هل تخلى الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟
بقلم
علي بن نايف الشحود
حقوق الطبع لكل مسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين و على آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين
أما بعد :
فإن الذي يرى هذه النكبات ، التي تصب على هذه الأمة صبا من قبل أعدائها ،يظن أن الله تعالى قد تخلى عن هذه الأمة ، فيصل به الحال إلى حدِّ اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى 0
ونسي هؤلاء قول الله تعالى :
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) سورة آل عمران
وقول الله تعالى :
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (32) سورة فاطر
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)
وقوله تعالى :هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
وفي صحيح مسلم ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِىَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِى سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لِى مِنْهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ وَإِنِّى سَأَلْتُ رَبِّى لأُمَّتِى أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ رَبِّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ وَإِنِّى أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا ».
وعند أحمد في مسنده عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ».
ولذا أقول : إن الله تعالى لم يتخل عن هذه الأمة ولن يخلى عنها أبدا حتى قيام الساعة ، وفي هذا الكتاب جواب مفصل على هذا السؤال الجلل ، والرد على من زعم تخلى الله تعالى عن هذه الأمة الخاتمة قال تعالى : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (44) سورة الزخرف
هذا وقد قسمت الموضوع لأربعة أبواب وهي :
الباب الأول)) -الأدلة على عدم تخلي الله تعالى عن هذه الأمة
الباب الثاني )-شروط الاستخلاف في هذه الأرض
الباب الثالث )- شروط النصر :
الباب الرابع )- متى يتخلى الله عنا ويخذلنا ؟
وتحت كل باب تحته بحوث عديدة
قال تعالى :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }البقرة143
هذا وأسال الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره في الدارين آمين
وكتبه الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 22 شعبان 1427 هـ الموافق 16/9/2006 م
**************************
الباب الأول)) -الأدلة على عدم تخلي الله تعالى عن هذه الأمة
وهي كما يلي :
أمره بالاستخلاف في هذه الأرض
قال تعالى في سورة البقرة : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {30}
وفي الظلال :
وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود ، زمام هذه الأرض ، وتطلق فيها يده ، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين ، والتحليل والتركيب ، والتحوير والتبديل ؛ وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ، وتسخير هذا كله - بإذن الله - في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه .
وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة ، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ؛ ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية .(1/1)
وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض - وتحكم الكون كله - والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته ، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك ؛ وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة !
وإذن فهي منزلة عظيمة ، منزلة هذا الإنسان ، في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة . وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم .
هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل: إني جاعل في الأرض خليفة . . حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة ، ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض !
ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا ؛ وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي .
إن أبرز إيحاءات قصة آدم - كما وردت في هذا الموضع - هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان ولدوره في الأرض ، ولمكانه في نظام الوجود ، وللقيم التي يوزن بها . ثم لحقيقة ارتباطه بعهد الله ، وحقيقة هذا العهد الذي قامت خلافته على أساسه . .
وتتبدى تلك القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم ، أنه مخلوق ليكون خليفة في الأرض ؛ كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له . وفي طرد إبليس الذي استكبر وأبى ، وفي رعاية الله له أولا وأخيرا . .
ومن هذه النظرة للإنسان تنبثق جملة اعتبارات ذات قيمة كبيرة في عالم التصور وفي عالم الواقع على السواء .
وأول اعتبار من هذه الاعتبارات هو أن الإنسان سيد هذه الأرض ، ومن أجله خلق كل شيء فيها - كما تقدم ذلك نصا - فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي ، ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعا . ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو شيء مادي . .
لا يجوز أن يعتدي على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة ، ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي ، أو إنتاج أي شيء مادي ، أو تكثير أي عنصر مادي . .
فهذه الماديات كلها مخلوقة - أو مصنوعة - من أجله . من أجل تحقيق إنسانيته . من أجل تقريروجوده الإنساني . فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية ، أو نقص مقوم من مقومات كرامته .
والاعتبار الثاني هو أن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول . فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها ؛ وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها . وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج ، هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلا سلبيا كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر ، بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر !
إن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض ، عاملا مهما في نظام الكون ، ملحوظا في هذا النظام . فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السماوات ومع الرياح ومع الأمطار ، ومع الشموس والكواكب . .
وكلها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض ، وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة . .
فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية ، ولا تسمح له أن يتعداه ؟ !
وما من شك أن كلا من نظرة الإسلام هذه ونظرة المادية للإنسان تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للإنسان ؛ وطبيعة احترام المقومات الإنسانية أو إهدارها ؛ وطبيعة تكريم هذا الإنسان أو تحقيره . .
وليس ما نراه في العالم المادي من إهدار كل حريات الإنسان وحرماته ومقوماته في سبيل توفير الإنتاج المادي وتكثيره ، إلا أثرا من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان ، وحقيقة دوره في هذه الأرض !
كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة الإنسان ووظيفته إعلاء القيم الأدبية في وزنه وتقديره ، وإعلاء قيمة الفضائل الخلقية ، وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته . فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد استخلافه: فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . .
وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية - هذا مع أن من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادية ، ولكن بحيث لا تصبح هي الأصل ولا تطغى على تلك القيم العليا - ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع والنظافة في حياته . بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بكل القيم الروحية ، وإهدار لكل القيم الأدبية ، في سبيل الاهتمام المجرد بالإنتاج والسلع ومطالب البطون كالحيوان !( الظلال)
============
ائتمان الإنسان على منهجه(1/2)
قال تعالى في سورة الأحزاب :( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا {72} لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {73} (
إن السماوات والأرض والجبال - التي اختارها القرآن ليحدث عنها - هذه الخلائق الضخمة الهائلة ، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا . هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة ، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها ؛ وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة . وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية ؛ وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة .
هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا . وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها ؛ وتجذب توابعها بلا إرادة منها ؛ فتؤدي دورها الكوني أداء كاملا . .
وهذه الأرض تدور دورتها ، وتخرج زرعها ، وتقوت أبناءها ، وتواري موتاها ، وتتفجر ينابيعها . وفق سنة الله بلا إرادة منها . وهذا القمر . وهذه النجوم والكواكب ، وهذه الرياح والسحب . وهذا الهواء وهذا الماء . .
وهذه الجبال . وهذه الوهاد . . كلها . . كلها . .
تمضي لشأنها ، بإذن ربها ، وتعرف بارئها ، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة . .
لقد أشفقت من أمانة التبعة . أمانة الإرادة . أمانة المعرفة الذاتية . أمانة المحاولة الخاصة .
وحملها الإنسان . .
الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره . ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره . ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده . ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه ، ومقاومة انحرافاته ونزغاته ، ومجاهدة ميوله وشهواته . .
وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد . مدرك . يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق !
إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم ، القليل القوة ، الضعيف الحول ، المحدود العمر ؛ الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع . .
وإنها لمخاطرة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة . ومن ثم كان ظلوما لنفسه جهولا لطاقته . هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج بنفسه لحمله . فأما حين ينهض بالتبعة . حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه ، والاهتداء المباشر لناموسه ، والطاعة الكاملة لإرادة ربه . المعرفة والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها وفي آثارها إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال في السماوات والأرض والجبال . .
الخلائق التي تعرف مباشرة ، وتهتدي مباشرة ، وتطيع مباشرة ، ولا تحول بينها وبين بارئها وناموسه وإرادته الحوائل . ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء . .
حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة وهو واع مدرك مريد . فإنه يصل حقا إلى مقام كريم ، ومكان بين خلق الله فريد .
إنها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة . . هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله . وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى ، وهو يسجد الملائكة لآدم . وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: ولقد كرمنا بني آدم . .
فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله . ولينهض بالأمانة التي اختارها ؛ والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها . . . !
ذلك كان . .
ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات . وكان الله غفورا رحيما . .
فاختصاص الإنسان بحمل الأمانة ؛ وأخذه على عاتقه أن يعرف بنفسه ، ويهتدي بنفسه ، ويعمل بنفسه ، ويصل بنفسه . .
هذا كان ليحتمل عاقبة اختياره ، وليكون جزاؤه من عمله . وليحق العذاب على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات . وليمد الله يد العون للمؤمنين والمؤمنات ، فيتوب عليهم مما يقعون فيه تحت ضغط ما ركب فيهم من نقص وضعف ، وما يقف في طريقهم من حواجز وموانع ، وما يشدهم من جواذب وأثقال . .
فذلك فضل الله وعونه . وهو أقرب إلى المغفرة والرحمة بعباده: وكان الله غفورا رحيما . .
===============
استخلاف هذه الأمة على منهجه
قال تعالى في سورة فاطر ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ {31} ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ {32} ((1/3)
هذا هو الكتاب في ذاته . وقد أورثه الله لهذه الأمة المسلمة ، اصطفاها لهذه الوراثة ، كما يقول هنا في كتابه:
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا . .
وهي كلمات جديرة بأن توحي لهذه الأمة بكرامتها على الله ؛ كما توحي إليها بضخامة التبعة الناشئة عن هذا الاصطفاء وعن تلك الوراثة . وهي تبعة ضخمة ذات تكاليف ، فهل تسمع الأمة المصطفاة وتستجيب ؟
إن الله سبحانه قد أكرم هذه الأمة بالاصطفاء للوراثة ؛ ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن أساء:
فمنهم ظالم لنفسه . ومنهم مقتصد . ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله . .
فالفريق الأول - ولعله ذكر أولاً لأنه الأكثر عدداً - ظالم لنفسه تربى سيئاته في العمل على حسناته . والفريق الثاني وسط مقتصد تتعادل سيئاته وحسناته . والفريق الثالث سابق بالخيرات بإذن الله ، تربى حسناته على سيئاته . .
ولكن فضل الله شمل الثلاثة جميعاً . فكلهم انتهى إلى الجنة وإلى النعيم الموصوف في الآيات التالية . على تفاوت في الدرجات .
=============
جعلنا خير أمة أخرجت للناس :
قال تعالى في سورة آل عمران ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ {110} (
كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله . . .
إن التعبير بكلمة "أخرجت" المبني لغير الفاعل ، تعبير يلفت النظر . وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة ، تخرج هذه الأمة إخراجا ؛ وتدفعها إلى الظهور دفعا من ظلمات الغيب ، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله . .
إنها كلمة تصور حركة خفية المسرى ، لطيفة الدبيب . حركة تخرج على مسرح الوجود أمة . أمة ذات دور خاص . لها مقام خاص ، ولها حساب خاص:
كنتم خير أمة أخرجت للناس . .
وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة ؛ لتعرف حقيقتها وقيمتها ، وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة ، ولتكون لها القيادة ، بما أنها هي خير أمة . والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض . ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية . إنما ينبغي دائما أن تعطي هذه الأمم مما لديها . وأن يكون لديها دائما ما تعطيه . ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح ، والتصور الصحيح ، والنظام الصحيح ، والخلق الصحيح ، والمعرفة الصحيحة ، والعلم الصحيح . .
هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها ، وتحتمه عليها غاية وجودها . واجبها أن تكون في الطليعة دائما ، وفي مركز القيادة دائما . ولهذا المركز تبعاته ، فهو لا يؤخذ ادعاء ، ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلا له . .
وهي بتصورها الاعتقادي ، وبنظامها الاجتماعي أهل له . فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي ، وبعمارتها للأرض - قياما بحق الخلافة - أهلا له كذلك . .
ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير ؛ ويدفعها إلى السبق في كل مجال . .
لو أنها تتبعه وتلتزم به ، وتدرك مقتضياته وتكاليفه .
===============
كمال هذا الدين وختمه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم :
قال تعالى في سورة المائدة ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {3} ( وقال تعالى في سورة الأحزاب ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا {40} (
إن المؤمن يقف أولا:أمام إكمال هذا الدين ؛ يستعرض موكب الإيمان ، وموكب الرسالات ، وموكب الرسل ، منذ فجر البشرية ، ومنذ أول رسول - آدم عليه السلام - إلى هذه الرسالة الأخيرة . رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين . .
فماذا يرى ؟ . .
يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل . موكب الهدى والنور . ويرى معالم الطريق ، على طول الطريق . ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل لقومه . ويرى كل رسالة - قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءت لمرحلة من الزمان . .
رسالة خاصة ، لمجموعة خاصة ، في بيئة خاصة . .
ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه ؛ متكيفة بهذه الظروف . .(1/4)
كلها تدعو إلى إله واحد - فهذا هو التوحيد - وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الدين - وكلها تدعو إلى التلقي عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الإسلام - ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف . .
حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر ؛ أرسل إلى الناس كافة ، رسولا خاتم النبيين برسالة "للإنسان" لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة ، في زمان خاص ، في ظروف خاصة . .
رسالة تخاطب "الإنسان" من وراء الظروف والبيئات والأزمنة ؛ لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم . .
وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة "الإنسان" من جميع أطرافها ، وفي كل جوانب نشاطها ؛ وتضع لها المبادى الكلية والقواعد الأساسية
فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان ؛ وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان . .
وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة "الإنسان" منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان ؛ من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات ، لكي تستمر ، وتنمو ، وتتطور ، وتتجدد ؛ حول هذا المحور وداخل هذا الإطار . .
وقال الله - سبحانه - للذين آمنوا:
اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
فأعلن لهم إكمال العقيدة ، وإكمال الشريعة معا . .
فهذا هو الدين . .
ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناه هذا - نقصا يستدعي الإكمال . ولا قصورا يستدعي الإضافة . ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير . .
وإلا فما هو بمؤمن ؛ وما هو بمقر بصدق الله ؛ وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين !
إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن ، هي شريعة كل زمان ، لأنها - بشهادة الله - شريعة الدين الذي جاء "للإنسان" في كل زمان وفي كل مكان ؛ لا لجماعة من بني الإنسان ، في جيل من الأجيال ، في مكان من الأمكنة ، كما كانت تجيء الرسل والرسالات .
الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي . والمبادى ء الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان ؛ دون أن تخرج عليه ، إلا أن تخرج من إطار الإيمان !
والله الذي خلق "الإنسان" ويعلم من خلق ؛ هو الذي رضي له هذا الدين ؛ المحتوى على هذه الشريعة . فلا يقول:إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم ، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان ؛ وبأطوار الإنسان !
ويقف المؤمن ثانيا:أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين ، بإكمال هذا الدين ؛ وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة . النعمة التي تمثل مولد "الإنسان" في الحقيقة ، كما تمثل نشأته واكتماله . "فالإنسان" لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له . وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين . وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه ، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه . و"الإنسان" لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده ؛ وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع الله وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه .
إن معرفة "الإنسان" بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد "الإنسان" . .
إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى ؛ يمكن أن يكون "حيوانًا أو أن يكون "مشروع إنسان" في طريقه إلى التكوين ! ولكنه لا يكون "الإنسان" في أكمل صورة للإنسان ، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن . . والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة ، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان !
وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية ، لهو الذي يحقق "للإنسان" "إنسانيته" كاملة . .
يحققها له وهو يخرجه بالتصور الاعتقادي ، في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات ، إلى دائرة "التصور" الإنساني ، الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات .
عالم الشهادة وعالم الغيب . . عالم المادة وعالم ما وراء المادة . . وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود !
ويحققها له وهو يخرجه بتوحيد الله ، من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده ، والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه . فإلى الله وحده يتجه بالعبادة ، ومن الله وحده يتلقى المنهج والشريعة والنظام ، وعلى الله وحده يتوكل ومنه وحده يخاف . .
ويحققها له ، بالمنهج الرباني ، حين يرفع اهتماماته ويهذب نوازعه ، ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء ، والاستعلاء على نوازع الحيوان ، ولذائذ البهيمة وانطلاق الأنعام !(1/5)
ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين ، ولا يقدرها قدرها ، من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها - والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله - فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها . . ويلاتها في التصور والاعتقاد ، وويلاتها في واقع الحياة . .
هو الذي يحس ويشعر ، ويرى ويعلم ، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين . .
الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى ، وويلات الحيرة والتمزق ، وويلات الضياع والخواء ، في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان . .
هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان ؛
والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى ، وويلات التخبط والاضطراب ، وويلات التفريط والإفراط في كل أنظمة الحياة الجاهلية ، هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام .
ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة ، يعرفون ويدركون ويتذوقون هذه الكلمات . لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم ، في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن . .
كانوا قد ذاقوا الجاهلية . .
ذاقوا تصوراتها الاعتقادية . وذاقوا أوضاعها الاجتماعية . وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية . وبلوا من هذا كله ما يدركون معه حقيقة نعمة الله عليهم بهذا الدين ؛ وحقيقة فضل الله عليهم ومنته بالإسلام .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية ؛ وسار بهم في الطريق الصاعد ، إلى القمة السامقة - كما فصلنا ذلك في مستهل سورة النساء - فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم ؛ نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التصورات الاعتقادية حول ربوبية الأصنام ، والملائكة ، والجن ، والكواكب ، والأسلاف ؛ وسائر هذه الأساطير الساذجة والخرافات السخيفة ؛ لينقلهم إلى أفق التوحيد . إلى أفق الإيمان بإله واحد ، قادر قاهر ، رحيم ودود ، سميع بصير ، عليم خبير . عادل كامل . قريب مجيب . لا واسطة بينه وبين أحد ؛ والكل له عباد ، والكل له عبيد . .
ومن ثم حررهم من سلطان الكهانة ، ومن سلطان الرياسة ، يوم حررهم من سلطان الوهم والخرافة . .
وكان الإسلام قد التقطهم من سقح الجاهلية في الأوضاع الاجتماعية . من الفوارق الطبقية ؛ ومن العادات الزرية ؛ ومن الاستبداد الذي كان يزاوله كل من تهيأ له قدر من السلطان [ لا كما هو سائد خطأ من أن الحياة العربية كانت تمثل الديمقراطية ! ] .
"فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال . وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحا مبالغا في القدح حين استضعف مهجوه ، لأن:
قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
"وما كان حجر بن الحارث إلا ملكا عربيا حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا ، وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول:
أنت المملك فيهم وهم العبيد إلى القيامه
ذلوا لسوطك مثلما ذل الأشيقر ذو الخزامه
"وكان عمر بن هند ملكا عربيا حين عود الناس أن يخاطبهم من وراء ستار ؛ وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره" .
"وكان النعمان بن المنذر ملكا عربيا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوما للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء ؛ ويوما للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء" .
"وقد قيل عن عزة كليب وائل:إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد ، فلا يجسر أحد على الدنو من مكان يسمع فيه نباحه . وقيل:"لا حر بوادي عوف" لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره . فكلهم أحرار في حكم العبيد . . " .
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التقاليد والعادات والأخلاق والصلات الاجتماعية . .
كان قد التقطهم من سفح البنت الموءودة ، والمرأة المنكودة ، والخمر والقمار والعلاقات الجنسية الفوضوية ، والتبرج والاختلاط مع احتقار المرأة ومهانتها ، والثارات والغارات والنهب والسلب ، مع تفرق الكلمة وضعف الحيلة أمام أي هجوم خارجي جدي ، كالذي حدث في عام الفيل من هجوم الأحباش على الكعبة ، وتخاذل وخذلان القبائل كلها ، هذه القبائل التي كان بأسها بينها شديدا !
وكان الإسلام قد أنشأ منهم أمة ؛ تطل من القمة السامقة على البشرية كلها في السفح ، في كل جانب من جوانب الحياة . في جيل واحد . عرف السفح وعرف القمة . عرف الجاهلية وعرف الإسلام . ومن ثم كانوا يتذوقون ويدركون معنى قول الله لهم:
اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
ويقف المؤمن ثالثا:أمام ارتضاء الله الإسلام دينا للذين آمنوا . .
يقف أمام رعاية الله - سبحانه - وعنايته بهذه الأمة ، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه . . وهو تعبير يشي بحب الله لهذه الأمة ورضاه عنها ، حتى ليختار لها منهج حياتها . .(1/6)
وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئا ثقيلا ، يكافى ء هذه الرعاية الجليلة . .
أستغفر الله . . فما يكافى ء هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه . . وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة ، ومعرفة المنعم . . وإنما هو إدراك الواجب ثم القيام بما يستطاع منه ، وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه .
إن ارتضاء الله الإسلام دينا لهذه الأمة ، ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار . ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار . .
وإلا فما أنكد وما أحمق من يهمل - بله أن يرفض - ما رضيه الله له ، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله ! . .
وإنها - إذن - لجريمة نكدة ؛ لا تذهب بغير جزاء ، ولا يترك صاحبها يمضي ناجيا أبدا وقد رفض ما ارتضاه له الله . .
ولقد يترك الله الذين لم يتخذوا الإسلام دينا لهم ، يرتكبون ما يرتكبون ويمهلهم إلى حين . .
فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه . .
واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم الله . .
فلن يتركهم الله أبدا ولن يمهلهم أبدا ، حتى يذوقوا وبال أمرهم وهم مستحقون !
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في هذه الوقفات أمام تلك الكلمات الهائلة . فالأمر يطول . فنقنع بهذه اللمحات ، في هذه الظلال ، ويمضي مع سياق السورة إلى مقطع جديد:
وقال :
وقبل أن ننهي هذا التقديم للسورة لا يسعنا إلا أن نبرز الحقيقية التي تتضمنها الآية الثالثة منها . .
فإن قول الله سبحانه لهذه الأمة: اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
يتضمن توحيد المصدر الذي تتلقى منه هذه الأمة منهج حياتها ونظام مجتمعها ، وشرائع ارتباطاتها ومصالحها إلى يوم القيامة ، كما يتضمن استقرار هذا الدين بكل جزئياته الاعتقادية والتعبدية والتشريعية ؛ فلا تعديل فيها ولا تغيير ؛ فقد اكتمل هذا الدين وتم وانتهى أمره . وتعديل شيء فيه كإنكاره كله ؛ لأنه إنكار لما قرره الله من تمامه وكماله ؛ وهذا الإنكار هو الكفر الذي لا جدال فيه . . أما العدول عنه كله إلى منهج آخر ، ونظام آخر ، وشريعة أخرى ؛ فلا يحتاج منا إلى وصف ، فقد وصفه الله - سبحانه - في السورة . ولا زيادة بعد وصف الله - سبحانه - لمستزيد . .
إن هذه الآية تقرر - بما لا مجال للجدال فيه - أنه دين خالد ، وشريعة خالدة . وأن هذه الصورة التي رضيها الله للمسلمين دينا هي الصورة الأخيرة . . إنها شريعة ذلك الزمان وشريعة كل زمان ؛ وليس لكل زمان شريعة ، ولا لكل عصر دين . .
إنما هي الرسالة الأخيرة للبشر ، قد اكتملت وتمت ، ورضيها الله للناس دينا . فمن شاء أن يبدل ، أو يحور ، أو يغير أو يطور !
إلى آخر هذه التعبيرات التي تلاك في هذا الزمان ، فليبتغ غير الإسلام دينا . .
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه .
إن هذا المنهج الإلهي المشتمل على التصور الاعتقادي ، والشعائر التعبدية ، والشرائع المنظمة لنشاط الحياة كله ؛ يحكم ويصرف ويهيمن على نشاط الحياة كله ؛ وهو يسمح للحياة بأن تنمو في إطاره وترتقي وتتطور ؛ دون خروج على أصل فيه ولا فرع ، لأنه لهذا جاء ، ولهذا كان آخر رسالة للبشر أجمعين . .
إن تطور الحياة في ظل هذا المنهج لا يعني مجافاتها أو إهمالها لأصل فيه ولا فرع ؛ ولكن يعني أن طبيعة المنهج تحتوى كل الإمكانيات التي تسع ذلك التطور ؛ بلا خروج على أصل أو فرع . ويعني أن كل تطور في الحياة كان محسوبا حسابه في ذلك المنهج ؛ لأن الله - سبحانه - لم يكن يخفي عليه - وهو يضع هذا المنهج في صورته الأخيرة ، ويعلن إكماله وارتضاءه للناس دينا - أن هناك تطورات ستقع ، وأن هناك حاجات ستبرز ، وأن هناك مقتضيات ستتطلبها هذه التطورات والحاجات . فلا بد إذن أن يكون هذا المنهج قد احتوى هذه المقتضيات جميعا . .
==============
الدين الحق عند الله هو الإسلام :
قال تعالى في سورة آل عمران ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ {19} فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {20} (
وما دام الله متفردا بالألوهية وبالقوامة فإن أول مستلزمات الإقرار بهذه الحقيقة ، هو الإقرار بالعبودية لله وحده وتحكيمه في شأن العبيد كله ؛ واستسلام العبيد لإلههم ، وطاعتهم للقيوم عليهم ، واتباعهم لكتابه ولرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] .(1/7)
ويضمن هذه الحقيقة قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام . .
فهو لا يقبل دينا سواه من أحد . .
الإسلام الذي هو الاستسلام والطاعة والاتباع . .
وإذن فليس الدين الذي يقبله الله من الناس هو مجرد تصور في العقل ؛ ولا مجرد تصديق في القلب . إنما هو القيام بحق هذا التصديق وذلك التصور . . هو تحكيم منهج الله في أمر العباد كله ، وطاعتهم لما يحكم به ، واتباعهم لرسوله في منهجه .
وهكذا . . يعجب من أهل الكتاب ويشهر بأمرهم . .
إذ يدعون أنهم على دين الله . ثم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون !!!
مما ينقض دعوى التدين من الأساس . فلا دين يقبله الله إلا الإسلام . ولا إسلام بغير استسلام لله وطاعة لرسوله ، واتباع لمنهجه ، وتحكيم لكتابه في أمور الحياة . .
ويكشف عن علة هذا الإعراض - الذي هو التعبير الواقعي عن عدم الإيمان بدين الله - فإذا هي عدم الاعتقاد بجدية "القسط" في الجزاء يوم الحساب: ذلك بأنهم قالوا:لن تمسنا النار إلا أياما معدودات . .
معتمدين على أنهم أهل كتاب وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون . .
وهو غرور خادع . فما هم بأهل كتاب ، وما هم بمؤمنين أصلا . وما هم على دين الله إطلاقا ؛ وهم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون .
وبهذا الجزم القاطع يقرر الله سبحانه في القرآن الكريم معنى الدين وحقيقة التدين . .
فلا يقبل من العباد إلا صورة واحدة ناصعة قاطعة . .
الدين:الإسلام . والإسلام:
التحاكم إلى كتاب الله وطاعته واتباعه . .
فمن لم يفعل فليس له دين ، وليس مسلما ؛ وإن ادعى الإسلام وادعى أنه على دين الله . فدين الله يحدده ويقرره ويفسره الله ، وليس خاضعا في تعريفه وتحديده لأهواء البشر . .
كل يحدده أو يعرفه كما يشاء !
لا . بل إن الذي يتخذ الكفار أولياء - والكفار كما يقرر السياق هم الذين لا يقبلون التحاكم إلى كتاب الله - فليس من الله في شيء . .
ولا علاقة له بالله في شيء ولا صلة بينه وبين الله في شيء . .
مجرد من يتولى وينصر أو يستنصر أولئك الكفار الذين يرفضون أن يتحاكموا إلى كتاب الله . ولو ادعوا أنهم على دين الله !
ويشتد التحذير من هذه الولاية التي تذهب بالدين من أساسه . ويضيف السياق إلى التحذير التبصير . تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة القوى التي تعمل في هذا الوجود . فالله وحده هو السيد المتصرف ، مالك الملك ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء . .
وهذا التصريف لأمر الناس ليس إلا طرفا من التصريف لأمر الكون كله . فهو كذلك يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي . .
وهذا هو القيام بالقسط في أمر الناس وفي أمر الكون ، فلا داعي إذن لولاية غيره من العباد ، مهما يكن لهم من قوة ومن مال وأولاد .
ويشي هذا التحذير المؤكد المكرر بما كان واقعا في الجماعة المسلمة يومذاك من عدم وضوح الأمر تماما ؛ ومن تشبث بعضهم بصلاته العائلية والقومية والاقتصادية مع المشركين في مكة ومع اليهود في المدينة ، مما اقتضى هذا التفسير والتحذير . كما أنه يشي بطبيعة ميل النفس البشرية إلى التأثر بالقوى البشرية الظاهرة ، وضرورة تذكيرها بحقيقة الأمر وحقيقة القوى ، إلى جانب إيضاح أصل العقيدة ومقتضياتها في واقع الحياة .
إن الدين عند الله الإسلام . .
الإسلام الذي هو ليس مجرد دعوى ، وليس مجرد راية ، وليس مجرد كلمة تقال باللسان ؛ ولا حتى تصورا يشتمل عليه القلب في سكون ؛ ولا شعائر فردية يؤديها الأفراد في الصلاة والحج والصيام . .
لا . فهذا ليس بالإسلام الذي لا يرضى الله من الناس دينا سواه . إنما الإسلام الاستسلام . الإسلام الطاعة والاتباع . الإسلام تحكيم كتاب الله في أمور العباد . . كما سيجيء في السياق القرآني ذاته بعد قليل .
والإسلام توحيد الألوهية والقوامة . .
بينما كان أهل الكتاب يخلطون بين ذات الله - سبحانه - وذات المسيح - عليه السلام - كما يخلطون بين إرادة الله وإرادة المسيح أيضا . .
ويختلفون فيما بينهم على هذه التصورات اختلافا عنيفا يصل في أحيان كثيرة إلى حد القتل والقتال . .
هنا يبين الله لأهل الكتاب وللجماعة المسلمة علة هذا الاختلاف:
وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم . بغيا بينهم .
إنه ليس اختلافا عن جهل بحقيقة الأمر . فقد جاءهم العلم القاطع بوحدانية الله ، وتفرد الألوهية . وبطبيعة البشرية ، وحقيقة العبودية . .
ولكنهم إنما اختلفوا بغيا بينهم واعتداء وظلما ؛ حينما تخلوا عن قسط الله وعدله الذي تتضمنه عقيدته وشريعته وكتبه .(1/8)
وقد رأينا فيما نقلناه عن المؤلف المسيحي الحديث كيف كانت التيارات السياسية تخلق هذه الاختلافات المذهبية . وليس هذا إلا نموذجا مما تكرر وقوعه في حياة اليهودية والمسيحية . وقد رأينا كيف كانت كراهية مصر والشام وما اليهما للحكم الروماني سببا في رفض المذهب الروماني الرسمي والتمذهب بمذهب آخر !
كما كان حرص بعض القياصرة على التوفيق بين أجزاء مملكته سببا في ابتداع مذهب وسط ، يظن أنه يوفق بين الأغراض جميعا !!
كأنما العقيدة لعبة تستخدم في المناورات السياسية والوطنية !
وهذا هو البغي أشنع البغي . عن قصد وعن علم !
ومن ثم يجيء التهديد القاصم في موضعه المناسب:
ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب . .
وقد عد الاختلاف على حقيقة التوحيد كفرا ؛ وهدد الكافرين بسرعة الحساب ؛ كي لا يكون الإمهال - إلى أجل - مدعاة للجاجة في الكفر والإنكار والاختلاف . .
ثم لقن نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] فصل الخطاب في موقفه من أهل الكتاب والمشركين جميعا . ليحسم الأمر معهم عن بينة ، ويدع أمرهم بعد ذلك لله ، ويمضي في طريقه الواضح متميزا متفردا:
فإن حاجوك فقل:أسلمت وجهي لله ومن اتبعن . وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا . وإن تولوا فإنما عليك البلاغ . والله بصير بالعباد . .
إنه لا سبيل إلى مزيد من الإيضاح بعد ما تقدم . فإما اعتراف بوحدة الألوهية والقوامة ، وإذن فلا بد من الإسلام والاتباع . وإما مماحكة ومداورة . وإذن فلا توحيد ولا إسلام .
ومن ثم يلقن الله - تعالى - رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] كلمة واحدة تبين عقيدته كما تبين منهج حياته:
فإن حاجوك - أي في التوحيد وفي الدين - فقل:أسلمت وجهي لله أنا ومن اتبعن . .
والتعبير بالاتباع ذو مغزى هنا . فليس هو مجرد التصديق . إنما هو الأتباع . كما أن التعبير بالإسلام الوجه ذو مغزى كذلك . فليس هو مجرد النطق باللسان أو الاعتقاد بالجنان . إنما هو كذلك الاستسلام . استسلام الطاعة والاتباع . .
وإسلام الوجه كناية عن هذا الاستسلام . والوجه أعلى وأكرم ما في الإنسان . فهي صورة الانقياد الطائع الخاضع المتبع المستجيب .
هذا اعتقاد محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ومنهج حياته . والمسلمون متبعوه ومقلدوه في اعتقاده ومنهج حياته . .
فليسأل إذن أهل الكتاب والأميين سؤال التبين والتمييز ووضع الشارة المميزة للمعسكرين على وضوح لا اختلاط فيه ولا اشتباه:
وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين:أأسلمتم ؟ . .
فهم سواء . هؤلاء وهؤلاء . المشركون وأهل الكتاب هم مدعوون إلى الإسلام بمعناه الذي شرحناه . مدعوون للإقرار بتوحيد ذات الله ، ووحدة الألوهية ووحدة القوامة . مدعوون بعد هذا الإقرار إلى الخضوع لمقتضاه . وهو تحكيم كتاب الله ونهجه في الحياة .
فإن أسلموا فقد اهتدوا . .
فالهدى يتمثل في صورة واحدة . هي صورة الإسلام . بحقيقته تلك وطبيعته . وليس هنالك صورة أخرى ، ولا تصور آخر ، ولا وضع آخر ، ولا منهج آخر يتمثل فيه الاهتداء . .
إنما هو الضلال والجاهلية والحيرة والزيغ والالتواء . .
عدم قبول غير الإسلام
قال تعالى في سورة آل عمران ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {85} (
وفي الظلال :
هذا هو الإسلام في سعته وشموله لكل الرسالات قبله ، وفي ولائه لكافة الرسل حملته . وفي توحيده لدين الله كله ، ورجعه جميع الدعوات وجميع الرسالات إلى أصلها الواحد ، والإيمان بها جملة كما أرادها الله لعباده .
ومما هو جدير بالالتفات في الآية القرآنية الأولى هنا هو ذكرها الإيمان بالله وما أنزل على المسلمين - وهو القرآن - وما أنزل على سائر الرسل من قبل ، ثم التعقيب على هذا الإيمان بقوله:
ونحن له مسلمون . .
فهذا الإقرار بالإسلام له مغزاه . بعد بيان أن الإسلام هو الاستسلام والخضوع والطاعة واتباع الأمر والنظام والمنهج والناموس . كما يتجلى في الآية قبلها أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون . .
فظاهر أن إسلام الكائنات الكونية هو إسلام الخضوع للأمر ، واتباع النظام ، وطاعة الناموس . .
ومن ثم تتجلى عناية الله - سبحانه - ببيان معنى الإسلام وحقيقته في كل مناسبة . كي لا يتسرب إلى ذهن أحد أنه كلمة تقال باللسان ، أو تصديق يستقر في القلب ، ثم لا تتبعه آثاره العملية من الاستسلام لمنهج الله ، وتحقيق هذا المنهج في واقع الحياة .
وهي لفتة ذات قيمة قبل التقرير الشامل الدقيق الأكيد:
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين . .
إنه لا سبيل - مع هذه النصوص المتلاحقة - لتأويل حقيقة الإسلام ، ولا للي النصوص وتحريفها عن مواضعها لتعريف الإسلام بغير ما عرفه به الله ، الإسلام الذي يدين به الكون كله . في صورة خضوع للنظام الذي قرره الله له ودبره به .(1/9)
ولن يكون الإسلام إذن هو النطق بالشهادتين ، دون أن يتبع شهادة أن لا إله إلا الله معناها وحقيقتها . وهي توحيد الألوهية وتوحيد القوامة . ثم توحيد العبودية وتوحيد الاتجاه . ودون أن يتبع شهادة أن محمدا رسول الله معناها وحقيقتها . وهي التقيد بالمنهج الذي جاء به من عند ربه للحياة ، واتباع الشريعة التي أرسله بها ، والتحاكم إلى الكتاب الذي حمله إلى العباد .
ولن يكون الإسلام إذن تصديقا بالقلب بحقيقة الألوهية والغيب والقيامة وكتب الله ورسله . .
دون أن يتبع هذا التصديق مدلوله العملي ، وحقيقته الواقعية التي أسلفنا . .
ولن يكون الإسلام شعائر وعبادات ، أو إشراقات وسبحات ، أو تهذيبا خلقيا وإرشادا روحيا . .
دون أن يتبع هذا كله آثاره العملية ممثلة في منهج للحياة موصول بالله الذي تتوجه إليه القلوب بالعبادات والشعائر ، والإشراقات والسبحات ، والذي تستشعر القلوب تقواه فتتهذب وترشد . .
فإن هذا كله يبقى معطلا لا أثر له في حياة البشر ما لم تنصب آثاره في نظام اجتماعي يعيش الناس في إطاره النظيف الوضيء ( الظلال)
--------------
توحيد الكلمة على كلمة التوحيد
الحمد لله القائل: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85) ، حمداً لا ينقطع ولا ينفد، وأصلي وأسلم على القائل: (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار )) والقائل: (( والذي نفس محمد بيده لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً، أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين)) .صلاةً باقية إلى الأبد .. وبعد ..
فإن أشد البلاء أن يمس الإسلام ولا حِراك لمن أخذ الله عليهم الميثاق، أن يبلغوا ويقوموا بأمر الله حقّ قيام، حتى دُعي لتبديل الشرع، وجُعلت أصوله تقبل الأخذ والرد، في وسائل الإعلام وحوارات العلماء والمفكرين، في صمت عميم من العلماء وأهل العقل، فأصبح العالِم أحوج إلى النصيحة من الجاهل .
حتى بلغ الأمر إلى تبديل كلام الله والدعوة إلى خلافه، ومن ذلك الدعوة إلى تغيير كلمة الكافر إلى (الآخر)، ونسوا أن الإسلام إسلام والكفر كفر، فأصبح الموحّد يتوجّس غربة، ولو كان الأمر مساومة على دنيا وسلب حظ من حظوظها، لنطق من نطق من أربابها، وصاح من صاح من طلابها، وقد أصبح في عصرنا كثير من أهل العلم ألصق بالدينا من العوام، وما أجمل ما قاله سفيان الثوري: "ما أزداد الرجل علماً فأزداد من الدنيا قرباً إلا ازداد من الله بعداً" فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا ما أخذ الله على أهل العلم أن لا يقارُّوا على كِظَّةِ ظالم مارق، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفظة عنز، ومن نصر الله نصره، وأعزه ومكن له، والواجب على العلماء النهوض والقيام بالحق، ونصرة الملة، لكن المرجو في عصرنا من كثير ممن ينتسب إلى العلم السكوت عن قول الباطل لا قول الحق، فقد أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح، ولكن العلماء استسلامهم في هذا الباب ذلة وعار، ونكوصهم عن بيان التوحيد والتلبيس فيه معقد الشبه بينهم وبين علماء بني إسرائيل، فالمصلحة في نقض كل ما يقف في وجهة التوحيد، فالتوحيد أعظم مصلحة ترجى، والشرك أعظم مفسدة تُدرأ، ومن نكص عن نصرة التوحيد، هَيبةً أو رغبة في مصلحة أعظم بزعمه، فما والله عرف العزم والحزم، ولا متى يكون الإقدام والإحجام، فكلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة، وقد كاد المصلح يُصبح بلا ناصر ولا معين إلا من الله، وسط أناس اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً، واتخذهم له أشراكاً، فباض وفرّخ في صدورهم، ودب ودرج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم وظهور هؤلاء المبدلين والمغيرين للشرع ليس بالأمر الجديد، فالملحدون والمنافقون والمشركون لا يعرفون وقتاً أو زمناً، والموحدون قاعدون لهم كل مرصد، وخروج البعض ممن ينتسب للإسلام ليقول بشيء لم يقله مسلم قبله ليُرضي الكافر، هو هزيمة نفسية شر هزيمة، حتى ظهر ذلك ممن ينتسب للعلم، وهذا ربما يكون من آثار هزيمة النفس التي أورثها الحادي عشر من سبتمبر، فأصبح كثير من الكتاب يتحدث وينتقي ما يظهر محاسن الإسلام بزعمه ويُحسّن صورته، ويتوارى من تقرير الصراع بين الحق والباطل، والكفر والإيمان وجهاد أعداء الله تعالى، حتى وصل ذلك لنقض الإسلام وتحاشي تسمية الكافر باسمه، و وُصِف من يدافع عن عرضه وأرضه ودمه بأنه ملقي بنفسه إلى التهلكة، بل وشرّع بعض المنهزمين ولاية النصارى على المسلمين، فما أشبه الليلة بالبارحة، واليوم بالأمس فحين اغتصاب الفرنسيين للجزائر بلغت الهزيمة بالمسلمين أن قدر الفرنسيون على إعداد فتوى تجعل الجهاد ضد الفرنسيين من باب إلقاء النفس إلى التهلكة، وضرورة الرضا بحكم الفرنسيين في الجزائر .
وإن لم يعتبر المنهزمون بالوحي أن تبديل الحكم الشرعي طلباً لرضا كافرٍ أو منافق ظلم للنفس وللأمة موبقٌ، فها هم الكثير من بني جلدتنا قد بحّت حناجرهم، وكلّت أجسادهم، وتجرحت أقدامهم، وضيّعوا أموالهم في السعي نحو الغرب من أجل المناشدة بالسلام العالمي، والتآلف والتعايش، فما زاد الغرب إلا عتوًا واستكباراً ونفورًا عن الإسلام، فيجب علينا أن نأخذ دين الإسلام بفخر وقوة واعتزاز، ومن ذلك أن نقيم شعيرة الولاء والبراء ونحكّم شرع الله ونضعه حيث وضعه، ونبغض أعداء الإسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين ونتبرأ منهم والآيات والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى والإسلام دين العدل والحق والشمول، فحين العمل يجب أن نأخذ بكل نصوصه، لا نظهر جانباً ونغيّب آخر لمطمع ومصلحة تُزعم، فالإسلام دعى إلى اللين والرفق في موضعه ودعى إلى الجهاد والغلظة في موضعها، وهذا هو نهج النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه نبي الرحمة والعفو، فهو نبي الملحمة، فلا نأخذ أمراً وندع الآخر، بل إن المتعين والواجب أن نشتغل باتباع نهج النبي صلى الله عليه وسلم في الحب والبغض، والولاء والبراء، وأن نراعي حين التعامل مع العدو أحوال المسلمين من قوة وضعف، ففي القوة يُبادر بجهاد أعداء الله، وفي حال الضعف والوهن يؤخذ بآيات الصبر والصفح، مع العمل على إعداد العدة لتتقوى الأمة، فلا تبقى صابرة صافحة ذليلة، وحين الأخذ بهذا الجانب الشرعي لا يلغى الآخر، بل يكون حاضراً لا يُغيّر ولا يُبدل ولا يغيب، ومن انحرف عن نهج الإسلام وكفر بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم انحط إلى أدنى الدركات، وجعل نفسه مع البهائم بل هو أضل سبيلاً، وقد فهم كفار قريش التوحيد أفضل مما فهمه بعض المنتسبين للإسلام في عصرنا من دعاة التقريب بين الأديان، وحوار الحضارات، فحينما قال لهم محمد صلى الله عليه وسلم: (( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) قالوا كما حكى الله عنهم: (( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) (ص:5) ، فعلموا أن كلمة التوحيد تنفي كل إله غير الله، بل قد فهم بعض ملحدي عصرنا التوحيد أفضل منهم، فحينما تكلم الرئيس الروسي "بوتين" عن الحرية الدينية في بلادة قال: نحن نأذن بتعليم ونشر سائر الكتب الدينية لسائر الديانات إلا "التوحيد" لأنه يلغي غيره، ولا يقبل المشاركة وظهور ما يسمى بـ (حوار الحضارات) أو (حوار - تقارب - الأديان) كان في عقد التسعينيات ردًا على أطروحة "صامويل هنتنجتون" (صدام الحضارات) فبدأ جملة من كُتاب الغرب ومن خلفهم من أبواق مصطنعة من أبناء المسلمين يروجون لفكرة (حوار الحضارات) و( التقريب بينها) و (المساواة بين الأديان) وأن أهل الكتاب مؤمنون بالخالق كالمسلمين وليسوا كفاراً، وتولد عنها انعقاد المؤتمرات والندوات لتُعنى بذلك، وبثوا سموهم الزعاف في مدح الإسلام والمسلمين تارة ووصفهم بالإرهاب تارة أخرى، وتلوّنوا في ذلك كالحرباء بحسب مصالحهم، وأننا شركاء معهم في الإنسانية وعِمارة الأرض، وغرسوا في نفوس الكثير فكرة احترام الرأي الآخر مهما كان، وبثوا المفاهيم والأفكار والمصطلحات الغربية بين المسلمين لتصبح مطالب ومقاييس!
وقد وقع بعض أبناء المسلمين من علماء وأفراد ومؤسسات في شِراكهم، ففتقوا ما يسمى بـ (المصلحة) حتى دخل منها الكفر والزندقة، وفكرة الإخوة بين المسلمين وغيرهم من الكفار، وساروا بفكرة الأولويات النابعة من واقع المصلحة العامة، التي تجعل للعقل مدخلاً في منازعة الله في حقّه في التشريع وإصدار الأحكام، ولجؤوا إلى العموميات دون التفصيل لتمييع أصول وأحكام وأنظمة الإسلام.
وقد جاء الإسلام بمفاهيم ومناهج وسلوك لتحديد هوية المسلم لتميزه عن غيره، وتحدد له الطريق القويم والمحجة الواضحة للوصول إلى النجاة، قال تعالى (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي)) (يوسف:108)، ويلزم من هذا عدم التخلي عن أي أمر متعلق بأخلاق وحياة الأمة المسلمة، فحياتنا على نهج معيّن خاص، مبني على عقيدة التسليم لله والعبودية له، والانقياد له بالطاعة، فالإسلام ليس كغيره فقد جاء بحفظ الدين والدنيا فهو سياسة واجتماع واقتصاد وسلوك وتربية، غير أن قوّة الكفار وضعف المسلمين وفرضهم الأنظمةَ الكافرة والقوانين المضادة لحُكم الله، قد جرأ عدداً من أبناء المسلمين أن يطلبوا مجتمعاً غير مسلم، قال تعالى (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) (المائدة:50) ، فتمكنت الهزيمة في قلوبهم، حتى لو ترك الغرب ( اليهود والنصارى ) ما هم عليه من قوانين وأنظمة إلى قوانين أخرى لإدراكهم بخطأ ما كانوا عليه لتركوا ذلك معهم، ولو عادوا لما كانوا عليه من قبل لعادوا معهم مرة أخرى...
وقد حكم الله ولا مبدل لحكمه أن من لم يكن على الإسلام فهو من ملة الكفر، مستحق للنار والخلود فيها إلى أبد الآبدين، وهذا أصل التوحيد، وعليه بُعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وخلقت الجنة والنار، وشرع الجهاد، ونصب الميزان، ووضع الحساب والعقاب، أصل مستقر لا خلاف فيه عند المسلمين عالمهم وجاهلهم، ومن شككّ فيه، فضلاً عن مخالفته، فليس هو من المسلمين، بل من أدخل المشككّ فيه والمخالف في دائرة الإسلام كافر خارج عن الملة باتفاق المسلمين، ومن العجب أن مثل هذا الأصل يبيّن، فهو من الواضحات، والأصول البينات. وقد جاء القرآن والسنة مفرقاً بين المسلمين والكفار، ومبيناً أن هذين الاسمين اصطلاحان شرعيان لا يجوز النزاع فيهما، وجعل ذلك أصلاًَ من الأصول، إذ لا تكاد تخلو سورة من بيانه، فبيّن الفرق بين مدلول كلمتي (المسلم ) و(الكافر)، فكان المسلم كل من يدين بدين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فحسب، وكان الكافر كل من يدين بغير الإسلام (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)). وهذا الفهم بيّن واضح وصريح وجلي كالشمس، في أن غير المسلم يكون كافراً مهما كان دينه وشريعته، وإذا مات دخل النار، وأن المسلم إذ مات مآله الجنة، فالأصل أن يسمى كل باسمه، فالكافر لا يصح أن نسميه (غير المسلم) فحسب بل هو كافر أيضاً، فبهذه المصطلحات الشرعية وبهذه المسميات التي أنزلها الله في كتابه وفي سنة نبيه يتم التميز بين البشرية في الأرض، وفي دائرة كل مسمى تتفرع المسميات فالكافر يكون يهودياً أو نصرانياً أو بوذياً أو هندوسياً مهما كان دينه، ومهما كان فكره فيكون شيوعياً أو ماسونياً أو علمانياً أو ليبرالياً ونحو ذلك.
فهذا التميز بين المسلمين وغيرهم أصل في عقيدة الإسلام وأحكامه بل هو أساسه، فلا حلول وسط ولا التقاء مع الكفار في الأسماء ولا في الأحكام ولذا قرر تعالى هذا الأصل بقوله: (( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)) (الكافرون:6) فلا توافق بيننا وبين الكفار، إلا بصور معينة بينها الشارع.
فلا يمكن أن يتضح المسلم وحقيقته إلا بتبيين حقيقة الكافر، إذ أن الشيء يتضح ببيانه وبيان ضده.
فعند الحكم على الناس عامة يقال مسلمون وكفار، لا وجود لشيء آخر غير ذلك، حُكْم لا مناص منه، ولا حيدة عنه، إذا هو الإسلام والإسلام هو، لا فريق ثالث في الدنيا غير ذلك، قال تعالى: (( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ )) (التغابن: آية2). حتى من وقع في الكفر وتلبّس به من الأمم والشعوب التي لم تقم عليها الحجة في الظاهر فهي كافرة اسماً، لمشابهتها لفعل الكفّار في الظاهر، لكنها ليست بكافرة حُكماً، فلا تُقاتل، ولا تُسلب المال، ولا تُستباح سائر حُرماتها، حتى تقوم البينة، بخلاف الكفّار الخلّص الذين قامت عليهم البينة والحجة، فهم كفار حُكماً واسماً، ولذلك سمى الله من وقع وتلبّس بفعل الكفر ( كافراً ) وإن لم تبلغه الحجة، فقال تعالى: (( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ)) (التوبة:6) فسماه ( مشركاً ) قبل أن يسمع كلام الله، لكنه ليس بكافرٍ حُكماً حتى يسمع كلام الله.
وبين الله وحكم وهو خير الفاصلين لأجل معرفة العدو من الصديق والحق من الباطل، قال تعالى: (( يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)) (الأنعام:57). أي هو خير من بيّنَ وميّزَ بين الحق والباطل، والسبب من تمييز ذلك في قوله: (( وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)) (الأنعام:55) .وسفور الكفر والإجرام واستبانة سبيله وأهله مهم لوضوح الإيمان والخير واستبانة سبيله وأهله، وحينما يختلط سبيل بآخر، ينعكس ذلك على أهله وسالكيه .وقد حكم الله بذلك كله، ولا مبدل لحكمه، (( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ)) (يوسف:40) لا تزعزع ذلك ذلِة زمرة، ومهانةُ ثُلة، وهزيمة شِرذمة.
سمى الله كل من لا يدين بالإسلام وهو دين محمد صلى الله عليه وسلم كافراً . وقال تعالى: (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) (البينة:1). وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)) (البينة:6) . وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )) (محمد:34) وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)) (محمد:32) . وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ)) (آل عمران:91). وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ)) (غافر:10). وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) (البقرة:161)
بل بيّن أن الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم لا يُحبون الخير لهذه الأمة بقوله تعالى: (( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ )) (البقرة:105) والمراد:
أولاً : أن مما أجمع عليه المسلمون، وهو أصل الاعتقاد في الإسلام المعلوم من الدين بالضرورة :
أنه لم يبق على وجه الأرض دين حق يتعبد الله به سوى دين الإسلام، وأنه الله ختم به الأديان والملل والشرائع (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85) * وأن القرآن الكريم آخر كتب الله نزولاً، وهو ناسخ لكلِّ كتاب أنزل من قبل من التوراة والإنجيل وغيرها ومهيمن عليها، وكلها دخلها التحريف، وقد خص الله القرآن بحفظه، فلم يبق كتاب منزل يتعبد الله به سواه، قال الله تعالى : (( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ)) (المائدة:48) وقال عن حصوصية القرآن: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) (الحجر:9) ، وبين تحريف ما عداه كالتوراة والإنجيل، وأنه قد لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان، فقال الله تعالى : (( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ )) (المائدة:13) ، وقال: (( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ)) (البقرة:79) ، وقوله سبحانه : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) (آل عمران:78) وما كان فيها من صحة فهو منسوخ بالإسلام، ولو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم وهو غَضِب حين رأى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة وقال عليه الصلاة والسلام : (( أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟! ألم آت بها بيضاء نقية ؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) ، فلا يسوغ لأحد من أهل الكتاب أو غيرهم الخروج عن شريعة الإسلام، ومن خرج كفر واستحق العذاب الخالد، فقد ثبت في صحيح مسلم: (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار )) ، فإذا كان هذا في حق أهل الكتاب وهم أمة كتابية، فغيرهم من باب أولى.
وأن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل، كما قال الله تعالى : (( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ )) (الأحزاب:40) ، وقد أخذ الميثاق على سائر الأنبياء أن بعثة محمد ناسخة لشرائعم، ولو بُعث في عصرهم لتبعوه جميعاً، ولا يستحق الاتباع أحد غيره بعده، قال الله تعالى : (( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ)) (آل عمران:81). فموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام يجب عليهما الحكم بشريعة محمد واتباعه، وهما أنبياء الله ففي الحديث السابق: (( لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) وعيسى إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم وحاكماً بشريعته، قال الله تعالى : (( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ)) (الأعراف:157)
وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للناس أجمعين، قال الله تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )) (سبأ:28) ، وقال : (( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)) (الأعراف:158)
ومن الأصول العظام في الإسلام أنَّه يجب اعتقاد كفر كلِّ من لم يدخل فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو ( الإسلام ) من اليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم وتسميته كافراً، وأنَّه عدوٌّ لله ورسوله والمؤمنين، وأنه شر الخلق، وأنه من أهل النار خالداً فيها، قال تعالى : (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ )) (البينة:1) ، وقال : (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ )) (البينة:1) وقد روى مسلم في "صحيحه" قال صلى الله عليه وسلم: (( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار )) ولهذا فمن لم يكفر اليهود والنصارى وكل من خرج عن شريعة محمد فهو كافر لتكذيبه ما جاء وتواتر في الكتابة والسنة، ولنقضه أصول الإسلام التي لا يستقر إلا بها.
ثانياً: أن ما تقدم هي أصول الإسلام وكلياته الاعتقادية، إذا عُلم ذلك فإن الدعوة إلى يُسمى بـ ( وحدة الأديان ) أو ( التقارب بينها ) أو ( الخلط بينها ) دعوة كفرية خبيثة، تهدم الإسلام وتقوض دعائمه وتجرُّ أهله إلى ردَّة شاملة، وأصلها ومنبتها أهل الكتاب، ومصداق ذلك في قول الله سبحانه : (( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ)) (البقرة:217) (( وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء)) (النساء:89) وحينما يئس الغرب من السيطرة وإحكام القبضة على العالم الإسلامي، ووجدوا أن الحائل دون ذلك كله هو الإسلام وصلابة عقيدته، وقوّة أهله فيه، بخلاف سائر شعوب الأرض التي دانت لهم، ورأوا أن نزع الإسلام من القلوب أمر متعذر، سعوا لهذه الدعوى، لتذوب صلابة القلوب وقوّة الأمة وتنصهر فيما يريدون، فإذا تم إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر والحق والباطل والمعروف والمنكر، والعدل والظلم، وكُسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء إذاً ولا براء ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله، وهذا ما يريدونه من المسلمين، فروّجوا لهذه الدعوى، خوفاً مما تقرر في الشرع من عقيدة الولاء والبراء والقتال، قال تعالى: (( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة:29) وقال: (( وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)) (التوبة:36) ودعوة وحدة الأديان أو التقريب بينها، ردَّة صريحة عن دين الإسلام، إن صدرت من مسلم، لأنها تعارض أصول الاعتقاد، وتكذّب القرآن إذ أنه ناسخ لجميع ما قبله من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع، وترضى بالكفر والشرك بالله شبه وبينات.
يثير بعض دعاة التقريب بين الأديان، أو بعض الملحدين الذين يزعمون تسامحاً، وهم في الحقيقة في عِداد الملاحدة المكذبين للكتاب والسنة، يثيرون شيئاً من الشبه التي لا تنطلي على مؤمن، لكن رأينا إزالتها إذا قد تنفذ لبعض العقول التي لا تحسن فهم الكتاب والسنة:
أولها: أن الله قال: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) والإسلام هو الاستسلام لله على أي ملةٍ كانت، وكتب كثير منهم عن معنى كلمة "الإسلام" في هذه الآية الكريمة بوجه لم يقله مسلم قط،فقالوا أن الإسلام هو دين الله ودين من أسلم وجهه وذاته وإرادته للخالق, والكلمة هنا (الإسلام) ولو أنها تشمل المسلمين أتباع الرسالة التي أتى بها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام, إلا أنها لا تقتصر عليهم, كما نرى في الآيتين التين سبقتاها (( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسرِينَ)) (آل عمران:83-85) وقالوا: الآيات التي تبين أن لفظة الإسلام والمسلمين لا تقتصر على أتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عديدة كقوله: (( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) (البقرة:131-133) وقوله: (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين)) (آل عمران:67) وقوله: (( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:52) ، وقوله: (( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُون)) (المائدة:111).َ
قالوا: فالتسمية بـ"المسلمين" شملت أقواماً سبقت مجيء الرسول بقرون عديدة
وبيان ذلك:
أن اليهود الذين اتبعوا موسى عليه السلام والنصارى الذين اتبعوا المسيح عليه السلام هؤلاء مسلمون، ولا وجود لهم اليوم، ووجودهم متعذر، وذلك أنهم حرفوا كلام الله وبدلوا تشريعه، وأشركوا به، فمن أراد أن يتدين بما جاء به موسى وعيسى من تشريع في الإنجيل والتوراة لا يمكنه ذلك، لأنها محرّفة بنص الكتاب والسنة، وهذا أمر محسوم من شكك فيه كفر، فاليهود القائلون بأن عزيرًا ابن الله، وكذا النصارى القائلون بالتثليث فهؤلاء كفار اتفاقًا، كما حكاه ابن حزم كما في "مراتب الإجماع" ( ص 119): ( اتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارًا واختلفوا في تسميتهم مشركين) .
فمن قال ببقاء أمة منهم (مسلمة) باقية على ما لم يحرّف وأن التحريف في بعضهم، مكذِّب في نسخ الشريعة المحمدية لما قبلها، وأن لا إسلام إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قال أن اليهود والنصارى الآن على ما دعى إليه موسى وعيسى، مكذب بعموم الرسالة ونسخها ونصوص القرآن والسنة في إثبات التحريف فيهم، وكلٌّ ذلك كفر بالإجماع (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ* لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (المائدة:72-73)
(( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) (التوبة:30) ومن كفرهم اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالى، قال تعالى: (( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة:31)
والإسلام يُطلق على كل منيب لله موحد له منذ بعثة نوح إلى محمد، وبمحمد نُسخت الشرائع كلها، فمن خالفه فليس بمسلم، إذ أنه مكذب لعموم رسالته ولختام نبوته، وعموم الرسالة وختامها ووجوب المتابعة أصل من أصول الإسلام لا إسلام بدونه (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)). والإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان، ودليل ذلك أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قطع على كل من لم يؤمن به ويتبعه أنه من أهل النار سواءً كان كتابياً أم غير ذلك، فقد روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار))
فهذا قاطع بكقر كل من لم يتدين بدين محمد صلى الله عليه وسلم، وأن عاقبته النار، وأول من يدخل في ذلك اليهود والنصارى..
وقد أمر الله بسلوك سبيل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ )) (الأنعام:153) ومن خالفه متوّعد بالنار ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى))
فالإسلام الآن لا يفسر إلا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، بذلك فسره الشرع، وقيده به، فقوله تعالى: (( فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)) (آل عمران:20) المراد بالإسلام هنا وفي غيرها من الآيات هو ما عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لا ينصرف الاسم لأحد في عصره ومن جاء بعده إلا من تبعه، وتفسير الإسلام على هذا كما جاء في الحديث في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
فشريعة محمد اختصت بالعموم للناس كافة، وناسخة لغيرها ممن قبلها، وتواترت نصوص القرآن والسنة ببيان تحريف التوراة والإنجيل، والمكذب بذلك كافر بالاتفاق، ومن أدخل في حقيقة الإسلام أحداً غير من كان على ملة محمد، أو أخرج من الكفر من خرج منها، مكذب لذلك كله.
فيجب الاستغناء بشريعة محمد عن سائر التشريعات، لأنها ناسخة وخاتمة لسائر الشرائع، جاءت لتوحيد عقيدة البشرية كلها، فقد روى النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأي في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة فقال: (( أمُتهوِّكون يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حياً واتبعتموه وتركتموني ضللتم)) وفي رواية: (( لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) فقال عمر: رضيتُ بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً.ً.
فلم يبق دين صحيح أنزله الله، يُحق به الحق ويُبطل به الباطل وتسمو به الإنسانية، وتسعد به البشرية، وتعمر به الأرض العمارة المرضية، سوى الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من ربه وختم بها ما قبله، فقد سلمت من التحريف والتزييف، لكونها محفوظة من عند الله حفظاً أبدياً، من الله بدأ القرآن وإليه يعود
قال الله تعالى: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) وما في هذا القرآن أصل كل حق جائت به الشرائع السماوية السابقة، مهيمن على جميع الكتب، كما قال تعالى: (( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ)) وشريعة محمد عامة للناس كافة، يجب على كل من سمع بها اتباعها، ومن لم يتبعها فليس من الإسلام في شيء قال تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)) ، فمن سمع بمحمد ودينه ثم لم يؤمن به فهو كافر لما روى مسلم (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار )) ، والمراد بالسماع هنا، هو أن يبلغه ذكر محمد ودينه وأنه نبي موحى إليه، وهذا كافٍ في قيام الحجة، وظهور المحجة.
فبالإسلام ختم الله سائر الشرائع، فلا مكان لاتباع شيء منها، ولا التدين بشيء مما كان عليه السابقون من أهل الكتاب وغيرهم قال تعالى: (( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)) ، فجعل الله الدين المتقبل عنده دين محمد الإسلام، لا يقبل من أحدٍ غيره قال تعالى: (( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)) (آل عمران:19) فمن تعبد بغير الإسلام كفر، وكان من الخاسرين قال: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) وجعل الله نبيه شهيداً على الناس هو وأمته يوم القيامة بما عملوا: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)) (البقرة:143)، وقال: (( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً)) (النساء:41) يعني على سائر من جاء بعدك.
ثانيها : قالوا : الأديان كلها من عند الله وترجع إلى حقيقة واحدة، وكل منا يحمل جانباً من الحقيقة، وأرض الله تسعنا جميعاً مسلمين ومسيحيين ويهوداً وكذلك جنته، مصداقاً لقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) (البقرة:62) . وقريب منها قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) (المائدة:69) وبيان ذلك:
أن المقصود بهذه الآيات من مات على ملته قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل التشريعات السماوية فقط، كاليهودية والنصرانية، فمن مات على ذلك مؤمناً عاملاً للصالحات، لم يكن على تحريف أو تبديل، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهذا لا إشكال فيه بإجماع المسلمين، وهذا التأويل مروي عن أئمة التفسير كمجاهد والسدي، وعلى ذلك حمله سائر المفسرين وحمل الآية على غير ذلك يتضمن ضرب الكتاب ببعضه وإبطال لأحكامه، ونقض لكثير من نصوصه، وما في هذه الآيات نظير صلاة بعض الصحابة إلى بيت المقدس فحينما ماتوا والقبلة كما هي في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وغُيرت القبلة إلى البيت الحرام وجِل بعض الصحابة، هل يتقبل الله منهم أم لا وهل يضيع عملهم أم لا؟ فأنزل الله قوله تعالى : (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ )) (البقرة:143) يعني صلاتكم فقد روى البخاري من حديث زهير عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت وأنه صلى أو صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله: (( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)) ورواه مسلم من وجه آخر.
فالعمل والاقتداء بالحكم الشرعي المنسوخ قبل نسخه امتثال وقربه، والعمل به بعد نسخه مخالفة وبُعد.
فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ )) الآية. قال سلمان الفارسي للنبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم، قال: (( لم يموتوا على الإسلام. قال سلمان: فأظلمت علي الأرض. وذكر اجتهادهم، فنزلت هذه الآية، فدعا سلمان فقال: "نزلت هذه الآية في أصحابك". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي فهو على خير ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك)).
وثمة معنى آخر في التفسير للآية وهو أن الباب في الإسلام مفتوح أمام أهل الأرض جميعاً للإيمان بدعوة محمد، حتى لو لم يكونوا من العرب، إذ العبرة فى الدين الخاتم أنه دين عالمى لا دين عصبية قبلية أو قومية مثلاً، فمعروف أن أنبياء بنى إسرائيل كلهم لم يُبْعَثوا لأحد من خارج أمتهم، فكانت الآية مُزيلة للإشكال واللبس عند أهل الكتاب، أن الشريعة المحمدية للناس كافة، بل مُلزمة لهم.
ولهذا يجد المتأمل أن الله في كتابه قد علَّق نجاة اليهود والصابئين والنصارى على إيمانهم بالله واليوم الآخر وعملهم الصالحات فقط دون اعتبار آخر (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ))
ثم إن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يصح إلا إذا آمن المرء بجميع الأنبياء والرسل، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم وذلك واضح جلي من الآيات التالية: (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِينا)) (النساء:150-151) وقوله (( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ)) (الأنعام:92) " وقطع أن الرحمة لا تكون إلا لمن آمن بمحمد واتبعه (( قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ )) (الأعراف:156-157) (( فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (الأعراف:157) وهذه الآيات التي تمسك بها بعض أهل الكتاب في أن الله زكاهم وبين نجاتهم وأمنهم، من جملة ما أخبر الله عن سابقيهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وما آمنوا به حرفوه عن معناه ومقصده، وما من مرة أثنى القرآن أو السنة على أحدٍ من اليهود والنصارى إلا كان ذلك بعد دخوله الإسلام، إلا أن بعض ذوى الأهواء والعقول المعكوسة يَبْغُون منا أن نقرأ القرآن ونفهمه بعقولهم المريضة وأفهامهم المنكوسة.
وعلى هذا فليس فى القرآن أي تناقض، ولا وجود له إلا في قلوبهم وأفهامهم، وهل من أنزل تلك الآية يقول (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)) ويأمر المُصلي في كل ركعة أن يقول: (( غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)) (الفاتحة:7) والمغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى، وهل من أُنزلت عليه تلك الآية وهو محمد صلى الله عليه وسلم يقول : (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار )) ويقول: (( والذي نفس محمد بيده لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين ((
والصابئون المذكورون ليسوا بأصحاب كتاب سماوي ولا نبي، فلمَ قرنهم الله باليهود والنصارى، وكيف يكونون (( لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) على ذلك المعنى الباطل.
فيجب أن نقرأ ونفهم كلام الله فى كُلّيّته وشموله ولا نجعله عِضِين.
فتأمل قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) ذلك أنه لا معنى لاشتراط الإيمان بالله واليوم الآخر فى حالة المؤمنين، أي المسلمين، وهم المذكورون فى أول الآية، إذ هم مؤمنون، فلا يلحقهم وصف الإيمان أصلاً إلا بذلك، على عكس الحال مع اليهود والصابئين والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد بعد، ومن ثم فلا يُعَدّون مؤمنين كما بيّنّا..
ولو كان النصارى والصابئون واليهود من أهل هذا الوعد (( أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ )) لكانوا والمسلمين سواء، ولما وجب دعوتهم إلى الإسلام فهم لهم الأجر مع الأمن التام يوم القيامة، والآيات في دعوتهم أكثر من أن تُحصى، وقد بعث النبي معاذاً إلى اليمن يدعوهم إلى النجاة.
ثم إن هذا الفهم فيه اتهام للقرآن بالتناقض، فمن هم الذين قال الله فيهم: (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ* لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (المائدة:71-72) ولماذا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر والمقوقس وغيرهما يدعوهم إلى الإسلام مخبراً لهم بحصول الإثم إن أعرضا عن دعوته، فالنصارى لا يؤمنون بالإله الحق، بل يؤلهون عيسى، ويجعلونه رباً من دون الله، فهم في الحقيقة مشركون يعبدون غير الله كما يعبد البوذيون، والبراهمة، وأتباع كونفوشيوس في الصين،ولا يؤمنون باليوم الآخر الصحيح الذي جاء به الإسلام، وإنما يؤمنون بيوم يجلس فيه المسيح ليحاسب الناس، بل لا يؤمنون بمتع الجنة الحسية التي يتحدث عنها القرآن، والله قد أخبر أن اعتقادهم ذلك كفر لا ينفعهم، فقد وصفهم أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، كما في قوله (( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ))، وهذه الآية بالإجماع في اليهود والنصارى عند المفسرين، فكيف يصفهم الله هنا بعدم الإيمان بالله واليوم والآخر وهناك يصفهم به!
ثم أن الله قال مبيناً بعدهم عن الإيمان (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ)) (المائدة:65) وليُعلم أن أصحاب الأهواء والنصارى خاصة حريصون أشد الحرص على إشاعة اللبس في هذه الآيات وإيهام الجهلة من المسلمين بأن القرآن يُخبر بنجاتهم ويمدح حالهم، وينص على إيمانهم، لكن هيهات هيهات والمسلم يقرأ في كل ركعة: (( وَلاَ الضَّالِّينَ)) (الفاتحة:7) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون)) وهم المقصودون في آخر سورة الفاتحة، قال ابن أبي حاتم في "تفسيره": (ولا أعلم في هذا بين المفسرين اختلافاً) وعلى ذلك:
فإن الدعوة إلى جمع الكلمة وتوحيد الصفوف على أمر غير الإسلام وتوحيد الله مع تنحية نصوص القرآن والسنة كفر وردة عن الدين، بل من رضي بذلك ورغب فيه، واستحسنه مرتد قطعاً بجميع أدلة التشريع من قرآن وسنة وإجماع.
فلا يجوز الدعوة إلى ذلك، ولا الرضى به، بل يجب إنكاره والتحذير منه .ولا يجوز بالإجماع لمسلم أن يبني كنيسة، أو يعتني بها، أو يطبع التوراة والإنجيل لنشره .ويجب دعوة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار إلى الإسلام باللين والحسنى، قال تعالى: (( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) (العنكبوت:46) ليخرجوا من الظلمات إلى النور، وإقامة الحجة عليهم ليحي من حي عن بينه ويهلك من هلك عن بينة قال الله تعالى : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:64) أما حوارهم لأجل النزول عند رغبتهم، وإرضائهم، وتحقيق أهدافهم، فمنكر عظيم وشر مستطير، وفتنة كبيرة تفتن الأمة عن دينها، قال تعالى : (( وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ)) (المائدة:49) ولا بد من وضوح الأحكام في بيان العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وغياب ذلك والبعد عن الفهم الشرعي في طريقة التعامل مع الإحداث، ووجود القصور والخلل في ذلك أدى إلى الشعور بالهزيمة والتبعية والانقياد والتسليم للغرب قولاً وعملاً عند كثير من المسلمين، وسيجلب ذلك جيلاً مهزوماً من أبناء المسلمين، فلا بد من الفقه في الشرع، وأن يتخذ المسلمون طريقاً واضحاً للتغيير والتعامل مع الكفار بعد النظر في الواقع وفهمه، ثم إنزال الأحكام عليه.
وليُعلم أن الالتقاء مع الكفار والحوار معهم يكون كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بعث برسالة إلى هرقل بقوله تعالى (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) وفي ساحة المعركة قال صلى الله عليه وسلم (( وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، واخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين لا يجري عليهم حكم الله الذي جرى على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبو فاستعن بالله عليهم وقاتلهم)) هذا هو الالتقاء والحوار الذي حدده الشرع مع الكفار وليس غيره، وقد يقع بين المسلمين والكفار عهد وميثاق مؤقت، فتحرم بذلك دماؤهم وأموالهم، وقتل المعاهد من أعظم الظلم ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة))
فلا العقيدة ولا التشريع ولا الوحدة الوطنية ولا القومية ولا الآلام ولا الآمال تربط بيننا وتوحدنا معهم، فلا مجال للتقارب إما إيمان وإما كفر، فالصراع دائم والمدافعة مستمرة، وهو صراع ومدافعة بين الحق والباطل بدأ منذ آدم عليه السلام ومنذ عصيان إبليس لرب العالمين، صراع مستمر بين إبليس وأتباعه وذريته وبين الأمة الإسلامية؛ هذه هي حقيقة الصراع وإن اختلفت المصطلحات والمسميات، وهذه هي طريقة الإسلام في الحياة وتلك طريق الكفر
================
اعتبار من تركه مرتدا وخاسرا
قال تعالى في سورة البقرة ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {217} ((1/10)
ومن قيادة الجماعة إلى السلم كانت الفتوى التالية في أمر القتال في الشهر الحرام يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام ; وإخراج أهله منه أكبر عند الله ; والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم وقد جاء في روايات متعددة أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه مع ثمانية من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار ومعه كتاب مغلق وكلفه ألا يفتحه حتى يمضي ليلتين فلما فتحه وجد به < إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بطن نخلة بين مكة والطائف ترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم ولا تكرهن أحدا على المسير معك من أصحابك > وكان هذا قبل غزوة بدر الكبرى فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال سمعا وطاعة ثم قال لأصحابه قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى بطن نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منها بخبر وقد نهى أن استكره أحدا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع فأنا ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم فسلك الطريق على الحجاز حتى إذا كان ببعض الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما فتخلفا عن رهط عبد الله بن جحش ليبحثا عن البعير ومضى الستة الباقون حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرت عير لقريش تحمل تجارة فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون فقتلت السرية عمرا ابن الحضرمي وأسرت اثنين وفر الرابع وغنمت العير وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة فإذا هي في اليوم الأول من رجب وقد دخلت الأشهر الحرم التي تعظمها العرب وقد عظمها الإسلام وأقر حرمتها فلما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال < ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام > فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا ; وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال وقالت اليهود تفاءلوا بذلك على محمد عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله عمرو عمرت الحرب والحضرمي حضرت الحرب وواقد بن عبد الله وقدت الحرب وانطلقت الدعاية المضللة على هذا النحو بشتى الأساليب الماكرة التي تروج في البيئة العربية وتظهر محمدا وأصحابه بمظهر المعتدي الذي يدوس مقدسات العرب وينكر مقدساته هو كذلك عند بروز المصلحة حتى نزلت هذه النصوص القرآنية فقطعت كل قول وفصلت في الموقف بالحق فقبض الرسول ص الأسيرين والغنيمة يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير نزلت تقرر حرمة الشهر الحرام وتقرر أن القتال فيه كبيرة نعم ولكن وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل إن المسلمين لم يبدؤوا القتال ولم يبدؤوا العدوان إنما هم المشركون هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله والكفر به وبالمسجد الحرام لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون ولقد كفروا بالمسجد الحرام انتهكوا حرمته ; فآذوا المسلمين فيه وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاما قبل الهجرة وأخرجوا أهله منه وهو الحرم الذي جعله الله آمنا فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات ; الذي يتخذون منها ستارا حين يريدون وينتهكون قداستها حين يريدون وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم لأنهم عادون باغون أشرار لا يرقبون حرمة ولا يتحرجون أمام قداسة وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه لتشويه موقف الجماعة المسلمة وإظهارها بمظهر المعتدي وهم المعتدون ابتداء وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء إن الإسلام منهج واقعي للحياة لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية إنه يواجه الحياة البشرية كما هي بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد يواجهها بحلول عملية(1/11)
تكافىء واقعياتها ولا ترفرف في خيال حالم ورؤى مجنحة لا تجدي على واقع الحياة شيئا هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون لا يقيمون للمقدسات وزنا ولا يتحرجون أمام الحرمات ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات ويرفعون أصواتهم انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام فكيف يواجههم الإسلام يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار من السلاح بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح ولا يتورعون عن سلاح كلا إن الإسلام لا يصنع هذا لأنه يريد مواجهة الواقع لدفعه ورفعه يريد أن يزيل البغي والشر وأن يقلم أظافر الباطل والضلال ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة ويسلم القيادة للجماعة الطيبة ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات ويشدد في هذا المبدأ ويصونه ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات ويؤذون الطيبين ويقتلون الصالحين ويفتنون المؤمنين ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد إنه يحرم الغيبة ولكن لا غيبة لفاسق فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه وهو يحرم الجهر بالسوء من القول ولكنه يستثني إلا من ظلم فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول لأنه حق ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلا مستوى الأشرار البغاة ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم وإلى قتالهم وقتلهم وإلى تطهير جو الحياة منهم هكذا جهرة وفي وضح النهار وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله هذا هو الإسلام صريحا واضحا قويا دامغا لا يلف ولا يدور ; ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور وهذا هو القرآن يقف المسلمين على أرض صلبة لا تتأرجح فيها أقدامهم وهم يمضون في سبيل الله لتطهير الأرض من الشر والفساد ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس هذا شر وفساد وبغي وباطل فلا حرمة له إذن ولا يجوز أن يتترس بالحرمات ليضرب من ورائها الحرمات وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة ; في سلام مع ضمائرهم وفي سلام من الله ويمضي السياق بعد بيان هذه الحقيقة وتمكين هذه القاعدة وإقرار قلوب المسلمين وأقدامهم يمضي فيكشف لهم عن عمق الشر في نفوس أعدائهم وأصالة العدوان في نيتهم وخطتهم ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر ; وعلى فتنة المسلمين عن دينهم ; بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين ; ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل ويرهبه كل باغ ويكرهه كل مفسد إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج ومن منهج قويم ومن نظام سليم إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون(1/12)
ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه ويردوهم كفارا في صورة من صور الكفر الكثيرة ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين وتتبع هذا المنهج وتعيش بهذا النظام وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته ولكن الهدف يظل ثابتا أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحا غيره وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام وينبهها إلى الخطر ; ويدعوها إلى الصبر على الكيد والصبر على الحرب وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة ; والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيه خالدون والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثا فانتفخت ثم نفقت والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره وهلاكه في النهاية وبواره مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ ّ ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه ; تحت مطارق الأذى والفتنة مهما بلغت هذا مصيره الذي قرره الله له حبوط العمل في الدنيا والآخرة ثم ملازمة العذاب في النار خلودا إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه لا يمكن أن يرتد عنه ارتدادا حقيقيا أبدا إلا إذا فسد فسادا لا صلاح له وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة فالله رحيم رخص للمسلم حين يتجاوز العذاب طاقته أن يقي نفسه بالتظاهر مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي وفي الارتداد الحقيقي بحيث يموت وهو كافر والعياذ بالله وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه ويرتد عن إيمانه وإسلامه ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به ويصبرون على الأذى في سبيله فهو معوضهم خيرا إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة وهناك رحمته التي يرجوها من يؤذون في سبيله ; لا ييئس منها مؤمن عامر القلب بالإيمان إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ورجاء المؤمن في رحمة الله لا يخيبه الله أبدا ولقد سمع أولئك النفر المخلص من المؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق فجاهدوا وصبروا حتى حقق الله لهم وعده بالنصر أو الشهادة وكلاهما خير وكلاهما رحمة وفازوا بمغفرة الله ورحمته والله غفور رحيم وهو هو طريق المؤمنين
===============
هيمنة هذا الدين على الدين كله
قال تعالى في سورة التوبة ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {33} (
وفي سورة الفتح ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا {28}(
وفي سورة الصف ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {9} (
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا . .
فلقد ظهر دين الحق ، لا في الجزيرة وحدها ، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان . ظهر في امبراطورية كسرى كلها ، وفي قسم كبير من امبراطورية قيصر ، وظهر في الهند وفي الصين ، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها ، وفي جزر الهند الشرقية "أندونيسيا" . . وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي .
وما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله - حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها ، وبخاصة في أوربا وجزر البحر الأبيض . وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان .
أجل ما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله ، من حيث هو دين . فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله !
لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ومع نواميس الوجود الأصلية ؛ ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح ، وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة ، من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب !
وما من صاحب دين غير الإسلام ، ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة ، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة . .
وكفى بالله شهيدا . .(1/13)
فوعد الله قد تحقق في الصورة السياسية الظاهرة قبل مضي قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية . ووعد الله ما يزال متحققا في الصورة الموضوعية الثابتة ؛ وما يزال هذا الدين ظاهرا على الدين كله في حقيقته . بل إنه هو الدين الوحيد الباقي قادرا على العمل ، والقيادة ، في جميع الأحوال .
ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم الذين لا يدركون هذه الحقيقة اليوم ! فغير أهله يدركونها ويخشونها ، ويحسبون لها في سياساتهم كل حساب !
***********************
ولقد وقف بنو إسرائيل في وجه الدين الجديد وقفة العداء والكيد والتضليل ، وحاربوه بشتى الوسائل والطرق حربا شعواء لم تضع أوزارها حتى اليوم . حاربوه بالاتهام: فلما جاءهم بالبينات قالوا:هذا سحر مبين . .
كما قال الذين لا يعرفون الكتب ولا يعرفون البشارة بالدين الجديد . وحاربوه بالدس والوقيعة داخل المعسكر الإسلامي ، للإيقاع بين المهاجرين والأنصار في المدينة ، وبين الأوس والخزرج من الأنصار . وحاربوه بالتآمر مع المنافقين تارة ومع المشركين تارة . وحاربوه بالانضمام إلى معسكرات المهاجمين كما وقع في غزوة الأحزاب . وحاربوه بالإشاعات الباطلة كما جرى في حديث الإفك على يد عبدالله بن أبي بن سلول ، ثم ما جرى في فتنة عثمان على يد عدو الله عبدالله بن سبأ . وحاربوه بالأكاذيب والإسرائيليات التي دسوها في الحديث وفي السيرة وفي التفسير - حين عجزوا عن الوضع والكذب في القرآن الكريم .
ولم تضع الحرب أوزارها لحظة واحدة حتى اللحظة الحاضرة . فقد دأبت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الكيد للإسلام ، وظلتا تغيران عليه أو تؤلبان عليه في غير وناة ولا هدنة في جيل من الأجيال . حاربوه في الحروب الصليبية في المشرق ، وحاربوه في الأندلس في المغرب ، وحاربوه في الوسط في دولة الخلافة الأخيرة حربا شعواء حتى مزقوها وقسموا تركة ما كانوا يسمونه "الرجل المريض" . .
واحتاجوا أن يخلقوا أبطالا مزيفين في أرض الإسلام يعملون لهم في تنفيذ أحقادهم ومكايدهم ضد الإسلام . فلما أرادوا تحطيم "الخلافة " والإجهاز على آخر مظهر من مظاهر الحكم الإسلامي صنعوا في تركيا "بطلا" ! . .
ونفخوا فيه . وتراجعت جيوش الحلفاء التي كانت تحتل الأستانة أمامه لتحقق منه بطلا في أعين مواطنيه . بطلا يستطيع إلغاء الخلافة ، وإلغاء اللغة العربية وفصل تركيا عن المسلمين ، وإعلانها دولة مدنية لا علاقة
لها بالدين ! وهم يكررون صنع هذه البطولات المزيفة كلما أرادوا أن يضربوا الإسلام والحركات الإسلامية في بلد من بلاد المسلمين ، ليقيموا مكانه عصبية غير عصبية الدين ! وراية غير راية الدين .
يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم . والله متم نوره ولو كره الكافرون . .
وهذا النص القرآني يعبر عن حقيقة ، ويرسم في الوقت ذاته صورة تدعو إلى الرثاء والاستهزاء !
فهي حقيقة أنهم كانوا يقولون بأفواههم: هذا سحر مبين . .
ويدسون ويكيدون محاولين القضاء على الدين الجديد . وهي صورة بائسة لهم وهم يحاولون إطفاء نور الله بنفخة من أفواههم وهم هم الضعاف المهازيل !
والله متم نوره ولو كره الكافرون . .
وصدق وعد الله . أتم نوره في حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فأقام الجماعة الإسلامية صورة حية واقعة من المنهج الإلهي المختار . صورة ذات معالم واضحة وحدود مرسومة ، تترسمها الأجيال لا نظرية في بطون الكتب ، ولكن حقيقة في عالم الواقع . وأتم نوره فأكمل للمسلمين دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا يحبونه ، ويجاهدون في سبيله ، ويرضى أحدهم أن يلقى في النار ولا يعود إلى الكفر . فتمت حقيقة الدين في القلوب وفي الأرض سواء . وما تزال هذه الحقيقة تنبعث بين الحين والحين . وتنبض وتنتفض قائمة - على الرغم من كل ما جرد على الإسلام والمسلمين من حرب وكيد وتنكيل وتشريد وبطش شديد . لأن نور الله لا يمكن أن تطفئه الأفواه ، ولا أن تطمسه كذلك النار والحديد ، في أيدي العبيد !
