواء وأين من يريد العلاج وأين من يستعمله؟! هذا واجب ولاة الأمور والعلماء والأعيان في كل مكان وفي جميع الدول الإسلامية إذا كانوا صادقين في الدعوة إلى الإسلام؛ وذلك بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحفاظ على ذلك والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتفقه في الدين وإصلاح المناهج في المدارس في جميع المراحل والتعاون أيضا في التكاتف ضد الأعداء والاتحاد مع الإخلاص لله في العمل والصدق فيه ونية الآخرة .
وبذلك يستحقون النصر من الله والتأييد منه سبحانه كما كان الأمر كذلك عند سلفنا الصالح مما لا يخفى على أهل العلم . وبالأمس القريب الإمام المجدد لمعالم الإسلام في القرن الثاني عشر لما رأى ما رأى من الجهل العظيم وتعطيل أحكام الشريعة وكثرة الجهل في الجزيرة وغيرها وقلة الدعاة إلى الله عز وجل وانقسام أهل هذه الجزيرة إلى دويلات صغيرة على غير هدى وعلى غير علم .(1/277)
رأى أن من الواجب عليه أن يقوم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأن ينبههم إلى ما وقعوا فيه من الخطر وأن يسعى على جمع كلمتهم على الحق وعلى رئيس واحد يقيم فيهم أمر الله ويجاهدون في سبيل الله ، فجد رحمه الله في ذلك ودعا إلى الله واتصل بالأمراء وكتب الرسائل في أمر التوحيد وتحكيم شريعة الله وترك الشرك به ، ولم يزل صابرا على ذلك محتسبا بعد ما درس وتفقه في الدين على مشايخ البلاد وغيرهم ، ثم جد في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله وجمع الكلمة في حريملاء أولا ثم في العيينة ثم انتقل بعد أمور وشئون إلى الدرعية وبايعه محمد بن سعود رحمه الله على الجهاد في سبيل الله وإقامة أمر الله ، فصدقوا جمعيا في ذلك وتكاتفوا في ذلك وجاهدوا على ضعفهم حتى نصرهم الله وأيدهم وأعلنوا التوحيد ودعوا الناس إلى الحق والهدى وحكموا شريعة الله في عباد الله وبسبب الصدق والاستعانة بالله وحسن المقصد أيدهم الله وأعانهم ، وأخبارهم لا تخفى على كثير ممن له أدنى بصيرة .
ثم جاء بعد ما جرى من الفتور والانقسام جاء الملك عبد العزيز رحمه الله وجد في هذا الأمر وحرص فيه واستعان بالله سبحانه ثم بأهل العلم والإيمان والبصيرة وأعانه الله وأيده وجمع له الله كلمة المسلمين في هذه الجزيرة على كلمة واحدة وعلى تحكيم شريعة الله وعلى الجهاد في سبيل الله حتى استقام أمره وتوحدت هذه الجزيرة ( من شمالها إلى جنوبها وشرقها وغربها ) على الحق والهدى بأسباب الصدق والجهاد وإعلاء كلمة الله تعالى ، فالمقصود أن الأمثلة كثيرة في ذلك .
وهكذا صلاح الدين الأيوبي قصته معروفة ومحمود زنكي كذلك . فالمقصود أن سلفنا الصالح الأوائل لما صدقوا في جهادهم في وقت نبيهم وبعده أعزهم الله وأعلى شأنهم واستولوا على المملكتين العظمتين - مملكة الأكاسرة ومملكة الروم في الشام وما حولها - ثم من بعدهم ممن صدق في دين الله نصرهم الله لما عندهم من الصدق والتكاتف في إعلاء كلمة الله . ثم في أوقات متعددة متغايرة يأتي أناس لهم من الصدق والإخلاص ما لهم فيؤيدون وينصرون على عدوهم على قدر إخلاصهم واجتهادهم وبذلهم
والذي نصر الأولين ونصر الآخرين سبحانه وتعالى هو الله عز وجل وهو ناصر من نصره وخاذل من خذله كما قال الله تعالى : أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وقال سبحانه وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وقال عز وجل : كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
ولكن المصيبة في أنفسنا كما قال عز وجل وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ فالمصيبة جاءت من ضعف المسلمين وتكاسلهم وجهلهم وإيثارهم العاجلة وحبهم الدنيا وكراهة الموت وتخلفهم عما أوجب الله وترك الصلوات واتباع الشهوات وإيثار العاجلة والعكوف على المحارم والأغاني الخليعة والفساد للقلوب والأخلاق . . إلخ .
فمن هذا وأشباهه سلط الله على المسلمين عدوهم كما قال جل وعلا وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا
نسأل الله عز وجل أن يمن علينا وعلى جميع المسلمين وولاة أمرهم بالتوبة إليه والاستقامة على أمره والتعاون على البر والتقوى وعلى إعداد العدة لأعدائنا والتفقه في الدين والصبر على مراضيه والبعد عن مساخطه سبحانه ، كما نسأله سبحانه أن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن ومن أسباب النقم وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ويخذل أعداءه وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى وأن يصلح ولاة أمرهم وأن يرزقهم البصيرة إنه سميع قريب . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
===============
هلاك القرى بسبب المترفين
وقال تعالى ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا {16} الإسراء (
والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة ، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة ، حتى تترهل نفوسهم وتأسن ، وترتع في الفسق والمجانة ، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات ، وتلغ في الأعراض والحرمات ، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا ، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها ، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها . ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي ، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها ، فتهلك وتطوى صفحتها .(1/278)
والآية تقرر سنة الله هذه . فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك ، فكثر فيها المترفون ، فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم ، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها ، فعم فيها الفسق ، فتحللت وترهلت ، فحقت عليها سنة الله ، وأصابها الدمار والهلاك . وهي المسؤولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين ، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين . فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا ، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك ، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك .
إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف ، وسننا لا تتبدل ، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فنفذ إرادة الله وتحق كلمته . والله لا يأمر بالفسق ، لأن الله لا يأمر بالفحشاء . لكن وجود المترفين في ذاته ، دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها ، وسارت في طريق الانحلال ، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقا . وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة .
فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشئ السبب ، ولكنها ترتب النتيجة على السبب . الأمر الذي لا مفر منه لأن السنة جرت به . والأمر ليس أمرا توجيهيا إلى الفسق ، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق .
وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشيء آثارها التي لا مفر منها . وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرا .
هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح ، قرنا بعد قرن ، كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير ، والله هو الخبير بذنوب عباده البصير (الظلال)
--------------
أثر الضعف الخلقي في سقوط الأندلس
د. حمد بن صالح السحيباني
حينما دخل المسلمون الفاتحون بلاد الأندلس، كانوا قد انصهروا في بوتقة الإسلام ، حيث تأدبوا بآدابه ، فاتبعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه ، كما مثلوا أخلاقياته وما يدعو إليه من قيم سامية واقعاً ملموساً، أدركها جميع أهل تلك الديار، فأعجبوا بها . فقد قال أحد قادة لذريق في رسالة بعث بها إليه يصف بها جيش المسلمين الأول الذي عبر إلى الأندلس بقيادة طارق بن زياد:" لقد نزل بأرضنا قوم لا ندري أهبطوا من السماء أم نبعوا من الأرض"(1) .
وقد بقي المسلمون خلال القرون الثلاثة الأولى من وجودهم هناك، محافظين على تلك القيم، معتزين بها . ولكن مع مضي الزمن بدأ البعض منهم بالتحلل منها مما أفقدهم شيئاً من مقومات أصالتهم ووجودهم هناك وقد أدرك هذه الحقيقة ابن خلدون حين قال:"إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها ، وهذا ما حدث في الأندلس وأدى فيما أدى الى ضياعه"(2) .
كما أدركها كوندي - أحد الكتاب النصارى - حيث قال : "العرب هَوَوْا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها ، وأصبحوا على قلب متقلب يميل الى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات"(3) .
وصدق الله العظيم إذ يقول ((وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)) [الإسراء 16] .
ومنذ أن بدأ الضعف في الجانب الخلقي عند بعض مسلمي الأندلس بالظهور كعرض من أعراض بعدهم عن منهج الله انتاب الوجود الإسلامي هناك نوع من الضعف وذلك لأن كل تقدم حضاري وسياسي وسمو فكري وارتفاع معنوي وأية عزة في السلطان كان مرده إلى التمسك بالإسلام ، ومرتهنا بمقدار الالتزام بشريعته(4) .
ولما كان هذا العامل من أهم عوامل سقوط بلاد الأندلس رأيت أن أكتب حول هذا الموضوع حيث سأقوم - بعون الله - برصد هذه الظاهرة منذ بدايتها كعامل أثر على الواقع السياسي والعسكري للمسلمين هناك، منذ عصر ملوك الطوائف حتى خروج المسلمين من تلك الديار.
ونظراً لتشعب الموضوع فإن دراستي هذه ستقصر على عصر ملوك الطوائف وذلك لأن المرحلة الاولى من مراحل سقوط الأندلس بدأت فيه آملاً أن تتاح لي الفرصة مستقبلاً لإكمال رصد تلك الظاهرة حتى نهايتها
وفي البداية قد يكون من المناسب أن نبين قبل حديثنا عن عوامل سقوط بلاد الأندلس حقيقة تاريخية هامة وهي :
أن سقوط الأندلس بيد العدو النصراني لا يعني سقوط مملكة غرناطة التي كان يحكمها بنو الأحمر فحسب ؛ بل إن الأمر أعم من ذلك وأشمل ، فسقوط الأندلس بدأ حقيقة في وقت مبكر من تاريخ المسلمين بتلك الديار ، حيث يستطيع الراصد لذلك التاريخ أن يقول : إن بداية الانحسار الإسلامي في الأندلس كان منذ أن سقطت الدولة الأموية هناك ، وبعد أن قام على أنقاضها العديد من الدويلات الإسلامية المتناحرة المتنازعة التي صورها الشاعر بقوله(5) :(1/279)
مما يزهدني في أرض أندلسٍ ... أسماء معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
ولعل مما يؤكد هذه الحقيقة أن مسلمي بلاد الأندلس لم يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم بعد سقوط الخلافة الأموية هناك بل بقوا متنازعين متناحرين فيما بينهم حتى بدأ الضعف بهم واضحاً نتيجة لتزايد الخطر النصراني ضدهم ، الأمر الذي دفعهم إلى الدخول في سلطان دولة المرابطين ثم الموحدين ، ثم الاعتماد بعد ذلك على المساعدات المرينية بشكل قوي وملموس .
وتتأكد هذه الحقيقة إذا تذكرنا أن الخطر النصراني ازداد ضد المسلمين هناك حينما ضعفت مساعدات مسلمي المغرب لإخوانهم مسلمي الأندلس .
وبعد هذه المقدمة السريعة - فإنه بوسعنا أن نقول أن سقوط مدينة طليطلة سنة 478 هـ (1085م)(6) كان مقدمة لسقوط غرناطة سنة 897 هـ(1491م)(7) وأن تراجع مسلمي الأندلس نحو الجنوب منذ القرن الخامس كان هو الخطوة الأولى لعبورهم إلى الشمال الأفريقي في آخر القرن التاسع الهجري ، كما أن غياب أمثال طارق بن زياد وموسى بن نصير والسمح بن مالك وعبد الرحمن الغافقي وغيرهم عن الساحة الإسلامية قد أتاح الفرصة لظهور مثل رذريق (القمبيطور) والفونسو الثامن ، والفونسو الحادي عشر ، وفرانده الخامس وغيرهم من زعماء النصارى الذين تولوا قيادة الجيوش النصرانية التي تولت مهمة حرب استرداد الأندلس كما يسمونها.
وقد أدرك هذه الحقيقة الشاعر الأندلسي المسلم الذي هز وجدانه سقوط طليطلة سنة 478 هـ (1085 م) فعرف أن ذلك له ما بعده حيث قال محذراً إخوانه المسلمين هناك(8) :
حثوا رواحلكم يا أهل اندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط
السلك يُنثَر من أطرافه وأرى ... سلكَ الجزيرة منثوراً من الوَسَطِ
من جاور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياةُ مع الحيات في سَفَطِ
وهكذا نرى أن بداية الانحدار لمسلمي الأندلس كان في عهد ملوك الطوائف ، وأن الضعف الذي حل بهم كان ضربة موجعة لم يستطيعوا التخلص من آثارها بعد ذلك بالرغم من التئام شملهم النسبي في عهدي المرابطين والموحدين .
ومما لا شك فيه أن هذا الضعف التدريجي الذي أدى في النهاية إلى خروج المسلمين من تلك الديار ، لم ينشأ من فراغ ، كما لم يكن وليد يومه أو ليلته ، بل إنه كان نتيجة لعدة عوامل وأسباب نشأت في ظروف معينة، فلما نمت وترعرعت تمخض عنها ضعفهم، وخروجهم من الأندلس ، ويمكن إجمال تلك العوامل والأسباب فيما يلي :
1- انحراف كثير من مسلمي الأندلس عن منهج الله .
2- موالاة العدو النصراني والتخلي عن الجهاد .
3- انعدام الوحدة السياسية بينهم .
4 - تكالب القوى النصرانية ضدهم .
هذه أهم عوامل سقوط بلاد الأندلس،ويعتبر الضعف في الجانب الخلقي عند المسلمين هناك أحد النتائج التي تمخضت عن العامل الأول وقد كان لهذا الضعف أكثر من مظهر وصورة ولعل من أهمها:
* الأنانية وحب الذات .
* التشبه بالعدو وتقليده .
* انتشار المجون والخلاعة بين المسلمين .
ولهذا سيكون حديثي عن هذا الموضوع من خلال هذه المحاور الثلاثة ، حيث سأبدأ أولاً برصد هذه الظاهرة منذ بداية ظهورها ، ثم انعكاسات ذلك على المجتمع الإسلامي في الأندلس ، وآثارها على القوتين السياسية العسكرية عندهم .
الأنانية وحب الذات
مما لا شك فيه أن الإيثار والتعاون من أهم سمات المجتمع الإسلامي ، فقد دعا الإسلام إلى هذا الأمر وأصله في نفوس المسلمين ، قال تعالى : ((والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)) [الحشر 9] .