وإن خيل للطغاة الجبارين ، وللأبطال المصنوعين على أعين الصليبيين واليهود أنهم بالغو هذا الهدف البعيد !
لقد جرى قدر الله أن يظهر هذا الدين ، فكان من الحتم أن يكون:
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون .
وشهادة الله لهذا الدين بأنه الهدى ودين الحق هي الشهادة . وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة . ولقد تمت إرادة الله فظهر هذا الدين على الدين كله . ظهر في ذاته كدين ، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته . فأما الديانات الوثنية فليست في شيء في هذا المجال . وأما الديانات الكتابية فهذا الدين خاتمتها ، وهو الصورة الأخيرة الكاملة الشاملة منها ، فهو هي ، في الصورة العليا الصالحة إلى نهاية الزمان .(1/14)
ولقد حرفت تلك الديانات وشوهت ومزقت وزيد عليها ما ليس منها ، ونقصت من أطرافها ، وانتهت لحال لا تصلح معه لشيء من قيادة الحياة . وحتى لو بقيت من غير تحريف ولا تشويه فهي نسخة سابقة لم تشمل كل مطالب الحياة المتجددة أبدا ، لأنها جاءت في تقدير الله لأمد محدود .
فهذا تحقيق وعد الله من ناحية طبيعة الدين وحقيقته . فأما من ناحية واقع الحياة ، فقد صدق وعد الله مرة ، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم على الدين كله فدانت له معظم الرقعة المعمورة في الأرض في مدى قرن من الزمان . ثم زحف زحفا سلميا بعد ذلك إلى قلب آسيا وأفريقية ، حتى دخل فيه بالدعوة المجردة خمسة أضعاف من دخلوا في إبان الحركات الجهادية الأولى . . وما يزال يمتد بنفسه دون دولة واحدة - منذ أن قضت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الخلافة الأخيرة في تركيا على يدي "البطل" الذي صنعوه ! - وعلى الرغم من كل ما يرصد له في أنحاء الأرض من حرب وكيد ، ومن تحطيم للحركات الإسلامية الناهضة في كل بلد من بلاد الإسلام على أيدي "أبطال" آخرين من صنع الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على السواء .
وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها ، ظاهرا بإذن الله على الدين كله تحقيقا لوعد الله ، الذي لا تقف له جهود العبيد المهازيل ، مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل !
ولقد كانت تلك الآيات حافزا للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى . وكانت تطمينا لقلوبهم وهم ينفذون قدر الله في إظهار دينه الذي أراده ليظهر ، وإن هم إلا أداة . وما تزال حافزا ومطمئنا لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم ، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة . بإذن الله
================
وجود الخيرية في هذا لأمة حتى قيام الساعة :
روى الترمذي بإسناد صحيح لغيره عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ ». وفي مسند أحمد عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ ».(1/15)
. قوله : ( مثل أمتي مثل المطر ) أي في حكم إبهام أفراد الجنس ( لا يدري ) بصيغة المجهول ( أوله ) أي أوائل المطر أو المطر الأول ( خير ) أي أنفع ( أم آخره ) أي أواخره أو المطر الآخر قال التوربشتي : لا يحمل هذا الحديث على التردد في فضل الأول على الآخر فإن القرن الأول هم المفضلون على سائر القرون من غير شبهة ثم الذين يلونهم وفي الرابع اشتباه من قبل الراوي , وإنما المراد بهم نفعهم في بث الشريعة والذب عن الحقيقة . قال القاضي : نفي تعلق العلم بتفاوت طبقات الأمة في الخيرية وأراد به نفي التفاوت كما قال تعالى : { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض } أي بما ليس فيهن كأنه قال لو كان لعلم لأنه أمر لا يخفى ولكن لا يعلم لاختصاص كل طبقة منهم بخاصية وفضيلة توجب خيريتها كما أن كل نوبة من نوب المطر لها فائدة في النشو والنماء لا يمكنك إنكارها والحكم بعدم نفعها , فإن الأولين آمنوا بما شاهدوا من المعجزات وتلقوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإجابة والإيمان والآخرين آمنوا بالغيب لما تواتر عندهم من الآيات واتبعوا من قبلهم بالإحسان , وكما أن المتقدمين اجتهدوا في التأسيس والتمهيد فالمتأخرون بذلوا وسعهم في التلخيص والتجريد وصرفوا عمرهم في التقرير والتأكيد , فكل ذنبهم مغفور وسعيهم مشكور وأجرهم موفور انتهى . قال الطيبي : وتمثيل الأمة بالمطر إنما يكون بالهدى والعلم كما أن تمثيله صلى الله عليه وسلم الغيث بالهدى والعلم فتختص هذه الأمة المشبهة بالمطر بالعلماء الكاملين منهم المكملين لغيرهم فيستدعي هذا التفسير أن يراد بالخير النفع فلا يلزم من هذا المساواة في الأفضلية , ولو ذهب إلى الخيرية فالمراد وصف الأمة قاطبة سابقها ولاحقها وأولها وآخرها بالخير وأنها ملتحمة بعضها مع بعض مرصوصة بالبنيان مفرغة كالحلقة التي لا يدرى أين طرفاها . وفي أسلوب هذا الكلام قول الأنمارية : هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها تريد المكملة , ويلمح إلى هذا المعنى قول الشاعر : إن الخيار من القبائل واحد وبنو حنيفة كلهم أخيار فالحاصل أن الأمة مرتبط بعضها مع بعض في الخيرية بحيث أبهم أمرها فيها وارتفع التمييز بينها وإن كان بعضها أفضل من بعض في نفس الأمر وهو قريب من سوق المعلوم مساق غيره وفي معناه أنشد مروان بن أبي حفصة : تشابه يوماه علينا فأشكلا فما نحن ندري أي يوميه أفضل يوم بداء العمر أم يوم يأسه وما منهما إلا أغر محجل ومن المعلوم علما جليا أن يوم بداءة العمر أفضل من يوم يأسه , لكن البدء لما لم يكن يكمل ويستتب إلا باليأس أشكل عليه الأمر فقال ما قال وكذا أمر المطر والأمة انتهى .
=================
انتشار هذا الدين في الأرض
روى أحمد في مسنده عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ».
وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِىُّ يَقُولُ قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِى أَهْلِ بَيْتِى لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِراً الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ.
وفي رواية أخرى -عن الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الإِسْلاَمِ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا
------------
المستقبل لهذا الدين :
الإسلام منهج حياة:
الإسلام منهج حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها، منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة الوجود، ويحدد مكان الإنسان في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجوده الإنساني.. ويشمل التنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الاعتقادي وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر، كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه، والأسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يستمد منها. والنظام السياسي وشكله وخصائصه، والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته، والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته، والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته..
ونحن نعتقد أن المستقبل لهذا الدين، بهذا الاعتبار: باعتباره منهج حياة، يشتمل على تلك المقومات كلها مترابطة، غير منفصل بعضها عن بعض، المقومات المنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية لشتى حاجات الإنسان الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنسانية.
وهذا الدين بهذا الاعتبار ليس مجرد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة، وليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى أو مجتمعين، وليس مجرد طريق إلى الآخرة لتحقيق الفردوس الأخروي؛ بينما هناك طريق، أو طرق أخرى لتحقيق الفردوس الأرضي، غير منهج الدين، وغير نظم وتنظيمات الدين !
وهذا الدين من الوضوح في هذا المعنى بحيث يبدو أن ليس هنالك أمل في نجاح أية محاولة لتصويره في صورة العقيدة المنعزلة عن واقع الحياة البشرية، والتي لا علاقة لها بتنظيمات الحياة الواقعية، وتشكيلاتها وأجهزتها العملية. أو العقيدة التي تعد الناس فردوس الآخرة إذا هم أدوا شعائرها وعباداتها، دون أن يحققوا – في واقع مجتمعهم – أنظمتها وشرائعها وأوضاعها المتميزة المتفردة الخاصة ! فهذا الدين ليس هذا.. ولم يكن هذا.. ولا يمكن أن يكون هذا..
و هناك جهود جبارة تبذل-منذ قرون- لحصر الإسلام في دائرة الاعتقاد الوجداني، والشعائر التعبدية، وكفه عن التدخل في نظام الحياة الواقعية؛ ومنعه من الهيمنة الكاملة على كل نشاط واقعي للحياة البشرية-كما هي طبيعته، كما هي حقيقته، وكما هي وظيفته-.
لقد كانت هذه الخصائص في هذا الدين.. خصائص الشمول والواقعية والهيمنة.. هي التي تعبت منها الصليبية العالمية في هجومها على الأمة المسلمة في الوطن الإسلامي. كما أنها هي التي تعبت منها الصهيونية العالمية كذلك، منذ عهد بعيد! ومن ثم لم يكن بد أن تبذلا معاً الجهود الجبارة لحصر هذا الدين في دائرة الاعتقاد الوجداني والشعائر التعبدية؛ وكفه عن التدخل في نظام الحياة الواقعية؛ ومنعه من الهيمنة على نشاط الحياة البشرية.. وذلك كله كخطوة أولى، أو كموقعة أولى، في معركة القضاء عليه في النهاية!
وبعد أن أفلحت تلك الجهود الجبارة؛ ونالت انتصارها الحاسم على يد [أتاتورك]-البطل!!!- في إلغاء الخلافة الإسلامية؛ وفصل الدين عن الدولة؛ وإعلانها دولة [علمانية] خالصة. عقب محاولات ضخمة بذلت في شتى أقطار الأمة المسلمة التي وقعت في قبضة الاستعمار قبل ذلك، لزحزحة الشريعة الإسلامية عن أن تكون هي المصدر الوحيد للتشريع؛ والاستمداد من التشريع الأوروبي؛ وحصر الشريعة في ذلك الركن الضيق المسدود: ركن ما سموه:الأحوال الشخصية!
بعد أن أفلحت تلك الجهود الضخمة، ونالت انتصارها الحاسم على يد [البطل!!!] أتاتورك.. تحولت إذن إلى الخطوة التالية - أو الموقعة التالية- ممثلة في الجهود النهائية، التي تبذل الآن في شتى أنحاء الوطن الإسلامي؛ لكف هذا الدين عن الوجود أصلاً؛ وتنحيته حتى عن مكان العقيدة، وإحلال تصورات وضعية أخرى مكانه ؛ تنبثق منها مفاهيم وقيم، وأنظمة وأوضاع ، تملأ فراغ [ العقيدة ] ! وتسمى مثلها .. عقيدة ..
وصاحب هذه المحاولة ضربات وحشية تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان على ظهر هذه الأرض؛ تشترك فيه كل المعسكرات المتخاصمة التي لا تلتقي على شيء في مشارق الأرض ومغاربها، إلا على الخوف من البعث الإسلامي الوشيك؛ الذي تحتمه طبائع الأشياء، وحقائق الوجود والحياة، ودلالات الواقع البشري من هنا و من هناك ..
ولكننا نعلم كذلك أن هذا الدين أضخم حقيقة، وأصلب عوداً، وأعمق جذوراً، من أن تفلح في معالجته تلك الجهود كلها، ولا هذه الضربات الوحشية كذلك.. كما أننا نعلم أن حاجة البشرية إلى هذا المنهج أكبر من حقد الحاقدين على هذا الدين؛ وهي تتردى بسرعة مخيفة في هاوية الدمار السحيقة؛ ويتنادى الواعون منها بصيحة الخطر، ويتلمسون لها طريق النجاة.. ولا نجاة إلا بالرجوع إلى الله.. والى منهجه القويم للحياة.
إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك تنبعث من القلوب الحائرة.. تهتف بمنقذ، وتتلفت على مُخَلِّص. وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه، وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على هذا الدين!
فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه كلهم أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى- كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه. وأن البشرية بجملتها لا تملك أن تستغني طويلاً عنه.
إن البشرية قد تمضي في اعتساف تجارب متنوعة هنا وهناك- كما هي الآن ماضية في الشرق وفي الغرب سواء- ولكننا نحن مطمئنون إلى نهاية هذه التجارب، واثقون من الأمر في نهاية المطاف.
إن هذه التجارب كلها تدور في حلقة مفرغة، وداخل حلقة التصور والخبرة البشرية المشوبة بالجهل، والنقص، والضعف، والهوى، في حين يحتاج الخلاص إلى الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وبدء تجربة جديدة أصيلة، تقوم على قاعدة مختلفة كل الاختلاف: قاعدة المنهج الرباني الصادر عن علم [بدل الجهل] وكمال [بدل النقص] وقدرة [بدل الضعف] وحكمة [بدل الهوى].. القائم على أساس: إخراج البشر من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده دون سواه.
مفرق الطريق بين منهج هذا الدين، وسائر المناهج غيره:
إن مفرق الطريق بين منهج هذا الدين، وسائر المناهج غيره: أن الناس في نظام الحياة الإسلامي يعبدون إلهاً واحداً، يفردونه بالألوهية، والربوبية، والقوامة، فيتلقون منه وحده التصورات والقيم والموازين، والأنظمة والشرائع والقوانين، والتوجيهات والأخلاق والآداب.. بينما هم في سائر النظم يعبدون آلهة وأرباباً متفرقة، يجعلون لها القوامة عليهم من دون الله، حين يتلقون التصورات والقيم والموازين، والأنظمة والشرائع والقوانين، والتوجيهات والآداب والأخلاق، من بشر مثلهم. فيجعلونهم بهذا التلقي أرباباً، ويمنحونهم حقوق الألوهية والربوبية والقوامة عليهم.. وهم مثلهم عبيد كما أنهم عبيد..
ونحن نسمي هذه النظم التي يتعبد الناس فيها الناس-كما يسيمها الله سبحانه- نظماً جاهلية. مهما تعددت أشكالها، وبيئاتها، وأزمانها. فهي قائمة على ذات الأساس الذي جاء هذا الدين-يوم جاء- ليحطمه، وليحرر البشر منه، وليقيم في الأرض ألوهية واحدة للناس؛ وليطلقهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ بالمعنى الواسع الشامل لمفهوم [العبادة] ومفهوم [ الإله] ومفهوم [الرب] ومفهوم [الدين] .
لقد جاء هذا الدين ليلغي عبودية البشر للبشر، في كل صورة من الصور، وليوحد العبودية لله في الأرض، كما أنها عبودية واحدة لله في هذا الكون العريض..{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[83]}[سورة آل عمران].
والمنهج الإسلامي المنبثق من هذا الدين- بهذا الاعتبار- ليس نظاماً تاريخياً لفترة من فترات التاريخ، كما أنه ليس نظاماً محلياً لمجموعة من البشر في جيل من الأجيال، ولا في بيئة من البيئات.. إنما هو المنهج الثابت الذي ارتضاه الله لحياة البشر المتجددة، ولتبقى هذه الحياة مكيفة بالصورة العليا التي أكرم الله فيها الإنسان عن العبودية لغير الله.
والناس إما أن يعيشوا بمنهج الله بكليته فهم في توافق مع نواميس الكون، وفطرة الوجود، وفطرتهم هم أنفسهم. وإما أن يعيشوا بأي منهج آخر من صنع البشر، فهم في خصام مع نواميس الكون، وتصادم مع فطرة الوجود، ومع فطرتهم هم أنفسهم، بوصفهم قطاعاً في هذا الوجود.. تصادم تظهر نتائجه المدمرة من قريب أو من بعيد.
ونحن- كما قلنا- نستيقن أن الناس عائدون إلى الله؛ عائدون إلى منهجه هذا للحياة. وأن المستقبل لهذا الدين عن يقين. ونحن مستيقنون كذلك أن كل الجهود التي بذلت أو سوف تبذل لزحزحة هذا الدين عن طبيعته كمنهج للحياة البشرية الواقعية، في كل مجالاتها العملية والشعورية؛ سوف تبوء بالفشل والخيبة. وقد بانت بوادر الفشل والخيبة.. لأن هذه العزلة ليست من طبيعة هذا الدين.
كُلُّ ديِن منهَج حَيَاة
ونظراً لهذه الحقيقة.. لم يكن هناك دين إلهي هو مجرد عقيدة وجدانية، منعزلة عن واقع الحياة البشرية في كل مجالاتها الواقعية، ولا مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى أو مجتمعين، ولا مجرد [أحوال شخصية] تحكمها شريعة هذا الدين، بينما تحكم سائر نواحي الحياة شريعة أخرى مستمدة من مصدر آخر، تؤلف منهجاً آخر للحياة غير منبثق انبثاقاً من [دين الله].
وما يملك أحد يدرك مفهوم كلمة [دين] أن يتصور إمكان وجود دين الهي ينعزل في وجدان الناس، أو يتمثل فحسب في شعائرهم التعبدية، أو[أحوالهم الشخصية]، ولا يشمل نشاط حياتهم كله، ولا يهيمن على واقع حياتهم كله، ولا يقود خطى حياتهم في كل اتجاه، ولا يوجه تصوراتهم، وأفكارهم، ومشاعرهم، وأخلاقهم، ونشاطهم، وارتباطاتهم في كل اتجاه.
لا.. وليس هناك دين من عند الله هو منهج للآخرة وحدها، ليتولى دين آخر من عند غير الله وضع منهج للحياة الدنيا.. فهذا تصور مضحك لحقيقة الواقع الكوني والبشري.. وذلك أن مقتضى هذا التقسيم المفتعل أن يكون لله جانب واحد من جوانب هذه الحياة ينظمه، ويشرف عليه، وينحصر [اختصاصه] فيه، ويكون لغير الله جوانب أخرى كثيرة ينظمها ويشرف عليها [أرباب] آخرون، يتعلق بها اختصاصهم.
إنه تصور مضحك إلى حد أن الذين يفكرون على هذا النحو، سيضحكون من أنفسهم، ومن تفكيرهم، ويسخرون من سذاجتهم وركة أفكارهم.. لو أنهم رأوا الأمر حقيقة من هذه الزاوية الصحيحة، وتحت هذا النور الهادئ الهادي..
وإلا يقم نظام الحياة كله على هذا التفسير الشامل الكامل، فهي إذن أهواء البشر. وهي إذن الجاهلية التي جاء كل دين من عند الله لإخراج الناس منها، ورفعهم إلى الربانية.. وإلا تكن العبودية لله وحده-ممثلة في التلقي عنه في هذا كله-فهي العبودية للعبيد.. وقد جاء دين الله لتحرير العباد من عبادة العبيد!
لا حاجة بنا للإطالة أكثر من هذا في هذه الحقيقة البديهية التي ما كان يجوز أن تكون موضع جدال، لولا تلك الملابسات النكدة التي قامت في أوروبا، وأدت إلى ذلك [الفصام النكد] بين الدين والدولة. بل بين الدين والحياة.
الفصَامُ النَّكِدْ
ليس من طبيعة [الدين] أن ينفصل عن الدنيا، وليس من طبيعة المنهج الإلهي أن ينحصر في المشاعر الوجدانية، والأخلاقيات التهذيبية، والشعائر التعبدية. أو في ركن ضيق من أركان الحياة البشرية.. ركن ما يسمونه [الأحوال الشخصية].
ليس من طبيعة [الدين] أن يفرد لله -سبحانه- قطاعاً ضيقاً في ركن ضئيل-أو سلبي- في الحياة البشرية، ثم يسلم سائر قطاعات الحياة الإيجابية العملية الواقعية لآلهة أخرى وأرباب متفرقين، يضعون القواعد والمذاهب، والأنظمة والأوضاع، والقوانين والتشكيلات على أهوائهم، دون الرجوع إلى الله!
ليس من طبيعة [الدين] أن يشرع طريقاً للآخرة، لا يمر بالحياة الدنيا! طريقاً ينتظر الناس في نهايته فردوس الآخرة عن غير طريق العمل في الأرض، وعمارتها، والخلافة فيها عن الله، وفق منهجه الذي ارتضاه!
ليس من طبيعة [الدين] أن يكون هذا المسخ الشائه الهزيل! ولا هذه الألعوبة المزوقة التي يلهو بها الأطفال! ولا هذه المراسم التقليدية التي لا علاقة لها بنظم الحياة العملية!
ليس من طبيعة [الدين] -أي دين فضلاً عن دين الله- أن يكون هذا العبث الممسوخ الهزيل.. فمن أين إذن جاءته هذه السلبية الهازلة ؟ وكيف إذن وقع ذلك [الفصام النكد] بين الدين والحياة ؟.
لقد تم ذلك [الفصام النكد] في ظروف نكدة! وكانت له آثاره المدمرة في أوروبا.. ثم في الأرض كلها، حين طغت التصورات الغربية، والأنظمة الغربية، والأوضاع الغربية، على البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها..
ولم يكن بد-وقد انفصمت حياة المخاليق عن منهج الخالق- أن تسير في هذا الطريق البائس؛ وأن تنتهي إلى هذه النهاية التعيسة؛ وأن تحيط بالبشر الدائرة التي يتعذبون الآن في داخلها، ويذوق بعضهم بأس بعض، بينما هم عاجزون عن معرفة طريق الخلاص منها.. وهم يصطرخون فيها..!!.
انتهى دور الرجل الأبيض
لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض؛ لأن حضارة الرجل الأبيض قد استنفدت أغراضها المحدودة القريبة، ولم يعد لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم، تصلح لقيادة البشرية، وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين.. النمو والترقي للعنصر الإنساني، وللقيم الإنسانية، وللحياة [الإنسانية].
إنها مبتوتة عن الأصل الكبير الذي لا تقوم الأنظمة الاجتماعية، ولا تعيش المبادئ والقيم، إلا إذا انبثقت منه، وقامت عليه. الأصل الاعتقادي المرتبط بالله، والتفسير الكلي للوجود، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني.. ومن ثم كانت قيماً محدودة موقوتة؛ لأنها في الأصل قيم مبتوتة!.. نبات لا جذور له في أعماق الفطرة البشرية؛ لأنه ليس آتياً من المصدر الذي جاءت منه الفطرة البشرية.
ومن أجل أنها لم تنبثق من ذلك الأصل؛ ولم تجئ من هذا المصدر، فإنها قامت على أساس مناقض لفطرة الإنسان؛ ولم تراع في الأسس التي قامت عليها، ولا في الوسائل التي اتخذتها، ولا في الطريق التي سارت فيه.. لم تراع في هذا كله احتياجات [الإنسان] الحقيقية، المنبثقة من طبيعة تكوينه، وأصل خلقته وحقيقة فطرته، وأهملت إهمالاً شنيعاً أهم مقوماته-التي بها صار الإنسان إنساناً- ولم تهملها فحسب، بل طاردتها في جفوة وعنف.. وسارت في طريق معارض للحقيقة الإنسانية، وللحاجات الحقيقية لبني الإنسان، وللقيم الصحيحة التي ينبغي أن تطبع الحياة الإنسانية وتميزها.
ومن ثم أخذ [الإنسان] يشقى شقاءً مريراً بالحضارة، التي قامت-أو المفروض أنها قامت- لخدمته وترقيته وإسعاده.. وحين تتناقض[الحضارة] مع [الإنسان] فالنتيجة الحتمية بعد فترة-تطول أو تقصر- من صراع الإنسان مع الحضارة، ومن الآلام والتضحيات، والخسائر والمرارات، أن ينتصر الإنسان، لأنه هو الأصل. ولأن فطرته أعمق وأبقى من أنماط الحضارة الطارئة عليها.. الحضارة المنبتة عن الله، وعن منهجه للحياة.
ثم ماذا؟
ثم إنه الخواء ينخر في روح الحضارة الغربية، بمذاهبها جميعاً، وبأنظمتها جميعاً، الخواء الذي تختنق فيه روح [الإنسان]، وتنهدر فيه قيمة [الإنسان]، وتنحدر فيه خصائص [الإنسان].. بينما تتكدس [الأشياء] وتعلو قيمتها، وتطغى على كل قيمة للإنسان!
إن بريق الحضارة المادية لا يجوز أن يغشي أبصارنا عن حقيقة الشقاء الذي باتت تعانيه البشرية في ظل هذه الحضارة. وإن الصواريخ المطلقة، والأقمار الصاعدة، لا يجوز أن تلهينا عن الدرك الذي ينحدر إليه [الإنسان] ومقومات [الإنسان]!
إن الإنسان هو أكرم ما في هذه الأرض. إنه هو الكائن الأساسي فيها، والمستخلف في مقدراتها. وكل شيء فيها في خدمته-أو ينبغي أن يكون كذلك-و[إنسانيته] هي المقوم الأعلى الذي يقاس به مدى صعوده أو هبوطه. وسعادة روحه هي مقياس ما في الحضارة التي يعيش فيها من ملاءمة لطبيعته أو مصادمة..
فإذا رأينا [الإنسان] ينحدر في صفاته [الإنسانية] وفي تصوره للقيم الإنسانية..
إذا رأيناه وقوداً للآلة، أو عبداً لها، أو تابعاً ذليلاً من توابعها..
إذا رأيناه- تبعاً لهذا- ينحط في تصوره وذكائه وأخلاقه..
إذا رأيناه يهبط في علاقاته الجنسية إلى أدنأ من درك البهيمة..
إذا رأينا وظائفه الأساسية تعطل وتذوي وتتراجع..
إذا رأيناه يشقى ويقلق ويتحير، ويعاني من القلق والحيرة ما لم يعانيه قط في تاريخه من الشقاء والتعاسة، والأمراض العصبية والنفسية، والشذوذ والعته، والجنون والجريمة.
إذا رأيناه هارباً من نفسه، ومن المخاوف، والقلاقل التي تلفه بها الحضارة المادية، والأنظمة الاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية، والفكرية.
إذا رأيناه هائما على وجهه يقتل سآمته وملله، بما يقتل به روحه وجسمه وأعصابه، من المكيفات والخمور، أو ما يشبه المكيفات والخمور من الأفكار السود، ومذاهب اليأس والقنوط الملبس والضياع الأليم.. كما في [الوجودية] وغيرها من مذاهب الفكر التعيسة.
إذا رأيناه يئد نسله، أو يبيع أولاده، ليشتري بهم ثلاجات وغسالات كهربائية-كما جاءتنا الأنباء عن أوروبا الضائعة.
إذا رأيناه في مثل هذه الحال النكدة.. فإن جميع ما يصل إليه [العلم] في معزل عن [روح الإنسان] من تيسيرات للحياة المادية، ومن رفاهيات حضارية.. لا يغير شيئاً من حقيقة الانحدار الذي تهوي إليه البشرية؛ ومن حقيقة الشقاء الذي تعانيه؛ ومن حقيقة التعاسة التي تزاولها.. ثم.. من حقيقة فشل هذه الحضارة وقرب نهايتها.. ومن ثم حقيقة الحاجة الماسة إلي نظام آخر أصيل، بريء-في أساسه- من العيوب الأساسية التي أفسدت حياة البشر؛ وضيعت عليهم ثمار العلم والمعرفة والتقدم الحضاري.. نظام يسمح للإنسانية بأن تحقق غاية وجودها الإنساني-كما أرادها خالقها العظيم- وأن تستخدم [العقل] و[العلم] و[التجربة] استخداماً آخر، يتناسق مع احتياجاتها الحقيقية؛ ومع مقتضيات فطرتها الأصيلة.
لقد انتهى دور الرجل الأبيض.. انتهى دوره سواء أكان روسياً أم أمريكياً، إنجليزياً أم فرنسوياً، أم سويسرياً أم سويدياً.. إنه لابد من قاعدة من التصور الاعتقادي لكافة المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم عليها حياة [الإنسان]. لابد من تفسير صحيح للوجود، ولمركز الإنسان فيه، ولغاية وجوده الإنساني. وهذا ما أغفلته حضارة الرجل الأبيض، بل حاربته حرباً شعواء، يستوي في هذا جميع الأنظمة السائدة في الغرب، وفي الشرق جميعاً.
والإنسان في حاجة إلى [عقيدة] تعمر قلبه؛ وتنبثق منها تصوراته؛ وتقدم له التفسير الشامل لحياته وللكون من حوله؛ ولعلاقته هو والكون بالخالق الأعلى..[عقيدة] ترسم له أهدافاً أكبر من ذاته، وأعم من جيله، وأبعد من حاضره، وأرفع من واقعه؛ وتربطه بذات علوية، لها عليه رقابة وسيطرة؛ يحبها ويخشاها؛ ويتقي غضبها ويطلب رضاها؛ وينتظر عونها على الخير؛ ويستحي من مواجهتها بالشر؛ ويرجو جزاءها العادل الكامل، الذي يعوض عليه ما يفوته في صراعه للشر في هذه الحياة الدنيا؛ ويربط حياته كلها بها؛ ويتلقى عنها نظام حياته، ومناهج فكره وسلوكه؛ كما يتلقى عنها شعائر عبادته سواء بسواء.. فتستقيم حياته كلها حزمة واحدة، لا فصام فيها ولا صدام..
ولقد يشغل الإنسان بعض الوقت بجوعة الجسد، وما يتعلق بها من الإنتاج بشتى وسائله وصنوفه، ومن المتاع الحسي بشتى ألوانه ومذاقاته.. وما أن تهدأ هذه الجوعة حتى تتحرك في الكائن الإنساني جوعة أخرى. جوعة لا يسدها الطعام، ولا يرويها الشراب، ولا يكفيها الكساء، ولا تسكنها كل ضروب المتاع.. إنها جوعة من نوع آخر. جوعة إلى الإيمان بقوة أكبر من البشر؛ وعالم أكبر من المحسوس؛ ومجال أكبر من الحياة الدنيا.. وجوعة إلى الوئام بين ضمير الإنسان وواقعه، بين الشريعة التي تحكم ضميره والشريعة التي تحكم حياته. بين منهج حركته الذاتية، ومنهج الحركة الكونية من حوله. جوعة إلى [إله] واحد؛ يتلقى منه شريعة قلبه، وشريعة مجتمعه على السواء.. وكل نظام للحياة لا يحقق السعادة للكائن البشري إلا إذا تضمن كفاية هذه الجوعات المتعددة في كينونته الواحدة.. وهذه السمة هي التي خلت منها حضارة الرجل الأبيض!
ولهذا السبب-من وراء كل سبب- انتهى دور الرجل الأبيض..
المُخَلِّص
'إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك، تنبعث من القلوب الحائرة وترتفع من الحناجر المتعبة .. تهتف بمنقذ، وتتلفت على [مخلص]، وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه..وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على [هذا الدين] .
المستَقبل لهذا الدّين
وحين يتقرر أن الإسلام:
هو وحده القادر على إنقاذ البشرية مما يحدق بها من أخطار ماحقة، تدلف إليها مقودة بسلاسل الحضارة المادية البراقة.
وهو وحده القادر على منحها المنهج الملائم لفطرتها، ولاحتياجاتها الحقيقية.
وهو وحده الذي ينسق بين خطاها في الإبداع المادي، وخطاها في الاستشراف الروحي.
وهو وحده الذي يملك أن يقيم لها نظاماً واقعياً للحياة يتم فيه هذا التناسق الذي لم تعرفه البشرية قط إلا في النظام الإسلامي وحده على مدى التاريخ ..
حين يتقرر هذا كله تتضح معه شناعة الجريمة التي يرتكبها - في حق البشرية كلها - أولئك الذين يوجهون الضربات الوحشية لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان، والذين يجندون قواهم كلها، لطمس معالم المنهج الإسلامي، ومواراته عن أعين البشرية المتطلعة إلى منقذ، المتلفتة على [مخلِّص]، وتنفيرها منه بشتى الخدع والتمويهات والأكاذيب!
إنها جريمة بشعة في حق البشرية المنكوبة بهذه الحضارة المناقضة لفطرتها ولاحتياجاتها الحقيقة المهددة بغلبة الفلسفة المادية عليها..وهي في كل لحظة تقترب من الهوة الرعيبة، ولا منقذ لها إلا هذا الدين، الذي يحاربه أعداء البشرية، في كل مكان على وجه الأرض، بشتى الخطط، والمؤامرات، والأساليب!
إلا أن هذه الحرب المشبوبة على الإسلام لا تفقدنا الثقة المطلقة في أن [المستقبل لهذا الدين].
لقد صمد الإسلام في حياته المديدة، لما هو أعنف وأقسى من هذه الضربات الوحشية، التي توجه اليوم إلى طلائع البعث الإسلامي في كل مكان. وكافح - وهو مجرد من كل قوة غير قوته الذاتية- وانتصر، وبقى، وأبقى على شخصية الجماعات والأوطان، التي كان يحميها، وهو مجرد من السلاح!
إن الإسلام هو الذي حمى الوطن الإٍسلامي في الشرق من هجمات التتار؛ كما حماه من هجمات الصليبيين على السواء .. ولو انتصر الصليبيون في الشرق كما انتصروا في الأندلس قديماً، أو كما انتصر الصهيونيون في فلسطين حديثاً، ما بقيت قومية عربية، ولا جنس عربي، ولا وطن عربي .. والأندلس قديماً وفلسطين حديثاً كلاهما شاهد على أنه حين يطرد الإسلام من أرض، فإنه لا تبقى فيها لغة ولا قومية، بعد اقتلاع الجذر الأصيل!
والمماليك الذين حموا هذه البقعة من التتار، لم يكونوا من جنس العرب إنما كانوا من جنس التتار! ولكنهم صمدوا في وجه بني جنسهم المهاجمين، حمية للإسلام، لأنهم كانوا مسلمين! صمدوا بإيحاء من العقيدة الإسلامية، وبقيادة روحية إسلامية من الإمام المسلم [ابن تيمية] الذي قاد التعبئة الروحية، وقاتل في مقدمة الصفوف!
ولقد حمى صلاح الدين هذه البقعة من اندثار العروبة منها، والعرب، واللغة العربية .. وهو كردي لا عربي، ولكنه حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين. وكان الإسلام في ضميره هو الذين كافح الصليبيين، كما كان الإسلام في ضمير الظاهر بيبرس، والمظفر قطز، والملك الناصر .. هو الذي كافح التتار المتبربرين!
والإسلام هو الذي كافح في الجزائر مئة وخمسين عاماً. وهو الذي استبقى أرومة العروبة فيها. حتى بعد أن تحطمت مقوماتها الممثلة في اللغة والثقافة، حينما اعتبرت فرنسا اللغة العربية –في الجزائر- لغة أجنبية محظوراً تعليمها! هنالك قام الإسلام - وحده - في الضمير، يكافح الغزاة، ويستعلي عليهم، ولا يحنى رأسه لهم لأنهم أعداؤه [الصليبيون]! وبهذا - وحده - بقيت روح المقاومة في الجزائر، حتى أزكتها من جديد الحركة الإسلامية التي قام بها عبد الحميد بن باديس، فأضاءت شعلتها من جديد .. وهذه الحقيقة التي حاول أن يطمسها المغفلون والمضلِّلون، يعرفها الفرنسيون والصليبيون جيداً لأنهم [صليبيون]!
إنهم على يقين أن [الإسلام]، باستعلاء روحه على أعدائه، هو الذي يقف في طريقهم. ومن ثم يعلنونها حرباً على [المسلمين] .. لا على [العرب]!
والإسلام هو الذي كافح في برقة وطرابلس ضد الغزو الطلياني .. وفي أربطة السنوسية وزواياها نمت بذرة المقاومة، ومنها انبثق جهاد عمر المختار الباسل النبيل..
وأول انتفاضة في مراكش، كانت منبثقة من الروح الإسلامي. وكان [الظهير البربري] الذي سنه الفرنسيون سنة 1931 وأرادوا به رد قبائل البربر هناك إلى الوثنية، وفصلهم عن الشريعة الإسلامية .. هو الشرارة التي ألهبت كفاح مراكش ضد الفرنسيين.
لقد كافح الإٍسلام - وهو أعزل - لأن عنصر القوة:
كامن في طبيعته، كامن في بساطته ووضوحه وشموله، وملاءمته للفطرة البشرية، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية. كامن في الاستعلاء عن العبودية للعباد بالعبودية لله رب العباد؛ وفي رفض التلقي إلا منه، ورفض الخضوع إلا له من دون العالمين.
كامن كذلك في الاستعلاء بأهله على الملابسات العارضة كالوقوع تحت سلطان المتسلطين، فهذا السلطان يظل خارج نطاق الضمير مهما اشتدت وطأته .. ومن ثم لا تقع الهزيمة الروحية طالما عمر الإسلام القلب والضمير، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين.
ومن أجل هذه الخصائص في الإسلام يحاربه أعداؤه هذه الحرب المنكرة؛ لأنه يقف لهم في الطريق، يعوقهم عن أهدافهم الاستعمارية الاستغلالية، كما يعوقهم عن الطغيان والتأله في الأرض كما يريدون!
ومن أجل هذه الخصائص يطلقون عليه حملات القمع والإبادة، كما يطلقون عليه حملات التشويه والخداع والتضليل!
ومن أجل هذا يريدون أن يستبدلوا به قيماً أخرى، وتصورات أخرى، لا تمت بسبب إلى هذا المناضل العنيد؛ لتستريح الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، والاستعمار العالمي من هذا المناضل العنيد!
إن خصائص الإسلام الذاتية هي التي تحنق عليه أعداءه الطامعين في أسلاب الوطن الإسلامي .. هذه هي حقيقة المعركة؛ وهذا هو دافعها الأصيل..
ولكن الذي لا شك فيه - على الرغم من ذلك كله - هو أن [المستقبل لهذا الدين]..
فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين؛ ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين. وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى - كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه، وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني طويلاً عنه. ولا حاجة بنا إلى المضي في توكيد هذه الحقيقة على هذا النحو.
فنكتفي في هذا الموضع بعرض عبرة عن الواقع التاريخي للإسلام، لعلها أنسب العبر في هذا المقام:
بينما كان [سراقة بن مالك] يطارد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه - وهما مهاجران خفية عن أعين قريش .. وبينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما هم أن يتابع الرسول وصاحبه، طمعاً في جائزة قريش المغرية التي رصدتها لمن يأتيها بمحمد، وصاحبه، أو يخبر عنهما .. وبينما هو يهم بالرجوع وقد عاهد النبي صلى الله لعيه وسلم أن يكفيهما من وراءه ..
في هذه اللحظة قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يا سراقة. كيف بك وسوارى كسرى؟] .. يعده سوارى كسرى شاهنشاه الفرس! [ملك الملوك!].. والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة؛ حول هذا العرض العجيب؛ من ذلك المطارد الوحيد .. إلا من صاحبه الذي لا يغني شيئاً عنه، والمهاجر - سرّا ً- معه!
ولكن كالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عارفاً بالحق الذي معه، معرفته بالباطل الذي عليه الجاهلية في الأرض كلها يومذاك .. وكان واثقاً من أن هذا الحق لابد أن ينتصر على هذا الباطل. وأنه لا يمكن أن يوجد [الحق] في صورته هذه، وأن يوجد [الباطل] في صورته هذه، ثم لا يكون ما يكون!
كانت الشجرة القديمة قد تآكلت جذورها كلها، بحيث لا يصلها ري ولا سماد .. كانت قد خبثت بحيث يتحتم أن تجتث .. وكانت البذرة الطيبة في يده هي المعبأة للغرس والنماء .. وكان واثقاً من هذا كله ثقة اليقين .
نحن اليوم في مثل هذا الموقف بكل ملابساته، وكل سماته. مع الجاهلية كلها من حولنا.. فلا يجوز- من ثم - أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة. العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا. على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا!
إن حاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج، ليست بأقل من حاجتها يومذاك .. وإن وزن هذا المنهج اليوم - بالقياس إلى كل ما لدى البشرية من مناهج - لا يقل عنه يومذاك ..
ومن ثم ينبغي ألا يخالجنا الشك في أن ما وقع مرة في مثل هذه الظروف لابد أن يقع. ولا يجوز أن يتطرق إلى قلوبنا الشك، بسبب ما نراه من حولنا، من الضربات الوحشية التي تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان، ولا بسبب ما نراه كذلك من ضخامة الأسس التي تقوم عليها الحضارة المادية.. إن الذي يفصل في الأمر ليس هو ضخامة الباطل، وليس هو قوة الضربات التي تكال للإسلام. إنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ومدى الصمود للضربات!
إننا لسنا وحدنا .. إن رصيد الفطرة معنا .. فطرة الكون وفطرة الإنسان .. وهو رصيد هائل ضخم .. أضخم من كل ما يطرأ على الفطرة من أثقال الحضارة .. ومتى تعارضت الفطرة مع الحضارة، فلا بد أن يكتب النصر للفطرة .. قصر الصراع أم طال.
أمر واحد يجب أن يكون في حسابنا
إن أمامنا كفاحاً مريراً شاقاً طويلاً. لاستنقاذ الفطرة من الركام، ثم لتغليب الفطرة على هذا الركام، كفاحاً مريراً يجب أن نستعد له استعداداً طويلاً، يجب أن نستعد بأن نرتفع إلى مستوى هذا الدين ..نرتفع إلى مستواه في حقيقة إيماننا بالله. وفي حقيقة معرفتنا بالله، فإننا لن نؤمن به حق الإيمان حتى نعرفه حق المعرفة ..
ونرتفع إلى مستواه في عبادتنا لله. فإننا لن نعرف الله حق المعرفة إلا إذا عبدناه حق العبادة.
ونرتفع إلى مستواه في وعينا بما حولنا، ومعرفتنا لأساليب عصرنا .. ورحم الله رجلاً عرف زمانه واستقامت طريقته.
ونرتفع إلى مستواه في إحاطتنا لثقافة عصرنا وحضارته؛ وممارسة هذه الثقافة، وهذه الحضارة ممارسة اختبار واختيار .. فإننا لا نملك الحكم على ما ينبغي أن نأخذ منها، وما ينبغي أن ندع، إلا إذا سيطرنا عليها بالمعرفة والخبرة. فمن المعرفة والخبرة نستمد سلطان الاختيار ..
ونرتفع إلى مستواه في إدراكنا لطبيعة الحياة البشرية، وحاجاتها الحقيقية المتجددة، فنرفض ما نرفض من هذه الحضارة، ونستبقي ما نستبقي عن خبرة بالحياة ذاتها تعادل خبرتنا بهذه الحضارة كذلك!
وهذا كفاح مرير .. وكفاح طويل .. ولكنه كفاح بصير وكفاح أصيل.. والله معنا ..{...وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[21]}[سورة يوسف] ..وصدق الله العظيم.
================
عدم هلاك الأمة بسنة عامة
روى مسلم في صحيحه حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ح وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ أَخْبَرَنِى عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِى مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلاً ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم- « سَأَلْتُ رَبِّى ثَلاَثًا فَأَعْطَانِى ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِى وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّى أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِى بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِى بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا ».(1/16)
( صليت صلاة ) أي عظيمة ( لم تكن تصليها ) أي عادة ( قال أجل ) أي نعم ( إنها صلاة رغبة ) أي رجاء ( ورهبة ) أي خوف . قيل : أي صلاة فيها رجاء للثواب , ورغبة إلى الله وخوف منه تعالى . قال القاري : الأظهر أن يقال المراد به إن هذه صلاة جامعة , بين قصد رجاء الثواب وخوف العقاب , بخلاف سائر الصلوات إذ قد يغلب فيها أحد الباعثين على أدائها . قالوا وفي قوله تعالى : { يدعون ربهم خوفا وطعما } بمعنى أو لمانعة الخلو . ثم لما كان سبب صلاته الدعاء لأمته وهو كان بين رجاء الإجابة وخوف الرد طولها . ولذا قال ( وإني سألت الله فيها ثلاثا ) أي ثلاث مسائل ( ومنعني واحدة ) تصريح بما علم ضمنا ( بسنة ) أي بقحط عام ( عدوا من غيرهم ) وهم الكفار , لأن العدو من أنفسهم أهون ولا يحصل به الهلاك الكلي ولا إعلاء كلمته السفلى ( أن لا يذيق بعضهم بأس بعض ) أي حربهم وقتلهم وعذابهم ( فمنعنيها ) أي المسألة الثالثة ولم يعطنيها . قال الطيبي رحمه الله هو من قوله تعالى { أو يلبسكم شيعا } أي يجعل كل فرقة منكم متابعة لإمام وينشب القتال بينكم وتختلطوا وتشتبكوا في ملاحم القتال يضرب بعضكم رقاب بعض ويذيق بعضكم بأس بعض . المعنى يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى انتهى .
---------------------
لماذا ضربت علينا الذلة والمسكنة ؟
لقد استخلف الله تعالى بني إسرائيل ردحا طويلا من الزمان ، ولكنهم غيروا وبدلوا وانحرفوا عن منهج الله تعالى في نهاية الطريق فكان لزاما أن يعاقبهم الله تعالى بالذلة والمسكنة
قال تعالى { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} (61) سورة البقرة
وقد بين الحق سبحانه وتعالى أربع صفات لهم استحقوا بسببها غضب الله تعالى ومقته وهي :
الكفر بآيات الله تعالى وقتل الأنبياء بغير حق والعصيان المستمر والاعتداء على الآخرين
ومن ثم فقد استخلف الله تعالى غيرهم وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى :
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (32) سورة فاطر
وما كان الله تعالى يستخلف هذه الأمة إلا وهو يعلم يقينا أنها خير الأمم
قال تعالى مبينا هذه الخيرية :
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) سورة آل عمران
وكذلك فهي قادرة على حمل منهجه وتبليغه للناس في هذه الأرض مهما كلفها ذلك من تضحيات جسام ، وقد فعلت فانتشر الإسلام في أصقاع المعمورة خلال وقت قصير
ولكنها عندما تخلت عن حمل هذه الرسالة وصار بأسها بينها لا بد أن يسلط الله عليها بعض شرار خلقه ليعاقبها وليردها إلى سواء السبيل
وقد مرت على الأمة الإسلامية أحداث جسام من هذا القبيل فلم تمت واستعادت عافيتها بسرعة
وأما السبب في ضرب الذلة والمسكنة علينا اليوم ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه خلاصته :
أولا - التخلي عن منهج الله تعالى عقيدة وعبادة ومنهج حياة
قال تعالى :{هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (38) سورة محمد
وفي سنن ابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِى قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِى لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِى أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ».
وفي سنن البيهقي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ قَطُّ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ ، وَلاَ فَشَتِ الْفَاحِشَةُ فِى قَوْمٍ إِلاَّ أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِالْمَوْتِ ، وَمَا طَفَّفَ قَوْمٌ الْمِيزَانَ إِلاَّ أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِالسِّنِينَ ، وَمَا مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إِلاَّ مَنَعَهُمُ اللَّهُ الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا جَارَ قَوْمٌ فِى حُكْمٍ إِلاَّ كَانَ الْبَأْسُ بَيْنَهُمْ أَظُنُّهُ قَالَ وَالْقَتَلُ.
وعند الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : أَمَا إِنِّى قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « أَلاَ إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ ». فَقُلْتُ مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِى غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِى لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلاَ تَنْقَضِى عَجَائِبُهُ هُوَ الَّذِى لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ) مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ». وهو حسن لغيره
ثانيا - حبنا غير الله تعالى وغير رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر منهما
قال تعالى :{ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (24) سورة التوبة
ثالثا ترك الجهاد في سبيل الله والركون إلى الدنيا
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (38) سورة التوبة
وفي سنن أبي داود عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ».
رابعا - ترك الإنفاق في سبيل الله
قال تعالى :{ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (195) سورة البقرة
ففي سنن أبي داود عَنْ أَسْلَمَ أَبِى عِمْرَانَ قَالَ : غَزَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ نُرِيدُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ فَقَالَ النَّاسُ : مَهْ مَهْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يُلْقِى بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ : إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ الإِسْلاَمَ قُلْنَا : هَلُمَّ نُقِيمُ فِى أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (وَأَنْفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فَالإِلْقَاءُ بِالأَيْدِى إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِى أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ. قَالَ أَبُو عِمْرَانَ : فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
خامسا -حب الدنيا وكراهية الموت
ففي سنن أبي داود عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ».
سادسا- عدم الاعتصام بحبل الله والاعتصام بحبال الجاهلية
قال تعالى :
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) آل عمران
سابعا- التفرقة والاختلاف
قال تعالى :وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) آل عمران
ثامنا- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى :لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) المائدة
وفي سنن أبي داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهِ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ». ثُمَّ قَالَ (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) إِلَى قَوْلِهِ (فَاسِقُونَ) ثُمَّ قَالَ « كَلاَّ وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَىِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا ».
وفي سنن الترمذي عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
تاسعا - تولي الكفار والفجار
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (51) سورة المائدة
وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} (13) سورة الممتحنة
عاشرا- الركون إلى الظالمين
قال تعالى :{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} (113) سورة هود
الحادي عشر- عدم الاستجابة لله للرسول صلى الله عليه وسلم
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (24) سورة الأنفال
الثاني عشر - عدم تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في شئون حياتنا
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء
الثالث عشر - عدم الاستمساك بالعروة الوثقى
قال تعالى :{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256) سورة البقرة
الرابع عشر- التحاكم إلى الطاغوت وترك التحاكم إلى شرع الله
قال تعالى :أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا (63) سورة النساء
الخامس عشر –عدم الأخذ بالسنن الكونية والشرعية
قال تعالى في أعقاب غزوة أحد التي خسر المسلمون فيها سبعين شهيدا
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) سورة آل عمران
السادس عشر –انتشار الموبقات في بلاد المسلمين ولا سيما الزنا والربا
ففي مسند الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ ». قَالَ وَقَالَ « مَا ظَهَرَ فِى قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إِلاَّ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ».
السابع عشر- الظلم مؤذن بالهلاك
قال تعالى :{ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (59) سورة الكهف
وقال تعالى :{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (33) سورة النحل
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ « يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِى أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِى أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِى أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّى فَتَضُرُّونِى وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِى مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِى إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ».
***********
ولكن مع كل هذه الأسباب لم يأذن الله تعالى بهلاك هذه الأمة مهما ادلهمت الخطوب وازدادت الكروب
ففي مسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِى مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلاً ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم- « سَأَلْتُ رَبِّى ثَلاَثًا فَأَعْطَانِى ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِى وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّى أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِى بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِى بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا ».
وفي سنن أبي داود عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِىَ الأَرْضَ ». أَوْ قَالَ « إِنَّ رَبِّى زَوَى لِىَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِى سَيَبْلُغُ مَا زُوِىَ لِى مِنْهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ وَإِنِّى سَأَلْتُ رَبِّى لأُمَّتِى أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَلاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ رَبِّى قَالَ لِى يَا مُحَمَّدُ إِنِّى إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ وَلاَ أُهْلِكُهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَلاَ أُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا أَوْ قَالَ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَحَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَسْبِى بَعْضًا وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِى أُمَّتِى لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِى بِالْمُشْرِكِينَ وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِى الأَوْثَانَ وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِى أُمَّتِى كَذَّابُونَ ثَلاَثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِىٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لاَ نَبِىَّ بَعْدِى وَلاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى عَلَى الْحَقِّ ». قَالَ ابْنُ عِيسَى « ظَاهِرِينَ ». ثُمَّ اتَّفَقَا « لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ ».
***********
ولذلك توجد طائفة لم تتلبس بالفتن ولم تنحرف قائمة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله وهم كذلك
ففي البخاري عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ».
وفي مسلم عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - قَالَ - فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لَنَا. فَيَقُولُ لاَ. إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ. تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الأُمَّةَ ».
وفيه أيضا عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ».
***********
ولكن من هم ؟؟
إنهم المجاهدون في سبيل الله قطعا الذين لا يخافون في الله لومة ليس إلا
أما المنبطحون وأما المنهزمون ومن لف لفهم فليسوا منهم يقينا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
. فَأَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْحَى إلَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ - الَّتِي هِيَ سُنَّتُهُ - وَبِأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ . فَبِالْأَوْلَى يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } . وَبِالثَّانِيَةِ يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } . وهذا وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي جَمِيعِ الدِّينِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ أَوْكَدُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ؛ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِتَأْيِيدِ قَوِيٍّ مِنْ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ سَنَامَ الْعَمَلِ وَانْتَظَمَ سَنَامُ جَمِيعِ الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ . فَفِيهِ سَنَامُ الْمَحَبَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } . وَفِيهِ سَنَامُ التَّوَكُّلِ وَسَنَامُ الصَّبْرِ ؛ فَإِنَّ الْمُجَاهِدَ أَحْوَجُ النَّاسِ إلَى الصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وَقَالَ { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ وَالْيَقِينُ - اللَّذَيْنِ هَمَّا أَصْلُ التَّوَكُّلِ - يُوجِبَانِ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ مُوجِبًا لِلْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ مُحِيطَةٌ بِأَبْوَابِ الْعِلْمِ . كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } فَجَعَلَ لِمَنْ جَاهَدَ فِيهِ هِدَايَةَ جَمِيعِ سُبُلِهِ تَعَالَى ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا : إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَانْظُرُوا مَاذَا عَلَيْهِ أَهْلُ الثَّغْرُ فَإِنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } .
وَفِي الْجِهَادِ أَيْضًا : حَقِيقَةُ الزُّهْدِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الدَّارِ الدُّنْيَا .
وَفِيهِ أَيْضًا : حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ . فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا فِي سَبِيلِ الرِّيَاسَةِ وَلَا فِي سَبِيلِ الْمَالِ وَلَا فِي سَبِيلِ الْحَمِيَّةِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ قَاتَلَ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا . وَأَعْظَمُ مَرَاتِبِ الْإِخْلَاصِ : تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَالْمَالِ لِلْمَعْبُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (111) سورة التوبة
=====================
وجود طائفة من أمته قائمة على الحق حتى قيام الساعة:
كما في أحاديث متواترة روى مسلم في صحيحه عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - قَالَ - فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لَنَا. فَيَقُولُ لاَ. إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ. تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الأُمَّةَ ». .
حين يشتد الظلام ويطول الليل تكون الحاجة ماسة إلى قبس من النور يبدده ويزيله.
وحين ينتفش الباطل وينتفخ ويتطاول المبطلون تشتد الحاجة إلى وجود طلائع من الناس تحمل الحق وتعيده إلى نصابه وتصرع الباطل وتدمغه وتزهقه، فيتبين للناس حينئذ الرشد من الغي والهدى من الضلال ويميزون بين الظلمات والنور. والعالم اليوم يمر بحالة استثنائية، اضطربت فيها المعايير واختلت الموازين في مختلف نواحي الحياة فالعالم اليوم بحاجة إلى من ينقذه من وهدته وشقائه بحاجة إلى من يأخذ بيده إلى شاطئ السلامة وبر الأمان حتى لا يغرق في ظلمه وظلامه ويقع في سوء فعاله!!
ولا يملك أحد علاجاً ناجحاً ودواءاً ناجعاً للبشرية مما تعانيه إلا المسلمون، المسلمون وحدهم ، هم القادرون على الإنقاذ والعلاج. لا أعني بالمسلمين مسلمة الدار ممن يأخذون الإسلام أمنيات وأحلاماً ، مسلمون لأنهم في بلاد إسلامية أو لأنهم سلالة المسلمين أو لأنهم يحملون وثائق تثبت إسلامهم، ثم لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه ولا من الشرع والقرآن إلا رسمه. لا أعني بالمسلمين الذين انسلخوا عن دينهم وهويتهم وانصهروا في أعداء الأمة من اليهود والنصارى.
ولكنني أعني الأمة الربانية المؤمنة الواعية المستيقظة المجاهدة، التي خاطبها الله تعالى بقوله: ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ...?[ البقرة: 143] والوسط من الناس: هم الخيار العدول.
هذه الأمة الخيرة العادلة هي التي قال الله فيها مبيناً أسباب رفعتها وخيريتها وشرفها في قوله الكريم: ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ...?[ آل عمران:110].
لم تنل هذه الأمة هذه المكافأة ولم تستحق هذا التكريم إلا بسبب معروفها وإحسانها، فهي الداعية إلى الخير،السابقة إلى الإيمان، المؤمنة بالله، تقدم الخير للبشرية، وتخرجها من الظلمات إلى النور ، المجاهدة في سبيل الله الباذلة نفوسها وأموالها في مرضاة الله جل وعلا.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها. والشرط هو أن تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله وذلك بالدعوة لهذا الدين القويم.
الشرع العظيم الذي بعث الله به نبيه الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم ومجاهدة المعاندين الصادين عن سبيل الله من اليهود والنصارى وسائر الكافرين والمشركين.
إن واجب الأمة المسلمة أن تدرك وظيفتها ومهمتها في الحياة، إنها أمة داعية إلى الخير والحق والهدى والنور، لا مدعوة إنها أمة قائدة رائدة لا مقودة ولا تابعة.
يريد الله أن تكون القيادة للخير في هذا العالم لا للشر وعلى هذا ينبغي أن تقوم أمة الإسلام بواجبها في التمسك بهذا الدين وتصديره للآخرين ودعوتهم إليه كما لا ينبغي لها ولا يجوز أن تتلقى أو تتسول من الكافرين مناهجهم وطرائقهم وأنظمتهم وأخلاقهم وباطلهم، إنما واجبها أن تكون دائماً معطاءة، ولديها ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح، والتصور السليم، والنظام السديد، والخلق القويم، والمعرفة والعلم الصحيح هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها ومكانتها، وتحتمه عليها غاية وجودها .. واجبها أن تكون في الطليعة دائماً وفي مركز القيادة دائماً في القمة لا في السفح
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
ليس بالأماني فقط وإنما عملاً وإيماناً وجهاداً ودعوة وكفاحاً لا ادعاءاً واتكالاً . إن واجب الأمة أن تضطلع بمهامها وتنهض برسالتها في التمسك بالإسلام والدعوة إليه وإصلاح الخلل والفساد الذي عم الحياة، وإقامة موازين الحق والخير والعدل في دنيا الناس. ولا شك أن هذا طريق مليء بالمتاعب والمشاق لا يصمد فيه ويسير عليه إلا أهل الصدق والإيمان، ممن آمنوا بالله وامتلأت قلوبهم بعظمته وجلاله واستشعروا معيته تعالى وأنه معهم ناصرهم والمدافع عنهم ، وأن أمور الخلق ونواصيهم بيده. أصحاب الصدق واليقين هؤلاء يمضون في طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة والجهاد. يواجهون الشر في عنفوانه وجبروته، ويواجهون طاغوت الشهوات والشبهات ويواجهون في الأمة هبوط أرواحها وكلل عزائمها، يواجهون الدنيا كلها. لا زاد لهم إلا الإيمان ولا عدة لهم إلا الصبر واليقين ولا سند لهم ولا ناصر إلا الله الجبار المنتقم المحيط بالكافرين.
إن الأمة المنصورة التي يكتب الله لها النصر والتمكين ويمدها بالعون والتسديد هي المتصفة بما وصفها الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والإيمان، هذه الطائفة تكون قائمة ظاهرة معروفة بين البشر بجهادها واعتصامها بدينها واستمساكها به، وقد جاءت أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في وصفها وبيانها وفيها بشارة وتبشير للإسلام والمسلمين بالعاقبة الحسنة والنصر المبين فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يزال أناس من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون".
وعن جابر بين سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يبرح هذا الدين قائماً، يقاتل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة". وفيه عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي ، يقاتلون على الحق، ظاهرين، إلى يوم القيامة". وفيه أيضاً عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك".
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة من أمتي على الدين، ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم؛ إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك."
إن هذه الأحاديث التي تبلغ حد التواتر تذكر مواصفات الطائفة المنصورة الغالبة القاهرة الظافرة ومن أبرز أوصافها:
1- أنها على الحق ملتزمة بالدين الصحيح الذي هو الحق وما عداه باطل وضلال، ملتزمة بدين الله عن علم ومعرفة وبرهان ودليل لا تحيد عنه.
2- أنها قائمة بأمر الله وذلك بحمل راية الدعوة إلى الله ونشر الإسلام والدفاع عنه. قائمة بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باليد واللسان، والقلب، تبذل الغالي والنفيس من أجل إقامة الدين.
3- أنها المجددة للأمة أمر دينها، هذه الطائفة تحيي ما اندرس من الشرع بإقامة سنة رسول الله وإماتة البدع والخرافات التي يلصقها الناس بالإسلام إما جهلاً وإما كيداً. ,إن من أعظم الفرائض التي تعمل على إقامتها وإحيائها هي الجهاد في سبيل الله الذي يتواطأ العالم اليوم عليه لإلغائه.
4- إنها ظاهرة إلى قيام الساعة، فالطائفة المجددة واضحة بينة ظاهرة معروفة ثابتة على الحق لا تهادن أو تساوم
5- إنها صابرة مصابرة ، لا يضرها من خالفها ولا من ناوأها ، عرفوا الحق والتزموا به ولم يلتفتوا إلى خلاف المخالفين. أصحاب هذه الصفات هم الطلائع وهم المنصورون. نسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم.
كل هذا يدل بشكل قاطع على أن الله تعالى لم يتخل عن هذه الأمة الخاتمة
**************************
الباب الثاني )-شروط الاستخلاف في هذه الأرض
الإيمان المطلق
قال تعالى في سورة البقرة ( الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {5} (
الهدى حقيقته ، والهدى طبيعته ، والهدى كيانه ، والهدى ماهيته . .
ولكن لمن ؟ لمن يكون ذلك الكتاب هدى ونورا ودليلا ناصحا مبينا ؟ . .
للمتقين . . فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب . هي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك . هي التي تهيء لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب .
لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم . بقلب خالص . ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى ، ويحذر أن يكون على ضلالة ، أو أن تستهويه ضلالة . .
وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره ، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقيا ، خائفا ، حساسا ، مهيأ للتلقي . .
ورد أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له:أما سلكت طريقا ذا شوك ؟ قال بلى ! قال:فما عملت ؟ قال:شمرت واجتهدت . قال:فذلك التقوى . .
فذلك التقوى . .
حساسية في الضمير ، وشفافية في الشعور ، وخشية مستمرة ، وحذر دائم ، وتوق لأشواك الطريق . .
طريق الحياة . .
الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات ، وأشواك المطامع والمطامح ، وأشواك المخاوف والهواجس ، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء ، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا . وعشرات غيرها من الأشواك !
ثم يأخذ السياق في بيان صفة المتقين ؛ وهي صفة السابقين من المؤمنين في المدينة كما أنها صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين:
الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون . .
إن السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية الإيجابية الفعالة . الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب ، والقيام بالفرائض ، والإيمان بالرسل كافة ، واليقين بعد ذلك بالآخرة . . هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلامية ، وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة ، والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعا ، ولتهيمن على البشرية جميعا ، وليعيش الناس في ظلالها بمشاعرهم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة ، شاملة للشعور والعمل ، والإيمان والنظام .(1/17)
فإذا نحن أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى للمتقين إلى مفرداتها التي تتألف منها ، انكشفت لنا هذه المفردات عن قيم أساسية في حياة البشرية جميعا . .
الذين يؤمنون بالغيب . .
فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم والقوة الكبرى التي صدرت عنها ، وصدر عنها هذا الوجود ؛ ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات .
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان ، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه ، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض ؛ فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ، وأن وراء الكون ظاهره وخافيه ، حقيقة أكبر من الكون ، هي التي صدر عنها ، واستمد من وجودها وجوده . .
حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول . وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له ، وما لم توهب القدرة للإحاطة به ، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه . إن الطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان ، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض ، فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة ، تنظر فيها ، وتتعمقها وتتقصاها ، وتعمل وتنتج ، وتنمي هذه الحياة وتجملها ، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود ، وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول . فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها ، دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة ، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول . .
فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا ، ومحاولة عابثة أخيرا . فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال . وعابثه لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال . .
ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى ، وهي أن المحدود لا يدرك المطلق ، لزمه - احتراما لمنطقه ذاته - أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل ؛ وإن عدم إدراكه للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون ؛ وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل ؛ وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن ، والغيب والشهادة . . وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون ، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين . لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان ، كجماعة الماديين في كل زمان ، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري . .
إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس !
ويسمون هذا "تقدمية " وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها ، فجعل صفتهم المميزة ، صفة: الذين يؤمنون بالغيب والحمد لله على نعمائه ، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين !
ويقيمون الصلاة . .
فيتجهون بالعبادة لله وحده ، ويرتفعون بهذا عن عبادة العباد ، وعبادة الأشياء . يتجهون إلى القوة المطلقة بغير حدود ويحنون جباههم لله لا للعبيد ؛ والقلب الذي يسجد لله حقا ، ويتصل به على مدار الليل والنهار ، يستشعر أنه موصول السبب بواجب الوجود ، ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض ، ويحس أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق المخاليق . .
وهذا كله مصدر قوة للضمير ، كما أنه مصدر تحرج وتقوى ، وعامل هام من عوامل تربية الشخصية ، وجعلها ربانية التصور ، ربانية الشعور ، ربانية السلوك .
ومما رزقناهم ينفقون . .
فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم ، لا من خلق أنفسهم ؛ ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق ، والتضامن بين عيال الخالق ، والشعور بالآصرة الإنسانية ، وبالأخوة البشرية . .
وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح ، وتزكيتها بالبر . وقيمتها أنها ترد الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن ، وأنها تؤمن العاجز والضعيف والقاصر ، وتشعرهم أنهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس ، لا بين أظفار ومخالب ونيوب !(1/18)
والإنفاق يشمل الزكاة والصدقة ، وسائر ما ينفق في وجوه البر . وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة ، لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة ولا تستوعبه . وقد ورد في حديث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بإسناده لفاطمة بنت قيس إن في المال حقا سوى الزكاة . .
وتقرير المبدأ على شموله هو المقصود في هذا النص السابق على فريضة الزكاة
والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . .
وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة ، وارثة العقائد السماوية ، ووارثة النبوات منذ فجر البشرية ، والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوة ، وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان . وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية ، ووحدة دينها ، ووحدة رسلها ، ووحدة معبودها . .
قيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح . .
قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها . هذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد وهدى واحد . قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي تتقلب الأيام والأزمان ، وهو ثابت مطرد ، كالنجم الهادي في دياجير الظلام
وبالآخرة هم يوقنون . .
وهذه خاتمة السمات . الخاتمة التي تربط الدنيا بالآخرة ، والمبدأ بالمصير ، والعمل بالجزاء ؛ والتي تشعر الإنسان أنه ليس لقى مهملا ، وأنه لم يخلق عبثا ، ولن يترك سدى ؛ وأن العدالة المطلقة في انتظاره ، ليطمئن قلبه ، وتستقر بلابله ، ويفيء إلى العمل الصالح ، وإلى عدل الله ورحمته في نهاية المطاف .
واليقين بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة ، ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب . بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل ما له في هذا الوجود ، ومن يشعر أن حياته على الأرض ابتلاء يمهد للجزاء ، وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك ، وراء هذا الحيز الصغير المحدود .
وكل صفة من هذه الصفات - كما رأينا - ذات قيمة في الحياة الإنسانية ، ومن ثم كانت هي صفات المتقين . وهناك تساوق وتناسق بين هذه الصفات جميعا ، هو الذي يؤلف منها وحدة متناسقة متكاملة . فالتقوى شعور في الضمير ، وحالة في الوجدان ، تنبثق منها اتجاهات وأعمال ؛ وتتوحد بها المشاعر الباطنة والتصرفات الظاهرة ؛ وتصل الإنسان بالله في سره وجهره . وتشف معها الروح فتقل الحجب بينها وبين الكلي الذي يشمل عالمي الغيب والشهادة ، ويلتقي فيه المعلوم والمجهول . ومتى شفت الروح وانزاحت الحجب بين الظاهر والباطن ، فإن الإيمان بالغيب عندئذ يكون هو الثمرة الطبيعية لإزالة الحجب الساترة ، واتصال الروح بالغيب والاطمئنان إليه . ومع التقوى والإيمان بالغيب عبادة الله في الصورة التي اختارها ، وجعلها صلة بين العبد والرب . ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافا بجميل العطاء ، وشعورا بالإخاء . ثم سعة الضمير لموكب الإيمان العريق ، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن ولكل نبي ولكل رسالة . ثم اليقين بالآخرة بلا تردد ولا تأرجح في هذا اليقين . .
وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم ذاك ، مؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات شيئا عظيما . شيئا عظيما حقا بتمثل هذه الحقيقة الإيمانية فيها . ومن ثم صنع الله بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض ، وفي حياة البشر جميعا . . ومن ثم كان هذا التقرير:
أولئك على هدى من ربهم ، وأولئك هم المفلحون . .
وكذلك اهتدوا وكذلك أفلحوا . والطريق للهدى والفلاح هو هذا الطريق المرسوم .
**************(1/19)
وهذه الآيات تتناول موضوعا خطيرا الموضوع الأساسي في حياة الأمة المسلمة إنها تتناول بيان شرط الإيمان وحده ; متمثلا في النظام الأساسي لهذه الأمة ومن الموضوع في ذاته ومن طريقه ارتباطه وامتزاجه بالنظام الأساسي للأمة يستمد خطورته وخطره إن القرآن وهو ينشىء هذه الأمة وينشئها وهو يخرجها إلى الوجود إخراجا كما قال الله تعالى في التعبير القرآني الدقيق كنتم خير أمة أخرجت للناس إن القرآن وهو ينشىء هذه الأمة من حيث لم تكن ; وينشئها لتصبح أمة فريدة في تاريخ البشر خير أمة أخرجت للناس ويجب أن نؤكد هذه الحقيقة ونوضحها قبل المضي في الحديث حقيقة إنشاء القرآن لهذه الأمة وتنشئتها معا فقد كانت على التحقيق إنشاء وتنشئة كانت ميلادا جديدا للأمة ; بل ميلادا جديدا للإنسان في صورة جديدة ولم تكن مرحلة في طريق النشأة ; ولا خطوة في سبيل التطور ولا حتى وثبة من وثبات النهضة إنما كانت على وجه التحديد نشأة وميلادًا للأمة العربية وللإنسان كله وحين ننظر إلى الشعر الجاهلي والنتف الأخرى من المأثورات الجاهلية وهو ديوان العرب الذي تضمن أعلى وأخلد ما كان للعرب من نظرة للحياة والوجود والكون والإنسان والخلق والسلوك ; كما تضمن معالم حياتهم ومكنون مشاعرهم ومجموع تصوراتهم ; ولباب ثقافتهم وحضارتهم ; وكينونتهم كلها بالاختصار حين ننظر إلى مجموعة الثقافات والتصورات والقيم التي يتضمنها هذا الديوان ; في ظل القرآن ; وما تضمنه من نظرة للوجود والحياة وللكون والإنسان ; ومن قيم في الحياة الإنسانية ; ومن نظام للمجتمع ; ومن تصور لغاية الوجود الإنساني ومن تنظيم واقعي يقوم على أساس هذا التصور ثم ننظر إلى واقع العرب قبل الإسلام وبعده في ظل تلك التصورات الجاهلية التي تتمثل في ديوانها ثم ... في ظل هذه التصورات القرآنية التي تمثل المنهج الرباني حين ننظر إلى الديوان المأثور والحياة الواقعية في ظل القرآن وواقع الحياة الإسلامية يتبين لنا على وجه التأكيد والتحديد أنها كانت نشأة ولم تكن خطوة ولا مرحلة ولا وثبة كانت إخراجًا من صنع الله ; كتعبير القرآن الدقيق وكانت أعجب نشأة ; وأغرب إخراج فيهي المرة الأولى والأخيرة فيما نعلم التي تنبثق فيها أمة من بين دفتي كتاب و تخرج فيها حياة من خلال الكلمات ولكن لا عجب فهذه الكلمات كلمات الله ومن أراد المجادلة والمماحلة فليقل لنا أين كانت هذه الأمة قبل أن يخرجهًا الله بكلماته ; وقيل أن ينشئها الله بقرآنه إننا نعرف أنها كانت في الجزيرة العربية ولكن أين كانت في الوجود الإنساني أين كانت في سجل الحضارة البشرية أين كانت في التاريخ العالمي أين كانت تجلس على المائدة العالمية الإنسانية وماذا كانت تقدم على هذه المائدة فيعرف باسمها ويحمل طابعها لقد نشأت هذه الأمة نشأتها بهذا الدين ; ونشئت تنشئتها بهذا المنهج القويم ; وقادت نفسها وقادت البشرية بعد ذلك بكتاب الله الذي في يدها وبمنهجه الذي طبع حياتها لا بشيء آخر وأمامنا التاريخ وقد صدقها الله وعده وهو يقول للعرب لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون فبسبب من هذا الكتاب ذكرت هذه الأمة في الأرض ; وكان لها دورها في التاريخ ; وكان لها وجود إنساني ابتداء وحضارة عالمية ثانيا ذلك بينما يريد جماعة من الحمقى أن يرفضوا نعمة الله هذه على الأمة العربية ; ويجحدوا فضل الله في أن جعل كلمته الأخيرة لأهل الأرض قاطبة في العرب وبلسانهم ومن ثم جعل لهم وجودا وذكرا وتاريخا وحضارة يريدون أن يخلعوا هذا الرداء الذي ألبسهم الله إياه ; وأن يمزقوا هذه الراية التي قادتهم إلى الذكر والمجد بل إلى الوجود يوم أخرج الله منهم الأمة المسلمة نقول إن القرآن حين كان ينشى ء هذه الأمة و ينشئها ويخطط ويثبت ملامح الإسلام الجديدة في الجماعة المسلمة التي التقطها من سفح الجاهلية ويطمس ويمحو ملامح الجاهلية في حياتها ونفوسها ورواسبها وينظم مجتمعها أو يقيمه ابتداء على أساس الميلاد الجديد وحين كان يخوض بالجماعة المسلمة المعركة ; في مواجهة الجاهلية الراسبة في نفوسها وأوضاعها من مخلفات البيئة التي التقطها المنهج الرباني منها ; وفي مواجهة الجاهلية الرابضة فيها ومن حولها ممثلة في يهود المدينة ومنافقيها ومشركي مكة وما حولها والمعركتان موصولتان في الزمان والمكان حين كان القرآن يصنع ذلك كله كان يبدأ فيقيم للجماعة المسلمة تصورها الصحيح ببيان شرط الإيمان وحد الإسلام ; ويربط بهذا التصور في هذه النقطة بالذات نظامها الأساسي الذي يميز وجودها من وجود الجاهلية حولها ; ويفردها بخصائص الأمة التي أخرجت للناس لتبين للناس وتقودهم إلى الله نظامها الرباني وهذا الدرس يتولى بيان هذا النظام الأساسي قائما ومنبثقا من التصور الإسلامي لشرط الإيمان وحد الإسلام إنه يتولى تحديد الجهة التي تتلقى منها الأمة المسلمة منهج حياتها ; والطريقة التي تتلقى بها ; والمنهج الذي تفهم به ما تتلقى وترد إليه ما يجد من(1/20)
مشكلات وأقضية لم يرد فيها نص وتختلف الأفهام فيها ; والسلطة التي تطيعها وعلة طاعتها ومصدر سلطانها ويقول إن هذا هو شرط الإيمان وحده الإسلام وعندئذ يلتقي النظام الأساسي لهذه الأمة ; بالعقيدة التي تؤمن بها في وحدة لا تتجزأ ; ولا تفترق عناصرها وهذا هو الموضوع الخطير الذي يجلوه هذا الدرس جلاء دقيقا كاملا وهذه هي القضية التي تبدو بعد مطالعة هذا الدرس بديهية يعجب الإنسان كيف يجادل مسلم فيها إنه يقول للأمة المسلمة إن الرسل أرسلت لتطاع بإذن الله لا لمجرد الإبلاغ والإقناع وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ويقول لها إن الناس لا يؤمنون ابتداء إلا أن يتحاكموا إلى منهج الله ; ممثلا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في أحكام الرسول وباقيا بعده في مصدريه القرآن والسنة بالبداهة ; ولا يكفي أن يتحاكموا إليه ليحسبوا مؤمنين بل لا بد من أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [النساء/65]
فهذا هو شرط الإيمان وحد الإسلام ويقول لها إن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت أي إلى غير شريعة الله لا يقبل منهم زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله فهو زعم كاذب يكذبه أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا ويقول لها إن علامة النفاق أن يصدوا عن التحاكم إلى ما أنزل الله والتحاكم إلى رسول الله وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ويقول لها إن منهجها الإيماني ونظامها الأساسي أن تطيع الله عز وجل في هذا القرآن وأن تطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته وأولي الأمر من المؤمنين الداخلين في شرط الإيمان وحد الإسلام معكم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ويقول لها إن المرجع فيما تختلف فيه وجهات النظر في المسائل الطارئة المتجددة والأقضية التي لم ترد فها أحكام نصية إن المرجع هو الله ورسوله أي شريعة الله وسنة رسوله فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمنا على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك أبد الدهر في حياة الأمة المسلمة وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي الذي لا تكون مؤمنة إلا به ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه إذ هو يجعل الطاعة بشروطها تلك ورد المسائل التي تجد وتختلف فيها وجهات النظر إلى الله ورسوله شرط الإيمان وحد الإسلام شرطا واضحا ونصا صريحا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ... ولا ننس ما سبق بيانه عند قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من أن اليهود وصموا بالشرك بالله لأنهم كانوا يتخذون أحبارهم أربابا من دون الله لا لأنهم عبدوهم ولكن لأنهم قبلوا منهم التحليل والتحريم ; ومنحوهم حق الحاكمية والتشريع ابتداء من عند أنفسهم فجعلوا بذلك مشركين الشرك الذي يغفر الله كل ما عداه حتى الكبائر < وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر > فرد الأمر كله إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية ومن ثم إفراده بالحاكمية فهي أخص خصائص الألوهية وداخل هذا النطاق يبقى المسلم مسلما ويبقى المؤمن مؤمنا ويطمع أن يغفر له ذنوبه ومنها كبائره أما خارج هذا النطاق فهو الشرك الذي لا يغفره الله أبدا إذ هو شرط الإيمان وحد الإسلام إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر هذا هو الموضوع الخطير الذي يتناوله هذا الدرس بالإضافة إلى بيان وظيفة الأمة المسلمة في الأرض من إقرار مبادى ء العدل والخلق على أساس منهج الله القويم السليم إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرًا
=============
العمل الصالح :
قال تعالى :( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {55} النور(
ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] أن يستخلفهم في الأرض . وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا . .
ذلك وعد الله . ووعد الله حق . ووعد الله واقع . ولن يخلف الله وعده . . فما حقيقة ذلك الإيمان ؟ وما حقيقة هذا الاستخلاف ؟(1/21)
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله ؛ وتوجه النشاط الإنساني كله . فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله ؛ لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله ؛ وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة ، لا يبقى معها هوى في النفس ، ولا شهوة في القلب ، ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من عند الله .
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله ، بخواطر نفسه ، وخلجات قلبه . وأشواق روحه ، وميول فطرته ، وحركات جسمه ، ولفتات جوارحه ، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا . .
يتوجه بهذا كله إلى الله . .
يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن: يعبدونني لا يشركون بي شيئا والشرك مداخل وألوان ، والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله .
ذلك الإيمان منهج حياة كامل ، يتضمن كل ما أمر الله به ، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب ، وإعداد العدة ، والأخذ بالوسائل ، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض . .
أمانة الاستخلاف . .
فما حقيقة الاستخلاف في الأرض ؟
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم . .
إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء ؛ وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ؛ وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض ، اللائق بخليقة أكرمها الله .
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح ، لا على الهدم والإفساد . وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة ، لا على الظلم والقهر . وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري ، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان !
وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات . .
وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض - كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم - ليحققوا النهج الذي أراده الله ؛ ويقرروا العدل الذي أراده الله ؛ ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله . .
فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض ، وينشرون فيها البغي والجور ، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان . .
فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض . إنما هم مبتلون بما هم فيه ، أو مبتلى بهم غيرهم ، ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله .
آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده:
وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . .
وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب ، كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها . فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض ، وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض . ودينهم يأمر بالإصلاح ، ويأمر بالعدل ، ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض . ويأمر بعمارة هذه الأرض ، والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة ، ومن رصيد ، ومن طاقة ، مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله .
وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا . .
ولقد كانوا خائفين ، لا يأمنون ، ولا يضعون سلاحهم أبدا حتى بعد هجرة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية:كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده ، وإلى عبادته وحده بلا شريك له ، سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ؛ حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة ، فقدموها ، فأمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين ، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح ؛ فصبروا على ذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من الصحابة قال:يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ؟ فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عليه وسلم - لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة . وأنزل الله هذه الآية ، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح . ثم إن الله قبض نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان . حتى وقعوا فيما وقعوا فيه ، فأدخل الله عليهم الخوف ؛ فاتخذوا الحجزة والشرط ، وغيروا فغير بهم . .
ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . .
الخارجون على شرط الله . ووعد الله . وعهد الله . .
لقد تحقق وعد الله مرة . وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط الله: يعبدونني لا يشركون بي شيئا . .(1/22)
لا من الآلهة ولا من الشهوات . ويؤمنون - من الإيمان - ويعملون صالحا . ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة . إنما يبطئ النصر والاستخلاف والتمكين والأمن . لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة ؛ أو في تكليف من تكاليفه الضخمة ؛ حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء ، وجازت الابتلاء ، وخافت فطلبت الأمن ، وذلت فطلبت العزة ، وتخلفت فطلبت الاستخلاف . .
كل ذلك بوسائله التي أرادها الله ، وبشروطه التي قررها الله . .
تحقق وعد الله الذي لا يتخلف ، ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا .
لذلك يعقب على هذا الوعد بالأمر بالصلاة والزكاة والطاعة ، وبألا يحسب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وأمته حسابا لقوة الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى لهم:
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون . لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض . ومأواهم النار ولبئس المصير . .
فهذه هي العدة . .
الاتصال بالله ، وتقويم القلب بإقامة الصلاة . والاستعلاء على الشح ، وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة . وطاعة الرسول والرضى بحكمه ، وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة ، وتحقيق النهج الذي أراده للحياة:
لعلكم ترحمون في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال ، وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال .
فإذا استقمتم على النهج ، فلا عليكم من قوة الكافرين . فما هم بمعجزين في الأرض ، وقوتهم الظاهرة لن تقف لكم في طريق . وأنتم أقوياء بإيمانكم ، أقوياء بنظامكم ، أقوياء بعدتكم التي تستطيعون . وقد لا تكونون في مثل عدتهم من الناحية المادية . ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب .
إن الإسلام حقيقة ضخمة لا بد أن يتملاها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد الله في تلك الآيات . ولا بد أن يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية ، وهو يدرك شروطها على حقيقتها ، قبل أن يتشكك فيها أو يرتاب ، أو يستبطى ء وقوعها في حالة من الحالات .
إنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله ، وحكمت هذا النهج في الحياة ، وارتضته في كل أمورها . . إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن . وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلا تخلفت في ذيل القافلة ، وذلت ، وطرد دينها من الهيمنة على البشرية ؛ واستبد بها الخوف ؛ وتخطفها الأعداء .
ألا وإن وعد الله قائم . ألا وإن شرط الله معروف . فمن شاء الوعد فليقم بالشرط . ومن أوفى بعهده من الله ؟
------------------
وفي كتاب أبوبكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره للصلابي- (ج 1 / ص 381)
أولاً: أولاً تحقيق شروط التمكين وأسبابه وآثار شرع الله، وصفات المجاهدين:
1-تحقيق شروط التمكين:
إن الاستخلاف في الأرض، والتمكين لدين الله، وإبدال الخوف أمناً، وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه، ولقد أشار القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين، ولوازم الاستمرار فيه قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - } (سورة النور، آية:55-56). ولقد أشارت الآيات الكريمة إلى شروط التمكين وهي: الإيمان بكل معانيه وبكافة أركانه، وممارسة العمل الصالح بكل أنواعه والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر، وتحقيق العبودية الشاملة، ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه، وأما لوازم التمكين فهي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -(1)، وقد تحققت هذه الشروط واللاوازم كلها في عهد الصديق والخلفاء الراشدين من بعده، وكان للصديق الفضل بعد الله في تذكير الأمة بهذه الشروط ولذلك رفض طلب الأعراب في وضع الزكاة عنهم، وأصرّ على بعث جيش أسامة والتزم بالشرع كاملاً ولم يتنازل عن صغيرة ولاكبيرة، قال عبدالله بن مسعود: لقد قمنا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مقاماً كدْنا نهلك فيه لولا أن منّ علينا بأبي بكر، أجمعنا على أن لانقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون وأن نأكل قرى عربية ونعبد الله حتى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكر على قتاله فوالله مارضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المحلية(2)
__________
(1) فقه التمكين في القرآن الكريم للصّلابي، ص157.
(2) الكامل في التاريخ (2/21).
.
2-الأخذ بأسباب التمكين:(1/23)
قال تعال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (سورة الأنفال، آية:60). وقد لاحظت أن الصديق - رضي الله عنه - كان إعداده شاملاً، معنوياً ومادياً، فجيش الجيوش وعقد الألوية، واختار القادة لحروب الردة، وراسل المرتدين، وحرض الصحابة على قتالهم، وجمع السلاح والخيل والإبل وجهز الغزاة، وحارب البدع، والجهل، والهوى، وحكّم الشريعة، وأخذ بأصول الوحدة والاتحاد والاجتماع، وأخذ بمبدأ التفرغ، وساهم في إحياء مبدأ التخصص، فخالد لقيادة الجيوش، وزيد بن ثابت لجمع القرآن، وأبو برزة الأسلمي للمراسلات الحربية وهكذا، واهتم بالجانب الأمني، والإعلامي وغير ذلك من الأسباب.