وقد دخل المسلمون الفاتحون الى بلاد الأندلس بهذه الأخلاق الطيبة ، كما تربي أفراد المجتمع الإسلامي هناك على هذا الخلق الإسلامي الأصيل عامتهم وخاصتهم ، ولهذا قال أحد الباحثين : "بقينا في الأندلس ما بقينا مع الله ، وضاعت الأندلس لما أضعنا طريق الله ، بقينا في الأندلس بهمة عبد الرحمن الداخل الذي قال لما نزل من البحر إلى بر الأندلس وقد قدم إليه خمر ليشرب فأبى وقال : إني محتاج لما يزيد في عقلي لا لما ينقصه ، فعرف الناس من ذلك قدره ، ثم أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال : إن هذه لمن القلب والعين بمكان ، وإن أنا لهوت عنها بمهمتي فيما أطلبه ظلمتها ، وإن لهوت بها عما أطلبه ظلمت مهمتي فلا حاجة لي بها الآن(9) .(1/280)
وقد سار المسلمون بالأندلس على هذا النهج حتى آخر عمر الدولة الأموية حيث يذكر ابن عذاري أن المنصور بن أبي عامر كان يسهر على مصالح رعيته وكانت متابعته لأمور رعيته تستنفد منه كل وقته لدرجة انه كان لا ينام إلا سويعات قليلة متفرقة فلما قيل له: قد أفرطت في السهر وبدنك يحتاج إلى أكثر من هذا النوم ، أجاب قائلاً : إن الملك لا ينام إلا إذا نامت الرعية ، ولو استوفيت نومي لما كان في دور هذا البلد العظيم عين نائمة (10) .
وفي آخر عمر الدولة الأموية ضعف تمسك الناس بكثير من الأخلاق الإسلامية ، فانعكست آثار ذلك على المجتمع الإسلامي فضلاً عن الدولة الأموية التي بدأت تظهر عليها علامات الهرم والشيخوخة حينما خف اعتبارها عند الناس ، لأن قادتها فقدوا واحداً من أهم مقومات دولتهم حيث يذكر المؤرخون أنه حينما أعلن سقوط الدولة الأموية في قرطبة سنة 422 هـ مشى البريد في الأسواق والأرباض بألا يبقى أحد من بني أمية بقرطبة ولا يكنفهم أحد من القرطبيين (11) .
وبعد أن قامت دولة ملوك الطوائف على أنقاض الدولة الأموية ازداد الأمر سوءاً حيث تنافس أولئك القوم على السلطة ، وتناحروا من أجلها ، فانتشر بينهم العداء المستحكم والخصام الدائم ، فالكثير منهم لا هم له إلا تحقيق مصلحته الذاتية وإشباع أنانيته ، وتثبيت أقدامه في السلطة ولو على حساب مصلحة المسلمين ، وكأن الأندلس إنما وجدت له ولمصلحته الذاتية مهما كان قصير العمر ، ذليل المكانة مهزوز القواعد(12) ، ولهذا جعل الله بين أولئك الملوك والأمراء من التحاسد والتنافس والغيرة ما لم يجعله بين الضرائر المترفات ، فلم يتعاونوا على بر أو تقوى أو يسعوا لمصلحة إسلامية ، بل انصبت كل جهودهم على توفير ما يخدم مصالحهم الخاصة(13) . هكذا كان واقع أولئك القوم، ويجد الدارس لتاريخهم العديد من الأمثلة والحوادث التي تدل على صحة ذلك وعلى أنهم انشغلوا بأمورهم الخاصة وغفلوا عن الخطر النصراني الذي كان يتهدد هذه الجهة الشمالية من بلادهم ، ومن الأمثلة على ذلك أنه حينما أغار فرناندو ملك ليون على بَطَلْيوس بلاد المظفر بن الأفطس فدمرها ، واستباح حريمها ، وانتهب أموالها ورد خبرها على المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة ، ولما دخل عليه وزيره أبو المطرف بن مثنى بعد وصول الخبر إليه وجده شديد الإطراق والضيق . وأخذ يفرج عنه معتقداً أن ما أصابه من ضيق كان بسبب ما سمعه مما أصاب المسلمين في بطليوس ، فلما فهم مقصد ابن مثنى منه أعرض عنه وقال له : ألا ترى هذا الصانع - يعني عريف بنيانه - صبرت له وأغضيت له لكنه لا يمتثل لأمري وينغص علي لذتي ويستخف بإمرتي (14) .
ولما تزايد الخطر النصراني ضد مسلمي الأندلس بعد حادثة بربشتر سنة 456 هـ وجه أبو حفص عمر بن حسن الهوزني(15) رسالة إلى المعتضد ابن عباد (433 - 462 هـ) دعاه فيها إلى الجهاد ، كما بين فيها شدة معاناة المسلمين ، وسبب تزايد الخطر النصراني عليهم ، وأنه لا خلاص للمسلمين من واقعهم المر إلا بالرجوع إلى ميدان الجهاد ومما جاء في تلك الرسالة :
أعباد جل الرزء والقوم هجع ... على حالة من مثلها يُتَوَقَّع
فَلَقِّ كتابي من فراغك ساعه ... وإن طال فالموصوف للطول موضع
وكتابي عن حالة يشيب لشهودها مفرق الوليد ، كما يغير لورودها وجه الصعيد ، بدؤها ينسف الطريف والتليد، ويستأصل الوالد والوليد، تذر النساء أيامى والأطفال يتامى..(16)
هكذا نبه أبو حفص الهوزني ابن عياد إلى الخطر المحدق بالمسلمين هناك ، كما بين له أن الخلاص من ذلك المأزق لا يتم إلا بالتخلي عن الذات ، وجعل الجهاد هو الهاجس الدائم للمسلمين هناك عامتهم وخاصتهم. ويذكر المؤرخون أن موقف ابن عباد من تلك الرسالة كان سيئاً ، فما إن تلقاها حتى أرسل إلى الهوزني يستدعيه للقدوم إلى أشبيلية ، فلما قدم إليه أخذ يسعى للقضاء عليه حتى تمكن من قتله سنة 460 هـ (17) .
وبالإضافة إلى هذه الحادثة فقد ذكر المؤرخون العديد من الأمثلة التي قام بها المعتضد بن عياد من أجل تثبيت قدميه في السلطة حينما يرى أن سلطانه أصبح في خطر حيث تطاول على العديد من القادة والعلماء كما قتل ابنه من أجل هذا الغرض(18) .
وكان ملوك الطوائف يسعون دائماً إلى إيجاد ما يدعمون به ملكهم ويثبت أقدامهم في السلطة ، ومن ذلك بذلهم العطاء الوافر للشعراء والأدباء الذين يقولون قصائدهم في مدحهم ، وقد أسرفوا في هذا الأمر إسرافاً لا مثيل له ، وعلى سبيل المثال فقد منح المعتمد بن عباد الشاعر عبد الجليل بن وهنون ألفين من الدنانير على بيتين من الشعر ، بينما منح المعتصم بن صمادح قرية بأكملها للشاعر أبي الفضل جعفر بن أبي عبد الله بن مشرف حينما أنشده قصيدته التي مطلعها :
قامت تجر ذيول العَصْبِ والحِبَرِ ... ... ضعيفة الخصر والميثاق والنظر
ولما بلغ منها قوله :
لم يبق للجور في أيامهم أثر ... إلا الذي في عيون الغيد من حَوَرِ(1/281)
قال المعتصم : " لقد أعطيتك هذه القرية نظير هذا البيت الواحد ووقع له بها وعزل عنها نظر كل وال"(19).
وقد ذكر عن علي بن مجاهد صاحب دانية أنه "طلب السِّلم وأغمد السيف وكانت همته في خراج يَجْبٍيه ومتجرٍ يُنَميِّه(20) .
وهكذا يتبين لنا من خلال هذه الأمثلة التي ذكرناها أن الأنانية وحب الذات قد تأصلت عند ملوك الطوائف حتى أصبحت خلقاً مألوفاً لدى الكثير منهم يصعب عليهم التخلص منها أو السعي لغيرها . وهذا بلا شك كان من أكبر معاول الهدم التي أصابت قوة المسلمين في تلك الفترة ، وقد أدرك هذه الحقيقة عدد من مؤرخي تلك الفترة ، فقال ابن حيان شيخ مؤرخي الأندلس: "دهرنا هذا قد غربل أهليه أشد غربلة فسفسف أخلاقهم ، وسفه أحلامهم ، وخبث ضمائرهم... فاحتوى عليهم الجهل ، يعللون نفوسهم بالباطل..(21) .
كما عد ابن حزم هذا الانحراف الذي مني به ملوك الطوائف بأنه منزلق خطير ، وظاهرة لها ما بعدها من الآثار السلبية حيث قال : "اللهم إننا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم ، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب ، عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم ، وبجمع أموال ربما كانت سبباً في انقراض أعمارهم وعوناً لأعدائنا عليهم عن حاجة ملتهم حتى استشرف لذلك أهل القلة والذمة ، وانطقت ألسنة أهل الكفر والشرك"(22) .
وبالإضافة إلى هذا فقد ذكر ابن حزم في موضع آخر أن الأنانية وحب الذات قد تأصلت في نفوس أولئك الحكام حتى كأن الأندلس إنما خلقت لهم ولتحقيق رغباتهم ، وأنهم يقدمون في هذا السبيل ومن أجل هذا الغرض تنازلات كبيرة حيث قال في ذلك : "والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم بادروا إليها ، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنوهم من حُرَم المسلمين وأبنائهم... وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس"(23).
وهكذا نرى كيف أن الأنانية وحب الذات عند ملوك الطوائف قد جعلتهم يقدمون التنازلات الكثيرة للنصارى من أجل البقاء في السلطة حتى ولو كان ذلك على حساب مصلحة المسلمين العامة .
"يتبع"
المصادر:
1- المقري ، نفح الطيب 1/240
2- مقدمة ابن خلدون 2/446
3- شوقي أبو خليل ، عوامل النصر والهزيمة عبر تاريخنا الإسلامي ص 122
4- عبد الرحمن الحجي ، التاريخ الأندلسي ص 574
5- مقدمة ابن خلدون 2/752، ابن الخطيب ، أعمال الأعلام 2/144
6- ابن الكردبوس ، تاريخ الأندلس ص 85 ، المقري نفخ الطيب 1/ 441
7- مؤلف مجهول ، نبذة العمر ص 39-42، المقري ، أزهار الرياض 1/66، نفخ الطيب 4/525
8- ابن سعيد ، رايات المبرزين ص 50 ، المقري نفخ الطيب 4/253
9- شوقي أبو خليل ، عوامل النصر والهزيمة عبر تاريخنا الإسلامي ص 122-1231
10- البيان المغرب 2/298
14- ابن بسام ، الذخيرة ق 4 1/147-148
15- وهو أبو حفص عمر بن حسن الهوزني من علماء الأندلس المشهورين ولد سنة 392 هـ ، واهتم بطلب العلم منذ صغره ، وتد تفنن في كثير من العلوم حيث أخذ من كل علم بطرف وافر ، (ابن بشكوال ، الصلة 2 / 402 - 403) .
16- ابن بسام ، الذخيرة ق 2 83/1-86
17-ابن بشكوال ، الصلة 1/204
18- انظر في تفصيلات هذه الحوادث كلا من ابن بسام ، الذخيرة ق 2 جـ 1 ص 147- 150 ، ابن عذارى ، البيان المغرب 3/ 244 -248 ، المراكشي ، المعجب ص 147
19- ابن بسام ، الذخيرة ق جـ 4 1/192 ، بالنثيا ، تاريخ الفكر الأندلسي ص 98
20- رجب عبد الحليم ، العلاقات بين الأندلس الاسلامية وإسبانبا النصرانية ص 296
21- ابن بسام ، الذخيرة ق 3 جـ 1/188-189 (نقلاً عن ابن حبان)
22- ابن حزم ، رسائل ابن حزم تحقيق إحسان عباس 3/14
23- رسائل ابن حزم 3/176
---------------
*السنن الاجتماعية الإلهية في تغيير المجتمعات الإنسانية
لله عز وجل سننه الاجتماعية في نشأة المجتمعات الإنسانية وقوتها وضعفها التي لا تتخلف نتائجها عن مقدماتها ولا تنفك أسبابها عن مسبباتها كما قال سبحانه: ( سنة الله في اللذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) وقد جعل الله سبحانه الظلم سببا لخراب العمران ومفضيا إلى ضعف الأمم وسقوط المجتمعات الإنسانية كما قال تعالى: ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) أي ــ كما قال المفسرون ــ ما كان الله ليهلك أهل القرى بسبب الظلم أي الشرك به ما داموا مصلحين بإقامة العدل والحقوق فيما بينهم والإصلاح في شئون حياتهم ولهذا لم يهلك الله سبحانه كل من أشرك به حتى يزيد على ذلك الفساد في الأرض بالظلم والطغيان كما أهلك فرعون وثمود وعاد بطغيانهم وعتوهم وقوم شعيب بتظالمهم في الميزان فيما بينهم وقوم لوط بفسادهم و انحلالهم ...الخ(1/282)
وهذا معنى قول شيخ الإسلام ( إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ويخذل الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة ) وتاريخ الأمم والشعوب وحاضرها أصدق شاهد على صحة هذه السنة الاجتماعية واطرادها والقياس الصحيح قاض باعتبار هذه القاعدة واشتراطها فحيثما وجد العدل
والإصلاح وجد الاستقرار والازدهار وحيثما وجد الظلم والفساد وجد التخلف والدمار .
ومن السنن الإلهية الاجتماعية أن جعل الله مناط ذلك كله بمن يملك القدرة على تحقيق الإصلاح و إقامة العدل أوعكسهما من الإفساد والظلم وهم الملأ و أهل الحل والعقد أي من بيده السلطة والدولة لا عامة الناس كما قال تعالى: ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) وفي قراءة ( أمّرّنا ) أي جعلناهم أمراء فيها فأفسدوا فيها .
ولم يقم دين سماوي شرعي ولا مذهب أرضي وضعي إلا بقيام سلطة ودولة تتجلى فيها مبادئهما وتنفذ على أرضها شرائعهما ولا يتنكب عن ذلك أهل ملة و لا يتجنبه أهل نحلة فتقوم لمذهبهم دولة فما كان ذلك قط ولن يكون أبدا بل تظل الأديان والفلسفات نظريات ذات أثر فردي محدود قد يتحقق باعتناقها صلاح دنيوي أو أخروي لا يتجاوز نطاق الأفراد أبدا ولا يصل إلى دائرة المجتمع ومجالات حياته ليصوغها وفق قيمه وتشريعاته كما قال تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) .
ومن ينظر في تاريخ الأمم والشعوب يرى ذلك جليا واضحا فلم يصبح الإسلام واقعا يعيش المسلمون تحت عدل تشريعاته ورحمة أحكامه إلا بعد قيام دولته في المدينة وكذا استطاع الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب تحقيق مشروعه الإصلاحي بعد إقامة الدولة في الدرعية وهو مالم يستطع تحقيقه المجدد شيخ الإسلام ابن تيمية الذى سبق إلى الدعوة إلى السلفية التي ظلت مضطهدة حتى استطاع الشيخ محمد إقامة دولة تؤمن بها وتذود عنها وتدعوا لها ولم يعرف الغرب النظم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي طالما كانت حلما يراود المفكرين وفكرة تطوف بخيال المصلحين فلم تصبح واقعا يعيشه الغرب إلا بعد الثورة الفرنسية سنة1789م بعد أربعة قرون من التضحيات ذهب فيها آلاف من المفكرين ورجال الدين والأدباء والعلماء حتى تحقق حلمهم وقامت دولتهم وكذلك كان حال الاشتراكية قبل الثورة البلشفية سنة 1917م فقد ظلت نظرية منذ أن فلسفها وقعد لها ماركس في كتابه ( رأس المال ) وظن أنها ستقوم في ألمانيا حتى نجح لينين في تحويلها إلى مشروع ثورة ونظام دولة وقد استطاع الاشتراكيون والشيوعيون في كل دولة قاموا فيها من خلال الوصول إلى السلطة بتطبيق نظرياتهم لتصبح أكبر دول العالم وأعرقها في النظم الإقطاعية كروسيا والصين دولا ومجتمعات شيوعية اشتراكية.
وما كان مثل ذلك التحول الخطير والعميق ليحدث في تلك المجتمعات ولو دعا الاشتراكيون إلى هذه النظرية وبشروا بها ألف سنة لولا وصولهم إلى السلطة وقيادتهم للدولة وكذلك كان حال الثورة الأمريكية التي لم تر مبادؤها النور ولم تصبح واقعا يعيشه الشعب الأمريكي إلا بعد الثورة وقيام الدولة وهذا ما حصل لنظرية الفقيه الولي التي لم تصبح واقعا يعيشه الشيعة الجعفرية في إيران إلا بعد الثورة الشعبية الإيرانية سنة1979 م لتقوم لهم أول دولة بعد قرون من انتظار المهدي وليبدأ الفقه الجعفري بتنظيم شؤون المجتمع وصياغة حياته وحل مشكلاته ونوازله التي لا عهد له بها وفق أحكامه وتصوراته وما كان ذلك ليتحقق لقادة تلك الثورة وأصحاب تلك النظرية الحديثة لولا إدراكهم للسنن الإلهية الاجتماعية في تغيير واقع المجتمعات وهذه قاعدة لا تتخلف أبدا ولا تحابي أحدا فلم يعرف تاريخ الأمم في ماضيها وحاضرها حركة اجتماعية سياسية استطاعت الوصول إلى تحقيق حلمها وإقامة مشروعها بغير هذا الطريق ومن هنا ندرك جانبا من جوانب المشكلة التي يعيشها المسلمون منذ سقوط الخلافة ودخول الاستعمار.(1/283)
لقد ضل أكثر علمائهم ودعاة الإصلاح فيهم عن هذه السنن الإلهية الاجتماعية التي جاءت بها الهدايات القرآنية وأكدتها التجارب الإنسانية وظل أكثرهم بعيدا عن واقع الأمم المعاصرة ومعرفة أسباب نهضتها وقوتها وتطورها بينما يعيش العالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص تخلفا خطيرا حتى جاءت مجتمعاته ودوله في أدنى مستويات التنمية والحرية وحقوق الإنسان بل و في جميع مجالات الحياة كما جاء في آخر تقارير الأمم المتحدة عن التنمية في دول العالم العربي ومع ذلك لا يزال المصلحون يظنون أن بصلاح الأفراد يتحقق الإصلاح العام وأنه كما تكونون يولى عليكم وأن المستقبل لهذا الدين وما على الدعاة إلا الاستمرار بالدعوة إلى الله وتربية الأجيال ونشر العلم وإقامة المشاريع الخيرية وترقب النصر ؟! ولا شك في أهمية كل ذلك وأنه طريق إلى مرضاة الله وجنته إلا أنه لا يكون عادة و لن يكون أبدا طريقا إلى تحقق نصرته و إقامة دولته لمخالفة ذلك لسننه الاجتماعية وهدايته القرآنية في أسباب قيام الدول وأسباب سقوطها .
إن الدعوة الإسلامية المعاصرة بجماعاتها وتجمعاتها وعلمائها ودعاتها تملك من الطاقات والإمكانات ما لم يتوفر للحركات الإنسانية الإصلاحية الأخرى كالثورة الفرنسية والثورة الأمريكية والثورة الروسية ...الخ كما أنها بذلت من الجهد وقدمت من التضحيات منذ سبعين سنة إلى يومنا هذا ما لم تبذل مثله الحركات الأخرى ومع ذلك نجحت هذه في الوصول إلى تحقيق أهدافها وإقامة مشروعها بينما أخفقت الدعوة الإسلامية في الوصول إلى هدفها؟!
لقد تنكبت الدعوة الإسلامية المعاصرة عن السنن الإلهية الاجتماعية المؤدية إلى الهدف ولم تكتف بذلك بل دعت إلى مفاهيم وعقائد تحمل في طياتها بذور فنائها كحركة إصلاحية من حيث تظن أنها بذور حياتها ونمائها وفشلت حتى في معرفة أسباب إخفاقها فلجأت إلى تبريره تارة بدعوى أن هذا من الابتلاء الذي لا بد منه لكل دعوة وأنه لا بد من الاستمرار في الدعوة إلى الله والصبر على الأذى وترقب النصر؟! وتارة بتعليق النصر على شروط يستحيل عادة تحققها كضرورة عودة الأمة كلها إلى دينها وأنه كما تكون الأمة يولى عليها وهو ما يصادم حقائق التاريخ وشهادة الواقع بل و يصادم سنة الله في ظهور الإسلام نفسه الذي بدأ غريبا وسيعود كما بدأ فلم ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم من أجل إقامة دينه ودولته إيمان أهل مكة كلهم به ولا اتباع العرب قاطبة له بل سعى إلى تحقيق هدفه وهو في مكة فكان يعرض نفسه على من ينصره
كما في قصته مع بني شيبان الذين أدركوا هدفه وعرفوا مقصده فقالوا له ( إن هذا الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك وإن كسرى قد أخذ علينا عهدا أن لا نؤوي محدثا فإن أردت أن نمنعك مما يلي العرب فعلنا ) فقال لهم ( ما أسأتم بالرد إذ أفصحتم بالصدق إلا أن هذا الدين لا يصلح إلا من أحاطه من جميع جوانبه ) فقد أدرك بنو شيبان أنه يريد إقامة دولة تذود عن هذا الدين وتقاتل دونه فلما جاء الأنصار بايعهم البيعة الأولى على الإيمان بالدين وبايعهم الثانية على إقامة الدولة بالسمع والطاعة له والذود عنه و قاتل بمن أطاعه وهم عصابة قليلون من عصاه وهم عامة العرب أخذا منه صلى الله عليه وسلم بالسنن الإلهية الاجتماعية في أسباب ظهور الأديان وقيام الدول.
لقد غابت كل هذه الحقائق عن عامة رجال الدعوة المعاصرة وما زال أكثرهم يظن أنه بالإمكان العيش في مثل هذا الزمان مع صحة الإيمان واستقامة الأديان دون حاجة إلى دولة أو أن هذا الواقع الذي نعيشه لم يبلغ في انحرافه حد اعتقاد جاهليته وأنه بالإمكان إصلاح الخلل وتدارك العطل بالدعوة والدعاء والموعظة الحسنة دون إدراك لما آلت إليه أمور العالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص منذ دخول الاستعمار الغربي الذي ما زال المؤثر الرئيس في مجريات شؤونه إلى يومنا هذا ؟!
إن من الأسباب التي تحول دون الوصول إلى تحقيق الهدف ما له ارتباط بعقائد ومفاهيم استقرت منذ القرن الثاني كالموقف من السلطة وما لها وما عليها كما قال سفيان الثوري ( تركوا لكم دينكم فاتركوا لهم دنياهم ) ؟! وهذه المفاهيم على فرض صحتها ومشروعيتها قد تكون مقبولة بعد قيام الدولة واستقرارها كما في صدر الإسلام لا بعد سقوطها وحال غيابها كما في العصر الحديث بعد زوال الخلافة وسقوط الأمة تحت الاستعمار ونفوذه ومخططاته.
ومن الأسباب التي تعيق الدعوة عن تحقيق هدفها فهم الدين ذاته ومعرفة أبعاده في الحياة السياسية والاجتماعية فما زال أكثر علماء الدعوة ودعاتها يخلطون بين مفهوم الدين ومفهوم التدين فهم يدعون في الواقع إلى التدين لا إلى الدين بشموليته ولهذا صاروا يولون كل اهتمامهم بتربية الأجيال وتعليمهم أمور دينهم دون وجود هدف أبعد من ذلك يسعون إلى تحقيقه .(1/284)
كما صار أكثرهم يدعو إلى العودة إلى الدين وتنفيذ أحكامه وإقامة شرائعه فلا يجد لدعوته صدى اجتماعيا كبيرا بعد أن أسقطوا الإنسان وحقوقه وحريته من خطابهم أو همشوا دوره إذ لم يعد الإنسان في خطابهم هو الهدف والغاية بل الهدف عندهم هو الدين ذاته بينما الهدايات القرآنية و التجارب الإنسانية تؤكد أن نجاح أي حركة اجتماعية إصلاحية مرتبط أشد الارتباط بمدى عنايتها بالإنسان نفسه واهتمامها به وهذا السبب ذاته الذي أدى إلى دخول الناس في دين الله أفواجا فقد كان النبي رحمة للعالمين كافة مسلمهم وكافرهم كما قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) فقد دعاهم وهو في مكة بعد توحيد الله إلى المساواة بين الأغنياء والفقراء والشرفاء والضعفاء والسادة والعبيد وأنهم جميعا في الإنسانية سواء كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى وهذا ما كان الإنسان في حاجته في مجتمع جاهلي قائم على الطبقية والعصبية وهذا ما أنف منه كبراء مكة حتى طلبوا منه صلى الله عليه وسلم مجلسا خاصا بهم يحدثهم فيه كما دعاهم إلى العدل والقسط وهو الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) كما دعاهم إلى تحرير العبيد ومؤاخاتهم ...الخ وكل أحكام الشريعة إنما جاءت من أجل هذا الإنسان وبما فيه صلاح دنياه وأخراه غير أن هذه المعاني التي أدت إلى سرعة ظهور الإسلام وسرعة قبول الأمم له لم تعد من أولويات الدعوة المعاصرة ولهذا غلب على خطابها الوعظ والإرشاد والتعليم والتثقيف مما لا يستثير اهتمام العامة ولا يخاطب نفوسهم
البشرية التي تتوق إلى العيش الكريم في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة ولهذا كان النبي يعد أصحابه ويبشرهم بالنصر والظهور والحياة العزيزة وهو في مكة ولم تنجح الحركات الاجتماعية الإنسانية في الوصول إلى أهدافها إلا بعد أن جعلت الإنسان وتطلعاته محور اهتمامها فقد كانت حقوق الإنسان وحكم الشعب الأساس الذي قامت من أجله الثورة الفرنسية الديمقراطية وكان الاستقلال والحرية الهدف الذي من أجله قامت الثورة الأمريكية الليبرالية وكانت الاشتراكية والعدالة الاجتماعية شعار الثورة الروسية الشيوعية وكان رفع الظلم ونصرة المستضعفين وإنهاء عهد الاستبداد شعار الثورة الإيرانية ولهذا نجحت كل هذه الثورات الإنسانية في تحريك الشعوب والوصول إلى إقامة دولها وفق تصوراتها وأهدافها وتطلعاتها بل تجاوزت في أثرها حدودها الإقليمية إلى الدائرة العالمية حيث صارت نماذج تتطلع شعوب كثيرة إلى تحقيقها كما في الثورات الاشتراكية التي اكتسحت العالم بعد الثورة الروسية وحركات التحرر والاستقلال بعد الثورة الأمريكية والثورات الديمقراطية بعد الثورة الفرنسية...الخ بينما لم يحدث شيء من ذلك في العالم الإسلامي خصوصا بين أهل السنة الذين يمثلون أكثر الأمة مع كثرة جماعاتهم وحركاتهم ودعاتهم ؟!
إن الأسباب التي تعيق الدعوة الإسلامية المعاصرة عن الوصول إلى مرحلة التمكين كثيرة غير أنه يمكن حصرها في :
1 ) العقائد والمفاهيم التي تحول دون العمل من أجل تغيير الواقع كالخشية من المستقبل استدلالا بأحاديث ( لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه ) دون فهمها على الوجه الصحيح مما يدفع إلى المحافظة على الواقع بل وترسيخه والدفاع عنه خشية من المستقبل حتى صار الشعار هو ما يعبر عنه العامة وكثير من أهل العلم بقولهم ( الله لا يغير علينا ).
ومن تلك المفاهيم ربط تحقيق الإصلاح بظهور المهدي وانتظار خلافة على منهاج النبوة استدلالا بأحاديث المهدي والفتن التي حددت سلفا ما الذي سيحصل مستقبلا وما علينا إلا الانتظار بينما استطاع الشيعة الجعفرية الذي يقوم مذهبهم أصلا على هذه النظرية أن يتجاوزوا هذه الإشكالية بعد أن انتظروا المهدي ألف سنة وطال عليهم الأمد وأن يقيموا دولتهم ومشروعهم الإصلاحي ليصبح يوم الشعب الإيراني خيرا من أمسه ومازال يتطلع إلى مستقبل خير من يومه بينما ابتلي أهل السنة بآثار هذه المفاهيم والعقائد التي تحمل في طياتها بذور فناء أي حضارة إنسانية تؤمن بها وتحول دون تقدم أي أمة ومجتمع يتقبلها.(1/285)
ومن تلك العقائد التي تحول دون حدوث الإصلاح الموقف من السلطة وما لها وما عليها هذا الموقف الذي لم يعرفه الصحابة في صدر الإسلام كما تؤكده مواقف طلحة والزبير وعائشة وابن الزبير والحسين ...الخ وقد أدى استقرار مثل هذه العقائد عند أهل السنة جميعا أهل الحديث ومتكلميهم من الأشعرية على حد سواء إلى شيوع ورسوخ ظاهرة الاستبداد السياسي في العالم الإسلامي ثلاثة عشر قرنا من تاريخ الإسلام ؟! بل لقد تم استصحاب هذه العقيدة حتى في ظل سيطرة الاستعمار الأجنبي و في عصر دويلات الطوائف التي صنعها العدو الصليبي على عينه لتصبح هذه العقيدة حجر عثرة وعقبة كؤود تحول دون تغيير الواقع وإصلاحه حيث تم توظيف الدين ذاته في خدمة الاستعمار من جهة والاستبداد من جهة أخرى .