3-آثار تحكيم الشرع:
تظهر آثار تحكيم شرع الله في عصر الصديق في تمكين الله للصحابة، فقد حرصوا على إقامة شعائر الله على أنفسهم وأهليهم وأخلصوا لله في تحاكمهم إلى شرعه، فالله سبحانه وتعالى قواهم وشد أزرهم ونصرهم على المرتدين، ورزقهم الأمن والاستقرار قال تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (سورة الأنعام، آية:82). وتحققت فيهم سنة الله في نصرته لمن ينصره لأن الله ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ - } (سورة الحج، آية:40-41).
وماحدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت مجموعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف…)(1).
وقد انتشرت الفضائل وانحسرت الرذائل في عهد الصديق - رضي الله عنه -.
4-صفات جيل التمكين:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (سورة المائدة، آية:54) هذه الصفات المذكورة في هذه الآية الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وجيوشه من الصحابة الذين قاتلوا المرتدين فقد مدحهم الله بأكمل الصفات وأعلى المبرات(2) فهذه الصفات:
أ-{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}:
__________
(1) في ظلال القرآن (4/270).
(2) عقيدة أهل السنّة والجماعة في الصحابة الكرام (2/534).
مذهب السلف في المحبة المسندة له سبحانه وتعالى، أنها ثابتة له تعالى بلا كيف ولاتأويل، ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها(1). لقد أحب المولى عزوجل ذلك الجيل لما بذلوه من أجل دينهم وبما تطوعوا به بما لم يفرض عليهم فرضاً، تقرباً إلى الله وحبا لرسوله، واتخاذهم المندوبات والمستحبات كأنها فروض واجبة التنفيذ(2)، ولقد اتصف هذا الجيل بصفات الإحسان والتقوى والصبر التي ذكر المولى عزوجل بأنه يحبها قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (سورة آل عمران، آية:134) وقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (سورة آل عمران، آية:76) ولقد أحب الصحابة المولى عزوجل حباً عظيماً فقدموا محابه على كل شيء وبغضوا ما أبغضه، ووالوا ماوالاه وعادوا من عاداه واتبعوا رسوله، واقتفوا أثره، لقد أحب الصحابة ربهم، وخالقهم، ورازقهم، لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها وأي إحسان كإحسان من خلق فقدر، وشرع فيسر، وجعل الإنسان في أحسن تقويم، ووعد من أطاعه بجنة الخلد التي فيها مالاعين رأت ولا أذن سمعت، ولاخطر على قلب بشر، لهذا كله ولأكثر منه، أحب ذلك الجيل ربهم حبا لامثيل له، فقدموا أنفسهم وأهليهم وأموالهم في سبيل الله، بلا تردد أو منة، بل اعتبروا ذلك تفضل من الله عليهم، أن فتح لهم باب الجهاد والاستشهاد في سبيله ويسر لهم أسبابه، فقاموا بذلك الواجب خير قيام(3).
ب-قوله تعالى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}:
__________
(1) تفسير القاسمي (6/253).
(2) كيف نكتب التاريخ الاسلامي، لمحمد قطب، ص90.
(3) الايمان وأثره في الحياة للقرضاوي، ص5-12.(1/24)
فهذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه، متعززاً على خصمه وعدوه(1)، ولذلك قام الصديق وجنوده الكرام بمناصرة المسلمين وخرج بنفسه يقاتل المرتدين، وسير إحدى عشرة لواء، لرفع الظلم عن المؤمنين، وكسر شوكة المرتدين ولم يقبل من المرتدين الذين عذبوا المستضعفين من مواطنيهم المسلمين إلا أن يأخذ بحقهم منهم فيفعل بهم كما فعلوا بهم وكذلك فعل قادة جيوشه، وكان - رضي الله عنه - حريصاً على مراعاة أحوال الرعية في المجتمع فقد مر بنا كيف كان يعامل الجواري، والعجائز، وكبار السن - رضي الله عنه - لقد سادت هذه الصفات في عصر الصديق وتجسدت في حياة الناس.
جـ-{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}:
وقد ظهرت صفة المجاهدة لأعداء الله في عصر الصديق في حربهم للمرتدين وكسرهم لشوكتهم ومن بعد في الفتوحات الإسلامية التي سيأتي تفصيلها بإذن الله تعالى، لقد جاهد الصحابة أعدائهم من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وتحقيق عبادة الله وحده، وإقامة حكم الله ونظام الإسلام في الأرض، ودفع عدوان المرتدين، ومنع الظلم بين الناس، وبالجهاد في سبيل الله تحقق إعزاز المسلمين وإذلال المرتدين، ورجع الناس إلى دين الله، واستطاعت القيادة الإسلامية بزعامة الصديق - رضي الله عنه - أن تجعل من الجزيرة العربية قاعدة للانطلاق لفتح العالم أجمع، وأصبحت الجزيرة هي النبع الصافي الذي يتدفق منه الإسلام ليصل إلى أصقاع الأرض بواسطة رجال عركتهم الحياة، وأصبحوا من أهل الخبرات المتعددة في مجالات التربية والتعليم والجهاد وإقامة شرع الله الشامل لإسعاد بني الإنسان حيثما كان(2).
__________
(1) تفسير القاسمي (6/255).
(2) فقه التمكين في القرآن الكريم، ص491.
لقد كان الجهاد الذي خاضه الصحابة في حروب الردة إعداداً ربانياً للفتوحات الإسلامية حيث تميزت الرايات وظهرت القدرات، وتفجرت الطاقات، واكتشفت قيادات ميدانية وتقنن القادة، في الأساليب والخطط الحربية، وبرزت مؤهلات الجندية الصادقة المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل، وتقدم كل شيء وهي تعلم من أجل ماذا تضحي وتبذل، ولذا كان الأداء فائقاً والتفاني عظيماً(1).
لقد توحدت شبه الجزيرة العربية بفضل الله ثم جهاد الصحابة مع الصديق
-تحت راية الإسلام لأول مرة في تاريخها بزوال الرؤوس أو انتظامها ضمن المد الإسلامي، وبسطت عاصمة الإسلام -المدينة- هيمنتها على ربوع الجزيرة وأصبحت الأمة تسير وراء زعيم واحد بمبدأ واحد، بفكرة واحدة، فكان الانتصار انتصاراً للدعوة الإسلامية ولوحدة الأمة بتضامنها وتغلبها على عوامل التفكك والعصبية كما كانت برهاناً على أن الدولة الإسلامية بقيادة الصديق قادرة على التغلب على أعنف الأزمات(2).
وهكذا كان الصحابة يجاهدون في سبيل الله ولايخافون لوم أحد واعتراضه ونقده، لصلابتهم في دينهم، ولأنهم يعملون لإحقاق الحق وإبطال الباطل(3).
د-{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}:
الإشارة إلى ماذكر من حب الله إياهم، وحبهم لله، وذلتهم للمؤمنين، وعزتهم على الكافرين، وجهادهم في سبيل الله، وعدم مبالاتهم للوم اللوّام، فالمذكور كله فضل الله الذي فضل به أولياء، يؤتيه من يشاء أي: ممن يريد به مزيد إكرام من سعة جوده، والله واسع: كثير الفواضل جل جلاله(4)، عليم بمن هو أهلها، فهو تعالى واسع الفضل، عليم بمن يستحق ذلك، ممن يحرم منه(5).
ثانياً: وصف المجتمع في عصر الصديق:
__________
(1) تاريخ صدر الاسلام للشجاع، ص142،143.
(2) تاريخ الدعوة الاسلامية، د.جميل المصري، ص256.
(3) تفسير المنير (6/233).
(4) تفسير القاسمي (6/258).
(5) تفسير المنير (6/233).
================
إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى في سورة الحج ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ {41} (
إن الله يبدأ الإذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون ، واعتدى عليهم المبطلون ، بأن الله يدافع عن الذين آمنوا ، وأنه يكره المعتدين عليهم من الكفار الخائنين:
إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور . .
فقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم . ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتما من عدوه ، ظاهر حتما على عدوه . .
ففيم إذن يأذن لهم بالقتال ؟ وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد ؟ وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح ، والجهد والمشقة ، والتضحية والآلام . .
والعاقبة معروفة ، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة ، ولا تضحية ولا ألم ، ولا قتل ولا قتال ؟(1/25)
والجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا ، وأن لله الحجة البالغة . . والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من "التنابلة " الكسالى ، الذين يجلسون في استرخاء ، ثم يتنزل عليهم نصره سهلا هينا بلا عناء ، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء ، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء !
نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة ، وأن يرتلوا القرآن ، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء . ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها ؛ إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة . والذخيرة التي يدخرونها للموقعة ، والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله
لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة . فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر ؛ وهي تدفع وتدافع ، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة . .
عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدي دورها ؛ ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة ؛ ولتؤتي أقصى ما تملكه ، وتبذل آخر ما تنطوي عليه ؛ وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال .
والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها ، واحتشاد كل قواها ، وتوفز كل استعدادها ، وتجمع كل طاقاتها ، كي يتم نموها ، ويكمل نضجها ، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها .
والنصر السريع الذي لا يكلف عناء ، والذي يتنزل هينا لينا على القاعدين المستريحين ، يعطل تلك الطاقات عن الظهور ، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها .
وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه . أولا لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة . وثانيا لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تحشد طاقاتهم وتشحد لكسبه . فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه .
وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة ، والكر والفر ، والقوة والضعف والتقدم والتقهقر . ومن المشاعر المصاحبة لها . . من الأمل والألم . ومن الفرح والغم ، ومن الاطمئنان والقلق . ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة . .
ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجاهات في ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة ، وتدبير الأمور في جميع الحالات . .
وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة وتقوم عليها وعلى الناس .
من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله . . جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم ؛ ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء .
والنصر قد يبطئ على الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا:ربنا الله . فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله .
قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها ، ولم يتم بعد تمامها ، ولم تحشد بعد طاقاتها ، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات . فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكا لعدم قدرتها على حمايته طويلا !
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة ، وآخر ما تملكه من رصيد ، فلا تستبقي عزيزا ولا غالبا ، لا تبذله هينا رخيصا في سبيل الله .
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها ، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر . إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله .
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهي تعاني وتتألم وتبذل ؛ ولا تجد لها سندا إلا الله ، ولا متوجها إلا إليه وحده في الضراء . وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله . فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله .
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه ، أو تقاتل حمية لذاتها ، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله ، بريئا من المشاعر الأخرى التي تلابسه . وقد سئل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى . فأيها في سبيل الله . فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .
كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير ، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصا ، ويذهب وحده هالكا ، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار !(1/26)
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماما . فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه ، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله ؛ فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة . فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريا للناس ، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية !
وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار . فيظل الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستبقائه !
من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله ، قد يبطئ النصر ، فتتضاعف التضحيات ، وتتضاعف الآلام . مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية .
وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه ، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه:
ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ؛ ولله عاقبة الأمور . .
فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره . . فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله ، فيستحقون نصر الله ، القوي العزيز الذي لا يهزم من يتولاه ؟ إنهم هؤلاء:
الذين إن مكناهم في الأرض . .
فحققنا لهم النصر ، وثبتنا لهم الأمر . . أقاموا الصلاة . .
فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به ، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين . . وآتوا الزكاة . . فأدوا حق المال ، وانتصروا على شح النفس ، وتطهروا من الحرص ، وغلبوا وسوسة الشيطان ، وسدوا خلة الجماعة ، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج ، وحققوا لها صفة الجسم الحي - كما قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى . .
وأمروا بالمعروف . .
فدعوا إلى الخير والصلاح ، ودفعوا إليه الناس . .
ونهوا عن المنكر . . فقاوموا الشر والفساد ، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر وهي قادرة على تغييره ، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه . .
هؤلاء هم الذين ينصرون الله ، إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة ، معتزين بالله وحده دون سواه . وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين .
فهو النصر القائم على أسبابه ومقتضياته . المشروط بتكاليفه وأعبائه . .
والأمر بعد ذلك لله ، يصرفه كيف يشاء ، فيبدل الهزيمة نصرا ، والنصر هزيمة ، عندما تختل القوائم ، أو تهمل التكاليف: ولله عاقبة الأمور . .
إنه النصر الذي يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة . من انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة إلى الخير والصلاح . المنظور فيه إلى هذه الغاية التي يتوارى في ظلها الأشخاص والذوات ، والمطامع والشهوات . .
وهو نصر له سببه . وله ثمنه . وله تكاليفه . وله شروطه . فلا يعطى لأحد جزافا أو محاباة ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه . .
===============
الاعتصام بحبل الله وعدم الفرقة :
قال تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {102} وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {103} وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {104} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105} آل عمران ((1/27)
وبعد هذا التحذير من التلقي عن أهل الكتاب وطاعتهم واتباعهم ينادي الله الجماعة المسلمة ويوجهها إلى القاعدتين الأساسيتين اللتين تقوم عليهما حياتها ومنهجها واللتين لا بد منهما لكي تستطيع أن تضطلع بالأمانة الضخمة التي ناطها الله بها وأخرجها للوجود من أجلها هاتان القاعدتان المتلازمتان هما الإيمان والأخوة الإيمان بالله وتقواه ومراقبته في كل لحظة من لحظات الحياة والأخوة في الله تلك التي تجعل من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية وفي التاريخ الإنساني دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحياة على أساس المعروف وتطهيرها من لوثة المنكر يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون(1/28)
أنهما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة ولم يكن هنالك دور لها تؤديه ركيزة الإيمان والتقوى أولا التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته اتقوا الله كما يحق له أن يتقى وهي هكذا بدون تحديد تدع القلب مجتهدا في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق وجدت له أشواق وكلما اقترب بتقواه من الله تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ وإلى مرتبة وراء ما ارتقى وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه فمن أراد ألا يموت إلا مسلما فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلما وأن يكون في كل لحظة مسلما وذكر الإسلام بعد التقوى يشي بمعناه الواسع الاستسلام لله طاعة له واتباعا لمنهجه واحتكاما إلى كتابه وهو المعنى الذي تقرره السورة كلها في كل موضع منها على نحو ما أسلفنا هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها إذ أنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمع تجمعا جاهليا ولا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه أمة إنما تكون هناك مناهج جاهلية ولا تكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية إنما تكون القيادة للجاهلية فأما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة الأخوة في الله على منهج الله لتحقيق منهج الله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام من الركيزة الأولى أساسها الاعتصام بحبل الله أي عهده ونهجه ودينه وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر ولا على أي هدف آخر ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة واعتمصوا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائما وهو هنا يذكرهم هذه النعمة يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية أعداء وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد وهما الحيان العربيان في يثرب يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعا ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه ولا تعيش إلا معه فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخوانا وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية والثارات القبلية والأطماع الشخصية والرايات العنصرية ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم ينعمته إخوانا ويذكرهم كذلك نعمته عليهم في إنقاذهم من النار التي كانوا على وشك أن يقعوا فيها إنقاذهم من النار بهدايتهم إلى الاعتصام بحبل الله الركيزة الأولى وبالتأليف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمة الله إخوانا الركيزة الثانية وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط القلب فلا يقول فألف بينكم إنما ينفذ إلى المكمن العميق فألف بين قلوبكم فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه بل مشهدا حيا متحركا تتحرك معه القلوب وكنتم على شفا حفرة من النار وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة إذا بالقلوب ترى يد الله وهي تدرك وتنقذ وحبل الله وهو يمتد ويعصم وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال وقد ذكر محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج وذلك أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب ففعل فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض وتثاوروا ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم وتوعدوا إلى الحرة فبلغ ذلك النبي ص فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول < أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم > وتلا عليهم هذه الآية فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم وكذلك بين الله لهم فاهتدوا وحق فيهم قول الله سبحانه في التعقيب في الآية كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون فهذه صورة من جهد يهود لتقطيع حبل الله بين المتحابين فيه القائمين على منهجه(1/29)
لقيادة البشرية في طريقه هذه صورة من ذلك الكيد الذي تكيده يهود دائما للجماعة المسلمة كلما تجمعت على منهج الله واعتصمت بحبله وهذه ثمرة من ثمار طاعة أهل الكتاب كادت ترد المسلمين الأولين كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض وتقطع بينهم حبل الله المتين الذي يتآخون فيه مجتمعين وهذه صلة هذه الآية بالآيات قبلها في هذا السياق على أن مدلول الآية أوسع مدى من هذه الحادثة فهي تشي مع ما قبلها في السياق وما بعدها بأنه كانت هناك حركة دائبة من اليهود لتمزيق شمل الصف المسلم في المدينة وإثارة الفتنة والفرقة بكل الوسائل والتحذيرات القرآنية المتوالية من إطاعة أهل الكتاب ومن الاستماع إلى كيدهم ودسهم ومن التفرق كما تفرقوا هذه التحذيرات تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من كيد اليهود في المدينة ومن بذرهم لبذور الشقاق والشك والبلبلة باستمرار وهو دأب يهود في كل زمان وهو عملها اليوم وغدا في الصف المسلم في كل مكان .(1/30)
فأما وظيفة الجماعة المسلمة التي تقوم على هاتين الركيزتين لكي تنهض بها هذه الوظيفة الضرورية لإقامة منهج الله في الأرض ولتغليب الحق على الباطل والمعروف على المنكر والخير على الشر هذه الوظيفة التي من أجلها أنشئت الجماعة المسلمة بيد الله وعلى عينه ووفق منهجه فهي التي تقررها الآية التالية ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته فهناك دعوة إلى الخير ولكن هناك كذلك أمر بالمعروف وهناك نهي عن المنكر وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان فإن الأمر والنهي لا يقوم بهما إلا ذو سلطان هذا هو تصور الإسلام للمسألة إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر وتحقيق هذا المنهج يقتضي دعوة إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج ويقتضي سلطة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فتطاع والله يقول وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان فهذا شطر أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرىء برأيه وبتصوره زاعما أن هذا هو الخير والمعروف والصواب والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ثم تكليف ليس بالهين ولا باليسير إذا نظرنا إلى طبيعته وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم ومصالح بعضهم ومنافعهم وغرور بعضهم وكبريائهم وفيهم الجبار الغاشم وفيهم الحاكم المتسلط وفيهم الهابط الذي يكره الصعود وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد وفيهم المنحل الذي يكره الجد وفيهم الظالم الذي يكره العدل وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة وفيهم وفيهم ممن ينكرون المعروف ويعرفون المنكر ولا تفلح الأمة ولا تفلح البشرية إلا أن يسود الخير وإلا أن يكون المعروف معروفا والمنكر منكرا وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى وتطاع ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين الركيزتين الإيمان بالله والأخوة في الله لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى ثم بقوة الحب والألفة وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة وكلفها به هذا التكليف وجعل القيام به شريطة الفلاح فقال عن الذين ينهضون به وأولئك هم المفلحون إن قيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي ذاته فهذه الجماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية هو الوسط الخير المتكافل المتعاون على دعوة الخير المعروف فيه هو الخير والفضيلة والحق والعدل والمنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم عمل الخير فيه أيسر من عمل الشر والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة والحق فيه أقوى من الباطل والعدل فيه أنفع من الظلم فاعل الخير فيه يجد على الخير أعوانا وصانع الشر فيه يجد مقاومة وخذلانا ومن هنا قيمة هذا التجمع إنه البيئة التي ينمو فيها الخير والحق بلا كبير جهد لأن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه والتي لا ينمو فيها الشر والباطل إلا بعسر ومشقة لأن كل ما حوله يعارضه ويقاومه والتصور الإسلامي عن الوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص يختلف في هذا كله عن التصورات الجاهلية اختلافا جوهريا أصيلا فلا بد إذن من وسط خاص يعيش فيه هذا التصور بكل قيمه الخاصة لا بد له من وسط غير الوسط الجاهلي ومن بيئة غير البيئة الجاهلية هذا الوسط الخاص يعيش بالتصور الإسلامي ويعيش له ; فيحيا فيه هذا التصور ويتنفس أنفاسه الطبيعية في طلاقة وحرية وينمو نموه الذاتي بلا عوائق من داخله تؤخر هذا النمو أو تقاومه وحين توجد هذه العوائق تقابلها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحين توجد القوة الغاشمة التي تصد عن سبيل الله تجد من يدافعها دون منهج الله في الحياة هذا الوسط يتمثل في الجماعة المسلمة القائمة على ركيزتي الإيمان والأخوة الإيمان بالله كي يتوحد تصورها للوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص وترجع إلى ميزان واحد تقوم به كل ما يعرض لها في الحياة وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله وتتجه بولائها كله إلى القيادة القائمة على تحقيق منهج الله في الأرض والأخوة في الله كي يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة وتتضاعف بهما مشاعر الإيثار الإيثار المنطلق(1/31)
في يسر المندفع في حرارة المطمئن الواثق المرتاح وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى في المدينة على هاتين الركيزتين على الإيمان بالله ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله سبحانه وتمثل صفاه في الضمائر ; وتقواه ومراقبته واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال وعلى الحب الحب الفياض الرائق والود الود العذب الجميل والتكافل التكافل الجاد العميق وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغا لولا أنه وقع لعد من أحلام الحالمين وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة وهي قصة وقعت في هذه الأرض ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان وعلى مثل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان
***********************
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
سنذكر لك أخي الكريم شيئاً مما يوضح أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الكتاب والسنة ، حتى تدرك أهمية هذه الشعيرة وضرورة القيام بها، وأنها شعيرة لا يمكن الاستغناء عنها أو استبدال غيرها بها:
أولاً : أنه وسيلة للمحافظة على الضرورات الخمس (الدين ، النفس ، العقل ، النسل ، المال ) والتي لابد منها في مصالح الدين والدنيا ، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ، بل على فساد وتهارج وفوت حياة،وفي الآخرة: فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين .[ انظر : الموافقات (2/8) ].
ثانياً : أنه وسيلة للنجاة من العذاب الدنيوي والأخروي الذي توعد الله به من قعد عنه وأهمله قال تعالى : (( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ *وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ )) (هود117,116).
يقول صاحب الظلال : ( وبهذا تعلم أن دعاة الإصلاح المناهضون للطغيان والظلم والفساد هم صمام الأمان للأمم والشعوب ، وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين للخير والصلاح الواقفين للظلم والفساد ، إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب ، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله واستحقاق النكال والضياع ) [1]
ويقول الله تعالى : ((فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ )) (الأعراف:165) .
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه فتدعونه فلا يستجب لكم)) [2]
وعن زينب رضي الله عنها قالت: يا رسول الله أنهلك فينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث [3] .
ثالثاً : إقامة الملة والشريعة وحفظ الدين لتكون كلمة الله هي العليا .
قال تعالى : ((وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ )) (البقرة:251).
وقال : ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً )) (الحج:40) .
رابعاً : أنه باب من أبواب الصدقات :
روى الترمذي عن أبي ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة)) .
خامساً : أنه سبب للنصر والتمكين :
قال تعالى : ((وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)) (الحج:40-41) .
فمن نصر دين الله وجاهد أعدائه وأقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد نصر الله وبذلك يستحق النصر من عند الله القوي العزيز، فإذا انتصر فإن الله شرط عليه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليستمر نصرهم لدين الله فيستمر نصر الله لهم، قال الضحاك : ((هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الله الملك )) .
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم ، فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله ، وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر . )) .
فقد وعد رسول الله أصحابه بالنصر والفتح واشترط على مَن يدرك النصر أن يتقي الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويستمر هذا الوعد على مرِّ العصور .
سادساً : أنه علامة فارقة بين المؤمنين والمنافقين
كما قال سبحانه : (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر )) (التوبة: من الآية71) .
وقال عن المنافقين : ((الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوف)) (التوبة: من الآية67) .
فقد وصف سبحانه المؤمنين بهذه الصفة ووصف المنافقين بضدها ، قال القرطبي : ((فجعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين ، فدلَّ على أن أخص أوصاف المؤمن : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه)) [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/47) ].
سابعاً : أنه سبب الخيرية لهذه الأمة :
قال تعالى : ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )) (آل عمران: من الآية110).
ثامناً : أنه من أسباب الرحمة :
قال تعالى:((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) (التوبة:71) .
تاسعاً : أداء الفرض وسقوط التبعة :
ومما يدل لذلك رواية النسائي (5009) لحديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ ولفظها : ((من رأى منكراً فيغيره بيده فقد برئ , ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيرها بلسانه فقد برئ , ومن لم يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ , وذلك أضعف الإيمان)) .
عاشراً : أنه باب من أبواب الجهاد في سبيل الله تعالى
روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)) والجهاد ذِرْوة سَنام الإسلام .
الحادي عشر : أنه من أحب الأعمال إلى الله :
عن رجل من خثعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( أحب الأعمال إلى الله : إيمان بالله ثم صلة الرحم , ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وأبغض الأعمال إلى الله الإشراك بالله وقطيعة الرحم)) . رواه أبو يعلى .
الثاني عشر : أن القائمين به هم أهل الفلاح :
قال تبارك وتعالى : ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) (آل عمران:104).
الثالث عشر : أن القيام به سبب لمضاعفة الأجر :
قال صلى الله عليه وسلم : ((إن من أمتي قوماً يعطون مثل أجور أولهم ينكرون المنكر)) رواه أحمد ( 22670 ) وحسنه الألباني في صحيح الجامع.
الرابع عشر : تكفير السيئات:
فعن حذيفة رضي الله عنه قال : ((كنا عند عمر فقال : أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة كما قال ؟ قال : فقلت : أنا , قال : إنك لجريء , وكيف قال ؟ قال : قلت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : فقال عمر : ليس هذا أريد . إنما أريد التي تموج كموج البحر )) .
الخامس عشر : حصول الأجر العظيم :
قال تعالى : ((لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً )) (النساء:114) .
فقد نكر هذا الأجر , ووصف بأنه عظيم وكفى بهذين دلالة على عظمه.
_________________
[1] الظلال (12/79) .
[2] رواه الترمذي وقال حديث حسن .
[3] أخرجه : البخاري ورقمه (2598) .
----------------
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
وفي أول مقتضيات هذا المكان ، أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد . . وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فهي خير أمة أخرجت للناس . لا عن مجاملة أو محاباة ، ولا عن مصادفة أو جزاف - تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه . .
كلا ! إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر ، وإقامتها على المعروف ، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر:
تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . .
فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة ، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب ، وبكل ما في طريقها من أشواك . .
إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد . .
وكل هذا متعب شاق ، ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته ؛ ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة . .
ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم ، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر . فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي . فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل . ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر ، وللفضيلة والرذيلة ، وللمعروف والمنكر . يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال .
وهذا ما يحققه الإيمان ، بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه . وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون . .
ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية . ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد . ومن سلطان الله في الضمائر ، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك .
ثم لا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير ، الآمرون بالمعروف ، الناهون عن المنكر ، أن يمضوا في هذا الطريق الشاق ، ويحتملوا تكاليفه . وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته ، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها ، ويواجهون هبوط الأرواح ، وكلل العزائم ، وثقلة المطامع . .
وزادهم هو الإيمان ، وعدتهم هي الإيمان . وسندهم هو الله . .
وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد . وكل عدة سوى عدة الإيمان تفل ، وكل سند غير سند الله ينهار !
وقد سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن ينتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها . ليدلها على أنها لا توجد وجودا حقيقيا إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية ، التي تعرف بها في المجتمع الإنساني . فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مع الإيمان بالله - فهي موجودة وهي مسلمة . وأما أن لا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة ، وغير متحققة فيها صفة الإسلام .
وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة تقرر هذه الحقيقة ، ندعها لمواضعها . وفي السنة كذلك طائفة صالحة من أوامر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وتوجيهاته نقتطف بعضها:
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم ، فلم ينتهوا ، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى بن مريم . .
ثم جلس - وكان متكئا - فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا أي تعطفوهم وتردوهم .
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم .(1/32)
وعن عرس ابن عميرة الكندي - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر . .
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : سيد الشهداء حمزة . ورجل قام إلى سلطان جائر ، فأمره ونهاه ، فقتله . .
وغيرها كثير . .
وكلها تقرر أصالة هذه السمة في المجتمع المسلم ، وضروراتها لهذا المجتمع أيضا . وهي تحتوي مادة توجيه وتربية منهجية ضخمة . وهي إلى جانب النصوص القرآنية زاد نحن غافلون عن قيمته وعن حقيقته .
===============
الصبر والمصابرة والتقوى
قال تعالى في سورة آل عمران ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {200} (
وفي الظلال :
إنه النداء العلوي للذين آمنوا . نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء . والتي تلقي عليهم هذه الأعباء . والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء ، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء:
يا أيها الذين آمنوا .
النداء لهم . للصبر والمصابرة ، والمرابطة ، والتقوى . .
وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى . .
يذكر إن مفردين ، ويذكر إن مجتمعين . .
وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة ، ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة ، وإلى المرابطة والتقوى ، فيكون هذا أنسب ختام .
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة . إنه طريق طويل شاق ، حافل بالعقبات والأشواك ، مفروش بالدماء والأشلاء ، وبالإيذاء والابتلاء . . الصبر على أشياء كثيرة:
الصبر على شهوات النفس ورغائبها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من قريب !
والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم ، وانحراف طباعهم ، وأثرتهم ، وغرورهم ، والتوائهم ، واستعجالهم للثمار !
والصبر على تنفج الباطل ، ووقاحة الطغيان ، وانتفاش الشر ، وغلبة الشهوة ، وتصعير الغرور والخيلاء !
والصبر على قلة الناصر ، وضعف المعين ، وطول الطريق ، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق !
والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله ، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من الألم والغيظ ، والحنق ، والضيق ، وضعف الثقة أحيانا في الخير ، وقلة الرجاء أحيانا في الفطرة البشرية ؛ والملل والسأم واليأس أحيانا والقنوط !
والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة ، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر ، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام ، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء !
والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله ، واستسلام لقدره ، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع . .
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل . .
لا تصوره حقيقة الكلمات . فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة . إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق ؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات !
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء . كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه . .
والمصابرة . .
وهي مفاعلة من الصبر . .
مصابرة هذه المشاعر كلها ، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين . .
مصابرتها ومصابرتهم ، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة . بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى
:أعدائهم من كوامن الصدور ، وأعدائهم من شرار الناس سواء . فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم ، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر ، والدفع بالدفع ، والجهد بالجهد ، والإصرار بالإصرار . .
ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء . وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق ، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارا وأعظم صبرا على المضي في الطريق !
والمرابطة . .
الإقامة في مواقع الجهاد ، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء . .
وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدا ، ولا تستسلم للرقاد ! فما هادنها أعداؤها قط ، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة ، والتعرض بها للناس . وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد ، حيثما كانت إلى آخر الزمان !(1/33)
إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي . منهج يتحكم في ضمائرهم ، كما يتحكم في أموالهم ، كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم . منهج خير عادل مستقيم . ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم ؛ والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة ؛ والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة . .
ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان . ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال . وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار . وينهد لحربها المستهترون المنحلون ، لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات . .
ولا بد من مجاهدتهم جميعا . ولا بد من الصبر والمصابرة . ولا بد من المرابطة والحراسة . كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين ، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل . .
هذه طبيعة هذه الدعوة ، وهذا طريقها . .
إنها لا تريد أن تعتدي ؛ ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم . .
وهي واجدة أبدا من يكره ذلك المنهج وهذا النظام . ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد . ومن يتربص بها الدوائر . ومن يحاربها باليد والقلب واللسان . . ولا بد لها أن تقبل المعركة بكل تكاليفها ، ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام !!
والتقوى . .
التقوى تصاحب هذا كله . فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل ؛ ويحرسه أن يضعف ؛ ويحرسه أن يعتدي ؛ ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك
ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ ، إلا من يعاني مشاق هذا الطريق ؛ ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات . .
إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات . وهو جماعها كلها ، وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها . .
ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار:
لعلكم تفلحون . وصدق الله العظيم . .
================
يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين
قال تعالى في سورة المائدة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {54} إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ {56} (
إن تهديد من يرتد عن دينه من الذين آمنوا - على هذه الصورة . وفي هذا المقام - ينصرف - ابتداء - إلى الربط بين موالاة اليهود والنصارى وبين الارتداد عن الإسلام . وبخاصة بعد ما سبق من اعتبار من يتولاهم واحدًا منهم ، منسلخا من الجماعة المسلمة منضما إليهم: ومن يتولهم منكم فإنه منهم . . وعلى هذا الاعتبار يكون هذا النداء الثاني في السياق توكيدا وتقريرا للنداء الأول . .
يدل على هذا كذلك النداء الثالث الذي يلي هذا النداء والسياق ، وهو منصب على النهي عن موالاة أهل الكتاب والكفار ، يجمع بينهم على هذا النحو ، الذي يفيد أن موالاتهم كموالاة الكفار سواء ، وأن تفرقة الإسلام في المعاملة بين أهل الكتاب والكفار ، لا تتعلق بقضية الولاء ، إنما هي في شئون أخرى لا يدخل فيها الولاء . .
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ، فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم . .
إن اختيار الله للعصبة المؤمنة ، لتكون أداة القدر الإلهي في إقرار دين الله في الأرض ، وتمكين سلطانه في حياة البشر ، وتحكيم منهجه في أوضاعهم وأنظمتهم ، وتنفيذ شريعته في أقضيتهم وأحوالهم ، وتحقيق الصلاح والخير والطهارة والنماء في الأرض بذلك المنهج وبهذه الشريعة . .
إن هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومنته . فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة . .
فهو وذاك ، والله غنى عنه - وعن العالمين . والله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم .
والصورة التي يرسمها للعصبة المختارة هنا ، صورة واضحة السمات قوية الملامح ، وضيئة جذابة حبيبة للقلوب:
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه . .
فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم . .
الحب . .
هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش . .
هو الذي يربط القوم بربهم الودود .(1/34)
وحب الله لعبد من عبيده ، أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله - سبحانه - بصفاته كما وصف نفسه ، وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها . .
أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي . . الذي يعرف من هو الله . .
من هو صانع هذا الكون الهائل ، وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير !
من هو في عظمته . ومن هو في قدرته . ومن هو في تفرده . ومن هو في ملكوته . .
من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب . .
والعبد من صنع يديه - سبحانه - وهو الجليل العظيم ، الحي الدائم ، الأزلى الأبدي ، الأول والآخر والظاهر والباطن .
وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها . .
وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما ، وفضلا غامرا جزيلا ، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد ، الذي الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه . .
هو إنعام هائل عظيم . .
وفضل غامر جزيل .
وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا فوق التعبير أن يصفه ، فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين . . وهذا هو الباب الذي تفوق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين - وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل - ولا زالت أبيات رابعة العدوية تنقل إلى حسي مذاقها الصادق لهذا الحب الفريد ، وهي تقول:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد ، والحب من العبد للمنعم المتفضل ، يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض ، وينطبع في كل حي وفي كل شيء ، فإذا هو جو وظل يغمران هذا الوجود ، ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلا في ذلك العبد المحب المحبوب . .
والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب . . وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة . .
إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا . .
إن ربي رحيم ودود . .
وهو الغفور الودود . .
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان . .
والذين آمنوا أشد حبا لله . .
قل:إن كنم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله . .
وغيرها كثير . .
وعجبا لقوم يمرون على هذا كله ، ليقولوا:
إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف ، يصور العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر ، وعذاب وعقاب ، وجفوة وانقطاع . . .
لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن الله وأقنوم الإله ، فيربط بين الله والناس ، في هذا الازدواج !
إن نصاعة التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، لا تجفف ذلك الندى الحبيب ، بين الله والعبيد ، فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل ، وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد ، وهي علاقة الحب كما أنها علاقة التنزية . .
إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين .
وهنا - في صفة العصبة المؤمنة المختارة لهذا الدين - يرد ذلك النص العجيب: يحبهم ويحبونه ويطلق شحنته كلها في هذا الجو ، الذي يحتاج إليه القلب المؤمن ، وهو يضطلع بهذا العبء الشاق . شاعرا أنه الاختيار والتفضل والقربى من المنعم الجليل . .
ثم يمضي السياق يعرض بقية السمات:
أذلة على المؤمنين . .
وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين . .
فالمؤمن ذلول للمؤمن . .
غير عصي عليه ولا صعب . هين لين . .
ميسر مستجيب . .
سمح ودود . .
وهذه هي الذلة للمؤمنين .
وما في الذلة للمؤمنين من مذلة ولا مهانة . إنما هي الأخوة ، ترفع الحواجز ، وتزيل التكلف وتخلط النفس بالنفس ، فلا يبقى فيها ما يستعصي وما يحتجز دون الآخرين .
إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيزة هي التي تجعله شموسا عصيا شحيحا على أخيه . فأما حين يخلط نفسه بنفوس العصبة المؤمنة معه ، فلن يجد فيها ما يمنعه وما يستعصي به . .
وماذا يبقى له في نفسه دونهم ، وقد اجتمعوا في الله إخوانا ؛ يحبهم ويحبونه ، ويشيع هذا الحب العلوي بينهم ويتقاسمونه ؟!
أعزة على الكافرين . .
فيهم على الكافرين شماس وإباء واستعلاء . . ولهذه الخصائص هنا موضع . . إنها ليست العزة للذات ، ولا الاستعلاء للنفس . إنما هي العزة للعقيدة ، والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين . إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير ، وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين !
ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى ؛ وبغلبة قوة الله على تلك القوى ؛ وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية . .(1/35)
فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك ، في أثناء الطريق الطويل . .
يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . .
فالجهاد في سبيل الله ، لإقرار منهج الله في الأرض ، وإعلان سلطانه على البشر ، وتحكيم شريعته في الحياة ، لتحقيق الخير والصلاح والنماء للناس . .
هي صفة العصبة المؤمنة التي يختارها الله ليصنع بها في الأرض ما يريد . .
وهم يجاهدون في سبيل الله ؛ لا في سبيل أنفسهم ؛ ولا في سبيل قومهم ؛ ولا في سبيل وطنهم ؛ ولا في سبيل جنسهم . .
في سبيل الله . لتحقيق منهج الله ، وتقرير سلطانه ، وتنفيذ شريعته ، وتحقيق الخير للبشر عامة عن هذا الطريق . . وليس لهم في هذا الأمر شيء ، وليس لأنفسهم من هذا حظ ، إنما هو لله وفي سبيل الله بلا شريك . .
وهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . .
وفيم الخوف من لوم الناس ، وهم قد ضمنوا حب رب الناس ؟
وفيم الوقوف عند مألوف الناس ، وعرف الجيل ، ومتعارف الجاهلية ، وهم يتبعون سنة الله ، ويعرضون منهج الله للحياة ؟
إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس ؛ ومن يستمد عونه ومدده من عند الناس ؛ أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمه ليجعلها تسيطر على أهواء الناس وشهواتهم وقيمهم ؛ وأما من يستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته ، فما يبالي ما يقول الناس وما يفعلون . كائنا هؤلاء الناس ما كانوا ؛ وكائنا واقع هؤلاء الناس ما كان ، وكائنة "حضارة " هؤلاء الناس وعلمهم وثقافتهم ما تكون !
إننا نحسب حسابا لما يقول الناس ؛ ولما يفعل الناس ؛ ولما يملك الناس ؛ ولما يصطلح عليه الناس ؛ ولما يتخذه الناس في واقع حياتهم من قيم واعتبارات وموازين . .
لأننا نغفل أو نسهو عن الأصل الذي يجب أن نرجع إليه في الوزن والقياس والتقويم . .
إنه منهج الله وشريعته وحكمه . .
فهو وحده الحق وكل ما خالفة فهو باطل ؛ ولو كان عرف ملايين الملايين ، ولو أقرته الأجيال في عشرات القرون !
إنه ليست قيمة أي وضع ، أو أي عرف ، أو أي تقليد ، أو أية قيمة . . أنه موجود ؛ وأنه واقع ؛ وأن ملايين البشر يعتنقونه ، ويعيشون به ، ويتخذونه قاعدة حياتهم . .
فهذا ميزان لا يعترف به التصور الإسلامي . إنما قيمة أي وضع ، وأي عرف ، وأي تقليد ، وأية قيمة ، أن يكون لها أصل في منهج الله ، الذي منه - وحده - تستمد القيم والموازين . .
ومن هنا تجاهد العصبة المؤمنة في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم . . فهذه سمة المؤمنين المختارين . .
ثم إن ذلك الاختيار من الله ، وذلك الحب المتبادل بينه وبين المختارين ، وتلك السمات التي يجعلها طابعهم وعنوانهم ، وهذا الاطمئنان إلى الله في نفوسهم ، والسير على هداه في جهادهم . .
ذلك كله من فضل الله .
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . والله واسع عليم .
يعطي عن سعة ، ويعطي عن علم . .
وما أوسع هذا العطاء ؛ الذي يختار الله له من يشاء عن علم وعن تقدير .
ويحدد الله للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة الإيمان ؛ ويبين لهم من يتولون:
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . .
هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ؛ ولا يترك فرصة لتمييع الحركة الإسلامية أو تمييع التصور . .
ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك !
لأن المسألة في صميمها - كما قلنا - هي مسألة العقيدة . ومسألة الحركة بهذه العقيدة . وليكون الولاء لله خالصا ، والثقة به مطلقة ، وليكون الإسلام هو "الدين" . وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا ، ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة . ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها ؛ فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة . ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة ؛ لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة . .
ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان ، أو مجرد راية وشعار ، أو مجرد كلمة تقال باللسان ، أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة ، أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان !
فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا:
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، وهم راكعون . .
فمن صفتهم إقامة الصلاة - لا مجرد أداء الصلاة - وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا ، تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . .
والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم يقم الصلاة ؛ فلو أقامها لنهته كما يقول الله !
ومن صفتهم إيتاء الزكاة . .
أي أداء حق المال طاعة لله وقربى عن رضى نفس ورغبة . فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية ، إنما هي كذلك عبادة . أو هي عبادة مالية . وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي . الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة . وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف . .(1/36)
إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة [ مدنية ! ] أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة ، أو باسم الشعب ، أو باسم جهة أرضية ما . .
فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا ؛ وهو إيصال المال للمحتاجين . .
فأما الزكاة . .
فتعني اسمها ومدلولها . .
إنها قبل كل شيء طهارة ونماء . .
إنها زكاة للضمير بكونها عبادة لله . وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء ، بما أنها عبادة لله يرجو عليها فاعلها حسن الجزاء في الآخرة ، كما يرجو منها نماء المال في الحياة الدنيا بالبركة وبالنظام الاقتصادي المبارك . ثم بالشعور الطيب في نفوس الفقراء الآخذين أنفسهم ؛ إذ يشعرون أنها فضل الله عليهم إذ قررها لهم في أموال الأغنياء ؛ ولا يشعرون معها بالحقد والتشفي من إخوانهم الأغنياء [ مع تذكر أن الأغنياء في النظام الإسلامي لا يكسبون إلا من حلال ولا يجورون على حق أحد وهم يجمعون نصيبهم من المال ] . .
وفي النهاية تحقق هدف الضريبة المالية في هذا الجو الراضي الخير الطيب . .
جو الزكاة والطهارة والنماء . .
وأداء الزكاة سمة من سمات الذين آمنوا تقرر أنهم يتبعون شريعة الله في شئون الحياة ؛ فهي إقرار منهم بسلطان الله في أمرهم كله . . وهذا هو الإسلام . .
وهم راكعون . .
ذلك شأنهم ، كأنه الحالة الأصلية لهم . .
ومن ثم لم يقف عند قوله: يقيمون الصلاة . .
فهذه السمة الجديدة أعم وأشمل . إذ أنها ترسمهم للخاطر كأن هذا هو شأنهم الدائم . فأبرز سمة لهم هي هذه السمة ، وبها يعرفون . .
وما أعمق إيحاءات التعبيرات القرآنية في مثل هذه المناسبات !
والله يعد الذين آمنوا - في مقابل الثقة به ، والالتجاء إليه ، والولاء له وحده - ولرسوله وللمؤمنين بالتبعية . .
ومقابل المفاصلة الكاملة بينهم وبين جميع الصفوف إلا الصف الذي يتمحض لله . . يعدهم النصر والغلبة: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون . .
وقد جاء هذا الوعد بالغلب بعد بيان قاعدة الإيمان في ذاتها . .
وأنها هي الولاء لله ورسوله وللمؤمنين ؛ وبعد التحذير من الولاء لليهود والنصارى واعتباره خروجا من الصف المسلم إلى صف اليهود والنصارى ، وارتدادا عن الدين . .
وهنا لفتة قرآنية مطردة . . فالله - سبحانه - يريد من المسلم أن يسلم لمجرد أن الإسلام خير !
لا لأنه سيغلب ، أو سيمكن له في الأرض ؛ فهذه ثمرات تأتي في حينها ؛ وتأتي لتحقيق قدر الله في التمكين لهذا الدين ؛ لا لتكون هي بذاتها الإغراء على الدخول في هذا الدين . .
والغلب للمسلمين لا شيء منه لهم . لا شيء لذواتهم وأشخاصهم . وإنما هو قدر الله يجريه على أيديهم ، ويرزقهم إياه لحساب عقيدتهم لا لحسابهم !
فيكون لهم ثواب الجهد فيه ؛ وثواب النتائج التي تترتب عليه من التمكين لدين الله في الأرض ، وصلاح الأرض بهذا التمكين . . كذلك قد يعد الله المسلمين الغلب لتثبيت قلوبهم ؛ وإطلاقها من عوائق الواقع الحاضر أمامهم - وهي عوائق ساحقة في أحيان كثيرة - فإذا استيقنوا العاقبة قويت قلوبهم على اجتياز المحنة ؛ وتخطي العقبة ، والطمع في أن يتحقق على أيديهم وعد الله للأمة المسلمة ، فيكون لهم ثواب الجهاد ، وثواب التمكين لدين الله ، وثواب النتائج المترتبة على هذا التمكين .
كذلك يشي ورود هذا النص في هذا المجال ، بحالة الجماعة المسلمة يومذاك ، وحاجتها إلى هذه البشريات . بذكر هذه القاعدة من غلبة حزب الله . . مما يرجح ما ذهبنا إليه من تاريخ نزول هذا القطاع من السورة .
ثم تخلص لنا هذه القاعدة ؛ التي لا تتعلق بزمان ولا مكان . .
فنطمئن إليها بوصفها سنة من سنن الله التي لا تتخلف . وإن خسرت العصبة المؤمنة بعض المعارك والمواقف . فالسنة التي لا تنقض هي أن حزب الله هم الغالبون . .
ووعد الله القاطع أصدق من ظواهر الأمور في بعض مراحل الطريق !
وأن الولاء لله ورسوله والذين آمنوا هو الطريق المؤدي لتحقق وعد الله في نهاية الطريق !
----------------
علو الهمة في حب الله
إن المحبة هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها نظر العاملون، وإلى عَلَمِها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبُّون، وبروْح نسيهما ترّوح العابدون؛ فهي قُوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي مَن عدِمه حَلَّتْ بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام. إنها المحبة التي ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب.
وقد قضى الله يوم قدَّر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة، أن المرء مع من أحب، فيالها من نعمة على المحبين سابغة!!.
شجرة المحبة وارفة الظلال
إذا غُرست شجرة المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب، أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى.
لا يزال سعي المحب صاعدًا إلى حبيبه لا يحجُبُه دونه شيء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10].
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
وفي الصحيحين عن أنسٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين".
وفي الصحيحين أيضًا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله! والله لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يا عمر، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك". فقال: والله لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي. فقال صلى الله عليه وسلم:" الآن يا عمر".
ومعلوم أن محبة الرسول تابعة لمحبة الله عز وجل، فما الظن بمحبة الله عز وجل؟!
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10].
قال ابن عباس في هذه الآية: كانت المرأة إذا أتتِ النبي صلى الله عليه وسلم لتُسْلِم؛ حلّفها بالله ما خرجت من بغض زوج إلا حبًّا لله ورسوله.
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كُن فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله، كما يكره أن يُقذف في النار".
وعن معاذ - في حديث اختصام الملأ الأعلى – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة - يعني في المنام – فذكر الحديث. وقال في آخره: "قال: سل. قلتُ: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها حقٌّ فادرسوها، ثم تعلموها" [رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح].
ومن الأسباب الجالبة للمحبة المقوية لها:
(1) قراءة القرآن بالتدبر: لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف".
(2) التقرب إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض: كما في الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه".
(3) دوام ذكره سبحانه على كل حال: بالقلب واللسان، قال. قال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: من علامة المحبة لله: دوام الذكر بالقلب واللسان، وقلما ولع المرء بذكر الله عز وجل إلا أفاد منه حب الله عز وجل.
(4) إيثار محابه سبحانه على محاب النفس وهواها.
(5) مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ {قل هو الله أحد}؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك". فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله يحبه".
(6) مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة: قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53].
(7) الخلوة به سبحانه وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه ودعائه واستغفاره.
(8) مجالسة المحبين الصالحين الصادقين.
(9) مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
عيش المحبين هو العيش على الحقيقة
نعم فلا عيش إلا عيش المحبين الذين قرت أعنيهم بحبيبهم، وسكنت نفوسهم إليه، واطمأنت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه، وتنعموا بحبه، ففي القلب فاقة لا يسدُّها إلا محبة الله والإقبال عليه والإنابة إليه، ولا يلمُّ شعثه بغير ذلك أبدا. ومن لم يظفر بذلك فحياته كلها هموم وغموم، وآلام وحسرات، فإنه إن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات؛ فإن همته لا ترضى فيها بالدّون، وإن كان مهينًا خسيسًا فعيشه كعيش أخسِّ الحيوانات. فلا تقرُّ العيون إلا بمحبة الحبيب الأول.
ومن المحبين الصادقين
أبو بكر الصديق الذي سبق الأمة بحبه لله:
عن بكر المزني قال: ما فاق أبو بكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه.
قال إبراهيم: بلغني عن ابن علية أنه قال في عقيب هذا الحديث: الذي كان في قلبه الحبُّ لله عز وجل والنصيحة لخلقه.
ابن عمر يسأل الله حبَّه:
كان ابن عمر يدعو على الصفا والمروة وفي مناسكه: "اللهم اجعلني ممن يحبك،ويحب ملائكتك، ويحب رسلك،ويحب عبادك الصالحين.اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين".
حكيم بن حزام شعاره الحب:
كان رضي الله عنه يطوف بالبيت ويقول: لا إله إلا الله ، نعم الرب ونعم الإله ، أحبه وأخشاه.
من علامات صدق المحبة:
إن المحبة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح. وقد وصف الله تعالى المحبين بالعديد من الأوصاف، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. فوصفهم سبحانه بخمسة أوصاف:
(1) الذلة على المؤمنين ولين الجانب والتواضع والرحمة والرأفة للمؤمنين.
(2) العزة على الكافرين والبراءة منهم.
(3) الجهاد في سبيل الله ببذل النفس والمال لنصرة دين الله ورد الناس إليه.
(4) الاجتهاد في رضى الله وعدم المبالاة بلوم الناس:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخّرٌ عنه ولا مُتقدَّمُ
أجد الملامة في هواك لذيذة حبًّا لذكرك فليمني اللُّوَّمُ
(5) متابعة الرسول وطاعته.
ومن علاماتها: حب لقاء الله في دار السلام والنظر إلى وجهه.
قال ابن رجب: "هِمَمُ العارفين المحبين متعلقة من الآخرة برؤية الله، والنظر إلى وجهه في دار كرامته والقرب منه".
نسأل الله الكريم أن يرزقنا محبته، وأن ينعم علينا بالنظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم.وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
===============
لا يوادون من حاد الله ورسوله
قال تعالى في سورة المجادلة ( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ {20} كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ {21} لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {22} ((1/37)
إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين . كتب الله لأغلبن أنا ورسلي . إن الله قوي عزيز . .
وهذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لا بد أن يكون على الرغم مما قد يبدو أحيانا من الظاهر الذي يخالف هذا الوعد الصادق .
فالذي وقع بالفعل أن الإيمان والتوحيد قد غلبا على الكفر والشرك . واستقرت العقيدة في الله في هذه الأرض ؛ ودانت لها البشرية بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية ، وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد . وإذا كانت هناك فترات عاد فيها الإلحاد أو الشرك إلى الظهور في بعض بقاع الأرض - كما يقع الآن في الدول الملحدة والوثنية - فإن العقيدة في الله ظلت هي المسيطرة بصفة عامة . فضلا على أن فترات الإلحاد والوثنية إلى زوال مؤكد ، لأنها غير صالحة للبقاء . والبشرية تهتدي في كل يوم إلى أدلة جديدة تهدي إلى الاعتقاد في الله والتمكين لعقيدة الإيمان والتوحيد .
والمؤمن يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة . فإذا كان الواقع الصغير في جيل محدود أو في رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة ، فهذا الواقع هو الباطل الزائل . الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة . لعلها استجاشة الإيمان وإهاجته لتحقيق وعد الله في وقته المرسوم .
وحين ينظر الإنسان اليوم إلى الحرب الهائلة التي شنها أعداء الإيمان على أهل الإيمان في صورها المتنوعة ، من بطش ومن ضغط ومن كيد بكل صنوف الكيد في عهود متطاولة ، بلغ في بعضها من عنف الحملة على المؤمنين أن قتلوا وشردوا وعذبوا وقطعت أرزاقهم وسلطت عليهم جميع أنواع النكاية . ثم بقي الإيمان في قلوب المؤمنين ، يحميهم من الانهيار ، ويحمي شعوبهم كلها من ضياع شخصيتها وذوبانها في الأمم الهاجمة عليها ، ومن خضوعها للطغيان الغاشم إلا ريثما تنقض عليه وتحطمه . .
حين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع في المدى المتطاول يجد مصداق قول الله تعالى . يجده في هذا الواقع ذاته بدون حاجة إلى الانتظار الطويل !!
وعلى أية حال فلا يخالج المؤمن شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لا بد أن تظهر في الوجود ، وأن الذين يحادون الله ورسوله هم الأذلون ، وأن الله ورسله هم الغالبون . وأن هذا هو الكائن والذي لا بد أن يكون . ولتكن الظواهر غير هذا ما تكون !
وفي النهاية تجيء القاعدة الثابتة التي يقف عليها المؤمنون ، أو الميزان الدقيق للإيمان في النفوس: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون . .
إنها المفاضلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان ، والانحياز النهائي للصف المتميز ، والتجرد من كل عائق وكل جاذب ، والارتباط في العروة الواحدة بالحبل الواحد .
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . .
فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، وما يجمع إنسان في قلب واحد ودين:ودا لله ورسوله وودا لأعداء الله ورسوله !
فإما إيمان أو لا إيمان . أما هما معا فلا يجتمعان .
ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . .
فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان . إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين:لواء الله ولواء الشيطان . والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان . فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد . ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر . وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن . وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير . وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم . متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة . وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله .
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان . .
فهو مثبت في قلوبهم بيد الله مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن . فلا زوال له ولا اندثار ، ولا انطماس فيه ولا غموض !
وأيدهم بروح منه . .
وما يمكن أن يعزموا هذه العزمة إلا بروح من الله . وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق ، ويصلهم بمصدر القوة والإشراق .
ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . .
جزاء ما تجردوا في الأرض من كل رابطة وآصرة ؛ ونفضوا عن قلوبهم كل عرض من أعراضها الفانية .
رضي الله عنهم ورضوا عنه . .
وهذه صورة وضيئة راضية مطمئنة ، ترسم حالة المؤمنين هؤلاء ، في مقام عال رفيع . وفي جو راض وديع . .(1/38)
ربهم راض عنهم وهم راضون عن ربهم . انقطعوا عن كل شيء ووصلوا أنفسهم به ؛ فتقبلهم في كنفه ، وأفسح لهم في جنابه ، وأشعرهم برضاه . فرضوا . رضيت نفوسهم هذا القرب وأنست به واطمأنت إليه . .
أولئك حزب الله . .
فهم جماعته . المتجمعة تحت لوائه . المتحركة بقيادته . المهتدية بهديه . المحققة لمنهجه . الفاعلة في الأرض ما قدره وقضاه . فهي قدر من قدر الله .
ألا إن حزب الله هم المفلحون .
ومن يفلح إذن إذا لم يفلح أنصار الله المختارون ؟
وهكذا تنقسم البشرية إلى حزبين اثنين:حزب الله وحزب الشيطان . وإلى رايتين اثنتين:راية الحق وراية الباطل . فإما أن يكون الفرد من حزب الله فهو واقف تحت راية الحق ، وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل . .
وهما صفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان !!
لا نسب ولا صهر ، ولا أهل ولا قرابة ، ولا وطن ولا جنس ، ولا عصبية ولا قومية . .
أنما هي العقيدة ، والعقيدة وحدها . فمن انحاز إلى حزب الله ووقف تحت راية الحق فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في الله . تختلف ألوانهم وتختلف أوطانهم ، وتختلف عشائرهم وتختلف أسرهم ، ولكنهم يلتقون في الرابطة التي تؤلف حزب الله ، فتذوب الفوارق كلها تحت الراية الواحدة . ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت راية الباطل ، فلن تربطه بأحد من حزب الله رابطة . لا من أرض ، ولا من جنس ، ولا من وطن ولا من لون ، ولا من عشيرة ولا من نسب ولا من صهر . .
لقد أنبتت الوشيجة الأولى التي تقوم عليها هذه الوشائج فأنبتت هذه الوشائج جميعا . .
ومع إيحاء هذه الآية بأنه كان هناك في الجماعة المسلمة من تشده أواصر الدم والقرابة وجواذب المصلحة والصداقة ، مما تعالجه هذه الآية في النفوس ، وهي تضع ميزان الإيمان بهذا الحسم الجازم ، والمفاضلة القاطعة . .
إلا أنها في الوقت ذاته ترسم صورة لطائفة كانت قائمة كذلك في الجماعة المسلمة ، ممن تجردوا وخلصوا ووصلوا إلى ذلك المقام .
وهذه الصورة هي أنسب ختام للسورة التي بدأت بتصوير رعاية الله وعنايته بهذه الأمة في واقعة المرأة الفقيرة التي سمع الله لها وهي تجادل رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] في شأنها وشأن زوجها !
فالانقطاع لله الذي يرعى هذه الأمة مثل هذه الرعاية هو الاستجابة الطبيعية . والمفاضلة بين حزب الله وحزب الشيطان هي الأمر الذي لا ينبغي غيره للأمة التي اختارها الله للدور الكوني الذي كلفها إياه .
=================
الإيثار
قال تعالى في سورة الحشر ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9}
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات ، وبلغت إلى آفاق ، لولا أنها وقعت بالفعل ، لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق . .
والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم . .
أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم ، وتسكن إليه أرواحهم ، ويثوبون إليه ويطمئنون له ، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .
يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا . . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين !
ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا . .
مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع ، ومن مال يختصون به كهذا الفيء ، فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا . ولا يقول:حسدا ولا ضيقا . إنما يقول: شيئا . مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم ، فلا تجد شيئا أصلا .
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . .
والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .(1/39)
فهذا الشح . شح النفس . هو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه ، فقد وقي هذا المعوق عن الخير ، فانطلق إليه معطيا باذلا كريما . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .
والذين جاءوا من بعدهم ، يقولون:ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم . .
وهذه الصورة الثالثة النظيفة الرضية الواعية . وهي تبرز أهم ملامح التابعين . كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان .
هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار - ولم يكونوا قد جاءوا بعد عند نزول الآية في المدينة ، إنما كانوا قد جاءوا في علم الله وفي الحقيقة القائمة في هذا العلم المطلق من حدود الزمان والمكان - سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة ، لا لذاتها ولكن كذلك لسلفها الذين سبقوا بالإيمان ؛ وفي طلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا على وجه الإطلاق ، ممن يربطهم معهم رباط الإيمان . مع الشعور برأفة الله ، ورحمته ، ودعائه بهذه الرحمة ، وتلك الرأفة: ربنا إنك رؤوف رحيم . .
وتتجلى من وراء تلك النصوص طبيعة هذه الأمة المسلمة وصورتها الوضيئة في هذا الوجود . تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها ، وآخرها بأولها ، في تضامن وتكافل وتواد وتعاطف . وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب ؛ وتتفرد وحدها في القلوب ، تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة ، فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة ، كما يذكر أخاه الحي ، أو أشد ، في إعزاز وكرامة وحب . ويحسب السلف حساب الخلف . ويمضي الخلف على آثار السلف . صفا واحدا وكتيبة واحدة على مدار الزمان واختلاف الأوطان ، تحت راية الله تغذ السير صعدا إلى الأفق الكريم ، متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم .
إنها صورة باهرة ، تمثل حقيقة قائمة ؛ كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم . صورة تبدو كرامتها ووضاءتها على أتمها حين تقرن مثلا إلى صورة الحقد الذميم والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل كارل ماركس . صورة الحقد الذي ينغل في الصدور ، وينخر في الضمير ، على الطبقات ، وعلى أجيال البشرية السابقة ، وعلى أممها الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذميم . وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل دين !
صورتان لا التقاء بينهما في لمحة ولا سمة ، ولا لمسة ولا ظل . صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراقيها ؛ وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها . صورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب متضامنة مترابطة متكافلة متوادة متعارفة صاعدة في طريقها إلى الله ، بريئة الصدور من الغل ، طاهرة القلوب من الحقد ، وصورة تمثل البشرية أعداء متناحرين يلقي بعضهم بعضا بالحقد والدخل والدغل والغش والخداع والالتواء . حتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة . فالصلاة ليست سوى أحبولة ، والدين كله ليس إلا فخا ينصبه رأس المال للكادحين !
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم . .
هذه هي قافلة الإيمان . وهذا هو دعاء الإيمان . وإنها لقافلة كريمة . وإنه لدعاء كريم .
==============
الرحمة
قال تعالى في سورة الفتح ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا {29} (
إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع . صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة ، حالاتها الظاهرة والمضمرة . فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم: أشداء على الكفار رحماء بينهم ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم: تراهم ركعا سجدا . . ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها: يبتغون فضلا من الله ورضوانا . . ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم: سيماهم في وجوههم من أثر السجود . .
ذلك مثلهم في التوراة . .
وهذه صفتهم فيها . .
ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل . . كزرع أخرج شطأه فآزره . .
فاستغلظ فاستوى على سوقه . يعجب الزراع . .:(1/40)
ليغيظ بهم الكفار . .
وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين: محمد رسول الله . .
ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع .
والمؤمنون لهم حالات شتى . ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم ، ونقط الإرتكاز الأصيلة في هذه الحياة . وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة . .
وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات ، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها . التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة .
إرادة التكريم واضحة ، وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم: أشداء على الكفار رحماء بينهم . .
أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم ، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا . رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين . فهي الشدة لله والرحمة لله . وهي الحمية للعقيدة ، والسماحة للعقيدة . فليس لهم في أنفسهم شيء ، ولا لأنفسهم فيهم شيء . وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم ، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها . يشتدون على أعدائهم فيها ، ويلينون لإخوتهم فيها . وقد تجردوا من الأنانية ومن الهوى ، ومن الانفعال لغير الله ، والوشيجة التي تربطهم بالله .
وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم ، هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة: تراهم ركعا سجدا . .
والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم . ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة ، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ؛ فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم ، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا .
واللقطة الثالثة مثلها . ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم: يبتغون فضلا من الله ورضوانا . .
فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة . كل ما يشغل بالهم ، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم ، هو فضل الله ورضوانه . ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به .
واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم ، ونضحها على سماتهم: سيماهم في وجوههم من أثر السجود . .
سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف . وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله: من أثر السجود . .
فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة . واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها . فهو أثر هذا الخشوع . أثره في ملامح الوجه ، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة . ويحل مكانها التواضع النبيل ، والشفافية الصافية ، والوضاءة الهادئة ، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا .
وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة . إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ؛ ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة: ذلك مثلهم في التوراة . .
وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى ، وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها .
ومثلهم في الإنجيل . .
وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه ، أنهم كزرع أخرج شطأه . .
فهو زرع نام قوي ، يخرج فرخه من قوته وخصوبته . ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده . فآزره . أو أن العود آزر فرخه فشده . فاستغلظ الزرع وضخمت ساقه وامتلأت . فاستوى على سوقه لا معوجا ومنحنيا . ولكن مستقيما قويا سويا . .
هذه صورته في ذاته . فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع ، العارفين بالنامي منه والذابل . المثمر منه والبائر . فهو وقع البهجة والإعجاب: يعجب الزراع . وفي قراءة يعجب الزارع . .
وهو رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج . . وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس . فهو وقع الغيظ والكمد: ليغيظ بهم الكفار . .
وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هي للناس ، على أنها هي هذا الدين . ويقولون لهم:انظروا كم هو ميسر هذا الدين !
وبعض الذين يتملقون شهوات السلطان أو شهوات الجماهير ، يبحثون عن "منافذ" لهذه الشهوات من خلال الأحكام والنصوص ؛ ويجعلون هذه المنافذ هي الدين !
وهذا الدين ليس هذا وليس ذاك . إنما هو بجملته . برخصه وعزائمة . ميسر للناس يقدر عليه الفرد العادي ، حين يعزم . ويبلغ فيه تمام كماله الذاتي - في حدود بشريته - كما يبلغ تمام كماله الذاتي في الحديقة الواحدة:العنب والخوخ والكمثرى والتوت والتين والقثاء . .
ولا تكون كلها ذات طعم واحد . . ولا يقال عن أحدها:إنه غير ناضج - حين يبلغ نضجه الذاتي - إذا كان طعمه أقل مرتبة من النوع الآخر !
في حديقة هذا الدين ينبت البقل والقثاء ؛ وينبت الزيتون والرمان ، وينبت التفاح والبرقوق ، وينبت العنب والتين . . .
وينضج كله ؛ مختلفة طعومه ورتبه . .
ولكنه كله ينضج . ويبلغ كماله المقدر له . .(1/41)
إنها زرعة الله . . في حقل الله . . برعاية الله . . وتيسير الله . .
------------------
جيل قرآني فريد
هنالك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان . وأن يقفوا أمامها طويلا . ذلك أنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها .
لقد خرجت هذه الدعوة جيلا من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلا مميزا في تاريخ الإسلام كله وفى تاريخ البشرية جميعه . ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى .. نعم وجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ . ولكن لم يحدث قط أن تجمع مثل ذلك العدد الضخم ، في مكان واحد ، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة .
هذه ظاهرة واضحة واقعة ، ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه طويلا ، لعلنا نهتدي إلى سره .
إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا ، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه العملي ، وسيرته الكريمة ، كلها بين أيدينا كذلك ، كما كانت بين أبدي ذلك الجبل الأول ، الذي لم يتكرر في التاريخ .. ولم يغب إلا شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل هذا هو السر ؟
لو كان وجود شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتميا لقيام هذه الدعوة ، وإيتائها ثمراتها ، ما جعلها الله دعوة للناس كافة ، وما جعلها آخر رسالة ، وما وكل إليها أمر الناس في هذه الأرض ، إلى آخر الزمان ..
ولكن الله - سبحانه - تكفل بحفظ الذكر ، و علم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبمكن أن تؤتي ثمارها . فاختاره إلى جواره بعد ثلاثة وعشرين عاما من الرسالة ، وأبقى هذا الدين من بعده إلى آخر الزمان .. وإذن فإن غيبة شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها .
* * *
فلنبحث إذن وراء سبب آخر . لننظر في النبع الذي كان يستقي منه هذا الجيل الأول ، فلعل شيئا قد تغير فيه . ولننظر في المنهج الذي تخرجوا عليه ، فلعل شيئا قد تغير فيه كذلك .
كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن . القرآن وحده . فما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه إلا أثرا من آثار ذلك النبع . فعندما سئلت عائشة رضي الله عنها - عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : " كان خلقه القرآن " [2] .
كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ، ويتكيفون به ، ويتخرجون عليه ، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة ، ولا ثقافة ، ولا علم ، ولا مؤلفات ، ولا دراسات .. كلا ! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه ، أو على امتداده . وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها ، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم . وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك . وحضارات أخرى قاصية ودانية : حضارة الهند وحضارة الصين إلخ . وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها ، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة .. فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده .. في فترة تكونه .. وإنما كان ذلك عن " تصميم " مرسوم ، ونهج مقصود . يدل على هذا القصد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى في يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – صحيفة من التوراة . وقوله : " إنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني " [3] .
وإذن فقد كان هناك قصد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل .. في فترة التكون الأولى .. على كتاب الله وحده ، لتخلص نفوسهم له وحده . ويستقيم عودهم على منهجه وحده . ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستقي من نبع آخر .
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد صنع جيل خالص القلب . خالص العقل . خالص التصور . خالص الشعور . خالص التكوين من أى مؤثر آخر غير المنهج الإلهي ، الذي يتضمنه القرآن الكريم .
ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده . فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد .. ثم ما الذي حدث ، اختلطت الينابيع . ! صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم ، وأساطير الفرس وتصوراتهم ، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى ، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات . واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم ، وعلم الكلام ، كما اختلط بالفقه والأصول أيضا . وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل ، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدا .
وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملا أساسيا من عوامل ذلك الاختلاف البين بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد .
* * *(1/42)
هناك عامل أساسي آخر غير اختلاف طبيعة النبع . ذلك هو اختلاف منهج التلقي عما كان عليه في ذلك الجيل الفريد ..
إنهم - في الجيل الأول - لم يكونوا يقرءون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع ، ولا بقصد التذوق والمتاع . لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولا يملأ به جعبته . إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها ، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته ، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه ، كما يتلقى الجندي في الميدان " الأمر اليومي " ليعمل به فور تلقيه ! ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة ، لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه [4] .
هذا الشعور .. شعور التلقي للتنفيذ .. كان يفتح لهم من القرآن آفاقا من المتاع وآفاقا من المعرفة ، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع ، وكان ييسر لهم العمل ، ويخفف عنهم ثقل التكاليف ، ويخلط القرآن بذواتهم ، ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي ، وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف ، إنما تتحول آثارا وأحداثا تحول خط سير الحياة .
إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح : روح المعرفة المنشئة للعمل . إنه لم يجيء ليكون كتاب متاع عقلي ، ولا كتاب أدب وفن ، ولا كتاب قصة وتاريخ - وإن كان هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهاح حياة . منهاجا إلهيا خالصا . وكان الله سبحانه يأخذهم بهذا المنهج مفرقا ، يتلو بعضه بعضا :
{ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا } [الإسراء : 106]
لم ينزل هذا القرآن جملة ، إنما نزل وفق الحاجات المتجددة ، ووفق النمو المطرد في الأفكار والتصورات ، والنمو المطرد في المجتمع والحياة ، ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية . وكانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة والحادثة المعينة تحدث الناس عما في نفوسهم ، وتصور لهم ما هم فيه من الأمر ، وترسم لهم منهج العمل في الموقف ، وتصحح لهم أخطاء الشعور والسلوك ، وتربطهم في هذا كله بالله ربهم ، وتعرفه لهم بصفاته المؤثرة في الكون ، فيحسون حينئذ أنهم يعيشون مع الملأ الأعلى ، تحت عين الله ، في رحاب القدرة . ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم ، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم .
إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول . ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرج الأجيال التي تليه . وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملا أساسيا كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد .
* * *
هناك عامل ثالث جدير بالانتباه والتسجيل .
لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية . كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهدا جديدا ، منفصلا كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية . وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف ، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام ! وبهذا الإحساس كان يتلقى هدي الإسلام الجديد ، فإذا غلبته نفسه مرة ، وإذا اجتذبته عاداته مرة ، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة .. شعر في الحال بالإثم والخطيئة ، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه ، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهدي القرآني .
كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية ، فهو قد انفصل نهائيا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيا ببيئته الإسلامية . حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي ، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر .
وكان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية ، وعرفها وتصورها ، وعاداتها وروابطها ، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد ، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود . وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد ، بقيادته الجديدة ، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته وكل تبعيته .
وكان هذا مفرق الطريق ، وكان بدء السير في الطريق الجديد ، السير الطليق مع التخفف من كل ضغط للتقاليد التي يتواضع عليها المجتمع الجاهلي ، ومن كل التصورات والقيم السائدة فيه . ولم يكن هناك إلا ما يلقاه المسلم من أذى وفتنة ، ولكنه هو في ذات نفسه قد عزم وانتهى ، ولم يعد لضغط التصور الجاهلي ، ولا لتقاليد المجتمع الجاهلي عليه من سبيل .(1/43)
نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم . كل ما حولنا جاهلية .. تصورات الناس وعقائدهم ، عاداتهم وتقاليدهم ، موارد ثقافتهم ، فنونهم وآدابهم ، شرائعهم وقوانينهم . حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ، ومراجع إسلامية ، وفلسفة إسلامية ، وتفكيرا إسلاميا .. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية !!
لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا ، ولا يتضح تصور الإسلام في عقولنا ، ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة .
فلا بد إذن - في منهج الحركة الإسلامية - أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها . لا بد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال ، النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشبه شائبة . نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق ، وجود الله سبحانه .. ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة ، وقيمنا وأخلاقنا ، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة .
ولا بد أن نرجع إليه - حين نرجع - بشعور التلقي للتنفيذ والعمل ، لا بشعور الدراسة والمتاع . نرجع إليه لنعرف ماذا يطلب منا أن نكون ، لنكون . وفي الطريق سنلتقي بالجمال الفني في القرآن وبالقصص الرائع في القرآن ، وبمشاهد القيامة في القرآن .. وبالمنطق الوجداني في القرآن .. وبسائر ما يطلبه أصحاب الدراسة والمتاع . ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن يكون هو هدفنا الأول . إن هدفنا الأول أن نعرف : ماذا يريد منا القرآن أن نعمل ؟ ما هو التصور الكلي الذي يريد منا أن نتصور ؟ كيف يريد القرآن أن يكون شعورنا بالله ؟ كيف يريد أن تكون أخلاقنا وأوضاعنا ونظامنا الواقعي في الحياة ؟
ثم لا بد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية .. في خاصة نفوسنا .. ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له ، فهو بهذه الصفة .. صفة الجاهلية .. غير قابل لأن نصطلح معه . إن مهمتنا أن نغير من أنفسنا أولا لنغير هذا المجتمع أخيرا .
إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع . مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه . هذا الواقع الذي يصطدم اصطداما أساسيا بالمنهج الإسلامي ، وبالتصور الإسلامي ، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش .
إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته ، وألا نعدل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلا أو كثيرا لنلتقي معه في منتصف الطريق . كلا ! إننا وإياه على مفرق الطريق ، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق !
وسنلقى في هذا عنتا ومشقة ، وستفرض علينا تضحيات باهظة ، ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي ، ونصره على منهج الجاهلية .
وإنه لمن الخير أن ندرك دائما طبيعة منهجنا ، وطبيعة موقفنا ، وطبيعة الطريق الذي لا بد أن نسلكه للخروج من الجاهلية كما خرج ذلك الجيل المميز الفريد .. ( المعالم )
--------------------------
[2] أخرجه النسائي .
[3] رواه الحافظ أبو يعلى عن حماد عن الشعبي عن جابر .
[4] ذكره ابن كثير في مقدمة التفسير .
===============
السمع والطاعة والإنفاق في سبيل الله
قال تعالى في سورة التغابن ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {16}(
فاتقوا الله ما استطعتم - واسمعوا وأطيعوا . .
وفي هذا القيد: ما استطعتم يتجلى لطف الله بعباده ، وعلمه بمدى طاقاتهم في تقواه وطاعته . وقد قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه فالطاعة في الأمر ليس لها حدود ، ومن ثم يقبل فيها ما يستطاع . أما النهي فلا تجزئة فيه فيطلب بكامله دون نقصان . ويهيب بهم إلى الإنفاق: وأنفقوا خيرا لأنفسكم .
فهم ينفقون لأنفسهم . وهو يأمرهم أن ينفقوا الخير لأنفسهم . فيجعل ما ينفقونه كأنه نفقة مباشرة لذواتهم ، ويعدها الخير لهم حين يفعلون .
ويريهم شح النفس بلاء ملازما . السعيد السعيد من يخلص منه ويوقاه ؛ والوقاية منه فضل من الله:
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .
ثم يمضي في إغرائهم بالبذل وتحبيبهم في الإنفاق ، فيسمي إنفاقهم قرضا لله . ومن ذا الذي لا يربح هذه الفرصة التي يقرض فيها مولاه ؟ وهو يأخذ القرض فيضاعفه ويغفر به ، ويشكر المقرض ، ويحلم عليه حين يقصر في شكره . وهو الله !
إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم . والله شكور حليم . .
وتبارك الله . ما أكرمه !
وما أعظمه !(1/44)
وهو ينشئ العبد ثم يرزقه . ثم يسأله فضل ما أعطاه . قرضا . يضاعفه .
ثم . .
يشكر لعبده الذي أنشأه وأعطاه ! ويعامله بالحلم في تقصيره هو عن شكر مولاه . . !
يالله !!!
إن الله يعلمنا - بصفاته - كيف نتسامى على نقصنا وضعفنا ، ونتطلع إلى أعلى دائما لنراه - سبحانه - ونحاول أن نقلده في حدود طاقتنا الصغيرة المحدودة . وقد نفخ الله في الإنسان من روحه . فجعله مشتاقا أبدا إلى تحقيق المثل الأعلى في حدود طاقته وطبيعته ، ومن ثم تبقى الآفاق العليا مفتوحة دائما ليتطلع هذا المخلوق إلى الكمال المستطاع ، ويحاول الارتفاع درجة بعد درجة ، حتى يلقى الله بما يحبه له ويرضاه .
ويختم هذه الجولة بعد هذا الإيقاع العجيب ، بصفة الله التي بها الإطلاع والرقابة على القلوب:
عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم . .
فكل شيء مكشوف لعلمه ، خاضع لسلطانه ، مدبر بحكمته . كي يعيش الناس وهم يشعرون بأن عين الله تراهم ، وسلطانه عليهم ، وحكمته تدبر الأمر كله حاضره وغائبه . ويكفي أن يستقر هذا التصور في القلوب ، لتتقي الله وتخلص له وتستجيب .
===============
تغيير ما بالنفس من شر إلى خير
قال تعالى ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ {11} الرعد (
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . .
فهو يتعقبهم بالحفظة من أمره لمراقبة ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم فيرتب عليه الله تصرفه بهم . فإنه لا يغير نعمة أو بؤسى ، ولا يغير عزا أو ذلة ، ولا يغير مكانة أو مهانة . . .
إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم ، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم . وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون . ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم ، ويجيء لاحقا له في الزمان بالقياس إليهم .
وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة ؛ فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته ، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر ؛ وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم . والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل . وهو يحمل كذلك - إلى جانب التبعة - دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة الله ، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه .
وبعد تقرير المبدأ يبرز السياق حالة تغيير الله ما بقوم إلى السوء ؛ لأنهم - حسب المفهوم من الآية - غيروا ما بأنفسهم إلى أسوء فأراد لهم الله السوء:
وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال . .
يبرز السياق هذا الجانب هنا دون الجانب الآخر لأنه في معرض الذين يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة . وقد قدم لهم هناك المغفرة على العذاب ليبرز غفلتهم ، وهو هنا يبرز العاقبة السوأى وحدها لإنذارهم حيث لا يرد عذاب الله عنهم - إذا استحقوه بما في أنفسهم - ولا يعصمهم منه وال يناصرهم . .
***********************
ويقول أحد الباحثين :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، أما بعد :
فحديثنا هذه الليلة حول سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون والمجتمعات، سنة أحوج ما يكون المسلمون إليها في هذا العصر وهم يتطلعون للتغيير والإصلاح.
إنك لو طرحت هذا السؤال على أي فرد من المسلمين -أيا كانت ثقافته وتدينه-:هل ترى أن واقع المسلمين اليوم واقع شرعي يرضي الله تبارك وتعالى ؟
لو طرحت هذا السؤال لأجابك الجميع بالنفي، إن معظم المسلمين الصادقين اليوم يتطلعون إلى التغيير، لكن هل يدركون وهم يعيشون في هذه المرحلة سنن الله تبارك وتعالى في التغيير؟ إن هذه السنة واحدة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون والمجتمعات، وهذا يدعونا إلى أن نتحدث بمقدمة -ربما تطول - حول هذه السنن التي جاء الحديث عنها في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى تتضح لنا قيمة هذه السنن وحاجة المسلمين إلى مدارستها والعناية بها والأخذ بها. إن الله تبارك وتعالى سن سننا تحكم هذا الكون وتحكم حركة التاريخ، هذه السنن تجعل المسلمين المستضيئين بنور الله تبارك وتعالى يفهمون الأحداث فهما سليما دقيقا، وتجعلهم يتنبؤون أو يتوقعون حصول الأحداث من خلال المقدمات التي يعلمونها ويدركونها، وهي أيضا تمثل أداة لهم في سيرهم في هذه الحياة.