2) العقلية السطحية الاختزالية التي ابتلي بها أكثر العلماء والدعاة كتصورهم إمكانية تحقق الإصلاح دون السعي إلى تغيير هذا الواقع وفق سنن المدافعة والمغالبة التي لا يحصل التمكين إلا بها ومن خلالها كما هي السنن الإلهية الاجتماعية في حصول التغيير ولهذا لم يّمكن الله عز وجل لنبي ولا غيره إلا وفق هذه السنن وهو معنى حديث القوم الذين استهموا على السفينة فأراد من
بأسفلها خرقها ليشربوا فإن تركوهم هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا ولهذا أمر النبي بالأخذ على يد الظالم وأطره على الحق أطرا لما قد يجره ظلمه من هلاك الجميع .
وكتصور أن الصبر على الظلم خير من مقاومته استشهادا بحوادث تاريخية جزئية دون إدراك خطورة الظلم ذاته وأن ما يترتب عليه من نتائج أشد على المدى البعيد من الآثار السلبية التي تنتج عن مقاومته ومن ينظر في تاريخ الأمم يجد ذلك جليا واضحا وكل الأمم اليوم التي تنعم بالحرية والعدالة الاجتماعية وحماية حقوق الإنسان لم يتحقق لها ذلك إلا بعد الثورة على الظلم ومقاومته ورفضها له وعلى العكس من ذلك حال الشعوب التي لم تتصد له إذ ما تزال ترسف في أغلال العبودية للانظمة الاستبدادية ولا يمكن للشعوب المستعبدة أن تحقق نهضة أو تحمل رسالة ولهذا أنزل الله هذا الدين على بني إسماعيل خاصة لكونهم لم يعرفوا الخضوع للملوك من قبل بل ظلت مكة أم القرى مدة ألف عام قبل الإسلام تدار شئونها دون وجود سلطة ولهذا أقام أهلها دار الندوة للشورى وإدارة شؤونها بصورة جماعية وكذا كان حال الطائف وحال المدينة والحجاز عامة فكانوا أقدر الأمم على حمل رسالة الإسلام للناس جميعا وهو ما عبر عنه ربعي بن عامر بقوله ( إن الله أخرجنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ) وهذا ما يستفاد من قصة موسى مع فرعون وإصراره على تحرير بني إسرائيل من العبودية كما في قوله: ( وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) فلا يمكن تحقيق نهضة إصلاحية قبل تحرير الشعوب من الظلم والاستبداد.
3) الخشية من تغيير الواقع بالمدافعة والمغالبة بدعوى الخشية من وقوع الفتن والاستدلال بفشل بعض الحركات الثورية على عدم صحة هذا الأسلوب في تغيير الواقع دون إدراك السنة الاجتماعية التي تؤكد أنه لم تنجح حركة تغييريه إصلاحية بغير هذا الطريق وليس كل حركة تغييريه نجحت به بل الثورة الفرنسية سبقها عدة ثورات كلها فشلت غير أنها أخيرا نجحت وكذا الثورة الأمريكية والثورة الروسية ...الخ وقد نجح العباسيون بعد أن فشل العلويون في ثوراتهم ضد بني أمية . ومن الخطأ الاقتصار على التجارب الفاشلة والوقوف عندها والاستدلال بها ولو فعلت شعوب العالم الغربي ذلك ما استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه من حرية سياسية وعدالة اجتماعية تفقدها شعوب العالم العربي والإسلامي اليوم بسبب هذه التصورات التي تفتقد للعلمية والموضوعية.
لقد استطاعت شعوب كثيرة تحقيق الإصلاح عن طريق الضغط السياسي السلمي والمطالبة بحقها في المشاركة في الحكم لتدير شئونها بنفسها وهذا ما حصل في إنجلترا كما استطاع بعض الملوك المبادرة إلى الإصلاح السياسي وإشراك الشعب في الحكم كما حصل في اليابان غير أن ذلك كله إنما تحقق بعد المدافعة والمغالبة والمطالبة السلمية من تلك الشعوب فتحقق لها ما تريد قبل أن تضطر إلى الثورة الشعبية.
4) الفوضوية والفردية في العمل وهي ظاهرة تتميز بها الشعوب العربية والخليجية على وجه الخصوص التي مازالت تعاني من العقلية القبلية ومن ينظر في تاريخ الحركات التغييرية يجد أنها وبلا استثناء لم تقم بها إلا مجموعات وأحزاب منظمة تسعى إلى تحقيق أهداف واضحة و وشيوع الروح الجماعية هي السبب في تطور المجتمعات الغربية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمهنية عن طريق الأحزاب السياسية والشركات الصناعية والتجارية والجمعيات الخيرية والنقابات المهنية والتي يزيد عمر بعضها على قرن بينما لا تزال الروح(1/286)
الفردية تسيطر على الشعوب العربية وما زالت ظاهرة الذرية والفوضوية والتشرذم تحول دون تطورها وبينما نجد القوى الدولية تتظافر من أجل تنفيذ مخططاتها في العالم العربي والإسلامي بشكل دولي جماعي منظم كالمنظمات الصهيونية العالمية والمنظمات التبشيرية والماسونية ومثلها الشيوعية والاشتراكية التي لها منظماتها الدولية التي تربط بين جميع أحزابها على اختلاف بلدانها وشعوبها وقومياتها و لها اجتماعاتها الدورية للتباحث في شؤونها والتنسيق فيما بينها نجد الحركات الإسلامية على النقيض من ذلك تماما ومع أن اجتماعها ووحدتها من أصول دينها إلا أنها لا تزل تعمل بشكل فردي فوضوي قائم على ردود الأفعال دون أهداف واضحة وبرامج عمل مشتركة ودون منظمات عالمية تكون لفصائلها عمقا استراتيجيا يجعلها قوة مؤثرة على الساحة السياسية في بلدانها ولو لم تصل إلى السلطة .
-------------
سنة الله الماضية في الكون والحياة...
د. محمد شهاب 3/5/2003م
يختلف الناس في تفسير وتحليل ظواهر الكون ... خاصة ظاهرة الاضطراب والانهيار الاجتماعي الذي تزول به حضارات وتدول به دول وأنظمة كبرى بعد أن يظن الناس خلودها ورسوخ قوتها ... ويحار الفلاسفة والمحللون والساسة في إدراك ما جرى وكل منهم يرى بمنظاره ومن زاوية اعتقاده وفكره ، أما المؤمن الواثق من دينه القويم فهو ينظر إلى الأحداث ويفسر مجريات التاريخ بمنظار إسلامي ويزن الأمور بميزان قرآني ، ويغوص إلى المقدمات الخفية والأسباب الباطنية التي أدت إلى النتائج المنظورة .
يدرك المؤمن أن لكل عقيدة تأثيراً ولكل عمل نتيجة ، ولكل فعل وخلق رد فعل وهذه الخواص والتأثيرات التي أودعها الله في العقائد والأعمال والأخلاق دائمة بدوامها كدوام الخواص التأثيرات التي أودعها الله في الأغذية والعقاقير بل أشد وأقوى إذ هي سنة الله التي أجرى بها الكون وأحداثه وأخبر عنها سبحانه: (ولن تجد لسنة الله تبديلاً ) الأحزاب 62 .
ويقف المؤمن خاشعاً أمام سلطان القدرة الإلهية والحكمة الربانية يأخذ العبرة ولا يأخذه العجب مما يرى ، إنه القانون الإلهي الخالد وما يكافئ الله به الإنسان والأفراد والجماعات والدول على صالح الأعمال والأخلاق في الدنيا والآخرة من جزاء وجائزة ، من رحمة وبركة وسلامة وعافية وكرامة ، وما يعاقب الله به على الأعمال والأخلاق الفاسدة من هلاك وعذاب وإذلال ... وما خص به بعض المعاصي من البلايا والآفات في الدنيا والآخرة ، هذا القانون الإلهي المسطور في قوله تعالى ( إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون) ***
ولقد غفل كثير من المسلمين حقيقة هذا القانون والسنة فراحوا عند كل بلية وفتنة يندبون حظهم التعيس ويلقون بالتبعية والمسئولية على أي شيء آخر عدا أنفسهم وما يكسبون ... قال سبحانه ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) الروم 41 ، وقال سبحانه ( ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) الشورى 30 ، ويوم أن أصاب المسلمين ما أصابهم في أحد عقب القرآن على ذلك ( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم ) آل عمران 195 ، ويروى عن الحسن البصري رحمه الله : أنه لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثر قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ،كما يروى عن الإمام علي رضي الله عنه قال : ( ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى وحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) وسأفسرها لك يا علي : ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم ) ، وقال الإمام علي رضي الله عنه : (ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة ) ، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم ( اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا) .(1/287)
أجل إنه القانون الإلهي الخالد ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) الرعد 11 ، ( ذلك بأن الله لم يكُ مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) الأنفال 53 ، فإن كان هذا التغيير والتحول الداخلي لنفوس القوم إلى الخير والصلاح كان الأمن والاستقرار والعز والتمكين ، كان دوام النعمة وبركتها وزيادتها ( لئن شكرتم لأزيدكم ) إبراهيم 9 ، والعكس بالعكس وصدق الله العظيم : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ) الإسراء 16 ، يعني أمرناهم بطاعة الله تعالى ورسوله وعمل الصالحات وعدم الإفساد في الأرض فكفروا وفسقوا فاستحقوا عقاب الله تعالى بالخسف والدمار والهلاك ، وفي قراءة أخرى ( أمرَّنا ) يعني أن الله أملى للمترفين حتى تمكنوا وأصبحوا أمراء على الناس واغتروا بما أوتوا فعصوا ربهم ورسولهم ففسقوا وفجروا وظلموا فحق عليهم غضب الله تعالى ، ولقد أجاب الخليفة الفاروق رضي الله عنه حين سُئل ( أتوشك القرى أن تخرب وهي عامرة ؟ قال إذا علا فجارها على أبرارها وساد القبلية منافقوها ) رواه أحمد ، نعم لأنهم إذا تمكنوا من دفة الأمور ولوَّا أمثالهم من الفجار الفسقة واجتهدوا في نشر الفساد والظلم فكان الجزاء من جنس العمل .
وقد يقول قائل فما بال بعض الصالحين يصابون بالبلاء والأسقام وربما يقع عليهم بعض ما يقع للفجار من الخسف والهلاك وما بال الأطفال والرضع الذين لم يجر عليهم التكليف ولا ذنب لهم وغيرهم ممن لا حول لهم ولا قوة يصاب بعضهم بالأسقام والمهالك ، والجواب على ذلك أننا لا نحيط دائماً بحكمة الله من وراء كل واقعة ، وهذا عين ما استشكل على موسى عليه السلام فيما وقع له من أحداث مع الخضر عليه السلام فلم يطق صبراً ثم تجلت الحكمة الإلهية الخفية بعد ما أطلعه الخضر على بواطن الأمور ، ونضيف كذلك بأن لعظم بعض المنكرات والمفاسد عند ظهورها من قوة التأثير والضرر ما يصيب بعض من لا علاقة لهم بهذه المعاصي كما قال تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) الأنفال 25 ، ويعقب ابن تيمية رحمه الله على الآية : أي لا تختص بالمعتدين بل يتناول من رأى المنكر فلم يغيره ومن قرأ : ( لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) أدخل في ذلك من ترك الإنكار مع قدرته عليه ، وقد يراد أنهم يعذبون في الدنيا ويبعثون على نياتهم كالجيش الذين يغزون البيت فيخسف بهم كلهم ويحشر المكره على دينه )، وهو ما يصفه البعض بقانون العقاب الجماعي في سنة الله الكونية .وفي الحديث المتفق عليه عن زينب بنت جحش رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( .. قلت يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ) حديث 189 رياض الصالحين للنووي ، وروى الترمذي بسنده عن عائشة رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف ، قلت يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا ظهر الخبث )وروي الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ، ثم لتدعُنَّه فلا يستجاب لكم ) حديث 193 رياض الصالحين للنووي
وفي الحديث أيضاً : ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) حديث 197 رياض الصالحين للنووي .(1/288)
وروى أبو داوود وابن ماجة بسنده عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول : (ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا ) وعنه جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أوحى الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام : أن اقلب مدينة كذا وكذا فقال يا رب إن فيهم عبدك فلانًا لم يعصك طرفة عين ، فقال اقلبها وعليه ، فإن وجهه لم يتمعَّر فيَّ ساعة قط ، ولقد ذكرنا أن الله تعالى قد خص بعض المعاصي بعقوبات خاصة من البلايا والآفات في الدنيا والآخرة نذكر منها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ابتلوا بالطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ) حديث 106 سلسلة الصحيح للألباني . وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه قال ( إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ) ، وروى ابن ماجة والترمذي والحاكم وصححه بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ) ، وعن عبد الله بن مسعود ( إذا ظهر الربا والزنا في قرية أذن الله بهلاكها ) قال مجاهد : إن البهائم تلعن عصاة ابن آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر وتقول : هذا بشؤم معصية ابن آدم ، وقال عكرمة : دواب الأرض وهوامها تقول : منعنا القطر بذنوب ابن آدم كذلك خص الله تعالى بعض الطاعات بثواب وحسنات خاصة في الدنيا والآخرة نذكر منها قول الله تعالى : ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً ) نوح 10-12،وقوله تعالى : ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) ، وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ) الأحزاب 70-71 ، وقوله تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ) الطلاق 2-3 .وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس شيء أُطيع الله فيه أعجل ثواباً من صلة الرحم وليس شيء أعجل عقوبة من البغي وقطيعة الرحم واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع ( أي فقراء ) حديث 978سلسلة الصحيح للألباني ، وقوله صلى الله عليه وسلم (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) ، وقوله ( وما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزاً ) ، وقوله : ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ؛ فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً ) متفق عليه حديث 295 رياض الصالحين للنووي ، وقوله كذلك : (من كانت الآخرة همه ، جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ) سلسلة الصحيح للألباني .