السنن في القرآن(1/45)
إن الحديث عن سنن الله تبارك وتعالى في الأنفس والمجتمعات والآفاق حديث يطول في كتاب الله تبارك وتعالى، ولو أردنا أن نستقصي في هذا الوقت الآيات التي جاء فيها الحديث عن هذه السنن لضاق بنا المقام، لكني أشير إشارات ربما تطول قليلا حتى ندرك أهمية هذه السنن وحاجة الناس إليها، ولهذا كررت كثيرا في كتاب الله تبارك وتعالى. أول أمر يدل على ذلك إيراد القصص في القرآن، فهذا دليل على أن هناك سنناً تحكم حياة الناس وتحكم سيرهم في حياتهم، سواء أكانوا أفرادا أم مجتمعات، والقرآن الكريم مليء بقصص السابقين والأولين قال تعالى :( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ) ،وقال: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ). ولعلنا أن نتساءل لماذا تورد هذه القصص ؟
ولماذا يكثر الحديث في القرآن حول قصص السابقين والغابرين ؟أليس للاعتبار والاتعاظ ؟ بلى، وإذا لم تكن هناك سنن تحكم حياة المجتمعات فكيف يتعظ الناس ؟ كيف يتعظ الناس بقصة حصلت في سالف الأزمان وماضي الدهور إلا إذا كان ذلك يسير وفق سنن، فيقيسون حياتهم على حياة أولئك، ويعلمون أنهم إن سلكوا طريقهم سيصيبهم ما أصابهم، وأنهم إن بذلوا جهدهم سيحصِّلون ما حصَّل أولئك. ما قيمة أن يعلم الإنسان أن قوماً من الأقوام كذبوا فأُهلكوا؟
أو أن قوما من الأقوام آمنوا فنجوا؟
ما قيمة أن يعلم ذلك إلا إذا كانت قاعدة مطردة؛ فيقيس حاله بحالهم. ثانياً: يأتي التعليق على هذه القصص بالأمر بالاتعاظ والاعتبار؛ فبعد سياق كثير من هذه القصص يأتي الأمر بالاتعاظ والاعتبار بما أصاب أولئك، قال تبارك وتعالى عن أولئك الذين أتوا جريمة من الجرائم وفاحشة من الفواحش فكانوا يأتون الذكران من العالمين ويذرون ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، قال واصفاً تلك العقوبة التي حلت بهم، والتي تليق بتلك الجريمة البشعة :(مسومة عند ربك وماهي من الظالمين ببعيد) ، إذا فلئن سلك قومٌ سبيل قوم لوط فهم معرَّضون أن يصيبهم ما أصاب قوم لوط وماهي من الظالمين ببعيد. ويقول تبارك وتعالى في شأن طائفة من أهل الكتاب حين تكبروا وأعرضوا عن الإيمان بالله، وخانوا عهدهم مع رسول الله صلي الله عليه وسلم -ولهم قصب السبق في نقض عهودهم مع الله ومع أنبيائه من قبل -: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا و ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) ، إذاً لو فعلتم ما فعل أولئك سيصيبكم ما أصابهم؛ فهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى: أن من فعل كما فعل أولئك سيصيبه ما أصابهم لذا فعليه أن يعتبر ويتعظ. وفي سورة الشعراء يقول تبارك وتعالى تعقيبا على كل موقف من مواقف الأنبياء مع أقوامهم وتكذيبهم ثم حلول العذاب بهم :(إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين . وإن ربك لهو العزيز الرحيم ). ويقول تبارك وتعالى أيضا في آية تتكرر في أكثر من موضع تعقيبا على هذه المواطن في سورة القمر :(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر. كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر) إلى غيرها من الآيات التي يعقب الله تبارك وتعالى فيها على شأن أولئك ويأمر عباده أن يتعظوا بمواقفهم. والتعقيب والأمر بالاتعاظ والاعتبار ليس خاصا بمواقف العذاب والجزاء بالعقوبة وحدها، بل نراه أيضا في مواقف الخير والإنعام من الله تبارك وتعالى على عبادة كما قال عز وجل :(وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر علية فنادي في الظلمات أن لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين )، فمن كان كمثل ذي النون علية السلام في صدق لجوئه وتسبيحه لله تبارك وتعالى استحق النجاة. وقال عز وجل :(فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ) والآيات في هذا الباب كثيرة. إذا فالتعقيب الذي يأتي على قصص القرآن أمراً بالاتعاظ والاعتبار دليل على ثبوت هذه السنن التي تحكم حياة الناس. ثالثا: يأتي أيضا في قصص القرآن التعليل للجزاء - سواء أكان بالعقوبة أم بالأنعام- بوصف مناسب؛ والتعليل بالوصف المناسب دليل على أنة علة –كما يقول أهل الأصول- يقول تبارك وتعالى في شأن القوم الذين أهلكهم :(إنهم كانوا قوما عمين) ،فبعد أن حكى إهلاكهم وصفهم بأنهم كانوا قوما عمين، وهذا يعني أن هذا هو العلة في إهلاكهم، ويعني أن من شابههم في العلة سيشابههم في المصير ويصل إلى ما واصلوا إليه. وقال تبارك وتعالى :(وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين) ،فهذا دليل على أن العلة التي من أجلها قطع دابر هؤلاء أنهم كذبوا بآيات الله ولم يكونوا مؤمنين.(1/46)
وقال عز وجل في جزائه للمؤمنين: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين . فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) ،وهذا يعني أن العلة في نجاتهم هي الإيمان والإسلام، وبالتالي فمن شاركهم في الوصف شاركهم النتيجة والنهاية . وقال تبارك وتعالى في شأن نبي الله العفيف الطاهر يوسف علية السلام، الذي تعرضت له الفتن فلجأ إلى خالقه تبارك وتعالى مستعيناً به أن ينجيه وأن يخلصه قائلاً (رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) ،يقول تبارك وتعالى: (فاستجاب له ربه فصرف عنة كيدهن) ، ثم يقول تبارك وتعالى : (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) ،فعلة صرف السوء والفحشاء عنة أنه كان من عباد الله المخلصين، وهذا يعني أن من كان من عباد الله المخلصين فإنه يستحق هذا الجزاء وهذا النعيم. رابعا: يأمر الله تبارك وتعالى في كتابة بالسير في الأرض والاتعاظ بما حصل للسابقين في آيات كثيرة كما قال تبارك وتعالى :(وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم) ،ويقول: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وأثاروا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وماكان لهم من الله من واق )، ويقول تبارك وتعالى: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين). والآيات التي تأمر بالمسير في الأرض والاتعاظ بمصارع الغابرين كثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى، وهذا يعني أن هناك سننا ثابتة وأن هناك سننا تحكم حركة التاريخ وحياة الناس وإلا فكيف يتعظ الناس ويعتبرون؟ إنهم حين يسيرون في الأرض ويتأملون في أحوال الأمم التي مضت وخلت سيدركون أن تلك الأمم ما آلت إلى ما آلت إليه، وما استحقت النكال والعذاب إلا لتكذيبها وإعراضها، وهذا يعني أنهم إن ساروا على نفس الطريق فسوف يصلون إلى النتيجة نفسها، وسوف تحق عليهم السنة نفسها، وسيصلون إلى المصير نفسه. الأمر الخامس: يأتي في كتاب الله تبارك وتعالى الإشارة إلى طائفة من هذه السنن التي تحكم حياة الناس،أفراداً ومجتمعات. فيخبر الله تبارك وتعالى أنه حين يطغى المترفون ويعلنون فسقهم وفجورهم فإن هذا إيذان بحلول الهلاك والتدمير للقرية أيا كانت هذه القرية ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا )، وتبقى هذه الآية نذيرا يلوح في الأفق أمام المؤمنين الذين ينظرون بنور الله فيخشون أن يحصل الهلاك والبوار لأولئك أو هؤلاء لأنهم قد فسقوا وأعلنوا فسقهم وفجورهم، وحين قالوا ذلك فليسوا يعلمون الغيب، وليسوا يقرؤون ما وراء الأحداث، لكنهم يعلمون ذلك من خلال معرفتهم بسنن الله تبارك وتعالى. ويخبر تبارك وتعالى أن هناك سنة للمتكبرين المتجبرين، هي أن هؤلاء يجابهون ويواجهون من يدعوهم إلى الإيمان والصلاح والتقوى لله تبارك وتعالى بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء؛ يقول تبارك وتعالى :( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) على أحد القولين في تفسير هذه الآية ،ويقول تبارك وتعالى :( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم قوم طاغون ) ،كأن هؤلاء لاتفاقهم على هذه المقولة قد تواصوا عليها واتفقوا، إنها سنة الله تبارك وتعالى في المصلحين مع أقوامهم، أن يواجههم أقوامهم المكذبون بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء واتهامهم بما ليس فيهم. ويخبر تبارك وتعالى متوعداً أولئك الذين نجم نفاقهم من أهل الإرجاف والنفاق أنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى، فإنه ستحل عليهم سنة الله في السابقين، قال عز وجل :(لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ، إنها سنة الله أن يحل بهؤلاء المنافقين المرجفين عذاب الله تبارك وتعالى إن لم يتوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى.(1/47)
ويخبر تبارك وتعالى عن سنة من سننه فيقول :( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا. استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ). ويقول تبارك وتعالى : ( ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين. وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) ، ثم يقول تبارك وتعالى : ( وقد خلت سنة الأولين ). ويقول عز وجل مخبراً أنه لو تمالأ أهل الكفر على قتال المؤمنين فإن الله تبارك وتعالى سيحل بهم الهزيمة ويولي هؤلاء الأدبار ( ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا. سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ،ثم يأتي التأكيد على أن هذه السنة لن تتبدل ولن تتغير. ويقول تبارك وتعالى أيضا مخبرا عن حال هؤلاء وأنهم يؤمنون حين يرون العذاب :( فلما رأوا بأسنا قالوا أمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) .
هذا غيض من فيض، وهذه شواهد يسيرة من الحديث الكثير المستفيض في كتاب الله تبارك وتعالى عن سنن الله عز وجل، يعطينا دلالة قاطعة أن هناك سننا تحكم حياة الناس، جدير بهم أن يتأملوها، وأن يعوها ويتدبروها، وأولى الناس بالاعتناء بها هم أولئك الذين يتطلعون للإصلاح والتغيير في مجتمعاتهم.
السنن في السنة النبوية
ويشير النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أحاديثه إلى شيء من هذه السنن يقول صلى الله عليه وسلم في قصة قدوم أبي عبيدة بمال من البحرين :" فوا الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم؛ فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم " فهي سنة لا تتخلف، حين يتنافس الناس في الدنيا والدينار والدرهم كما تنافس الذين من قبلهم أن تهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم . عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال:"هذا أوان يختلس العلم من الناس، حتى لايقدروا منه على شيء" فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يارسول الله، وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا. فقال:"ثكلتك أمك يازياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟" فالسنة التي حقت على أولئك قد تحق على هؤلاء. وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم حد الله على امرأة شريفة ذات مكانة، امرأة من بني مخزوم سرقت أو كانت تستعير المتاع فتجحده، فشعر بنو مخزوم وشعرت قريش أن هذا فيه إهانة لشرف هذه القبيلة ذات المنزلة العالية، فأرادوا أن يستشفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنها الحد ويسقط عنها هذه العقوبة، وقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه؟ فكلموا أسامة، فكلم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم على أسامة وقال :"أتشفع في حد من حدود الله؟" ولم يكن صلى الله عليه وسلم يشعر أن هذه المعالجة كافية لهذه القضية الخطيرة التي إن بدت في الأمة فهي نذير عقوبة وهلاك، فلم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا الرد على أسامة، ولم يكتف بإقامة الحد على هذه المرأة، إنما يصعد المنبر صلى الله عليه وسلم ويقول: " إنما أهلك من كان قبلكم إنه كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها "، إذا فقد كان السابقون يحابون في الحدود، وكانوا يقيمون أحكام الله على الضعفاء، أما الشرفاء وعلية القوم فلهم شأن آخر، ولهذا توعد صلى الله عليه وسلم أنكم إن فعلتم كما فعل من كان قبلكم فسوف تهلكون كما هلك من كان قبلكم.
السنن في عالم المادة وفي حياة الإنسان
كما أن لله عز وجل سنناً تحكم عالم المادة ودنيا الناس، حين اكتشفها الناس استطاعوا أن يستفيدوا منها وأن يوظفوا هذه القوانين وهذه السنن توظيفا في خدمة الناس في أمور دنياهم، فمن ذلك مثلا " قانون الجاذبية " وهي قضية يراها كل الناس ويجهدون أنفسهم في التفكير فيها ولا يجهدون أنفسهم في تفسير هذا الموقف الذي يرونه والذي لا يتغير ولا يتبدل، وحين اكتشف العالم المعاصر هذا القانون استطاع أن يوظف هذا القانون وأن يستثمره فيعبر القارات ويعبر الفضاء من خلال السيطرة على هذا القانون.(1/48)
وحين يكتشف العلم المعاصر المواد التي تتقبل الاحتراق، والتي لا تتقبل الاحتراق؛ فإنه يوظف هذه السنة في تحقيق مصالح الناس في أمور دنياهم، ولهذا نرى النبي صلى الله عليه وسلم يربط بين السنن الكونية وبين السنن المادية، بين السنن التي تحكم حياة المجتمعات ودنيا الناس وبين السنن التي تحكم عالم المادة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"مثل القائم في حدود الله والمدهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا فلم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا". إن النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن سنة من سنن الله تبارك وتعالى في المجتمعات، وهي أنه حين يقع الناس في المعاصي ويتجرؤون على حدود الله فإنه سيهلك المجتمع بمن فيه، ثم يربط النبي صلى الله عليه وسلم هذه السنة وهذا القانون بقانون يراه الناس في عالم المادة، حين تخرق السفينة التي تسير على البحر فإن هذا سبب لأن يلج إليها الماء فتمتلئ فتغرق بمن فيها، ولو كان فيها طائفة لم يكن لم دور في خرق هذه السفينة. ويذكر صلى الله عليه وسلم سنة أخرى من السنن المادية التي يراها الناس فيربطها بسنة من سنن الله في المجتمعات يقول صلى الله عليه وسلم :( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر بالحمى والسهر ). إذا ما موقف الناس وما دور الناس وما دور العلم المعاصر في التعامل مع سنن الله في عالم المادة أو ما يسمونه بـ: قوانين الطبيعة؟ أترى الناس مثلا يستسلمون لهذه السنن وهذه القوانين أم أنهم يحرصون قدر الإمكان على اكتشافها وتفسيرها، ثم محاولة توظيفها واستثمارها والتعامل معها؟ وكم استفاد العلم المعاصر من استثمار هذه السنن الثابتة التي تحكم الناس في أمور معاشهم وأمور دنياهم؟ ولكن هل نحن – في تطلعنا لتغيرنا الاجتماعي وفي قراءتنا للتاريخ الماضي وفهمنا للتاريخ الحاضر – نتعامل مع ذلك كما نتعامل مع السنن في عالم المادة؟ وكتابنا الذي لا ينطق عن الهوى مليء بالإشارة إلى هذه السنن والحديث عنها، ولم نكلف عبأ في محاولة اكتشافها ودراستها.
موقفنا من السنن(1/49)
الموقف الأول: السعي لاكتشافها، من خلال قراءة ما حكاه الله تبارك وتعالى لنا من قصص السابقين والأولين، يحكمنا فيها قوله تبارك وتعالى : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) فنسعى من خلال ذلك إلى أن نكتشف السنن التي تحكم حياة المجتمعات، وأن نقرأ تاريخ أمتنا، وأن نقرأ تاريخ الأمم الغابرة الماضية، بل ونقرأ تاريخ الأمم المعاصرة، ثم نتأمل ما فيه ونستنبط منه هذه السنن التي تحكم حركة الناس وحياة الناس. وهذا ما سعى إليه ابن خلدون رحمه الله في كتابه الرائع " مقدمة ابن خلدون " فقد سعى جاهداً لاكتشاف سنن الله في الدول والمجتمعات ومن قرأ فيه رأى فيه شيئا كبيرا من ذلك . الأمر الثاني : تفسير الأحداث من خلال هذه السنن، تحصل أحداث كثيرة تمر بالناس سواء ما يحصل للمسلمين في مجتمعاتهم، أو ما يحصل للمجتمعات الأخرى المعاصرة، من التمكين لأمة من الأمم، أو إهلاك أخرى، أو أمة يجعل الله تبارك وتعالى بأسها بينها، إنها أحداث تمر بالمؤمنين ومع ذلك يعجز الناس عن تفسيرها، ولو وعى الناس سنن الله تبارك وتعالى في التاريخ والمجتمعات وربطوها بهذا الواقع المعاصر الذي يعيشونه، لأضاءت لهم الرؤية ولأصبحوا يملكون رؤية واضحة تعينهم على تفسير هذه الأحداث واكتشاف مغازيها. الأمر الثالث : الرؤية المستقبلية للأحداث أو التنبؤ بها؛ فيتوقع المسلمون ما سيحل بمجتمعاتهم أو ما سيحل بالمجتمعات القريبة لهم. لقد قرأنا لكثير من العلماء والمفكرين الإسلاميين في هذا العصر أنهم كانوا يتنبئون بسقوط الشيوعية وانهيارها، فكيف استطاع هؤلاء أن يتنبئوا بذلك أهم يعلمون الغيب؟ أبدا إنهم علموا ذلك من خلال هذه السنن. وحين ولى الفرس عليهم امرأة قال صلى الله عليه وسلم :"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" فأدرك صلى الله عليه وسلم من هذه السنة أن هذه أمارة ودليل على زوال الفلاح عن هؤلاء لماذا ؟ لأنهم ولَّوا أمرهم امرأة ومن يولي أمره امرأة فإن هذا إيذان بزوال الفلاح عنه. الأمر الرابع: أن نستثمر هذه السنن ونستفيد منها ونحن نتطلع للغير في مجتمعاتنا ونسعى إلى عالم أفضل، إننا نقرأ في كتاب الله تبارك وتعالى ونقرأ في التاريخ عوامل نهضة الأمم وعوامل رقيها، فحين نتطلع للنهضة والرقي فعلينا أن نسلك هذه العوامل ونأخذ بهذه الأسباب، ونقرأ عوامل الانحطاط والانهيار وحلول العذاب والبوار ونحن إن كنا نحرص على حماية أنفسنا من عذاب الله تبارك وتعالى فيجدر بن أن نجتنب هذه الأسباب وأن نحذِّر بني قومنا منها. أليس جدير بنا - ونحن نتطلع للتغيير ونحن نتطلع للإصلاح ونحن نسعى للتغيير في مجتمعات المسلمين- أن نتأمل هذه السنن وأن نعيها وأن ننزلها على واقعنا ونسعى من خلال التعامل معها إلى التغيير في واقعنا ومجتمعاتنا؟ وهذا يضيف علينا عبئاً كبيراً ويجعلنا ندرك أن المسؤولية وأن واجب الإصلاح والتغيير لا يقف عند مجرد جهود مرتجلة، وعند مجرد أعمال مبعثرة هنا وهناك، بل حركة الإصلاح والتغيير في مجتمعات المسلمين تحتاج إلى دراسة متأنية، وتحتاج إلى بحث عن سنن التغيير والسعي إليها.(1/50)
سنة التغيير قال تعالى في بيان هذه السنة :(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، وقال عز وجل (ذلك بأن الله لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في قوله :"إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لن يرفعه عنكم حتى ترجعوا لدينكم" وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا :"يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها" قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يارسول الله ؟ قال:"أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن" قالوا ما الوهن ؟ قال:"حب الدنيا وكراهية الموت". وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه, أن لا يهلك أمته لسنة بعامة, وسأل ربه أن لا يجعل بأسهم بينهم؛ فمنعه الله تبارك وتعالى ذلك، قال:"حتى يكون بعضهم يقتل بعضا ويسبي بعضا ". ويقول صلى الله عليه وسلم :"يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا (هذه سنة تفسر لنا ما نراه الآن في العالم المعاصر وتبقي نذير خطر لأولئك الذين يسعون لإغراق مجتمعات المسلمين بالفساد والإباحية) ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" ، إنها سنن كونيه نراها الآن حاضرة في المجتمعات المعاصرة التي ابتلاها الله تبارك وتعالى بهذه العقوبات بما كسبت أيديها، وهذا أيضا مصداق لقوله تبارك وتعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، وهو أيضاً مصداق قوله تبارك وتعالى :( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ) وقوله :( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ). والحديث عن هذه السنة يكثر في القرآن الكريم، بل إن قراءة قصص الأولين والغابرين في كتاب الله تبارك وتعالى تؤيد هذا المعنى وتشهد له. إن دراسة سنة التغيير هذه تعطينا نتائج: النتيجة الأولى: أننا نحن المسئولين عن هذا الواقع، وأن الأمة إنما أتيت من داخلها، فليس الكيد الخارجي والتآمر، وليس فلان أو فلان هم المسئولين عما حل بالأمة، بل نحن المسئولون عما حل بنا (ذلك بأن الله لم بكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، فالحال التي وصلنا إليها والواقع المر الذي نعانيه ونعيشه الآن إنما هو نتيجة للتغير الذي كان بأنفسنا، فلنكن صرحاء مع أنفسنا و لا نحيل مشاكلنا على غيرنا ولا نتهم بها سوانا ولا نحمل المسؤولية من لا يتحملها، فنحن وحدنا الذين نتحمل كل المسؤولية. إن ما حل في مجتمعات المسلمين من بعد عن دين الله، من تخلف، من جهل، من أمية، من فقر من حروب، إن كل ذلك نتيجة منطقية لما كسبت أيدينا. النتيجة الثانية : أن التغيير لن يتم إلا إذا غيرنا ما بداخلنا، إننا ونحن نتطلع إلى عالم أفضل، ونسعى إلى تغيير ما في الناس من بعد عن دين الله تبارك وتعالى، ونسعى إلى إعادة الناس إلى دين الله عز وجل لا يمكن أن يتحقق لنا ذلك دون أن نغير ما بأنفسنا، وإذا غيرنا ما بداخلنا فهي الخطوة الأولى للتغيير وللإصلاح. النتيجة الثالثة: أن هذا يعطينا الاقتناع بأن التغيير ممكن، وأن الواقع المعاصر ليس أمراً حتماً ولازما؛ فالأمة يمكن أن تنتقل إلى عالم أفضل. إننا حين ننظر إلى حال المسلمين وإلى حال هذه الأمة، نرى أن هناك أزمة تعانيها الأمة وأنها بحاجة إلى من يقنعها بالتغيير؛ فالكثير من الناس يعتقد أن هذا الواقع يفرض نفسه، ولهذا حين تحدثه عما في نفسه أو تحدثه عن قضية يعاني منها المجتمع، وتطالبه أن يأخذ بيد الساعين والقائمين للتغيير يقول لك : " إن المفروض شيء والواقع شيء آخر " وهذا يعني الاستسلام للواقع، وأنه ضربة لازمة لا سبيل ولا مناص إلى تغييره. ثانيا والأمة مصابة بإلقاء التبعية على الجيل السابق أو اللاحق، وهي ثالثاً مصابة بداء تسويغ الواقع الذي تعيشه الأمة الآن. إنها جريمة عظمى يرتكبها هؤلاء الذين يقفون حجر عثرة في سبيل أي جهد يبذل للإصلاح والتغيير، ويسعون لتبرير الواقع وتسويغه، وتسويغ الانحراف الذي تعاني منه الأمة والذي لم يعد خافيا على ذي بصيرة ، إن هناك من يدافع عن تلك الجرائم التي ترتكب بحق الأمة؛ فيدافع ويبرر كثيرا من مظاهر الشرك والوثنية التي تعاني منها الآن ويلبسها لباس المصلحة تارة ولباس الجهل تارة أخرى، لأن أولئك يفقهون مالا يفقهون ويعملون مالا تعملون ويريدون مالا تريدون، والمصلحون حين ينزلون الحكم(1/51)
الشرعي على هذه الوقائع؛ فيقررون أن هذا الأمر جريمة، أو أن ذلك العمل صد عن سبيل الله، أو أن هذا مظهر من مظاهر الكفر بالله تبارك وتعالى، فهم يسعون إلي إثارة البلبلة وإلى تمزيق صف الأمة ووحدتها، وكأن هذه الأمة مدعوة لأن تتحد على الخنا والفجور، وأن تحافظ على هذا الاتحاد في ولو كان ذلك على حساب قضية الإيمان والتوحيد والعفة والنزاهة . إن جريمة من يسعى لتسويغ الواقع وتبريره، أشنع وأشد من جريمة القاعدين والناكصين. وسلوك رابع خاطئ في تعامل المسلمين مع هذه القضية، وهو إفراز لشعورهم بأن هذا الواقع لا يمكن أن يتغير، ذلكم هو الوهم الذي سيطر على المسلمين أن حل قضيتهم في انتظار البطل القادم الذي يأتي ويحل مشاكل المسلين ولهذا فالمسلمون دائما يتساءلون أين ابن تيمية ؟ أين صلاح الدين ؟ أين خالد بن الوليد ؟ أين فلان وفلان من الناس ؟ وكأن هؤلاء قد شعروا بأنهم غير قادرين على أن يصنعوا شيئا، ولا أن يتقدموا خطوة، وأن هذا الواقع الذي تعاني منه هذه الأمة لا يمكن أن يتغبر إلا إذا جاء هذا الفارس الموهوم والبطل القادم، الذي ليس له وجود إلا في خيال أولئك القاعدين والناكصين. إن المسلمين وهم يعيشون مرارة الهزيمة ومرارة التخلف، وهم يعيشون البعد عن دين الله تبارك وتعالى تتطلع نفوس كثير منهم للتغيير والإصلاح، لكنهم لايجرؤون على أن يحملوا أنفسهم مسؤولية ما آل إليه واقعهم؛ فيستسلمون لهذه الأوهام، ويتطلعون إلى أن يأتي رجل من عالم الغيب يقود الأمة، ولو جاء هذا الرجل فإنه ما لم يكن له من الناس عون وظهير فإنه سيقول كما قال موسى ( إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ) ، فحين تخلى قوم موسى عن موسى لم يكن ينفعهم ولم يكن لينجيهم أنهم مع رسول من رسل الله، فلئن لم يتحقق ذلك لبني إسرائيل وهم مع نبي من أنبياء الله فإنه لن يتحقق لغيرهم وهم مع من هو دونه بكثير. وأخيرا قد يلجأ الناس إلى الهروب من التفكير في القضية أصلا؛ فيهربون من التفكير في الواقع ومرارته، أو يهربون من المناقشة الصريحة في وسائل التغيير والإصلاح، ويصرفون القضية يمنة ويسرة، وهذا فرار من المسؤولية وتخل عن التبعة لن يفيدهم شيئا، ولن يغني عنهم أمام الله تبارك وتعالى. النتيجة الرابعة (من نتائج فقه سنة التغيير): ضرورة القراءة المتأنية في داخل النفوس لاكتشاف العلة والسعي لإحداث التغيير، فما دام قد تقرر لدينا أن هذا التغيير الذي أصاب الأمة -وقد كانت أمة العز والنصر والتمكين- إنما أتاها من أنفسها ومن داخلها يدعونا إلى دراسة متأنية لما في النفوس، حتى نسعى إلى اكتشاف العلة، والبحث عن مكمن الداء، ثم نسعى بعد ذلك إلى العلاج والإصلاح. إذا فقضية الإصلاح والتغيير تحتاج جهدا ضخما من القراءة في سنن الله تبارك وتعالى، ومن خلال قراءة ما في النفوس ووعيها، ثم إقناع الناس بواجب التغيير وضرورته وإمكان التغيير. النتيجة الخامسة: شمولية الأمر لجميع جوانب الحية المختلفة فالله تبارك وتعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا بأنفسهم ) فالله تبارك وتعالى لم يكن ليغير حال الناس من تدين وصلاح وتقوى إلى فجور إلا وقد غيروا ما بأنفسهم والعكس كذلك. ويدخل في هذا الأمر أيضا ما يعاني منه المسلمون في أمور عالمهم المادي؛ فالأمة الإسلامية الآن مدرجة ضمن العالم المتخلف؛ فهي تعاني الأمية والجهل والفقر والتخلف والتأخر الاقتصادي والمديونية والتفرق والتمزق؛ إنها تحمل رصيدا هائلا من الأمراض البشرية التي تحملها المجتمعات المعاصرة؛ فهي حين تريد تغيير ما بها ينبغي أن تعلم أن التغيير إنما يتم من الداخل، فإن كانت الأمة صريحة مع نفسها فإنها يمكن أن تغير وإن أخلدت إلى الأرض، فإن هذا الواقع لن يتغير حتى يغير ما بواقع الناس. النتيجة السادسة: ينبغي أن نربط هذه القضية بركن من أركان الإيمان، ألا وهو الإيمان بالقضاء والقدر؛ فلا يتم إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وحتى يعلم أن الأمور كلها تجري بقدر الله تبارك وتعالى. إن المؤمنين يدركون جميعا هذه الحقيقة إدراكا نظريًّا، ويعلمون أن الأمور كلها في عالمهم المادي وغير المادي إنما هي بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره، ويؤمنون ويدركون أيضا بأن الله تبارك وتعالى قد جعل لهذه الأمور أسباباً، وأن من تمام الإيمان بالقضاء والقدر أن يسلك الناس فعل الأسباب. إن الناس كل الناس يدركون أن الجوع والمرض أمر بقدر الله تبارك وتعالى لكنهم يسعون إلى منع المرض عنهم ومنع الجوع عنهم، وإلى دفعه عنهم بالطعام والشراب والعلاج، إنهم يدركون جميعا أن الرزق بيد الله تبارك وتعالى، وأنه لا يزيده ولا يرده حرص حريص، وأنه لن تموت نفس منفوسة حتى تستكمل رزقها، وأنه لن يحصل رزقهم إلا إذا فعلوا الأسباب؛ فيجتهدون ويبذلون وهم يعلمون أن الرزق بيد الله تبارك وتعالى. ولكن هل نحن في أمور مجتمعاتنا وفي نظرتنا إلى واقعنا ندرك هذه القضية(1/52)
وهذه الحقيقة، وهي ارتباط السبب بالنتيجة؟ هل ندرك أن الأمور بيد الله تبارك وتعالى؟ وما أكثر ما نردد: الأمور بيد الله، ونقول القضية قضاء وقدر ونلجأ إليه بالدعاء، لكن هل نحن مع ذلك نفعل الأسباب؟ هل نحن نسعى لفعل الأسباب ؟ إننا لن نحصل على رزقنا إلا بفعل الأسباب فلن ندرك التغيير أيضا في مجتمعاتنا والإصلاح إلا بفعل الأسباب والاجتهاد في ذلك وينبغي أن تكون الأسباب على قدر الهدف الذي نتطلع إليه ونسعى إليه. ما بال الناس يجتهدون في دفع المرض عنهم؛ فينفقون الأموال الطائلة، ويسافرون يمنة ويسرة في محاولة علاج هذا المرض، مدركين أن ذلك من تمام الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن الأمور بيد الله لكنهم يبذلون هذا الجهد، فهل نحن نبذل هذا الجهد في تصحيح واقعنا؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في علاج أمراضنا؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في دفع هذا الفساد الذي حل بأمة الإسلام؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في إزالة هذه المنكرات التي فشت في مجتمعات المسلمين؟ إنه من الجهل بقضاء الله وقدره، بل من مخادعة النفس أن نضع يداً على يد ونقول إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن نبكي وننتحب على أمة الإسلام؛ فالبكاء لن يجدي ولن ينفع، والدعاء وحده لن يؤتي ثمرته إلا إذا كان معه جهد وبذل وتضحية وتحمل، إننا ما لم نشعر أننا يجب أن ندفع ثمنا باهظًا لإزالة المنكرات، وتصحيح الواقع للنهوض بهذه الأمة فإننا غير مؤهلين للتغيير؛ لأننا لم نغير ما بأنفسنا. إن من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن جعل هنالك علاقة مطردة في حياة الناس بين السبب والنتيجة؛ فكل نتيجة يوصل لها سبب معروف يعرفه الناس، بدءًا بأقل القضايا إلى الأمور المعقدة، سواء في عالمهم المادي أو حياة مجتمعاتهم وحركة التاريخ، وهذا يعني أن يسعى الناس إلى اكتشاف الأسباب، وإلى بذل الأسباب إذا كانوا يتطلعون إلى نتيجة. إن إدراك هذه الحقائق معشر الأخوة الكرام ضرورة لأولئك الذين يتطلعون للإصلاح والتغيير فهل ندرك هذه الحقائق وهل نسعى إلى غرسها في مجتمعات المسلمين ؟ أسأل الله تبارك وتعالى أن يبدل ذل المسلمين إلى عز، وأن يغير معصيتهم إلى طاعة، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، ويحكم فيه بشرعك، وينتصر فيه للمظلوم والضعيف؛ إنك سميع قريب مجيب ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
***************************
الباب الثالث )- شروط النصر :
نصرة دين الله
قال تعالى في سورة محمد ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (
وكيف ينصر المؤمنون الله ، حتى يقوموا بالشرط وينالوا ما شرط لهم من النصر والتثبيت ؟
إن لله في نفوسهم أن تتجرد له ، وألا تشرك به شيئا ، شركا ظاهرا أو خفيا ، وألا تستبقي فيها معه أحدا ولا شيئا ، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى ، وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها ، وسرها وعلانيتها ، ونشاطها كله وخلجاتها . . فهذا نصر الله في ذوات النفوس .
وإن لله شريعة ومنهاجا للحياة ، تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة . ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه ، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء ، فهذا نصر الله في واقع الحياة .
ونقف لحظة أمام قوله تعالى: والذين قتلوا في سبيل الله . .
وقوله: إن تنصروا الله . .
وفي كلتا الحالتين . حالة القتل . وحالة النصرة . يشترط أن يكون هذا لله وفي سبيل الله . وهي لفتة بديهية ، ولكن كثيرا من الغبش يغطي عليها عندما تنحرف العقيدة في بعض الأجيال . وعندما تمتهن كلمات الشهادة والشهداء والجهاد وترخص ، وتنحرف عن معناها الوحيد القويم .
إنه لا جهاد ، ولا شهادة ، ولا جنة ، إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده ، والموت في سبيله وحده ، والنصرة له وحده ، في ذات النفس وفي منهج الحياة .
لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا . وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم ، وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء .
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال:سئل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .
وليس هنالك من راية أخرى ، أو هدف آخر ، يجاهد في سبيله من يجاهد ، ويستشهد دونه من يستشهد ، فيحق له وعد الله بالجنة . إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف . من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات !(1/53)
ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية ، وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة ، وألا يلبسوا برايتهم راية ، ولا يخلطوا بتصورهم تصورا غريبا على طبيعة العقيدة .
لا جهاد إلا لتكون كلمة الله هي العليا . العليا في النفس والضمير . والعليا في الخلق والسلوك . والعليا في الأوضاع والنظم . والعليا في العلاقات والإرتباطات في كل أنحاء الحياة . وما عدا هذا فليس لله . ولكن للشيطان . وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد .
وفيما عدا هذا ليس هنالك جنة ولا نصر من عند الله ولا تثبيت للأقدام . وإنما هو الغبش وسوء التصور والانحراف .
وإذا عز على غير أصحاب الدعوة لله أن يتخلصوا من هذا الغبش وسوء التصور والانحراف ، فلا أقل من أن يخلص الدعاة إلى الله أنفسهم ومشاعرهم وتصورهم من منطق البيئة الذي لا يتفق مع البديهة الأولى في شرط الله . . وبعد فهذا شرط الله على الذين آمنوا . فأما شرطه لهم فهو النصر وتثبيت الأقدام . وعد الله لا يخلفه . فإذا تخلف فترة ؛ فهو أجل مقدر لحكمة أخرى تتحقق مع تحقق النصر والتثبيت . ذلك حين يصح أن المؤمنين وفوا بالشرط ثم تخلف عنهم - فترة - نصر الله .
ثم نقف لحظة أمام لفتة خاصة في التعبير: ينصركم . ويثبت أقدامكم . .
إن الظن يذهب لأول وهلة أن تثبيت الأقدام يسبق النصر ، ويكون سببا فيه . وهذا صحيح . ولكن تأخير ذكره في العبارة يوحي بأن المقصود معنى آخر من معاني التثبيت . معنى التثبيت على النصر وتكاليفه . فالنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان ، وبين الحق والضلال . فللنصر تكاليفه في ذات النفس وفي واقع الحياة . للنصر تكاليفه في عدم الزهو به والبطر . وفي عدم التراخي بعده والتهاون . وكثير من النفوس يثبت على المحنة والبلاء . ولكن القليل هو الذي يثبت على النصر والنعماء . وصلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر منزلة أخرى وراء النصر . ولعل هذا هو ما تشير إليه عبارة القرآن . والعلم لله .
==============
الإيمان الحق
قال تعالى في سورة غافر ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ {51} يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ {52}(
هذا التعقيب الجازم ، يناسب ذلك الموقف الحاسم . ولقد اطلعت منه البشرية على مثل من نهاية الحق والباطل . نهايتهما في هذه الأرض ونهايتهما كذلك في الآخرة . ورأت كيف كان مصير فرعون وملئه في الحياة الدنيا ، كما رأوهم يتحاجون في النار ، وينتهون إلى إهمال وصغار . وذلك هو الشأن في كل قضية كما يقرر القرآن:
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار . .
فأما في الآخرة فقد لا يجادل أحد من المؤمنين بالآخرة في هذه النهاية . ولا يجد ما يدعوه إلى المجادلة . وأما النصر في الحياة الدنيا فقد يكون في حاجة إلى جلاء وبيان .
إن وعد الله قاطع جازم: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا . . . . بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذباً مطروداً ، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب ، وفيهم من يلقى في الأخدود ، وفيهم من يستشهد ، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد . . فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا ؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل !
ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور . ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير . إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان . وهي مقاييس بشرية صغيرة . فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان . ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك . وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها . فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها . وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها !
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم ، قريبة الرؤية لأعينهم . ولكن صور النصر شتى وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة . .
إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها . .
أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة ؟ ما من شك - في منطق العقيدة - أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار . كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار . هذه صورة وتلك صورة . وهما في الظاهر بعيد من بعيد . فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب ! . .(1/54)
والحسين - رضوان الله عليه - وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ، المفجعة من جانب ؟ أكانت هذه نصراً أم هزيمة ؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة . فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً . فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف ، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه . يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين . من المسلمين . وكثير من غير المسلمين !
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام ، كما نصرها باستشهاده . وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة ، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه ، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد . وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال . .
ما النصر ؟ وما الهزيمة ؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور . ومن القيم . قبل أن نسأل:
أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا !
على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة . ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة . لقد انتصر محمد صلى الله عليه وسلم في حياته . لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض . فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعاً . من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة . فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة ، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة . ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة ، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية . وفق تقدير الله وترتيبه .
وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك . إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا . ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها . وحقيقة الإيمان كثيراً ما يتجوز الناس فيها . وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله . وإن هنالك لأشكالاً من الشرك خفية ؛ لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه لله وحده ، ويتوكل عليه وحده ، ويطمئن إلى قضاء الله فيه ، وقدره عليه ، ويحس أن الله وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار الله . ويتلقى هذا بالطمأنينة والثقة والرضى والقبول . وحين يصل إلى هذه الدرجة فلن يقدم بين يدي الله ، ولن يقترح عليه صورة معينة من صور النصر أو صور الخير . فسيكل هذا كله لله . ويلتزم . ويتلقى كل ما يصيبه على أنه الخير . . وذلك معنى من معاني النصر . .
النصر على الذات والشهوات . وهو النصر الداخلي الذي لا يتم نصر خارجي بدونه بحال من الأحوال .
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار .
وقد رأينا في المشهد السابق كيف لا تنفع الظالمين معذرتهم . وكيف باءوا باللعنة وبسوء الدار . فأما صورة من صور النصر في قصة موسى فهو ذاك:
ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب . .
وكان هذا نموذجاً من من نماذج نصر الله . إيتاء الكتاب والهدى . ووراثة الكتاب والهدى . وهذا النموذج الذي ضربه الله مثلاً في قصة موسى ، يكشف لنا رقعة فسيحة ، نرى فيها صورة خاصة من صور النصر تشير إلى الإتجاه .
============
الثبات عند لقاء العدو والإكثار من ذكر الله وطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم وعدم التنازع والصبر وعدم البطر والخيلاء والعلو في الأرض :
قال تعالى في سورة آل عمران ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ {45} وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {46} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {47 (
وفي هذه الفقرات القليلة تحتشد معان وإيحاءات ، وقواعد وتوجيهات ، وصور ومشاهد ؛ وتشخص مواقف من المعركة كأنها حية واقعة ، وتتكشف خواطر ومشاعر وضمائر وسرائر . .
مما يحتاج تصويره إلى أضعاف هذه المساحة من التعبير ؛ ثم لا يبلغ ذلك شيئاً من هذا التصوير المدهش الفريد !
إنها تبدأ بنداء الذين آمنوا - في سلسلة النداءات المتكررة للعصبة المسلمة في السورة - وتوجيههم إلى الثبات عند لقاء الأعداء ، وإلى التزود بزاد النصر ؛ والتأهب بأهبته .(1/55)
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ، وأطيعوا الله ورسوله ، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، واصبروا إن الله مع الصابرين . ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، والله بما يعملون محيط . .
فهذه هي عوامل النصر الحقيقية:الثبات عند لقاء العدو . والاتصال بالله بالذكر . والطاعة لله والرسول . وتجنب النزاع والشقاق . والصبر على تكاليف المعركة . والحذر من البطر والرئاء والبغي . .
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر . فأثبت الفريقين أغلبهما . وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون ؛ وأنه يألم كما يألمون ، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون ؛ فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه !
وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار ؛ وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين:الشهادة أو النصر ؟ بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا ؛ وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها ، ولا حياة له سواها ؟!
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن ؛ كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة ، وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي . ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عندما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة ، فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي ، قولهم: وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا . ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين . .
ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل ، وهي تواجه جالوت وجنوده: ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا:ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . .
ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا وما استكانوا ، والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين . .
ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة ؛ فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدواً . وقد حكى الله - فيما بعد - عن العصبة التي أصابها القرح في "أحد" ؛ فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم ، كان هذا التعليم حاضراً في نفوسها: الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيماناً وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل . .
إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى:إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب ؛ والثقة بالله الذي ينصر أولياءه . .
وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها ، فهي معركة لله ، لتقرير ألوهيته في الأرض ، وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية ؛ وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا ؛ لا للسيطرة ، ولا للمغنم ، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي . .
كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف . .
وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة ؛ يحققها هذا التعليم الرباني .
وأما طاعة الله ورسوله ، فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء ؛ فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم . .
فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه ؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار . فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر ، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها ! وإنما هو وضع "الذات" في كفة ، والحق في كفة ؛ وترجيح الذات على الحق ابتداء ! . .
ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة . . إنه من عمليات "الضبط" التي لا بد منها في المعركة . .
إنها طاعة القيادة العليا فيها ، التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها . وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله ، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلاً . .
والمسافة كبيرة كبيرة . .
وأما الصبر . فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة . .
أية معركة . .
في ميدان النفس أم في ميدان القتال .
واصبروا ، إن الله مع الصابرين . .
وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح . . ويبقى التعليم الأخير:
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، والله بما يعملون محيط . .
يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها !(1/56)
وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها . .
والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله ؛ تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر ، وتقرير عبودية العباد لله وحده . وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده ، والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية - بغير إذن الله وشرعه - وتخرج لإعلان تحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل عبودية لغير الله ، تستذل إنسانية الإنسان وكرامته . وتخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم ، لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الاستخدام المنكر . وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة ، فلا يكون لها من النصر والغلب إلا تحقيق طاعة الله في تلبية أمره بالجهاد ؛ وفي إقامة منهجه في الحياة ؛ وفي إعلاء كلمته في الأرض ؛ وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه . .
حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله . .
ولقد كانت صورة الخروج بطراً ورئاء الناس وصدا عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة ؛ يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها ؛ كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشاً التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله:وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة . .
وكان الله سبحانه يذكر العصبة المسلمة بشيء حاضر له وقعه وله إيحاؤه:
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله . والله بما يعملون محيط . .
والبطر والمراءاة والصد عن سبيل الله تتجلى كلها في قولة أبي جهل ، وقد جاءه رسول أبي سفيان - بعد أن ساحل بالعير فنجت من رصد المسلمين - يطلب إليه الرجوع بالنفير ، إذ لم تعد بهم حاجة لقتال محمد وأصحابه . وكانت قريش قد خرجت بالقيان والدفوف يغنون وينحرون الجزر على مراحل الطريق . فقال أبو جهل:" لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً ، فنقيم ثلاثاً ، ننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونشرب الخمر ، وتعزف القيان علينا ، فلن تزال العرب تهابنا أبداً " . .
فلما عاد الرسول إلى أبي سفيان برد أبي جهل قال:" واقوماه !
هذا عمل عمرو بن هشام [ يعني أبا جهل ] كره أن يرجع ، لأنه ترأس على الناس فبغى ، والبغي منقصة وشؤم ، إن أصاب محمد النفير ذللنا " . . وصحت فراسة أبي سفيان ، وأصاب محمد صلى الله عليه وسلم النفير ؛ وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله ؛ وكانت بدر قاصمة الظهر لهم:
والله بما يعملون محيط . .
لا يفوته منهم شيء ، ولا يعجزه من قوتهم شيء ، وهو محيط بهم وبما يعملون .
ويمضي السياق يصور وسوسة الشيطان للمشركين وإغراءهم بهذا الخروج الذي نالهم منه ما نالهم من الذل والخيبة والخسار والانكسار:
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ، وقال:لا غالب لكم اليوم من الناس ، وإني جار لكم . فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ، وقال:إني بريء منكم ، إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب . .
ولقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار ؛ ليس من بينها حديث عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلا ما رواه مالك في الموطأ:حدثنا أحمد بن الفرج ، قال:حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون ، قال:حدثنا مالك ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز:أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال: ما رئي إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة ، وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب ، إلا ما رأى يوم بدر ! قالوا:يا رسول الله وما رأى يوم بدر ؟ قال: أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة . .
وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبدالعزيز بن الماجشون ، وهو ضعيف الحديث ، والخبر مرسل . فأما سائر الآثار فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريق علي بن أبي طلحة وطريق ابن جريج . وعن عروة بن الزبير من طريق ابن إسحاق . وعن قتادة من طريق سعيد بن جبير . وعن الحسن وعن محمد بن كعب . وهذه أمثلة منها من رواية ابن جرير الطبري:
حدثني المثنى ، قال:حدثنا عبد الله بن صالح ، قال:حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال:جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه راية ، في صورة رجل من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم . فقال الشيطان للمشركين:" لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم " . . فلما اصطف الناس أخذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فولوا مدبرين . وأقبل جبير إلى إبليس ، فلما رآه ، وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده فولى مدبراً هو وشيعته ، فقال الرجل:يا سراقة ، تزعم أنك لنا جار ؟ قال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب وذلك حين رأى الملائكة .(1/57)
حدثنا ابن حميد قال:حدثنا سلمة قال:قال ابن إسحاق:حدثني يزيد بن رومان . عن عروة بن الزبير قال:لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر - يعني من الحرب - فكاد ذلك أن يثنيهم . فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكان من أشراف كنانة ، فقال: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً .
حدثنا بشر بن معاذ قال:حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله: وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم إلى قوله: شديد العقاب قال:ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة فزعم عدو الله أنه لا يد له بالملائكة ، وقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله . .
وكذب والله عدو الله ، ما به مخافة الله ، ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له ، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له ، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم ، وتبرأ منهم عند ذلك .
ونحن - على منهجنا في هذه الظلال - لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر . فهي من أمور لاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته . ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض . .
وفي هذا الحديث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم ، وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم ؛ وأنه بعد ذلك - لما تراءى الجمعان أي بريء منكم إني رأى أحدهما الآخر - نكص على عقبيه وقال:إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب . . فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم ، ولم يوف بعهده معهم . .
=============
الإنابة إلى الله :
قال تعالى في سورة الزمر ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُم الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ {54} (
الإنابة . والإسلام . والعودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام . .
هذا هو كل شيء . بلا طقوس ولا مراسم ولا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء !
إنه حساب مباشر بين العبد والرب . وصلة مباشرة بين المخلوق والخالق . من أراد الأوبة من الشاردين فليؤب . ومن أراد الإنابة من الضالين ، فلينب . ومن أراد الاستسلام من العصاة فليستسلم . وليأت . .
ليأت وليدخل فالباب مفتوح . والفيء والظل والندى والرخاء:كله وراء الباب لا حاجب دونه ولا حسيب !
وهيا . هيا قبل فوات الأوان . هيا من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون . .
فما هنالك من نصير . هيا فالوقت غير مضمون . وقد يفصل في الأمر وتغلق الأبواب في أية لحظة من لحظات الليل والنهار . هيا . واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم . .
وهو هذا القرآن بين أيديكم . .
من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون .
وقال الألوسي في تفسيره - (ج 17 / ص 497)
{ وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } فإنه عطف على { لا تقنطوا } [ الزمر : 53 ] والتعليل معترض ، وبعد تسليم حديث حمل الإطلاق على التقييد يكون عطفاً لتتميم الإيضاح كأنه قيل : لا تقنطوا من رحمة الله تعالى فتظنوا أنه لا يقبل توبتكم وأنيبوا إليه تعالى وأخلصوا له عز وجل .
وأجاب بعض الجماعة بمنع وجوب حمل الإطلاق على التقييد في كلام واحد نحو أكرم الفضلاء أكرم الكاملين فضلاً عن كلام لا يسلم كونه في حكم كلام واحد وحينئذٍ لا يكون المعطوف شرطاً للمعطوف عليه إذ ليس من تتمته ، وقيل إن الأمر بالتوبة والإخلاص لا يخل بالإطلاق إذ ليس المدعي أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن الأمر بهما وتنافي الوعيد بالعذاب .
وقال بعض أجلة المدققين : إن قوله تعالى : { قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ } [ الزمر : 53 ] خطاب للكافرين والعاصين وإن كان المقصود الأولى الكفار لمكان القرب وسبب النزول ، فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : إن أهل مكة قالوا : يزعم محمد صلى الله عليه وسلم أنه من عبد الأوثان ودعا مع الله تعالى إلهاً آخر وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله تعالى : { قُلْ ياأهل * عِبَادِى * الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] الخ .
وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد . ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول : لا يقبل الله تعالى من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً أقوام أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه فنزلت هؤلاء الآيات وكان عمر رضي الله تعالى عنه كاتباً فكتبها بيده ثم كتب بها إلى عياش وإلى الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا .(1/58)
وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال : نزلت هذه الآيات الثلاث { قُلْ يا عِبَادِى * إلى * وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [ الزمر : 53-55 ] بالمدينة في وحشي وأصحابه وتخلل قوله تعالى : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] بين المعطوفين تعليلاً للجزء الأول قبل الوصول إلى الثاني للدلالة على سعة رحمته تعالى وأن مثله حقيق بأن يرجى وإن عظم الذنب لا سيما وقد عقب بقوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ } الآية الدال على انحصار الغفران والرحمة على الوجه الأبلغ فالوجه أن يجري على عمومه ليناسب عموم الصدر ولا يقيد بالتوبة لئلا ينافي غرض التخلل مع أنه جمع محلي باللام ، وقد أكد بما صار نصاً في الاستغراق ، ولا يغني المعتزلي أن القرآن العظيم كالكلام الواحد وأنه سليم من التناقض بل يضره ، وكذلك ما ذكر من أسباب النزول انتهى ، وقد تضمن الإشارة إلى بعض مؤكدات الإطلاق التي حكيناها آنفاً ، والذي يترجح في نظري ما اختاره من عموم الخطاب في { فِى عِبَادِى } للعاصين والكافرين ، وأمر الإضافة سهل ، وإن قوله تعالى : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } مقيد بلمن يشاء بقرينة التصريح به في قراءة عبد الله هنا ، وكون الأمور كلها معلقة بالمشيئة ولا نسلم أن متعلق المشيئة التائب وحده ، وكونها تابعة للحكمة على تقدير صحته لا ينفع إذ دون إثبات كون المغفرة لغير التائب منافية للحكمة خرط القتاد .
نعم لا تتعلق بالمشرك ما لم يؤمن لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } فمغفرة الشرك مشروطة بالإيمان فالمشرك داخل فيمن يشاء لكن بالشرط المعروف ، واعتبار الشرط فيه لا يضر في عدم اعتبار شرط التوبة في العاصي بما دونه .
ويشهد لذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده . وابن جرير . وابن أبي حاتم . وابن مردويه . والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى آخر الآية فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال : الا ومن أشرك ثلاث مرات " لا يقال المغفرة لمن أشرك بشرط الإسلام أمر واضح فلا يجوز أن تخفى على السائل وعليه عليه الصلاة والسلام حتى يسكت لانتظار الوحي أو الاجتهاد لأنا نقول : السؤال للاستبعاد من حيث العادة والسكوت لتعليم سلوك طريق التأني والتدبر وإن كان الأمر واضحاً .
وقيل : الظاهر أنه لانتظار الإذن أو الاجتهاد في التصريح بعموم المغفرة فإنهم ربما اتكلوا على ذلك فيخشى التفريط في العمل وهو لا ينافي التعليم فإنه عليه الصلاة والسلام إنما يعلمهم التدبر بعد أن يتدبر هو في نفسه صلى الله عليه وسلم . وزعم أن الحديث دال على اشتراط التوبة ليس بشيء ، ويؤيد إطلاق المغفرة عن قيد التوبة ما أخرجه الإمام أحمد . وعبد بن حميد . وأبو داود . والترمذي . وحسنه . وابن المنذر . وابن الأنباري في المصاحف . والحاكم . وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد قالت : «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم» فإنه ليس للا يبالي كثير حسن إن كانت المغفرة مشروطة بالتوبة كما لا يخفى ، وكذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن سيرين قال : قال علي كرم الله تعالى وجهه أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن
{ مَن يَعْمَلُ * سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] الآية ونحوها فقال علي كرم الله تعالى وجهه : ما في القرآن أوسع آية من { قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 35 ] الآية .
والمؤكدات السابقة أعني السبعة عشر لا يخلو بعضها عن بحث ، والظاهر أن مغفرة ذنب لا تجامع العذاب عليه أصلاً ، وذهب بعضهم إلى أنها تجامعه إذا كان انقض من الذنب لا إذا كان بمقداره فمن عذب بمقدار ذنبه في النار ، وأخرج منها لا يقال إنه غفر له إذ السيئات إنما تجزى بأمثالها ، وقيل : تجامعه مطلقاً وكون السيئات لا تجزى إلا بأمثالها بلطفه تعالى أيضاً فهو نوع من عفوه عز وجل وفيه ما فيه فتأمل ، وأصل الإنابة الرجوع .(1/59)
ومعنى { وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ } [ الزمر : 45 ] الخ أي ارجعوا إليه سبحانه بالإعراض عن معاصيه والندم عليها ، وقيل : بالانقطاع إليه تعالى بالعبادة وذكر الرب كالتنبيه على العلة ، وقال القشيري : الإنابة الرجوع بالكلية ، والفرق بين الإنابة والتوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة والمنيب يرجع استحياء لكرمه تعالى ، والإسلام له سبحانه الإخلاص في طاعاته عز وجل ، وذكر أن الإخلاص بعد الإنابة أن يعلم العبد أن نجاته بفضل الله تعالى لا بإنابته فبفضله سبحانه وصل إلى إنابته لا بإنابته وصل إلى فضله جل فضله . وعن ابن عباس من حديث أخرجه ابن جرير . وابن المنذر عنه «من آيس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله تعالى ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله تعالى عليه»
=============
أن يكونوا جندا للرحمن :
قال تعالى في سورة الصافات ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ {171} إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ {172} وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ {173}(
والوعد واقع وكلمة الله قائمة . ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض ; وقام بناء الإيمان , على الرغم من جميع العوائق , وعلى الرغم من تكذيب المكذبين , وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين . ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار . وذهبت سطوتهم ودولتهم ; وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل . تسيطر على قلوب الناس وعقولهم , وتكيف تصوراتهم وأفهامهم . وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض . وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل , وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل . باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعث منها . وحقت كلمة الله لعباده المرسلين . إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون .
هذه بصفة عامة . وهي ظاهرة ملحوظة . في جميع بقاع الأرض . في جميع العصور .
وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله . يخلص فيها الجند , ويتجرد لها الدعاة . إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق , وقامت في طريقها العراقيل . ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار , وقوى الدعاية والافتراء , وقوى الحرب والمقاومة , وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها . ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله . والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه . الوعد بالنصر والغلبة والتمكين .
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية . سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة ; وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان ; وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء . .
ولكنها مرهونة بتقدير الله , يحققها حين يشاء . ولقد تبطىء آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة . ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة , ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين !
ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله . ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى . فيكون ما يريده الله . ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون . .
ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة ; وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة . وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام . وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام
ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك , وتدور عليهم الدائرة , ويقسو عليهم الابتلاء ; لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر . ولأن الله يهيىء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع , وفي خط أطول , وفي أثر أدوم .
لقد سبقت كلمة الله , ومضت إرادته بوعده , وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد:
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) .
وفي مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - (ج 2 / ص 178)
حقيقة الجهاد وأطواره
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس بالجامعة
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعهد بنصرة أوليائه وفي ذلك يقول: } وإنّ جندنا لهم الغالبون { , وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله القائل: "إن الجنة تحت ضلال السيوف", صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وصحبه الموصوفين في محكم الكتاب بأنهم } أشداءُ على الكفار رُحماءُ بينهم { , سلكنا الله وإياكم في حزبهم, وهدانا لسلوك دربهم وسبيلهم أما بعد:(1/60)
فإن فريضة من فرائض الإسلام لم تتعرض لما تعرض له الجهاد من طعن أعداء الإسلام فيه، والتشويش عليه، وجعل ذلك سبيلاً للوصول إلى غمز الدين كله، حتى صاروا يوهمون الجاهلين بأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، وأنه لو كان حقاً من عند الله لاعتمد على الحجة والبرهان، لا على السيف والسنان، ولم يقف أعداء الإسلام عند ذلك فحسب، بل استطاعوا أن يوجدوا من أبناء المسلمين من يحمل راية الحرب على الجهاد, إما بإبطاله أصلاً, كما فعل الملحد الضال غلام أحمد القادياني والقاديانيون، فقد بذل هذا المارق كل جهده في محاربة فريضة الجهاد في الإسلام، فبعد أن أعلن عام (1902م) أنه نبي مرسل, وأصدر رسالة سماها (تحفة الندوة) قال فيها: "فكلما ذكرت مراراً أن هذا الكلام الذي أتلوه هو كلام الله بطريق القطع واليقين كالقرآن والتوراة، وأنا نبي ظلي وبروزي من أنبياء الله، وتجب على كل مسلم إطاعتي في الأمور الدينية, ويجب على كل مسلم أن يؤمن بأني المسيح الموعود, وكل من بلغته دعوتي فلم يحكمني, ولم يؤمن بأني المسيح الموعود, ولم يؤمن بأن الوحي الذي ينزل عليّ من الله, مسئولٌ ومحاسبٌ في السماء -وإن كان مسلماً-؛ لأنه قد رفض الأمر الذي وجب عليه"، ثم يقول: "وقد شهد لي القرآن وشهد لي الرسول وقد عين الأنبياء زمان بعثتي.."، ثم ادعى أنه نسخ الجهاد الذي شرع الإسلام, وأن الواجب على كل مسلم أن يسالم الإنجليز، وألف لذلك كتاباً سماه (ترياق القلوب) يقول في (ص: 15) منه: "لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها, وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولى الأمر الإنجليز من الكتب والإعلانات والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة، وقد نشرت جميع هذه الكتب في البلاد العربية ومصر والشام وتركيا، وكان هدفي دائماً أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة, وتمحى من قلوبهم قصص المهدي السفاك، والمسيح السفاح, والأحكام التي تبعث فيهم عاطفة الجهاد, وتفسد قلوب الحمقى".
ويقول في رسالة قدمها إلى نائب حاكم المقاطعة: "لقد ظللت منذ حداثة سني وقد ناهزت اليوم الستين أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية, والنصح لها, والعطف عليها, وألغي فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهالهم, والتي تمنعهم من الإخلاص لهذه الحكومة". وقد بذلت الحكومة الإنجليزية كل مستطاع لإنجاح هذه الدعوة, وأغدقت على دعاتها الأموال الطائلة والمناصب الرفيعة.
ولم يقف أعداء الإسلام في محاربة دعوة الجهاد إلى هذا الحد، بل صاروا يساعدون على نشر أفكار أخرى, منها أن الجهاد في الإسلام ليس من أجل الإسلام، وإنما هو لمجرد الدفاع عن النفس فقط، وقد لقيت هذه الفكرة نجاحاً في أوساط المثقفين من المسلمين بالثقافة الأجنبية حتى رسخت في قلوب عامة المفكرين تقريباً في هذا العصر الحاضر، فصاروا دعاة لها، ونسي هؤلاء أو تناسوا أن الدفاع أمر طبيعي لا ديني، فالحيوانات بل حتى الجمادات والنباتات قد خلقت في الكثير منها خاصية الدفاع ضد أعدائها كما هو معروف في علم النبات، وعلم الحيوان، وسنحاول هنا الإشارة إلى طبيعة الجهاد عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم الذين يحملون الراية ضد الجهاد في الإسلام, ويشيعون ويذيعون أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف, ناسين أو متناسين أو جاهلين ما عندهم في التوراة والإنجيل ، وناسين أو متناسين أو جاهلين كذلك أن جنوب شرق آسيا يعيش فيه الآن أكثر من مائة وخمسين مليون من المسلمين, منهم حوالي مائة مليون في أندونيسيالم يذهب إليهم جندي واحد من جيش المسلمين، بل دخلوا في دين الله أفواجاً من تلقاء أنفسهم لما ظهر لهم أنه الدين القيم، كما سنحاول كذلك الإشارة إلى أطوار الجهاد في الإسلام، إن شاء الله.
تعريف الجهاد:
الجهاد في لغة العرب معناه المشقة، يقال: جهدت أي بلغت المشقة.
أما تعريفه شرعاً فهو بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق قال الحافظ في الفتح: "فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها ثم على تعليمها, وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات, وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب, وأما مجاهدة الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب، وأعلى أنواع الجهاد هو الجهاد بالنفس على حد قول الشاعر:
يجود بالنفس أن ظن البخيل به والجود بالنفس أسمى غاية الجود
تاريخه:(1/61)
والجهاد مشروع في الأصل في جميع الديانات السماوية، يشير إلى ذلك قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
وكذلك قوله عز وجل في شأن موسى صلى الله عليه وسلم: } يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ, قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ, قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ, قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ, قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} .
وكقوله عز وجل: } فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ { .
طبيعة الجهاد في الأديان السابقة:
وكان الجهاد في الأديان السابقة يتسم بالعنف على العدو، فيوجب تحريق بلده وإبادته وقتل النساء والأطفال والشيوخ المسنين، ولا يبيح الأسرى إلا لأمد قصير، وإليكم نصوصاً من التوراة والإنجيل أو بتعبير آخر: من العهد القديم والعهد الجديد.
ففي سفر يشوع (الإصحاح السادس) بعد أن ذكر قصة محاصرة يشوع وبني إسرائيل لأريحا, وتواعدهم أن يهجموا على المدينة عند الهتاف وضرب الأبواق، جاء فيه: "20 فهتف الشعب وضربوا الأبواق, وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن الشعب هتف هتافاً عظيماً فسقط السور في مكانه, وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه, وأخذوا المدينة. 21 وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف".
ثم يقول السفر:"24 وأحرقوا المدينة بالنار مع كل مابها: إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب يسوع".
وفي الإصحاح الثامن من يشوع في قصة حربهم لمملكة عاي بعد أريحا يقول:"1 فقال الرب ليشوع: لا تخف ولا ترتعب خذ معك جميع رجال الحرب وقم أصعد إلى عاي, انظر قد دفعت بيدك ملك عاي وشعبه ومدينته وأرضه 2 فتفعل بعاي وملكها كما فعلت بأريحا وملكها".(1/62)
ثم يقول في الفقرة 8 "ويكون عند أخذكم المدينة تضرمون المدينة بالنار، كقول الرب تفعلون, انظروا قد أوصيتكم". ثم يقول: "21 ولما رأى يشوع وجميع إسرائيل أن الكمين قد أخذ المدينة وأن دخان المدينة قد صعد انثنوا وضربوا رجال عاي 22 وهؤلاء خرجوا من المدينة للقائهم فكانوا في وسط اسرائيل, هؤلاء من هنا وأولئك من هناك, وضربوهم حتى لم يبق منهم شارد ولا منفلت. 23و اما ملك عاي فأمسكوه حيا وتقدموا به إلى يشوع 24 وكان لما انتهى إسرائيل من قتل جميع سكان عاي في الحقل في البرية حيث لحتوهم وسقطوا جميعا بحد السيف حتى فنوا أن جميع إسرائيل رجع إلى عاي وضربوها بحد السيف 25 فكان جميع الذين سقطوا في ذلك اليوم من رجال ونساء اثنى عشر ألفاً جميع أهل عاي". ثم يقول "28 وأحرق يشوع عاي وجعلها تلاًّ أبديا خرابا إلى هذا اليوم. 29وملك عاي علقه على الخشبة إلى وقت المساء, وعند غروب الشمس أمر يشوع فأنزلوا جثته عن الخشبة وطرحوها عند مدخل باب المدينة وأقاموا عليها رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم". هذه بعض نصوص العهد القديم.
أما العهد الجديد فبالرغم من أن النصارى يزعمون أنهم دعاة سلام وانهم في سلامهم مستمسكون بالإنجيل الذي يقول : "من ضربك على خدك الأيمن أًدِرْ له خدك الأيسر", فبالرغم من هذه الدعوة التي لا يعرفون تطبيقها عندما يحتلون بعض البلاد أقول: وبالرغم من ذلك فقد جاء في إنجيل متى في الإصحاح العاشر منه:" 34 لا تظنوا أني جئت ألقي سلاما على الأرض, ما جئت لألقي سلاما بل سيفا. 35 فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه, والإبنة ضد أمها, والكنة ضد حماتها. 36 واعداء الإنسان أهل بيته. 37 من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني, ومن أحب إبنا أو إبنة أكثر مني فلا يستحقني".
وبهذه النصوص يتبين أن غيرنا من المنتسبين للأديان السماوية كانوا في باب السيف أغلظ منا سلوكا, وأشد مناشدة, وليس مثلهم- وهذه نصوصهم- أقول: ليس مثلهم هو الذي يليق به أن يتهم دين الإسلام, فإن عليهم ينطبق قول القائل: "رمتني بدائها وانسلت", مع أن ما ذكرنا من نصوص كتبهم قد يؤيده القرآن في مثل قوله تعالى مشيرا إلى الأديان السماوية السابقة: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض} .
أما الذين لا ينتسبون إلى دين سماوي كالشيوعيين وأشباههم فإنهم لا يتورعون عن قتال أوليائهم وأهل مذهبهم, فضلا عن أعدائهم إذا اشتموا منهم ريحا إنفصالية عنهم, كما فعل الروس وحلفاء (وارسو) في تشيكوسلوفاكيا .
الجهاد في الإسلام:(1/63)
بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله أربعون سنة وستة أشهر وثمانية أيام كما قيل, فمكث بمكة يدعو إلى الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة, ويلقى من عنت قريش وأذاهم له ولأصحابه الشيء الكثير, وهم صابرون محتسبون, كلما اشتد بهم الاذى ونزل بهم الكرب من أعدائهم صبرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستمعوا أو تلوا نحو قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فيهون عليهم ما يلقون في جنب الله, وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوافي الموسم كل عام, ويتبع الحجاج في منازلهم, وياتي عكاظ وغيرها من أسواق العرب يدعوا إلى الله عز وجل, حتى وفق الله جماعة من الخزرج كانوا يسمعون من حلفائهم يهود يثرب أن نبيا يبعث في هذا الزمان فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد, فلما رأى هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا الناس إلى الله, وتأملوا أحواله, قال بعضهم لبعض: "تعلمون والله ياقوم أن هذا الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه", فاجتمعوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلموا وكانوا ستة, ثم رجعوا إلى المدينة ودعوا فيها إلى الإسلام فانتشر الإسلام فيها بين الاوس والخزرج, ثم حج من العام الذي يليه اثنا عشر رجلا, منهماثنان من الاوس, والباقي من الخزرج, فاجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه بيعة العقبة الأولى, ثم جاءه في العام الذي يليه أكثر من سبعين شخصا من المدينة, فاجتمعوا به عند العقبة كذلك, وبايعوه على ان يمنعوه مما يمنعون نسائهم وأبنائهم وكانوا سبعين رجلا وامرأتين. ولما علم أهل مكة باجتماع رسول الله صلى الله عليه وسلم باهل المدينة خافوا أن ينتقل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعزموا على قتله, واجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمره على ما حكى الله تبارك وتعالى في ذلك حبث يقول: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} . أمره الله تبارك وتعالى بالهجرة إلى المدينة, ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة, وأيده الله بنصره, وألّف بين قلوبهم بعد العداوة ومنعته أنصار الله من الأسود والأحمر رَمَتْهُم العرب واليهود عن قوس واحدة, وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة. والله يامر رسوله والمؤمنين بالكف والصبر والعفو حتى قويت شوكة المؤمنين وأصبحوا كما قال قيس صرمة رضي الله عنه :
ثوى في قريش بضع عشر حجة
يذكر لو يلقى حبيب مواتيا
و يعرض في أهل المواسم نفسه
فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما آتانا واستقر به النوى
و أصبح مسروراً بطيبة راضيا
و أصبح لا يخشى ظلامة ظالم
بعيد ولا يخشى من الناس باغيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا
و أنفسنا عند الوغى والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم
جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
و نعلم أن الله لا رب غيره
و أن كتاب الله أصبح هاديا
وكما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
قومي هم الذين آووا نبيهم
و صدقوه وأهل الأرض كفار
إلا خصائص أقوام هموا تبع
في الصالحين مع الأنصار أنصار
مستبشرين بقسم الله قولهموا
لما أتاهم كريم الأصل مختار
أهلا وسهلا ففي أمن وفي سعة
نعم النبي ونعم القسم والجار
فأنزلوه بدار لا يخاف بها
من كان جارهموا, دار هي الدار
و قاسموه بها الاموال إذ قدموا
مهاجرين وقسم الجاحد النار
أطوار الجهاد ومراحله:(1/64)
حرّم الله على المسلمين القتال طيلة العهد المكي, ونزل النهي عنه في أكثر من سبعين آية في كتاب الله عز وجل بمكة, وكانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب ومشجوج فيقول لهم: "اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال" حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقويت شوكة المسلمين, واشتد جناحهم أذن الله لهم في القتال ولم يفرضه لهم فرضا إذ يقول عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ, الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ, الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} , قال بن عباس رضي الله عنه ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة ومقاتل بن حيان : "هذه أول آية نزلت في الجهاد", وقد علّل الله تبارك وتعالى هذا الإذن بأنهم ظُلِموا فلم يكن لهم ذنب يقاتلون عليه فيما بينهم وبين الناس إلا أنهم يعبدون الله عز وجل, وهذا هو الطور الثاني من أطوار الجهاد إذ كان الطور الأول هو تحريمه, وكان هذا الطور الثاني هو الإذن فيه دون الإلزام به.
الطور الثالث من أطوار الجهاد :
وكان الطور الثالث من أطوار الجهاد هو إيجابه لقتال مَن قاتل المسلمين دون من كفّ عنهم بقوله عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ونحوها من الآيات, وأمّا قوله تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} , فإنّ جماعة من أهل العلم جعلوها من أدلة هذا الطور من أطوار الجهاد, وهو أن يكون فرضاً لدفاع فقط فلا يقاتل إلا من قاتل فعلا واعتدى على المسلمين ولكن بعض أهل العلم يرى أنها ليست كذلك بل يفسر قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} يعني قاتلوا من من شأنه قتالكم كالرجال الأقوياء المقاتلين أما النساء والصبيان والشيوخ المسنون ونحوهم فإنهم لا يقاتلونهم لأنهم ليسوا من أهل القتال ورغب الإسلام في هذا الطور في الجهاد حتى جعله ذروة سنان الإسلام. وفي هذا الطور ارتفعت راية الإسلام عالية في جزيرة العرب, وألقى الله الرعب في قلوب الكفار, ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر, وتحقق قول القائل :
دعا المصطفى بمكة دهراً لم يجب
و قد لان منه جانب وخطاب
فلمّا دعا والسيف صلت بكفه
له أسلموا واستسلموا وأنابوا
وساق الله تعالى ناسا إلى الجنة بالسلاسل, ونفع الله كثيرا من الخلق رغم أنوفهم على حد قوله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فإنّ العقلاء ينفع فيهم البيان, وأما الجاهلون فدواؤهم السيف والسنان على حد قول الشاعر :
فما هو إلا الوحي أوحد مرهف
تزيل ظباه أخدعى كل مائل
فهذا دواء الداء من كل عاقل
وهذا دواء الداء من كل جاهل
الطور الرابع من أطوار الجهاد :(1/65)
ثم فرض الله الجهاد لقتال المشركين كافة مع البدء بالأقربين دارا وفي ذلك يقول: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} , وقال عز وجل: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} , وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} . وقال عزّ من قائل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} , وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله, فإن قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها", وقال صلى الله عليه وسلم: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة", وأنذر الله تبارك وتعالى من ترك الجهاد بأنه يلقي نفسه إلى التهلكة حيث قال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} , فقد روى أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: "حمل رجلٌ من المهاجرين
بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه, ومعنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال ناس : "ألقى بيده إلى التهلكة", فقال أبو أيوب : "نحن أعلم بهذه الآية, إنّما نزلت فينا : صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشهدنا معه المشاهد, ونصرناه فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحبباً فقلنا : قد أكرمنا بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإسلام, وكثر أهله, وكنّا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد, وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما فنزل فينا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} , فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال, وترك الجهاد".(1/66)
وكانت فريضة الله في الجهاد ألاّ يفر مؤمن من عشرة كفار حيث بقول الله عزّوجل : {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} , ثم خفّف الله عن المسلمين, وفرض عليهم ألاَّ يفرَّ مؤمن من كافِرَيْنِ, وفي ذلك يقول: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . على أنَّ الإسلام جعل الفرار يوم الزحف من الموبقات فقد روى البجاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات؟ قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله, والسحر, وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, والتولِّي يوم الزحف, وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". وقد استثنى الله عزّوجل أهل الكتاب؛ فمنع قتالهم إن أدّوا الجزية عن يد وهم صاغرون, كما أمر رسور الله صلى الله عليه وسلم بقبول الجزية من مجوس هجر مع بقائهم على دينهم كذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتال النساء والصبيان, حتى قال مالك والأوزاعي - رحمهما الله -: "لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال حتى لو تترس أهل الحرب بهم". غير أن أكثر أهل العلم يقولون :"إن قاتل واحد من هؤلاء أو تترس به الكفار جاز قتله". وأكثر أهل العلم يفسّرون قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يفسرون قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} : يعني اليهود والتصارى إن أدَّوْا الجزية, وقالوا: إنّ سبب نزولها أن جماعة من الأنصار كان لهم أبناء من يهوديات فأرادوا إكراههم على الدخول في دين الإسلام فأنزل الله هذه الآية. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وقد ذهب طائفة من أهل العلم أن هذه الآية محمولة على أهل الكتاب", ثم قال: "وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال, وعلى هذا فالآية إما محكمة محمولة على أهل الكتاب أو هي عامة لكنها منسوخة بآية السيف".
وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أنّ السيف من دين النبيين جميعا حيث يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} , كما أشار إلى أن تهيئة المسلمين للقتال وإعدادهم للجهاد من أعظم ما يمكّن لهم في الأرض حيث يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ } . وقد أجمل الله تبارك وتعالى ثمرة الجهاد في قوله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ؛ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ, وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .
================
جماعة ربانية
"إنّ من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى, قالوا: "يا رسول الله تخبرنا من هم ؟ قال : هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا أموال يتعاطَوْنها, فوالله إنّ وجوههم لنور, وإنّهم لعلى نور, لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس" . أبوداود.
بذل الجهد الكامل لإصلاح الكفار وهدايتهم واليأس من إصلاحهم
قال تعالى في سورة يوسف ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ {110} (
وفي الظلال :(1/67)
والوعد واقع وكلمة الله قائمة . ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض ؛ وقام بناء الإيمان ، على الرغم من جميع العوائق ، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين ، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين . ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار . وذهبت سطوتهم ودولتهم ؛ وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل . تسيطر على قلوب الناس وعقولهم ، وتكيف تصوراتهم وأفهامهم . وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض . وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل ، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل . باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعث منها . وحقت كلمة الله لعباده المرسلين . إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون .
هذه بصفة عامة . وهي ظاهرة ملحوظة . في جميع بقاع الأرض . في جميع العصور .
وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله . يخلص فيها الجند ، ويتجرد لها الدعاة . إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل . ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار ، وقوى الدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة ، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها . ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله . والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه . الوعد بالنصر والغلبة والتمكين .
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية . سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة ؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان ؛ وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء . . ولكنها مرهونة بتقدير الله ، يحققها حين يشاء . ولقد تبطىء آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة . ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة ، ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين !
ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله . ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى . فيكون ما يريده الله . ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون . .
ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة ؛ وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة . وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام . وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام .
ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك ، وتدور عليهم الدائرة ، ويقسو عليهم الابتلاء ؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر . ولأن الله يهيىء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع ، وفي خط أطول ، وفي أثر أدوم .
لقد سبقت كلمة الله ، ومضت إرادته بوعده ، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون .
==============
الصبر على أذى الكفار والفجار
قال تعالى في سورة الأنعام ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ {34} (
كلمات يقولها الله - سبحانه - لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] . . كلمات للذكرى ، وللتسرية وللمواساة ، والتأسية . .
وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] طريقهم واضحا ، ودورهم محددا ، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته ، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق . . .
إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة . كما انها كذلك وحدة . وحدة لا تتجزأ . .
دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب ، وتتلقى أصحابها بالأذى . .
وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى . .
وسنة تجري بالنصر في النهاية . . ولكنها تجيء في موعدها . لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب ، ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين فنزلت: ذرني ومن خلقت وحيدا . .
حتى بلغ: عليها تسعة عشر .
وفي رواية أخرى أن قريشا قالت: لئن صبأ الوليد لتصبون قريش كلها ! فقال أبو جهل:أنا أكفيكموه ! ثم دخل عليه . .
وأنه قال - بعد التفكير الطويل - إنه سحر يؤثر . أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه .(1/68)
فهذه الروايات كلها تبين أن هؤلاء المكذبين لم يكونوا يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكذبهم فيما يبلغه لهم . وإنما هم كانوا مصرين على شركهم لمثل هذه الأسباب التي وردت بها الروايات ، وما وراءها من السبب الرئيسي ، وهو ما يتوقعونه من وراء هذه الدعوة من سلب السلطان المغتصب ، الذي يزاولونه ، وهو سلطان الله وحده . كما هو مدلول شهادة أن لا إله إله إلا الله التي يقوم عليها الإسلام . وهم كانوا يعرفون جيدا مدلولات لغتهم ؛ وكانوا لا يريدون أن يسلموا بمدلول هذه الشهادة . وهو إنما يمثل ثورة كاملة على كل سلطان غير سلطان الله في حياة العباد . . وصدق الله العظيم:
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك ، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون . .
والظالمون في هذا الموضع هم المشركون . كما يغلب في التعبير القرآني الكريم .
ويستطرد من تطييب خاطر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته ، ومن آيات الله الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به . .
يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله - وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن - ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق ، حتى جاءهم نصر الله . ليقرر أن هذه هي سنة الدعوات التي لا تتبدل ، ولا يغير منها اقتراحات المقترحين ، كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق:
ولقد كذبت رسل من قبلك ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ، ولا مبدل لكلمات الله ، ولقد جاءك من نبأ المرسلين . .
إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم ، ضارب في شعاب الزمن ، ماض في الطريق اللاحب ، ماض في الخط الواصب . .
مستقيم الخطي ، ثابت الأقدام . يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل ، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون ، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة ، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء . .
والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد . .
والعاقبة هي العاقبة ، مهما طال الزمن ومهما طال الطريق . .
إن نصر الله دائما في نهاية الطريق:
ولقد كذبت رسل من قبلك ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ، ولا مبدل لكلمات الله ، ولقد جاءك من نبأ المرسلين . .
كلمات يقولها الله - سبحانه - لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] . . كلمات للذكرى ، وللتسرية وللمواساة ، والتأسية . .
وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] طريقهم واضحا ، ودورهم محددا ، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته ، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق . . .
إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة . كما انها كذلك وحدة . وحدة لا تتجزأ . .
دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب ، وتتلقى أصحابها بالأذى . .
وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى . .
وسنة تجري بالنصر في النهاية . . ولكنها تجيء في موعدها . لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب ، ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين الأبرياء الطيبين !
ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حبا في هدايتهم ، ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة ، وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والأخرة . .
لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله . فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه . ولا مبدل لكلماته . سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم ، أم تعلقت بالأجل المرسوم .
، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف . . فأعلم ذلك ولا تكن مما يجهلونه
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
فَصْل في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا } الآية [ يوسف : 110 ] قراءتان في هذه الآية : بالتخفيف والتثقيل . وكانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ تقرأ بالتثقيل وتنكر التخفيف، كما في الصحيح عن الزهري قال : أخبرني عروة عن عائشة، قالت له ـ وهو يسألها عن قوله : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } مخففة قالت : معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها . قلت : فما هذا النصر ـ { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } بمن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك، لعمري لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن .(1/69)
وفي الصحيح ـ أيضًا ـ عن ابن جُرَيجٍ سمعت ابن أبي مُلَيكَةَ يقول : قال ابن عباس : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } ، خفيفة ذهب بها هنالك، وتلا : { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ } [ البقرة : 214 ] ، فلقيت عروة فذكرت ذلك له، فقال : قالت عائشة : معاذ الله، والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يكون، ولكن لم يزل البلاء بالرسل، حتى ظنوا خافوا أن يكون من معهم يكذبهم فكانت تقرؤها : ( وظنوا أنهم قد كذِّبوا ) مثقلة .
فعائشة جعلت استيأس الرسل من الكفار للمكذبين، وظنهم التكذيب من المؤمنين بهم، ولكن القراءة الأخري ثابتة لا يمكن إنكارها، وقد تأولها ابن عباس، وظاهر الكلام معه، والآية التي تليها إنما فيها استبطاء النصر، وهو قولهم : { مَتَى نَصْرُ اللّهِ } ، فإن هذه كلمة تبطيء لطلب التعجيل .
وقوله : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } قد يكون مثل قوله : { إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } [ الحج : 52 ] ، والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح، كما هو في اصطلاح طائفة من أهل الكلام في العلم، ويسمون الاعتقاد المرجوح وهمًا، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ) ، وقد قال تعالى : { إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [ يونس : 36 ] .
/ فالاعتقاد المرجوح هو ظن، وهو وهم، وهذا الباب قد يكون من حديث النفس المعفو عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز لأمتى ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل ) ، وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان، كما ثبت في الصحيح أن الصحابة قالوا : يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحَّرق حتى يصير حُمَمَة، أو يخر من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به . قال : ( أو قد وجدتموه ؟ ) قالوا : نعم . قال : ( ذلك صريح الإيمان ) ، وفي حديث آخر : إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به . قال : ( الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ) .
فهذه الأمور التي هي تُعْرض ثلاثة أقسام : منها ما هو ذنب يضعف به الإيمان، وإن كان لا يزيله، واليقين في القلب له مراتب، ومنه ما هو عفو يعفي عن صاحبه، ومنه ما يكون يقترن به صريح الإيمان .
ونظير هذا : ما في الصحيح عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لَبِثْتُ في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي، ونحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال له ربه : { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] ، وقد ترك البخاري ذكر قوله : ( بالشك ) لما خاف فيها من توهم بعض الناس [ ذكر الإمام ابن تيمية أن البخاري ترك لفظة ( بالشك ) ، ولكن بالرجوع إلى صحيح البخاري وجد في أكثر من موضع إثبات لفظة ـ بالشك ] .
ومعلوم أن إبراهيم كان مؤمنًا كما أخبر الله عنه بقوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى } ولكن طلب طمأنينة قلبه . كما قال : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ، فالتفاوت بين الإيمان والاطمئنان سماه النبي صلى الله عليه وسلم شكا لذلك بإحياء الموتي، كذلك الوعد بالنصر في الدنيا يكون الشخص مؤمنًا بذلك، ولكن قد يضطرب قلبه فلا يطمئن ، فيكون فوات الاطمئنان ظنا أنه قد كذب، فالشك مظنة أنه يكون من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب، وإن كان فيها ما هو ذنب فالأنبياء ـ عليهم السلام ـ معصومون من الإقرار على ذلك، كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث .
وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم، فإنهم لابد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك، ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك، ويعلمون أنه قد ابتلي به من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن المرتاب، ويتوب المذنب ويقوي إيمان المؤمنين فبها يصح الاتساء بالأنبياء كما في قوله : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } [ الأحزاب : 21 ] .(1/70)
/ وفي القرآن من قصص المرسلين التي فيها تسلية وتثبيت؛ ليتأسي بهم في الصبر على ما كذبوا وأوذوا، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } [ الأنعام : 43 ] . . . [ بياض بالأصل ] ولنا؛ لأنه أسوة في ذلك ما هو كثير في القرآن؛ ولهذا قال : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] ، وقال : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 34 ] وقال : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } [ الأحقاف : 35 ] ، { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] .
وإذا كان الاتساء بهم مشروعا في هذا وفي هذا فمن المشروع التوبة من الذنب، والثقة بوعد الله،وإن وقع في القلب ظن من الظنون وطلب مزيد الآيات لطمأنينة القلوب، كما هو المناسب للاتساء والاقتداء دون ما كان المتبوع معصومًا مطلقًا . فيقول التابع : أنا لست من جنسه، فإنه لا يذكر الذنب، فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء، لما أتي به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة، بخلاف ما إذا قيل : إن ذلك مجبور بالتوبة، فإنه تصح معه المتابعة، كما قيل : أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم آدم أبو البشر، ومن أشبه أباه ما ظلم .
/ والله ـ تعالى ـ قص علينا قصص توبة الأنبياء لنقتدي بهم في المتاب، وأما ما ذكره ـ سبحانه ـ أن الاقتداء بهم في الأفعال التي أقروا عليها فلم ينهوا عنها، ولم يتوبوا منها، فهذا هو المشروع . فأما ما نهوا عنه وتابوا منه فليس بدون المنسوخ من أفعالهم، وإن كان ما أمروا به أبيح لهم، ثم نسخ، تنقطع فيه المتابعة، فما لم يؤمروا به أحري وأولي .
وأيضًا، فقوله : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } قد يكونوا ظنوا في الموعود به ما ليس هو فيه بطريق الاجتهاد منهم، فتبين الأمر بخلافه، فهذا جائز عليهم كما سنبينه، فإذا ظن بالموعود به ما ليس هو فيه، ثم تبين الأمر بخلافه ظن أن ذلك كذب، وكان كذبا من جهة ظن في الخبر ما لا يجب أن يكون فيه .
فأما الشك فيما يعلم أنه أخبر به فهذا لا يكون، وسنوضح ذلك ـ إن شاء الله تعالي .
ومما ينبغي أن يعلم أنه ـ سبحانه ـ ذكر هنا شيئين : أحدهما : استيئاس الرسل . والثاني : ظن أنهم كذبوا . وقد ذكرنا لفظ : ( الظن ) ،فأما لفظ : ( استيأسوا ) ، فإنه قال سبحانه : { حّتَّي " إذّا \سًتّيأّسّ برٍَسٍل } ولم يقل : يئس الرسل، ولا ذكر ما استيأسوا منه، وهذا اللفظ قد ذكره في هذه السورة : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ يوسف : 80 ] .
وقد يقال : الاستيئاس ليس هو الإياس؛ لوجوه :
أحدها : أن إخوة يوسف لم ييأسوا منه بالكلية، فإن قول كبيرهم : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } دليل على أنه يرجو أن يحكم الله له . وحكمه هنا لابد أن يتضمن تخليصنا ليوسف منهم، وإلا فحكمه له بغير ذلك لا يناسب قعوده في مصر لأجل ذلك .