وروى الترمذي بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يرد الدعاء إلا القضاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ) حديث 154 سلسلة الصحيح للألباني ومن المشاهد عموماً ( إلا ما استثنى ) أن قوة التقوى تؤثر في صلاح الذرية عموماً وبالمقابل فإن قوة المعصية تؤثر في فساد الذرية ويشهد لذلك ما علل الخضر به بناء الجدار لحفظ كنز الغلامين اليتمين كما جاء في القرآن الكريم ( وكان أبوهما صالحاً ) الكهف 82 .وقد يقول قائل فما بالنا نرى أبواب النعيم في الدنيا تفتح للكافرين ولا يصيبهم ما يصيبنا من نكد في الدنيا على ما هم فيه من كفر وفجور وإفساد ؟ فنقول إن هؤلاء قوم يعجل الله لهم طيباتهم في الحياة الدنيا كما ورد في الأثر ، وهذا أيضاً نوع مما يبتلى المؤمن به ويمتحن إيمانه ويقينه من جهة ثم هو استدراج من الله تعالى ؛ يمهلهم ويمد لهم ، حتى إذا جاءتهم نقمته سبحانه : أخذهم بعذاب شديد دفعة واحدة في الدنيا مع ما يرصده لهم في الآخرة ، كما في الحديث المتفق عليه : ( إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ : " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ، إن أخذه أليم شديد ) هود 102/حديث 207 رياض الصالحين للنووي.(1/289)
ثم إن الله سبحانه يجازي من يفعل الخير منهم في الدنيا وإن لم يرد به وجه الله حتى يأتي يوم القيامة بلا حسنة تقتضي الثواب ، ومن جهة ثالثة نحن نشاهد أيضاً ما يصيبهم من نكد وشقاء روحي وجرائم اجتماعية مروعة وعقوبات حالية بانتشار الأمراض المعضلة التي هي أكثر ما تخصهم دون غيرهم جراء كفرهم وموبقاتهم .وكذلك فإن الله سبحانه قد يسلط في هذه الدنيا بعض الظالمين على بعض بسبب جرائمهم ومفاسدهم وظلمهم فينتقم من بعضهم علي يد البعض الآخر : ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما يكسبون ) ، وروى أحمد بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " الأنعام 44 /حديث 413 سلسلة الصحيح للألباني .
أما المؤمن فإن كل ما يصيبه ما دام مستمسكاً بدينه هو خير ورحمة له على أي وجه من الوجوه ؛ فهو تكفير له عن ذنوبه من جهة ، ويزيد في حسناته من جهة أخرى ويصطفي به من يشاء من أوليائه فيرفع درجاته عند ربه حتى يلقى أحدهم ربه وما عليه من خطيئة من جهة ثالثة ، ويرد عنه بلاء أشد من جهة رابعة ، ويمحص بالبلاء ذات الفرد وصف الجماعة من جهة خامسة ، مع ما يدخره للصابرين من فوز ورضوان في الآخرة من جهة سادسة ، روى مسلم بسنده عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن : إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ).
روى مسلم وأحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا يظلم مؤمناً حسنته يعطى بها " وفي رواية يثاب عليها الرزق في الدنيا " ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها ) حديث 53 سلسلة الصحيح للألباني ، وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ) حديث 43 رياض الصالحين للنووي .
ولننظر الآن إلى أحوال المسلمين لنرى كم نحن بعيدون عن النصر وكم هي رحمة الله ولطفه بنا وبالناس كافة ، ولو شاء لخسف بنا ولكنه الوعد الحق منه سبحانه وإجابة لوعد الحبيب صلى الله عليه وسلم ألا يعذب أمته بسنة عامة أي بعذاب يستأصل شأفتهم كما وقع للأمم السابقة ، ثم هو فضله ورحمته لأمة الحبيب صلى الله عليه وسلم أن أبقى لنا من بعده أماناً من العذاب العام هو الاستغفار : ( وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) الأنفال 32 ، واقتضت حكمته ورحمته أن كل ما يصيبنا من الأعداء على مر العصور مهما بلغ هو مجرد ضر وأذى على سبيل التقليل (لن يضروكم إلا أذى .. ) آل عمران 111، ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ..) آل عمران 120 .
إن كل ما نحن فيه من ذل وهوان وشقاء وضنك وتطاول الأعداء هو بعض عقاب الله تعالى وابتلائه للمسلمين ، وانظر ما ظهر فينا ومجتمعاتنا من موبقات مهلكات وعلى رأسها عدم تحكيم الشريعة وقيام الاقتصاد على الربا والبنوك وإضاعة الصلاة والزكاة وشيوع الخمور والزنا ، بل وملاحقة أولياء الله الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمجاهدين في سبيل الله .
ولعل قائلاً يقول : إننا على كل حال مسلمون ، ومهما كانت معاصينا فلن نبلغ كفر أعدائنا ومفاسدهم ، فكيف يمكن لهم من أراضينا ورقابنا ، فنقول : وهذه الفكرة أيضاً من البلاء الذي تنبه له الفاروق عمر رضي الله عنه وهو يودع ويوصي قائده الفذ سعد بن أبي وقاص لمواجهة جيوش الفرس الجرارة في العراق ، وما أجمل أن نذكر هذه الوصية الخالدة للفاروق والتي تستحق أن تكتب بماء الذهب : ( أما بعد: فإني آمرك ومن معك بتقوى الله على كل حال ، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب ، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم ، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم ، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة ، لأن عددنا ليس كعددهم وعدتنا ليسن كعدتهم ، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة ، و إلا ننصر عليهم بفضلنا فلم تغلبهم قوتنا ، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون ، فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ، ولا تقولوا إن عدونا أشر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا ، فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم كما سلط على "بني إسرائيل" لما عملوا بالمعاصي كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً ، وسلوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم ، وأسأل الله ذلك لنا ولكم .(1/290)
وختاماً .. أيها المسلمون .. لا بد أن نعود جميعاً - فرادى وجماعات ، رعاة ورعية - إلى نفوسنا باللوم الواضح الصريح ولا نعلق عجزنا وفشلنا على أسباب خارجية ؛ ولا أريد هنا أن يكون اللوم سلبياً يثمر حنظلاً من جلد الذات وندب الحظ والعجز عن تدارك ما فات واليأس من النجاة ؛ بل لوماً إيجابياً يدفعنا إلى تدارك الخلل والقصور والتوبة من الذنوب وتصحيح العلم والعمل والسلوك ، تماماً كما فعل أصحاب الجنة حين رأوا ما حل بهم من نذير الله تعالى : ( فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ، قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين ...) القلم 30-31 ، والله وحده المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل . انتهى بحمد الله.
==============
عدم الإنابة إلى الله
قال تعالى في سورة الزمر ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُم الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ {54}(
الإنابة . والإسلام . والعودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام . .
هذا هو كل شيء . بلا طقوس ولا مراسم ولا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء !
إنه حساب مباشر بين العبد والرب . وصلة مباشرة بين المخلوق والخالق . من أراد الأوبة من الشاردين فليؤب . ومن أراد الإنابة من الضالين ، فلينب . ومن أراد الاستسلام من العصاة فليستسلم . وليأت . .
ليأت وليدخل فالباب مفتوح . والفيء والظل والندى والرخاء:كله وراء الباب لا حاجب دونه ولا حسيب !
وهيا . هيا قبل فوات الأوان . هيا من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون . .
فما هنالك من نصير . هيا فالوقت غير مضمون . وقد يفصل في الأمر وتغلق الأبواب في أية لحظة من لحظات الليل والنهار . هيا . واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم . .
وهو هذا القرآن بين أيديكم . .
من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون . .(الظلال)
000000000000000
ارتكاب خمس فواحش
روى ابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِى قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِى لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِى أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ».( حديث حسن لغيره ))
قوله ( إذا ابتليتم ) على بناء المفعول والجزاء محذوف أي فلا خبر ( لم تظهر الفاحشة ) أي الزنا ( بالسنين ) أي بالقحط ( منعوا القطر ) منعوا على بناء المفعول والقطر بالسكون المطر وهو بالنصب مفعول ثان ( لم يمطروا ) على بناء المفعول ( عهد الله ) هو ما جرى بينهم وبين أهل الحرب
==============
ترك الجهاد في سبيل الله
روى الطبراني في الأوسط (3839) بإسناد حسن عن أبي بكر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب
وفي العهود المحمدية :
(أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن لا نغفل عن تحديث أنفسنا بالغزو في سبيل الله لنكتب إن شاء الله من جملة أنصار دين الله، فإن من لا يحدث نفسه بالجهاد ليس له اسم في ديوان أنصار الله وأنصار رسوله، وإن كان له اسم من حيثية أخرى كالاشتغال بالعلم ونحوه مما يؤول لنصرة الدين أيضا وكفى بذلك طردا عن صفات كمال المؤمنين: أي لأن الكامل هو من كان قائما بنصب الدين من سائر الجهات التي تنصب بها القوة وإن كان هو في حالة الفعل أكمل منه في حالة القوة إلا أن يبعد عليه ذلك فيعذر وهذا العهد قد اندرس العمل به في إقليم مصر وغيرها ولا نعلم أحدا يعمل به الآن إلا جند السلطان ابن عثمان نصره الله تعالى، فإنه هو الحامي لبيضة الإسلام الآن شرقا وغربا برا وبحرا فالله ينفعنا ببركاته ويحشرنا من جملة جنده وأنصاره آمين آمين.(1/291)
روى مسلم وأبو داود مرفوعا: <<من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق>>. روى الطبراني مرفوعا: <<ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب>>. روى أبو داود وابن ماجه مرفوعا: <<من لم يغز أصابه الله بقارعة الطريق قبل يوم القيامة>> يعني العذاب. وروى أبو داود وغيره مرفوعا: <<إذا ترك أمتي الجهاد سلط الله تعالى عليهم ذلا لا ينزعه حتى يرجعون إلى دينهم>>. {والله غفور رحيم}
ارتكاب عدة محرمات
روى أبو داود بإسناد صحيح لغيره عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ».
. ( إذا تبايعتم بالعينة ) قال الجوهري : العين بالكسر السلف . وقال في القاموس : وعين أخذ بالعينة بالكسر أي السلف أو أعطى بها . قال والتاجر باع سلعته بثمن إلى أجل ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن انتهى . قال الرافعي : وبيع العينة هو أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر انتهى . وقد ذهب إلى عدم جواز بيع العينة مالك وأبو حنيفة وأحمد , وجوز ذلك الشافعي وأصحابه . كذا في النيل . وقد حقق الإمام ابن القيم عدم جواز العينة ونقل معنى كلامه العلامة الشوكاني في النيل . ( وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع ) حمل هذا على الاشتغال بالزرع في زمن يتعين فيه الجهاد ( وتركتم الجهاد ) أي المتعين فعله ( سلط الله عليكم ذلا ) بضم الذال المعجمة وكسرها أي صغارا ومسكنة ومن أنواع الذل الخراج الذي يسلمونه كل سنة لملاك الأرض . وسبب هذا الذل والله أعلم أنهم لما تركوا الجهاد في سبيل الله الذي فيه عز الإسلام وإظهاره على كل دين عاملهم الله بنقيضه وهو إنزال الذلة بهم فصاروا يمشون خلق أذناب البقر بعد أن كانوا يركبون على ظهور الخيل التي هي أعز مكان . قاله في النيل
التنازع والخصام على الدنيا والعلو في الأرض
قال تعالى في سورة الأنفال ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {46} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {47} وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ {48} (
الاعتبار بمصارع الأمم
قافلة الداعيات - (ج 138 / ص 1)
الاعتبار بمصارع الأمم
كتبه : د. منقذ بن محمود السقار
يقف العالم اليوم في منعطف خطير، خطير لما وصل إليه الكفر من عنجهية واستكبار وكفر بالله الواحد القهار، وخطير لما وصل إليه حال المسلمين اليوم من ذلة وفرقة واختلاف.
والناظر في هذا المآل يبحث عن السبب والمخرج، ما الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من ضروب الذلة؟ وما هو مصير الأمة الكافرة الباغية المتجبرة؟ وهل هي أشد على الله من الأمم التي أهلكها؟ ومتى يصيبها ما أصاب السابقين؟
في هذه السطور نقف مع مصارع الأمم الغابرة وصور العذاب الأليم الذي أنزله الله بها، ليكون لنا في هذه الوقفة صرخة نذير أن يصيبنا ما أصابهم، وبشارة بشير بقرب هلاك الكبر والطغيان {وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
التحذير من سنن الله الماضية في الأمم والاعتبار بمصارعها:
يقص القرآن علينا أمة الإسلام مصارع الأمم الغابرة، لنقرأ سيرهم فنحذر ما أحل بهم العذاب، ولكي نرى ما ينتظر الأمم التي تقع في أمثال هذه المعاصي والآثام، وجاء هذا التحذير في كثير من آيات القرآن الكريم، ومنه:
1- { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } [الإسراء:17].
قال القرطبي في تفسيرها: "ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم" [تفسير القرطبي 6/391].
قال الطبري: "وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قروناً كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به وتكذيب رسله على مثل الذي أنتم عليه، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم لأنه لا مناسبة بين أحد وبين الله جل ثناؤه، فيعذب قوماً بما لا يعذب به آخرين أو يعفو عن ذنوب ناس فيعاقب عليها آخرين" [تفسير الطبري 15/57].(1/292)
2- {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } [الروم:41]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ } [الأنفال:53، 54].
قال الشوكاني: "والمعنى أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم" [فتح القدير 2/318].
3- {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم:42].
قال ابن تيمية: "وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان" [العقود الدرية 1/137].
4- {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران: 188].
قال الطبري: " فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لأعدائه في الدنيا من الخسف والمسخ والرجف والقتل وما أشبه ذلك من عقاب الله ولا هم ببعيد منه" [تفسير الطبري 4/209].
وذكرت الآيات أن المصائب والمهالك عقوبات تصيب الأمم بسبب ذنوبهم وآثامهم، فالله حكم عدل لا يظلم أحداً، ومن هذه الآيات:
1- {وَمَا أَصابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم فبما كسبت أيديكم يقول فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترحتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم، ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم فلا يعاقبكم بها" [الطبري 25/32].
2- {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }َ [التوبة:70].
3- {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44].
قال ابن مسعود: لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في جحرها ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل كما قال: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]" [تفسير القرطبي10/120].
والعذاب والعقوبة التي أوعد الله بها الأمم لها موعد صدق يأتيها وإن طال على سبيل الاستدراج أو الإمهال، إذ هو سنة كونية يعذب الله بها الأمم أمة تلو أمة، وهذه السنن لا تحابي أمة، ولا تتجاوز مستحقاً للعذاب، وإن تأخر ذلك إلى حين أجله، وقد قال الله: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم لا يستأخرون ساعة ولايستقدمون" [تفسير القرطبي10/120].
وقال: {َذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [ن:44-45].
قال القرطبي: "واعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم بل سنة الله إمهال العصاة مدة" [تفسير القرطبي 9/376].
فالعقوبة الإلهية سنة من سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل، كما قال الله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137].