وأيضا، فـ ( اليأس ) : يكون في الشيء الذي لا يكون، ولم يجئ ما يقتضي ذلك، فإنهم قالوا : { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ } [ يوسف : 78، 79 ] فامتنع من تسليمه إليهم . ومن المعلوم أن هذا لا يوجب القطع بأنه لا يسلم إليهم، فإنه يتغير عزمه ونيته، وما أكثر تقليب القلوب، وقد يتبدل الأمر بغيره حتى يصير الحكم إلى غيره، وقد يتخلص بغير اختياره، والعادات قد جرت بهذا على مثل من عنده من قال لا يعطيه، فقد /يعطيه، وقد يخرج من يده بغير اختياره، وقد يموت عنه فيخرج، والعالم مملوء من هذا .
الوجه الثاني : قال لهم يعقوب : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] فنهاهم عن اليأس من روح الله ، ولم ينههم عن الاستيئاس، وهو الذي كان منهم . وأخبر أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .(1/71)
ومن المعلوم أنهم لم يكونوا كافرين فهذا هو الوجه الثالث ـ أيضًا : وهو أنه أخبر أنه : { لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } فيمتنع أن يكون للأنبياء يأس من روح الله، وأن يقعوا في الاستيئاس بل المؤمنون ما داموا مؤمنين لا ييأسون من روح الله،وهذه السورة تضمنت ذكر المستيئسين،وأن الفرح جاءهم بعد ذلك؛ لئلا ييأس المؤمن؛ولهذا فيها : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] فذكر استيئاس الإخوة من أخي يوسف،وذكر استيئاس الرسل،يصلح أن يدخل فيه ما ذكره ابن عباس، وما ذكرته عائشة جميعًا .
الوجه الرابع : أن الاستيئاس استفعال من اليأس، والاستفعال / يقع على وجوه : يكون لطلب الفعل من الغير، فالاستخراج والاستفهام والاستعلام يكون في الأفعال المتعدية، يقال : استخرجت المال من غيري، وكذلك استفهمت، ولا يصلح هذا أن يكون معنى الاستيئاس، فإن أحدا لا يطلب اليأس ويستدعيه؛ ولأن استيأس : فعل لازم لا متعد .
ويكون الاستفعال لصيرورة المستفعل على صفة غيره ، وهذا يكون في الأفعال اللازمة كقولهم : استحجر الطين، أي : صار كالحجر . واستنوق الفحل ، أي : صار كالناقة . وأما النظر فيما استيأسوا منه ، فإن الله ـ تعإلى ـ ذكر ذلك في قصة إخوة يوسف حيث قال : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ } .
وأما الرسل فلم يذكر ما استيأسوا منه، بل أطلق وصفهم بالاستيئاس، فليس لأحد أن يقيده بأنهم استيأسوا مما وعدوا به، وأخبروا بكونه، ولا ذكر ابن عباس ذلك .
وثبت أن قوله : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } لا يدل على ظاهره، فضلا عن باطنه : أنه حصل في قلوبهم مثل تساوي الطرفين فيما أخبروا به، فإن لفظ الظن في اللغة لايقتضي ذلك، بل يسمي ظنًا ما هو من أكذب الحديث عن الظان؛ لكونه أمرا مرجوحا في نفسه . واسم / اليقين والريب والشك ونحوها يتناول علم القلب وعمله وتصديقه، وعدم تصديقه وسكينته وعدم سكينته، ليست هذه الأمور بمجرد العلم فقط، كما يحسب ذلك بعض الناس، كما نبهنا عليه في غير هذا الموضع؛إذ المقصود هنا الكلام على قوله : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } .
فإذا كان الخبر عن استيئاسهم مطلقًا، فمن المعلوم أن الله إذا وعد الرسل والمؤمنين بنصر مطلق ـ كما هو غالب إخباراته ـ لم يقيد زمانه ولا مكانه، ولا سنته، ولا صفته، فكثيرا ما يعتقد الناس في الموعود به صفات أخري لم ينزل عليها خطاب الحق، بل اعتقدوها بأسباب أخري، كما اعتقد طائفة من الصحابة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم أنهم يدخلون المسجد الحرام، ويطوفون به، أن ذلك يكون عام الحديبية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا، ورجا أن يدخل مكة ذلك العام، ويطوف ويسعي . فلما استيأسوا من دخوله مكة ذلك العام ـ لما صدهم المشركون، حتى قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم على الصلح المشهور ـ بقي في قلب بعضهم شيء، حتى قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم : ألم تخبرنا أنا ندخل البيت ونطوف ؟ قال : ( بلي . فأخبرتك أنك تدخله هذا العام ؟ ) قال : لا . قال : ( فإنك داخله ومطوف ) وكذلك قال له أبو بكر .
وكان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أكثر علمًا وإيمانًا من عمر، حتى تاب / عمر مما صدر منه، وإن كان عمر ـ رضي الله عنه ـ محدثًا كما جاء في الحديث الصحيح، أنه قال صلى الله عليه وسلم : ( قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتى أحد فعمر ) فهو ـ رضي الله عنه ـ المحدث الملهم، الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه ، ولكن مزية التصديق الذي هو أكمل متابعة للرسول، وعلمًا وإيمانًا بما جاء به، درجته فوق درجته؛ فلهذا كان الصديق أفضل الأمة، صاحب المتابعة للآثار النبوية، فهو مُعَلِّمٌ لعمر، ومُؤَدِّبٌ للمحدث منهم الذي يكون له من ربه إلهام وخطاب، كما كان أبو بكر مُعَلِّمًا لعمر ومؤدبًا له حيث قال له : فأخبرك أنك تدخله هذا العام ؟ قال : لا، قال : إنك آتيه ومطوف .
فبين له الصديق أن وعد النبي صلى الله عليه وسلم مطلق غير مقيد بوقت، وكونه سعي في ذلك العام وقصده لا يوجب أن يعني ما أخبر به؛ فإنه قد يقصد الشيء ولا يكون، بل يكون غيره، إذ ليس من شرط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كما قصده، بل من تمام نعمة ربه عليه أن يقيده عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده، كما كان صلح الحديبية أنفع للمؤمنين من دخولهم ذلك العام، بخلاف خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صادق لابد أن يقع ما أخبر به ويتحقق .
/ وكذلك ظن النبي كما قال في تأبير النخل : ( إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله فإني لن أكذب على الله ) ، فاستيئاس عمر وغيره من دخول ذلك هو استيئاس مما ظنوه موعودًا به، ولم يكن موعودًا به .(1/72)
ومثل هذا لا يمتنع على الأنبياء أن يظنوا شيئًا فيكون الأمر بخلاف ما ظنوه فقد يظنون فيما وعدوه تعيينًا وصفات ولا يكون كما ظنوه، فييأسون مما ظنوه في الوعد، لا من تعيين الوعد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( رأيت أن أبا جهل قد أسلم، فلما أسلم خالد ظنوه هو، فلما أسلم عكرمة علم أنه هو ) .
وروي مسلم في صحيحه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال : ( لو لم تفعلوا هذا لصلح ) . قال : فخرج شيصًا [ في المطبوعة : ( سبتا ) ، والمثبت من مسلم ] فمر بهم فقال : ( ما لنخلكم [ في المطبوعة : ( لفحلكم ) ، والمثبت من مسلم ] ؟ ) قالوا : قلت : كذا وكذا . قال : ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) [ والشيصُ : التمر الذي لايشتد نواه ويقوي، وقد لا يكون له نوي أصلا ] . وروي ـ أيضا ـ عن موسي بن طلحة، عن أبيه طلحة بن عبيد الله، قال : مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال : ( ما يصنع هؤلاء ؟ ) فقال : يلَقِّحُونه يجعلون الذكر في الأنثي فَتَلْقَحُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أظن يغني ذلك شيئًا ) فأخبروا بذلك فتركوه . فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ( إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنني / ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حَدَّثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله ) .
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا حدثنا بشيء عن الله أن نأخذ به فإنه لن يكذب على الله، فهو أتقانا للّه، وأعلمنا بما يتقي، وهو أحق أن يكون آخذًا بما يحدثنا عن اللّه، فإذا أخبره اللّه بوعد كان علينا أن نصدق به، وتصديقه هو به أعظم من تصديقنا، ولم يكن لنا أن نشك فيه، وهو ـ بأبي ـ أولي وأحري ألا يشك فيه، لكن قد يظن ظنًَا، كقوله : ( إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن ) ، وإن كان أخبره به مطلقًا فمستنده ظنون، كقوله ـ في حديث ذي اليدين ـ : ( ما قصرت الصلاة ولا نسيت ) .
وقد يظن الشيء ثم يبين الله الأمر على جليته، كما وقع مثل ذلك في أمور، كقوله تعالى : { إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } [ الحجرات : 6 ] ، نزلت في الوليد بن عقبة لما استعمله النبي صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم لما ظن صدقه، حتى أنزل الله هذه الآية .
وكذلك في قصة بني أبيرق التي أنزل الله فيها : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا } [ النساء : 105 ] وذلك لما جاء قوم تركوا السارق الذي كان يسرق ، وأخرجوا البريء ؛ / فظن النبي صلى الله عليه وسلم صدقهم،حتى تبين الأمر بعد ذلك . وقال في حديث قصر الصلاة : ( لم أنس ولم تقصر ) ، فقالوا : بلي قد نسيت . وكان قد نسي ، فأخبر عن موجب ظنه واعتقاده ، حتى تبين الأمر بعد ذلك . وروي عنه أنه قال : ( إني لأنسي [ في المطبوعة : ( لا أنسي ) ، والمثبت من مالك ] لأَسُنَّ ) ، وأيضًا،فقوله في القرآن : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] شامل للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته،حيث قال في صدر الآيات : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } الآيتين [ البقرة : 285 ، 286 ] .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عيسي الأنصاري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : بينا جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نَقِيضًا من فوقه، فرفع رأسه . فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح إلا اليوم، فنزل منه ملك . فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ، فَسَلَّمَ وقال : أبشر بنورين أُوتِيتَهُما لم يؤْتَهُما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة . لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته .
وفي صحيح مسلم عن آدم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } ، دخل في قلوبهم منها شيء لم يدخل مثله، فقال النبي / صلى الله عليه وسلم : ( قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا ) ، قال : فألقي الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } الآيات إلى قوله : { أَوْ أَخْطَأْنَا } ، قال : قد فعلت، إلى آخر السورة [ البقرة : 286 ] ، قال : قد فعلت .(1/73)
وفي صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } [ البقرة : 284 ] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير ) ، فلما اقتراها القوم وذلت بها ألسنتهم؛ أنزل الله عز وجل في أثرها : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } إلى قوله : { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] ، فلما فعلوا ذلك نسخها ـ سبحانه ـ فأنزل الله : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } إلى قوله : { قَبْلِنَا } [ البقرة : 286 ] قال : نعم : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : نعم . إلى آخر السورة . قال : نعم .
والذي عليه جمهور أهل الحديث والفقه أنه يجوز عليهم الخطأ في / الاجتهاد، لكن لا يقرون عليه، وإذا كان في الأمر والنهي فكيف في الخبر ؟ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنكم تختصمون إلي،ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع،فأحسب أنه صادق،فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار ) فنفس ما يعد الله به الأنبياء والمؤمنين حقًا لا يمترون فيه،كما قال تعالى في قصة نوح : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ } إلى آخر الآية [ هود : 45 ] . ومثل هذا الظن قد يكون من إلقاء الشيطان المذكور في قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } إلى قوله : { صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الحج : 52ـ 54 ] وقد تكلمنا على هذه الآية في غير هذا الموضع .
وللناس فيها قولان مشهوران؛ بعد اتفاقهم على أن التمني هو التلاوة والقرآن، كما عليه المفسرون من السلف كما في قوله : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } [ البقرة : 78 ] وأما من أَوَّل النهي على تمني القلب، فذاك فيه كلام آخر، وإن قيل : إن الآية تَعُمُّ النوعين لكن الأول هو المعروف المشهور في التفسير، وهو ظاهر القرآن ومراد الآية قطعًا؛ لقوله بعد ذلك : { فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [ الحج : 52، 53 ] . وهذا كله لا يكون في مجرد القلب إذا / لم يتكلم به النبي، لكن قد يكون في ظنه الذي يتكلم به بعضه النخل ونحوها، وهو يوافق ما ذكرناه .
وإذا كان التمني لا بد أن يدخل فيه القول ففيه قولان :
الأول : أن الإلقاء هو في سمع المستمعين ولم يتكلم به الرسول، وهذا قول من تأول الآية بمنع جواز الإلقاء في كلامه .
والثاني ـ وهو الذي عليه عامة السلف ومن اتبعهم : أن الإلقاء في نفس التلاوة، كما دلت عليه الآية وسياقها من غير وجه، كما وردت به الآثار المتعددة، ولا محذور في ذلك إلا إذا أقر عليه، فأما إذا نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته فلا محذور في ذلك، وليس هو خطأ وغلط في تبليغ الرسالة، إلا إذا أقر عليه .
ولا ريب أنه معصوم في تبليغ الرسالة أن يقر على خطأ، كما قال : ( فإذا حدثتكم عن الله بشيء فخذوا به، فإني لن أكذب على الله ) ، ولولا ذلك لما قامت الحجة به،فإن كونه رسول الله يقتضي أنه صادق فيما يخبر به عن الله،والصدق يتضمن نفي الكذب ونفي الخطأ فيه . فلو جاز عليه الخطأ فيما يخبر به عن الله وأقر عليه لم يكن كل ما يخبر به عن الله .
والذين منعوا أن يقع الإلقاء في تبليغه فروا من هذا، وقصدوا / خيرًا، وأحسنوا في ذلك، لكن يقال لهم : ألقي ثم أحكم، فلا محذور في ذلك . فإن هذا يشبه النسخ لمن بلغه الأمر والنهي من بعض الوجوه، فإنه إذًا موقن مصدق برفع قول سبق لسانه به ليس أعظم من إخباره برفعه .
ولهذا قال في النسخ : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ } [ البقرة : 143 ] ، فظنهم أنهم قد كذبوا هو يتبع ما يظنونه من معنى الوعد، وهذا جائز لا محذور فيه، إذا لم يقروا عليه . وهذا وجه حسن،وهو موافق لظاهر الآية ولسائر الأصول من الآيات والأحاديث، والذي يحقق ذلك أن باب الوعد والوعيد ليس بأعظم من باب الأمر والنهي .(1/74)
فإذا كان من الجائز في باب الأمر والنهي أن يظنوا شيئًا، ثم يتبين الأمر لهم بخلافه، فلأن يجوز ذلك في باب الوعد والوعيد بطريق الأولي والأحري، حتى إن باب الأمر والنهي إذا تمسكوا فيه بالاستصحاب، لم يقع في ذلك ظن خلاف ما هو عليه الأمر في نفسه، فإن الوجوب والتحريم الذي لا يثبت إلا بخطاب إذا نفوه قبل الخطاب، كان ذلك اعتقادًا مطابقًا للأمر في نفسه، وباب الوعد إذا لم يخبروا به قد يظنون انتفاءه، كما ظن الخليل جواز المغفرة لأبيه حتى استغفر له، ونهينا عن الاقتداء . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب : ( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) ، وحتى استأذن ربه في الاستغفار لأمه فلم يؤذن له / في ذلك،وحتى صلى على المنافقين قبل أن ينهي عن ذلك وكان يرجو لهم المغفرة، حتى أنزل الله ـ عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } إلى قوله : { لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 113،114 ] ، وقال عن المنافقين : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا } الآية [ التوبة : 84 ] ، وقال : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [ المنافقون : 6 ] فإذا كان صلى على المنافقين واستغفر لهم راجيا أن يغفر لهم قبل أن يعلم ذلك .
ولهذا سوغ العلماء أن يروي في باب الوعد والوعيد من الأحاديث ما لم يعلم أنه كذب، وإن كان ضعيف الإسناد، بخلاف باب الأمر والنهي فإنه لا يؤخذ فيه إلا بما يثبت أنه صدق؛ لأن باب الوعد والوعيد إذا أمكن أن يكون الخبر صدقا وأمكن أن يوجد الخبر كذبا لم يجز نفيه، لا سيما بلا علم، كما لم يجز الجزم بثبوته بلا علم، إذ لا محذور فيه . منابت الناس اللفظ تعيين الوعد والوعيد، فلا يجوز منع ذلك بمنع الحديث إذا أمكن أن يكون صدقا؛ لأن في ذلك إبطال لما هو حق، وذلك لا يجوز .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حدثوا عن بني إسرائيل / ولا حرج ) ، وهذا الباب وهو : ( باب الوعد والوعيد ) ، هو في الكتاب بأسماء مطلقة للمؤمنين، والصابرين، والمجاهدين، والمحسنين، فما أكثر من يظن من الناس أنه من أهل الوعد، ويكون اللفظ في ظنه أنه متصف بما يدخل في الوعد لا في اعتقاد صدق الوعد في نفسه .
وهذا كقوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] ، وقوله : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } الآيتين [ الصافات : 171،172 ] ، فقد يظن الإنسان في نفسه أو غيره كمال الإيمان المستحق للنصر، وإن جند الله الغالبون، ويكون الأمر بخلاف ذلك .
وقد يقع من النصر الموعود به ما لا يظن أنه من الموعود به ، فالظن المخطئ، فهم ذلك كثير جدا أكثر من باب الأمر والنهي مع كثرة ما وقع من الغلط في ذلك، وهذا مما لا يحصر الغلط فيه إلا الله ـ تعإلى ـ وهذا عام لجميع الآدميين، لكن الأنبياء ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ لا يقرون، بل يتبين لهم، وغير الأنبياء قد لا يتبين له ذلك في الدنيا .
ولهذا كثر في القرآن ما يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتصديق الوعد / والإيمان، وما يحتاج إليه ذلك من الصبر إلى أن يجيء الوقت، ومن الاستغفار لزوال الذنوب التي بها تحقيق اتصافه بصفة الوعد، كما قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } [ الروم : 60 ] وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } الآية [ غافر : 77 ] . والآيات في هذا الباب كثيرة معلومة . والله ـ تعالى ـ أعلم .
*************
التوكل على الله تعالى :
وقال تعالى : ( وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (ابراهيم:12)
إنها كلمة المطمئن إلى موقفه وطريقه . المالئ يديه من وليه وناصره . المؤمن بأن الله الذي يهدي السبيل لا بد أن ينصر وأن يعين . وماذا يهم حتى ولو لم يتم في الحياة الدنيا نصر إذا كان العبد قد ضمن هداية السبيل ?
والقلب الذي يحس أن يد الله - سبحانه - تقود خطاه , وتهديه السبيل , هو قلب موصول بالله لا يخطئ الشعور بوجوده - سبحانه - وألوهيته القاهرة المسيطرة ; وهو شعور لا مجال معه للتردد في المضي في الطريق , أيا كانت العقبات في الطريق , وأيا كانت قوى الطاغوت التي تتربص في هذا الطريق . ومن ثم هذا الربط في رد الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - بين شعورهم بهداية الله لهم وبين توكلهم عليه في مواجهة التهديد السافر من الطواغيت ; ثم إصرارهم على المضي في طريقهم في وجه هذا التهديد .(1/75)
وهذه الحقيقة - حقيقة الارتباط في قلب المؤمن بين شعوره بهداية الله وبين بديهية التوكل عليه - لا تستشعرها إلا القلوب التي تزاول الحركة فعلا في مواجهة طاغوت الجاهلية ; والتي تستشعر في أعماقها يد الله - سبحانه - وهي تفتح لها كوى النور فتبصر الآفاق المشرقة وتستروح أنسام الإيمان والمعرفة , وتحس الأنس والقربى . .
وحينئذ لا تحفل بما يتوعدها به طواغيت الأرض ; ولا تملك أن تستجيب للإغراء ولا للتهديد ; وهي تحتقر طواغيت الأرض وما في أيديهم من وسائل البطش والتنكيل . وماذا يخاف القلب الموصول بالله على هذا النحو ? وماذا يخيفه من أولئك العبيد ?!
(وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا) . .
(ولنصبرن على ما آذيتمونا) . لنصبرن , لا نتزحزح ولا نضعف ولا نتراجع ولا نهن ; ولا نتزعزع ولا نشك ولا نفرط ولا نحيد . .
(وعلى الله فليتوكل المتوكلون) . .
وهنا يسفر الطغيان عن وجهه . لا يجادل ولا يناقش ولايفكر ولا يتعقل , لأنه يحس بهزيمته أمام انتصار العقيدة , فيسفر بالقوة المادية الغليظة التي لا يملك غيرها المتجبرون:
(وقال الذين كفروا لرسلهم:لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) !
هنا تتجلى حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإسلام والجاهلية . . إن الجاهلية لا ترضى من الإسلام أن يكون له كيان مستقل عنها . ولا تطيق أن يكون له وجود خارج عن وجودها . وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها . فالإسلام لا بد أن يبدو في صورة تجمع حركي مستقل بقيادة مستقلة وولاء مستقل , وهذا ما لا تطيقه الجاهلية . لذلك لا يطلب الذين كفروا من رسلهم مجرد أن يكفوا عن دعوتهم ; ولكن يطلبون منهم أن يعودوا في ملتهم , وأن يندمجوا في تجمعهم الجاهلي , وأن يذوبوا في مجتمعهم فلا يبقى لهم كيان مستقل . وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله , وما يرفضه الرسل من ثم ويأبونه , فما ينبغي لمسلم أن يندمج في التجمع الجاهلي مرة أخرى . .
وعندما تسفر القوة الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة , ولا يبقى مجال لحجة ; ولا يسلم الله الرسل إلى الجاهلية . .
إن التجمع الجاهلي - بطبيعة تركيبه العضوي - لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله , إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب التجمع الجاهلي , ولتوطيد جاهليته !
والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي , والتميع في تشكيلاته وأجهزته هم ناس لا يدركون الطبيعة العضوية للمجتمع . هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع أن يعمل لحساب هذا المجتمع ولحساب منهجه وتصوره . .
لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها . .
وهنا تتدخل القوة الكبرى فتضرب ضربتها المدمرة القاضية التي لا تقف لها قوة البشر المهازيل , وإن كانوا طغاة متجبرين:
(فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين . ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) .
ولا بد أن ندرك أن تدخل القوة الكبرى للفصل بين الرسل وقومهم إنما يكون دائما بعد مفاصلة الرسل لقومهم . .
بعد أن يرفض المسلمون أن يعودوا إلى ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها . .
وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم وبتجمعهم الإسلامي الخاص بقيادته الخاصة . وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة فينقسم القوم الواحد إلى أمتين مختلفتين عقيدة ومنهجا وقيادة وتجمعا . .
عندئذ تتدخل القوة الكبرى لتضرب ضربتها الفاصلة , ولتدمر على الطواغيت الذين يتهددون المؤمنين , ولتمكن للمؤمنين في الأرض , ولتحقق وعد الله لرسله بالنصر والتمكين . . .
ولا يكون هذا التدخل أبدا والمسلمون متميعون في المجتمع الجاهلي , عاملون من خلال أوضاعه وتشكيلاته , غير منفصلين عنه ولا متميزين بتجمع حركي مستقل وقيادة إسلامية مستقلة . .
(فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين) . .
نون العظمة ونون التوكيد . .
كلتاهما ذات ظل وإيقاع في هذا الموقف الشديد . لنهلكن المتجبرين المهددين , المشركين الظالمين لأنفسهم وللحق وللرسل وللناس بهذا التهديد . .
(ولنسكننكم الأرض من بعدهم) . .
لا محاباة ولا جزافا , إنما هي السنة الجارية العادلة:
(ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) . .
ذلك الإسكان والاستخلاف لمن خاف مقامي , فلم يتطاول ولم يتعال ولم يستكبر ولم يتجبر . وخاف وعيد , فحسب حسابه , واتقى أسبابه , فلم يفسد في الأرض , ولم يظلم في الناس . فهو من ثم يستحق الاستخلاف , ويناله باستحقاق .
وهكذا تلتقي القوة الصغيرة الهزيلة - قوة الطغاة الظالمين - بالقوة الجبارة الطامة - قوة الجبار المهيمن المتكبر - فقد انتهت مهمة الرسل عند البلاغ المبين والمفاصلة التي تميز المؤمنين من المكذبين .
ووقف الطغاة المتجبرون بقوتهم الهزيلة الضئيلة في صف , ووقف الرسل الداعون المتواضعون ومعهم قوة الله - سبحانه - في صف . ودعا كلاهما بالنصر والفتح . . وكانت العاقبة كما يجب أن تكون:(1/76)
(واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد . يتجرعه ولا يكاد يسيغه , ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت , ومن ورائه عذاب غليظ) . .
والمشهد هنا عجيب . إنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد . مشهد الخيبة في هذه الأرض . ولكنه يقف هذا الموقف , ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها , وهو يسقى من الصديد السائل من الجسوم . يسقاه بعنف فيتجرعه غصبا وكرها , ولا يكاد يسيغه , لقذارته ومرارته , والتقزز والتكره باديان نكاد نلمحها من خلال الكلمات !
ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان , ولكنه لا يموت , ليستكمل عذابه . ومن ورائه عذاب غليظ . .
إنه مشهد عجيب , يرسم الجبار الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروع الفظيع . وتشترك كلمة(غليظ) في تفظيع المشهد , تنسيقا له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين .
===============
الاستغاثة بالله تعالى
قال تعالى في سورة الأنفال ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ {9} وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {10} (
ثم يمضي السياق في استحضار جو المعركة وملابساتها ومواقفها ، حيث يتجلى كيف كانت حالهم ، وكيف دبر الله لهم ، وكيف كان النصر كله وليد تدبير الله أصلاً . . .
والتعبير القرآني الفريد يعيد تمثيل الموقف بمشاهده وحوادثه وانفعالاته وخفقاته ، ليعيشوه مرة أخرى ، ولكن في ضوء التوجيه القرآني ، فيروا أبعاده الحقيقية التي تتجاوز بدراً ، والجزيرة العربية ، والأرض كلها ؛ وتمتد عبر السماوات وتتناول الملأ الأعلى ؛ كما أنها تتجاوز يوم بدر ، وتاريخ الجزيرة العربية ، وتاريخ البشرية في الأرض ، وتمتد وراء الحياة الدنيا ، حيث الحساب الختامي في الآخرة والجزاء الأوفى ، وحيث تشعر العصبة المسلمة بقيمتها في ميزان الله ، وقيمة أقدارها وأعمالها وحركتها بهذا الدين ومقامها الأعلى: إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى ، ولتطمئن به قلوبكم ، وما النصر إلا من عند الله ، إن الله عزيز حكيم . إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام . إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، فاضربوا
فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ، ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب . ذلكم فذوقوه ، وأن للكافرين عذاب النار . .
إنها المعركة كلها تدار بأمر الله ومشيئته ، وتدبيره وقدره ؛ وتسير بجند الله وتوجيهه . .
وهي شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال العبارة القرآنية المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان ، كأنه يكون الآن !
فأما قصة الاستغاثة فقد روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:لما كان يوم بدر نظر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة . فاستقبل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] القبلة ، وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال: اللهم أنجز لي ما وعدتني . اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً قال:فما زال يستغيث ربه ويدعوه ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال: يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . .
وتروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر:عددهم . وطريقة مشاركتهم في المعركة . وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين . . .
ونحن - على طريقتنا في الظلال - نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص المستيقنة من قرآن أو سنة . والنصوص القرآنية هنا فيها الكفاية: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين . .
فهذا عددهم . .
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . . فهذا عملهم . .
ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه الكفاية . .
وبحسبنا أن نعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم ، وهي قلة والأعداء كثرة . وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيه الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله - سبحانه - في كلماته .(1/77)
قال البخاري:باب شهود الملائكة بدراً:حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن يحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي ، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال:جاء جبريل إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال:ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال: من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها - قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة . . . [ انفرد بإخراجه البخاري ] . . .
إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى ، ولتطمئن به قلوبكم ، وما النصر إلا من عند الله ، إن الله عزيز حكيم . .
لقد استجاب لهم ربهم وهم يستغيثون ، وأنبأهم أنه ممدهم بألف من الملائكة مردفين . .
ومع عظمة هذا الأمر ودلالته على قيمة هذه العصبة وقيمة هذا الدين في ميزان الله ؛ إلا أن الله سبحانه لا يدع المسلمين يفهمون أن هناك سبباً ينشئ نتيجة ، إنما يرد الأمر كله إليه - سبحانه - تصحيحاً لعقيدة المسلم وتصوره . فهذه الاستجابة ، وهذا المدد ، وهذا الإخبار به . . .
كل ذلك لم يكن إلا بشرى ، ولتطمئن به القلوب . أما النصر فلم يكن إلا من عند الله ولا يكون . . هذه هي الحقيقة الاعتقادية التي يقررها السياق القرآني هنا ، حتى لا يتعلق قلب المسلم بسبب من الأسباب أصلاً . .
لقد كان حسب المسلمين أن يبذلوا ما في طوقهم فلا يستبقوا منه بقية ؛ وأن يغالبوا الهزة الأولى التي أصابت بعضهم في مواجهة الخطر الواقعي ، وأن يمضوا في طاعة أمر الله ، واثقين بنصر الله . .
كان حسبهم هذا لينتهي دورهم ويجيء دور القدرة التي تصرفهم وتدبرهم . . وما عدا هذا فكان بشارة مطمئنة ، وتثبيتاً للقلوب في مواجهة الخطر الواقعي . .
وإنه لحسب العصبة المؤمنة أن تشعر أن جند الله معها لتطمئن قلوبها وتثبت في المعركة . ثم يجيء النصر من عند الله وحده . حيث لا يملك النصر غيره . وهو العزيز القادر الغالب على أمره . وهو الحكيم الذي يحل كل أمر محله . .
================
عدم الخوف إلا من الله :
قال تعالى في سورة آل عمران ( الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ {172} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {174} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {175}
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة . وهم مثخنون بالجراح . وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة . وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة ، ومرارة الهزيمة ، وشدة الكرب . وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا ، فقل عددهم ، فوق ما هم مثخنون بالجراح !
ولكن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] دعاهم . ودعاهم وحدهم . ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم - ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال ! - فاستجابوا . .
استجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ] وهي دعوة الله - كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك - فاستجابوا بهذا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ، ونزل بهم الضر ، وأثخنتهم الجراح .
لقد دعاهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ودعاهم وحدهم . وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى ، وتومى ء إلى حقائق كبرى ، نشير إلى شيء منها:
فلعل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم ، هو شعور الهزيمة ، وآلام البرح والقرح ؛ فاستنهضهم لمتابعة قريش ، وتعقبها ، كي يقر في أخلادهم إنها تجربة وابتلاء ، وليست نهاية المطاف . وأنهم بعد ذلك أقوياء ، وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء ، إنما هي واحدة وتمضي ، ولهم الكرة عليهم ، متى نفضوا عنهم الضعف والفشل ، واستجابوا لدعوة الله والرسول .
ولعل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش ، وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته . فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس ؛ يشعر قريشا أنها لم تنل من المسلمين منالا . وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها . .
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة .
ولعل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] شاء أن يشعر المسلمين ، وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم ، بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض . .(1/78)
حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها . ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها ، وليس لهم من غاية في حياتهم سواها . عقيدة يعيشون لها وحدها ، فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها ، ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها ، ولا يقدمونها فداها . .
لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين . ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنين - بقيام هذا الأمر الجديد ، وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة .
ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة:صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل أبي سفيان - وكما هول المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا -:
الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل . .
هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت اعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة . وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة . .
وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة:
قال محمد بن إسحاق:حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال:شهدنا أحدا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنا وأخي ، فرجعنا جريحين . فلما إذن مؤذن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ؟ - والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل . فخرجنا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وكنت أيسر جراحا منه ، فكان إذا غلب حملته عقبة . .
حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
وقال محمد بن إسحاق:كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في الناس بطلب العدو ، وإذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام . فقال:يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع . وقال:يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن . ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على نفسي . فتخلف على أخوتك . فتخلفت عليهن . . فأذن له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فخرج معه . .
وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة ، في تلك النفوس الكبيرة . النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلا ، وترضى به وحده وتكتفي ، وتزداد إيمانا به في ساعة الشدة ، وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس:
حسبنا الله ، ونعم الوكيل . .
ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه ، المكتفي به ، المتجردين له:
فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله .
فأصابوا النجاة - لم يمسسهم سوء - ونالوا رضوان الله . وعادوا بالنجاة والرضى .
بنعمة من الله وفضل . .
فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء:نعمة الله وفضله على من يشاء . ومع التنويه بموقفهم الرائع ، فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله ، لأن هذا هو الأصل الكبير ، الذي يرجع إليه كل فضل ، وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل !
والله ذو فضل عظيم . .
بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد ، وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله ، صورتهم هذه ، وموقفهم هذا ، وهي صورة رفيعة ، وهو موقف كريم .
وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف ، فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة . نضجت . وتناسقت . واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها . وانجلى الغبش عن تصورها . وأخذت الأمر جدا كله . وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة ، التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف . فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس . .
والفارق هائل والمسافة بعيدة . .
لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس ؛ وقد هزتها الحادثة هزا عنيفا . أطار الغبش ، وأيقظ القلوب ، وثبت الأقدام ، وملأ النفوس بالعزم والتصميم . .
نعم . وكان فضل الله عظيما في الابتلاء المرير . .
وأخيرا يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع . .
إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب ، وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة . .
ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان ، وأن يبطلوا محاولته . فلا يخافوا أولياءه هؤلاء ، ولا يخشوهم . بل يخافوا الله وحده . فهو وحده القوي القاهر القادر ، الذي ينبغي أن يخاف:(1/79)
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه . فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين .
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه ، ويلبسهم لباس القوة والقدرة ، ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول ، وأنهم يملكون النفع والضر . . ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه ، وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد ، وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب ، فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ؛ ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم ، ودفعهم عن الشر والفساد .
والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل ، وأن يتضخم الشر ، وأن يتبدى قويا قادرا قاهرا بطاشا جبارا ، لا تقف في وجهه معارضة ، ولا يصمد له مدافع ، ولا يغلبه من المعارضين غالب . .
الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا . فتحت ستار الخوف والرهبة ، وفي ظل الإرهاب والبطش ، يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه ! يقلبون المعروف منكرا ، والمنكر معروفا ، وينشرون الفساد والباطل والضلال ، ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل ، ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير . .
دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم ، ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة . بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له ، وجلاء الحق الذي يطمسونه . .
والشيطان ماكر خادع غادر ، يختفي وراء أوليائه ، وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته . .
ومن هنا يكشفه الله ، ويوقفه عاريا لا يستره ثوب من كيده ومكره . ويعرف المؤمنين الحقيقة:حقيقة مكره ووسوسته ، ليكونوا منها على حذر . فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم . فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ، ويستند إلى قوته . .
إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر . هي قوة الله . وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله ، وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء . فلا تقف لهم قوة في الأرض . .
لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان:
فلا تخافوهم . وخافون إن كنتم مؤمنين . .
==============
عدم الفرار من المعركة
قال تعالى في سورة الأنفال ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ {15} وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {16} (
ويبدو في التعبير القرآني شدة في التحذير ؛ وتغليظ في العقوبة ؛ وتهديد بغضب من الله ومأوى في النار: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار . ومن يولهم يومئذ دبره - إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب من الله ، ومأواه جهنم وبئس المصير . . والمعنى:يا أيها الذين آمنوا إذا واجهتم الذين كفروا زحفاً أي متدانين متقاربين متواجهين ؛ فلا تفروا عنهم ، إلا أن يكون ذلك مكيدة حرب ، حيث تختارون موقعاً أحسن ، أو تدبرون خطة أحكم ؛ أو أن يكون ذلك انضماماً إلى فئة أخرى من المسلمين ، أو إلى قواعد المسلمين ، لتعاودوا القتال . . وأن من تولى ، وأعطى العدو دبره يوم الزحف فقد استحق ذلك العقاب:غضباً من الله ومأوى في جهنم . .
وقد وردت بعض الأقوال في اعتبار هذا الحكم خاصاً بأهل بدر ، أو بالقتال الذي يكون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حاضره . ولكن الجمهور على أنها عامة ، وأن التولي يوم الزحف كبيرة من السبع الموبقات . كما روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - [ صلى الله عليه وسلم ] : اجتنبوا السبع الموبقات قيل:يا رسول الله وما هن ؟ قال: الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . .
وقد أورد الجصاص في "أحكام القرآن" تفصيلا لا بأس من الإلمام به قال:
"قال الله تعالى: ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة روى أبو نضرة عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر . قال أبو نضرة لأنهم لو انحازوا يومئذ لأنحازوا إلى المشركين ، ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم . .(1/80)
وهذا الذي قاله أبو نضرة ليس بسديد ، لأنه قد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار ، ولم يأمرهم النبي عليه السلام بالخروج ، ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال ، وإنما ظنوا أنها العير ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه . فقول أبي نضرة إنه لم يكن هناك مسلم غيرهم وإنهم لو انحازوا ، انحازوا إلى المشركين ، غلط لما وصفنا . . وقد قيل:إنه لم يكن جائزاً لهم الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولم يكن الانحياز جائزاً لهم عنه ، قال الله تعالى: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه :فلم يكن يجوز لهم أن يخذلوا نبيهم [ صلى الله عليه وسلم ] وينصرفوا عنه ويسلموه ، وإن كان الله قد تكفل بنصره وعصمه من الناس ، كما قال الله تعالى: والله يعصمك من الناس وكان ذلك فرضاً عليهم ، قلت أعداؤهم أو كثروا ، وأيضاً فإن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كان فئة المسلمين يومئذ ، ومن كان بمنحاز عن القتال فإنما كان يجوز له الانحياز على شرط أن يكون انحيازه إلى فئة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم فئتهم يومئذ ، ولم تكن فئة غيره . قال ابن عمر:كنت في جيش ، فحاص الناس حيصة واحدة ورجعنا إلى المدينة ، فقلنا:نحن الفرارون . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : أنا فئتكم . فمن كان بالبعد من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إذا انحاز عن الكفار فإنما كان يجوز له الانحياز إلى فئة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وإذا كان معهم في القتال لم يكن هناك فئة غيره ينحازون إليه ، فلم يكن يجوز لهم الفرار . وقال الحسن في قوله تعالى: ومن يولهم يومئذ دبره قال:شددت على أهل بدر . وقال الله تعالى: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا وذلك لأنهم فروا عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وكذلك يوم حنين فروا عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فعاقبهم الله على ذلك في قوله تعالى: ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم . فلم تغن عنكم شيئاً ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، ثم وليتم مدبرين . .
فهذا كان حكمهم إذا كانوا مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قل العدو أو كثر ، إذا لم يجد الله فيه شيئاً . .
وقال الله تعالى في آية أخرى: يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا وهذا - والله أعلم - في الحال التي لم يكن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حاضرا معهم ، فكان على العشرين أن يقاتلوا المائتين لا يهربوا عنهم ، فإذا كان عدد العدو أكثر من ذلك أباح لهم التحيز إلى فئة من المسلمين فيهم نصرة لمعاودة القتال ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً ، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله فروي عن ابن عباس أنه قال:كتب عليكم ألا يفر واحد من عشرة:ثم قلت: الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا . . .
الآية . فكتب عليكم ألا يفر مئة من مئتين . وقال ابن عباس:إن فر رجل من رجلين فقد فر ، وإن فر من ثلاثة فلم يفر - قال الشيخ يعني بقوله:فقد فر:الفرار من الزحف المراد بالآية ، والذي في الآية إيجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار ، فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة ،
فأما إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى: ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ولذلك قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : أنا فئة كل مسلم . وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد بن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم: رحم الله أبا عبيد ! لو انحاز إليّ لكنت له فئة . فلما رجع إليه أصحاب أبي عبيد قال: أنا فئة لكم ولم يعنفهم . .(1/81)
وهذا الحكم عندنا [ يعني عند الحنفية ] ثابت ، ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفاً لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال ، وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم ، ونحو ذلك ، مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب ، أو متحيزين إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم . فإذا بلغوا اثني عشر ألفاً فإن محمد بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم ، وإن كثر عددهم ، ولم يذكر خلافاً بين أصحابنا فيه [ يعني الحنفية ] واحتج بحديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله ، أن ابن عباس قال:قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : خير الأصحاب أربعة . وخير السرايا أربع مائة . وخير الجيوش أربعة آلاف . ولن يؤتى اثنا عشر ألفاً من قلة ولن يغلبوا وفي بعضها: ما غلب قوم يبلغون اثني عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم . وذكر الطحاوي أن مالكاً سئل ، فقيل له:أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها ؟ فقال مالك:إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف ، وإلا فأنت في سعة من التخلف .
وكان السائل له عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر . وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن . والذي روي عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في اثني عشر ألفا فهو أصل في هذا الباب ، وإن كثر عدد المشركين فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم لقوله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا اجتمعت كلمتهم . وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم" . . . انتهى .
كذلك أورد "ابن العربي في أحكام القرآن " تعقيبا على الخلاف في المقصود بهذا الحكم قال:
"اختلف الناس:هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر ، أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة ؟
"فروى ابن سعيد الخدري أن ذلك يوم بدر ، لم يكن لهم فئة إلا رسول الله ، وبه قال نافع ، والحسن ، وقتادة ، ويزيد بن حبيب ، والضحاك .
"ويروى عن ابن عباس وسائر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة ؛ وإنما شذ من شذ بخصوص ذلك يوم بدر بقوله: ومن يولهم يومئذ دبره فظن قوم أن ذلك إشارة إلى يوم بدر . وليس به . وإنما ذلك إشارة إلى يوم الزحف .
"والدليل عليه أن الآية نزلت بعد القتال ، وانقضاء الحرب ، وذهاب اليوم بما فيه . وقد ثبت عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حسبما قدمناه في الحديث الصحيح أن الكبائر كذا . . .
وعدّ الفرار يوم الزحف . وهذا نص في المسألة يرفع الخلاف ، ويبين الحكم ، وقد نبهنا على النكتة التي وقع الإشكال فيها لمن وقع باختصاصه بيوم بدر" . .
ونحن نأخذ بهذا الذي ذكره ابن العربي من رأي "ابن عباس وسائر العلماء" . .
ذلك أن التولي يوم الزحف على إطلاقه يستحق هذا التشديد لضخامة آثاره الحركية من ناحية ؛ ولمساسه بأصل الاعتقاد من ناحية . .
إن قلب المؤمن ينبغي أن يكون راسخا ثابتا لا تهزمه في الأرض قوة ، وهو موصول بقوة الله الغالب على أمره ، القاهر فوق عباده . .
وإذا جاز أن تنال هذا القلب هزة - وهو يواجه الخطر - فإن هذه الهزة لا يجوز أن تبلغ أن تكون هزيمة وفرارا . والآجال بيد الله ، فما يجوز أن يولي المؤمن خوفا على الحياة . وليس في هذا تكليف للنفس فوق طاقتها . فالمؤمن إنسان يواجه عدوه إنسانا . فهما من هذه الناحية يقفان على أرض واحدة . ثم يمتاز المؤمن بأنه موصول بالقوة الكبرى التي لا غالب لها . ثم إنه إلى الله إن كان حياً ، وإلى الله إن كتبت له الشهادة . فهو في كل حالة أقوى من خصمه الذي يواجهه وهو يشاق الله ورسوله . .
ومن ثم هذا الحكم القاطع:
ومن يولهم يومئذ دبره - إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب من الله ، ومأواه جهنم وبئس المصير .
ولا بد أن نقف هنا عند التعبير ذاته ؛ وما فيه من إيماءات عجيبة: فلا تولوهم الأدبار . .
ومن يولهم يومئذ دبره . .
فهو تعبير عن الهزيمة في صورتها الحسية ، مع التقبيح والتشنيع ، والتعريض بإعطاء الأدبار للأعداء ! . . ثم: فقد باء بغضب من الله . . فالمهزوم مولٍّ ومعه غضب من الله يذهب به إلى مأواه: ومأواه جهنم وبئس المصير .
وهكذا تشترك ظلال التعبير مع دلالته في رسم الجو العام ؛ وتثير في الوجدان شعور الاستقباح والاستنكار للتولي يوم الزحف والفرار .
ثم يمضي السياق بعد هذا التحذير من التولي يوم الزحف ؛ ليكشف لهم عن يد الله وهي تدير المعركة من ورائهم ؛ وتقتل لهم أعداءهم ، وترمي لهم وتصيب . . .
وهم ينالون أجر البلاء لأن الله يريد أن يتفضل عليهم بحسن البلاء ، ليثيبهم عليه من فضله وهو الذي وهبهم إياه:
فلم تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم ، وما رميت - إذ رميت - ولكن الله رمى . وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا . إن الله سميع عليم . .(1/82)
وتذهب الروايات المأثورة إلى تفسير الرمي هنا بأنه رمية الحصى التي حثاها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في وجوه الكفار ، وهو يقول: شاهت الوجوه . شاهت الوجوه فأصابت وجوه المشركين ممن كتب عليهم القتل في علم الله . .
ولكن دلالة الآية أعم . فهي تمثل تدبير الله للأمر كله من وراء الحركة الظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم والعصبة المسلمة معه . ولذلك تلاها قول الله تعالى:
وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا . .
أي ليرزقهم من عنده أن يبلوا البلاء الحسن الذي ينالون عليه الأجر ، بعد أن يكتب لهم به النصر . فهو الفضل المضاعف أولاً وأخيراً .
إن الله سميع عليم . .
يسمع استغاثتكم ويعلم حالكم ؛ ويجعلكم ستارا لقدرته ، متى علم منكم الخلوص له ؛ ويعطيكم النصر والأجر . .
كما أعطاكم هذا وذاك في بدر . .
ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين . .
وهذه أخرى بعد تلك الأولى !
إن التدبير لا ينتهي عند أن يقتل لكم أعداءكم بأيديكم ، ويصيبهم برمية رسولكم ، ويمنحكم حسن البلاء ليأجركم عليه . .
إنما هو يضيف إليه توهين كيد الكافرين ، وإضعاف تدبيرهم وتقديرهم .
فلا مجال إذن للخوف ، ولا مجال إذن للهزيمة ، ولا مجال إذن لأن يولي المؤمنون الأدبار عند لقاء الكفار . .
ويتصل السياق هنا بكل ملابسات المعركة . .
فإذا كان الله هو الذي قتل المشركين ، وهو الذي رماهم ، وهو الذي أبلى المؤمنين فيها ذلك البلاء الحسن ، وهو الذي أوهن كيد الكافرين . .
فما النزاع والاختلاف إذن في الأنفال ، والمعركة كلها أديرت بتدبير الله وبتقديره ، وليس لهم فيها إلا أن كانوا ستارا لهذا التدبير والتقدير ؟!
==============
اليقين بوعد الله تعالى :
قال تعالى في سورة الأحزاب ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا {22} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا {23} لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا {24} وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا {25} وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا {26} وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا {27} (
لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة ؛ وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة ؛ وكان الفزع الذي لقوه من العنف ، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا ، كما قال عنهم أصدق القائلين:
هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا . .
لقد كانوا ناسا من البشر . وللبشر طاقة . لا يكلفهم الله ما فوقها . وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية ؛ وبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق . .
على الرغم من هذا كله ، فإن الهول الذي كان حاضرا يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم .
ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يحس حالة أصحابه ، ويرى نفوسهم من داخلها ، فيقول: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع . يشرط له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الرجعة . أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة . .
ومع هذا الشرط بالرجعة ، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله في الجنة ، فإن أحدا لا يلبي النداء . فإذا عين بالاسم حذيفة قال:فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني ! . .
ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة . .
ولكن كان إلى جانب الزلزلة ، وزوغان الأبصار ، وكرب الأنفاس . . كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله ؛ والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله ؛ والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن ؛ وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها . ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر . ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه:متى نصر الله ؟ ألا إن نصر الله قريب . .
وها هم أولاء يزلزلون . فنصر الله إذن منهم قريب ! ومن ثم قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله . .(1/83)
وما زادهم إلا إيمانا وتسليما . . هذا ما وعدنا الله ورسوله . .
هذا الهول ، وهذا الكرب ، وهذه الزلزلة ، وهذا الضيق . وعدنا عليه النصر . . فلا بد أن يجيء النصر: وصدق الله ورسوله . .
صدق الله ورسوله في الإمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها . . ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله: وما زادهم إلا إيمانا وتسليما . .
لقد كانوا ناسا من البشر ، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر ، وضعف البشر . وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ؛ ولا أن يخرجوا من إطار هذا الجنس ؛ ويفقدوا خصائصه ومميزاته . فلهذا خلقهم الله . خلقهم ليبقوا بشرا ، ولا يتحولوا جنسا آخر . لا ملائكة ولا شياطين ، ولا بهيمة ولا حجرا . .
كانوا ناسا من البشر يفزعون ، ويضيقون بالشدة ، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة . ولكنهم كانوا - مع هذا - مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله ؛ و تمنعهم من السقوط ؛ وتجدد فيهم الأمل ، وتحرسهم من القنوط . .
وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير .
وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور . علينا أن ندرك أنهم كانوا بشرا ، لم يتخلوا عن طبيعة البشر ، بما فيها من قوة و ضعف . وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان ، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء .
وحين نرانا ضعفنا مرة ، أو زلزلنا مرة ، أو فزعنا مرة ، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق . . فعلينا ألا نيأس من أنفسنا ، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا ؛ أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدا !
ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية !
ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا ! هنالك العروة الوثقى . عروة السماء . وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة ، ونسترد الثقة والطمأنينة ، ونتخذ من الزلزال بشيرا بالنصر . فنثبت ونستقر ، ونقوى ونطمئن ، ونسير في الطريق . .
وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام . النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده ، وثباته على عهده مع الله ، فمنهم من لقيه ، ومنهم من ينتظر أن يلقاه:
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر . وما بدلوا تبديلا . .
هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه . نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار . ثم ولم يوفوا بعهد الله: وكان عهد الله مسؤولا . .
روى الإمام أحمد - بإسناده - عن ثابت قال:" عمي أنس بن النضر - رضي الله عنه - سميت به - لم يشهد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم بدر ، فشق عليه ، وقال:أول مشهد شهده رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] غبت عنه ! لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليرين الله عز وجل ما أصنع . قال:فهاب أن يقول غيرها . فشهد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم أحد . فاستقبل سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال له أنس - رضي الله عنه - يا أبا عمرو . أين واها لريح الجنة ! إني أجده دون أحد . قال:فقاتلهم حتى قتل - رضي الله عنه - قال:فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية . فقالت أخته - عمتي الربيع ابنة النضر -:فما عرفت أخي إلا ببنانه . قال:فنزلت هذه الآية: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . . . الخ قال:فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضي الله عنهم . [ ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة ] .
وهذه الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين تذكر هنا تكملة لصورة الإيمان ، في مقابل صورة النفاق والضعف ونقض العهد من ذلك الفريق . لتتم المقابلة في معرض التربية بالأحداث وبالقرآن .
ويعقب عليها ببيان حكمة الابتلاء ، وعاقبة النقض والوفاء ؛ وتفويض الأمر في هذا كله لمشيئة الله:
ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين - إن شاء - أو يتوب عليهم . إن الله كان غفورا رحيما . .
ومثل هذا التعقيب يتخلل تصوير الحوادث والمشاهد - ليرد الأمر كله إلى الله ، ويكشف عن حكمة الأحداث والوقائع . فليس شيء منها عبثا ولا مصادفة . إنما تقع وفق حكمة مقدرة ، وتدبير قاصد . وتنتهي إلى ما شاء الله من العواقب . وفيها تتجلى رحمة الله بعباده . ورحمته ومغفرته أقرب وأكبر: إن الله كان غفورا رحيما . .
ويختم الحديث عن الحدث الضخم بعاقبته التي تصدق ظن المؤمنين بربهم ؛ وضلال المنافقين والمرجفين وخطأ تصوراتهم ؛ وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية:
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا . .(1/84)
وقد بدأت المعركة ، وسارت في طريقها ، وانتهت إلى نهايتها ، وزمامها في يد الله ، يصرفها كيف يشاء . وأثبت النص القرآني هذه الحقيقة بطريقة تعبيره . فأسند إلى الله تعالى إسنادا مباشرا كل ما تم من الأحداث والعواقب ، تقريرا لهذه الحقيقة ، وتثبيتا لها في القلوب ؛ وإيضاحا للتصور الإسلامي الصحيح .
==============
وجوب الإعداد والاستعداد للمعركة :
قال تعالى في سورة الأنفال ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ {60} (
فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد ؛ والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها ؛ ويخص رباط الخيل لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة . . ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة - تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا - والمهم هو عموم التوجيه:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة . .
إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في "الأرض" لتحرير "الإنسان" . . وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة:أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها ؛ فلا يصدوا عنها ، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها . . والأمر الثاني:أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على "دار الإسلام" التي تحميها تلك القوة . .
والأمر الثالث:أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي ، وهو ينطلق لتحرير "الإنسان" كله في "الأرض" كلها . .
والأمر الرابع:أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية ، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها ؛ ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده ؛ ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه . إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب ، وتنظيماً للشعائر ، ثم تنتهي مهمته ! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة ؛ يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية . فلا مفر للإسلام - لإقرار منهجه الرباني - من تحطيم تلك القوى المادية ، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى ، وتقاوم المنهج الرباني . .
وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة . . ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني . ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد ! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر ؛ ولا لتقرير سلطان زعيم ، أو دولة ، أو طبقة ، أو جنس ! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان ؛ ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية ؛ ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية . .
إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير ، ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعبيد . .
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع ؛ وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي ! والجهاد الإسلامي .
ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة . فالنص يقول:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة . .
فهي حدود الطاقة إلى أقصاها . بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها . كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة:
ترهبون به عدو الله وعدوكم ، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم . .
فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض . الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ؛ ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم ، أو لم يجهروا لهم بالعداوة ، واللّه يعلم سرائرهم وحقائقهم . وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم . والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء ، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض ؛ ولتكون كلمة اللّه هي العليا ، وليكون الدين كله للّه .
ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالا ، وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل ، فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله:
وما تنفقوا من شيء - في سبيل الله - يوف إليكم وأنتم لا تظلمون . .(1/85)
وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله ، من كل غاية أرضية ، ومن كل دافع شخصي ؛ ومن كل شعور قومي أو طبقي ، ليتمحض خالصا للّه "في سبيل اللّه" لتحقيق كلمة اللّه ، ابتغاء رضوان اللّه . ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه - منذ الوهلة الاولى - كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول . وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق . وكل حرب تقوم للقهر والإذلال . وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن ، أو قوم على قوم ، أو جنس على جنس ، أو طبقة على طبقة .
ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة . . حركة الجهاد في سبيل الله . .
والله - سبحانه - لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب . إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته . وهو غني عن العالمين . ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين .
-----------------------
وفي الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 10628)
عُدّة
التّعريف
1 - العُدّة - بالضّمّ - في اللّغة : الاستعداد والتّأهّب وما أعددته من مال أو سلاح .
وفي الاصطلاح هي : جميع ما يتقوّى به في الحرب على العدوّ .
«الأحكام المتعلّقة بالعدّة»
2 - العدّة - أي الاستعداد للحرب - فريضة تلازم فريضة الجهاد ، فالحرب بلا عدّة إلقاء للنّفس إلى التّهلكة ، والعدّة للحرب في سبيل إعلاء كلمة اللّه بأنواعها فرض على المسلمين .
قال تعالى : « وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ » ، والخطاب لكافّة المسلمين ، وقال سبحانه : « وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ » أي بترك الإنفاق في سبيل اللّه ، والخطاب أيضاً لكافّتهم ، وعدّ سبحانه وتعالى : ترك الإنفاق في سبيل اللّه وعدم الاستعداد للحرب باتّخاذ العدّة اللازمة للنّصر تهلكةً للنّفس ، وتهلكةً للجماعة ، فالدّعوة إلى الجهاد في التّوجيهات القرآنيّة والنّبويّة تلازمها في الأغلب الأعمّ دعوة إلى الإنفاق .
جاء في تفسير الماورديّ : « وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ » بأن تتركوا النّفقة في سبيل اللّه فتهلكوا ، ثمّ قال : هذا قول ابن عبّاس ، وقيل : لا تقحموا أنفسكم في الحرب بغير نكاية في العدوّ ، وقال ابن كثير : التّهلكة أن تمسك يدك عن النّفقة في سبيل اللّه .
والعدّة بما في الطّوق من فروض الكفاية على المسلمين ، فإن تركوها أثموا جميعاً ، وهي من الأمور المنوطة بالإمام وتلزم عليه ، قال الماورديّ : من الأمور الواجبة على الإمام : تحصين الثّغور بالعدّة المانعة ، والقوّة الدّافعة حتّى لا يظفر الأعداء بغرّة ينتهكون فيها محرّماً ، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً ، وعدّ القرآن ترك العدّة للحرب إعلاءً لكلمة اللّه من علامات النّفاق ، فقال تعالى : في شأن المنافقين الّذين استأذنوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأعذار واهية في عدم الخروج معه في الجهاد : « لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ، إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ، وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً » .
وانظر مصطلح : « سلاح » .
«ما تكون به العدّة»
3 - بيّن القرآن العدّة : بأنّها القوّة ، ورباط الخيل ، قال تعالى : « وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ » .
واختلف المفسّرون في المراد من القوّة : وقال الماورديّ فيه خمسة أقوال :
أ - القوّة : ذكور الخيل ، ورباط الخيل إناثها .
ب - القوّة : السّلاح ، قاله الكلبيّ .
ج - التّصافي ، واتّفاق الكلمة .
د - الثّقة باللّه .
هـ - الرّمي .
وقال صاحب تفسير الخازن بعد أن ذكر أقوالاً في معنى القوّة :(1/86)
القول الرّابع : إنّ المراد بالقوّة جميع ما يتقوّى به في الحرب على العدوّ ، فكلّ ما هو آلة يستعان بها في الجهاد فهو من جملة القوّة المأمور بإعدادها ، وقوله صلى الله عليه وسلم: « ألا إنّ القوّة الرّمي » لا ينفي كون غير الرّمي من القوّة المأمور بإعدادها فهو كقوله صلى الله عليه وسلم : « الحجّ عرفة » وكقوله : « النّدم توبة » فهذا لا ينفي اعتبار غيره، بل يدلّ على أنّ المذكور هو من أجلّ المقصود ، ولأنّ الرّمي كان من أنجع وسائل الحرب نكايةً في العدوّ في زمنه صلى الله عليه وسلم فهكذا هنا يحمل معنى الآية على الاستعداد للقتال في الجهاد بجميع ما يمكن من الآلات ، كالرّمي بالنّبل ، والنّشاب ، والسّيف ، وتعلّم الفروسيّة ، والتّصافي ، واتّفاق الكلمة ، والثّقة باللّه وكلّ ذلك مأمور به ، وقال الشّهاب : إنّما ذكر هذا هنا ، لأنّه صلى الله عليه وسلم : لم يكن له استعداد تامّ في بدر ، فنبّهوا على أنّ النّصر بدون استعداد لا يتأتّى في كلّ زمان ، ودلّت الآية على وجود القوّة الحربيّة اتّقاء بأس العدوّ .
وخصّ رباط الخيل بالذّكر - مع أنّ الأمر بإعداد القوّة في الآية يتناول جميع ما يتقوّى به للحرب على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها - لأنّها الأداة الّتي كانت بارزةً عند من كان يخاطبهم القرآن أوّل مرّة ، ولو أمرهم بأسباب غير معروفة لديهم ، ولا يطيقون إعدادها لكان تكليفاً بما لا يطاق .
الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 12358)
قُوَّة
«التعريف»
1 - القوة في اللّغة : الطاقة الواحدة من طاقات الحبل ، أو الوَتَر أو الخَصْلة الواحدة منه ، ففي الحديث : « ليُنْقَضَنَّ الإسلام عروةً عروةً كما ينقض الحبل قوّةً قوّةً » ، ثم اشتهر فيما يقابل الضعف ، يقال : قوي الرجل والضعيف يقوى قوةً ، والقوى جمع قوة ، مثل غرفة وغرف ، ويكون ذلك في الجسم ، ومنه قوله تعالى : « عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى » ، كما يكون في الأمور النفسية المعنوية : كالعقل ونحوه ، ومنه قوله تعالى لنبيّه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : « فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا » أي خذ الألواح بقوة في دينك وحجتك ، وقوله : « يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ » أي بجدّ .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة
«أ - الاستطاعة»
2 - قال الجوهريّ : الاستطاعة : الطاقة ، وقال ابن برّيّ : هو كما ذكر ، بَيْدَ أنّ الاستطاعة للإنسان خاصةً ، والإطاقة عامة ، يقال : جمل مطيق لحِمله ، ولا يقال : جمل مستطيع .
والصّلة بين القوة وبين الاستطاعة أنّها أخصّ من القوة .
«ب - القدرة»
3 - القدرة لغةً : القوة على الشيء والتمكّن منه ، وهي عبارة عن أدنى قوة يتمكن بها المأمور من أداء ما لزمه بدنِيّاً كان أم ماليّاً .
والصّلة بين القوة والقدرة أنّها درجة من درجات القوة .
«الأحكام المتعلّقة بالقوة»
«فضل القوة»
4 - القوة من الخصال الفطرية يودعها الله من يشاء من عباده ويفاضل فيها بين الناس كما يفاضل بينهم في الرّزق وغيره من عطائه ، وهي نعمة عظيمة وفضل كبير من الله لمن عرف قدرها وأحسن استعمالها شكراً لله عليها لأنّها الأداة اللازمة لجلب الخير للأمة ودفع الشرّ عنها ، وإزالة المنكر ، والأمر بالمعروف ، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يكون قويّاً في نفسه ولجماعة المسلمين أن يكونوا أقوياء كذلك .
جاء في الأثر الصحيح : « المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلّ خير » .
«الأخذ بأسباب القوة»
5 - الأخذ بأسباب القوة فريضة على المسلمين على اختلاف صنوفها وألوانها ، وأسبابها ، مادّيةً كانت أو معنويةً ، قال تعالى : « وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ » والخطاب لكافة المسلمين ; لأنّ المأمور به وظيفة كافتهم ، وتشمل كل ما يطيقونه مما يفيد في الحرب من الوسائل مادّيّاً كان كالسّلاح والإنفاق وتدريب المجاهدين في فنون الحرب ، وإتقان استعمال أنواع السّلاح المختلفة ، لقوله : « مَّا اسْتَطَعْتُم » أو معنويّاً ، كالتصافي ، واتّفاق الكلمة والثّقة بالله وعدم خوض الحرب بغير إذن الإمام ، والاختيار لإمارة الجيش من كان ثقةً في دينه ، والتوصية بتقوى الله ، وأخذ البيعة عليهم بالثبات على الجهاد وعدم الفرار ، وغير ذلك مما يؤدّي إلى القوة البدنية والمعنوية .
فأخذ أسباب القوة بقسميها فرض على المسلمين ، بالأمر القرآنيّ : « وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ » وقد ثبت أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مارسوا كل عمل مشروع متاح لهم في بيئتهم يدلّ على علوّ الهمة وكمال الرّجولة ، ويؤدّي إلى قوة الجسم ودفع الكسل والميل إلى الدعة .
والتفصيل : في مصطلح « عدة ف / 2 - 3 » .
«اشتراط القوة فيمن يتقلد إمارةً أو يوكل إليه أمر قاصر ونحوه»(1/87)
6 - يشترط فيمن يُقَلد إمارةً أو يوكل إليه أمور القصر ، كالأيتام ، والمجانين وأموال الوقف : القدرة على القيام بها ، ولا يجوز تقليد من لا يقوى على النّهوض بها ، كما لا يجوز لمن لا يعلم في نفسه القدرة على القيام بها قبولها ، فعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال : « قلت يا رسول الله ألا تستعملني ؟ قال : فضرب بيده على منكبي ، ثم قال : يا أبا ذرّ : إنّك ضعيف، وإنّها أمانة ، وإنّها يوم القيامة : خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقّها ، وأدى الذي عليه فيها » .
--------------
سنة التدافع
إن من السنن التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم سنة التدافع، وتظهر جليا في الفترة المدنية مع حركة السرايا والبعوث والغزوات التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم ضد المشركين، وهذه السنة متعلقة تعلقا وطيدا بالتمكين لهذا الدين، وقد أشار الله تعالى إليها في كتابه العزيز وجاء التنصيص عليها في قوله تعالى: ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [البقرة: 251].
وفي قوله تعالى: ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [الحج: 40].
ونلاحظ في آية البقرة أنها جاءت بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل المتمثل هنا في طالوت وجنود المؤمنين، وجالوت وأتباعه، ويذيَّل الله تعالى الآية بقوله تعالى: ( وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [البقرة: 251] (مما يفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم)(1).
وتأتي آية الحج بعد إعلان الله تعالى أنه يدافع عن أوليائه المؤمنين وبعد إذنه لهم-سبحانه- بقتال عدوهم ويختتم الآية بتقرير الله تعالى لقاعدة أساسية: ( وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ).
فكان تشريع القتال على مراحل:
المرحلة الأولى: الحظر، وذلك عندما كان المسلمون في مكة، وكانوا يطالبون النبي صلى الله عليه وسلم بالإذن لهم في القتال فيجيبهم: «اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال»(2).
__________
(1) انظر: مفاتيح الغيب، فخر الرازي (3/514).
(2) انظر: تفسير الألوسي (6/108).
المرحلة الثانية: الإذن به من غير إيجاب، قال تعالى: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) [الحج: 39].
المرحلة الثالثة: وجوب قتال من قاتل المسلمين، قال تعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) [البقرة: 190].
المرحلة الرابعة: فرض قتال عموم الكفار على المسلمين، قال تعالى: ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) [التوبة: 36].
إن هذا التدرج في حكم القتال كان يقتضيه وضع الدولة الإسلامية الناشئة، وحالة الجيش الإسلامي الذي كان يأخذ في التكوين من حيث العُدد والعُدد والتدريب، وما إلى ذلك فكان لا بد من مضي فترة من الوقت يكون التعرض فيها لأعداء الدعوة الإسلامية من كفار قريش الذين آذوا المسلمين، واضطروهم إلى الخروج من ديارهم، يكون فيها ذلك التعرض لأعداء الدعوة، إنما هو على سبيل الاختيار، لا على سبيل الإجبار، وذلك إلى أن يصلب عود الدولة الإسلامية ويشتد بأس القوة الإسلامية، بحيث تستطيع الصمود أمام قوى الكفر في الجزيرة العربية فيما لو عملت قريش على تأليبها ضد المسلمين، كما وقع فيما بعد، وحينئذ يأتي وجوب القتال، في حالة تكون فيها أوضاع الدولة الإسلامية، والجيش الإسلامي على أهبة الاستعداد لمواجهة كافة الاحتمالات، هذا فيما يتصل بالقتال الذي يتعرض فيه المسلمون لكفار قريش، جاء النص بالإذن، أي بالإباحة لا بالوجوب أما في حالة ما لو تعرض فيه المسلمون وهم في دولتهم في المدينة لهجوم الأعداء عليهم، فالقتال هنا فرض لا مجال فيه للخيار، وليس مجرد أمر مأذون فيه، وذلك تطبيقاً لبيعة الحرب، بيعة العقبة الثانية التي أوجبت على الأنصار حرب الأحمر والأسود من الناس في سبيل الذود عن الدعوة الإسلامية، وصاحبها وأتباعها(1).
__________
(1) انظر: القتال والجهاد، د. محمد خير هيكل (1/463، 464).(1/88)
ومع نزول الإذن بالقتال شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدريب أصحابه على فنون القتال والحروب، واشترك معهم في التمارين والمناورات، والمعارك، وعد السعي في هذه الميادين من أجلِّ القربات وأقدس العبادات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بتطبيق قول الله تعالى: ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) [الأنفال: 60] في تكوين المجاهد المسلم يعتمد على نهجين متوازنين، التوجيه المعنوي، والتدريب العملي.
1- التوجيه المعنوي:
فكان صلى الله عليه وسلم يسعى إلى رفع معنويات المجاهدين، يمنحهم أملا يقينيا بالنصر أو الجنة، ومنذ تلك اللحظات وفيما بعد ظل هذا (الأمل) يحدو الجندي المسلم في ساحات القتال ويدفعه إلى بذل كل طاقته النفسية والجسدية والفنية من أجل كسب المعارك أو الموت تحت ظلال السيوف(1) فمن أقواله صلى الله عليه وسلم في حث أصحابه على الجهاد: «والذي نفسي بيده، لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أُقتل ثم أُحيا، ثم أقتل ثم أُحيا، ثم أقتل»(2).
__________
(1) انظر: دراسة في السيرة، ص161.
(2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تمني الشهادة (3/268) رقم 2797.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أحدٌ يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء، إلا الشهيدُ يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة»(1).
2- الأسلوب العملي:
فقد سعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى اعتماد كل طاقات الأمة القادرة على البذل والعطاء، رجالاً ونساءً وصبياناً وشباباً وشيوخاً، وإلى التمرس على كل مهارة في القتال طعناً بالرمح وضرباً بالسيف، ورمياً بالنبل، ومناورة على ظهور الخيل، وكان صلى الله عليه وسلم يمزج خَطَّي التربية العسكرية المتوازنين: التوجيه والتدريب والأمل بالنصر أو الجنة وتقديم الجهد في ساحات القتال، ويحض المسلمين على إتقان ما تعلموا من فنون الرماية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أوقد عصى»(2) فهي دعوة إلى عموم الأمة وحتى من دخلوا في سن الشيخوخة للتدريب علي إصابة الهدف ومهارة اليد، ونشاط الحركة. إن الإسلام يهتم بطاقات الأمة جميعها ويوجهها نحو المعالي وعلو الهمة.
وكان صلى الله عليه وسلم يهتم بالإعداد على حسب كل ظرف وحال، ويحث على كل وسيلة يستطيعها المسلمون، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي»(3).
__________
(1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تمني المجاهد أن يرجع إلي الدنيا (3/274) رقم 2817.
(2) مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه (3/1523) رقم 1919.
(3) مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه رقم 1917.
-------------
السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث1 - (ج 2 / ص 62)
----------------------
الأمر بإعداد القوة لمواجهة الأعداء
للشيخ أبي بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة
قوله تعالى: {وَأَعدُّوا لَهمُ مَّا اسْتَطَعْتُم مِن قُوَةٍ، وَمِن رِبَاطِ اْلْخَيْلِ تُرهِبُونَ بهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ، وَآخرينَ مِن دُونِهِم، لا تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ، وَمَا تُنفِقوُا مِن شيء فِي سبِيل الله يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأنتمْ لاَ تُظْلَموَن} (الآية: 59: من سورة الأنفال).
مناسبة الآية لما قبلها:
لما أمر اللّه تعالى رسوله والمؤمنين بقتال من كفر من اليهود ممن تكررت منهم الخيانة ونقضُ العهود، ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يظنوا أن الكافرين
يُعجزون اللّه تعالى بأن يُفْلتُوا من نقمته ويخلصوا من عذابه بأن لا يسلط عليهم رسوله والمؤمنين فيقتلوهم ويأمروهم. ولما كان مضمون هذا النهي قد يشيع روح التواكل والقعود عن القتال في نفوس المؤمنين أمر اللّه سبحانه وتعالى بإعداد القوة والإنفاق في سبيل ذلك وواعد عليه بالجزاء الحسن في الدنيا والآخرة فقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمَ مَّا اسْتَطَعْتُم مِن قُوَةٍ} . (الآية).
وبذلك ظهرت المناسبة قوية بين الآيات السابقة واللاحقة.
الغرض الذي سيقت له الآية الكريمة:(1/89)
إن الغرض الرئيسي الذي سيقت له هذه الآية الكريمة، هو الأمر بطرح التواكل، وإعداد القوّة الكافية لقتال الكفار المحاربين للّه ورسوله والمؤمنين، ولقطع مجرد التفكير في غزو المسلمين والاعتداء على حدود بلادهم، وذلك لما يشاهدون من قوة المسلمين المتفوقة عليهم كمّية وكيفا، فإن من السنن البشرية أن ضعف العدو يغري بغزوه وقتاله، كما أن قوة العدوّ تصرف حتى عن مجرد التفكير في ذلك، فقد سبق أن قلت: أن السلم المسلح أفضل من السلم المجرد من السلاح، فلولا تعادل القوة الحربية عند المعسكر الشيوعي البلشفي، والمعسكر الرأسمالي الغربي لكانت الحرب العالمية الرابعة قد أعلنت وأتت على كل شيء من مظاهر هذه الحضارة العفنة الهابطة.
مباحث الألفاظ في الآية:
1- في القراءات: قرئ {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل} بضم الراء والباء جمع رباط ككتاب وكُتُب. وقرئ {ترهّبون} بكسر الهاء وتشديدها من رهّبه إذا أوقعه في الرهب الذي هو الخوف وشدته.
2- في النحو: {مِنْ قُوَّةٍ} الجار والمجرور في محل نصب على الحال، وصاحب الحال إما أن يكون الموصول {مَا} في قوله: {مَا اسْتَطَعْتُم} أو يكون العائد المحذوف أي ما استطعتموه وهو الضمير. وكذا جملة ترهبون فقد يصح إعرابها حالاً، وصاحب الحال الفاعل في جملة وأعدوا، أي أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل حال كونكم مرهبين به عدو اللّه وعدوكم.
3- في البلاغة: التنكير بالتنوين في لفظ {قُوَّةٍ} للإبهام والعموم وذلك من أجل أن يطلب المسلمون كل أسباب القوة وأنواعها فلا يقصروها علَى نوع معين كالرماية مثلا، وإن ورد فيها حديث عقبة بن عامر عند مسلم: "ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي".
وأما التنكير في قوله: {مِنْ شَيْءٍ} فهو للتقليل والتحقير بمعنى أن أي شيء ينفقه المسلم في إعداد العدة للجهاد، أو ينفقه على رحم أو فقير ولو قل كدرهم، أو حَقُر كحبل أو عصا لا يعدم المنفق أجره من اللّه عز وجل، ومضاعفاً أيضا الحسنة بعشر أمثالها أو بسبعمائة إن كانت نفقة جهاد؛ للآية الكريمة {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} . ( الآية ).
شرح المفردات:
{أَعدُّوا} : هيئوا وأحضروا وأرصدوا.
{مَا اسْتَطَعْتُم} : ما قدرتم عليه بعد بَذْلِكم الُجُهدَ فيه.
{مِن قُوَةٍ} : من كل أنواع القوة المادية من سلاح وكراع، ومعنوية من إيمان صادق وثقة في اللّه تعالى كاملة، ووحدة صف، وطاعة قيادة، وخلق فاضل.
{رِبَاطِ اْلْخَيْلِ} : الرباط قد يكون مصدر رابط يرابط، إذ كل من العدوينِ يرابط لصاحبه وقد يكون جمع رَْبط ككتب وكتاب، وقد يكون المراد به جماعة الخيل خمساً فأكثر. والخيل اسم جنس يطلق على الذكر والأنثى، وأيها أفضل في الجهاد؟ الغالب أن الذكر أفضل.
{تُرهِبُونَ} : تخوفون بإيقاع الرهب في النفوس.
{عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} : العدو لفظ يطلق على المفرد والمثنى والجمع مذكراً ومؤنثا.
عدو اللّه الكافر المحارب للّه ورسوله والمؤمنين، وعدو المؤمنين هو عدو اللّه، وإنما ذكر من باب التهيج والإثارة للمسلمين حتى يُعدوا العدة وُيوطّنوا أنفسهم للقتال.
{مِن دُونِهِم} : من غيرهم أي من غير كفار قريش واليهود.
{لا تَعْلَمُونَهُمُ} : أي لا تعرفون من هم من أعدائكم غير الظاهرين لكم كالمنافقين.
{الله يَعْلَمُهُمْ} : لأنه تعالى بكل شيء عليم، وفي إخباره تعالى بعلمه بهم ما يبعث المؤمنين على الجد في الإعداد والتحرز واليقظة، كما فيه ما يشير إلى كفاية اللّه تعالى عباده المؤمنين كيد أعدائهم متى عملوا بطاعته.
وَمَا تُنفِقوُا مِن شيء فِي سبِيل الله يُوَفَّ إلَيْكُمْ : هذه الجملة شرطية وجوابها: يوف إليكم أداة الشرط هي {مَا} وجملة الشرط {تُنفِقُوا} ، و {مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّه} متعلق بتنفقوا وجواب الشرط {يُوفَّ} ، وسبيل اللّه هنا هو الإعداد للجهاد، ويوف يؤده إليكم أجره وافيا غير منقوص.
{وَأنتمْ لاَ تُظْلَموَن} : هذه جملة حالية ومعناها أن أجوركم التي استوجبتموها بالإنفاق في سبيل اللّه سوف توفونها كاملة حال كونكم غير مظلومين لخوف عدوكم ورهبته منكم فلا يظلمكم باعتداءٍ عليكم. ولا منقوص الأجر والمثوبة ولا محرومين منهما لأن اللّه وعدكم ووعده تعالى حق وصدق.
معنى الآية الكريمة:
يأمر اللّه تعالى عباده المؤمنين الموجودين ساعة نزول هذه الآية ومن يأتي من بعدهم إلى أن يقاتلوا الكفار ويأمرهم بإعداد القوة أي بإحضارها وإرصادها لقتال عدوّ اللّه وعدوهم وإرهابه بذلك، والقوة المأمور بإعدادها تكون حسيّة كأنواع السلاح المختلفة، وآلات الحرب المتنوعة، وتكون معنوية كالإيمان القوي والثقة في نصر اللّه تعالى، ووحدة الصف وطاعة القيادة، مع طاعة اللّه تعالى وطَاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من الثبات عند اللقاء وذكر اللّه تعالى بالقلب واللسان.(1/90)
كما يخبرهم تعالى بأن ذلك الإعداد للقوة من شأنه أن يرهب أعداءهم، وينزل الرعب في قلوبهم فلا يفكرون في غزوهم ولا قتالهم، وسواء في ذلك العدو الظاهر لهم المعروف عندهم، أو العدو الذي لا يعلمونه واللّه يعلمه كالمنافقين المتربصين أو المجوس الحاقدين، أو اليهود الحاسدين.
ولما كان إعداد القوة المطلوبة المبذول لها كلُّ ما في استطاعة الأمة وقدرتها يتوقف في الجملة على المال إذ به يتم صنع السلاح أو شراؤه، والمال لا مصدر له إلا جيوب المؤمنين وصناديقهم، وقد أنفقوا فعلا وجمعوا المال وأعدوا به القوة الواجبة الإعداد
أخبرهم تعالى بأنهم ما ينفقون من شيء في سبيل اللّه لإعداد القوة أو لغيرها من سائر طرق الخير وسبل البر مما يرفع من شأن أمة الإسلام ويكملها ويسعدها في الدنيا والآخرة يوفيهم أجره مضاعفاً، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والحال أنهم لا يظلمون بحرمانهم من أجر إنفاقهم، ولا ينقصه بل يوفونه كاملا مضاعفاً.
ما في الآية من أحكام:
اشتملت الآية على الأحكام الفقهية التالية:
1- وجوب إعداد القوة لقتال العدو أو إرهابه.
2- وجوب إنفاق المال لذلك. لتوقف القوة على المال.
3- وجوب تعلّم فنون الحرب المختلفة وتعليمها لأفراد الأمة.
4- وجوب صنع السلاح وتطويره بحسب أحوال الأمم والشعوب.
5- وجوب الوحدة وجمع الكلمة ونصب الإمام وطاعته.
إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتم جهاد ولا إعداد له إلا بما ذكر.
وهذه الواجبات كفائية إذا وجدت في الأمة وقام بها بعضها سقط هذا الواجب عن باقي الأمة.
هداية الآية:
قد اشتملت هذه الآية الكريمة على أنواع من الهدايات منها:
1- أمة الإسلام: أمة واحدة تتكافأ دماؤها، ويسعى بذمتها أدناها، وهي يَدٌ واحدة على من سواها، دل على ذلك صيغة الجمع التي خاطبها اللّه تعالى بها في قوله: وأعدوا، ترهبون، وما تنفقوا، يوف إليكم، وأنتم لا تظلمون.
2- السلام المسلح: إذ الأمر بإعداد القوة أمر بما يُرهب العدو ويخيفه وبذلك هو إما أن يسلم أو يستسلم بدفع الجزية، أو يعاهد، ولا حرب ولا قتال مع كل ذلك وإنما هو السلم والسلام.
3- في قوله تعالى: ومن رباط الخيل، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم بالرمي كما في حديث عقبة بن عامر عند مسلم: "ألا إن القوة الرمي" قالها ثلاثا، عَلَم من أعلام النّبُوّة المحمدية إذ تحضير الدبابات والطائرات، قاذفات القنابل والصواريخ هي اليوم أنكى سلاح وأقواه أثراً في الحروب وقد أْشير إليه في الآية والحديث الشريف بصراحة ووضوح.
4- في وعد الله تعالى المنفقين بتوفية أجورهم كاملة غير منقوصة ما يساعد المؤمن على الإنفاق والبذل والعطاء في سبيل اللّه تعالى، وبذلك تقوى أمة الإسلام وتعز.
------------------
من وحي القوة في الإسلام
لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
الإسلام دين أحيا الله به قلوبا أماتتها الشهوات، وأنقذ به عقولا سممتها الشكوك والشبهات، وأحل به من الأغلال، أفكارا قيدتها الخرافات وسجنتها التخرصات، وجدع به أنوفا شمخت بها الجاهلية الجهلاء..
وهو دين ينشط الإنسان للعمل، ويحث على طلب العلم، ويدعو لاحترامه واستثماره..
وهو دين العقيدة الرائقة، التي تطهر النفس، وتزكي القلب، وتربي الخلق وتغذي العقل، وتوقف الغريزة عند حدها، وتعطي مطمح من مطامح الإنسان معناه الذاتي وسيره الطبيعي..
والإسلام عقيدة استعلاء.. تبعث في روح المؤمن الإحساس بالعزة من غير، وروح الثقة من لير اغترار.
وهذه العقيدة الإسلامية.. كفيلة بتعديل القيم والموازين، والحكم والتقدير والمنهج والسلوك، والوسائل والأسباب.
والإسلام بجانب هذا.. دين المسالمة مع المسالمين، والردع للمعادين.. نور يهدي.. ونار تحرق الطغاة الآثمين يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا جد الجد كان الصخرة التي يتحطم عليها كل جبار عنيد. ويطلب من المسلمين أن يكونوا على حذر في وقت السلم، حتى لا يؤاخذوا على غرة.. ويدعو المسلمين إلى الاستشهاد من أجل عزة الإسلام، ولا يعدل الجهاد في سبيل الله، مال، ولا ولد، ولا والد ولا عشيرة، ولا أهل .. والدفاع عن العقيدة والبلاد الإسلامية، من أسمى أهداف الإسلام. ولهذا كله قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [1] .
فالاستعداد بما في الطوق.. فريضة الجهاد في سبيل الله. والإسلام يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وأسبابها.. قوة العقيدة لأنها أسس الفضائل، وقوام الضمائر، وسند العزائم في الشدائد، وبلسم الصبر عند المصائب، وعماد الرضا والقناعة، ونور الأمل في الصدور، وعزاء القلوب إذا نزلت بالإنسان نازلة..(1/91)
والأمة الإسلامية في هذا العصر، الذي تكالبت فيه قوى الإلحاد، والمذاهب الهدامة، في أشد ما تكون إلى قوة العقيدة. وبالعقيدة القوية.. نستطيع أن نواجه تحديات العصر المسعورة من شيوعية، واشتراكية، وتقدمية، وثورية، وحتمية، وغيرها من ألفاظ قاموس الفكر الإلحادي الماركسي..
وقد تعلمنا من المعارك التي خاضها المسلمون، وانتصرت فيها الجيوش الإسلامية.. سواء في غزوة بدر أو القادسية، أو اليرموك، أو حطين أو عين جالوت، أو العاشر من رمضان تعلّمنا: أن الوسائل المادية ليست وحدها هي التي تفصل في المعارك. ولا يوجد ما يصون الاستعداد العسكري إلا العقيدة؛ لأنها هي التي تربط القلوب بالله، وتصل قوة المجاهدين بالقوة الكبرى التي لا تغلب..
ولو انتظر المسلمون في غزوة بدر الكبرى، حتى تتكافأ قوتهم، وقوة خصومهم، ما قامت للمسلمين قائمة.. إنما القلة المؤمنة بعقيدتها.. استعدت بقدر ما استطاعت، ثم خاضت المعركة فكان فيها الفرقان.. قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ, يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ, خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [2] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [3]
وفي هذه الآية ينادي رب العزة الذين آمنوا.. وخطاب المسلمين المؤمنين بصيغة {الَّذِينَ آمَنُوا .. } هو أمثل أنواع الخطاب، إبانة لحقيقتهم, هذا بجانب ما ينطوي عليه الخطاب من الدلالة على السمو والفضل.., وفي النداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} زيادة إيناس وتكريم للمؤمنين بعقيدتهم. وأحب شيء إلى الإنسان هو: أن تناديه بما يدل على تكريمه. والله سبحانه وتعالى يُشعِرُ بهذا النداء المؤمنين بأنه يخاطب أقرب الأشياء إلى المسلمين. فما في الإنسان شيء أقرب إلى الله من الإيمان به..
والله سجانه وتعالى حينما يتوجه إلى المؤمنين من خلال إيمانهم، بصيغة فعل الأمر مثل قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ..} , أو بصيغة النداء مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} يكون التالي تعليما بموجبات هذا الإيمان، وحثا على القيام بها، في أي شأن من الشؤون، وفي أي درب من ضروب الحياة..
ومن هذا ندرك أنّ الإسلام قد انطوى على طاقة فعّالة، جعلت منه قوة هائلة, بل إنّ فاعلية الإسلام شملت حياة المسلمين في جميع جوانبها..
فما أجدر أبناء الأمة الإسلامية، أن يهتموا بتعاليم الإسلام، وآدابه، ويتمسكوا بما جاء به من التوجيهات وإرشادات..
وللأمة الإسلامية في عقيدتها، قوة لا تدانيها قوة في القضاء على تخويف الملاحدة، وسماسرة الشيوعية [4] .
والله سبحانه وتعالى يعلم أنّ هذه الأمة لن تجد الطريق ميسّرة لها, وممهدة لنشر مبادئها.. ويعلم أن الباطل من دأبه أن يزداد شراسة وتنمرا، كلما وجد الحق تعلو كلمته.. محاولا القضاء على الحق، وأهله، في غير مبالاة لعهد أو قرابة أو إنسانية..
وحينئذ لا بد أن يتخذ أهل الحق عدتهم, ويحموا أنفسهم ودينهم, ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى الرسول صلى الله عليه وسلم, وأمته بالاستعداد الدائم والرباط المستمر.. تلبية لأية إشارة واستجابة لأول دعوة إلى الجهاد. [5] .
والتاريخ العربي قبل الإسلام.. حافل بذكر أقاصيص الحروب التي كانت تنشب بين القبائل العربية، كحرب البسوس، وحرب داحس, وحرب الغبراء، وغيرها، على النحو الذي أصبحت معه تلك الحروب من خصائص المجتمع العربي في العصر الجاهلي.. وكان الدافع لشن تلك الحروب، الرغبة في المغامرات طلباً لمغنم، أو تحقيقا لزعامة، أو طلبا لثأر، أو رداً لاعتبار، أو نزعة حيوانية.
على أنّ هذه الأنماط من الحروب، ذات الطبيعة الاعتدائية، باتت تتغير وتنحصر، مع انتشار العقيدة الإسلامية ودخول الناس في دين الله..
حيث أنّ المسلمين أنفوا أن يتخذوا من الحروب وسيلة للإيذاء، وأداة للثأر والاعتداء. وإنما الظروف القاسية ألجأت المسلمين إلى تكثيف القوى، وتجميع الطاقات..(1/92)
وذلك أن قوى الشر والضلال.. تعمل في هذه الأرض.. والمعركة مستمرة بين الخير والشر.. والصراع قائم بين قوى الإيمان، وقوى الطغيان منذ خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في هذا الوجود..
والشر جامع، والباطل مسلح، وهو يبطش غير متحرج، ويضرب غير متورع. فلا بد للحق من قوة تحمي من البطش، وتقي من الفتنة, وتحرس من الأشواك والسموم.. ولم يشأ الله سبحانه وتعالى أن يترك الإيمان والحق والخير دون قوة، تكافح قوى الطغيان والشر والباطل والإلحاد.. ؛لأن القوة التي يملكها الباطل، قد تزلزل القلوب، وتفتن الناس، وتزيغ الفطر.. ولهذا أمر الله المسلمين بإعداد القوة، فقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [6] ..
وعندئذ أذن الله للمسلمين في القتال, قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [7] .
والقتال في الإسلام .. جعل من غرضين أساسيين:
الغرض الأول: الدفاع عن النفس عند الاعتداء عليها، والدفاع عن الأرض, والبلاد التي يعيش المسلمون فيها..
الغرض الثاني: الدفاع عن الدعوة الإسلامية، والتعاليم الإلهية، حماية للحاملين مشعلها، وإفساح الطريق أمام الدعوة، ورسالة الحق..
ومن هذين الغرضين ندرك أن القتال في الإسلام، لم يشرع لتوسيع سلطان أو الغلبة والقهر، أو استعباد الشعوب، واستنزاف خيراتها، ولو ترك المشركون يعتذرون على المسلمين، ويقاومون الدعوة, ويصدون الناس عن الدخول في دين الله, ولم يشرع القتال في الإسلام، لطغى الباطل على الحق، وتضرّرت البلاد، وطمست معالم الدعوة.. ولولم يشرع القتال في الإسلام.. لبقى العالم من أقصاه إلى أقصاه، يئنّ ويرزح تحت وطأة الجهل والظلم والاستعباد..
وشعار الحروب الإسلامية.. الحرص على السلام والأمن، لجميع بني الإنسان في هذا الوجود.. ومن هنا صار الجهاد بوجه عام، مبدأ من مبادئ الإسلام التي أخذت مكانتها بين عقائده وفروعه, واستقرت دعوة القرآن إلى الجهاد على عمومه، متعلقة بذمة المسلمين جماعة وأفرادا [8] . ويقول صاحب البصائر [9] : "الجهاد: الطاقة والمشقة، وقيل بالفتح: المشقة، وبالضم: الوسع. وقيل الجهاد ما يجهد الإنسان.. قال تعالى في سورة التوبة: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِم} أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم..
والاجتهاد: أخذ النفس ببذل الطاقة, وتحمل المشقة في العبادة، يقال: جهدت رأيي واجتهدت: أتعبته بالفكر والجهاد.. والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو. وقال صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله" [10] ..
وقد يطلق الجهاد, ويراد به معنى يشمل القتال وغيره، كالجهاد بالمال في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [11] ..
و(؟) الجهاد بالكلمة منطوقة أو مكتوبة.. كجهاد الكافرين والمنافقين المذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [12] ..
ومنه جهاد النفس، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [13] فإن السورة مكية ولم يفرض قتال في مكة، وهذا المعنى للجهاد، هو المعنى العام، المأخوذ من المعنى اللغوي، الذي هو بذل الجهد والطاقة..
وقد ورد لفظ الجهاد في القرآن الكريم ثلاثين مرة. وورد كثيراً بلفظ القتال المرادف له، وكلاهما يرد أحيانا مقرونا وسبيل الله..
والأمة الإسلامية في حاجة إلى استيقاظ كل الخلايا فيها، واحتشاد كل قواها، وتوفر كل استعدادها، وتجمع كل طاقاتها..
ومن الواضح أن كلمة قوة، والتي جاءت في آية سورة الأنفال، التي تأمر بإعداد القوة. كلمة قوة هذه جاءت نكرة عامة, أتدري لم كان ذلك؟
لتشمل إعداد القوة بما يتناسب مع التقدم العلمي في كل مجالات الحياة، وتفيد الأمة أن إعداد القوة، هو ما يتفق مع استطاعة الأمة الإسلامية, فلا يستساغ أن ينتظر المسلمون ريثما يتم إعداد قوة تكافئ قوة العدو لأن ذلك قد يطول.(1/93)
وقد خطب عبد الله بن رواحة في جنده يشجعهم على لقاء العدو، حينما فزعوا من كثرة عَدده، وعُدده في غزوة مؤتة فقال: "يا قوم إن التي تكرهونها لهي الشهادة التي خرجتم تطلبونها، والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول, ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.. انطلقوا, فوالله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان, ويوم أحد ما معنا إلا فرس واحد.. انطلقوا, فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم فذلك ماوعدنا الله ورسوله, وليس لوعده خلف ..وإما الشهادة فنلحق بالإخوان، نرافقهم في الجنان" [14] .
وروى الواقدي عن أبي هريرة قال: "شهدت يوم مؤتة, فلما دنا المشركون منّا رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة، والسلاح، والكراع، والحرير، والديباج، والذهب.. فبرق بصري, فقال لي ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة: كأنك ترى جموعا كثيرة؟ قلت: نعم. قال: إنك لم تشهد بدراً معنا, إنّا لم ننتصر بالكثرة" [15] .
والأمثلة من واقع صفحات التاريخ الإسلامي كثيرة، وكلها تشهد لجنود الجيش الإسلامي بالصدق والإيمان. فما كانوا يرهبون الردى، يقدمون غير هيابين، ولا وجلين, على حد القائل:
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أيّ جنب كان في الله مصرعي
فلم ينظروا إلى كثرة جنود الأعداء، وحتى لو عرفوا, فما كان يحملهم ذلك على التراجع أو التردد.. وفي الوقت نفسه كان لهم من إيمانهم بالله، وثقتهم في النصر.. كان لهم من ذلك ما يدفعهم إلى الإقدام, وهم على حد قول محمد إقبال:
كنا جبالا في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
كنا نقدم للسيوف صدورنا لم نخش يوما غاشما جبارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة تنبت من حولنا الأزهارا
والأمة الإسلامية في أشد ما تكون إلى بطولة الأبطال، وحزم الرجال.. ونحن في حاجة إلى جيش إسلامي يعدّ إعدادا إسلاميا خاصا. وبهذا يمكن أن نتصدى لكل محاولات الأعداء, حتى ولو كانت من الداخل، وما أكثر محاولات الأعداء. فالأحزاب البعيدة عن الإسلام والتي تحكم بعض شعوب البلاد الإسلامية، يمكن أن تشكل خطرا جسيما، وبخاصة بعد تحالفها مع الأحزاب الشيوعية.. والأنظمة المستبدة يمكن أن تشكل خطرا، والأفكار المستوردة يمكن أن تكون أشد خطرا, وهناك من الفوضويين والمتمردين والأصوليين ما يسيء إلى البلاد الإسلامية..
ولهذا وغير هذا, كان على الأمة الإسلامية أن تفكر جديا، في أمر البلاد الإسلامية، وإنقاذ شعوبها من قسوة الأحزاب المستبدة، والأفكار الحمراء. وإن الشعوب تئن وتتوجع, ولا يصح أن نرى المد الإسلامي ينحسر، ونقف مكتوفي الأيدي، أو نزيد من الحوقلة، أو نقف موقف اللامبالين.. إن شؤون المسلمين تنادي المسلمين: أين أنتم, وأين مكانكم ؟
إن الأمر بالإعداد يجب أن يستمر, ولا يتوقف، ورسول الله عليه الصلاة والسلام لم يتوان ولم يتمهل في إعداد المسلمين إعداداً يتفق مع بناء دولة الإسلام. وكان المسلمون أقوياء في عقيدتهم، وأقوياء في إيمانهم، وأقوياء في فكرهم وثقافتهم وأخلاقهم وسلوكهم.
أحمد عبد الرحيم السايح
---------------------------
[1] سورة الأنفال الآية رقم 60.
[2] سورة التوبة الاية رقم 20 إلى 22 .
[3] سورة الصف الآية رقم 10 إلى 13 .
[4] انظر مقالنا: "من وحي الإسلام بمجلة الجندي المسلم العدد العاشر الرياض.
[5] انظر: مكتبة الإمام. عدد5 ص27 وزارة الأوقاف المصرية.
[6] سورة الأنفال ، الآية رقم 60 .
[7] سورة الحج ، الآيتان 29 ، 30 .
[8] راجع : سبل السلام للصنعاني ، الجزء الرابع ص54 .
[9] صاحب البصائر هو : الفيروز أبادي. صاحب كتاب (بصائر ذي التمييز في ألطاف الكتاب العزيز) وهو كتاب عظيم يقع في خمسة مجلدات ، وقد قام المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بطبعه.. وبصيرة الجهاد تجدها في الجزء الثاني. من ص401 .
[10] رواه الترمذي وابن حبان كما في الجامع الصغير .
[11] سورة التوبة ، الآية رقم 20 .
[12] سورة التحريم ، الآية رقم 9 ، وسورة التوبة الآية رقم 73 .
[13] سورة العنكبوت ، الآية رقم 69 .
[14] صورة من حياة الرسول ص517 .
[15] صورة من حياة الرسول ص516 .
===============
بذل الغالي والنفيس في سبيل الله(1/94)
قال تعالى في سورة التوبة ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {111} التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {112} (
هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عده من المرات ، في أثناء حفظي للقرآن ، وفي أثناء تلاوته ، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان . .
هذا النص - حين واجهته في "الظلال" أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان !
إنه نص رهيب ! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين باللّه ، وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة . فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف [ المؤمن ] وتتمثل فيه حقيقة الإيمان . وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق !
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها اللّه كرماً منه وفضلاً وسماحة - أن اللّه - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم ؛ فلم يعد لهم منها شيء . .
لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله . لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا . . كلا . .
إنها صفقة مشتراة ، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء ، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد ، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم ، لا يتلفت ولا يتخير ، ولا يناقش ولا يجادل ، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام . . والثمن:هو الجنة . .
والطريق:هو الجهاد والقتل والقتال . . والنهاية:هي النصر أو الاستشهاد: إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون . .
من بايع على هذا . من أمضى عقد الصفقة . من ارتضى الثمن ووفى . فهو المؤمن . .
فالمؤمنون هم الذين اشترى اللّه منهم فباعوا . .
ومن رحمة اللّه أن جعل للصفقة ثمنا ، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال ، وهو مالك الأنفس والأموال . ولكنه كرم هذا الإنسان فجعله مريداً ؛ وكرمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها - حتى مع اللّه - وكرمه فقيده بعقوده وعهوده ؛ وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة ؛ ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة:. .
شر البهيمة . .
إن شر الدواب عند اللّه الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون . .
كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء .
وإنها لبيعة رهيبة - بلا شك - ولكنها في عنق كل مؤمن - قادر عليها - لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه . ومن هنا تلك الرهبة التي أستشعرها اللحظة وأنا أخط هذه الكلمات:
إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون . .
عونك اللهم !
فإن العقد رهيب . . وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم "مسلمين" في مشارق الأرض ومغاربها ، قاعدون ، لا يجاهدون لتقرير ألوهية اللّه في الأرض ، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد . ولا يقتلون . ولا يقتلون . ولا يجاهدون جهاداً ما دون القتل والقتال !
ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين - على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم ؛ ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم ، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم . كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها . لتحويلها إلى حركة منظورة ، لا إلى صورة متأملة . . هكذا أدركها عبد اللّه بن رواحة - رضي اللّه عنه - في بيعة العقبة الثانية . قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة رضي اللّه عنه ، لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم ] - [ يعني ليلة العقبة ] -:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ؛ وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم . قال:فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك ؟ قال:
الجنة " . قالوا:ربح البيع ، ولا نقيل ولا نستقيل . .
هكذا . . " ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل " . . لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين ؛ انتهى أمرها ، وأمضي عقدها ، ولم يعد إلى مرد من سبيل:" لا نقيل ولا نستقيل " فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار ؛ والجنة:ثمن مقبوض لا موعود !(1/95)
أليس الوعد من اللّه ؟ أليس اللّه هو المشتري ؟ أليس هو الذي وعد الثمن . وعداً قديماً في كل كتبه:
وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن . .
ومن أوفى بعهده من اللّه ؟ .
أجل ! ومن أوفى بعهده من اللّه ؟
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . .
كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين اللّه . .
إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها: ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . .
ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيراً . .
إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه . ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق ! . . بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق . .
إن دين اللّه لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية للّه وحده . ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق . . بل لا بد أن يقطع عليه الطريق . .
ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله . ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً ! . .
وما دام في "الأرض" كفر . وما دام في "الأرض" باطل . وما دامت في "الأرض" عبودية لغير اللّه تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل اللّه ماض ، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء . وإلا فليس بالإيمان:و من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بغزو ، مات على شعبة من النفاق . . . [ رواه الإمام أحمد ، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ] . فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم .
استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم للّه ، وأخذ الجنة عوضاً وثمناً ، كما وعد اللّه . . وما الذي فات ؟ ما الذي فات المؤمن الذي يسلم للّه نفسه وماله ويستعيض الجنة ؟ واللّه ما فاته شيء . فالنفس إلى موت ، والمال إلى فوت . سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل اللّه أم في سبيل سواه !
والجنة كسب . كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة ! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو ذاك !
ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش للّه . ينتصر - إذا انتصر - لإعلاء كلمته ، وتقرير دينه ، وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه . ويستشهد - إذا استشهد - في سبيله ، ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة . ويستشعر في كل حركة وفي كل خطوة - أنه أقوى من قيود الأرض وأنه أرفع من ثقلة الأرض ، والإيمان ينتصر فيه على الألم ، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة .
إن هذا وحده كسب . كسب بتحقيق إنسانية الإنسان التي لا تتأكد كما تتأكد بانطلاقه من أوهاق الضرورة ؛ وانتصار الإيمان فيه على الألم ، وانتصار العقيدة فيه على الحياة . .
فإذا أضيفت إلى ذلك كله . . الجنة . .
فهو بيع يدعو إلى الاستبشار ؛ وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال:
فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم .
ثم نقف وقفة قصيرة أمام قوله تعالى في هذه الآية:
وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن . .
فوعد اللّه للمجاهدين في سبيله في القرآن معروف مشهور مؤكد مكرور . .
وهو لا يدع مجالا للشك في إصالة عنصر الجهاد في سبيل اللّه في طبيعة هذا المنهج الرباني ؛ باعتباره الوسيلة المكافئة للواقع البشري - لا في زمان بعينه ولا في مكان بعينه - ما دام أن الجاهلية لا تتمثل في نظرية تقابل بنظرية ولكنها تتمثل في تجمع عضوي حركي ، يحمي نفسه بالقوة المادية ؛ ويقاوم دين اللّه وكل تجمع إسلامي على أساسه بالقوة المادية كذلك ؛ ويحول دون الناس والاستماع لإعلان الإسلام العام بألوهية اللّه وحده للعباد ، وتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد . كما يحول دونهم ودون الانضمام العضوي إلى التجمع الإسلامي المتحرر من عبادة الطاغوت بعبوديته لله وحده دون العباد . .
ومن ثم يتحتم على الإسلام في انطلاقه في "الأرض" لتحقيق إعلانه العام بتحرير "الإنسان" أن يصطدم بالقوة المادية التي تحمي التجمعات الجاهلية ؛ والتي تحاول بدورها - في حتمية لا فكاك منها - أن تسحق حركة البعث الإسلامي وتخفت إعلانه التحريري ، لاستبقاء العباد في رق العبودية للعباد !
فأما وعد اللّه للمجاهدين في التوراة والإنجيل . فهو الذي يحتاج إلى شيء من البيان . .
إن التوراة والإنجيل اللذين في أيدي اليهود والنصارى اليوم لا يمكن القول بأنهما هما اللذان أنزلهما اللّه على نبيه موسى وعلى نبيه عيسى عليهما السلام ! وحتى اليهود والنصارى أنفسهم لا يجادلون في أن النسخة الأصلية لهذين الكتابين لا وجود لها ؛ وأن ما بين أيديهم قد كتب بعد فترة طويلة ضاعت فيها معظم أصول الكتابين ؛ ولم يبق إلا ما وعته ذاكرة بعد ذاكرة . .
وهو قليل . . أضيف إليه الكثير !
ومع ذلك فما تزال في كتب العهد القديم إشارات إلى الجهاد ، والتحريض لليهود على قتال أعدائهم الوثنيين ، لنصر إلههم وديانته وعبادته !(1/96)
وإن كانت التحريفات قد شوهت تصورهم للّه - سبحانه - وتصورهم للجهاد في سبيله . فأما في الأناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم فلا ذكر ولا إشارة إلى جهاد . .
ولكننا في حاجة شديدة إلى تعديل المفهومات السائدة عن طبيعة النصرانية ؛ فهذه المفهومات إنما جاءت من هذه الأناجيل التي لا أصل لها - بشهادة الباحثين النصارى أنفسهم ! - وقبل ذلك بشهادة اللّه سبحانه كما وردت في كتابه المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
واللّه سبحانه يقول في كتابه المحفوظ:إن وعده بالجنة لمن يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون ؛ ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن . .
فهذا إذن هو القول الفصل الذي ليس بعده لقائل مقال !
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . كل مؤمن على الإطلاق . منذ كانت الرسل ، ومنذ كان دين اللّه . .
ولكن الجهاد في سبيل اللّه ليس مجرد اندفاعة إلى القتال ؛ إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال . والمؤمنون الذين عقد اللّه معهم البيعة ، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة:
التائبون . العابدون . الحامدون . السائحون . الراكعون الساجدون . الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . والحافظون لحدود الله . .
التائبون . .
مما أسلفوا ، العائدون إلى اللّه مستغفرين . والتوبة شعور بالندم على ما مضى ، وتوجه إلى اللّه فيما بقي ، وكف عن الذنب ، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك . فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح .
العابدون . .
المتوجهون إلى اللّه وحده بالعبادة وبالعبودية ، إقراراً بالربوبية . .
صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر ، كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع . فهي إقرار بالألوهية والربوبية للّه في صورة عملية واقعية .
الحامدون . .
الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة ؛ وتلهج ألسنتهم بحمد اللّه في السراء والضراء . في السراء للشكر على ظاهر النعمة ، وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة . وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها ، ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن اللّه الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه ، مهما خفي على العباد إدراكه .
السائحون . .
وتختلف الروايات فيهم . فمنها ما يقول:إنهم المهاجرون . ومنها ما يقول:إنهم المجاهدون . ومنها ما يقول:إنهم المتنقلون في طلب العلم . ومنهم من يقول:إنهم الصائمون . .
ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق اللّه وسننه ، ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر: إن في خلق السماوات والأرض . واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض:ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك ! . . . . .
فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد . فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت اللّه على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى اللّه ، وإدراك حكمته في خلقه ، وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق . لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار . ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك . .
الراكعون الساجدون . .
الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم ؛ وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم . الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . .
وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة اللّه ، فيدين للّه وحده ولا يدين لسواه ، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع ؛ ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج اللّه وشرعه . .
ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم ؛ وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه للّه وحده ، وشريعة اللّه وحدها هي الحاكمة فيه ، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولاً إلى الأمر بالمعروف الأكبر ، وهو تقرير ألوهية اللّه وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم . والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولاً إلى النهي عن المنكر الأكبر . وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير اللّه عن طريق حكمهم بغير شريعة اللّه . . والذين آمنوا بمحمد - [ صلى الله عليه وسلم ] - هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة اللّه ، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة . فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي . ولم ينفقوا قط جهدهم ، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل !(1/97)
ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع . فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر ، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم !
والحافظون لحدود اللّه . .
وهو القيام على حدود اللّه لتنفيذها في النفس وفي الناس . ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها . .
ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم . ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة اللّه وحدها في أمره كله ؛ وإلا الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع ؛ ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به اللّه . .
والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع . ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود اللّه فيه . . كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم !
هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد اللّه معها بيعته . وهذه هي صفاتها ومميزاتها:توبة ترد العبد إلى اللّه ، وتكفه عن الذنب ، وتدفعه إلى العمل الصالح . وعبادة تصله باللّه وتجعل اللّه معبوده وغايته ووجهته . وحمد للّه على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل للّه والثقة المطلقة برحمته وعدله . وسياحة في ملكوت اللّه مع آيات اللّه الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق . وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة . وحفظ لحدود اللّه يرد عنها العادين والمضيعين ، ويصونها من التهجم والانتهاك . .
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها اللّه على الجنة ، واشترى منها الأنفس والأموال ، لتمضي مع سنة اللّه الجارية منذ كان دين اللّه ورسله ورسالاته . قتال في سبيل اللّه لإعلاء كلمة اللّه ؛ وقتل لأعداء اللّه الذين يحادون الله ؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل ، وبين الإسلام والجاهلية ، وبين الشريعة والطاغوت ، وبين الهدى والضلال .
وليست الحياة لهواً ولعباً . وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً . وليست الحياة سلامة ذليلة ، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة . .
إنما الحياة هي هذه:كفاح في سبيل الحق ، وجهاد في سبيل الخير ، وانتصار لإعلاء كلمة اللّه ، أو استشهاد كذلك في سبيل اللّه . .
ثم الجنة والرضوان . .
هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم . . . وصدق اللّه . وصدق رسول اللّه . .
=============
النظر في السنن
قال تعالى ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ {137} هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ {138} وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139} إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} آل عمران (
وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين ، ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة ، إنما هو حادث عابر ، وراءه حكمة خاصة . .
ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان . فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها . وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها:حكمة تمييز الصفوف ، وتمحيص القلوب ، واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم ؛ ووقف المسلمين أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه ، ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي !
ثم في النهاية محق الكافرين ، بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين . . وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة .
قد خلت من قبلكم سنن ، فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين . .
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون - إن كنتم مؤمنين - إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء ، والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ؟ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ، فقد رأيتموه وأنتم تنظرون .
لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة ، وأصابهم القتل والهزيمة . أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير . قتل منهم سبعون صحابيا ، وكسرت رباعية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وشج وجهه ، وأرهقه المشركون ، وأثخن أصحابه بالجراح . .(1/98)
وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس ، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر ، حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم: أنى هذا ؟ وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون ؟!
والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض . يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور . فهم ليسوا بدعا في الحياة ؛ فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف ، والأمور لا تمضي جزافا ، إنما هي تتبع هذه النواميس ، فإذا هم درسوها ، وأدركوا مغازيها ، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث ، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع ، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث ، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام . واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق . ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين ، لينالوا النصر والتمكين ؛ بدون الأخذ بأسباب النصر ، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول .
والسنن التي يشير إليها السياق هنا ، ويوجه أبصارهم إليها هي:
عاقبة المكذبين على مدار التاريخ . ومداولة الأيام بين الناس . والابتلاء لتمحيص السرائر ، وامتحان قوة الصبر على الشدائد ، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين .
وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال ، والمواساة في الشدة ، والتأسية على القرح ، الذي لم يصبهم وحدهم ، إنما أصاب أعداءهم كذلك ، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا ، وأهدى منهم طريقا ومنهجا ، والعاقبة بعد لهم ، والدائرة على الكافرين .
قد خلت من قبلكم سنن ، فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين . .
إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها ، وحاضرها بماضيها ، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها . وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ، ولم تكن معارفهم ، ولم تكن تجاربهم - قبل الإسلام - لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة . لولا هذا الإسلام - وكتابه القرآن - الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى ، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا . .
إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة ومجريات حياتهم ؛ فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها ، فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا . .
وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان ! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة . بل حملتهم إليها !
وارتقت بهم إلى مستواها ، في ربع قرن من الزمان . على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ؛ ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية ، إلا بعد أجيال وأجيال . . فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية ، وأنه إلى الله تصير الأمور . .
فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله ، واتسع له تصورها ، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة ، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة !
قد خلت من قبلكم سنن . .
وهي هي التي تحكم الحياة . وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة . فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله - بمشيئة الله - في زمانكم ، وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم .
فسيروا في الأرض . .
فالأرض كلها وحدة . والأرض كلها مسرح للحياة البشرية . والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر .
فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . .
وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض ، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك . .
ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة . بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه . وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل . .
وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة:إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا . ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة . وكي تحذر الإنزلاق مع المكذبين من جهة أخرى . وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير . وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير .
وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان:
هذا بيان للناس ، وهدى وموعظة للمتقين . .
هذا بيان للناس كافة . فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي . ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى ، وتجد فيه الموعظة ، وتنتفع به وتصل على هداه . .
طائفة "المتقين" . .
إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى . والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها . .(1/99)
والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل ، وبالهدى والضلال . . إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل . إنما تنقص الناس الرغبة في الحق ، والقدرة على اختيار طريقه . .
والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان ، ولا يحفظهما إلا التقوى . .
ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات . تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق ، ومن هدى ، ومن نور ، ومن موعظة ، ومن عبرة . . .
إنما هي للمؤمنين وللمتقين . فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة . وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة . .
واحتمال مشقات الطريق . .
وهذا هو الأمر ، وهذا هو لب المسألة . .
لا مجرد العلم والمعرفة . . فكم ممن يعلمون ويعرفون ، وهم في حمأة الباطل يتمرغون . إما خضوعا لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة ، وإما خوفا من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة !
وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون . إن كنتم مؤمنين . .
لا تهنوا - من الوهن والضعف - ولا تحزنوا - لما أصابكم ولما فاتكم - وأنتم الأعلون . .
عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده ، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه !
ومنهجكم أعلى . فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله ، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله !
ودوركم أعلى . فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها ، الهداة لهذه البشرية كلها ، وهم شاردون عن النهج ، ضالون عن الطريق . ومكانكم في الأرض أعلى ، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها ، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون . . فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون . وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا . فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا ، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص:
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين
وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله ، قد يكون إشارة إلى غزوة بدر . وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون . وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد . وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر . حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون ، وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد . حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها . .
ثم كانت الدولة للمشركين ، حينما خرج الرماة على أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واختلفوا فيما بينهم . فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة . جزاء وفاقا لهذا الاختلاف وذلك الخروج ، وتحقيقا لسنة من سنن الله التي لا تتخلف ، إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة . والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله ، لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد . وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض ، وهي مداولة الأيام بين الناس - وفقا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم - فتكون لهؤلاء يوما ولأولئك يوما . ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون . كما تتكشف الأخطاء . وينجلي الغبش .
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . . وليعلم الله الذين آمنوا . .
إن الشدة بعد الرخاء ، والرخاء بعد الشدة ، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس ، وطبائع القلوب ، ودرجة الغبش فيها والصفاء ، ودرجة الهلع فيها والصبر ، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح !
عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن:مؤمنين ومنافقين ، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم ، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم . ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده ، وهم مختلطون مبهمون !
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين . والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور . ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء ، وتجعله واقعا في حياة الناس ، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر ، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء . فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم .
ومداولة الأيام ، وتعاقب الشدة والرخاء ، محك لا يخطىء ، وميزان لا يظلم . والرخاء في هذا كالشدة . وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل . والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء ، وتتجه إلى الله في الحالين ، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله .(1/100)
وقد كان الله يربي هذه الجماعة - وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية - فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء ، والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب - وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة . لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة . ولتزيد طاعة لله ، وتوكلا عليه ، والتصاقا بركنه . ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين .
ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة ، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس ، وفيما بعد تمييز الصفوف ، وعلم الله للمؤمنين:
ويتخذ منكم شهداء . .
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون . يختارهم الله من بين المجاهدين ، ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد . إنما هو اختيار وانتقاء ، وتكريم واختصاص . . إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ، ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه .
ثم هم شهداء يتخذهم الله ، ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس . يستشهدهم فيؤدون الشهادة . يؤدونها أداء لا شبهة فيه ، ولا مطعن عليه ، ولا جدال حوله . يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق ، وتقريره في دنيا الناس . يطلب الله - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة ، على أن ما جاءهم من عنده الحق ؛ وعلى أنهم آمنوا به ، وتجردوا له ، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ؛ وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ؛ وعلى أنهم هم استيقنوا هذا ، فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس ، وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس . .
يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون . وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت . وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال !
وكل من ينطق بالشهادتين:شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لا يقال له أنه شهد ، إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها . ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها . ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله . فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد ؛ وأخص خصائص العبودية التلقي من الله . .
ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله . ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر . .
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض ، كما بلغها محمد صلى الله عليه وسلم فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس ، والذي بلغه عنه محمد [ صلى الله عليه وسلم ] هو المنهج السائد والغالب والمطاع ، وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثاء
فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله ، فهو إذن شهيد . أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها . واتخذه الله شهيدا . .
ورزقه هذا المقام .
هذا فقه ذلك التعبير العجيب:
ويتخذ منكم شهداء . . . .
وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ومقتضاه . . لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع !
والله لا يحب الظالمين . .
والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك . بوصفه أظلم الظلم وأقبحه . وفي القرآن:
إن الشرك لظلم عظيم . .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود:أنه قال:قلت:يا رسول الله . أي الذنب أعظم ؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك . . . . .
وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين ؛ فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين . فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله . والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين ، يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين . وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد ، لها مناسبتها الحاضرة . فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه . وهذا هو مقام الاستشهاد ، وفي هذا تكون الشهادة ؛ ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء . .
ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث ، في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى ، ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين ، وستارا لقدرته في هلاك المكذبين:
وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . .
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز . التمحيص عملية تتم في داخل النفس ، وفي مكنون الضمير . .
إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية ، وتسليط الضوء على هذه المكنونات . تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب ، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق ، بلا غبش ولا ضباب . .
وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه ، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها . وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها ، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب ، لا تظهر إلا بمثير !(1/101)
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله - سبحانه - بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء ، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير:
محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية .
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص . .
ثم إذا هو يكشف - على ضوء التجربة العملية ، وفي مواجهة الأحداث الواقعية - إن في نفسه عقابيل لم تمحص . وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط ! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه ، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد ، على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة ، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة !
والله - سبحانه - كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية ، وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض . فمحصها هذا التمحيص ، الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد ، لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها ، وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها:
ويمحق الكافرين . .
تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق ، وخلص من الشوائب بالتمحيص . .
وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات ، وفي النصر والهزيمة ، وفي العمل والجزاء . ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره ، وزاده الصبر على مشاق الطريق ، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين . ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون . .
إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور:
تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان:أسلمت وأنا على استعداد للموت . فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان ، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان !
إنما هي التجربة الواقعية ، والامتحان العملي . وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء ، ثم الصبر على تكاليف الجهاد ، وعلى معاناة البلاء .
وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى: ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم . .
ويعلم الصابرين . .
فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون . إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا . التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان . فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر ، ويختبر بها الإيمان . إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي:
معاناة الاستقامة على أفق الإيمان . والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك ، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني:في النفس وفي الغير ، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية . والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر !
والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات . والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال . . والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها ، في الطريق المحفوف بالمكاره . طريق الجنة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان !
ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون . .
وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة ، وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه . ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان ، ووزن الحقيقة يواجهها في العيان . فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها السنتهم ، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم ، على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم !
وبذلك يقدرون قيمة الكلمة ، وقيمة الأمنية ، وقيمة الوعد ، في ضوء الواقع الثقيل !
ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة ، والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة ، إنما هو تحقيق الكلمة ، وتجسيم الأمنية ، والجهاد الحقيقي ، والصبر على المعاناة . حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس !
ولقد كان الله - سبحانه - قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى ، وبلا كد من المؤمنين ولا عناء . وكان قادرا أن ينزل الملائكة تقاتل معهم - أو بدونهم - وتدمر على المشركين ، كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط . .
ولكن المسألة ليست هي النصر . .
إنما هي تربية الجماعة المسلمة ، التي تعد لتتسلم قيادة البشرية . .
البشرية بكل ضعفها ونقصها ؛ وبكل شهواتها ونزواتها ؛ وبكل جاهليتها وانحرافها . .
وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة . وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق ، وثبات على الحق ، وصبر على المعاناة ، ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية ، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف ، ووسائل العلاج . . ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة . وصبر على الشدة بعد الرخاء . وطعمها يومئذ لاذع مرير ! . .(1/102)
وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ، ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق ، الذي ينوطه بها في هذه الأرض . وقد شاء - سبحانه - أن يجعل هذا الدور من نصيب "الإنسان" الذي استخلفه في هذا الملك العريض !
وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه ، بشتى الأسباب والوسائل ، وشتى الملابسات والوقائع . . يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة ، فتستبشر ، وترتفع ثقتها بنفسها - في ظل العون الإلهي - وتجرب لذة النصر ، وتصبر على نشوته ، وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء ، وعلى التزام التواضع والشكر لله . . ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة . فتلجأ إلى الله ، وتعرف حقيقة قوتها الذاتية ، وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله . وتجرب مرارة الهزيمة ؛ وتستعلي مع ذلك على الباطل ، بما عندها من الحق المجرد ؛ وتعرف مواضع نقصها وضعفها ، ومداخل شهواتها ، ومزالق أقدامها ؛ فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة . .
وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد . .
ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد . .
وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد ؛ الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسملة - على نحو ما نرى في هذه الآيات - وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين .
وجوب التعلق بالمبدأ وليس بالأشخاص :
لأنَّ المبدأ لا يضل ولكن الأشخاص قد يضلون أو يحبسون أو يشردون في الأرض أو يقتلون وهذه نقطو جوهرية في صميم هذه الرسالة الخالدة وقد ترك كثير من الصحابة الجهاد في غزة أحد لما سمعوا بمقتل النبي صلى الله عليه وسلم وكثير من الناس اليوم أذا قتل الداعية أو سجن أو انحرف تخلوا عن الدعوة ويئسوا من رحمة الله تعالى وهذا أمر خطير يتعلق بعقيدة المسلم تجاه هذه الرسالة الخاتمة
قال تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
144 - (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل) كغيره (انقلبتم على أعقابكم) رجعتم إلى الكفر ، والجملة الأخيرة محل الاستفهام الإنكاري أي ما كان معبودا فترجعوا (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) وإنما يضر نفسه (وسيجزي الله الشاكرين) نعمه بالثبات(1/103)
لما انهزم ما انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم نادى الشيطان: ألا إن محمدا قد قتل ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمدا وإنما كان قد ضرب رسول الله فشجه في رأسه فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل وجوزوا عليه ذلك كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال ففي ذلك أنزل الله تعالى "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه. قال ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم فنزل "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل". رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة. ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" أي رجعتم القهقرى "ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين" أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه واتبعوا رسوله حيا وميتا. وكذلك ثبت في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها. وقال الزهري: وحدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس وقال: اجلس يا عمر قال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل - إلى قوله - وسيجزي الله الشاكرين" قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر فتلاها منه الناس كلهم فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها. وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرقت حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض. وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا علي بن عبدالعزيز حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس أن عليا كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني
------------------
إن الآية الأولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة , حدثت في غزوة أحد . ذلك حين انكشف ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل , فركبه المشركون , وأوقعوا بالمسلمين , وكسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم وشج وجهه , ونزفت جراحه ; وحين اختلطت الأمور , وتفرق المسلمون , لا يدري أحدهم مكان الآخر . .
حينئذ نادى مناد:إن محمدا قد قتل . .
وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين . فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة , مصعدين في الجبل منهزمين , تاركين المعركة يائسين .
لولا أن ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك القلة من الرجال ; وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون , حتى فاءوا إليه , وثبت الله قلوبهم , وأنزل عليهم النعاس أمنة منه وطمأنينة . .
كما سيجيء . .
فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول , يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه , ومناسبة لتقرير حقائق التصور الإسلامي ; ويجعلها محورا لإشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة , وفي تاريخ الإيمان ومواكب المؤمنين: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ? ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا . وسيجزي الله الشاكرين) . . إن محمدا ليس إلا رسولا . سبقته الرسل . وقد مات الرسل . ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله . .
هذه حقيقة أولية بسيطة . فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة ?
إن محمدا رسول من عند الله , جاء ليبلغ كلمة الله . والله باق لا يموت , وكلمته باقية لا تموت . . وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل . .
وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول . وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة !(1/104)
إن البشر إلى فناء , والعقيدة إلى بقاء , ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس , من الرسل والدعاة على مدار التاريخ . . والمسلم الذي يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيرا . الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة . وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك !
ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحدا إثر واحد . .
وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم , وبكل مشاعرهم , حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره صلى الله عليه وسلم . .
هذا المسلم الذي يحب محمدا ذلك الحب , مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد صلى الله عليه وسلم والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده , باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت .
إن الدعوة أقدم من الداعية:(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) . .
قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن , العميقة في منابت التاريخ , المبتدئة مع البشرية , تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق .
وهي أكبر من الداعية , وأبقى من الداعية . فدعاتها يجيئون ويذهبون , وتبقى هي على الأجيال والقرون , ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الأول , الذي أرسل بها الرسل , وهو باق - سبحانه - يتوجه إليه المؤمنون . .
وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه , ويرتد عن هدى الله . والله حي لا يموت:
ومن ثم هذا الاستنكار , وهذا التهديد , وهذا البيان المنير:
(أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ? ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا . وسيجزي الله الشاكرين) . .
وفي التعبير تصوير حي للارتداد: (انقلبتم على أعقابكم) . .
(ومن ينقلب على عقبيه) . فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة , كأنه منظر مشهود . والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة , ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف:إن محمدا قد قتل , فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين , وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين , وانتهى أمر الجهاد للمشركين ! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا , فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب , كارتدادهم في المعركة على الأعقاب !
وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس - رضي الله عنه - فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم , وقالوا له:إن محمدا قد مات:" فما تصنعون بالحياة من بعده ? فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
(ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) . .
فإنما هو الخاسر , الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق . .
وانقلابه لن يضر الله شيئا . فالله غني عن الناس وعن إيمانهم . ولكنه - رحمة منه بالعباد - شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم , ولخيرهم هم . وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله . وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق , وتعوج الأمور كلها , ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة , وتستقيم في ظله النفوس , وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها , والسلام مع الكون الذي تعيش فيه .
(وسيجزي الله الشاكرين) . .
الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج , فيشكرونها باتباع المنهج , ويشكرونها بالثناء على الله , ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على شكرهم , ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة , وهو أكبر وأبقى . .
وكأنما أراد الله - سبحانه - بهذه الحادثة , وبهذه الآية , أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي بينهم . وأن يصلهم مباشرة بالنبع . النبع الذي لم يفجره محمد صلى الله عليه وسلم ولكن جاء فقط ليومىء إليه , ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق , كما أومأ إليه من قبله من الرسل , ودعوا القافلة إلى الارتواء منه !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يأخذ بأيديهم , فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى . العروة التي لم يعقدها محمد صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر , ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة , وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة , وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط . حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة , التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول صلى الله عليه وسلم أو يقتل , فهم إنما بايعوا الله . وهم أمام الله مسؤولون !(1/105)
وكأنما كان الله - سبحانه - يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى - حين تقع - وهو - سبحانه - يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم . فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب , وأن يصلهم به هو , وبدعوته الباقية , قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول .
ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول . حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهرا سيفه , يهدد به من يقول:إن محمدا قد مات !
ولم يثبت إلا أبو بكر , الموصول القلب بصاحبه , وبقدر الله فيه , الاتصال المباشر الوثيق . وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع , فإذا هم يثوبون ويرجعون !
ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية , لمسة موحية , تطرد ذلك الخوف , عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة , وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير , ومن ابتلاء للعباد وجزاء:
(وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا . ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ; ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها . وسنجزي الشاكرين) . .
إن لكل نفس كتابا مؤجلا إلى أجل مرسوم . ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم . فالخوف والهلع , والحرص والتخلف , لا تطيل أجلا . والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمرا . فلا كان الجبن , ولا نامت أعين الجبناء . والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد !
بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس , فتترك الاشتغال به , ولا تجعله في الحساب , وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية . وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص , كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع . وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته , في صبر وطمأنينة , وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده .
ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول . .
فإنه إذا كان العمر مكتوبا , والأجل مرسوما . . فلتنظر نفس ما قدمت لغد ; ولتنظر نفس ماذا تريد . . أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان , وأن تحصر همها كله في هذه الأرض , وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها ? أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى , وإلى اهتمامات أرفع , وإلى حياة أكبر من هذه الحياة ? . .
مع تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة ?!
(ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها . ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) .
وشتان بين حياة وحياة !
وشتان بين اهتمام واهتمام ! - مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل - والذي يعيش لهذه الأرض وحدها , ويريد ثواب الدنيا وحدها . .
إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام ! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . والذي يتطلع إلى الأفق الآخر . .
إنما يحيا حياة "الإنسان" الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . .
(وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) . .
(وسنجزي الشاكرين) . .
الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان , فيرتفعون عن مدارج الحيوان ; ويشكرون الله على تلك النعمة , فينهضون بتبعات الإيمان . .
وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة , وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء , وفق ما يريدونه لأنفسهم , من اهتمام قريب كاهتمام الدود , أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان !
وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف - وهي لا تملك شيئا في شأن الموت والحياة - إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس , في الحقل الذي تملكه , وتملك فيه الاختيار . فتختار الدنيا أو تختار الآخرة . وتنال من جزاء الله ما تختار !( الظلال)
===============
الاقتداء بالصالحين من السلف الصالح
كالإقتداء بسحرة فرعون لما عرفوا الحق آمنوا به وثبتوا عليه والاقتداء بصاحب يس الذي قدم نفسه سخية في سبيل الله وغيرهم كثير
قال تعالى : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146)
ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم . من موكب الإيمان اللاحب الممتد على طول الطريق , الضارب في جذور الزمان . . من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم , وقاتلوا مع أنبيائهم , فلم يجزعوا عند الابتلاء ; وتأدبوا - وهم مقدمون على الموت - بالأدب الإيماني في هذا المقام . . مقام الجهاد . . فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربهم ; وأن يجسموا أخطاءهم فيروها "إسرافا" في أمرهم . وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار . . وبذلك نالوا ثواب الدارين , جزاء إحسانهم في أدب الدعاء , وإحسانهم في موقف الجهاد . وكانوا مثلا يضربه الله للمسلمين:(1/106)
(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير , فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله , وما ضعفوا وما استكانوا . والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا , وإسرافنا في أمرنا ; وثبت أقدامنا ; وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة . والله يحب المحسنين) . .
لقد كانت الهزيمة في "أحد" , هي أول هزيمة تصدم المسلمين , الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل ; فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية . فلما أن صدمتهم أحد , فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه !
ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم . واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة , وبالاستنكار تارة , وبالتقرير تارة , وبالمثل تارة , تربية لنفوسهم , وتصحيحا لتصورهم , وإعدادا لهم . فالطريق أمامهم طويل , والتجارب أمامهم شاقة , والتكاليف عليهم باهظة , والأمر الذي يندبون له عظيم .
والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام , لا يحدد فيه نبيا , ولا يحدد فيه قوما . إنما يربطهم بموكب الإيمان ; ويعلمهم أدب المؤمنين ; ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين ; ويربطهم بأسلافهم من اتباع الأنبياء ; ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين ; ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد . وإنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير:
(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير . فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا) . .
. . وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة . فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح . وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح , وما استسلموا للجزع ولا للأعداء . . فهذا هو شأن المؤمنين , المنافحين عن عقيدة ودين . .
(والله يحب الصابرين) . . الذين لا تضعف نفوسهم , ولا تتضعضع قواهم , ولا تلين عزائمهم , ولا يستكينون أو يستسلمون . .
والتعبير بالحب من الله للصابرين . له وقعه . وله إيحاؤه . فهو الحب الذي يأسو الجراح , ويمسح على القرح , ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير !
وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء . فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم . صورة الأدب في حق الله , وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس , ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه . ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى الله . . لا لتطلب النصر أول ما تطلب - وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس - ولكن لتطلب العفو والمغفرة , ولتعترف بالذنب والخطيئة , قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء:
(وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا , وإسرافنا في أمرنا , وثبت أقدامنا , وانصرنا على القوم الكافرين) . .
إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء . بل لم يطلبوا ثوابا ولا جزاء . .
لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة . لقد كانوا أكثر أدبا مع الله , وهم يتوجهون إليه , بينما هم يقاتلون في سبيله . فلم يطلبوا منه - سبحانه - إلا غفران الذنوب , وتثبيت الأقدام . .
والنصر على الكفار . فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار . .
إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم .
وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئا , أعطاهم الله من عنده كل شيء . أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة . وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه:
(فآتاهم الله ثواب الدنيا , وحسن ثواب الآخرة) . .
وشهد لهم - سبحانه - بالإحسان . فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد , وأعلن حبه لهم . وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب:
(والله يحب المحسنين) . .
وهكذا تنتهي هذه الفقرة في الاستعراض ; وقد تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور الإسلامي . وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة . وقد ادخرت هذا الرصيد للأمة المسلمة في كل جيل .( الظلال)
-----------------------
وفي كتاب السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث1 - (ج 2 / ص 324)
رابعًا: ضرب المثل بالمجاهدين السابقين:
قال تعالى: ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [آل عمران: 146-148].
قال ابن كثير: عاتب الله بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمدًا قد قتل, فعذَلهم الله على فرارهم وتركهم القتال(2).
__________(1/107)
(1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص137.
(2) انظر: تفسير ابن كثير (1/410).
وضرب الله لهم مثلا بإخوانهم المجاهدين السابقين، وهم جماعة كثيرة، ساروا وراء أنبيائهم في درب الجهاد في سبيل الله، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا عن الجهاد بعد الذي أصابهم منه، وما استكانوا للعدو، بل ظلوا صابرين ثابتين في جهادهم، وفي هذا تعريض بالمسلمين الذين أصابهم الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم، وضرب الله مثلا للمؤمنين لتثبيتهم بأولئك الربانيين وبما قالوه: ( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) [آل عمران: 147] وهذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى نفوسهم -مع كونهم ربانيين- هضم لها واعتراف منهم بالتقصير ودعاؤهم بالاستغفار من ذنوبهم مقدم على طلبهم تثبيت أقدامهم أمام العدو، ليكون طلبهم إلى ربهم النصر عن زكاة وطهارة وخضوع، وفي هذا تعليم للمسلمين إلى أهمية التضرع، والاستغفار وتحقيق التوبة. وتظهر أهمية ذلك في إنزال النصر على الأعداء ( فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) أي وبذلك نالوا ثواب الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والثواب الحسن في الآخرة، جزاء إحسانهم في أدب الدعاء والتوجه إلى الله, وإحسانهم في موقف الجهاد, وكانوا بذلك مثلا يضربه الله للمسلمين المجاهدين، وخص الله تعالى ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه على ثواب الدنيا وأنه هو المعتمد عنده(1).
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/204).
--------------------------
وفي التفسير الوسيط - (ج 1 / ص 759):
ثم بين - سبحانه - ما كان عليه أتباع الأنبياء السابقين من إيمان عميق ، وعزم وثيق ، حتى يتأسى بهم كل ذى عقل سليم ، فقال - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا } .
وكلمة { وَكَأَيِّن } مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية الدالة على الكثير .
ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها وهى مبتدأ : وجملة { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } خبرها .
والربيون جمع ربى ، وهو العالم بربه ، الصادق فى إيمانه به ، الملخص له فى عبادته نسبة إلى الرب كالربانى .
قال القرطبى ما ملخصه : والربيون - بكسر الراء - قراءة الجمهور . وقرأها بعضهم بضم الراء وقرأها بعضهم بفتحها والربيون : الجماعة الكثيرة نسبة إلى الربة - بكسر الراء وضمها - وهى الجماعة . . ومنه يقال للخرقة التى تجمع فيها القداح : ربة . وربة والرباب : قبائل تجمعت
وقال ابن عباس : ربيون - بفتح الراء - منسوب إلى الرب .
وقال الخليل : الربى - بكسر الراء - الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء ، وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله - تعالى - . وقوله { فَمَا وَهَنُواْ } من الوهن وهو اضطراب نفسى ، وانزعاج قلبي ، يبتدىء من داخل الإنسان ، فإذا وصل إلى الخارج كان ضعفاً وتخاذلا .
والمعنى : وكثير من الأنبياء قاتل معهم مؤمنون صادقو الإيمان من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وأصيبوا وهم يقاتلون بما أصيبوا من جراح وآلام ، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } أى فما عجزوا أو جبنوا بسبب ما أصابهم من جراح ، أو ما أصاب أنبياءهم وإخوانهم من قتل واستشهاد . لأن الذى أصابهم إنما هو فى سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ، ونصرة رسله .
وقوله { وَمَا ضَعُفُواْ } أى : عن قتال أعدائهم وعن الدفاع عن الذى آمنوا به وقوله { وَمَا استكانوا } أى ما خضعوا وذلوا لأعدائهم .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد نفى عن هؤلاء المؤمنين الصادقين ثلاثة أوصاف لا تتفق مع الإيمان .
نفى عنهم - أولا - الوهن وهو اضطراب نفسى ، وهلع قلبى ، يستولى على الإنسان فيفقده ثباته وعزيمته .
ونفى عنهم - ثانيا - الضعف الذى هو ضد القوة ، وهو ينتج عن الوهن
ونفى عنهم - ثالثاً - الاستكانة وهى الرضا بالذل والخضوع للاعداء ليفعلوا بهم ما يريدون .
وقد نفى - سبحانه - هذه الأوصاف الثلاثة عن هؤلاء المؤمنين الصادقين مع أن واحداً منها يكفى نفيه لنفيها لأنها متلازمة - وذلك لبيان قبح ما يقعون فيه من أضرار فيما لو تمكن واحد من هذه الأوصاف من نفوسهم
وجاء ترتيب هذه الأوصاف فى نهاية الدقة بحسب حصولها فى الخارج ، فإن الوهن الذى هو خور فى العزيمة إذا تمكن من النفس أنتج الضعف الذى هو لون من الاستسلام والفشل .(1/108)
ثم تكون بعدهما الاستكانة التى يكون معها الخضوع لكل مطالب الأعداء وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة فى حياته كان الموت أكرم له من هذه الحياة .
وقوله { والله يُحِبُّ الصابرين } تذييل قصد به حض المؤمنين على تحمل المكاره وعلى مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره من أجل إعلاء دينهم حتى يفوزوا برضا الله ورعايته كما فاز أولئك الأنقياء الأوفياء .
أى والله - تعالى - يحب الصابرين على آلام القتال ، ومصاعب الجهاد ، ومشاق الطاعات ، وتبعات التكاليف التى كلف الله - تعالى - بها عباده
ثم أتبع - سبحانه - محاسنهم الفعلية ، ببيان محاسنهم القولية فقال - تعالى - { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } .
أى أن هؤلاء الأنقياء الأوفياء الصابرين ما كان لهم من قول فى مواطن القتال وفى عموم الأحوال إلا الضراعة إلى الله - بثلاث أمور :
أولها : حكاه القرآن عنهم فى قوله : { ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا } .
أى : إنهم يدعون الله - تعالى - بأن يغفر لهم ذنوبهم ما كان صغيرا منها وما كان كبيرا : وأن يغفر لهم ( إسرافهم فى أمرهم ) أى ما تجاوزوه من الحدود التى حدها لهم وأمرهم بعدم تجاوزها .
وثانيها : حكاه القرآن عنهم فى قوله { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } أى أجعلنا يا ربنا ممن يثبت لحرب أعدائك وقتالهم ولا تجعلنا ممن يوليهم الأدبار .
وثالثها : حكاه القرآن عنهم فى قوله { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } أى اجعل النصر لنا يا ربنا على أعدائك وأعدائنا الذين جحدوا وحدانيتك ، وكذبوا نبيك وضلوا ضلالا بعيدا .
وتأمل معى - أخى القارىء- هذه الدعوات الكريمة تراها قد جمعت من صدق اليقين ، وحسن الترتيب .
فهم قد التمسوا - أولا - من خالقهم مغفرة ذنوبهم والتجاوز عما وقعوا فيه من أخطاء وهذا يدل على سلامة قلوبهم وتواضعهم واستصغار أعمالهم مهما عظمت أمام فضل الله ونعمه .
ثم التمسوا منه - ثانيا - تثبيت أقدامهم عند لقاء الأعداء حتى لا يفروا من أمامهم .
ثم التمسوا منه - ثالثا - النصر على الكافرين وهو غاية القتال ، لأن الانتصار عليهم يؤدى إلى منع وقوع الفتنة فى الأرض ، وإلى إعلاء كلمة الحق .
قال صاحب الكشاف : قوله { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } الخ هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين هضما لها واستقصارا . والدعاء بالاستغفار منها مقدما على طلب تثبيت الأقدام فى مواطن الحرب والنصرة على العدو ، ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة وخضوع . وهو أقرب إلى الاستجابة " .
وكان هنا ناقصة ، وقوله { قَوْلَهُمْ } بالنصب خبرها واسمها المصدر المتحصل من " أن " وما بعدها فى قوله { إِلاَّ أَن قَالُواْ } والاستثناء مفرغ
أى : ما كان قولهم فى ذلك المقام وفى غيره من المواطن إلا قولهم هذا الدعاء أى هو دأبهم وديدنهم .
ثم بين - سبحانه - الثمار التى ترتبت على هذا الدعاء الخاشع والإيمان الصادق والعمل الخالص لوجهه - سبحانه - فقال : { فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة والله يُحِبُّ المحسنين } .
والفاء فى قوله { فَآتَاهُم } لترتيب ما بعدها على ما قبلها .
أى أن هؤلاء الذين آمنوا بالله حق الإيمان وجاهدوا فى سبيله حق الجهاد لم يخيب الله - تعالى - سعيهم ولم يقفل بابه عن إجابة دعائهم ، وإنما أعطاهم الله - تعالى - لأنه غير زائل ، وغير مشوب بتنغيص أو قلق .
وقوله { والله يُحِبُّ المحسنين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، فإن محبة الله - تعالى - للعبد مبدأ كل خير وسعادة .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد قررت فى مطلعها حقيقة ثابتة . وهى أن محمدا صلى الله عليه وسلم بشر من البشر ، وأنه يموت كما يموت سائر البشر وأن رسالته لا تموت من بعده بل على أتباعه أن يسيروا على طريقته وأن يحملوا من بعده عبء تبليغ تعاليم الإسلام الذى جاء به ثم قررت بعد ذلك أن الآجال بيد الله وأن الحذر لا يمنع القدر وأن أحداً لن يموت قبل انتهاء أجله ، ما دام الأمر كذلك فعلى المؤمنين أن يجاهدوا الكفار والمنافقين وأن يغلظوا عليهم .
==============
الأسوة الحسنة بالرسول صلى الله عليه وسلم
وقال تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد , مثابة الأمان للمسلمين , ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان . وإن دراسة موقفه صلى الله عليه وسلم في هذا الحادث الضخم لمما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم ; وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ; وتطلب نفسه القدوة الطيبة ; ويذكر الله ولا ينساه .(1/109)
ويحسن أن نلم بلمحات من هذا الموقف على سبيل المثال . إذ كنا لا نملك هنا أن نتناوله بالتفصيل .
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في الخندق مع المسلمين يضرب بالفأس , يجرف التراب بالمسحاة , ويحمل التراب في المكتل . ويرفع صوته مع المرتجزين , وهم يرفعون أصواتهم بالرجز في أثناء العمل , فيشاركهم الترجيع ! وقد كانوا يتغنون بأغان ساذجة من وحي الحوادث الجارية:كان هناك رجل من المسلمين اسمه جعيل , فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه , وسماه عمرا . فراح العاملون في الخندق يغنون جماعة بهذا الرجز الساذج:
سماه من بعد جعيل عمرا وكان للبائس يوما ظهرا
فإذا مروا في ترجيعهم بكلمة "عمرو" , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" عمرا " . وإذا مروا بكملة "ظهر" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ظهرا " .
ولنا أن نتصور هذا الجو الذي يعمل فيه المسلمون , والرسول صلى الله عليه وسلم بينهم , يضرب بالفأس , ويجرف بالمسحاة , ويحمل في المكتل , ويرجع معهم هذا الغناء . ولنا أن نتصور أية طاقة يطلقها هذا الجو في أرواحهم ; وأي ينبوع يتفجر في كيانهم بالرضى والحماسة والثقة والاعتزاز .
وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب . فقال صلى الله عليه وسلم " أما إنه نعم الغلام ! " وغلبته عيناه فنام في الخندق . وكان القر شديدا . فأخذ عمارة بن حزم سلاحه , وهو لا يشعر . فلما قام فزع . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا أبا رقاد ! نمت حتى ذهب سلاحك " ! ثم قال:" من له علم بسلاح هذا الغلام " ? فقال عمارة:يا رسول الله هو عندي . فقال:" فرده عليه " . ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعبا !
وهو حادث كذلك يصور يقظة العين والقلب , لكل من في الصف , صغيرا أو كبيرا . كما يصور روح الدعابة الحلوة الحانية الكريمة:" يا أبا رقاد ! نمت حتى ذهب سلاحك ! " ويصور في النهاية ذلك الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه في كنف نبيهم , في أحرج الظروف . .
ثم كانت روحه صلى الله عليه وسلم تستشرف النصر من بعيد , وتراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول ; فيحدث بها المسلمين , ويبث فيهم الثقة واليقين .
قال ابن إسحاق:وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال:ضربت في ناحية من الخندق , فغلظت علي صخرة , ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني . فلما رآني أضرب , ورأى شدة المكان علي , نزل فأخذ المعول من يدي , فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة . قال:ثم ضرب به ضربة أخرى , فلمعت تحته برقة أخرى . قال:ثم ضرب به الثالثة , فلمعت تحته برقة أخرى قال:قلت:بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! ما هذا الذي رأيت , لمع المعول وأنت تضرب ? قال:" أو قد رأيت ذلك يا سلمان " ? قال:قلت . نعم:قال:" أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن . وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب . وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق " . .
وجاء في "إمتاع الاسماع للمقريزي" أن هذا الحادث وقع لعمر بن الخطاب بحضور سلمان . رضي الله عنهما .
ولنا أن نتصور اليوم كيف يقع مثل هذا القول في القلوب , والخطر محدق بها محيط .
ولنا أن نضيف إلى تلك الصور الوضيئة صورة حذيفة عائدا من استطلاع خبر الأحزاب وقد أخذه القرالشديد ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي في ثوب لإحدى أزواجه . فإذا هو في صلاته واتصاله بربه , لا يترك حذيفة يرتعش حتى ينتهي من صلاته بل يأخذه - صلوات الله وسلامه عليه - بين رجليه , ويلقي عليه طرف الثوب ليدفئه في حنو . ويمضي في صلاته . حتى ينتهي , فينبئه حذيفة النبأ , ويلقي إليه بالبشرى التي عرفها قلبه صلى الله عليه وسلم فبعث حذيفة يبصر أخبارها !
أما أخبار شجاعته صلى الله عليه وسلم في الهول , وثباته ويقينه , فهي بارزة في القصة كلها , ولا حاجة بنا إلى نقلها , فهي مستفيضة معروفة .
وصدق الله العظيم:(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر , وذكر الله كثيرا) .(الظلال)
---------------------
لا عبودية بغير تمكين. ولا مغفرة من غير فتح. ولا فتح بلا شهادة.
هناك قاعدة، نستمدها من مجموع بعض الآيات والأحاديث في موضوع تحقيق عبودية الله في النفس الإنسانية، هذه القاعدة هي: لا عبودية بغير تمكين. ولا مغفرة من غير فتح. ولا فتح بلا شهادة.
1 - لا عبودية بغير تمكين(1/110)
استقر في أذهان المسلمين في هذه الأيام أن عبوديتهم لله تتحقق بمثل ما يقومون به من أعمال تعبدية فردية، فهم يصلون ويصومون ويحجون، ويذكرون الله كثيرا، وإذا حدثتهم عن مهمة الإسلام العظمى وهي بسط سلطان الله في الأرض، وتمكين دين الله في الوجود، عدوا ذلك من نافلة القول في موضوع العبودية، بل قد وصل الأمر ببعض (الأذكياء) أن يعد الحديث عن هذا الأمر (أي الحاكمية) هو حديث الباحثين عن الشهوة في الحكم، فهذا سلفي مزعوم وهو الدكتور ربيع المدخلي في كتابه "منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله"، يقرر أن الإمامة ليست من قواعد أهل السنة والجماعة، وهو بسوق حديثه ضد بعض الجماعات المسلمة التي تتكلم عن موضوع تحكيم الشريعة الإسلامية وأنه مهمة عظمى، وساق هذا الرجل الواهم كلاما لشيخ الإسلام ابن تيمية في موضوع الإمامة في رده على الشيعة الروافض وعقيدتهم في الإمامة، والأمر بينهما جد مختلف ويبصره صغار الطلبة وأنصاف المتعلمين، لكن هذا الرجل (ربيع المدخلي) يكفيه أن يعلن أنه سلفي!! ليكون إماما لبعض الصبية الأغرار ممن تغرهم الشعارات والعبارات البراقة. الإمامة في دين الله مطلب شرعي، ولا تتحقق عبودية المسلم في الأرض إلا إذا صار إماما، ونقصد هنا بالإم امة والإمام هو التمكين بالغلبة والقوة. فكلما زاد تمكين المسلم في الأرض كلما زادت عبوديته، وكلما نقص تمكين المسلم في الأرض كلما نقصت عبوديته.
وهذا الفهم له أدلة كثيرة منها:
أولا : قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} غافر، وقال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون} الصافات، وقال تعالى: ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} الأنبياء، وقال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم}. هذه الآيات وغيرها الكثير تربط بين صدق الدعوى وصدق الوعد.
أما الدعوى فهي الإيمان وهي أعلى مراتب تحقيق العبودية.
وأما الوعد فهو التمكين، فإذا وجدت الدعوى فلا بد أن يتحقق الوعد، وتخلف الوعد يدل لزوما على تخلف الدعوى، وللتذكير فإن هذه القواعد القرآنية هي قواعد الجماعة ولا تعمل إلا من خلال الجماعة، وإذا تأملت في الآيات السالفة بعين نظر رأيت صفة الجمع للدعوى: {الذين آمنوا} و{جندنا} و{عبادي الصالحون} فإنها تتكلم عن جماعة لا عن أفراد، وهذه قاعدة سنتكلم عليها إن شاء الله في مقام قادم.
فالتمكين الذي هو النصر والغلبة مظهر من مظاهر عبودية المسلم في الأرض، وطلب التمكين في الأرض أمر إلهي واجب، على قاعدة أن الوعود الإلهية هي أوامر لتحقيق أسبابها والسعي في إدراكها، فأي جماعة لا تعمل في أسباب التمكين في الأرض بالغلبة والقوة لا تستحق أن تلج باب العبودية لرب الأرباب، والتمكين لا يتم إلا بالفتح كما أن الفتح لا يتم إلا بشهادة.
وأما قول بعضهم من جماعات الوهم الساذج، أو جماعات الفكر العرفاني - وهم الذين لا يرون الارتباط بين السبب الكوني والنتيجة القدرية - أن التمكين يتم عن طريق البلاغ فقط، أو عن طريق التصفية والتربية (بالمفهوم الصوفي الجديد تحت دعوى السلفية) أو عن طريق صندوق العجائب، فهؤلاء قوم حادوا عن جادة الصواب.
ثانيا : إن الكثير من الآيات الربانية، والأوامر النبوية لا يمكن أن يعملها المسلم إلا في زمن التمكين، وذلك لعجزه عنها، والعجز سبب من أسباب عدم تحقق تطبيق الأمر الإلهي الذي هو في النتيجة تخلف كمال العبودية لله، الحدود والاستعلاء على الكافرين وغيرها من الأوامر لا يمكن أن يقدر عليها المسلم إلا بتمكين.
2 - لا مغفرة من غير فتح
بتمام العبودية لرب العباد يمن الله على عباده بالغفران، فالعبودية تساوي التمكين، والتمكين يكون بالنصر والغلبة وهما يعنيان الفتح؛ قال تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فسبح بحمد ربك وسبحه إنه كان توابا}، فانظر حفظك الله ورعاك إلى التلازم بين فتح الله لنبيه (وهو ظهور دين الله تعالى على كل الأديان بالسيف والسنان كما ظهر بالحجة والبيان) وبين الله منه أن يستغفر ربه، وقال تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا} الفتح.(1/111)
انظر إلى الجمع بين الفتح والمغفرة، إنا فتحنا تساوي ليغفر مضافا إلى ينصر. فالفتح نتيجة المغفرة والنصر، لأن الفتح لا يقع إلا بتوبة وجهاد. فالمغفرة لا تقع إلا باستغفار، والنصر لا يقع إلا بقتال، فالفتح لا يقع إلا باستغفار وجهاد، وغياب الفتح عن العبيد دال على أن المغفرة لن تقع، وقد أدرك الصالحون من عباد الله هذا الأمر؛ قال تعالى: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين} آل عمران. هذه الآيات العظيمة، نزلت بعد موقعة أحد، حيث امتنع فيها الفتح، فأرشدهم الله إلى صنيع الأوائل، وكيف هي سنته سبحانه وتعالى في وقوع الفتح، حيث عبر عنه في هذه الآية بقوله {ثواب الدنيا}. فإذا آتى الله عباده {ثواب الدنيا}دل هذا على وقوع المغفرة، وتأخر النصر يدل على تخلف المغفرة.
3 - لا فتح إلا بشهادة : في قراءة مشهورة للآية السابقة {وكأين من نبي...} تقرأ: {وكأين من نبي قتل (بدل قاتل ) معه ربيون كثير...} الآيات . فالآية بهذه القراءة وبالقراءة السابقة كذلك تدلنا على سنة الله مع أوليائه أن يتخذهم شهداء، قال تعالى: {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين} آل عمران. فمن مقاصد الرب سبحانه وتعالى وقوع البلاء الذي هو مقدمة النصر والتمكين، كما سئل الإمام الشافعي: أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى.ا.هـ. الفوائد لابن القيم. قلت: من مقاصد الرب سبحانه وتعالى في وقوع البلاء هو اتخاذ الشهداء، وعلى هذا فيحب على الجماعة المهتدية أن تنشئ في نفوس أتباعها حب الشهادة وطلبها والسعي لها لأنها مقصد إلهي ولأنها الطريق نحو النصر والتمكين، ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع أصحابه على الموت، وكانوا رضي الله عنهم يطلبون الموت مظانه لما علموا من حب الله تعالى لاتخاذ الشهداء، قال تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله علي ه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}.
وعلى هذا فإنا نخلص إلى النتائج التالية:
أ - الجماعة المهتدية هي التي تسعى إلى تحقيق عبودية الله تعالى في الأرض بتمكين دين الله، وببسط سلطان الله في الناس.
ب - الجماعة المهتدية علمت أن هذه العبودية لا تتم إلا بالفتح وأن أسباب الفتح هو القتل والقتال.
ج - الجماعة المهتدية هي التي يجتبيها الله بأن يتخذ منها شهداء، أما جماعات الانحراف والتزوير فهم الذين يفرزون سوء الرأي بأخذ جانب السلامة فيستبدلون القتل والقتال بالبرلمان حينا وبالبلاغ حينا وبتحقيق كتب التراث حينا وبالتربية الموهومة حينا وكل هذه - الطرق تؤدى إلى الذلة والهوان إذا اتخذت سبيلا للتمكين، والله الهادي سواء السبيل.
=================
الاقتداء بالنبي إبراهيم عليه السلام وبمن آمن معه
وقال تعالى : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4)
(قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ; إذ قالوا لقومهم:إنا برآء منكم , ومما تعبدون من دون الله , كفرنا بكم , وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده . إلا قول إبراهيم لأبيه , لأستغفرن لك , وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا , وإليك أنبنا , وإليك المصير . ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا , واغفر لنا ربنا , إنك أنت العزيز الحكيم . .
لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) . .(1/112)
وينظر المسلم فإذا له نسب عريق , وماض طويل , وأسوة ممتدة على آماد الزمان . وإذا هو راجع إلى إبراهيم , لا في عقيدته فحسب , بل في تجاربه التي عاناها كذلك . فيشعر أن له رصيدا من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه . إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله , الواقفين تحت راية الله , قد مرت بمثل ما يمر به , وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته . فليس الأمر جديدا ولا مبتدعا ولا تكليفا يشق على المؤمنين . .
ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها , إذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته . فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال . . الشجرة التي غرسها أول المسلمين . . إبراهيم . .
مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون . وفيهم أسوة حسنة: (إذ قالوا لقومهم:إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله , كفرنا بكم , وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) . .
فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم . وهو الكفر بهم والإيمان بالله . وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده . وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئا من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان . وفي هذا فصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل . وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين .
ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه - وهو مشرك - ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين . فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه: (لأستغفرن لك) . .
فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك . قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه: (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) . .
كما جاء في سورة أخرى .
ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله لله , وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال: (وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) . .
وهذا التسليم المطلق لله , هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين . كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه , وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم .
ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه: (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) . .
فلا تسلطهم علينا . فيكون في ذلك فتنة لهم , إذ يقولون:لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم !
وهي الشبهة التي كثيرا ما تحيك في الصدور , حين يتمكن الباطل من الحق , ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان - لحكمة يعلمها الله - في فترة من الفترات . والمؤمن يصبر للابتلاء , ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو الله ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور .
وبقية الدعاء: (واغفر لنا) . .
يقولها إبراهيم خليل الرحمن . إدراكا منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه , وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوى الذي يكافئ به نعم الله وآلاءه , ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه , ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده .
ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره يصف ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء:
(ربنا إنك أنت العزيز الحكيم) . .
العزيز:القادر على الفعل , الحكيم:فيما يمضي من تدبير .
وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه , وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها ; مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين:
(لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) . .
فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . وهؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم , ويجدون فيها أسوة تتبع , وسابقة تهدي . فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة . .
وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين .
فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج . من يريد أن يحيد عن طريق القافلة . من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق . فما بالله من حاجة إليه - سبحانه - (فإن الله هو الغني الحميد) . .
وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد , ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض ; وعرفوا تجاربهم المذخورة لهم في الأجيال المتطاولة , ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مروا بهذه التجربة ; ووجدوها طريقا معبدة من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها .(1/113)
والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين , فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك - ولو كان وحده في جيل ! ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق !
بعدئذ يعود فينسم على هذه القلوب التي يعلم الله ما بها من حنين ورغبة في زوال حالة العداء والجفوة التي
عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (7)( الظلال)
==================
عدم التطلع إلى أية لعاعة من لعاعات الدنيا لأنها تفقدهم دورهم الحقيقي في هذه الأرض المهم مرضاة الله تعالى ليس إلا
ففي مسند أحمد {4/120}عَنْ عَامِرٍ قَالَ انْطَلَقَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ إِلَى السَّبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَقَالَ « لِيَتَكَلَّمْ مُتَكَلِّمُكُمْ وَلاَ يُطِيلُ الْخُطْبَةَ فَإِنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَيْناً وَإِنْ يَعْلَمُوا بِكُمْ يَفْضَحُوكُمْ ». فَقَالَ قَائِلُهُمْ وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ سَلْ يَا مُحَمَّدُ لِرَبِّكَ مَا شِئْتَ ثُمَّ سَلْ لِنَفْسِكَ وَلأَصْحَابِكَ مَا شِئْتَ ثُمَّ أَخْبِرْنَا مَا لَنَا مِنَ الثَّوَابِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَيْكُمْ إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ. قَالَ فَقَالَ « أَسْأَلُكُمْ لِرَبِّى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَأَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِى وَلأَصْحَابِى أَنْ تُؤْوُنَا وَتَنْصُرُونَا وَتَمْنَعُونَا مِمَّا مَنَعْتُمْ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ ». قَالُوا فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ قَالَ « لَكُمُ الْجَنَّةُ ». قَالُوا فَلَكَ ذَلِكَ.
----------
(فالذين هاجروا , وأخرجوا من ديارهم , وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا . لأكفرن عنهم سيئاتهم , ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ثوابا من عند الله , والله عنده حسن الثواب) .
وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أول مرة . الذين هاجروا من مكة , وأخرجوا من ديارهم , في سبيل العقيدة , وأوذوا في سبيل الله لا في أي غاية سواه , وقاتلوا وقتلوا . .
ولكنها صورة أصحاب هذه العقيدة في صميمها . .
في كل أرض وفي كل زمان . . صورتها وهي تنشأ في الجاهلية - أية جاهلية - في الأرض المعادية لها - أية أرض - وبين القوم المعادين - أي قوم - فتضيق بها الصدور , وتتأذى بها الأطماع والشهوات , وتتعرض للأذى والمطاردة , وأصحابها - في أول الأمر - قلة مستضعفة . .
ثم تنمو النبتة الطيبة - كما لا بد أن تنمو - على الرغم من الأذى , وعلى الرغم من المطاردة , ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها . فيكون القتال , ويكون القتل . .
وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيئات , ويكون الجزاء ويكون الثواب .
هذا هو الطريق . .
طريق هذا المنهج الرباني , الذي قدر الله أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري , وعن طريق هذا الجهد , وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله . ابتغاء وجه الله .
وهذه هي طبيعة هذا المنهج , ومقوماته , وتكاليفه . . ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية , وطريقته في التوجيه , للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله ; إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقا للمنهج الذي أراده الله . ثم التفاتة واقعية إلى الفتنة المستكنة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفار والعصاة والمعادين لمنهج الله . .
التفاتة لإعطاء هذا المتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة , حتى لا يكون فتنة لأصحابه , ثم كي لا يكون فتنة للمؤمنين , الذي يعانون ما يعانون , من أذى وإخراج من الديار , وقتل وقتال:
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها نزلا من عند الله . وما عند الله خير للأبرار) . .
وتقلب الذين كفروا في البلاد , مظهر من مظاهر النعمة والوجدان , ومن مظاهر المكانة والسلطان , وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين ; وهم يعانون الشظف والحرمان , ويعانون الأذى والجهد , ويعانون المطاردة أو الجهاد . .
وكلها مشقات وأهوال , بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ! . .(1/114)
ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة , وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء , والباطل وأهله في منجاة , بل في مسلاة ! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ; فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد .
هنا تأتي هذه اللمسة:
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) .
متاع قليل . .
ينتهي ويذهب . .
أما المأوى الدائم الخالد , فهو جهنم . .
وبئس المهاد !
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله:
(جنات تجري من تحتها الأنهار) . .
(خالدين فيها) . .
(نزلا من عند الله) . .
(وما عند الله خير للأبرار) . .
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة , وهذا النصيب في كفة , أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان . وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب !
إن الله - سبحانه - في موضع التربية , وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر , ولا يعدهم بقهر الأعداء , ولا يعدهم بالتمكين في الأرض , ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة . .
مما يعدهم به في مواضع أخرى , ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا . هو (ما عند الله) . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة:
التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية , ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون , ويكلوا أمرها إليه , وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة:عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض , وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . .
ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر , ويقع التمكين , ويقع الاستعلاء . .
ولكن هذا ليس داخلا في البيعة . ليس جزءا من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . .
والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ; ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية , إلا حين تجردوا هذا التجرد , ووفوا هذا الوفاء:
قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ليلة العقبة [ ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه صلى الله عليه وسلم على الهجرة إليهم ]:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " . . قالوا:ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل . .
هكذا . . "الجنة " . . والجنة فقط !
لم يقل . . النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا . . ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . .
لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ; أنهي أمرها , وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها !
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض , وزمام القيادة , وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها , وكل رغباتها , وكل شهواتها , حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها , والمنهج الذي تحققه , والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه , أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .(الظلال)
----------------
ونقف لحظة أمام هذا المشهد الذي يطيل القرآن عرض مناظره وحركاته - مشهد سخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا في الدنيا - كما أطال من قبل في عرض مشهد نعيم الأبرار وعرض مناظره ومناعمه . فنجد أن هذه الإطالة من الناحية التأثيرية فن عال في الأداء التعبيري , كما أنه فن عال في العلاج الشعوري . فقد كانت القلة المسلمة في مكة تلاقي من عنت المشركين وأذاهم ما يفعل في النفس البشرية بعنف وعمق . وكان ربهم لا يتركهم بلا عون , من تثبيته وتسريته وتأسيته .
وهذا التصوير المفصل لمواجعهم من أذى المشركين , فيه بلسم لقلوبهم . فربهم هو الذي يصف هذه المواجع . فهو يراها , وهو لا يهملها - وإن أمهل الكافرين حينا - وهذا وحده يكفي قلب المؤمن ويمسح على آلامه وجراحه . إن الله يرى كيف يسخر منهم الساخرون . وكيف يؤذيهم المجرمون . وكيف يتفكه بآلامهم ومواجعهم المتفكهون . وكيف لا يتلوم هؤلاء السفلة ولا يندمون !
إن ربهم يرى هذا كله . ويصفه في تنزيله . فهو إذن شيء في ميزانه . . .(1/115)
وهذا يكفي ! نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة .
ثم إن ربهم يسخر من المجرمين سخرية رفيعة عالية فيها تلميح موجع . قد لا تحسه قلوب المجرمين المطموسة المغطاة بالرين المطبق عليها من الذنوب . ولكن قلوب المؤمنين الحساسة المرهفة , تحسه وتقدره , وتستريح إليه وتستنيم !
ثم إن هذه القلوب المؤمنة تشهد حالها عند ربها , ونعيمها في جناته , وكرامتها في الملأ الأعلى . على حين تشهد حال أعدائها ومهانتهم في الملأ الأعلى وعذابهم في الجحيم , مع الإهانة والترذيل . .
تشهد هذا وذلك في تفصيل وفي تطويل . وهي تستشعر حالها وتتذوقه تذوق الواقع اليقين . وما من شك أن هذا التذوق يمسح على مرارة ما هي فيه من أذى وسخرية وقلة وضعف . وقد يبلغ في بعض القلوب أن تتبدل هذه المرارة فيها بالفعل حلاوة , وهي تشهد هذه المشاهد في ذلك القول الكريم .
ومما يلاحظ أن هذا كان هو وحده التسلية الإلهية للمؤمنين المعذبين المألومين من وسائل المجرمين الخسيسة , وأذاهم البالغ , وسخريتهم اللئيمة . .
الجنة للمؤمنين , والجحيم للكافرين . وتبديل الحالين بين الدنيا والآخرة تمام التبديل . . وهذا كان وحده الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم المبايعين له . وهم يبذلون الأموال والنفوس !
فأما النصر في الدنيا , والغلب في الأرض , فلم يكن أبدا في مكة يذكر في القرآن المكي في معرض التسرية والتثبيت . .
00000000000000
لقد كان القرآن ينشئ قلوبا يعدها لحمل الأمانة . وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض . ولا تنتظر إلا الآخرة . ولا ترجو إلا رضوان الله . قلوبا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال , بلا جزاء في هذه الأرض قريب . ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين !
حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل . وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدا للجزاء . وموعدا كذلك للفصل بين الحق والباطل . . حتى إذا وجدت هذه القلوب , وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت , آتاها النصر في الأرض , وائتمنها عليه . لا لنفسها . ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة , مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ; ولمتتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه !
وكل الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة . بعد ذلك . وبعد أن أصبح هذا الأمر خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه .
وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرره في صورة عملية محددة , تراها الأجيال . فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام . إنما كان قدرا من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !( الظلال)
==================
أن يكون القتال في سبيل الله ليس إلا
قال تعالى : ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:74)
فليقاتل - في سبيل الله - فالإسلام لا يعرف قتالا إلا في هذا السبيل . لا يعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة . ولا يعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي !
إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض ; ولا للاستيلاء على السكان . .
لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات , والأسواق للمنتجات ; أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات !
إنه لا يقاتل لمجد شخص . ولا لمجد بيت . ولا لمجد طبقة . ولا لمجد دولة , ولا لمجد أمة . ولا لمجد جنس . إنما يقاتل في سبيل الله . لإعلاء كلمة الله في الأرض . ولتمكين منهجه من تصريف الحياة . ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج , وعدله المطلق "بين الناس" مع ترك كل فرد حرا في اختيار العقيدة التي يقتنع بها . .
في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام . .
وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله , بقصد إعلاء كلمة الله , وتمكين منهجه في الحياة . ثم يقتل . . يكون شهيدا . وينال مقام الشهداء عند الله . .
وحين يخرج لأي هدف آخر - غير هذا الهدف - لا يسمى "شهيدًا ولا ينتظر أجره عند الله , بل عند صاحب الهدف الأخر الذي خرج له . .
والذين يصفونه حينئذ بأنه "شهيد" يفترون على الله الكذب ; ويزكون أنفسهم أو غيرهم بغير ما يزكي به الله الناس . افتراء على الله !(1/116)
فليقاتل في سبيل الله - بهذا التحديد . . من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة . ولهم - حينئذ - فضل من الله عظيم ; في كلتا الحالتين:سواء من يقتل في سبيل الله ; ومن يغلب في سبيل الله أيضا: ومن يقاتل - في سبيل الله - فيقتل أو يغلب , فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا . .
بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني إلى رفع هذه النفوس ; وإلى تعليقها بالرجاء في فضل الله العظيم , في كلتا الحالتين . وأن يهون عليها ما تخشاه من القتل , وما ترجوه من الغنيمة كذلك ! فالحياة أو الغنيمة لا تساوي شيئا إلى جانب الفضل العظيم من الله . كما يتجه إلى تنفيرها من الصفقة الخاسرة إذا هي اشترت الدنيا بالآخرة ولم تشتر الآخرة بالدنيا [ ولفظ يشري من ألفاظ الضد فهي غالبا بمعنى يبيع ] فهي خاسرة سواء غنموا أو لم يغنموا في معارك الأرض . وأين الدنيا من الآخرة ? وأين غنيمة المال من فضل الله ? وهو يحتوي المال - فيما يحتويه - ويحتوي سواه ?!