قال القرطبي: "المعنى قد خلت من قبلكم سنن يعني بالهلاك فيمن كذب قبلكم كعاد وثمود والعاقبة آخر الأمر وهذا في يوم أحد يقول فأنا أمهلهم وأملي لهم وأستدرجهم حتى يبلغ الكتاب أجله يعني بنصره النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهلاك أعدائهم الكافرين" [تفسير القرطبي 4/216].
وقال: {) اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } [فاطر:43].(1/293)
قال القرطبي: "سنة الله في خلقه يرفع من تخشع، ويضع من ترفع" [تفسير القرطبي 9/42].
هل يصيب هذه الأمة عذاب الأمم السابقة؟
ابتلى الله الأمم الغابرة بأصناف العذاب البالغة، وهذا العذاب على ضربين:
أولهما: عذاب الاسئئصال، وهو الذي يودي بجميع الأمة فلا يبقي منها ولا يذر، كما حصل مع قوم نوح عاد وثمود.
والثاني: هو ذلكم العذاب الشديد الذي يصيب الأمة ويزلزلها كالطواعين والطوفان والكوارث من خسف ومسخ، وقد عذب الله به فرعون وبني إسرائيل، وهذا النوع من العذاب لا يؤدي إلى فناء الأمة المعذبة برمتها.
وقد ذهب أهل العلم إلى أن النوع الأول قد رفعه الله عن البشرية ببالغ رحمته، ولو عذبهم به كان عادلاً جل وعلا: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍٍ} [فاطر:45]. ولم يرفع من هذا العذاب أصل جنسه، إذ من الممكن أن يسلط الله الريح أو الحاصب على أمة من الأمم من غير أن يستأصلهم به.
قال الحافظ المقدسي: "وتأمل حكمته تعالى في عذاب الأمم السالفة بعذاب الاستئصال لما كانوا أطول أعماراً وأعظم قوى وأعتى على الله وعلى رسوله، فلما تقاصرت الأعمار وضعفت القوى رفع عذاب الاستئصال، وجعل عذابهم بأيدي المؤمنين، فكانت الحكمة في كل واحد من الأمرين ما اقتضته في وقته" [مفتاح دار السعادة 1/255].
ويبين شيخ الإسلام أن الاستئصال إنما رفع برسالة موسى عليه السلام فيقول: "وكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال عذاباً عاجلاً، يهلك الله به جميع المكذبين كما أهلك قوم نوح وكما أهلك عاداً وثمود وأهل مدين وقوم لوط وكما أهلك قوم فرعون،.... إذ كان بعد نزول التوراة لم يهلك أمة بعذاب
الاستئصال، بل قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى } [القصص:43]. بل كان بنو إسرائيل لما يفعلون ما يفعلون من الكفر والمعاصي يعذب بعضهم، ويبقى بعضهم، إذ كانوا لم يتفقوا على الكفر، ولهذا لم يزل في الأرض أمة من بني إسرائيل باقية" [الجواب الصحيح 6/442].
ويقول ـ رحمه الله ـ مبيناً الصورة الجديدة التي أرادها الله لردع أعدائه، ألا وهي الجهاد لهؤلاء الكفار ومراغمتهم حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله: " المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار كما أمر بني إسرائيل على لسان موسى بقتال الجبابرة" [الجواب الصحيح 2/251].
ولما بعث رسول الله كان رحمة للبشرية جمعاء كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ َ} [الأنبياء:107]. قال ابن عباس: "كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس، فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق" [القرطبي 11/350]. ومقصوده الخسف الشامل، وإلا فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوع بعضه فيما بينه وبين الساعة-كما سيأتي في حينه-.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه دعا الله أن لا يهلك أمته بسنة عامة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((وإني سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة...وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة)) [رواه الطبري في تفسيره 7/226، قال ابن حجر: إسناده صحيح. فتح الباري 8/293].
لكنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوع أصناف من العذاب العميم الذي يصيب بعض الأمة دون بعض كما في أحاديث المسخ والقذف والخسف الذي يكون بين يدي الساعة.
وأما حديث جابر لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بوجهك))، قال: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: ((أعوذ بوجهك)) {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا أهون أو هذا أيسر)) [البخاري ح4628]. ففيه قال ابن حجر: "الإعاذة المذكورة في حديث جابر وغيره مقيدة بزمان مخصوص، وهو وجود الصحابة والقرون الفاضلة، وأما بعد ذلك فيجوز وقوع ذلك فيهم" [فتح الباري 8/293]. أي وقوع العذاب لبعض الأمة دون بعض.
قال شيخ الإسلام: "وكان من حكمته ورحمته سبحانه وتعالى لما أرسل محمداً أن لا يهلك قومه بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم، بل عذب بعضهم بأنواع العذاب كما عذب طوائف ممن كذبه بأنواع من العذاب" [الجواب الصحيح 6/443].(1/294)
كما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان لأمته، حين سأل الله أن يرفع عنهم العذاب، فقال: ((وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها وعشرون عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم وعشرون عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً)) [مسلم ح2889].
قال شيخ الإسلام: "هذا الدعاء استجيب له في جملة الأمة و لا يلزم من ذلك ثبوته لكل فرد، وكلا الأمرين صحيح، فإن ثبوت هذا المطلوب لجملة الأمة حاصل، و لولا ذلك لأهلكوا بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم" [مجموع الفتاوى 14/150].
صور العذاب:
يورد القرآن والسنة في عشرات المواضع التي يتحدث الله فيها عن عذابه ورجزه الذي أنزله في الأمم السابقة، وكيف تنوعت صورة انتقام الله العظيم من أعدائه المجرمين والكافرين.
وقد تفاوتت العقوبات التي أصابت الأمم بتفاوت جرائمهم وعصيانهم لله عز وجل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم و جرائمهم، فعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية التي لا يقوم لها شيء، وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أمة غيرهم، فجمع لهم بين الهلاك والرجم بالحجارة من السماء وطمس الأبصار وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين، وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان، وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة فماتوا في الحال ... ومن اعتبر أحوال العالم قديماً وحديثاً وما يعاقب به من يسعى في الأرض بالفساد وسفك الدماء بغير حق، وأقام الفتن واستهان بحرمات الله علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون" [مجموع الفتاوى 16/249]. قال السعدي: "فكل من هؤلاء الأمم المكذبة أخذنا بذنبه على قدره وبعقوبة مناسبة له" [تيسير الكريم 4/60].
كما أن هذه العقوبات الإلهية كانت - في كثير من صورها - صورة لما ارتكبته الأمم من جرائم وقبائح، فكان الجزاء من جنس العمل، يقول ابن القيم: "وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بد منه، فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لمنع الغيث من السماء والقحط والجذب، وجعل ظلم المساكين والبخس في المكاييل والموازين وتعدي القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون إن استرحموا، ولا يعطفون إن استعطفوا، وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم، فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها، فتارة بقحط وجدب، وتارة بعدو،
وتارة بولاة جائرين، وتارة بأمراض عامة، وتارة بهموم والآم وغموم تحضرها نفوسهم، لا ينفكون عنها، وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم، وتارة بتسليط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزاً، لتحق عليهم الكلمة وليصير كل منهم إلى ما خلق له، والعاقل يسّير بصيرته بين الأقطار العالم فيشاهده، وينظر مواقع عدل الله وحكمته" [زاد المعاد 4/363].
ومن صور العذاب الكثيرة نتوقف مع هذه الصور:
1. الغرق والطوفان:
وهو أول عذاب استئصال عذب الله به الكافرين من قوم نوح {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14].
{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح:25]. قال ابن كثير: "من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم أغرقوا فأدخلوا ناراً" [تفسير ابن كثير 8/263].
ثم عذب الله فرعون وجنوده بالغرق في اليم {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } [الأعراف:136]. {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:77].
كما عذب بالسيل والطوفان مملكة سبأ {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:16-17].
وهدد الله الآمنين من مكره بعذاب الغرق فقال: {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ الرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:69].
2. الريح:
وهو عذاب الله عذب به قوم عاد لما كفروا بربهم.
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة:6]. ويقول: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} [فصلت:16].
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24].(1/295)
وقد كان نبينا إذا رأى ريحاً خاف وظهر ذلك في وجهه، وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان إذا عصفت الريح يقول: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)) [مسلم ح(889)].
تقول عائشة رضي الله عنها: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ فقال: ((يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، ورأى قوم العذاب فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا})) [البخاري ح(4829)، مسلم ح (889)].
3. الصيحة:
والصيحة هي كما قال القرطبي في تفسيرها: " صيح بهم فماتوا، وقيل صاح بهم جبريل، وقيل غيره. وقال أيضاً: كانت صيحة شديدة خلعت قلوبهم" [تفسير القرطبي 7/42، 9/61].
وهي عذاب الله الذي عذب به قوم صالح {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67].وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:31].
ويهدد الله المشركين بمثل هذا العذاب فيقول: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} [ص:15].
4. الحاصب:
والحاصب كما قال أبو عبيدة: الحجارة وقال ابن حجر: الحصباء في الريح. [انظر تفسير القرطبي 17/143، فتح الباري 8/391].
وهو العذاب الذي عذب الله به قوم لوط لما كفروا وارتكبوا الموبقات فقال: {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} [العنكبوت:40] وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ الَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} [القمر:34].
وهو قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82، 83].
ونقل القرطبي في تفسيره {وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍٍ} [هود:83]. عن مجاهد أنه قال: ما الحجارة من ظالمي قومك يا محمد ببعيد.
وقال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة، والله ما أجار الله منها ظالماً بعد. [تفسير القرطبي 9/83].
وهو العذاب الذي عذب الله به أصحاب الفيل {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ} [الفيل:1-4].
ومن جنسه الحد الذي جعله الله عقوبة للزاني المحصن، وهو الرجم.
والحاصب هو العذاب الذي حذر الله قريشاً به فقال: {أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:17].
وقال: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الإسراء:68].
5. الخسف:
والخسف هو كما عرفه القرطبي هو "الذهاب في الأرض" [تفسير القرطبي13/318] وهو ذهاب المكان ومن عليه وغيبوبته في بطن الأرض.
وهو عذاب الله به قارون لما بغى وأفسد فقال: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ} [القصص:81]. {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ} [العنكبوت:40].
وهو أحد أنواع العذاب التي تكون في آخر الزمان كما في حديث عمران بن حصين حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، إذا ظهرت القينات والمعازف، وشرب الخمور)) [الترمذي ح(2138) ونحوه في أبي داود].
وقد حذر الله العصاة من هذا العذاب {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [النحل:45]. وقال: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السَّمَاء إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [سبأ:9].
ومن صور الخسف الزلازل التي تميد بالأرض فتخرب المدن بعد عمارها، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أن الزلازل تكثر بين يدي الساعة قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تقتل.... وتكثر الزلازل)) [البخاري ح(7121)].
قال ابن حجر: "وقد وقع في كثير من البلاد الشمالية والشرقية والغربية كثير من الزلازل، ولكن الذي يظهر أن المراد بكثرتها شمولها ودوامها" [فتح الباري 13/87].
6. الجوع والعطش وضيق الأرزاق:(1/296)
وهو ما عذب به قوم سبأ حيث قال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112]. وقال أيضا: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:16، 17].
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [العنكبوت:41].
قال ابن كثير: "بان النقص في الثمار والزروع بسبب المعاصي ليذيقهم بعض الذي عملوا". وقال: "يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه على صنيعهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي عن المعاصي" [تفسير ابن كثير 6/327].
وقال صلى الله عليه وسلم محذراً من وقوع بعض هذا البلاء: ((يا معشر المهاجرين. . خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن. .. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)) [ابن ماجه ح(4019)، والحاكم (4/540) ووافقه الذهبي على تصحيحه].
7. الخوف والفرقة وتسليط الأعداء والذل وكثرة القتل والحروب:
وهذا النوع من العذاب عذب الله به بني إسرائيل فجعلهم فرقاً كثيرة وأضاف إلى ذلك الهوان والذلة إلى يوم القبامة {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء الْعَذَابِ} [الأعراف:167].
وقد صدق الله فكانوا أذل الأمم وأرذلها، وما نراه اليوم من عز وسؤدد فإنما هو بسبب تخاذل المسلمين عن قتالهم، ومصانعة النصارى لهم بحجة أنهم الشعب المبارك، وذلك قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النَّاسِ} [الأعراف:112].
ومنه قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} [الأنعام:65].
وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن:....، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) [ابن ماجه ح(4019)، والحاكم (4/540) ووافقه الذهبي على تصحيحه].
8. المسخ:
وهو كما عرفه المباركفوري التغير في الصورة [تحفة الأحوذي 3/151].
وقد عذب الله بني إسرائيل عندما اعتدوا في السبت {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65]. وقال: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة:60].
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا العذاب يكون في هذه الأمة، ووصف ذنب أولئك الممسوخين والذي بسببه يمسخهم الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر)) [الترمذي ح(2152)، ابن ماجه (4061)].
وعن عمران بن حصين مرفوعاً: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف فقال رجل: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور)) [الترمذي ح(2138) ونحوه في أبي داود].
وعن ابن حبان: ((لا تقوم الساعة حتى يكون في أمتي خسف ومسخ)) [صحيح ابن حبان ح (1890) بإسناد حسن].
قال ابن تيمية: "المسخ واقع في هذه الأمة ولا بد، وهو واقع في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين قبلوا دينه، والمجاهرين المنهمكين في شرب الخمر والمحارم...".
وقال: "إنما يكون الخسف والمسخ إذا استحلوا هذه المحرمات بتأويل فاسد فإنهم لو يستحلوها مع اعتقاد أن الشارع حرمها كفروا ولم يكونوا من أمته، ولو كانوا معترفين بحرمتها لما عقبوا بالمسخ كسائر من يفعل هذه المعاصي، مع اعترافهم بأنها معصية".
9. الأمراض والبلايا والطواعين:
وهو نوع آخر من العذاب يصبه الله على الأمم المتجبرة الكافرة أو المسلمة العاصية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون رجسٌ أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم)) [البخاري ح3214، مسلم ح4108].(1/297)
وقد توعد الله فيه عصاة الأمم فيما جعل الطاعون رحمة وشهادة لهذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) [ابن ماجه ح(4019)، والحاكم (4/540) ووافقه الذهبي على تصحيحه].
قال القرطبي: "الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة". [تفسير القرطبي 9/292].