وقال :(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ; والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت . فقاتلوا أولياء الشيطان . إن كيد الشيطان كان ضعيفا) . .
وفي لمسة واحدة يقف الناس على مفرق الطريق . وفي لحظة ترتسم الأهداف , وتتضح الخطوط . وينقسم الناس إلى فريقين اثنين ; تحت رايتين متميزتين:
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله) . .
(والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) . .
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ; لتحقيق منهجه , وإقرار شريعته , وإقامة العدل "بين الناس" باسم الله . لا تحت أي عنوان آخر . اعترافا بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم:
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت , لتحقيق مناهج شتى - غير منهج الله - وإقرار شرائع شتى - غير شريعة الله - وإقامة قيم شتى - غير التي أذن بها الله - ونصب موازين شتى غير ميزان الله !
ويقف الذين آمنوا مستندين الى ولاية الله وحمايته ورعايته .
ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم , وشتى مناهجهم , وشتى شرائعهم , وشتى طرائقهم , وشتى قيمهم , وشتى موازينهم . .
فكلهم أولياء الشيطان .
ويأمر الله الذين أمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان ; ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان:
فقاتلوا أولياء الشيطان , إن كيد الشيطان كان ضعيفًا .
وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة , مسندين ظهورهم إلى ركن شديد . مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله , ليس لأنفسهم منها نصيب , ولا لذواتهم منها حظ . وليست لقومهم , ولا لجنسهم , ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء . .
إنما هي لله وحده , ولمنهجه وشريعته . وأنهم يواجهون قوما أهل باطل ; يقاتلون لتغليب الباطل على الحق . لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية - وكل مناهج البشر جاهلية - على شريعة منهج الله ; ولتغليب شرائع البشر الجاهلية - وكل شرائع البشر جاهلية - على الله ; ولتغليب ظلم البشر - وكل حكم للبشر من دون الله ظلم - على عدل الله , الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس .
كذلك يخوضون المعركة , وهم يوقنون أن الله وليهم فيها . وأنهم يواجهون قوما , الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف . .
إن كيد الشيطان كان ضعيفا . .
ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين , وتتحدد نهايتها . قبل أن يدخلوها . وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة - فهو واثق من النتيجة - أم بقي حتى غلب , ورأى بعينيه النصر ; فهو واثق من الأجر العظيم .
من هذا التصور الحقيقي للأمر في كلتا حالتيه , انبثقت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها تاريخ الجهاد في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الأولى ; والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة . وما بنا أن نضرب لها هنا الأمثال ; فهي كثيرة مشهورة . .
ومن هذا التصور كان ذلك المد الإسلامي العجيب , في أقصر فترة عرفت في التاريخ ; فقد كان هذا التصور جانبا من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة , على المعسكرات المعادية . .
ذلك التفوق الذي أشرنا إليه من قبل في هذا الجزء . وبناء هذا التصور ذاته كان طرفا من المعركة الكلية الشاملة التي خاضها القرآن في نفوس المؤمنين , وهو يخوض بهم المعركة مع أعدائهم المتفوقين في العدد والعدة والمال ; ولكنهم في هذا الجانب كانوا متخلفين ; فأمسوا مهزومين !
وها نحن أولاء نرى الجهد الذي بذله المنهج في إنشاء هذا التصور وتثبيته . فلم يكن الأمر هينا . ولم يكن مجرد كلمة تقال . ولكنه كان جهدا موصولا , لمعالجة شح النفس , وحرصها على الحياة - بأي ثمن - وسوء التصور لحقيقة الربح والخسارة . .
وفي الدرس بقية من هذا العلاج , وذلك الجهد الموصول .( الظلال)
-------------------
الشروط القرآنية للنصر والتمكين
[بقلم :* محمد أسعد بيوض التميمي (الكاتب والباحث والمحلل السياسي الفلسطيني)] بسم الله الرحمن الرحيم
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7)
الطائفة المنصورة ما هي وما مواصفاتها القرآنية
إننا نحن المسلمون لا ننتصر لا بكثرة عدد ولاعدة وإنما ننتصر بهذا الدين ( بالقرآن العظيم ) الذي أنزل الله فيه شروطاً للنصر عندما التزمنا بها نصرنا الله مهما كان عددنا قليلاً ومهما كانت قوتنا ضعيفة قال تعالى ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) 249البقره , فبهذه الشروط الربانية انتصرنا في بدر أول معركة في الإسلام ومروراً ( بالقادسية واليرموك وأجنادين وحطين وعين جالوت وبهذه الشروط فتحنا الأندلس والقسطنطينية) وغيرها كثير من المعارك الخالدة في تاريخنا المجيد الطويل المفعم بالانتصارات والعزة والسؤدد والفخار , وبهذه الشروط وقفنا يوماً على قمة القرون نحمل مصابيح الهدى نضيء للبشرية الطريق بنور الإسلام , وبهذه الشروط ارتقينا ذرى العزة والكرامة والمجد وقبضنا على زمام التاريخ بأيدينا , وبهذه الشروط أصبحنا سادة الدنيا وقادة البشرية ننشر الرحمة والعدل والأمن والأمان في الأرض فدخل الناس في دين الله أفواجا دون إكراه , وبهذه الشروط رفعنا راية التوحيد خفاقة من الأندلس غربا إلى حدود الصين شرقا , وعندما تنكرنا لهذه الشروط والمواصفات وأبعد الإسلام بقصد وتخطيط شيطاني عن المعركة بل وحُورب دون هوادة تحت غطاء الحداثة و محاربة الرجعية والظلامية والدعوة إلى القومية والثورية والتقدمية والعلمانية والاشتراكية وعندما أخذ ( علماء السلاطين ) يحرفون كلام الله إرضاء للحكام الظالمين الفاسدين وامتهنوا التجارة بالدين ليشتروا به ثمنا قليلاً وأصبحوا مرجعيتنا وحجتنا بدلاً من القرأن والسنة فكما قال صلى الله عليه وسلم ( تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي ) حلت بنا الهزائم والكوارث وأصابنا الوهن ولحق بنا البوار والخزي والعار والذل والهوان والانحطاط وتاهت بنا السبل وأصبحنا غثاء كغثاء السيل تتداعى علينا الأمم من كل حدب وصوب كما تتداعى ألأكلة إلى قصعتها وتتقاذفنا الدول وتصفعنا بأيديها على وجوهنا وتركلنا بأرجلها على أدبارنا ونحن كالأيتام على مآدب اللئام لا أحد يدفع عنا .
فما هي هذه الشروط التي وضعها الله سبحانه وتعالى حتى يأتي بنصره لنا فنستعيد سيرتنا الأولى و حتى نكون من الطائفة المنصورة التي يمكن الله على أيديها لدينه في الأرض ( وما النصر إلا من عند الله ) :
أولاً : العقيدة الصحيحة القائمة على التوحيد الخالص لله رب العالمين فإذا صحت العقيدة صح العمل وإذا بطلت العقيدة بطل العمل ولن يتقبله الله بل ان من كانت عقيدته باطله ينطبق عليه قول الله تعالى( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )03+104الكهف وقال تعالى ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين )65الزمر.
والعقيدة الصحيحة هي الخالية من الشرك بتوحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء
والصفات لله رب العالمين كما جاءت( بالقرآن والسنة) وكما اعتقد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته دون تأويل أو تعطيل أو تحريف أو تشبيه أوتكييف قال تعالى( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) 11 الشورى , و بأن نثبت لله ما أثبته لنفسه في القرآن وما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته وأن لا نشرك بالله شيئاً لانبي ولا ولي ولا صاحب قبر ولا شيخاً ولا (صاحب زمان: المهدي المنتظر ) الذي يدعي من يدعون أنهم من شيعة أ ل البيت وأ ل البيت منهم براء وما هم إلا شيعة عبد الله بن سبأ وصفويون متعصبون حاقدون على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم انه يرفع الكون بيمينه وأن الأعمال تعرض عليه ليلة الاثنين والخميس وأنه يرزق ويشفي وينصر ويستجيب لدعاء العباد ويقضي لهم حاجاتهم التي لا يقدر عليها إلا الله وهي من أساسيات التوحيد أي أنه إله يبت في أعمال العباد نيابة عن الله سبحانه وتعالى , (قاتلهم الله أنى يؤفكون ) , إنها والله عقيدة التلمود (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا )111الآسراء قال تعالى (لله ما في السموات وما في الأرض وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يُحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويُعذب من يشاء والله على كل شيء قدير) 284 البقرة وقال تعالى ( ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كُله فأعبده وتوكل عليه وما ربُك بغافل عما تعملون )123هود وقال تعالى ( يوم ببعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ) 6المجادله , فلا معصوم إلا الأنبياء وأن الحساب والثواب والعقاب والكون والسماوات والأرض بيد الله سبحانه وتعالى فكل من يقول بغير ذلك فهو ليس من المسلمين وقد كذب بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول الله له في كتابه العزيز ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فانهم ظالمون )128ال عمران وقال تعالى ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضراً إلا ما شاء الله و لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) 188الاعراف وقال تعالى ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) 110الكهف .
فكيف بمن يستمدون شرفهم واحترامهم من الانتساب إليه أو غيرهم من البشر .
فمن التوحيد أن تؤمن إيماناً لاريب فيه ولا شك بأن الله هو الرزاق وهو الناصر وهو المجيب وهو القادر على كل شيء وهو الذي يحي ويميت فمن دعا غير الله أو جعل بينه وبين الله واسطة أو وسيلة أوتوسل بصاحب قبر فقد أشرك (إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يُشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً) 48النساء .
إن الشرك لظلم عظيم قا ل تعالى( ويوم نحشُرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) 22الانعام , ومن صحة العقيده أن تكون العلاقة بين العبد وربه علاقة مباشرة لا تحتاج إلى واسطة قال تعالى( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوابي لعلهم يرشدون ) البقرة186 وكما قال صلى الله عليه وسلم لإبن عباس رضي الله عنه ( إني أعلمك كلمات أحفظ الله يحفظك أحفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم بأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء فلن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وان لو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف ) وقال تعالى ( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين )11الزمر .
و من صحة العقيدة أن نؤمن بأن القران الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي بين أيدينا دون نقصان أو زيادة أوتحريف والذي تكفل الله بحفظه قال تعالى( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) 9 الحجر , وأن الوحي قد انقطع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وان الدين قد اكتمل بنزول الآية الكريمة( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )3المائدة ,و قال تعالى ( وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين ) 105 يونس , وقال تعالى ( قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب) 36 الرعد وقال تعالى ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين ) 6 فصلت .
ثانياً : أن يكون العمل صحيحا خالصاً لوجه الله رب العالمين أي صحيحا من ناحية شرعية وأن لا يكون مخالفا للقرآن والسنة , وأن تكون النية خالصة لله و هي الجهاد والقتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله في الأرض والهدف والغاية هو إرضاء الله سبحانه وتعالى فإما الشهادة وإما الفوز بجنته , وأن لا يكون القتال في سبيل عصبية جاهلية أو قومية أو وطنية أو لتحقيق مأرب دنيوية أو مكتسبات فئوية ضيقة أو من أجل الشهرة أو من أجل الفوز بانتخابات .
فالدفاع عن الأوطان يجب أن يكون بالجهاد في سبيل الله لمنع خضوعها لراية الكفر وتخليصها من حكم الكفار وإبقائها موحدة لله رب العالمين تحت راية التوحيد .
فكل قتال مهما كان هدفه نبيلاً وسامياً لا تكون النية من ورائه هي رفع راية التوحيد والجهاد في سبيل الله فهو لا يعتبر خالصاً لوجه الله رب العالمين فالنية يجب أن تكون لله كما قال صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته لله ورسول فهجرته لله ورسوله ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها أو دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه) و قال تعالى ( إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) 111التوبة و قال تعالى ( وليمحص الله الذين أمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) 141-142 أل عمران وقال تعالى (و لو يشاءُ الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ) 4 محمد وقال تعالى ( الذين آمنوا يُقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يُقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ) 76 النساء وقال تعالى (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم )31محمد
ثالثا: الاعتقاد اعتقاداً جازماً يقيناً لا شك فيه ولا ريب ولا ظن بأن النصر من عند الله فلا يطلب من غيره لا من نبي ولا من ولي ولا من صاحب قبر ولا معصوم فيجب أن يكون في المعركة استغاثة بالله وحده حتى تتنزل ملائكة الله فالرسول صلى الله عليه وسلم في يوم بدر حتى يُعلمنا أخذ يناجي ربه وهو يرفع يديه إلى السماء حتى بان بياض إبطيه قائلا (رب! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض ) ويجب في المعركة ذكر الله كثيرا قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) 45 الأنفال (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مُردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم )9+10الانفال و قال تعالى ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذُلكم فمن ذا الذي ينصُركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون )160أل عمران وقال تعالى ( إنما المؤمنون الذين أمنوا بالله ورسُوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفُسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) 15 الحجرات , وقال تعالى ( وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ) 10الانفال وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )7 محمد وقال تعالى ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهُم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليُبلى المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميع عليم ) 17الانفال.
ومن استغاث بغير الله فقد أشرك مثل أن يقول يا بدوي و يا دسوقي ويا حسين ويا علي ويا صاحب الزمان اغثني وانصرني , فهؤلاء سيكلهم الله إلى أنفسهم فلن ينصرهم ولن يذهب غيظ قلوبهم قال تعالى( من كان يظن أن لن ينصُره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يُذهبن كيده ما يغيظ ) 15 الحج .
فجميع الهزائم والكوارث التي حلت بالأمة منذ عقود طويلة كانت بسبب أن الحكام كانوا يستغيثون إما بالشرق وإما بالغرب ويستمدون معنوياتهم من ( أم كلثوم وعبد الحليم حافظ والعوالم ) فكانوا يقولون أم كلثوم وعبدالحليم حافظ معكم في المعركة بدلاً من أن يقولوا الله معكم في المعركة فممنوع ذكر الله والاستغاثة به و شعار( الله أكبر ) شعار النصر لأمتنا والذي تستجيب له ملائكة الله بإذن ربها محرم في معظم الجيوش الإسلامية بل واستبدل بشعار شيطاني عبثي ليس له معنى ( بر بحر جو ) و صرخات (هاااعع ) أوكصرخات الوحوش والحيوانات أو كنباح الكلاب لان معظم هذه الجيوش أعدت لصناعة الهزائم وليس لصناعة النصر حتى تبقى إسرائيل في أمان
رابعاً : الولاء لله ورسوله والمؤمنين والبراءة من المشركين والكافرين والمضلين والملحدين أعداء الإسلام مهما كانت أسمائهم ومسمياتهم وشعاراتهم ونواياهم المعلنة ومهما كانت الروابط التي تربطنا بهم وأواصر القربى التي تجمعنا بهم فأبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ولكننا نتعبد بلعنه إلى يوم الدين قال تعالى
(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4) وقال تعالى (يا أيها الذين أمنوا لا تتخذواعدوي وعدوكم أولياء تُلقون إليهم بالمودة)1الممتحنة
ولا يمكن بأي حال من الاحوال أن يكون هناك تحالف بين من يقاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وبين من يحارب الله ورسوله ويدعو إلى الإلحاد والكفر ويعتبر الاسلام تخلف وظلاميه ورجعيه ويعتبر الكفر تقدميه وثوريه فهل ممكن أن يجتمع المتضادان وهل يستوي الخبيث والطيب وهل ممكن أن يتحالف من كان الله مولاه ومن لا مولى له قال تعالى ( ذلك بأن الله مولى الذين أمنوا وأن الكافرين لامولى لهم) 11محمد
وقال تعالى ( ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركُمهُ جميعاً فيجعلهُ في جهنم أولئك هم الخاسرون ) 37 الانفال.
فالتحالف مع الكفار مهما كانت مسمياتهم وأسمائهم وانتماءاتهم هو اعتراف بالكفر وإقرار به واستخفاف بكتاب الله وإعراض عن ذكر الله قال تعالى ( الذين جعلوا القرآن عضين * فوربك لنسئلنهُم أجمعين * عما كانوا يعملون * فاصدع بما تُؤمر وأعرض عن المشركين) 91- 94الحجر وسواء كانت هذه المسميات وطنية أو قومية أو يسارية أو ثورية أو شيوعية فكل هذه المسميات تلتقي على معاداة الاسلام والحقد على أهله ولو إدعى البعض منهم غير ذلك منافقة للمد الإسلامي فهم يستهزئون بالغيب وبعقيدة التوحيد ويسمون أصحاب عقيدة التوحيد بالغيبيين قال تعالى( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يُرد إلا الحياة الدنيا )29النجم و قال تعالى( يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودُوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) 118ال عمران و قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهُم منكم فأولئك هم الظالمون ) 23 التوبة وقال تعالى ( وما كُنتُ متخذ المُضلين عضداً ) 51 الكهف
فالكفار لا يمكن أن يعملوا لمصلحة المسلمين الموحدين لله رب العالمين الذين تتناقض عقائدهم الباطله مع عقيدة التوحيد والذين يتوحدون في حربهم على الإسلام فملة الكفر واحدة قال تعالى ( والذين كفروا بعضُهُم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنه في الأرض وفساد كبير ) 73 الأنفال وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعُوا الذين كفروا يرُدُوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين* بل اللهُ مولاكم وهو خير الناصرين ) 149+150 اّل عمران وقال تعالى ( ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفُسُهم أن سخط اللهُ عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يُؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون ) 80+81 المائدة .
فالتحالف في المعركة وفي غير المعركة أو حتى في الانتخابات سواء كانت برلمانية أو نقابية أو طلابية مع الذين كفروا مدعاة لسخط الله ولن يؤدي هذا التحالف إلى خير بل إلى شر وإلى غضب الله في الدنيا والآخرة قال تعالى ( إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً وإن الظالمين بعضُهُم أولياءُ بعض والله وليُ المتقين ) 19 الجاثية .
فالمجاهدون في سبيل الله حق جهاده ويفقهون حقيقة المعركة وعقيدتهم صحيحة لا يمكن أن يتخذوا الكافرين أولياء ولو كانوا أقرب الناس إليهم .
فالإسلام يفصل بين الناس على أساس عقائدي وليس على أساس عنصري أو قومي أو على أساس النسب فالعجب كل العجب من بعض من تسمي نفسها أحزاب إسلامية أو حركات إسلامية جهادية وتتحالف مع من يحادون الله ورسوله فكيف سينصر الله هؤلاء , قال تعالى ( إن الذين يحادون الله ورسُوله أولئك في الأذلين *كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز* لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم والأخر يُوادون من حاد الله ورسوله ولو كانُوا آباءهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويُدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) 19-22 المجادلة .
فالذي يتحالف مع أعداء الله من الذين يسمون أنفسهم بالقوى الوطنية التي تنتمي إلى المسميات والعناوين التي ذكرناها سابقا إنما قد دخل بالضلال المبين وتاهت به السبل ولن يهده الله سواء السبيل قال تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهُم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)69العنكبوت , فأبو لهب وأبو جهل وعتبة والوليد كانوا يمثلون القوى الوطنية في مكة والتي حاربت الله ورسوله دفاعاً عن نفوذهم وسيطرتهم ومصالحهم ومكتسباتهم فيها فهل تحالف معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حاربهم حرباً لا هوادة فيها وجاهدهم جهاداً كبيراً رغم جميع المغريات التي عرضوها عليه والتي كان رده عليها (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر حتى أهلك دونه) .
ففي القرآن الكريم لا يوجد قوى وطنيه وإنما إسلام وكفر فكل من يعادي الإسلام ويحاربه ويرفض وجوده بين الناس ويستهزئ به انم اهو في ميزان القرآن كمثل أبي جهل وأبي لهب وشارون وأولمرت وبوش وبلير وجميع أعداء الله , فهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة هي انتصار لولاء العقيدة على ولاء الوطن حيث قدم ولاء العقيدة على ولاء الوطن وهذا لا يعني أننا لا نحب الوطن فنحن الموحدون لله رب العالمين أشد الناس حباً للوطن فالرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكرت مكة أمامه كان يقول دعوا القلوب تهدأ .
قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكُم من الحق يُخرجون الرسول وإياكُم أن تؤمنوا بالله ربكُم إن كُنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسُرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعلهُ منكُم فقد ضل سواء السبيل) 1 الممتحنة وقال تعالى ( أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسُوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ) 16 التوبة وقال تعالى ( بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً *الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً ) 138+ 139 النساء .
فمبدأ الولاء والبراء مبدأ أساسي في عقيدة التوحيد (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين أمنوا فإن حزب الله هم الغالبون )55+56المائدة
خامساً: إن من شروط النصر التي وضعها الله سبحانه وتعالى الإعداد بقدر المستطاع فالمجاهدون في سبيل الله مطلوب منهم إعداد القوة لمقاتلة العدو ولكن الله سبحانه وتعالى لم يشترط أن يكون هناك تكافؤ أو توازن بالقوة مع العدو فهذا غير مطلوب وإنما المطلوب هو الإعداد بقدر المستطاع ولو كان حجراً أو سكيناً أو بندقية. قال تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوف إليكم وأنتُم لا تظلمون) 60 الأنفال.
وإعداد القوة المستطاعة هو من باب الأخذ بالأسباب وحتى يكون هذا الإعداد دلالة على صدق النية في مقاتلة العدو ومنازلته والجهاد في سبيل الله .
أما بعض المسلمين الذين يقولون بأن إعداد العدة حرام لأنه لا يجوز استخدام الوسائل المادية لنصرة دين الله لان استخدامها مخالف للقرآن والسنة بحجة ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستعملها في العصر المكي وهم يعتبرون أنفسهم اليوم في العصر المكي كما يقولون ويدعون , لذلك فإنهم يطلبون من غيرهم أن ينصر الإسلام واستعادة الخلافة وهم قاعدون على الأرائك ينظرون ويثبطون ألأمه ويحبطونها بالتشكيك بكل بادرة أمل وخير تنبعث من وسط الظلام وبكل مجاهد مخلص في هذه الأمة يعمل حقيقة لنصرة الإسلام واستعادة مجد الأمة الضائع ويتهمونه بالعمالة إما لبريطانيا وإما لأمريكا فالتاريخ عندهم تتحكم به المؤامرة التي تحيكها بريطانيا وأمريكا فهم يفسرون الأحداث على قاعدة الصراع البريطاني الأمريكي الذي انتهى منذ عقود طويلة ولكنهم يصرون على استمراره إلى الآن حتى أنهم يعتبرون الصراع في فلسطين بين ( بريطانيا وأمريكا وليس بيننا وبين اليهود ) فهم لا يؤمنون بالجهاد وإنما بالكفاح السياسي وإصدار المناشير الساذجة الركيكة مدعين بأن هذه هي طريق الرسول صلى الله عليه وسلم التي أقام بها دولة الإسلام فهل يوجد في الإسلام مصطلح الكفاح السياسي ومن الغريب أن العصر المكي في عهد النبوة كانت مدته ثلاثة عشر سنة أما العصر المكي لهؤلاء مستمر منذ خمسة عقود حتى الآن وألا يعلم هؤلاء أن العصر المكي موقوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث بدء القرآن يتنزل, فهل يتنزل القرآن من جديد حتى يكون هناك عصر مكي أخر غير عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم !! فمثل هؤلاء كمثل بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم موسى عليه السلام ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) والله سبحانه وتعالى يرد على هؤلاء بقوله ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عُدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهُم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادُوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلا لكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهُم والله عليم بالظالمين )46+47 التوبه( يا أيها الذين آمنوا لما تقولن مالا تفعلون كبر مقتا عند الله آن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيا مرصوص ) 2+3الصف فهم يدعون للخلافة ولا يعملون لها وإنما يطلبون من غيرهم أن يقيمها ثم يقدمها لهم على طبق من ذهب فاحذروا يا أبناء الإسلام من كل مثبط ليبرر عدم أخذه بالأسباب المادية التي أمرنا الله بها .
وكثير من الحكام الدجالين والكذابين في عصرنا الحالي ساقوا الأمة إلى المذبح في كل حروبهم الكاذبة مع الكيان اليهودي وهي ترقص وتغني بالخداع والتضليل والتزييف حيث كانوا يطلقون الشعارات والخطابات النارية التي تتوعد الكيان اليهودي بالثبور وعظائم الأمور , ولكنهم بالحقيقة لم يعدوا العدة لمحاربة العدو ولم يكونوا صادقين في شعاراتهم وخطاباتهم لأن الهدف كان هو تخدير وعي الأمة وتغييب فكرها حتى يقدموها لقمة سائغة لعدوها كما حصل في كارثة عام 1967 فكل من ينادي بمحاربة العدو ومنازلته دون أن يعد العدة بما يستطيع فهو غير صادق النية .
فطلب النصر من الله يكون بعد الأخذ بالأسباب المادية بإعداد القوه المستطاعة فمهما كانت القوة ضعيفة وعددنا قليل وكنا صادقين مع الله فإن الله تكفل بنصر عباده المؤمنين ( ولن تغني عنكم فئتكُم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) 19الانفال , قال تعالى (واذكروا إذ أنتم قليلُُُ مُستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكُم الناس فآواكم وأيدكُم بنصره ورزقكُم من الطيبات لعلكُم تشكُرون ) 26الانفال .
أما إذا كان المؤمنون كثيري العدد والعدة فلا يجوز أن يركن المسلمون لهذا فيقولوا والله إننا لن نغلب اليوم عن قلة كما حصل في معركة حنين عندما أعجبت المسلمون كثرتهم فكانت الهزيمة في بداية المعركة حتى يتعلم المسلمون ويرسخ في عقولهم وضمائرهم بأن النصر من عند الله قال تعالى ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حُنين إذ أعجبتكُم كثرتكُم فلم تغن عنكُم شيئاً وضاقت عليكُم الأرض بما رحُبت ثم وليتم مُدبرين * ثم أنزل اللهُ سكينتهُ على رسُوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاءُ الكافرين ) 25+26 التوبة .
سادساً: إن من شروط النصر التي يجب أن تتوفر فيمن تكفل الله بنصرهم من الطائفة المنصورة أن يكونوا ممن يحبهم الله و يحبون الله أكثر من أنفسهم ومن ولدهم ومن أموالهم ويتصفون بالعزة والكرامة ومتواضعين مع المؤمنين لا يستكبرون عليهم ولا يخشون أحداً من الناس ولا يهتمون أو يلقون بالاً بما سيقوله أعداء الله عنهم بوصفهم إرهابيين أو متطرفين أو أصوليين أو مجرمين فالهدف عندهم والغاية هو الحصول على مرضاة الله سبحانه وتعالى والفوز بالشهادة أو النصر وهؤلاء قد وصفهم الله سبحانه وتعالى ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكُم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يُحُبهُم ويُحبُونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضلُ الله يُؤتيه من يشاءُ واللهُ واسعُ عليم ) 54 المائدة ومن صفاتهم أيضا ( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) 112 التوبة .
هذه هي شروط النصر التي وضعها الله سبحانه وتعالى للنصر وهي التي التزم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين من بعدهم وجميع المجاهدين في سبيل الله الذين نصرهم الله .
فعلى كل من يريد أن يصبح من الطائفة المنصورة أن يلتزم بهذه الشروط سواء كان ( فرداً مسلما أو حزباً إسلاميا أو حركة جهادية أو دولة مسلمة ) فهذه ليست وجهة نظرنا فنحن لم نأتي بشيء من عندنا ولا هي شروطنا بل هي شروط رب العالمين التي أنزلها في كتابه العزيز وهي حجة علينا و على المؤمنين و حجة على الأنبياء والمرسلين وعلى المسلمين والناس أجمعين.
ومن باب النصيحة والتذكير وإقامة الحجة فإنني أذكر أخواني في بعض الأحزاب الإسلامية والحركات الإسلامية المقاتلة وخصوصاً في فلسطين أن لديها خلل كبير ببعض هذه الشروط , فبعضها مثلاً يتحالف مع الأحزاب والمنظمات التي تحمل عقيدة الإلحاد والكفر والعداء لله ورسوله ويسمون هذا التحالف ب( تحالف القوى الوطنية والإسلامية ) والمستفيد من هذا التحالف هم الأحزاب والمنظمات الكافرة الملحدة لأنها لا تمثل شيئاً بين أبناء الامة و بين أبناء الشعب الفلسطيني وهي ليست أكثر من أفراد أصواتهم عالية وشعاراتهم عفى عليها الزمن فهم في حالة إنحسار بعد أن إنكشف كذبهم وتضليلهم وسوء نواياهم ضد عقيدة الأمة فلم يكن تحرير فلسطين في يوم من الأيام أكبر همهم بل كان محاربة الإسلام م شغلهم الشاغل ولو كانوا اليوم في حالة مد وانتشار كما كانوا في الخمسينات والستينات من القرن العشرين لما تحالفوا مع الأحزاب والحركات الإسلامية لأنهم يعتبرونها رجعية وظلامية وحليفة للاستعمار ويجب محاربتها كما يقولون في أدبياتهم فهم أصلاً أسسوا من أجل محاربة الإسلام فلولا هذا التحالف لإندثر هؤلاء وبادوا كما باد اتحادهم السوفياتي الإلحادي .
وكيف لحركة جهادية في فلسطين أن تتبع وتوالي دولة رافضية صفوية تتقرب إلى الشيطان بتكفير أبي بكر وعمر وعثمان وجميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين جاهدوا في الله حق جهاده وحملوا راية التوحيد ونشروا الإسلام في الأرض من بعده وهذه الدولة الصفو يه وهي إيران تتقاطع اليوم مع أمريكا الصليبية في عدائها للمجاهدين في أفغانستان والعراق من أهل السنة والجماعة , بالاضافة إلى ذلك إن مذهبها الذي تعتنقه قائم على الشرك الخالص بالله رب العالمين كما وضحنا في بداية الموضوع , فهل هناك شرك أعظم من هذا الشرك , لذلك لم ينصرها الله في حربها على العراق في عقد الثمانينات رغم أن الذي كان يحكم العراق في ذلك الحين حزب البعث العلماني الكافر, فكيف سينتصر من يتحالف مع مثل هؤلاء المشركين الذين الآن يرتكبون المذابح ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي تنتمي له هذه الحركة والذين تم تهجيرهم إلى العراق عام 1948 وضد أهل عقيدة التوحيد من العراقيين لا لذنب إلا لأنهم من أهل السنة والجماعة.
وهناك خلل خطير آخر لدى بعض هذه الأحزاب والحركات وهو استعمالها لمفاهيم ومصطلحات في خطابها السياسي يتناقض تناقضاً كبيراً مع هذه الشروط القرآنية إلى درجة أنها تستعمل مفاهيم ومصطلحات الحركات والمنظمات العلمانية والماركسية المعادية للإسلام بشكل كامل وعلني فهي أولاً تستعمل مصطلح المقاومة والكفاح والنضال والمقاومين بدلاً من المصطلح القرآني وهو( الجهاد والمجاهدين ) فالجهاد ليس له إلا معنى واحد وهو القتال في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى أما مصطلح المقاومة و الكفاح والنضال فله معاني كثيرة إلا الجهاد في سبيل الله بل قد تعني هذه المصطلحات مماتعني ( الحرب على الإسلام ) الذي يمثل بالنسبة لهم الرجعية وهو بالنسبة لهم أفيون الشعوب ويستعملون أيضا مصطلح ( الأمتين العربية والإسلامية ) بدلاً من مصطلح ( الأمه الإسلامية أمة التوحيد) فلا يوجد في الإسلام أمتين بل أمة واحدة هي أمة الإسلام والتوحيد , قال تعالى( وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربُكم فاتقون ) 52المؤمنون فالذي اخترع مصطلح الأمتين هم الكفار الذين هدموا دولة الاسلام في مطلع القرن العشرين فأنشأوا القومية العربية والقومية التركية لتكونا بديلا لأمة الاسلام , فإستعمال هذا المصطلح هو إقرار بفعل الكفار ضد أمتنا الواحدةالموحده لله رب العالمين عرباً وعجماً ,وكذلك يستعملون مصطلح الوحدة الوطنية فهم يقدمون الولاء للوطن على الولاء للعقيدة فالذي يحارب عقيدتنا لا يمكن أن يكون من أمتنا , فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجر من مكة الى المدينة قدم ولاء العقيدة على الولاء للوطن ولكن حماية الوطن والدفاع عنه واجب شرعي ويستخدمون أيضا كلمة ( الصهاينة والإسرائيليين ) بدلاً من ( اليهود ) مما يعني تفريغ الصراع في فلسطين من بعده العقائدي , فالماركسيون مثلا يعتبرون أن الصراع في فلسطين إنما هو صراع مع الصهاينة الرأسماليين وليس مع اليهود فالصراع صراع طبقي وليس صراع عقائدي ألا يعلم هؤلاء أن الكيان الغاصب في فلسطين هو كيان يهودي والذين يذبحون أهلنا في فلسطين هم اليهود فكل يهودي جاء إلى فلسطين سواء كان فقيراً أو غنياً رأسماليا أو اشتراكيا عاما أو كناساً فهو عدو لنا .
فأنني أدعو جميع الكتائب المقاتلة في فلسطين بأن تعيد النظر بجميع تحالفاتها وأدبياتها وأفكارها ومناهجها ومصطلحاتها وخطابها السياسي وإعادة صياغتها صياعة جديده لتكون منسجمة مع القرآن والسنة وخصوصاً مع الآيات التي أوردناها والتي تتضمن شروط النصر والتمكين (
الطائفة المنصورة ) حتى لا يحبط عملها( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) 33محمد .
يا أيها المقاتلون الأشاوس الأبطال يا جند الإسلام يا أحفاد ( أبي بكر وعمر وعلي والحسين وخالد وسعد وأبى عبيده رضوان الله عليهم أجمعين ) في جميع الكتائب المقاتلة في فلسطين وأخص بالذكر( كتائب القسام وألوية الناصر صلاح الدين وكتائب شهداء الأقصى و أحمد أبو الريش) يا من علمتم الدنيا كيف تكون مقارعة العدو ومنازلته لكم القدوة والمثل بالمجاهدين في العراق وأفغانستان فهم مسلحون بأبسط الأسلحة فسلاحهم لا يتعدى بندقية كلاشنكوف ومضاد للدروع وعبوات ناسفه بدائية الصنع وهم حفاة عراة ولكنهم على وشك أن يهزموا الولايات المتحدة الأمريكية أكبر دوله في العالم التي تملك ترسانة من السلاح ليس لها مثيل, ففجر الإسلام يوشك أن يبزغ من جديد على أيديهم لأنهم كما هو واضح من مواقفهم السياسية وشعارات المعركة التي يرفعونها ومفاهيمهم ومصطلحاتهم التي يستخدمونها في خطابهم السياسي وبياناتهم العسكرية وأدبياتهم انهم يأخذون بشروط النصر التي وضعها الله رب العالمين دون أي خلل يذكر وتنطبق عليهم والله أعلم صفات ( الطائفة المنصورة ) , ففقه المعركة لديهم واضح وضوح الشمس فليس لديهم خلط بالمفاهيم ,وألم يأتكم نبأ المجاهدين في الفلوجة الذين هزموا أمريكا وأنزلوها عن عرشها وأجبروها على تغيير إستراتيجيتها بالعراق وبالمنطقة.
وإنني أدعوكم أيها الأبطال أن تتوحدوا تحت قيادة واحدة في ظلال عقيدة التوحيد الخالص لله رب العالمين وأن تكون آيات شروط النصر وصفات الطائفة المنصورة دستوركم ومنهاجكم وليس ما يسميه البعض( ببرنامج المقاومة) الذي ليس له علاقة بشروط النصر وصفات الطائفة المنصورة فهو ليس مرجعيته القرآن والسنة وإنما مرجعيته خليط من برامج منظمات وأحزاب بعضها يعادي الإسلام ويعتبره رجعيه فلا يجوز أن تبقى الأمور على هذا الحال الضبابي الذي لا يرضى عنه الله بناءً على الشروط القرآنيه السابقة .
فأنتم يا أبناء الارض المباركة أحق الناس بهذه الشروط والصفات فكما يقول الرسول صلى اله عليه وسلم( لاتزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله قالوا أين هم يا رسول الله قال في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ) ولا يجوز أن يستثمر تضحياتكم وجهادكم وبطولاتكم قيادات تتذوق ارتداء البدلا ت وربطات العنق الأنيقة وكأنهم يقودون شعبا من الأرستقراطيين و ثقافتهم مشوشة عن فقه المعركة والجهاد والولاء والبراء وتخلط الحابل بالنابل وليست على مستوى قيادة المعركة وتبين أن الدنيا و الحكومة والسلطة أكبر همهم ولو كانت هذ الحكومة والسلطة نكرتين وتحت حراب العدو وصورت فوزها بانتخابات وضع شروطها العدو( الكيان الغاصب )على أنها بمثابة تحرير لفلسطين وإقامة للدولة الإسلامية وأنها نصر من الله وفتح مبين وتحول هدفها من تحرير فلسطين إلى التمسك بحكومة ليس لها وجود إلا في السراب وهي بمثابة ضحك على الذقون ومهما كلف الثمن فهذه القيادات صارت تعلن ليل نهارا بأن العدوا ليس له هدف إلا إسقاط الحكومة وما دامت الحكومة موجودة ولو على الورق وفي خيمه فنحن المنتصرون ولو أبيد جميع أبناء الشعب الفلسطيني .
إنها والله لمهزلة !! , فوالله لو كانوا صادقين في نيتهم وجهادهم ما ورطوا أنفسهم في هكذا واقع مثل هذه الورطة التي لا خروج منها إلا بحل الحكومة والسلطة و بالتوبة والعودة إلى صفوف المجاهدين والأخذ بشروط النصر وصفات الطائفة المنصورة حتى يُمكن الله للمجاهدين في الأرض, فالأمر من ناحية شرعيه جدُ لا هزل فيه .
فالمجاهدون في سبيل الله حقاً من أصحاب العقيدة الصحيحة يريدون حرث الآخرة وهي أكبر همهم ولا يضحون إلا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ودفاعاً عن هذه العقيدة وهذا الدين وهدفهم إما النصر وأن تعود فلسطين موحدة لله رب العالمين وإما الشهادة وهذا كله يؤدي بالضرورة إلى أن يعيش المسلمون أحراراً أعزاء في وطنهم آمنين مطمئنين , فيجب أن يكون عملنا صحيحا خالصاً لوجه الله حتى يتقبله الله منا .
فعلى جميع الكتائب المجاهدة في فلسطين والتي لا نشك بإخلاص أفرادها ولا بولائهم لدينهم وحسن سريرتهم وصدق نيتهم بأن تبادر إلى تشكيل ( مجلس شورى ) من القيادات الميدانية تجتمع تحت قيادة واحدة تحت راية ( القرآن والتوحيد)وحتى لا يضيع عملكم أيها الأبطال هباءً منثوراً وحتى يُمكن الله لكم في الأرض, قال تعالى
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55) اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد
-------------------
من أهداف الجهاد في سبيل الله تعالى :
1- حماية حرية العقيدة:(1/117)
قال تعالى: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ صدق الله العظيم وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) [الأنفال: 39،40].
2- حماية الشعائر والعبادات:
قال تعالى: ( إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ صدق الله العظيم أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ صدق الله العظيم الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ صدق الله العظيم الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ )[الحج: 38-41].
3- دفع الفساد عن الأرض:
قال تعالى: ( وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) [البقرة: 250-252].
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ ) أي لولا الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة
داود لهلكوا(1).
4- الابتلاء والتربية والإصلاح:
قال تعالى: ( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ صدق الله العظيم سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ صدق الله العظيم وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ) [محمد: 4-6].
__________
(1) تفسير ابن كثير (1/262). ... (2) المصدر السابق (4/154).
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ( وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) أي ولكن شرع
لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم وليبلو أخباركم(1) كما ذكر حكمته في شرعية
الجهاد في قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) [آل عمران: 142].
5- إرهاب الكفار وإخزاؤهم وإذلالهم وتوهين كيدهم:
قال تعالى: ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) [الأنفال: 60].
وقال تعالى: ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ صدق الله العظيم وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [التوبة: 14،15].
وقال تعالى: ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ صدق الله العظيم ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ )[الأنفال: 17،18].
6- كشف المنافقين:
قال تعالى: ( مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) [آل عمران: 179].(1/118)
قال ابن كثير: أي لا بد أن يعقد شيئا من المحنة يظهر فيها وليه ويفضح به عدوه، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهتك به ستار المنافقين، فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم(1).
7- إقامة حكم الله ونظام الإسلام في الأرض:
إن إقامة حكم الله في الأرض هدف من أهداف الجهاد قال تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) [النساء: 105].
8- دفع عدوان الكافرين:
إن من أهداف الجهاد في الإسلام دفع عدوان الكافرين وهذا الجهاد أنواع منها:
أن يعتدي الكفار على فئة مؤمنة مستضعفة في أرض الكفار:
لا سيما إذا لم تستطع أن تنتقل إلى بلاد تأمن فيها على دينها، فإن الواجب على الدولة الإسلامية أن تعد العدة لمجاهدة الكفار الذين اعتدوا على تلك الطائفة حتى يخلصوها من الظلم والاعتداء الواقع عليها(2) قال تعالى: ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا صدق الله العظيم وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيرًا ) [النساء: 74،75].
ب- أن يعتدي الكفار على ديار المسلمين:
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/371)
(2) انظر: الجهاد في سبيل الله، د. عبد الله القادري (2/162).
قال تعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ صدق الله العظيم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [البقرة: 190-192].
فقد نص الفقهاء على أنه إذا اعتدى الكفار على ديار المسلمين، يتعين الجهاد للدفاع عن الديار؛ لأن العدو إذا احتلها سام المسلمين عذاباً، ونفذ فيها أحكام الكفر، وأجبر أهلها على الخضوع له، فتصبح دار كفر بعد أن كانت دار إسلام.
قال بعض علماء الحنفية: «وحاصله أن كل موضع خيف هجوم العدو منه فرض على الإمام أو على أهل ذلك الموضع حفظه، وإن لم يقدروا فرض على الأقرب إليهم إعانتهم إلى حصول الكفاية بمقاومة العدو»(1).
جـ- أن ينشر العدو الظلم بين رعاياه- ولو كانوا كفارًا:
لأن الله سبحانه حرم على عباده الظلم، والعدل في الأرض واجب لكل الناس، وإذا لم يدفع المسلمون الظلم عن المظلومين أثموا؛ لأنهم مأمورون بالجهاد في الأرض لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ونشر العدل والقضاء على الظلم، ولا فلاح لهم إلا بذلك، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [المائدة: 8].
د- الوقوف ضد الدعاة إلى الله ومنعهم من تبليغ دعوة الله:
__________
(1) انظر: حاشية ابن عابدين (4/124).
إن المسلمين مفروض عليهم من قبل المولى عز وجل أن يبلغوا رسالات الله للناس كافة، قال تعالى: ( وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [آل عمران: 104].
وأعداء الله يصدون أولياءه عن تبليغ عباده دعوته ولا يتركون لهم سبيلاً إلى الناس، كما لا يأذنون للدعاة أن يُسمعوا الدعوة إلى الله للناس، ويضعون العراقيل والعوائق، والحواجز بين الدعوة ودعاتها وبين الناس، ولذلك أوجب الله عز وجل على عباده المؤمنين قتال كل من يصد عن سبيل الله تعالى(1).(1/119)
قال تعالى: ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ صدق الله العظيم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ صدق الله العظيم ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ صدق الله العظيم فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ) [محمد: 1-4].
__________
(1) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم، للصلابي، ص488.
و السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث1 - (ج 2 / ص 66)
==============
عدم الخوف إلا من الله وحده مهما بلغت الشدائد والصعاب
قال تعالى : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173)
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة . وهم مثخنون بالجراح . وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة . وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة , ومرارة الهزيمة , وشدة الكرب . وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا , فقل عددهم , فوق ما هم مثخنون بالجراح !
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم . ودعاهم وحدهم . ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم - ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال ! - فاستجابوا . .
استجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي دعوة الله - كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك - فاستجابوا بهذا لله والرسول (من بعد ما أصابهم القرح) , ونزل بهم الضر , وأثخنتهم الجراح .
لقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وحدهم . وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى , وتومئ إلى حقائق كبرى , نشير إلى شيء منها:
فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم , هو شعور الهزيمة , وآلام البرح والقرح ; فاستنهضهم لمتابعة قريش , وتعقبها , كي يقر في أخلادهم إنها تجربة وابتلاء , وليست نهاية المطاف . وأنهم بعد ذلك أقوياء , وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء , إنما هي واحدة وتمضي , ولهم الكرة عليهم , متى نفضوا عنهم الضعف والفشل , واستجابوا لدعوة الله والرسول .
ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش , وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته . فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس ; يشعر قريشا أنها لم تنل من المسلمين منالا . وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها . .
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة .
ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء أن يشعر المسلمين , وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم , بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض . .
حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها . ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها , وليس لهم من غاية في حياتهم سواها . عقيدة يعيشون لها وحدها , فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها , ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها , ولا يقدمونها فداها . .
لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين . ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنين - بقيام هذا الأمر الجديد , وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة .
ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة:
صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل أبي سفيان - وكما هول المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا -: (الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل) . .
هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت اعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة . وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة . .
وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة:(1/120)
قال محمد بن إسحاق:حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال:شهدنا أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي , فرجعنا جريحين . فلما إذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو , قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ? - والله ما لنا من دابة نركبها , وما منا إلا جريح ثقيل . فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جراحا منه , فكان إذا غلب حملته عقبة . . حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
وقال محمد بن إسحاق:كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال , فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال , أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو , وإذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام . فقال:يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع . وقال:يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن . ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي . فتخلف على أخوتك . فتخلفت عليهن . . فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه . .
وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة , في تلك النفوس الكبيرة . النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلا , وترضى به وحده وتكتفي , وتزداد إيمانا به في ساعة الشدة , وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس:
(حسبنا الله , ونعم الوكيل) . .
ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه , المكتفي به , المتجردين له:
(فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله) .
فأصابوا النجاة - لم يمسسهم سوء - ونالوا رضوان الله . وعادوا بالنجاة والرضى .
(بنعمة من الله وفضل) . .
فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء:نعمة الله وفضله على من يشاء . ومع التنويه بموقفهم الرائع , فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله , لأن هذا هو الأصل الكبير , الذي يرجع إليه كل فضل , وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل !
(والله ذو فضل عظيم) . .
بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد , وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله , صورتهم هذه , وموقفهم هذا , وهي صورة رفيعة , وهو موقف كريم .
وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف , فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة . نضجت . وتناسقت . واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها . وانجلى الغبش عن تصورها . وأخذت الأمر جدا كله . وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة , التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف . فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس . . والفارق هائل والمسافة بعيدة . .
لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس ; وقد هزتها الحادثة هزا عنيفا . أطار الغبش , وأيقظ القلوب , وثبت الأقدام , وملأ النفوس بالعزم والتصميم . .
نعم . وكان فضل الله عظيما في الابتلاء المرير . .
وأخيرا يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع . .
إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب , وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة . .
ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان , وأن يبطلوا محاولته . فلا يخافوا أولياءه هؤلاء , ولا يخشوهم . بل يخافوا الله وحده . فهو وحده القوي القاهر القادر , الذي ينبغي أن يخاف:
(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه . فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) .
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه , ويلبسهم لباس القوة والقدرة , ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول , وأنهم يملكون النفع والضر . .
ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه , وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد , وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب , فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ; ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم , ودفعهم عن الشر والفساد .
والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل , وأن يتضخم الشر , وأن يتبدى قويا قادرا قاهرا بطاشا جبارا , لا تقف في وجهه معارضة , ولا يصمد له مدافع , ولا يغلبه من المعارضين غالب . .
الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا . فتحت ستار الخوف والرهبة , وفي ظل الإرهاب والبطش , يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه ! يقلبون المعروف منكرا , والمنكر معروفا , وينشرون الفساد والباطل والضلال , ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل , ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير . .
دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم , ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة . بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له , وجلاء الحق الذي يطمسونه . .(1/121)
والشيطان ماكر خادع غادر , يختفي وراء أوليائه , وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته . .
ومن هنا يكشفه الله , ويوقفه عاريا لا يستره ثوب من كيده ومكره . ويعرف المؤمنين الحقيقة:حقيقة مكره ووسوسته , ليكونوا منها على حذر . فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم . فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه , ويستند إلى قوته . .
إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر . هي قوة الله . وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله , وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء . فلا تقف لهم قوة في الأرض . .
لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان:
(فلا تخافوهم . وخافون إن كنتم مؤمنين) . .( الظلال)
--------------
بيان أنواع من الشرك الأكبر
الشرك نوعان : شرك أكبر وشرك أصغر، والشرك الأكبر ينافي التوحيد ويخرج من الملة، وله أنواع كثيرة سبق بيان بعضها بما يمارس حول الأضرحة، وهناك أنواع أخرى منها :
1- الشرك في الخوف
الخوف كما عرفه العلماء : توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، وهو ثلاثة أقسام :
الأول : خوف السر، وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أو ميت أو غائب من جن أو إنس أن يصيبه بما يكره؛ كما قال الله عن قوم هود عليه السلام : إنهم قالوا له : { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ }
وقد خوف المشركون رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم من أوثانهم؛ كما قال تعالى : { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ }
وهذا الخوف من غير الله هو الواقع اليوم من عباد القبور وغيرها من الأوثان؛ يخافونها، ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة لله .
وهذا النوع من الخوف من أهم أنواع العبادة، يجب إخلاصه لله وحده؛ قال تعالى : { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ، وقال تعالى : { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ }
وهذا الخوف من أعظم مقامات الدين وأجلها؛ فمن صرفه لغير الله؛ فقد أشرك بالله الشرك الأكبر والعياذ بالله .
الثاني : من أنواع الخوف أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفا من بعض الناس؛ فهذا محرم، وهو شرك أصغر، وهذا هو المذكور في قوله تعالى : {ا لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
وهذا أيضا هو الخوف المذكور في الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( لا يحقر أحدكم نفسه ! قالوا يا رسول الله ! كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال يرى أمرا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول خشية الناس فيقول الله عز وجل فإياي كنت أحق أن تخشى ) .
الثالث : من أنواع الخوف : الخوف الطبيعي، وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك؛ فهذا ليس بمذموم؛ كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام : { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ }
أما النوع الأول الذي هو خوف السر؛ فهو من أعظم أنواع العبادة؛ فيجب إخلاصه لله عز وجل . وكذلك النوع الثاني؛ فهو من حقوق العبادة ومكملاتها .
ومعنى قوله تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } : أن يخوفكم بأوليائه . { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ } : نهي من الله للمؤمنين أن يخافوا غيره، وأمر لهم أن يقصروا خوفهم عليه؛ فإذا أخلصوا الخوف وجميع أنواع العبادة؛ أعطاهم ما يريدون وأمنهم مما يخافون .
قال تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ }
قال الإمام ابن القيم : " ومن كيد عدو الله أن يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه لئلا يجاهدوهم ولا يأمروهم بمعروف ولا ينهوهم عن منكر، وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه، ونهانا أن نخافهم، فكلما قوي إيمان العبد؛ زال منه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه؛ قوي خوفه منهم، وقال تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }(1/122)
فأخبر سبحانه أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا بجوارحهم وأخلصوا له الخشية دون سواه، فأثبت لهم عمارة المساجد بعد أن نفاها عن المشركين؛ لأن عمارة المسجد لا تكون إلا بالطاعة والعمل الصالح، والمشرك وإن عمل؛ فعمله { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } ، أو { كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } وما كان كذلك؛ فالعدم خير منه؛ فلا تكون المساجد عامرة عمرانا صحيحا إلا بالعمل الصالح المؤسس على الإخلاص والتوحيد والعقيدة الصحيحة الخالية من الشرك والبدع والخرافات، وليس عمارتها بالطين والزخرفة وفخامة البناء فقط، أو إشادتها على القبور؛ فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك .
وقوله تعالى : { وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ } ؛ قال ابن عطية : " يريد : خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية " .
وقد كتب معاوية رضي الله عنه إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يطلب منها أن تكتب له كتابا توصيه فيه ولا تكثر عليه، فكتبت له عائشة رضي الله عنها ما نصه : إلى معاوية، سلام عليك، أما بعد؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من التمس رضى الله بسخط الناس، كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله ؟ وكله الله إلى الناس ) .
والسلام . رواه أبو نعيم في الحلية، ورواه ابن حبان في " صحيحه " بلفظ : ( من التمس رضى الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته : ( من أرضى الله بسخط الناس؛ كفاه مؤونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله؛ لم يغنوا عنه من الله شيئا ) . هذا لفظ المرفوع .
ولفظ الموقوف : " من أرضى الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله؛ عاد حامده من الناس له ذاما "
وهذا من أعظم الفقه في الدين؛ فإن من أرضى الله بسخطهم، كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كاف عبده، { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } ، والله يكفيه مؤونة الناس بلا ريب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه؛ فقد لا يحصل ذلك، ولكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبين لهم العاقبة . ومن أرضى الناس بسخط الله؛ لم يغنوا عنه من الله شيئا؛ كالظالم الذي يعض على يديه، وأما كون حامده ينقلب ذاما؛ فهذا يقع كثيرا، ويحصل في العاقبة؛ فإن العاقبة للتقوى، ولا تحصل ابتداء عند أهوائهم " . انتهى كلامه رحمه الله .
ومن هذا الحديث برواياته يتبين أن الإنسان إذا كان يطلب بعمله إرضاء الله بما يسخط الناس؛ حصل على مصلحتين عظيمتين : رضى الله تعالى ورضى الناس، ومن كان بالعكس يطلب بعمله إرضاء الناس بما يسخط الله عز وجل، حصل له مضرتان : سخط الله وسخط الناس، فدل على أن إرضاء الله تعالى يجمع الخير كله، وأن إرضاء الناس بما يسخط الله يجمع الشر كله . نسأل الله العافية والسلامة .
هذا ويجب أن نعلم أن الخوف من الله سبحانه يجب أن يكون مقرونا بالرجاء والمحبة؛ بحيث لا يكون خوفا باعثا على القنوط من رحمة الله؛ فالمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، بحيث لا يذهب مع الخوف فقط حتى يقنط من رحمة الله، ولا يذهب مع الرجاء فقط حتى يأمن من مكر الله؛ لأن القنوط من رحمة الله والأمن من مكره ينافيان التوحيد : قال تعالى : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }
وقال تعالى : { إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }
وقال : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ }
قال إسماعيل بن رافع : " من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة " .
وقال العلماء : القنوط : استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلاهما ذنب عظيم .
فلا يجوز للمؤمن أن يعتمد على الخوف فقط حتى يقنط من رحمة الله، ولا على الرجاء فقط حتى يأمن من عذاب الله، بل يكون خائفا راجيا؛ يخاف ذنوبه، ويعمل بطاعة الله، ويرجو رحمته؛ كما قال تعالى عن أنبيائه : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } ، وقال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }(1/123)
والخوف والرجاء إذا اجتمعا؛ دفعا العبد إلى العمل وفعل الأسباب النافعة؛ فإنه مع الرجاء يعمل الطاعات رجاء ثوابها، ومع الخوف يترك المعاصي خوف عقابها . أما إذا يئس من رحمة الله؛ فإنه يتوقف عن العمل الصالح، وإذا أمن من عذاب الله وعقوبته؛ فإنه يندفع إلى فعل المعاصي .
قال بعض العلماء : من عبد الله بالحب وحده؛ فهو صوفي، ومن عبده بالخوف وحده؛ فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده؛ فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء؛ فهو مؤمن، كما وصف الله بذلك خيرة خلقه حيث يقول سبحانه : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ }
وقد وصف الله الذين أهملوا جانب الخوف واندفعوا في المعاصي، وأمنوا من العقوبة بأنهم الخاسرون، فقال تعالى : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }
ومعنى الآيات : أن الله لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل المتمادين في الكفر والمعاصي؛ ذكر أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من مكر الله وعدم الخوف منه، ومكر الله هو أنه إذا عصاه العبد وأغضبه؛ أنعم عليه بأشياء يظن العبد أنها من رضى الله عنه، وهي استدراج له؛ فهؤلاء الكفرة أمنوا مكر الله بهم لما استدرجهم بالسراء والنعم وعصوا رسلهم وتمادوا في المعاصي حتى أهلكهم الله .
وحذر من جاء بعدهم أن يفعل مثل فعلهم فيصيبه ما أصابهم، فقال سبحانه : { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ }
قال بعض العلماء : خوف العبد ينشأ من أمور هي :
* أولا : معرفته بالجناية وقبحها .
* ثانيا : تصديقه بالوعيد، وأن الله رتب على المعصية عقوبتها .
* ثالثا : كونه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب .
وبهذه الثلاثة يتم له الخوف قبل الذنب وبعده ويكون خوفه أشد .
وكان الأنبياء عليهم السلام لا ينقطع أملهم بالله أبدا، ولا ييأسون من رحمة الله في جميع الأحوال، مهما اشتد الخطب وضعفت الأسباب :
فهذا خليل الله إبراهيم لما بشرته الملائكة بالولد مع كبر سنه وحال زوجه التي يستبعد معها حصول الولد، قال عند ذلك : { قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } ؛ لأنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم، لكنه قال للملائكة : { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ } ، قال ذلك على وجه التعجب والتفكر في عظيم قدرة الله ورحمته .
وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام لما اشتد به الأمر وتأزم الحال بفراق بنيه؛ عظم رجاؤه بالله وطمعه برحمته، وقال لبنيه الحاضرين عنده : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأََسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } ، وقال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا }
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال الله عنه : { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } ، فعظم رجاؤه عند الشدة، ويقول : ( واعلم أن الفرج مع الكرب ) .
والله سبحانه ينهى عباده الذين كثرت ذنوبهم وعظمت جرائمهم أن يحملهم ذلك على القنوط من رحمته وترك التوبة منها؛ قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } ؛ فنهى سبحانه عباده أن تحملهم كثرة ذنوبهم على ترك التوبة واليأس من المغفرة .
وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم اليأس من روح الله من الكبائر :
فعن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر ؟ فقال الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله ) .
وعن ابن مسعود؛ قال : أكبر الكبائر : الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله .
لأن القنوط من رحمة الله : سوء ظن بالله، وجهل بسعة رحمته ومغفرته . والأمن من مكر الله : جهل بالله وبقدرته، وثقة بالنفس وإعجاب بها .(1/124)
وفي ذلك تنبيه على أن يكون العبد دائما بين الخوف والرجاء؛ فإذا خاف، فلا يقنط ولا ييأس، بل يرجو رحمة الله . وإذا رجا؛ فلا يتمادى به الرجاء حتى يأمن العقوبة .
وكان بعض السلف يستحبون للعبد أن يقوي في حال الصحة جانب الخوف، وفي حالة المرض وعند الموت يقوي جانب الرجاء .
فتوازن القلب بين الخوف والرجاء يدفع على العمل الصالح والبعد عن المعاصي والتوبة من الذنوب، أما إذا اختل توازن القلب فمال إلى جانب واحد، فإن هذا مما يعطل حركة العمل ويعرقل سبيل التوبة ويوقع في الهلاك .
وفيما قصه الله عن الأمم السابقة التي عطلت جانب الخوف فحل بها عقاب الله خير مذكر لأهل الإيمان :
فها هم قوم هود يقولون له : { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ }
والخوف والرجاء من أعظم أنواع العبادة؛ فيجب إخلاصهما لله عز وجل، والإخلال بهما إخلال بالتوحيد وإفساد للعقيدة .( الفوزان)
===============
يقينهم مهما كانوا ضعفاء أنهم على الحق وعدوهم على الباطل :
قال تعالى : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران:12)
"وظاهر أن قوله تعالى: (قل للذين كفروا:ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا:فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة , يرونهم مثليهم رأي العين . . .) إلخ . تتضمن الإشارة إلى أحداث غزوة بدر , وأن الخطاب فيها موجه إلى اليهود . وقد وردت في هذا رواية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر , وقدم المدينة وجمع اليهود , وقال:أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشا , قالوا:يا محمد:لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش أغمارا لا يعرفون القتال . إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس , وأنك لم تلق مثلنا . فأنزل الله تعالى في ذلك: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم) . . - إلى قوله (فئة تقاتل في سبيل الله - أي ببدر - وأخرى كافرة . . [ أخرجه أبو داود ]
كذلك يبدو من التلقين الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم في آية:(فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله - ومن اتبعن - وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين:أأسلمتم ? فإن أسلموا فقد اهتدوا , وإن تولوا فإنما عليك البلاغ , والله بصير بالعباد) . . أنه وإن كان هذا التلقين في صدد مناقشة حاضرة , إلا أنه تلقين عام شامل , ليواجه به النبي صلى الله عليه وسلم كل المخالفين له في العقيدة .
وظاهر من قوله تعالى: (وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) أن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ذلك الحين لم يكن مأمورا بقتال أهل الكتاب , ولا بأخذ الجزية منهم , مما يرجح ما ذهبنا إليه من نزول هذه الآيات في وقت مبكر .
وهكذا نرى من طبيعة النصوص أنها مواجهة عامة غير مقيدة بمناسبة واحدة , هي مناسبة وفد نجران . وقد تكون هذه إحدى المناسبات التي نزلت هذه النصوص لمواجهتها , وهي المناسبات الكثيرة المكررة في الصراع بين الإسلام وخصومه المتعددين في الجزيرة . .
وبخاصة اليهود في المدينة . .
ثم يتضمن هذا الدرس الأول إيضاحات قوية لأسس التصور الإسلامي من ناحية العقيدة , وإلى جانبها إيضاحات قوية كذلك في طبيعة هذه العقيدة وآثارها في الحياة الواقعية . هذه الآثار الملازمة للإيمان بها . فهي عقيدة التوحيد لله . ومن ثم تجعل الدين هو الإسلام لله . ولا دين سواه . .
الإسلام بمعنى الاستسلام والطاعة والاتباع . الاستسلام لأمره , والطاعة لشرعه , والاتباع لرسوله ومنهجه . فمن لم يستسلم ويطع ويتبع فليس بمسلم , ومن ثم فليس بصاحب دين يرضاه الله . فالله لا يرضى إلا الإسلام . والإسلام - كما قلنا - الاستسلام والطاعة والاتباع . .
ومن ثم يرد التعجيب والتشهير بأهل الكتاب الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم (ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) . .
ويعتبر الاعراض عن تحكيم كتاب الله علامة الكفر التي تنفي دعوى الإيمان . الإيمان بالله على الإطلاق !
(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا , وأولئك هم وقود النار . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا , فأخذهم الله بذنوبهم , والله شديد العقاب . قل للذين كفروا . ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا:فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة , يرونهم مثليهم رأي العين , والله يؤيد بنصره من يشاء , إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) . .
إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل , وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم . وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك . .
فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون . .(1/125)
وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل . ولكن هذا لا يمنحهم حقا خاصا إذا هم ضلوا وكفروا , ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا , وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين انجاهم الله منهم !
كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر - وهم كفار - ليقول لهم:إن سنة الله لا تتخلف . وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش . فالعلة هي الكفر . وليس لأحد على الله دالة , ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح !
(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا , وأولئك هم وقود النار) . .
والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية ; ولكنهما لا يغنيان شيئا في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه , لأنه لا إخلاف لميعاد الله . وهم فيه: (وقود النار) . .
بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص "الإنسان" ومميزاته , ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر (وقود النار) . .
لا بل إن الأموال والأولاد , ومعهما الجاه والسلطان , لا تغني شيا في الدنيا:
(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا , فأخذهم الله بذنوبهم , والله شديد العقاب) . .
وهو مثل مضى في التاريخ مكرورا , وقصة الله في هذا الكتاب تفصيلا:وهو يمثل سنة الله في المكذبين بآياته , يجريها حيث يشاء . فلا أمان إذن ولا ضمان لمكذب بآيات الله .
وإذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم وآيات الكتاب الذي نزله عليه بالحق , معرضون لهذا المصير في الدنيا والآخرة سواء . .
ومن ثم يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينذرهم هذا المصير في الدارين , وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب , فلعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والأخذ الشديد:
(قل للذين كفروا: ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا:فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة , يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) . .
وقوله تعالى: (يرونهم مثليهم رأي العين) يحتمل تفسيرين:فإما أن يكون ضمير(يرون) راجعا إلى الكفار , وضمير(هم) راجعا إلى المسلمين , ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين(مثليهم) . .
وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة , فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم .
وإما أن يكون العكس , ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين(مثليهم) هم - في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم - ومع هذا ثبتوا وانتصروا .
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره . .
وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم . .
وكان الموقف - كما ذكرنا في التمهيد للسورة - يقتضي هذا وذاك . .
وكان القرآن يعمل هنا وهناك . .
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . .
إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله , قائم في كل لحظة . ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ , وسنة ماضية لم تتوقف .
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ; وتثق في ذلك الوعد ; وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة ; وتصبر حتى يأذن الله ; ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله , المدبر بحكمته , المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة .
(إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) . .
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر , لتبرز العبرة , وتعيها القلوب . وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار !( الظلال)
---------------
وفي تفسير السعدي - (ج 1 / ص 123)
يخبر تعالى أن الكفار به وبرسله، الجاحدين بدينه وكتابه، قد استحقوا العقاب وشدة العذاب بكفرهم وذنوبهم وأنه لا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم شيئا، وإن كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات التي ترد عليهم، ويقولون { نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين } فيوم القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون { وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن } وليس للأولاد والأموال قدر عند الله، إنما ينفع العبد إيمانه بالله وأعماله الصالحة، كما قال تعالى { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون } وأخبر هنا أن الكفار هم وقود النار، أي: حطبها، الملازمون لها دائما أبدا، وهذه الحال التي ذكر الله تعالى أنها لا تغني الأموال والأولاد عن الكفار شيئا، سنته الجارية في الأمم السابقة.(1/126)
كما جرى لفرعون ومن قبله ومن بعدهم من الفراعنة العتاة الطغاة أرباب الأموال والجنود لما كذبوا بآيات الله وجحدوا ما جاءت به الرسل وعاندوا، أخذهم الله بذنوبهم عدلا منه لا ظلما والله شديد العقاب على من أتى بأسباب العقاب وهو الكفر والذنوب على اختلاف أنواعها وتعدد مراتبها
ثم قال تعالى { قل } يا محمد { للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } وفي هذا إشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة وتحذير للكفار، وقد وقع كما أخبر تعالى، فنصر الله المؤمنين على أعدائهم من كفار المشركين واليهود والنصارى، وسيفعل هذا تعالى بعباده وجنده المؤمنين إلى يوم القيامة، ففي هذا عبرة وآية من آيات القرآن المشاهدة بالحس والعيان، وأخبر تعالى أن الكفار مع أنهم مغلوبون في الدار أنهم محشورون ومجموعون يوم القيامة لدار البوار، وهذا هو الذي مهدوه لأنفسهم فبئس المهاد مهادهم، وبئس الجزاء جزاؤهم.
====================
عدم الاغترار بقوة العدو
وقال تعالى : ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (197) آل عمران
وتقلب الذين كفروا في البلاد , مظهر من مظاهر النعمة والوجدان , ومن مظاهر المكانة والسلطان , وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين ; وهم يعانون الشظف والحرمان , ويعانون الأذى والجهد , ويعانون المطاردة أو الجهاد . .
وكلها مشقات وأهوال , بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ! . .
ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة , وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء , والباطل وأهله في منجاة , بل في مسلاة !
ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ; فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد
هنا تأتي هذه اللمسة: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) .
متاع قليل . . ينتهي ويذهب . .
أما المأوى الدائم الخالد , فهو جهنم . . وبئس المهاد !
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله:
(جنات تجري من تحتها الأنهار) . .
(خالدين فيها) . .
(نزلا من عند الله) . .
(وما عند الله خير للأبرار) . .
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة , وهذا النصيب في كفة , أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان . وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب !
إن الله - سبحانه - في موضع التربية , وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر , ولا يعدهم بقهر الأعداء , ولا يعدهم بالتمكين في الأرض , ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة . . مما يعدهم به في مواضع أخرى , ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا . هو (ما عند الله) . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة:التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية , ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون , ويكلوا أمرها إليه , وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة:عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض , وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . .
ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر , ويقع التمكين , ويقع الاستعلاء . . ولكن هذا ليس داخلا في البيعة . ليس جزءا من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . .
والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ; ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية , إلا حين تجردوا هذا التجرد , ووفوا هذا الوفاء:
قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ليلة العقبة [ ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه صلى الله عليه وسلم على الهجرة إليهم ]:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " . . قالوا:ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل . .
هكذا . . "الجنة " . . والجنة فقط ! لم يقل . . النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا . .
ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . .
لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ; أنهي أمرها , وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها !(1/127)
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض , وزمام القيادة , وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها , وكل رغباتها , وكل شهواتها , حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها , والمنهج الذي تحققه , والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه , أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .(الظلال)
-------------------
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
فإن أنباء تجَدُّد العدوان الصهيوني الآثم على فلسطين ولبنان تطغى على كل الأخبار، وتشغل المساحة الأكبر في وسائل الإعلام المختلفة، فعلى مرأى ومسمع من العالم كله قام الكيان الصهيوني بأبشع جرائم القتل التي كان ضحاياها من المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ، كما مارس التدمير الآثم على خدمات الكهرباء والمياه والمطارات والموانئ والجسور والطرقات، في جريمة كبرى قلَّ مثيلها في وضوحها وبشاعتها، وفي خضم المناورات والحسابات السياسية تختلط كثير من الحقائق والرؤى الصائبة، وهذه نظرات مستلهمة من القرآن والسنة حول المفاهيم والمواقف :
أولاً: مفاهيم الصراع المبدئية:
1- الصراع مع اليهود الصهاينة - ومركزه أرض الإسراء - صراع عقدي حضاري ، وأسبابه لها جذور تاريخية في عداء اليهود للإسلام منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، و من هنا يأتي فهم سياق الأحداث الجارية من مثل قوله تعالى: { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [ المائدة: 64]،أي "كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها،وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم" [ ابن كثير ص 634 ] "وكون المراد من الحرب محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم هو المروي عن الحسن ومجاهد" [ الألوسي 6/183] ، ومزيد من البيان نجده في قوله تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } [ المائدة:82 ] ،" وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله، وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مَرَنُوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم، ودَرَبُوا العتوَّ والمعاصي، ومَرَدُوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لحَجَتْ عداوتهم، وكثُرَ حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين" [ ابن عطية ص 568]، وطبيعة الإجرام والعدوان اللإنساني الغاشم الذي يمارسه الكيان الصهيوني المحتل نراه جلياً بكل قسوته وفظاعته في قوله تعالى: { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } [ التوبة:8 _10]
2- الغايات التي يريدها الصهاينة،وأمريكا الداعمة لهم ، والغرب المتواطئ معهم معرفتها سهلة لظهورها في الواقع مصداقاً لقول الله تعالى: ? يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [ التوبة:32-33)
] ، فالغايات الكبرى هي مناوأة الإسلام، ومحاربة عقائده ومبادئه، ومن ثم استهداف معتنقيه وحملته بالقتل بصفة دائمة كما ورد في قوله تعالى: { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة:217].
3- سنة الكون لا تتبدل ولا تتغير فالتمكين في الأرض ممزوج ومسبوق بسنة الابتلاء ، قال تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة: 214]
4- نهاية الصراع وعاقبة المواجهة والجهاد واضحة عند المسلمين، وهي دائرة بين اثنتين: (النصر أو الشهادة) وفي الأولى عز الدنيا، وفي الثانية فوز الآخرة { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ } [ التوبة:52]، والبيان التوضيحي لذلك نجده في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة ) رواه البخاري.
ثانياً: مفاهيم المقاومة والانتصار:
1- إن مقاومة المحتل والدفاع عن الأرض والعرض حق مكفول في جميع الملل والشرائع ، ومشروعية المقاومة ضد المحتل أقرتها الأعراف والقوانين الدولية، واستمداد المشروعية - عند المسلم - لا يفتقر إلى ذلك لأن أساسه الوحي المعصوم ومواده آيات القرآن الكريم فالحق جل وعلا يقول: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } [ التوبة:12 – 14]، وفي سنة سيد المجاهدين صلى الله عليه وسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ) [ رواه الترمذي،وله رواية مختصرة عند البخاري ]، فهل بعد هذه المشروعية الواضحة المحددة في الحالات المختلفة حاجة لمزيد ؟
وينبغي التنبيه أن مشروعية الجهاد الإسلامي الصحيح المشروع دائمة ومستمرة ومستمدة من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد روى سلمة بن نفيل الكندي قال:كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله أذال الناسُ الخيل ووضعوا السلاح، وقالوا لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال: ( كذبوا، الآن الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ) رواه النسائي.
2- إن المرابطين المقاومين المجاهدين في سبيل الله، ومن ورائهم المؤمنون بالله حق الإيمان يدركون الحقائق الإيمانية ويعرفون الموازين الإسلامية فيمضون في معاركهم وهم على بصيرة،فهم على يقين أن النصر من الله وليس بعدة ولا عتاد ولا كثرة أعداد { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة: 249] { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ آل عمران: 126]، ومن قوة إيمانهم يثبتون ويصبرون فموقفهم في مثل هذه المواجهة - رغم شدتها - التقدم لا التراجع وكأنهم يمضون مع قوله تعالى: { وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء:104]، ويجددون ما مضى عليه أسلافهم من المجاهدين المؤمنين { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } [ الأحزاب:23 ].
3- إن المقاومة دليل حياة الشعوب، ومؤشر على كرامة وحرية الرافضين للاحتلال ، ولا يرضى بالذل ويستسلم للعدوان إلا من سفه نفسه وفقد إنسانيته، ،ولا بد من تثبيت معاني كرامة وعزة المسلم وأنه يجب أن لا يذل إلا لخالقه استجابة لنداء الحق جل وعلا: { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران:139]، وحين يكثر الظلم وتتوالى الضربات والإهانات تضمر هذه المعاني ، وللأسف فإننا نجد أن وسائل الإعلام تسهم في تكريس ذلك من خلال تزييف معاني العزة والكرامة والاستهزاء بها، وبالتالي تنسى هذه المعاني مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال، مما يستدعي التأكيد على ذلك سيما في مثل هذه الأزمنة التي مرت فيها الأمة الإسلامية بحالات من الضعف الشديد، ولعل من سبل مواجهة ذلك إبراز أثر المقاومة في العزة والاستعلاء الإيماني.
4- إن تاريخ أمتنا يكشف لنا أن المسلمين انتصروا في معاركهم الكبرى جميعها رغم قلة قوتهم عدداً وعدة مقارنة بعدوهم، ففي يوم بدر يقول سبحانه وتعالى: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [ آل عمران:13]، وهكذا كان الحال في اليرموك والقادسية، بل وفي حطين وعين جالوت، ومثل ذلك في فتح الأندلس والقسطنطينية، وفي العصر الحديث كانت المقاومة الباسلة للمحتل الفرنسي في الجزائر، وللمحتل الإيطالي في ليبيا، وللمحتل الإنجليزي في مصر والعراق وغير ذلك، وقل أن تجد في التاريخ مقاومة لمحتل لديها قوة مكافئة للمحتل فضلاً عن أن تكون متفوقة عليه، ومن ثم لا بد من تقديم ضريبة العز، وبذل عربون النصر من خلال تقديم الشهداء، وضرب أروع أمثلة التضحية والفداء، وأما الانتظار إلى أن تتعادل الكفة وتتكافأ القوى فغير ممكن وخاصة في ظل حكومات عربية لا هم لها سوى الحفاظ على كراسي حكمها، وبالتالي فإن اقل القليل هو دعم المقاومة الشعبية التي تنهك هذا العدو وتزلزل كيانه وتقلق راحته .
ثالثاً: مفاهيم المواجهة الحالية:
1- إن أساس المواجهات الحالية وأصلها يتمثل في الاحتلال، ووجود الصهاينة المحتلين على أرض فلسطين ولبنان هو السبب لكل ما يجري، ولذا يجب أن تتجه الأنظار إلى لب المشكلة لا إلى آثارها، ولا يغيب عن ذهن أي عاقل ما سبق هذه الاعتداءات الصهيونية على فلسطين ولبنان من أعمال إجرامية مليئة بالغطرسة والعدوان من قتل وهدم وتجريف واعتقال وهو ما يعتبر سمة أساسية في هذا الكيان الغاصب، الذي يضرب عرض الحائط بكل القوانين والقرارات الدولية،فلا يصح بحال قطع ما يحصل الآن من قصف لفلسطين ولبنان عن تاريخ هذا الكيان المليء بالانتهاكات والعدوان والظلم الشنيع ، ومن ثم فإن كل فعل ضد هذا الإجرام الفظيع أقل درجاته أنه من باب الدفاع عن النفس، واسترداد الحق، ومعاقبة المجرم المعتدي، { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة:194 ]، { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشورى:39 ] .
2- ينبغي الانتباه إلى أنه - في هذه الأحداث الدامية العصيبة - يوجد عدو مشترك وهو العدو الصهيوني الذي استقوى بأمريكا وغيرها من قوى الاستكبار ، ومارس القتل والتشريد للمستضعفين من المسلمين بكافة أجناسهم وطوائفهم وهذا عدو للجميع، وينبغي التوحد في مواجهته ، حتى وإن اختلفنا في المذاهب والتوجهات، وإن كل ما يضر العدو الصهيوني ويؤذيه ويوقع فيه النكاية فالموقف منه التأييد بعض النظر عن مصدره ومعتقده أو مذهب فاعله، ولذلك أصل في أول سورة الروم { غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ الروم: 5].
3- إن المعارك والمواجهات الحالية إنما هي جزء من مرحلة طويلة في مضمار الصراع ، ولا زالت هناك مراحل مليئة بالمواجهات فلا ينبغي أن تختصر القضية في هذه الأحداث الجارية حالياً، ولا ينبغي أن نؤخذ بالأحداث الآنية فالأيام دول، { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } [ آل عمران: 140]، وفي يوم أحد : " قال أبو سفيان يوم بيوم بدر يوم لنا ويوم علينا، ويوم نُسَاء ويوم نُسَر، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان وفلان بفلان " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون ) ، وإن الأحداث الراهنة - بما فيها من شدة و عسر - تكشف صدق الصادقين وزيف المدعين الذين وجدوا في ظاهر الأحداث فرصة للتشفي من أمتهم ومبادئها، وتأكيداً لخنوعهم ودعوتهم المخذلة للارتماء في أحضان الخصوم والأعداء { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران:179].
4- إن العقيدة الصهيونية قائمة على استغلال أي فرصة لضرب أي جهة تقاومها أو تفكر في مقاومتها مستقبلاً ، ويخطئ من يظن أن المقاومة في فلسطين لها قدرة على تجنب القتال لأنه مفروض عليهم بحكم النظرية العدوانية الصهيونية ومن خلال التفوق في القوة والآلة العسكرية التي تتظافر على وجوب إرغام الجميع لسيادتها سواء تحت تهديد القوة أو الاستسلام المسمى بأسماء السلام أو التطبيع .
رابعاً: مواقف الأطراف المختلفة:
1- إن موقف الدول الكبرى تراوح بين التأييد الظالم والسكوت المظلم، والمسارعة للضغط على الطرف المظلوم وتحميله المسئولية، ومطالبته بتنفيذ شروط المعتدي والرضوخ لإرادته دون قيد أو شرط، وإضفاء الشرعية على عدوانه وصبغه بالدفاع عن النفس ، وهذا هو موقف أمريكا المعلن، وموقف أوروبا المبطن، وموقفهم جميعاً - قبل الأحداث الأخيرة - كان متفقاً على محاربة الحكومة الفلسطينية المنتخبة ومحاصرتها هي والشعب الفلسطيني بكامله رغم المأساة والمعاناة، وكل ذلك دليل على زيف دعاوى تحقيق الديموقراطية، وعدم مصداقية الحفاظ على حقوق الإنسان، واختلال ميزان العدل، وغياب المساواة، وترسيخ مبادئ الظلم والعدوان ، كما أنه دليل على أن تلك الدول تتبنى الإضرار بالعرب والمسلمين وتفرح بأذاهم وتساعد على ذلك وتؤيده ، بل إن أمريكا تمنع مجرد إدانة المعتدي وذلك من خلال استخدام حق النقض الفيتو الذي يمثل شريعة الغاب، ويلغي الحق والعدل بالقوة والهوى، { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [ البقرة:120]
2- تعودت الشعوب المضطهدة في فلسطين ولبنان وغيرها أن تسمع من الدول العربية كلمات الشجب والاستنكار التي لا تدفع ولا تنفع، وقبل هذه الأحداث كانت مجازر شاطئ غزة وجرائم وحشية يهودية متكررة، فضلاً عن وجود آلاف الأسرى الفلسطينيين بمن فيهم من النساء والأطفال وكل ذلك قابله السكوت المطبق طوال الأشهر السابقة في فلسطين ، وموقف الدول العربية من الأحداث الحالية يكشف عن ضعف وعجز وتخاذل وانكسار، وليت الأمر توقف عند هذا الحد على ما فيه من خزي وعار ومهانة، إلا أننا نرى بعض تلك الحكومات نزلت إلى درجة لم تكن متوقعة من التخلي التام عن المقاومة المشروعة بل وإدانتها بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك يتضمن إعطاء العدو الصهيوني مشروعية التدمير والعدوان ، وهذا ما تذكره وتستشهد به أمريكا، وأين هذه المواقف من قوله تعالى: { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ الأنفال:72 ]،وهذا كله بخلاف ما عليه شعوب البلدان العربية والإسلامية التي تؤيد في معظمها المقاومة وتتلهف لمعاونتها والوقوف في صفها خامساً: الموقف من حزب الله:
1- إن اتخاذ المواقف - في مثل هذه الأحداث - يؤسس على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وذلك يرجع إلى اجتهاد أهل الشأن حسب تقديرهم المستهدي بأصول الشريعة ومحكماتها، والمستند إلى معرفة وخبرة واقعية بمجريات الأحداث، وهو اجتهاد قد يعتريه الخطأ ويتغير بحسب ظروف الزمان والمكان .
2- لا يخفى على أي مطلع أن الحزب شيعي المذهب، وله ارتباطاته الواضحة بإيران، وصلاته المعروفة بسوريا،وذلك له أثره الواضح على توجهاته وأعماله، ولكن هذا ليس هو المقياس الوحيد في هذه المعركة التي نحن بصددها .
3- إن للحزب وحلفائه أهدافاً تخصهم وتصب في مصالحهم الذاتية، وأهدافاً يشتركون فيها - من خلال العمل الميداني على الأقل - مع المقاومة في فلسطين ومع مصالح بقية الأمة، وذلك في إلحاق الضرر بالعدو الصهيوني، وكل أذى ونكاية في هذا العدو مطلوبة ومرغوبة.
4- الوقت الحالي - مع استمرار هذا العدوان - ليس وقتاً مناسباً للمحاسبات المذهبية أو الطائفية بل هو وقت ينبغي فيه التركيز على العدو الأكبر الذي يهلك الحرث والنسل ويهدد البلاد والعباد .
5- إن النظرة الكلية للصراع تقتضي رد الجزئيات إلى الكليات وربط الفروع بالأصول والنظرة الشاملة هي المطلب الذي يساعد على صواب الرأي ووضع الأمور في نصابها من خلال رؤية خطورة وشمولية المعركة، والأطراف المشاركة والمؤيدة للعدوان، بحيث يكون التأييد أو التحفظ في إطار محدد ومتوازن، وبما يحقق المصالح ويدفع المفاسد.
6- إن العدوان الصهيوني الحالي في لبنان ليس وليد وقته وليس ردة فعل لحدث معين - كما يبدو للناظر لأول وهلة - بل إن الوقائع تدل على غير ذلك، حيث لا يمكن أن يكون تحديد الأهداف الكثيرة، والعمليات المتواصلة مع تحديد مدد ومطالب معينة، كل ذلك لا يُمكن إلا بتخطيط مسبق وإعداد مبيت، ومثل هذا تماماً يُقال في الأحداث الأخيرة في فلسطين بعد عملية (الوهم المتبدد) وما تلاها من عمليات عسكرية وخطف للوزراء والنواب، وهذا يتوافق مع إستراتيجية العدوان الصهيوني الذي يسعى إلى إنهاء كل قوة محتملة يمكن أن تشكل مقاومة له أو حجر عثرة في طريق مخططاته.
سادساً: المواقف والأعمال المطلوبة:
إنه لابد لنا إزاء هذه الأحداث أن نغير في مسيرة حياتنا فكراً وشعوراً وسلوكاً بما يلزم من الاستمساك بالدين والاعتصام بالكتاب والسنة وهذه بعض الخطوات المطلوبة :
1- تجديد التوبة، وصدق الالتجاء إلى الله، والاجتهاد في الاستقامة على شرع الله، واجتناب المعاصي والابتعاد عما حرم الله.
2- تحقيق الأخوة الإيمانية وتوكيد الرابطة الإسلامية بنصرة إخواننا المجاهدين في فلسطين ببذل المال وتقديم الإغاثة لهم بكل الوسائل والإمكانات المتاحة ومشاركتهم شعورياً وعاطفياً باستشعار مصابهم وآلامهم، علماً بأن إخواننا من أهل السنة في لبنان أصابهم بلاء كثير وحصل لهم تهجير كبير وهم موجودون في مزارع شبعا الحدودية وبعض قرى الجنوب و مدينتا صيدا وصور هما عمق سني لشمال لبنان.