أسباب وقوع العذاب على الأمم:
أسباب العذاب والمهالك التي تحيق بالمجتمعات كثيرة، ومنها:
1. الظلم والكفر:
والظلم هو تجاوز الحد، وله صور أعظمها الشرك كما قال الله: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، قال ابن حجر: "تفسير الظلم بالشرك على إطلاقه , وإن فسر بما هو أعم فيحمل كل على ما يليق به".[فتح الباري 8/355]
ومما يوقفنا على عظم جريمة الشرك والكفر قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:89-91].
قال تعالى محذراً من الشرك الذي أحل العقوبة بالأمم السابقة: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لما ظلموا} [الكهف:59]. قال ابن كثير: "الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم. .. وكذلك أنتم أيها المشركون: احذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي، ولستم بأعز علينا منهم، فخافوا عذابي ونذر". [تفسير ابن كثير 4/169].
وقال تعالى يحكي عن مصارع الأمم المعذبة بسبب كفرها: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر:18-20].
وقال عن قوم فرعون وغيرهم {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِين}َ [آل عمران:11].
يقول ابن كثير: "فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد كما فعل الأمم المكذبة قبلهم فقلنا بهم ما هو دأبنا أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل" [تفسير ابن كثير 2/320].
وقد جعل الله العقوبة للأمم الكافرة سنة له في خلقه،
فقال: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الاْوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]. قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلا سنة الله بهم في عاجل الدنيا على كفرهم به أليم العقاب، يقول: فهل ينتظر هؤلاء إلا أن أحل بهم من نقمتي على شركهم بي وتكذيبهم رسولي مثل الذي أحللت بمن قبلهم من أشكالهم من الأمم" [الطبري 22/146].
وقد جاءت الآيات تتوعد الأمم الكافرة بسنة الله الماضية في أهل الشرك والكفر {وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الإسراء:58]. قال ابن كثير: "هذا إخبار من الله عز وجل بأنه قد حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ أنه ما من قرية إلا سيهلكها بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم عذاباً شديداً إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم كما قال تعالى عن الأمم الماضين {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} [هود:101]. وقال تعالى: {وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:8، 9]" [تفسير ابن كثير 3/47].
وهذه السنة لا مهرب منها ولا محيص عنها، إذ هي قدر الله الذي لا يغلب، وقد يؤخره الله ليبلغ أجله، لكن {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]. قال القرطبي: "أي أجرى الله العذاب على الكفار، ويجعل ذلك سنة فيهم، فهو يعذب بمثله من استحقه لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره" [تفسير القرطبي 14/360]
2. الطغيان وظلم العباد:
ومن الأسباب التي تحل العذاب في الأمم استضعاف العباد وظلمهم كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف:59].(1/298)
والظلم من المعاصي التي يعجل الله عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) [أبو داود ح4902، الترمذي ح2511، أحمد ح19861]. قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) [أبو داود ح4338، الترمذي ح2168، أحمد ح30].
وقد تتأخر عقوبة الظلم إلى حين وأجل يعلمه الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) قال ثم قرأ: {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] [البخاري ح4409].
وحكى الله عن مصارع الأمم الظالمة الطاغية كقوم عاد وثمود وفرعون، فقال: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلادِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:9-14]. وقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ} [الأنبياء:11]. وقال: {فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج:45].
3. كثرة المعاصي والمنكرات وقلة الأمر بالمعروف:
ومن الأسباب التي تحل العذاب العاجل في الأمم فشو المنكرات وشيوعها، وذلك عندما تقصر الأمة بواجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]. وعن زينب بنت جحش أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فزعًا يقول: ((لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحشٍ: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)) [البخاري ح3346، مسلم ح2880].
يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا فإذا فشا فيهم ولد الزنا فيوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب)) [أحمد ح2629، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح 10/193].
والمنكرات إنما تفشو وتظهر حين تقصر الأمة عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصبح المعصية في المجتمع ظاهرة مألوفة، وحينها تعم العقوبة الجميع ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) [ الترمذي ح2169، وقال: هذا حديث حسن، أحمد ح22790].
وعن عبد الله بن عمر قال أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) [ابن ماجه ح4019، وصححه الألباني ح3246 ].
قال القرطبي: "وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع". [تفسير القرطبي 1/401].
يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما من قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا
يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقابٍ)) [أبو داود ح3775، أحمد ح16]. قال أبو الطيب الآبادي: "قال القاري: إذا كان الذين لا يعملون المعاصي أكثر من الذين يعملونها فلم يمنعوهم عنها عمهم العذاب. وقال العزيزي: لأن من لم يعمل إذا كانوا أكثر ممن يعمل كانوا قادرين على تغيير المنكر غالبًا، فتركهم له رضًا به" [عون المعبود 11/329].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تعمل الخاصة بعمل تقدر عليه العامة أن تغيره ولا تغيره، فذاك حين يأذن الله تعالى في هلاك العامة والخاصة)) [أحمد ح،17267، الطبراني 17/138، ورجاله ثقات، قال ابن حجر: إسناده حسن، فتح الباري 13/4]. قال المباركفوري: "تصيبكم عامة بسبب مداهنتكم" [تحفة الأحوذي 6/329].
قال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكرين أظهرهم، فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم" [تفسير البغوي 2/241].
والعقاب الدنيوي الذي ينزل بالجميع لا يعني الاشتراك في العذاب في الآخرة، بل كل يحاسب عن عمله، فعن أم سلمة مرفوعاً: ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله عز وجل بعذاب من عنده فقلت: يا رسول الله أما فيهم يومئذ أناس صالحون؟ قال: بلى، قالت: فكيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان)) [أحمد ح26056].(1/299)
قال القرطبي: "فإن قيل فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم قيل يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاءا وهلاك المؤمن معوضاً بثواب الآخرة وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم))" [تفسير القرطبي10/120].
4. العتو والكبر والغرور:
والأمة العاتية المغرورة المستكبرة أمة تعرضت لعقوبة الله ونازعت الله ما يستحقه من الكبرياء والعظمة قال تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} [النجم:50-52]. قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: وأنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، إنهم كانوا هم أشد ظلماً لأنفسهم وأعظم كفراً بربهم وأشد طغياناً وتمرداً على الله من الذين أهلكهم من بعد من الأمم، وكان طغيانهم الذي وصفهم الله به، وأنهم كانوا بذلك أكثر طغياناً من غيرهم من الأمم" [تفسير الطبري 27/78].
{أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:9].
قال ابن كثير: "كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم.. وأكثر أموالاً وأولاداً، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومكنوا في الدنيا تمكيناً لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها أعماراً طوالاً، فعمروها أكثر منكم، واستغلوها أكثر من استغلالكم" [تفسير ابن كثير3/428].
وقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم قصة بني إسرائيل عندما أصابهم شيء من العزة بالكثرة والعدد، فجاءتهم العقوبة من الله، وأصابتهم سنن الله العادلة التي تحيق بمن أصابه شيء من الكبر أو الغرور أو العزة بغير الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((إني ذكرت نبياً من الأنبياء أعطى جنوداً من قومه فقال: من يكافئ هؤلاء؟ أو من يقوم لهؤلاء؟ - أو غيرها من الكلام - فأوحى إليه أن اختر لقومك إحدى ثلاث أما أن نسلط عليهم عدواً من غيرهم أو الجوع أو الموت، فاستشار قومه في ذلك، فقالوا: أنت نبي الله، فكل ذلك إليك، خر لنا، فقام إلى الصلاة، كانوا إذا فزعوا فزعوا إلى الصلاة، فصلى ما شاء الله.
قال ثم قال: أي رب، أما عدو من غيرهم فلا، أو الجوع فلا، ولكن الموت.
فسلط عليهم الموت، فمات منهم سبعون ألفاً، فهمسي (أي همس النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في صدر الحديث) الذي ترون أني أقول: اللهم بك أقاتل وبك أصاول، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) [أحمد ح23972].
5. الغلو في الدين:
((يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) [أحمد ح3238، ابن ماجه ح3029،الحاكم 1/456] قال المناوي: "إياكم والغلو في الدين أي التشديد فيه ومجاوزة الحد والبحث عن غوامض الأشياء والكشف عن عللها "[فيض القدير 3/125]
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) [البخاري ح6744، مسلم ح2380].
قال النووي: "المراد بهلاك من قبلنا هنا هلاكهم في الدين بكفرهم , وابتداعهم , فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل فعلهم".
قال ابن حجر عن المسائل الوارد ذمها في الحديث: "ما كان على وجه التعنت والتكلف" [فتح الباري 13/263].
ويفسر ابن تيمية الاختلاف على الأنبياء بالمخالفة لما فيه، قال ابن تيمية: "فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللاً ذلك بأن سبب هلاك الأولين ما كان إلا لكثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة التي أمرهم بذبحها لكن هذا الاختلاف على الأنبياء هو والله أعلم مخالفة للأنبياء، كما يقال: اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه" [اقتضاء الصراط المستقيم1/36]. ومن غلو أهل الكتاب إطراؤهم المسيح وقولهم أنه ابن الله، ومثله طاعتهم المطلقة لأحبارهم ورهبانهم.
6. كفران النعم:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] يقول الطبري في بيان معنى الآية: "ولئن كفرتم أيها القوم نعمة الله فجحدتموها بترك شكره عليها وخلافه في أمره ونهيه وركوبكم معاصيه إن عذابي لشديد، أعذبكم كما أعذب من كفر بي من خلقي" [تفسير الطبري 13/186].(1/300)
وحكى الله مصارع الأمم التي كفرت نعم الله فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112]. قال المناوي: "ما زال شيء عن قوم أشد من نعمة لا يستطيعون ردها، وإنما ثبتت النعمة بشكر المنعم عليه للمنعم، وفي الحِكم: من لم يشكر النعمة فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها. وقال الغزالي: والشكر قيد النعم، به تدوم وتبقى، وبتركه ينعقد وتتحول، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]" [فيض القدير 3/41].
وكما قال الله: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53].قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: إن الله لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضاً واعتداء بعضهم على بعض، فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره" [تفسير الطبري 13/121].
7. التنافس في الدنيا والشح بما فيها:
ومن أسباب العذاب الركون إلى الدنيا والتسابق فيها، وهو الداء الذي أهلك الأمم السابقة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)) [أبو داود ح1698، أحمد ح2753، الحاكم ح1516، ووافقه الذهبي].
قال ابن حجر: "فيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين" [فتح الباري6/263].
وهو ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منه حين حذرها من فتنة الدنيا والتسابق فيها فقال: ((فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم)) [البخاري ح4015، مسلم ح2961]. وقال: ((إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) [البخاري ح1465، مسلم ح1052].
فبسطة الدنيا على العباد سبب طغيانهم كما قال الله: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6، 7]. قال الطبري: "إن الإنسان ليتجاوز حده ويستكبر على ربه فيكفر به لأن رأى نفسه استغنت" [تفسير الطبري30/253].
قال الله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْق لبغوا في الأرض ولمن ينزل بقدر ما يشاءَ}[الشورى:27]. قال ابن كثير: "أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً" [تفسير ابن كثير 4/116].
=================
بأسنا بيننا
روى مالك في الموطأ 1/217بإسناد صحيح على شرطهما حَدَّثَنِى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِى بَنِى مُعَاوِيَةَ - وَهِىَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الأَنْصَارِ - فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ مَسْجِدِكُمْ هَذَا فَقُلْتُ لَهُ نَعَمْ وَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ فَقَالَ هَلْ تَدْرِى مَا الثَّلاَثُ الَّتِى دَعَا بِهِنَّ فِيهِ فَقُلْتُ نَعَمْ. قَالَ فَأَخْبِرْنِى بِهِنَّ. فَقُلْتُ دَعَا بِأَنْ لاَ يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ وَلاَ يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ فَأُعْطِيَهُمَا وَدَعَا بِأَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمُنِعَهَا. قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَلَنْ يَزَالَ الْهَرْجُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فأصبحنا كبني إسرائيل الذين قال الله تعالى فيهم كما سورة الحشر ( لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ {14} ((1/301)
وقال الباجي في المنتقى :
سؤال عبد الله بن عمر أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم من مسجد بني معاوية يحتمل أن يكون حرصا منه على معرفة ما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون على وجه الاختبار للمسئول عن ذلك فإن كان عنده علم وإلا أعلمه , وقوله هل تدري ما الثلاث التي دعا بهن يحتمل الوجهين جميعا , وقوله أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم يعني من غير المؤمنين قال الله تعالى أو آخران من غيركم وقوله أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم يعني من غير المؤمنين ولا يهلكهم بالسنين يريد الشدائد والمحل يقال عام سنة أي عام جدب ومجاعة , وقوله ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها يعني أن لا يجعل الحرب والهرج بينهم قال الله تعالى وسرابيل تقيكم بأسكم وقوله فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة يعني الحرب والفتن والاختلاف .( المنتقى للباجي )
وقال تعالى : قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) [الأنعام/65]
----------------
وفي التحرير والتنوير - (ج 4 / ص 473)
قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } .
استئناف ابتدائي عُقّب به ذكرُ النعمة التي في قوله : { قل من يُنجّيكم } بذكر القدرة على الانتقام ، تخويفاً للمشركين . وإعادة فعل الأمر بالقول مثل إعادته في نظائره للاهتمام المبيَّن عند قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [ الأنعام : 40 ] . والمعنى قل للمشركين ، فالمخاطب بضمائر الخطاب هم المشركون . والمقصود من الكلام ليس الإعلام بقدرة الله تعالى فإنَّها معلومة ، ولكن المقصود التهديد بتذكيرهم بأنّ القادر من شأنه أن يُخاف بأسُه فالخبر مستعمل في التعريض مجازاً مرسلاً مركّباً ، أو كناية تركيبية . وهذا تهديد لهم ، لقولهم { لولا أنزل عليه آية من ربِّه } [ يونس : 20 ] .
وتعريف المسند والمسند إليه أفاد القصر ، فأفاد اختصاصه تعالى بالقدرة على بعث العذاب عليهم وأنّ غيره لا يقدر على ذلك فلا ينبغي لهم أن يخشوا الأصنام ، ولو أرادوا الخير لأنفسهم لخافوا الله تعالى وأفردوه بالعبادة لمرضاته ، فالقصر المستفاد إضافي . والتعريف في { القادر } تعريف الجنس ، إذ لا يقدر غيره تعالى على مثل هذا العذاب .
والعذاب الذي من فوق مثل الصواعق والريح ، والذي من تحت الأرجل مثل الزلازل والخسف والطوفان .
و { يلبسكم } مُضارع لَبَسَه بالتحريك أي خلطه ، وتعدية فعل { يلبسكم } إلى ضمير الأشخاص بتقدير اختلاط أمرهم واضطرابه ومَرجه ، أي اضطراب شؤونهم ، فإنّ استقامة الأمور تشبه انتظام السلك ولذلك سمَّيت استقامة أمور الناس نظاماً . وبعكس ذلك اختلال الأمور والفوضى تشبه اختلاط الأشياء ، ولذلك سمّي مَرَجاً ولَبْساً . وذلك بزوال الأمن ودخول الفساد في أمور الأمّة ، ولذلك يقرن الهَرْج وهو القتل بالمَرْج ، وهو الخلط فيقال : هم في هَرْج ومَرْج ، فسكون الراء في الثاني للمزاوجة .
وانتصب { شِيَعاً } على الحال من الضمير المنصوب في { يَلْبِسَكم } . والشيَع جمع شيعة بكسر الشين وهي الجماعة المتَّحدة في غرض أو عقيدة أو هوى فهم متّفقون عليه ، قال تعالى : { إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيَاً لست منهم في شيء } [ الأنعام : 159 ] . وشيعة الرجل أتباعه والمقتدون به قال تعالى : { وإنّ من شيعته لإبراهيم } [ الصافات : 83 ] أي من شيعة نوح .
وتشتّت الشيع وتعدّد الآراء أشدّ في اللبس والخلط ، لأنّ اللبس الواقع كذلك لبس لا يرجى بعده انتظام .
وعطف عليه { ويذيق بعضَكم بأس بعض } لأنّ من عواقب ذلك اللبس التقاتل . فالبأس هو القتل والشرّ ، قال تعالى : { وسرابيل تقيكم بأسكم } [ النحل : 81 ] . والإذاقة استعارة للألم .
وهذا تهديد للمشركين كما قلنا بطريق المجاز أو الكناية . وقد وقع منه الأخير فإنّ المشركين ذاقوا بأس المسلمين يومَ بدر وفي غزوات كثيرة .
في «صحيح البخاري» عن جابر بن عبد الله قال : " لما نزلتْ { قُلْ هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } قال رسول صلى الله عليه وسلم أعوذُ بوجهك . قال : { أوْ من تحت أرجلكم } قال : أعوذ بوجهك قال : { أو يلبِسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } قال رسول الله : هذا أهون ، أو هذا أيسر "(1/302)
اه . واستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك خشية أن يعمّ العذاب إذا نزل على الكافرين مَن هو بجوارهم من المسلمين لقوله تعالى : { واتَّقُوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة } [ الأنفال : 25 ] وفي الحديث قالوا : « يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث » وفي الحديث الآخر « ثم يُحْشَرُون على نيّاتهم » ومعنى قوله : هذه أهون ، أنّ القتل إذا حلّ بالمشركين فهو بيد المسلمين فيلحق المسلمين منه أذى عظيم لكنَّه أهون لأنَّه ليس فيه استئصال وانقطاع كلمة الدين ، فهو عذاب للمشركين وشهادة وتأييد للمسلمين . وفي الحديث : « لا تتمنَّوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية » وبعض العلماء فسّر الحديث بأنَّه استعاذ أن يقع مثل ذلك بين المسلمين . ويتَّجه عليه أن يقال : لماذا لم يستعذ الرسول صلى الله عليه وسلم من وقوع ذلك بين المسلمين ، فلعلّه لأنه أوحي إليه أنّ ذلك يقع في المسلمين ، ولكن الله وعده أن لا يسلِّط عليهم عدوّاً من غير أنفسهم . وليست استعاذته بدالة على أنّ الآية مراد بها خطاب المسلمين كما ذهب إليه بعض المفسّرين ، ولا أنَّها تهديد للمشركين والمؤمنين ، كما ذهب إليه بعض السلف؛ إلاّ على معنى أنّ مفادها غيرَ الصريح صالح للفريقين لأنّ قدرة الله على ذلك صالحة للفريقين ، ولكن المعنى التهديدي غير مناسب للمسلمين هنا . وهذا الوجه يناسب أن يكون الخبر مستعملاً في أصل الإخبار وفي لازمه فيكون صريحاً وكناية ولا يناسب المجاز المركّب المتقدّم بيانه .
{ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الايات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } .
استئناف وردَ بعد الاستفهامين السابقين . وفي الأمر بالنظر تنزيل للمعقول منزلة المحسوس لقصد التعجيب منه ، وقد مضى في تفسير قوله تعالى : { انظر كيف يفترون على الله الكذب } في سورة [ النساء : 50 ]
وتصريف الآيات تنويعها بالترغيب تارة والترهيب أخرى . فالمراد بالآيات آيات القرآن . وتقدّم معنى التصريف عند قوله تعالى : { انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدفون } في هذه السورة [ 46 ] .
{ ولعلّهم يفقهون } استئناف بياني جواب لسؤال سائل عن فائدة تصريف الآيات ، وذلك رجاء حصول فهمهم لأنَّهم لعنادهم كانوا في حاجة إلى إحاطة البيان بأفهامهم لعلَّها تتذكَّر وترعوي .
وتقدّم القول في معنى ( لعلّ ) عند قوله تعالى : { لعلّكم تتّقون } في سورة [ البقرة : 21 ] .
وتقدّم معنى الفقه عند قوله تعالى : { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } في سورة [ النساء : 78 ] .
--------------
وفي ظلال القرآن - (ج 3 / ص 73)
وتصور العذاب الغامر من فوق ، أو النابع من تحت ، أشد وقعاً في النفس من تصوره آتياً عن يمين أو شمال . فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال! أما العذاب الذي يصب عليه من فوق ، أو يأخذه من تحت ، فهو عذاب غامر قاهر مزلزل ، لا مقاومة له ولا ثبات معه! والتعبير الموحي يتضمن هذا المؤثر القوي في حس الإنسان ووهمه ، وهو يقرر حقيقة قدرة الله على أخذ العباد بالعذاب من حيث شاء وكيف شاء .
ويضيف إلى ألوان العذاب الداخلة في قدرة الله؛ والتي قد يأخذ العباد بها متى شاء؛ لوناً آخر بطيئاً طويلاً؛ لا ينهي أمرهم كله في لحظة؛ ولكنه يصاحبهم ويساكنهم ويعايشهم بالليل والنهار :
{ أو يلبسكم شيعاً ، ويذيق بعضكم بأس بعض } . .
وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد؛ الذي يذوقونه بأيديهم ، ويجرعونه لأنفسهم؛ إذ يجعلهم شيعاً وأحزاباً ، متداخلة لا يتميز بعضها عن بعض ، ولا يفاصل بعضها بعضاً ، فهي أبداً في جدال وصراع ، وفي خصومة ونزاع ، وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك . .
ولقد عرفت البشرية في فترات كثيرة من تاريخها ذلك اللون من العذاب ، كلما انحرفت عن منهج الله؛ وتركت لأهواء البشر ونزواتهم وشهواتهم وجهالتهم وضعفهم وقصورهم . . تصريف الحياة وفق تلك الأهواء والنزوات والشهوات والجهالة والضعف والقصور . وكلما تخبط الناس وهم يضعون أنظمة للحياة وأوضاعاً وشرائع وقوانين وقيماً وموازين من عند أنفسهم؛ يتعبد بها الناس بعضهم بعضاً؛ ويريد بعضهم أن يخضع لأنظمته وأوضاعه وشرائعه وقوانينه البعض الآخر ، والبعض الآخر يأبى ويعارض ، وأولئك يبطشون بمن يأبى ويعارض . وتتصارع رغباتهم وشهواتهم وأطماعهم وتصوراتهم . فيذوق بعضهم بأس بعض ، ويحقد بعضهم على بعض ، وينكر بعضهم بعضاً ، لأنهم لا يفيئون جميعاً إلى ميزان واحد؛ يضعه لهم المعبود الذي يعنو له كل العبيد ، حيث لا يجد أحدهم في نفسه استكباراً عن الخضوع له ، ولا يحس في نفسه صغاراً حين يخضع له .(1/303)
إن الفتنة الكبرى في الأرض هي أن يقوم من بين العباد من يدعي حق الألوهية عليهم ، ثم يزاول هذا الحق فعلاً! إنها الفتنة التي تجعل الناس شيعاً ملتبسة؛ لأنهم من ناحية المظهر يبدون أمة واحدة أو مجتمعاً واحداً ، ولكن من ناحية الحقيقة يكون بعضهم عبيداً لبعض؛ ويكون بعضهم في يده السلطة التي يبطش بها - لأنها غير مقيدة بشريعة من الله - ويكون بعضهم في نفسه الحقد والتربص
. ويذوق الذين يتربصون والذين يبطشون بعضهم بأس بعض! وهم شيع؛ ولكنها ليست متميزة ولا منفصلة ولا مفاصِلة!
والأرض كلها تعيش اليوم في هذا العذاب البطيء المديد!
وهذا يقودنا إلى موقف العصبة المسلمة في الأرض . وضرورة مسارعتها بالتميز من الجاهلية المحيطة - بها والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها ، ولا يفرد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية - وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها؛ باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذي يؤثرون البقاء في الجاهلية ، والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها .
إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب : { أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } . . إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيدياً وشعورياً ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها - حتى يأذن الله لها بقيام « دار إسلام » تعتصم بها - وإلا أن تشعر شعوراً كاملاً بأنها هي « الأمة المسلمة » وأن ما حولها ومن حولها ، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه ، جاهلية وأهل جاهلية . وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج؛ وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين .
فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة ، ولم تتميز هذا التميز ، حق عليها وعيد الله هذا . وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع ، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع ، ولا تتبين نفسها ، ولا يتبينها الناس مما حولها . وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد؛ دون أن يدركها فتح الله الموعود!
إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات . . غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه ، ونتيجة اندغامها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها . .
ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله على أيدي جميع رسل الله ، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره ، وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم . . لم يقع في مرة واحدة ، قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتها لقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة - أي الدين - وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها - أي نظام حياتها - وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعاً .
وطريق هذه الدعوة واحد . ولن يكون في شأنها إلا ما كان على عهود رسل الله جميعاً ، صلوات الله عليهم وسلامه :
{ انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون } . .
والله نسأل أن يجعلنا ممن يصرف الله لهم الآيات فيفقهون . .
*************
والحمد الله رب العالمين
الفهرس العام
الباب الأول)) الأدلة على عدم تخلي الله تعالى عن هذه الأمة ... 4
1. ... أمره بالاستخلاف في هذه الأرض ... 4
وفي الظلال : ... 4
2. ... ائتمان الإنسان على منهجه ... 6
3. ... استخلاف هذه الأمة على منهجه ... 8
4. ... جعلنا خير أمة أخرجت للناس : ... 9
5. ... كمال هذا الدين وختمه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم : ... 9
6. ... الدين الحق عند الله هو الإسلام : ... 15
7. ... عدم قبول غير الإسلام ... 19
8. ... اعتبار من تركه مرتدا وخاسرا ... 20
9. ... هيمنة هذا الدين على الدين كله ... 24
10. ... وجود الخيرية في هذا لأمة حتى قيام الساعة : ... 28
11. ... انتشار هذا الدين في الأرض ... 29
12. ... عدم هلاك الأمة بسنة عامة ... 29
13. ... وجود طائفة من أمته قائمة على الحق حتى قيام الساعة: ... 30
الباب الثاني )-شروط الاستخلاف في هذه الأرض ... 31
1. ... الإيمان المطلق ... 31
2. ... العمل الصالح : ... 38
3. ... إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 45
4. ... الاعتصام بحبل الله وعدم الفرقة : ... 48
5. ... الصبر والمصابرة والتقوى ... 55
6. ... يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ... 58
7. ... لا يوادون من حاد الله ورسوله ... 65
8. ... الإيثار ... 68
9. ... الرحمة ... 70
10. ... السمع والطاعة والإنفاق في سبيل الله ... 78
11. ... تغيير ما بالنفس من شر إلى خير ... 79
الباب الثالث )- شروط النصر : ... 92
1. ... نصرة دين الله ... 92
2. ... الإيمان الحق ... 93
3. ... الثبات عند لقاء العدو والإكثار من ذكر الله وطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم
4. ... الإنابة إلى الله : ... 101
5. ... أن يكونوا جندا للرحمن : ... 103(1/304)
6. ... بذل الجهد الكامل لإصلاح الكفار وهدايتهم واليأس من إصلاحهم ... 114
7. ... الصبر على أذى الكفار ... 115
8. ... الاستغاثة بالله تعالى ... 130
9. ... عدم الخوف إلا من الله : ... 132
10. ... عدم الفرار من المعركة ... 136
11. ... اليقين بوعد الله تعالى : ... 141
12. ... وجوب الإعداد والاستعداد للمعركة : ... 144
13. ... بذل الغالي والنفيس في سبيل الله ... 161
14. ... النظر في السنن ... 168
15. ... وجوب التعلق بالمبدأ وليس بالأشخاص : ... 177
16. ... الاقتداء بالصالحين من السلف الصالح ... 183
17. ... عدم التطلع إلى أية لعاعة من لعاعات الدنيا 196
18. ... أن يكون القتال في سبيل الله ليس إلا ... 200
19. ... عدم الخوف إلا من الله وحده مهما بلغت الشدائد والصعاب ... 206
20. ... يقينهم مهما كانوا ضعفاء أنهم على الحق وعدوهم على الباطل : ... 215
21. ... عدم الاكتراث بالذين لا يوقنون ... 227
22. ... وجوب الصبر و المصابرة والمرابطة والتقوى ... 231
23. ... وجوب الاستعانة بالصبر والصلاة ... 240
24. ... تحمل الأذى الشديد في سبيل الله تعالى وعدم الوهن في طلب الكفار ... 250
25. ... المواظبة على طاعة الله بكل أشكالها في السر والعلن : ... 264
26. ... التحلي بمكارم الأخلاق ... 311
الباب الرابع )- متى يتخلى الله عنا ويخذلنا ؟ ... 323
1. ... عدم الإنفاق في سبيل الله ... 323
2. ... الركون إلى الدنيا ... 334
3. ... حب الدنيا وكراهية الموت ... 341
4. ... إيثار الدنيا ومتاعها على الآخرة ... 346
5. ... الركون إلى الظالمين ... 357
6. ... ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 372
7. ... الترف ... 404
8. ... عدم الإنابة إلى الله ... 442
9. ... ارتكاب خمس فواحش ... 442
10. ... ترك الجهاد في سبيل الله ... 443
11. ... ارتكاب عدة محرمات ... 443
12. ... التنازع والخصام على الدنيا والعلو في الأرض ... 444
13. ... أن يكون بأسنا بيننا ... 460(1/305)