3- التوعية بالحقائق الإيمانية والمبادئ الإسلامية في مواجهة الأعداء ومجابهة الخطوب وتوضيح المعاني الشرعية الصحيحة للمفاهيم الإسلامية المهمة كالجهاد والولاء والبراء، وتعزيزها في ضوء النصوص الشرعية والأحداث الواقعية وحقيقة الصراع بين الحق والباطل مع التحذير من التخذيل واختلاط المفاهيم .
4- التخفف من الدنيا وتجنب الركون إليها والبعد عن الاستكثار من المباحات والانشغال بالكماليات ، والاعتبار بما جرى لإخواننا من الدمار والعدوان، وتهيئة النفوس لحياة الجد والعزم، واستنهاض الهمم لعيش العزة والكرامة، وتحديث النفس بالدفاع عن الإسلام والمسلمين وصد عدوان المعتدين .
5- العمل على إحياء المقاطعة الاقتصادية للبضائع والخدمات والمصالح التجارية للكيان الصهيوني وأمريكا الداعمة له، والتنبيه على أهمية ذلك وجدواه كسلاح من أسلحة المقاومة ضد العدو.
6- استحضار ضراوة المعركة وخطورة المؤامرة التي يجتمع فيها العدو الصهيوني، مع دعم مطلق من أمريكا، وتآزر مباشر وغير مباشر من بعض دول أوروبا، وأهمية إدراك استهداف مكامن القوة والعزة عند المسلمين، والعمل على تفريق صفهم وتفتيت وحدتهم والاستفراد بهم كلاً على حده على مستوى الدول والشعوب، وضرورة تفويت الفرصة على الأعداء بالوحدة والنصرة حتى لا يأتي يوم يقال فيه أكلت يوم أكل الثور الأبيض .
7- الابتهال إلى الله تعالى، والقنوت في الصلوات، والتضرع في الخلوات، وتحري أوقات الإجابة في جوف الليل والأسحار بأن يعز الله الإسلام والمسلمين ويحبط كيد الأعداء المجرمين .
8- قيام علماء الإسلام ودعاته ومفكريه بواجبهم في إيقاظ الأمة وتنبيهها للمخاطر، وتقوية عزيمتها، وحفظ إراداتها من أسباب الوهن والإحباط والاستسلام، وكشف طرائق ومخاطر الذين يسعون في جعلها تابعة ذليلة خانعة، ومن أوجب واجباتهم وضع التصورات والخطط وبرامج الأعمال التي تستهدف نهضة الأمة ووحدتها ورفع معنوياتها وزيادة فاعليتها ورسم مستقبلها وحفظ حقوق أجيالها وعدم الاكتفاء بإلقاء التبعة في ذلك على الحكومات.
والله نسأل أن يلم شمل المسلمين ويوحد صفهم ويزيد قوتهم، وأن يدحر أعداءهم من اليهود وحلفائهم ، وأن يكتب العاقبة للمؤمنين، ويجعل الدائرة على الكافرين ولو بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ
د. علي بن عمر بادحدح
000000000000000
اسْتِعْلاءُ الإِيمَان
قال تعالى :{ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .. [ آل عمران : 6 ]
أول ما يتبادر إلى الذهن من هذا التوجيه أنه ينصب على حالة الجهاد الممثلة في القتال .. ولكن حقيقة هذا التوجيه ومداه أكبر وأبعد من هذه الحالة المفردة ، بكل ملابساتها الكثيرة .
إنه يمثل الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوره وتقديره للأشياء والأحداث والقيم والأشخاص سواء .
إنه يمثل حالة الاستعلاء التي يجب أن تستقر عليها نفس المؤمن إزاء كل شيء ، وكل وضع ، وكل قيمة ، وكل أحد ، الاستعلاء بالإيمان وقيمه على جميع القيم المنبثقة من أصل غير أصل الإيمان .
الاستعلاء على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان . وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من أصل الإيمان . وعلى تقاليد الأرض التي لم يصغها الإيمان ، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان ، وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان .
الاستعلاء .. مع ضعف القوة ، وقلة العدد ، وفقر المال ، كالاستعلاء مع القوة والكثرة والغنى على السواء .
الاستعلاء الذي لا يتهاوى أمام قوة باغية ، ولا عرف اجتماعي ولا تشريع باطل ، ولا وضع مقبول عند الناس ولا سند له من الإيمان .
وليست حالة التماسك والثبات في الجهاد إلا حالة واحدة من حالات الاستعلاء التي يشملها هذا التوجيه الإلهي العظيم .
والاستعلاء بالإيمان ليس مجرد عزمة مفردة ، ولا نخوة دافعة ، ولا حماسة فائرة ، إنما هو الاستعلاء القائم على الحق الثابت المركوز في طبيعة الوجود . الحق الباقي وراء منطق القوة ، وتصور البيئة ، واصطلاح المجتمع ، وتعارف الناس ، لأنه موصول بالله الحي الذي لا يموت .
إن للمجتمع منطقه السائد وعرفه العام وضغطه الساحق ووزنه الثقيل .. على من ليس يحتمي منه بركن ركين ، وعلى من يواجهه بلا سند متين .. . وللتصورات السائدة والأفكار الشائعة إيحاؤهما الذي يصعب التخلص منه بغير الاستقرار على حقيقة تصغر في ظلها تلك التصورات والأفكار ، والاستمداد من مصدر أعلى من مصدرها وأكبر وأقوى .
والذي يقف في وجه المجتمع ، ومنطقه السائد ، وعرفه العام ، وقيمه واعتباراته ، وأفكاره وتصوراته ، وانحرافاته ونزواته .. يشعر بالغربة كما يشعر بالوهن ، ما لم يكن يستند إلى سند أقوى من الناس ، وأثبت من الأرض ، وأكرم من الحياة .
والله لا يترك المؤمن وحيداً يواجه الضغط ، وينوء به الثقل ، ويهدّه الوهن والحزن ، ومن ثم يجيء هذا التوجيه :
{ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . [ آل عمران : 139 ]
يجيء هذا التوجيه . ليواجه الوهن كما يواجه الحزن . هما الشعوران المباشران اللذان يساوران النفس في هذا المقام .. يواجههما بالاستعلاء لا بمجرد الصبر والثبات ، والاستعلاء الذي ينظر من عل إلى القوى الطاغية ، والقيم السائدة ، والتصورات الشائعة ، والاعتبارات والأوضاع والتقاليد والعادات ، والجماهير المتجمعة على الضلال .
إن المؤمن هو الأعلى .. الأعلى سنداً ومصدراً .. فما تكون الأرض كلها ؟ وما يكون الناس ؟ وما تكون القيم السائدة في الأرض ؟ والاعتبارات الشائعة عند الناس ؟ وهو من الله يتلقى ، وإلى الله يرجع ، وعلى منهجه يسير ؟
وهو الأعلى إدراكاً وتصوراً لحقيقة الوجود .. فالإيمان بالله الواحد في هذه الصورة التي جاء بها الإسلام هو أكمل صورة للمعرفة بالحقيقة الكبرى . وحين تقاس هذه الصورة إلى ذلك الركام من التصورات والعقائد والمذاهب ، سواء ما جاءت به الفلسفات الكبرى قديماً وحديثاً ، وما انتهت إليه العقائد الوثنية والكتابية المحرفة ، وما اعتفسته المذاهب المادية الكالحة .. حين تقاس هذه الصورة المشرقة الواضحة الجميلة المتناسقة ، إلى ذلك الركام وهذه التعسفات ، تتجلى عظمة العقيدة الإسلامية كما لم تتجل قط . وما من شك ان الذين يعرفون هذه المعرفة هم الأعلون على كل من هناك .(1/128)
وهو الأعلى تصوراً للقيم والموازين التي توزن بها الحياة والأحداث والأشياء والأشخاص . فالعقيدة المنبثقة عن المعرفة بالله ، بصفاته كما جاء بها الإسلام ، ومن المعرفة بحقائق القيم في الوجود الكبير لا في ميدان الأرض الصغير . هذه العقيدة من شأنها أن تمنح المؤمن تصوراً للقيم أعلى وأضبط من تلك الموازين المختلفة في أيدي البشر ، الذين لا يدركون إلا ما تحت أقدامهم . ولا يثبتون على ميزان واحد في الجيل الواحد . بل في الأمة الواحدة . بل في النفس الواحدة من حين إلى حين .
وهو الأعلى ضميراً وشعوراً ، وخلقاً وسلوكاً .. فإن عقيدته في الله ذي الأسماء الحسنى والصفات المثلى ، هي بذاتها موحية بالرفعة والنظافة والطهارة والعفة والتقوى ، والعمل الصالح والخلافة الراشدة . فضلاً على إيحاء العقيدة عن الجزاء في الآخرة . الجزاء الذي تهون أمامه متاعب الدنيا وآلامها جميعاً . ويطمئن إليه ضمير المؤمن ، ولو خرج من الدنيا بغير نصيب .
وهو الأعلى شريعة ونظاماً . وحين يراجع المؤمن كل ما عرفته البشرية قديماً وحديثاً ، ويقيسه إلى شريعته ونظامه ، فسيراه كله أشبه شيء بمحاولات الأطفال وخبط العميان ، إلى جانب الشريعة الناضجة والنظام الكامل . وسينظر إلى البشرية الضالة من عل في عطف وإشفاق على بؤسها وشقوتها ، ولا يجد في نفسه إلا الاستعلاء على الشقوة والضلال .
وهكذا كان المسلمون الأوائل يقفون أمام المظاهر الجوفاء ، والقوى المتنفجة ، والاعتبارات التي كانت تتعبد الناس في الجاهلية .. والجاهلية ليست فترة من الزمان ، إنما هي حالة من الحالات تتكرر كلما انحرف المجتمع عن نهج الإسلام ، في الماضي والحاضر والمستقبل على السواء ..
وهكذا وقف المغيرة ابن شعبة أمام صور الجاهلية وأوضاعها وقيمها وتصوراتها في معسكر رستم قائد الفرس المشهور :
" عن أبي عثمان النهدي قال : لما جاء المغيرة إلى القنطرة ، فعبرها إلى أهل فارس أجلسوه ، واستأذنوا رستم في إجازته ، ولم يغيروا شيئاً من شارتهم تقوية لتهاونهم ، فأقبل المغيرة ابن شعبة والقوم في زيهم ، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب ، وبسطهم على غلوة ( والغلوة مسافة رمية سهم وتقدر بثلاثمائة أو أربعمائة خطوة ) لا يصل إلى صاحبهم حتى يمشي عليها غلوة ، وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى يجلس على سريره ووسادته ، فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوه ومغثوه ، فقال : كانت تبلغنا عنكم الأحلام ، ولا أرى قوماً أسفه منكم ، إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضاً ، إلا أن يكون محارباً لصاحبه ؛ فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى . وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض ، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ، فلا تصنعه ، ولم آتكم ولكن دعوتموني . اليوم علمت أن أمركم مضمحل ، وأنكم مغلوبون ، وأن ملكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول " .
كذلك وقف ربعي بن عامر مع رستم هذا وحاشيته قبل وقعة القادسية :
" أرسل سعد بن أبي وقاص قبل القادسية ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم ، قائد الجيوش الفارسية وأميرهم ، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير ، وأظهر اليواقيت واللآلىء الثمينة العظيمة ، وعليه تاجه ، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب . ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة . ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد . وأقبل وعليه سلاحه وبيضته على رأسه . فقالوا له : ضع سلاحك فقال : إني لم آتكم ، وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت . فقال رستم : ائذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق لخرق عامتها . فقال له رستم : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
وتتبدل الأحوال ويقف المسلم موقف المغلوب المجرد من القوة المادية ، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى . وينظر إلى غالبه من عل ما دام مؤمناً . ويستيقن أنها فترة وتمضي ، وإن للإيمان كرة لا مفر منها . وهبها كانت القاضية فإنه لا يحني لها رأساً . إن الناس كلهم يموتون أما هو فيستشهد . وهو يغادر هذه الأرض إلى الجنة ، وغالبه يغادرها إلى النار . وشتان شتان . وهو يسمع نداء ربه الكريم :(1/129)
{ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ، لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ } … [ آل عمران : 196 - 198 ]
وتسود المجتمع عقائد وتصورات وقيم وأوضاع كلها مغاير لعقيدته وتصوره وقيمه وموازينه ، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى ، وبأن هؤلاء كلهم في الموقف الدون . وينظر إليهم من عل في كرامة واعتزاز ، وفي رحمة كذلك وعطف ، ورغبة في هدايتهم إلى الخير الذي معه ، ورفعهم إلى الأفق الذي يعيش فيه .
ويضج الباطل ويصخب ، ويرفع صوته وينفش ريشه ، وتحيط به الهالات المصطنعة التي تغشي على الأبصار والبصائر ، فلا ترى ما وراء الهالات من قبح شائه دميم ، وفجر كالح لئيم .. وينظر المؤمن من عل إلى الباطل المنتفش ، وإلى الجموع المخدوعة ، فلا يهن ولا يحزن ، ولا ينقص إصراره على الحق الذي معه ، وثباته على المنهج الذي يتبعه ، ولا تضعف رغبته كذلك في هداية الضالين والمخدوعين .
ويغرق المجتمع في شهواته الهابطة ، ويمضي مع نزواته الخليعة ، ويلصق بالوحل والطين ، حاسباً أنه يستمتع وينطلق من الأغلال والقيود . وتعز في مثل هذا المجتمع كل متعة بريئة وكل طيبة حلال ، ولا يبقى إلا المشروع الآسن ، وإلا الوحل والطين .. وينظر المؤمن من عل إلى الغارقين في الوحل اللاصقين بالطين . وهو مفرد وحيد ، فلا يهن ولا يحزن ، ولا تراوده نفسه أن يخلع رداءه النظيف الطاهر ، وينغمس في الحمأة ، وهو الأعلى بمتعة الإيمان ولذة اليقين .
ويقف المؤمن قابضاً على دينه كالقابض على الجمر في المجتمع الشارد عن الدين ، وعن الفضيلة ، وعن القيم العليا ، وعن الاهتمامات النبيلة ، وعن كل ما هو طاهر نظيف جميل .. ويقف الآخرون هازئين بوقفته ، ساخرين من تصوراته ، ضاحكين من قيمه .. فما يهن المؤمن وهو ينظر من عل إلى الساخرين والهازئين والضاحكين ، وهو يقول كما قال واحد من الرهط الكرام الذين سبقوه في موكب الإيمان العريق الوضيء ، في الطريق اللاحب الطويل .. نوح عليه السلام ..
{ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } ... [ هود : 38 ]
وهو يرى نهاية الموكب الوضيء ، ونهاية القافلة البائسة في قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ ، وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } .. ؟ [ المطففين : 29 - 36 ]
وقديماً قص القرآن الكريم قول الكافرين للمؤمنين :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } .. [ مريم : 73 ]
أي الفريقين ؟ الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد ؟ أم الفقراء الذين يلتفون حوله ؟ أي الفريقين ؟ النضر بن الحارث ، وعمرو بن هشام ، والوليد بن المغيرة ، وأبو سفيان بن حرب ؟ أم بلال وعمار وصهيب وخباب ؟ أفلو كان ما يدعو إليه محمد خيراً أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر ، الذين لا سلطان لهم في قريش ولا خطر ، وهم يجتمعون في بيت متواضع كدار الأرقم ، ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب الندوة الفخمة الضخمة ، والمجد والجاه والسلطان ؟!
إنه منطق الأرض ، منطق المحجوبين عن الآفاق العليا في كل زمان ومكان . وإنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء عاطلة من عوامل الإغراء ، لا قربى من حاكم ، ولا اعتزاز بسلطان ، ولا هتاف بلذة ، ولا دغدغة لغريزة . وإنما هو الجهد والمشقة والجهاد والاستشهاد .. ليقبل عليها من يقبل ، وهو على يقين من نفسه أنه يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس ، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات ، ولينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع ، ومن يشتهي الزينة والابهة ، ومن يطلب المال والمتاع ، ومن يقيم لاعتبارات الناس وزناً حين تخف في ميزان الله .(1/130)
إن المؤمن لا يستمد قيمه وتصوراته وموازينه من الناس حتى يأسى على تقدير الناس ، إنما يستمدها من رب الناس وهو حسبه وكافيه .. إنه لا يستمدها من شهوات الخلق حتى يتأرجح مع شهوات الخلق ، إنما يستمدها من ميزان الحق الثابت الذي لا يتأرجح ولا يميل .. إنه لا يتلقاها من هذا العالم الفاني المحدود ، وإنما تنبثق في ضميره من ينابيع الوجود .. فأنّى يجد في نفسه وهناً أو يجد في قلبه حزناً ، وهو موصول برب الناس وميزان الحق وينابيع الوجود ؟
إنه على الحق .. فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ وليكن للضلال سلطانه ، وليكن له هيله وهيلمانه ، ولتكن معه جموعه وجماهيره .. إن هذا لا يغير من الحق شيئاً ، إنه على الحق وليس بعد الحق إلا الضلال ، ولن يختار مؤمن الضلال على الحق - وهو مؤمن - ولن يعدل بالحق الضلال كائنة ما كانت الملابسات والأحوال ..
{ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ، رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } . [ آل عمران : 8 - 9 ]( المعالم )
----------------------
وفي الوسيط - (ج 1 / ص 832)
وبعد أن بشر - سبحانه - عباده المؤمنين الصادقين بهذا الثواب الحسن ، نهاهم عن الاغترار بما عليه الكافرون من قوة وسطوة ومتاع دنيوى فقال - تعالى - { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } .
يغرنك : من الغرور وهو الاطماع فى أمر محبوب على نية عدم وقوعه ، أو إظهار الأمر المضر فى صورة الأمر النافع ، وهو مشتق من الغرة بكسر الغين - وهى الغفلة - ويقال : رجل غر إذا كان ينخدع لمن خادعه .
والتقلب فى البلاد : التصرف فيها على جهة السيطرة والغلبة ونفوذ الإرادة .
والمتاع : الشىء الذى يتمتع الإنسان به لمدة معينة ، والمعنى : لا يصح أن يخدع أحد بما عليه الكافرون من تقلب فى البلاد ومن تصرفهم فيها تصرف الحاكم المسيطر عليها ، المستغل لثرواتها وخيراتها ، فإن تصرفهم هذا لن يستمر طويلا ، بل سيبقى مدة قليلة يتمتعون فيها بما بين أيديهم ثم يزول عنهم كل شىء وسوف يعودون إلى خالقهم فيعذبهم العذاب الأكبر على ظلمهم وبغيهم وكفرهم .
والخطاب فى قوله { لاَ يَغُرَّنَّكَ } للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى له الخطاب ، وهو نهى للمؤمنين عن أن يغتروا بما عليه الكافرون من جاه ونفوذ وسلطان وغنى .
وليس من مقتضى النهى أن يكون قد وقع النهى عنه فإن الإنسان قد ينهى عن شىء لم يقع منه لتحذيره من الوقوع فيه فى الحال أو المآل .
ولذا روى عن قتادة أنه قال : " والله ما غروا نبى الله حتى قبضه الله إليه " .
ولقد قال صاحب الكشاف فى الجواب على أن النهى موجه إلى النبى صلى الله عليه وسلم فإن قلت : كيف جاز أن يغتر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى ينهى عن الاغترار به؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما : أن عظيم القوم ومتقدمهم يخاطب بشىء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا فكأنه قيل : لا يغرنكم .
والثانى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد ما كان عليه وثبت ما كان على التزامه كقوله { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } وقوله { مَتَاعٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى هو متاع وقوله { قَلِيلٌ } صفة لمتاع . ووصف بأنه قليل لقصر مدته ، ولكونه متعة فانية زائلة بخلاف ما أعده الله للمتقين من نعيم فى الآخرة فإنه دائم لا يزول .
وجاء العطف { بثُمَّ } فى قوله { ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } للإشعار بالتفاوت الكبير بين حالهم فى الدنيا وما هم فيه من متاع زائل وبين ما سينالهم فى الآخرة من عذاب دائم لا ينقطع .
أى أنهم يتمتعون بهذه المتع العاجلة لفترة قليلة { ثُمَّ مَأْوَاهُمْ } أى مكانهم الذى يأوون إليه ويستقرون فيه { جَهَنَّمُ } التى لا يحيط الوصف بشدة عذابها { وَبِئْسَ المهاد } أى بئس ما مهدوا لأنفسهم وفرشوا جهنم .
وفيه إشارة إلى أن مصيرهم إلى جهنم هم الذين كانوا سببا فيه بكفرهم واستحبابهم العمى على الهدى
وفى هذا تعزية للمؤمنين وتسلية لهم عما يرونه من غنى وجاه وسلطان للمشركين وتحريض للأخيار على أن يجعلوا همهم الأكبر فى العمل الصالح الذى يوصلهم إلى رضوان الله الباقى ، ففى الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والله ما الدنيا فى الآخرة إلا مثل ما يجعل احدكم إصبعه فى اليم . فلينظر بم يرجع " .
=====================
عدم الاكتراث بالذين لا يوقنون
قال تعالى : فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) [الأحقاف/35]
وفي أضواء البيان - (ج 7 / ص 345)(1/131)
قوله تعالى : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } .
اختلف العلماء في المراد بأولي العزم من الرسل في هذه الآية الكريمة اختلافاً كثيراً .
وأشهر الأقوال في ذلك أنهم خمسة ، وهم الذين قدمنا ذكرهم في الأحزاب والشورى ، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليه الصلاة والسلام .
وعلى هذا القول فالرسل الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا أربعة فصار هو صلى الله عليه وسلم خامسهم .
واعلم أن اقول بأن المراد بأولي العزم جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وأن لفظة من ، في قوله : من الرسل بيانية يظهر أنه خلاف التحقيق ، كما دل على ذلك بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] الآية ، فأمر الله جل وعلا نبيه في آية القلم هذه بالصبر ، ونهاه عن أن يكون مثل يونس ، لأنه هو صاحب الحوت وكقوله : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] فآية القلم ، وآية طه المذكورتان كلتاهما تدل على أن أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر كصبرهم ليسوا جميع الرسل والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } .
نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ، أن يستعجل لقومه ، أي يدعو الله عليهم بتعجيله لهم ، فمفعول تستعجل محذوف تقديره العذاب ، كما قاله القرطبي ، وهو الظاهر .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن طلب تعجيل العذاب لهم جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى : { وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } [ المزمل : 11 ] . وقوله تعالى { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] .
فإن قوله { وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } ، وقوله : { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] موضح لمعنى قوله { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } .
والمراد بالآيات ، نهيه صلى الله عليه وسلم عن طلب تعجيل العذاب لهم ، لأنهم معذبون ، لا محالة عند انتها المدة المحددة للإمهال ، كما يوضحه قوله تعالى { فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } [ مريم : 84 ] وقوله تعالى { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 14 ] وقوله تعالى { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار } [ البقرة : 126 ] الآية . وقوله تعالى : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } [ آل عمران : 196 - 197 ] وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 - 70 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ }
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } [ يونس : 45 ] وفي سورة قد أفلح المؤمنون في الكلام على قوله تعالى : { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العآدين } [ المؤمنون : 113 ] .
وبينا في الكلام على آية قد أفلح المؤمنون وجه إزالة إشكال معروف في الآيات المذكورة .
قوله تعالى : { بَلاَغٌ } .
التحقيق إن شاء الله أن أصوب القولين في قوله : { بَلاَغٌ } أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره ، هذا بلاغ ، أي هذا الرآن بلاغ من الله إلى خلقه .
ويدللهذا قوله تعالى في سورة إبراهيم { هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } [ إبراهيم : 52 ] ، وقوله في الأنبياء { إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } [ الأنبياء : 106 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
والبلاغ اسم مصدر ، بمعنى التبليغ ، وقد علم باستقراء اللغة العربية ، أن الفعال يأتي كثيراً ، بمعنى التفعيل ، كبلغه بلاغاً : أي تبليغاً ، وكلمه كلاماً ، أي تكليماً ، وطلقها طلاقاً ، وسرحها سراحاً ، وبينه بياناً .
كل ذلك بمعنى التفعيل ، لأن فعل مضعفة العين ، غير معتلة اللام ولا مهموزته قياس مصدرها التفيل
وما جاء منه على خلاف ذلك ، يحفظ ولا يقاس عليه ، كما هو معلوم في محله .
أما القول بأن المعنى وذلك اللبث بلاغ ، فهو خلاف الظاهر كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
-------------------
وفي ظلال القرآن - (ج 6 / ص 430)
وكل كلمة في الآية ذات رصيد ضخم؛ وكل عبارة وراءها عالم من الصور والظلال ، والمعاني والإيحاءات ، والقضايا والقيم .(1/132)
{ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل . ولا تستعجل لهم } . .
توجيه يقال لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي احتمل ما احتمل ، وعانى من قومه ما عانى . وهو الذي نشأ يتيماً ، وجرد من الولي والحامي ومن كل أسباب الأرض واحداً بعد واحد . الأب . الأم . والجد . والعم . والزوج الوفية الحنون . وخلص لله ولدعوته مجرداً من كل شاغل . كما هو مجرد من كل سند أو ظهير . وهو الذي لقي من أقاربه من المشركين أشد مما لاقى من الأبعدين . وهو الذي خرج مرة ومرة ومرة يستنصر القبائل والأفراد فرد في كل مرة بلا نصرة .
------------
وفي تفسير السعدي - (ج 1 / ص 783)
ثم أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له وأن لا يزال داعيا لهم إلى الله وأن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم صبرهم، وتم يقينهم، فهم أحق الخلق بالأسوة بهم والقفو لآثارهم والاهتداء بمنارهم.
فامتثل صلى الله عليه وسلم لأمر ربه فصبر صبرا لم يصبره نبي قبله حتى رماه المعادون له عن قوس واحدة، وقاموا جميعا بصده عن الدعوة إلى الله وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة، وهو صلى الله عليه وسلم لم يزل صادعا بأمر الله مقيما على جهاد أعداء الله صابرا على ما يناله من الأذى، حتى مكن الله له في الأرض وأظهر دينه على سائر الأديان وأمته على الأمم، فصلى الله عليه وسلم تسليما.
وقوله: { وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } أي: لهؤلاء المكذبين المستعجلين للعذاب فإن هذا من جهلهم وحمقهم فلا يستخفنك بجهلهم ولا يحملك ما ترى من استعجالهم على أن تدعو الله عليهم بذلك فإن كل ما هو آت قريب، و { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا } في الدنيا { إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } فلا يحزنك تمتعهم القليل وهم صائرون إلى العذاب الوبيل.
{ بَلاغٌ } أي: هذه الدنيا متاعها وشهوتها ولذاتها بلغة منغصة ودفع وقت حاضر قليل.
أو هذا القرآن العظيم الذي بينا لكم فيه البيان التام بلاغ لكم، وزاد إلى الدار الآخرة، ونعم الزاد والبلغة زاد يوصل إلى دار النعيم ويعصم من العذاب الأليم، فهو أفضل زاد يتزوده الخلائق وأجل نعمة أنعم الله بها عليهم.
{ فَهَلْ يُهْلَكُ } بالعقوبات { إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } أي: الذين لا خير فيهم وقد خرجوا عن طاعة ربهم ولم يقبلوا الحق الذي جاءتهم به الرسل.
وأعذر الله لهم وأنذرهم فبعد ذلك إذ يستمرون على تكذيبهم وكفرهم نسأل الله العصمة.(1/133)
الدِّينُ كُلُّهُ الْعِلْمَ وَالْعَدْلَ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى :
وَأَصْلُ ذَلِكَ الْعِلْمُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ الْعَدْلُ وَالظُّلْمُ إلَّا بِالْعِلْمِ . فَصَارَ الدِّينُ كُلُّهُ الْعِلْمَ وَالْعَدْلَ ؛ وَضِدُّ ذَلِكَ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } وَلَمَّا كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا - وَذَلِكَ يَقَعُ مِنْ الرُّعَاةِ تَارَةً وَمِنْ الرَّعِيَّةِ تَارَةً وَمِنْ غَيْرِهِمْ تَارَةً - كَانَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ الصَّبْرُ عَلَى ظُلْمِ الْأَئِمَّةِ وَجَوْرِهِمْ كَمَا هُوَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَكَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ لَمَّا قَالَ : { إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلَقَّوْنِي عَلَى الْحَوْضِ } وَقَالَ : { مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ } إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ . وَقَالَ : { أَدُّوا إلَيْهِمْ الَّذِي لَهُمْ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ } وَانْهَوْا عَنْ قِتَالِهِمْ مَا صَلَّوْا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعَهُمْ أَصْلُ الدِّينِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَمَعَهُمْ حَسَنَاتٌ وَتَرْكُ سَيِّئَاتٍ كَثِيرَةٍ . وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ أَوْ غَيْرِ سَائِغٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمٍ وَجَوْرٍ كَمَا هُوَ عَادَةُ أَكْثَرِ النُّفُوسِ تُزِيلُ الشَّرَّ بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَتُزِيلُ الْعُدْوَانَ بِمَا هُوَ أَعْدَى مِنْهُ ؛ فَالْخُرُوج عَلَيْهِمْ يُوجِبُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِمْ فَيُصْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُصْبَرُ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى ظُلْمِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } وَقَوْلِهِ : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } وَقَوْلِهِ : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } . وَهَذَا عَامٌّ فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ وَفِي الرَّعِيَّةِ إذَا أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى مَا أُصِيبُوا بِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ كَمَا يَصْبِرُ الْمُجَاهِدُونَ عَلَى مَا يُصَابُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ . فَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فِي الْعِرْضِ أَوْلَى وَأَوْلَى ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَيَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ وُلَاةُ الْأُمُورِ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ كَمَا أَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الشَّجَاعَةِ وَالسَّمَاحَةِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْإِمَارَةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ . فَكَمَا وَجَبَ عَلَى الْأَئِمَّةِ الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الرَّعِيَّةِ وَظُلْمِهَا إذَا لَمْ تَتِمَّ الْمَصْلَحَةُ إلَّا بِذَلِكَ إذْ كَانَ تَرْكُهُ يُفْضِي إلَى فَسَادٍ أَكْثَرَ مِنْهُ : فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ الصَّبْرُ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ وَظُلْمِهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ الصَّبْرِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ . فَعَلَى كُلٍّ مِنْ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ لِلْآخَرِ حُقُوقٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا كَمَا ذَكَرَ بَعْضَهُ فِي " كِتَابِ الْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ " وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ لِلْآخَرِ وَيَحْلُمَ عَنْهُ فِي أُمُورٍ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ السَّمَاحَةِ وَالصَّبْرِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } وَفِي الْحَدِيثِ { أَفْضَلُ الْإِيمَانِ السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ } وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . فَبِالْحِلْمِ يَعْفُو عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَبِالسَّمَاحَةِ يُوَصِّلُ إلَيْهِمْ الْمَنَافِعَ فَيَجْمَعُ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ . فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ عَنْ ظُلْمِهِمْ وَالْعَدْلُ عَلَيْهِمْ فَوُجُوبُ ذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
================
وجوب الصبر و المصابرة والمرابطة والتقوى
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200)(1/134)
النداء لهم . للصبر والمصابرة , والمرابطة , والتقوى . .
وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى . . يذكر إن مفردين , ويذكر إن مجتمعين . .
وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة , ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة , وإلى المرابطة والتقوى , فيكون هذا أنسب ختام .
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة . إنه طريق طويل شاق , حافل بالعقبات والأشواك , مفروش بالدماء والأشلاء , وبالإيذاء والابتلاء . .
الصبر على أشياء كثيرة:الصبر على شهوات النفس ورغائبها , وأطماعها ومطامحها , وضعفها ونقصها , وعجلتها وملالها من قريب !
والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم , وانحراف طباعهم , وأثرتهم , وغرورهم , والتوائهم , واستعجالهم للثمار !
والصبر على تنفج الباطل , ووقاحة الطغيان , وانتفاش الشر , وغلبة الشهوة , وتصعير الغرور والخيلاء !
والصبر على قلة الناصر , وضعف المعين , وطول الطريق , ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق !
والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله , وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من الألم والغيظ , والحنق , والضيق , وضعف الثقة أحيانا في الخير , وقلة الرجاء أحيانا في الفطرة البشرية ; والملل والسأم واليأس أحيانا والقنوط !
والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة , واستقبال الرخاء في تواضع وشكر , وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام , وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء !
والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله , واستسلام لقدره , ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع . .
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل . . لا تصوره حقيقة الكلمات . فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة . إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق ; وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات !
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء . كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه . .
والمصابرة . .
وهي مفاعلة من الصبر . .
مصابرة هذه المشاعر كلها , ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين . .
مصابرتها ومصابرتهم , فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة . بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى:أعدائهم من كوامن الصدور , وأعدائهم من شرار الناس سواء . فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم , يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر , والدفع بالدفع , والجهد بالجهد , والإصرار بالإصرار . .
ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء . وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق , فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارا وأعظم صبرا على المضي في الطريق !
والمرابطة . .
الإقامة في مواقع الجهاد , وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء . .
وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدا , ولا تستسلم للرقاد !
فما هادنها أعداؤها قط , منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة , والتعرض بها للناس . وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد , حيثما كانت إلى آخر الزمان !
إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي . منهج يتحكم في ضمائرهم , كما يتحكم في أموالهم , كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم . منهج خير عادل مستقيم . ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم ; والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة ; والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة . .
ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان . ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال . وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار . وينهد لحربها المستهترون المنحلون , لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات . .
ولا بد من مجاهدتهم جميعا . ولا بد من الصبر والمصابرة . ولا بد من المرابطة والحراسة . كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين , الدائمين في كل أرض وفي كل جيل . .
هذه طبيعة هذه الدعوة , وهذا طريقها . .
إنها لا تريد أن تعتدي ; ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم . .
وهي واجدة أبدا من يكره ذلك المنهج وهذا النظام . ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد . ومن يتربص بها الدوائر . ومن يحاربها باليد والقلب واللسان . .
ولا بد لها أن تقبل المعركة بكل تكاليفها , ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام !!
والتقوى . .
التقوى تصاحب هذا كله . فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل ; ويحرسه أن يضعف ; ويحرسه أن يعتدي ; ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك .(1/135)
ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ , إلا من يعاني مشاق هذا الطريق ; ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات . .
إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات . وهو جماعها كلها , وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها . .
ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار: (لعلكم تفلحون) . وصدق الله العظيم . .(الظلال)
---------------
وفي الوسيط - (ج 1 / ص 835)
ثم ختم - سبحانه - السورة الاكريمة بنداء جامع للمؤمنين ، دعاهم فيه إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى فقال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
والصبر معناه : حبس النفس عن أهوائها وشهواتها وترويضها على تحمل المكره وتعويدها على أداء الطاعات .
والمصابرة : هى المغالبة بالصبر : بأن يكون المؤمن أشد صبراً من عدوه .
ورابطوا : من المرابطة وهى القيام على الثغور الإسلامية لحمياتها من الأعداء ، فهى استعداد ودفاع وحماية لديار الإسلام من مهاجمة الأعداء .
والمعنى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا } على طاعة الله وعلى تحمل المكاره والآلام برضا لا سخط معه؛ فإن الصبر جماع الفضائل وأساس النجاح والظفر .
و { وَصَابِرُواْ } أى قابلوا صبر أعدائكم بصبر أشد منه وأقوى في كل موطن من المواطن التى تستلزم الصبر وتقتضيه .
قال صاحب الكشاف : { وَصَابِرُواْ } أعداء الله فى الجهاد ، أى غالبوهم فى الصبر على شدائد الحرب ، ولا تكونوا أقل منهم صبراً وثباتاً فالمصابرة باب من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تخصيصاً لشدته وصعبوته " .
و { وَرَابِطُواْ } أى أقيموا على مرابطة الغزو فى نحر العدو بالترصد له ، والاستعداد لمحاربته وكونوا دائما على حذر منه حتى لا يفاجئكم بما تكرهون .
ولقد كان كثير من السلف الصالح يرابطون فى سبيل الله نصف العام ، ويطلبون قوتهم بالعمل فى النصف الآخر .
ولقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث التى وردت فى فضل المرابطة من أجل حماية ديار الإسلام ، ومن ذلك ما رواه البخاري فى صحيحه عن سهل ابن سعد الساعدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما فيها " .
وروى مسلم فى صحيحه عن سلمان الفارسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذى كان يعمله ، وأجرى عليه رزقه ، وأمن الفتان " .
وبعضهم جعل المراد بالمرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة مستدلا بالحديث الذى رواه مسلم والنسائي عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة . فذلكم الرباط " .
قال القرطبى : بعد أن ساق هذا الحديث - : " والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة فى سبيل الله - وأصلها من ربط الخيل ، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور المسلمين مرابطا فارسا كان أو راجلا . واللفظ مأخوذ من الرب . وقول النبى صلى الله عليه وسلم " فذلكم الرباط " إنما هو تشبيه بالرباط فى سبيل الله " .
ومما يدل على أن المرابطة فى سبيل الله م أجل الديار الإسلامية من أفضل الأعمال وأن الصالحين الأخيار من المسلمين كانوا لا ينقطعون عنها ، مما يدل على ذلك ما كتبه عبد الله بن المبارك - وهو يرابط بطرسوس - إلى صديقه الفضيل بن عياض - وكان الفضيل معتكفا بالمسجد الحرام - كتب إليه عبد الله يقول :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك فى العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله فى باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوى غبار خيل الله فى ... أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما قرأ الفضيل هذه الأبيات بكى وقال : صدق عبد الله .
وقوله { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أى اتقوا الله بأن تصونوا أنفسكم عن محارمه وعن مخالفة أمره ، ورجاء أن يكتب لكم الفوز بالنصر فى الدنيا ، والثواب الحسن فى الآخرة .
وبعد : فهذه سورة آل عمران ، وهذا تفسير مفصل لما اشتملت عليه من توجيهات نافعة وعظات بليغة ، وآداب عالية وتشريعات سامية و تربية رشيدة وعبادات قويمة وحجج تثبت الحق وتدحض الباطل .
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ونافعا لعباده .
---------------
الصبر :(1/136)
الصبر لغةً : هو المنع والحبس، وهو نقيض الجزع، يقال : صبر صبراً فهو صابر وصبَّار وصبِّير وصبور . وسمي الصوم صبراً ، لما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والنكاح (2).
وفي الاصطلاح : هو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لايحسن ولا يجمل. وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها.
وقيل : هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله ، لا إلى الله ؛ لأن الله تعالى أثنى على أيوب عليه السلام بالصبر بقوله : ( إنا وجدناه صابراً ( (ص 44 ) ، مع دعائه في دفع الضر عنه بقوله : (وأيوب إذ نادى ربه أني مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين ( ]الأنبياء 83 [ .
__________
(2) لسان العرب (4/438، 439).
ولقد اهتم الإسلام بالصبر ، ورفع منزلته ، وأثنى على المتحلين به، وهذا يدل على عظم أمره، لأنه أساس كثير من الفضائل، بل هو أصلها، فما من فضيلة إلا وهي محتاجة إليه، فالشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد، والعفاف هو الصبر عن الشهوات، والحلم هو الصبر على المثيرات. لهذا أحب الله سبحانه وتعالى الصابرين فقال عز وجل : (والله يحب الصابرين( ] آل عمران 146 [
وقال تعالى : ( ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ( ]النحل 96 [ .
وأخبر سبحانه وتعالى أنهم ينالون مزيداً من الفضل والرحمة والثواب في الدنيا والآخرة، فقال : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ( ]الزمر 10 [ .
كما أخبر الله تعالى أن الصبر من الخصال العظيمة التي يجب أن يتصف بها المؤمنون فقال عز وجل : ( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور( ] آل عمران 186 [ . وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم، فقال تبارك وتعالى: ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ( ] البقرة 157 [ .
فالصبر وحده هو الذي يعصم من التخبط، ويجعل المسلم يسير متزناً وفق منهج الإسلام في كل شؤون الحياة، فلابد أن يوطن المسلم نفسه على احتمال المكاره دون ضجر، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت، وكان الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام ممن برز في هذه الفضيلة، وفي مقدمتهم أولوا العزم من الرسل، ولذلك خاطب الله نبيه الخاتم صاحب الخلق العظيم (، وأمره بالصبر، فقال تعالى : ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ( ]الأحقاف 35 [ .
فنبينا محمد ( ، أوذي أذىً شديداً ولقي من قومه ما لقي من البلاء، فصبر، واحتمل ، وبلّغ رسالة ربه، حتى أتاه اليقين.
يقول الماوردي : "فقد لقي بمكة من قريش وغيرهم ممن كان يدعوهم إلى الله أو يطلب منهم حمايته ليؤدي رسالة الله ما يشيب النواصي ، وهو مع ذلك صابر صبر المستعلي ، وثابت ثبات المستولي"(1)
__________
(1) أعلام النبوة للماوردي ص(283).
والصبر ثلاثة أنواع : صبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، وصبر على البلاء ، وذلك هو الحياة كلها، لذلك كان الصبر نصف الإيمان؛ لأنه ما من مقام من مقامات الإيمان إلا ويلازمه الصبر.
فالمؤمن يحتاج إلى الصبر على الطاعة لأن النفس بطبعها تنفر من العبودية، وهي شاقة على النفس مطلقاً، ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل، كالصلاة ، ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة، ومنها ما يكره بسببهما جميعاً كالحج والجهاد، فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد.
ومن أنواع الصبر الصبر عن المعاصي وهي مقتضى باعث الهوى، وما أحوج العبد إلى الصبر عنها. وقد جمع الله أنواع المعاصي في قوله تعالى: (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ( ] النحل 90 [ . وأشد أنواع الصبر: الصبر عن المعاصي التي أصبحت مألوفة بالعادة.
وأما النوع الثالث من أنواع الصبر فهو الصبر على المصائب والأقدار، مثل موت الأعزة، وهلاك الأموال ، وزوال الصحة بالمرض . فالصبر على ذلك من أعلى مقامات الصبر.
والمؤمن بحاجة إلى الصبر أمام مواجهة المصائب التي تجري عليه بأن يعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ويحبس نفسه عن الجزع والتسخط؛ لأن الصبر على المصائب ثمرة من ثمار الإيمان بالقدر الذي هو أحد أركان الإيمان الستة.
والصبر من الأمور المشكورة، والأفعال الحميدة، والمؤمن حين يتقي ويصبر ويغفر ويشكر ، يوفى أجره بغير حساب، ويكتب له النجاح والفلاح والظفر، في شؤون حياته كلها، وذلك هو الخير كله.
قال الله تعالى : (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ]الشورى 43 [.
وقال تعالى : (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ( ]آل عمران 186 [ .
وقال تعالى : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ( ]الزمر 10 [.
وقال رسول الله ( : (( عجباً لأمر المؤمن : إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له ))(1).
والمؤمن يبتلى في هذه الحياة، والفائز من المؤمنين من حسن عمله وصبر واتقى قال تعالى : (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ( ] الملك 2 [ .
وهذه نصوص من الكتاب والسنة تبين لنا أنواع الابتلاء وتبشر الصابرين عليه بأعظم المثوبة في الدارين.(1/137)
وقال الله تعالى : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون( ] البقرة 155، 157[ .
وقال تعالى : (والصابرون في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون( ]البقرة 177 [ .
وقال تعالى : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ( ] محمد 31 [ .
وقوله تعالى : ( واصبر وما صبرك إلا بالله ( ] النحل 127 [ .
وقوله تعالى : ( واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ( ] لقمان 17 [.
وفي السنة عن أنس بن مالك ( أن رسول الله ( قال : (( إن الله تعالى قال : إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة يريد عينيه )) (2).
وفي رواية الترمذي قال : : قال رسول الله ( : (( إن الله تعالى يقول : إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا ، لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة )) (3).
وعن أبي هريرة ( قال : قال النبي ( : (( يقول الله عز وجل : من أذهبت حبيبته فصبر واحتسب ، لم أرض له ثواباً دون الجنة ))(4).
__________
(1) تقدم تخريجه ص (43 ) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب المرضى (7/116).
(3) سنن الترمذي (4/602).
(4) أخرجه الترمذي في سننه : كتاب الزهد (4/603). وقال : حديث حسن صحيح.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ( : (( إن الله لا يرضى لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيِّه(1) من أهل الأرض فصبر واحتسب وقال ما أمر به بثواب دون الجنة ))(2).
وعن أبي هريرة ( قال : إن رسول الله ( قال: (( يقول الله ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ))(3).
وعن عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن عباس رضي الله عنهما : (ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت : بلى ، قال : هذه المرأة السوداء أتت النبي ( فقالت : إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي ، قال : (( إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك )) ، قالت : أصبر، قالت : فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها)(4).
وما عند الله من الجزاء والمثوبة للصابرين هو خير حافز يدعو المؤمن إلى الصبر والمصابرة، حتى يكون من المفلحين.
( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون( ] آل عمران 200 [ .
على ما يصيبه ابتغاء مرضاة الله ومن ذلك قوله تعالى : ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون( ]البقرة 155 ، 156 [ .
وقوله تعالى : ( واصبر وما صبرك إلا بالله ( ]النحل 127 [ .
وقوله تعالى : ( واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور( ]لقمان 17 [ .
__________
(1) بصفيه : بمحبه الخاص من الولد وغيره، يقول الحافظ ابن حجر في الفتح (11/242) : صفيه : بفتح الصاد المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتانية وهو الحبيب المصافي كالولد والأخ وكل من يحبه الإنسان ، والمراد بالقبض قبض روحه وهو الموت.
(2) أخرجه النسائي في سننه : كتاب الجنائز(4/23). وصححه السيوطي في الجامع الصغير (1/73)
(3) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الرقاق (7/173).
(4) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة : (4/1994).
ومن السنة ما رواه أنس بن مالك ( قال : قال رسول الله ( : (( الصبر عند الصدمة الأولى )) وفي رواية : (أنه أتى على امرأة تبكي على صبي لها، فقال: (( اتقي الله ، واصبري )) فقالت : وما تبالي بمصيبتي ، فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله ( فأخذها مثل الموت، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين، فقالت : يا رسول الله ، لم أعرفك. قال : (( إنما الصبر عند أول الصدمة )) أو قال : (( عند أول الصدمة )).
وفي أخرى نحوه، أنها قالت : (إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ، ولم تعرفه، وأنه قال ( : لما جاءته وقالت : لم أعرفك : (( إنما الصبر عند الصدمة الأولى )) )(1).
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : (أرسلت بنت النبي ( إليه: أن ابناً لي قبض، فائتنا وفي رواية : ابني احتضر فأشهدنا وفي أخرى : إن ابنتي قد حضرت فأرسل يقري السلام ، ويقول : (( إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمىً ، فلتصبر ولتحتسب ))، فأرسلت إليه تقسم بالله ليأتينها)(2).
فكل من قام بحق، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، فلابد أن يؤذى، فما له دواء إلا الصبر في الله، الاستعانة بالله، والرجوع إلى الله(3).
وكان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في مقدمة من أوذي في الله، وقد لقي الرسول ( وصحبة الكرام أنواعاً كثيرة من الأذى.
قال تعالى عن قول الرسل لأقوامهم : (ولنصبرن على ما ءاذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ( ] إبراهيم 12 [ .
وقال تعالى : ( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ( ]المزمل 10 [ .(1/138)
وقال تعالى : (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصبرين واصبر وما صبرك إلا بالله ( ]النحل 126 ، 127 [
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجنائز (3/171)، ومسلم في صحيحه (2/637).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (3/151)، ومسلم في صحيحه (2/635).
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/445).
وعن ابن مسعود رحمه الله تعالى قال : كأني أنظر إلى رسول الله ( ، يحكي نبياً من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه ، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: (( اللهم اغفر لقومي ، فإنهم لا يعلمون )) (1).
وعن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب رسول الله ( قال : قال رسول الله ( : (( المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من الذي لا يخالط الناس ، ولا يصبر على أذاهم )) أخرجه الترمذي ، وقال : وكان شعبة يرى أنه ابن عمر (2).
وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : ( شكونا إلى رسول الله ( وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال : (( كان الرجل فيمن قبلكم ، يحفر له في الأرض فيجعل فيه ، فيجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه ، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون) (3) .
ولقد صبر النبي ( على الاضطهاد والتعذيب والإيذاء والسخرية. وتحمل كل ذلك ( بصبر جميل وعزيمة قوية ، ولم يقتصر الأمر عليه (، بل لحق ذلك الأذى كل أتباعه وأقاربه . ففي يوم الخندق حوصرت المدينة ذلك الحصار الشديد الذي لم يعرف المسلمون فيه نوماً ولا راحة ، وطالت الفترة ، وتعب المسلمون ، وكانوا كما وصفهم الله تعالى: ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصر وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا( ]الأحزاب 10 ،11 [.
__________
(1) أخرجه البخاري (7/249) في ومسلم في صحيحه (3/1417) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه : كتاب صفة القيامة (4/663). وابن ماجه في سننه : كتاب الفتن (2/1338). وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (10/512).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب المناقب (4/180).
فالصبر له مكانة عظيمة في الإسلام ومنزلة رفيعة في الإيمان؛ لأن أكثر أخلاق الإيمان لا تتم إلا بالصبر، وقد أدرك السلف رحمهم الله تعالى هذه المنزلة العظيمة للصبر من الإيمان حتى قال عبد الله بن مسعود ( : "الصبر نصف الإيمان"(1)، وهذا يبين لنا أهمية خلق الصبر ومكانته العظيمة من الإيمان.
===============
وجوب الاستعانة بالصبر والصلاة
قال تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة:45)
والغالب أن الضمير في أنها ضمير الشأن , أي إن هذه الدعوة إلى الاعتراف بالحق في وجه هذه العوامل كبيرة وصعبة وشاقة , إلا على الخاشعين الخاضعين لله , الشاعرين بخشيته وتقواه , الواثقين بلقائه والرجعة إليه عن يقين .
والاستعانة بالصبر تتكرر كثيرا ; فهو الزاد الذي لا بد منه لمواجهة كل مشقة , وأول المشقات مشقة النزول عن القيادة والرياسة والنفع والكسب احتراما للحق وإيثارا له , واعترافا بالحقيقة وخضوعا لها
فما الاستعانة بالصلاة ?
إن الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب . صلة يستمد منها القلب قوة , وتحس فيها الروح صلة ; وتجد فيها النفس زادا أنفس من أعراض الحياة الدنيا . .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة , وهو الوثيق الصلة بربه الموصول الروح بالوحي والإلهام . .
وما يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زادا للطريق , وريا في الهجير , ومددا حين ينقطع المدد , ورصيدا حين ينفد الرصيد . .
واليقين بلقاء الله - واستعمال ظن ومشتقاتها في معنى اليقين كثير في القرآن وفي لغة العرب عامة - واليقين بالرجعة إليه وحده في كل الأمور . .
هو مناط الصبر والاحتمال ; وهو مناط التقوى والحساسية . كما أنه مناط الوزن الصحيح للقيم:قيم الدنيا وقيم الآخرة . ومتى استقام الميزان في هذه القيم بدت الدنيا كلها ثمنا قليلا , وعرضا هزيلا ; وبدت الآخرة على حقيقتها , التي لا يتردد عاقل في اختيارها وإيثارها .
وكذلك يجد المتدبر للقرآن في التوجيه الذي قصد به بنو إسرائيل أول مرة , توجيها دائما مستمر الإيحاء للجميع . .(الظلال)
-------------------
وفي تفسير القرآن للعثيمين - (ج 3 / ص 110)
.{ 45 } قوله تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلاة } أي استعينوا على أموركم بالصبر، والصلاة؛ و "الاستعانة" هي طلب العون؛ و "الاستعانة بالصبر" أن يصبر الإنسان على ما أصابه من البلاء، أو حُمِّل إياه من الشريعة؛ و{ الصلاة } هي العبادة المعروفة؛ وتعم الفرض، والنفل..(1/139)
قوله تعالى: { وإنها }: قيل: إن الضمير يعود على { الصلاة }؛ لأنها أقرب مذكور؛ والقاعدة في اللغة العربية أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ما لم يمنع منه مانع؛ وقيل إن الضمير يعود على الاستعانة المفهومة من قوله تعالى: { واستعينوا }؛ لأن الفعل { استعينوا } يدل على زمن، ومصدر؛ فيجوز أن يعود الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، كما في قوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8] ، أي العدل المفهوم من قوله تعالى: { اعدلوا } أقرب للتقوى؛ لكن المعنى الأول أوضح..
قوله تعالى: { لكبيرة } أي لشاقة { إلا على الخاشعين } أي الذليلين لأمر الله..
الفوائد:
.1من فوائد الآية: إرشاد الله - تبارك وتعالى - عباده إلى الاستعانة بهذين الأمرين: الصبر، والصلاة..
.2 ومنها: جواز الاستعانة بغير الله؛ لكن فيما يثبت أن به العون؛ فمثلاً إذا استعنت إنساناً يحمل معك المتاع إلى البيت كان جائزاً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم "وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة(1)" ..
أما الاستعانة بما لا عون فيه فهي سفه في العقل، وضلال في الدين، وقد تكون شركاً: كأن يستعين بميت، أو بغائب لا يستطيع أن يعينه لبعده عنه، وعدم تمكنه من الوصول إليه..
.3 ومن فوائد الآية: فضيلة الصبر، وأن به العون على مكابدة الأمور؛ قال أهل العلم: والصبر ثلاثة أنواع؛ وأخذوا هذا التقسيم من الاستقراء؛ الأول: الصبر على طاعة الله؛ والثاني: الصبر عن معصية الله؛ والثالث: الصبر على أقدار الله ؛ فالصبر على الطاعة هو أشقها، وأفضلها؛ لأن الصبر على الطاعة يتضمن فعلاً وكفاً اختيارياً: فعل الطاعة؛ وكفّ النفس عن التهاون بها، وعدم إقامته؛ فهو إيجادي إيجابي؛ والصبر عن المعصية ليس فيه إلا كف فقط؛ لكنه أحياناً يكون شديداً على النفس؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشاب الذي دعته امرأة ذات منصب، وجمال، فقال: "إني أخاف الله"(2) في رتبة الإمام العادل من حيث إن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله . وإن كان الإمام العادل أفضل .؛ لأن قوة الداعي في الشباب، وكون المرأة ذات منصب وجمال، وانتفاء المانع فيما إذا كان خالياً بها يوجب الوقوع في المحذور؛ لكن قال: "إني أخاف الله"؛ ربما يكون هذا الصبر أشق من كثير من الطاعات؛ لكن نحن لا نتكلم عن العوارض التي تعرض لبعض الناس؛ إنما نتكلم عن الشيء من حيث هو؛ فالصبر على الطاعة أفضل من الصبر عن المعصية؛ والصبر عن المعصية أفضل من الصبر على أقدار الله؛ لأنه لا اختيار للإنسان في دفع أقدار الله؛ لكن مع ذلك قد يجد الإنسان فيه مشقة عظيمة؛ ولكننا نتكلم ليس عن صبر معين في شخص معين؛ قد يكون بعض الناس يفقد حبيبه، أو ابنه، أو زوجته، أو ما أشبه ذلك، ويكون هذا أشق عليه من كثير من الطاعات من حيث الانفعال النفسي؛ والصبر على أقدار الله ليس من المكلف فيه عمل؛ لأن ما وقع لابد أن يقع . صبرت، أم لم تصبر .: هل إذا جزعت، وندمت، واشتد حزنك يرتفع المقدور؟!.
الجواب: لا؛ إذاً كما قال بعض السلف: إما أن تصبر صبر الكرام؛ وإما أن تسلو سُلوّ البهائم..
.4 ومن فوائد الآية: الحث على الصبر بأن يحبس الإنسان نفسه، ويُحمِّلها المشقة حتى يحصل المطلوب؛ وهذا مجرب . أن الإنسان إذا صبر أدرك مناله؛ وإذا ملّ كسل، وفاته خير كثير .؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز"(3) ؛ وكثير من الناس يرى أن بداءته بهذا العمل مفيدة له، فيبدأ، ثم لا يحصل له مقصوده بسرعة، فيعجز، ويكِلّ، ويترك؛ إذاً ضاع عليه وقته الأول، وربما يكون زمناً كثيراً؛ ولا يأمن أنه إذا عدل عن الأول، ثم شرع في ثانٍ أن يصيبه مثل ما أصابه أولاً، ويتركه؛ ثم تمضي عليه حياته بلا فائدة؛ لكن إذا صبر مع كونه يعرف أنه ليس بينه وبين مراده إلا امتداد الأيام فقط، وليس هناك موجب لقطعه؛ فليصبر: لنفرض أن إنساناً من طلبة العلم همّ أن يحفظ: "بلوغ المرام"، وشرع فيه، واستمر حتى حفظ نصفه؛ لكن لحقه الملل، فعجز، وترك: فالمدة التي مضت خسارة عليه إلا ما يبقى في ذاكرته مما حفظ فقط؛ لكن لو استمر، وأكمل حصل المقصود؛ وعلى هذا فقس..
.5 ومن فوائد الآية: فضيلة الصلاة، حيث إنها مما يستعان بها على الأمور، وشؤون الحياة؛ لقوله تعالى: {والصلاة }؛ ونحن نعلم علم اليقين أن هذا خبر صدق لا مرية فيه؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حزبه أمر صلى(1) ؛ ويؤيد ذلك اشتغاله لله في العريش يوم بدر بالصلاة، ومناشدة ربه بالنصر(2).
فإن قال قائل: كيف تكون الصلاة عوناً للإنسان؟(1/140)
فالجواب: تكون عوناً إذا أتى بها على وجه كامل . وهي التي يكون فيها حضور القلب، والقيام بما يجب فيها أما صلاة غالب الناس اليوم فهي صلاة جوارح لا صلاة قلب؛ ولهذا تجد الإنسان من حين أن يكبِّر ينفتح عليه أبواب واسعة عظيمة من الهواجيس التي لا فائدة منها؛ ولذلك من حين أن يسلِّم تنجلي عنه، وتذهب؛ لكن الصلاة الحقيقية التي يشعر الإنسان فيها أنه قائم بين يدي الله، وأنها روضة فيها من كل ثمرات العبادة لا بد أن يَسلوَ بها عن كل همّ؛ لأنه اتصل بالله عزّ وجلّ الذي هو محبوبه، وأحب شيء إليه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "جعلت قرة عيني في الصلاة"(3) ؛ أما الإنسان الذي يصلي ليتسلى بها، لكن قلبه مشغول بغيرها فهذا لا تكون الصلاة عوناً له؛ لأنها صلاة ناقصة؛ فيفوت من آثارها بقدر ما نقص فيها، كما قال الله تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] ؛ وكثير من الناس يدخل في الصلاة، ويخرج منها لا يجد أن قلبه تغير من حيث الفحشاء والمنكر . هو على ما هو عليه .؛ لا لانَ قلبه لذكر، ولا تحول إلى محبة العبادة..
.6 ومن فوائد الآية: أنه إذا طالت أحزانك فعليك بالصبر، والصلاة..
.7 ومنها: أن الأعمال الصالحة شاقة على غير الخاشعين . ولا سيما الصلاة ...
.8 ومنها: أن تحقيق العبادة لله سبحانه وتعالى بالخشوع له مما يسهل العبادة على العبد؛ فكل من كان لله أخشع كان لله أطوع؛ لأن الخشوع خشوع القلب؛ والإخبات إلى الله تعالى، والإنابة إليه تدعو إلى طاعته.
--------------
و قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153)
يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيرا ; ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع ; والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات ; والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب , مجندة القوى , يقظة للمداخل والمخارج . .
ولا بد من الصبر في هذا كله . .
لا بد من الصبر على الطاعات , والصبر عن المعاصي , والصبر على جهاد المشاقين لله , والصبر على الكيد بشتى صنوفه , والصبر على بطء النصر , والصبر على بعد الشقة , والصبر على انتفاش الباطل , والصبر على قلة الناصر , والصبر على طول الطريق الشائك , والصبر على التواء النفوس , وضلال القلوب , وثقلة العناد , ومضاضة الإعراض . .
وحين يطول الأمد , ويشق الجهد , قد يضعف الصبر , أو ينفد , إذا لم يكن هناك زاد ومدد . ومن ثميقرن الصلاة إلى الصبر ; فهي المعين الذي لا ينضب , والزاد الذي لا ينفد . المعين الذي يجدد الطاقة , والزاد الذي يزود القلب ; فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع . ثم يضيف إلى الصبر , الرضى والبشاشة , والطمأنينة , والثقة , واليقين .
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى , يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة . حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة . حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع , وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة . حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود , ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئا وقد أوشك المغيب , ولم ينل شيئا وشمس العمر تميل للغروب . حينما يجد الشر نافشا والخير ضاويا , ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق . .
هنا تبدو قيمة الصلاة . .
إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية . إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض . إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض . إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير . إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة , إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود . .
ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال:" أرحنا بها يا بلال " . .
ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله .
إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة . والعبادة فيه ذات أسرار . ومن أسرارها أنها زاد الطريق . وأنها مدد الروح . وأنها جلاء القلب . وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر . . إن الله سبحانه حينما انتدب محمدا صلى الله عليه وسلم للدور الكبير الشاق الثقيل , قال له:
(يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) . .
فكان الإعداد للقول الثقيل , والتكليف الشاق , والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن . .
إنها العبادة التي تفتح القلب , وتوثق الصلة , وتيسر الأمر , وتشرق بالنور , وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان .(1/141)
ومن ثم يوجه الله المؤمنين هنا وهم على أبواب المشقات العظام . .
إلى الصبر وإلى الصلاة . .
ثم يجيء التعقيب بعد هذا التوجيه: (إن الله مع الصابرين) . .
معهم , يؤيدهم , ويثبتهم , ويقويهم , ويؤنسهم , ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم , ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة , وقوتهم الضعيفة , إنما يمدهم حين ينفد زادهم , ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق . .
وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب: يا أيها الذين آمنوا . .
ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب: (إن الله مع الصابرين) .
والأحاديث في الصبر كثيرة نذكر بعضها لمناسبته للسياق القرآني هنا في إعداد الجماعة المسلمة لحمل عبئها والقيام بدورها:
عن خباب بن الأرث - رضي الله عنه - قال:شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة . فقلنا:ألا تستنصر لنا ? ألا تدعو لنا ? فقال:" قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض , فيجعل فيها , ثم يؤتى بالمنشار , فيوضع على رأسه فيجعل نصفين , ويمشط بأمشاط الحديد :"ما دون لحمه وعظمه , ما يصده ذلك عن دينه . .
والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله , والذئب على غنمه , ولكنكم تستعجلون " . .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:" كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء عليهم السلام , ضربه قومه فأدموه , وهو يمسح الدم عن وجهه , وهو يقول:" اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " .
وعن يحيى بن وثاب , عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم " .(الظلال)
----------------
وفي تفسير السعدي - (ج 1 / ص 74)
{ 153 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } .
أمر الله تعالى المؤمنين، بالاستعانة على أمورهم الدينية والدنيوية { بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } فالصبر هو: حبس النفس وكفها عما تكره، فهو ثلاثة أقسام: صبرها على طاعة الله حتى تؤديها، وعن معصية الله حتى تتركها، وعلى أقدار الله المؤلمة فلا تتسخطها، فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر، فلا سبيل لغير الصابر، أن يدرك مطلوبه، خصوصا الطاعات الشاقة المستمرة، فإنها مفتقرة أشد الافتقار، إلى تحمل الصبر، وتجرع المرارة الشاقة، فإذا لازم صاحبها الصبر، فاز بالنجاح، وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها، لم يدرك شيئا، وحصل على الحرمان، وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محل قدرة العبد، فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم، وكف لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى، واستعانة بالله على العصمة منها، فإنها من الفتن الكبار. وكذلك البلاء الشاق، خصوصا إن استمر، فهذا تضعف معه القوى النفسانية والجسدية، ويوجد مقتضاها، وهو التسخط، إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله، والتوكل عليه، واللجأ إليه، والافتقار على الدوام.
فعلمت أن الصبر محتاج إليه العبد، بل مضطر إليه في كل حالة من أحواله، فلهذا أمر الله تعالى به، وأخبر أنه { مَعَ الصَّابِرِينَ } أي: مع من كان الصبر لهم خلقا، وصفة، وملكة بمعونته وتوفيقه، وتسديده، فهانت عليهم بذلك، المشاق والمكاره، وسهل عليهم كل عظيم، وزالت عنهم كل صعوبة، وهذه معية خاصة، تقتضي محبته ومعونته، ونصره وقربه، وهذه [منقبة عظيمة] للصابرين، فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعية من الله، لكفى بها فضلا وشرفا، وأما المعية العامة، فهي معية العلم والقدرة، كما في قوله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } وهذه عامة للخلق.
وأمر تعالى بالاستعانة بالصلاة لأن الصلاة هي عماد الدين، ونور المؤمنين، وهي الصلة بين العبد وبين ربه، فإذا كانت صلاة العبد صلاة كاملة، مجتمعا فيها ما يلزم فيها، وما يسن، وحصل فيها حضور القلب، الذي هو لبها فصار العبد إذا دخل فيها، استشعر دخوله على ربه، ووقوفه بين يديه، موقف العبد الخادم المتأدب، مستحضرا لكل ما يقوله وما يفعله، مستغرقا بمناجاة ربه ودعائه لا جرم أن هذه الصلاة، من أكبر المعونة على جميع الأمور فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولأن هذا الحضور الذي يكون في الصلاة، يوجب للعبد في قلبه، وصفا، وداعيا يدعوه إلى امتثال أوامر ربه، واجتناب نواهيه، هذه هي الصلاة التي أمر الله أن نستعين بها على كل شيء.
---------------
وفي تفسير القرآن للعثيمين - (ج 4 / ص 139)
{ 153 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }؛ سبق أن الكلام إذا صدَّر بالنداء فهو دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب التفات المخاطب إلى مناديه؛ وسبق بيان فوائد تصدير الخطاب بوصف الإيمان(3).(1/142)
قوله تعالى: { استعينوا بالصبر والصلاة } أي اجعلوا الصبر عوناً لكم؛ وكذلك استعينوا بالصلاة؛ وسبق الكلام على نظير هذه الجملة(4).
قوله تعالى: { إن الله مع الصابرين }: هذه بشرى عظيمة لمن صبر؛ وقال تعالى: { مع الصابرين } لوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن الصلاة من الصبر؛ لأنها صبر على طاعة الله.
الوجه الثاني: أن الاستعانة بالصبر أشق من الصلاة؛ لأن الصبر مُرّ:
الصبر مثل اسمه مُرٌّ مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل فهو مرٌّ يكابده الإنسان، ويعاني، ويصابر، ويتغير دمه حتى من يراه يقول: هذا مريض.
الوجه الثالث: أنه إذا كان مع الصابرين فهو مع المصلين من باب أولى بدليل أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان المصلي يناجي ربه، وأن الله قِبل وجهه(1) - وهو على عرشه سبحانه وتعالى.
الفوائد:
1ــــ من فوائد الآية: فضيلة الإيمان، وأنه من أشرف أوصاف الإنسان؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا... }.
2ــــ ومنها: الإرشاد إلى الاستعانة بالصلاة؛ لقوله تعالى: { استعينوا بالصبر والصلاة }.
3ــــ ومنها: بيان الآثار الحميدة للصلاة، وأن من آثارها الحميدة أنها تعين العبد في أموره.
4ــــ ومنها: جواز الاستعانة بغير الله فيما يمكن أن يعين فيه؛ لقوله تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلاة وجاء في الحديث: «وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة»(2).
5ــــ ومنها: أن الاستعانة بالصلاة من مقتضيات الإيمان؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استعينوا... } إلخ.
6ــــ ومنها: فضيلة الصبر؛ لأنه يعين على الأمور؛ والصبر ثقيل جداً على النفس؛ لأن الإنسان إذا أصابه ضيق، أو بلاء ثقل عليه تحمله، فاحتاج إلى الصبر؛ ولهذا قال الله تعالى للنبي (ص): { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين } [هود: 49] ؛ فقال تعالى: { فاصبر } إشارة إلى أن هذا الوحي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى صبر، وتحمل؛ لأنه سيجد من ينازع، ويضاد؛ ونظيره قوله تعالى: { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً * فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [الإنسان: 23، 24] ؛ إذاً الصبر شاق على النفوس؛ لكن يجب على الإنسان أن يصبر؛ ولهذا من لم يوفق للصبر فاته خير كثير؛ والذي يصبر أيضاً غالباً ينتظر الفرج لا سيما إذا صبر بإخلاص، وحسن نية؛ وانتظار الفرج عبادة، وباب للفرج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن النصر مع الصبر؛ وأن الفرج مع الكرب؛ وأن مع العسر يسراً»(3)؛ لأنه إذا كان منتظراً للفرج هان عليه الصبر؛ لأنه يؤمل أن الأمور ستزول، وأن دوام الحال من المحال؛ فإذا كان يؤمل الأجر في الآخرة، ويؤمل الفرج في الدنيا هان عليه الصبر كثيراً؛ وهذه لا شك من الخصال الحميدة التي جاء بها الإسلام، ودليل على أن الأمور تسهل بالصبر؛ مهما بلغتك الأمور اصبر، فتهون؛ ولهذا جعل الله الصبر عوناً.
7ــــ ومن فوائد الآية: أن في الصبر تنشيطاً على الأعمال، والثبات عليها؛ لقوله تعالى: { إن الله مع الصابرين }؛ فإذا آمن الإنسان بأن الله معه ازداد نشاطاً، وثباتاً؛ وكون الله سبحانه وتعالى مع الإنسان مسدداً له، ومؤيداً له، ومصبِّراً له، لا شك أن هذه درجة عالية كل يريدها؛ ولهذا لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يتناضلون قال: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً وأنا مع بني فلان؛ قال الآخرون: يا رسول الله، إذا كنت معهم فلا نناضل؛ فقال: ارموا وأنا معكم كلكم»(4).
8ــــ ومن فوائد الآية: إثبات معية الله سبحانه وتعالى؛ ومعيته تعالى نوعان:
النوع الأول: عامة لجميع الخلق، ومقتضاها الإحاطة بهم علماً، وقدرة، وسلطاناً، وسمعاً، وبصراً، وغير ذلك من معاني ربوبيته؛ لقوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} [المجادلة: 7] .
والنوع الثاني: خاصة؛ ومقتضاها مع الإحاطة: النصر، والتأييد؛ وهي نوعان: مقيدة بوصف ، كقوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] ؛ و مقيدة بشخص ، كقوله تعالى لموسى، وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] ، وقوله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] .
------------------
التوجه إلى الله تعالى بالصلاة، والتوجه إلى الناس بالدعوة إليه تعالى والصبر في سبيل الدعوة ومتاعبها:
أ- الأمر بإقامة الصلاة:
يقول لقمان لابنه كما ورد في قول الحق تبارك وتعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} (1) .(1/143)
فرض الله سبحانه وتعالى على عباده عبادات لها أثرها في تهذيب سلوك الإنسان، وإصلاح القلوب ومن هذه العبادات الصلاة، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام وعموده الذي لا يقوم إلا به فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله"الحديث .
والصلاة هي أول ما أوجبه الله تعالى على عباده من العبادات، وفد فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من مكة إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السماء، يقول أنس رضي الله عنه: "فرضت الصلاة على النبي ليلة أسرى به خمسين، ثم نقصت حتى جعلت خمساً ثم نودي يا محمد: إنه لا يبدل القول لدىّ، وإن لك بهذه الخمس خمسين" .
وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة وقد ثبت عن رسول الله عليه السلام أنه قال: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر... " الحديث .
وقد بلغ من عناية الإسلام بالصلاة أن أمر بالمحافظة عليها في الحضر والسفر، والأمن والخوف قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (1) .
إن المتمعن بالعبادات التي فرضها الله سبحانه وتعالى - على الناس - عموماً، والصلاة خصوصاً يدرك أثرها التربوي في إشراقة النفوس، وطمأنينة القلوب، وإصلاح الفرد والجماعة، ومن هذه الآثار التربوية ما يلي:
1- إقامة الصلاة دليل على صدق الإيمان، وعلى تقوى الله، وعلى ما يتمتع به صاحبها من بره بعهده وقيامه على الحق وإخلاصه لله، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) (3) .
2- الصلاة منهج متناسق لتربية الرفد والمجتمع يصل بهما إلى قمة السمو الأخلاقي، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ... } الآية (4) .
3- الصلاة تمد المؤمن بقوة روحية تعينه على مواجهة المشقات والمكاره في الحياة الدنيا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (5) .
4- الصلاة غذاء روحي للمؤمن يعينه على مقاومة الجزع والهلع عند مسه الضر، والمنع عند الخير والتغلب على جوانب الضعف الإنساني، قال تعالى: {إِنَّ الأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} (6) .
5- إن الصلاة سبب لمحو الخطايا وغفران الذنوب فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أرأيتم لو أن نهراً على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً ما تقول ذلك يبقى من دَرَنِه؟ قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيئاً، قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا" (1) 6- إن في الصلاة غذاء للروح لا يغني عنه علم ولا أدب فالصلوات الخمس هي وجبات الغذاء اليومي للروح كما أن للمعدة وجباتها اليومية يناجي المصلي فيها ربَّه فتكاد تشف روحه وتصفوا نفسه فتسمع كلام الله الذي يقود: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل: فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين. قال تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم. قال الله تعالى: أثنى علىّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين. قال: مجدني عبدي وقال مرة: فوض إليّ عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" (2) .
7- في الصلاة تدريب للمسلم على النظام وتعويد له على الطاعة ويظهر هذا واضحا في صلاة الجماعة إذ يقف المسلمون في صفوف مستقيمة متلاصقة فلا عوج ولا فرج، المنكب إلى المنكب، والقدم إلى القدم، فإذا كبّر الإمام كبّروا، وإذا قرأ أنصتوا، وإذا ركع اركعوا، وإذا سجد اسجدوا، وإذا سلم سلموا.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما ما يخشى أحدكم أو لا يخشى أحدكم إذا وقع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمارٍ" (3)
8- في صلاة الجماعة دعم لعاطفة الأخوة وتقوية لروابط المحبة وإظهار للقوة فبالاجتماع تذهب الضغائن وتزول الأحقاد و تتآلف القلوب وتتحد الكلمة، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } الآية .(مجلة الجامعة الإسلامية)
----------
تحمل الأذى الشديد في سبيل الله تعالى وعدم الوهن في طلب الكفار(1/144)
قال تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104)
وبهذا التصوير يفترق طريقان ; ويبرز منهجان ; ويصغر كل ألم , وتهون كل مشقة . ولا يبقى مجال للشعور بالضنى وبالكلال . . فالآخرون كذلك يألمون . ولكنهم يرجون من الله ما لا يرجون !
ويرسم هذا الدرس - بجملة الموضوعات التي يعالجها , وبطرائق العلاج التي يسلكها - ما كان يعتمل في جسم الجماعة المسلمة , وهي تواجه مشاق التكوين الواقعية ; ومشكلات التكوين العملية . وما كان يشتجر في النفوس من عوامل الضعف البشري ; ومن رواسب الماضي الجاهلي , ومن طبيعة الفطرة البشرية وهي تواجه التكاليف بمشاقها وآلامها ; مع ما يصاحب هذه المشاق والآلام من أشواق ومن تطلع إلى الوفاء كذلك ; يستثيرها المنهج الحكيم , ويستجيشها في الفطرة لتنهض بهذا الأمر العظيم
ونرى ذلك كله مرتسما من خلال الوصف للواقع ; ومن خلال التشجيع والاستجاشة ; ومن خلال المعالجة للمخاوف الفطرية والآلام الواقعية ; ومن خلال التسليح في المعركة بالصلاة !
وبالصلاة خاصة - إلى جانب التسلح بالعدة واليقظة - وبالثقة في ضمانة الله للمهاجرين , وثوابه للمجاهدين , وعونه للخارجين في سبيله , وما أعده للكافرين من عذاب مهين .
ونرى طريقة المنهج القرآني الرباني في التعامل مع النفس البشرية في قوتها وضعفها ; وفي التعامل مع الجماعة الإنسانية في أثناء تكوينها وإنضاجها . ونرى شتى الخيوط التي يشدها منها في الوقت الواحد وفي الآية الواحدة .
ونرى - على الأخص - كيف يملأ مشاعر الجماعة المسلمة بالتفوق على عدوها , في الوقت الذي يملأ نفوسها بالحذر واليقظة والتهيؤ الدائم للخطر , وفي الوقت الذي يدلها كذلك على مواطن الضعف فيها , ومواضع التقصير , ويحذرها إياها أشد التحذير .
إنه منهج عجيب في تكامله وفي تقابله مع النفس البشرية ; وفي عدد الأوتار التي يلمسها في اللمسة الواحدة ,وعدد الخيوط التي يشدها في هذه النفس , فتصوت كلها وتستجيب !
لقد كان التفوق في منهج التربية , والتفوق في التنظيم الاجتماعي الذي قام عليه ; هو الأمر البارز الظاهر فيما بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله من فروق . .
ولقد كان هذا التفوق البارز هو كذلك أوضح الأسباب - التي يراها البشر - لتمكن هذا المجتمع الناشئ الشاب - بكل ما كان في حياته من ملابسات ومن ضعف أحيانا وتقصير - من طي تلك المجتمعات الأخرى , والغلبة عليها . لا غلبة معركة بالسلاح فحسب ; ولكن غلبة حضارة فتية على حضارات شاخت . غلبة منهج على مناهج , ونموذج من الحياة على نماذج ; ومولد عصر جديد على مولد إنسان جديد . .
ونكتفي بهذا القدر حتى نواجه النصوص بالتفصيل:
لا يستوي القاعدون من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم . فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة , وكلا وعد الله الحسنى . وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما . درجات منه ومغفرة ورحمة . وكان الله غفورا رحيمًا . .
إن هذا النص القرآني كان يواجه حالة خاصة في المجتمع المسلم وما حوله ; وكان يعالج حالة خاصة في هذا المجتمع من التراخي - من بعض عناصره - في النهوض بتكاليف الجهاد بالأموال والأنفس . سواء كان المقصود أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة احتفاظا بأموالهم , إذ لم يكن المشركون يسمحون لمهاجر أن يحمل معه شيئا من ماله ; أو توفيرا لعناء الهجرة وما فيها من مخاطر , إذ لم يكن المشركون يتركون المسلمين يهاجرون , وكثيرا ما كانوا يحبسونهم ويؤذونهم - أو يزيدون في إيذائهم بتعبير أدق - إذا عرفوا منهم نية الهجرة . .
سواء كان المقصود هم أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة - وهو ما نرجحه - أو كان المقصود بعض المسلمين في دار الإسلام , الذين لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس - من غير المنافقين المبطئين الذين ورد ذكرهم في درس سابق - أو كان المقصود هؤلاء وهؤلاء ممن لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس في دار الحرب ودار الإسلام سواء .(1/145)
إن هذا النص كان يواجه هذه الحالة الخاصة ; ولكن التعبير القرآني يقرر قاعدة عامة ; يطلقها من قيود الزمان , وملابسات البيئة ; ويجعلها هي القاعدة التي ينظر الله بها إلى المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان - قاعدة عدم الاستواء بين القاعدين من المؤمنين عن الجهاد بالأموال والأنفس - غير أولي الضرر الذين يقعدهم العجز عن الجهاد بالنفس , او يقعدهم الفقر والعجز عن الجهاد بالنفس والمال - عدم الاستواء بين هؤلاء القاعدين والآخرين الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم . .
قاعدة عامة على الإطلاق: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم . إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون . وترجون من الله ما لا يرجون . وكان الله عليما حكيمًا . . إنهن كلمات معدودات . يضعن الخطوط الحاسمة , ويكشفن عن الشقة البعيدة , بين جبهتي الصراع . .
إن المؤمنين يحتملون الألم والقرح في المعركة . ولكنهم ليسوا وحدهم الذين يحتملونه . .
إن أعداءهم كذلك يتألمون وينالهم القرح واللأواء . .
ولكن شتان بين هؤلاء وهؤلاء . .
إن المؤمنين يتوجهون إلى الله بجهادهم , ويرتقبون عنده جزاءهم . . فأما الكفار فهم ضائعون مضيعون , لا يتجهون لله , ولا يرتقبون عنده شيئا في الحياة ولا بعد الحياة . .
فإذا أصر الكفار على المعركة , فما أجدر المؤمنين أن يكونوا هم أشد إصرارا , وإذا احتمل الكفار آلامها , فما أجدر المؤمنين بالصبر على ما ينالهم من آلام . وما أجدرهم كذلك أن لا يكفوا عن ابتغاء القوم ومتابعتهم بالقتال , وتعقب آثارهم , حتى لا تبقى لهم قوة , وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله .
وإن هذا لهو فضل العقيدة في الله في كل كفاح . فهناك اللحظات التي تعلو فيها المشقة على الطاقة , ويربو الألم على الاحتمال . ويحتاج القلب البشري إلى مدد فائض وإلى زاد . هنالك يأتى المدد من هذا المعين , ويأتي الزاد من ذلك الكنف الرحيم .
ولقد كان هذا التوجيه في معركة مكشوفة متكافئة . معركة يألم فيها المتقاتلون من الفريقين . لأن كلا الفريقين يحمل سلاحه ويقاتل .
ولربما أتت على العصبة المؤمنة فترة لا تكون فيها في معركة مكشوفة متكافئة . . ولكن القاعدة لا تتغير . فالباطل لا يكون بعافية أبدا , حتى ولو كان غالبا ! إنه يلاقي الآلام من داخله . من تناقضه الداخلي ; ومن صراع بعضه مع بعض . ومن صراعه هو مع فطرة الأشياء وطبائع الأشياء .
وسبيل العصبة المؤمنة حينئذ أن تحتمل ولا تنهار . وأن تعلم أنها إن كانت تألم , فإن عدوها كذلك يألم . والألم أنواع . والقرح ألوان . .
(وترجون من الله ما لا يرجون) . . وهذا هو العزاء العميق . وهذا هو مفرق الطريق . .
وكان الله عليما حكيمًا . .
يعلم كيف تعتلج المشاعر في القلوب . ويصف للنفس ما يطب لها من الألم والقرح . .(الظلال)
000000000000000
فإنهم يألمون كما تألمون
كتبه : الشيخ محمد الدويش
المحتويات
مقدمة
أولا : نماذج في السفر والجهد
1. عبدالله بن سبأ
2. دعاة الباطنية
3. اليهود ودولة إسرائيل
4. المنصرون
5. طلاب الدنيا
6. المغتربون
ثانياً : التضحية بالوقت
ثالثاً: الإنفاق وبذل الأموال
رابعاً: الأذى والمخاطر
خامساً: تحمل الفشل والإحباط
• ومن الشباب من يألمون
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد:
فلا شك أيها الأخوة أنكم تدركون أن هذا العنوان جزء من آية كريمة يقول فيها تبارك وتعالى: [ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون].
إن حمل هذا الدين والقيام بأمانة تبليغه للبشرية أجمع، لأولئك الذين تسمّوا به وقصروا في الالتزام به والوفاء بحقه، أو أولئك الذين لمّا يدخلوا في هذا الدين بعد، إن حمل هذا الدين والقيام بأعبائه أمر صعب شاق على النفوس، وإن القيام بهذا الجهد لا يمكن أبداً أن يكافئه أي جهد في دنيا الناس.(1/146)
ومن هنا كان هذا الدين يحتاج في حمله إلى نفوس أبيّة، إلى نفوس جادة، يحتاج الحاملون لهذا الدين والقائمون به إلى مزيد من رفع الهمة ، وإلى مزيد من الجدية حتى يكونوا مؤهلين للقيام بهذا الدين ولتحمّل أعباء نشره ومواجهة ما يواجههم في هذا الطريق، ولا شك أن هذا القرآن وهو يربي هذه الأمة ، يربيها على تقوى الله عز وجل وتوحيده وعبادته، ويربيها على الخلق والسلوك ، ويربيها على حمل أعباء هذا الدين والقيام بهذه الأمانة التي ائتمن الله عز وجل هذه الأمة عليها، لا شك أن هذا القرآن يخاطب القلوب البشرية ويخاطب الناس بكافة وسائل الخطاب وأساليبه، وليس أعظم أثراً لدى الناس من النماذج الحية التي تُعرض أمامهم؛ فالحديث النظري يحفز الكثير من الناس، لكن الصورة الحية التي يرونها بأعينهم ، أو يقرؤون عنها فتتخيلها أذهانهم وكأنهم يرونها رأي العين ، لاشك أن هذه الصورة تترك أعظم الأثر لدى الناس، إنك حين تسمع حديثاً عن رجل أصيب بحادث هشم عظامه، وأصاب جسمه بآلام مبرّحة، يترك ذلك أثراً عظيماً في نفسك ، لكنه لا يصل إلى درجة رؤيتك هذا الرجل أمامك وهو يتشحّط بدمائه ، وربما استطاع كاتب مبدع مُجيد أن يصور لك هذا المشهد وكأنك تراه بأم عينيك، فيترك أمام ناظريك صورة ربما لا تبتعد عن تلك الصورة التي رايتها شاخصة ببصرك، ولهذا يؤكد القرآن على هذه القضية فيعرض القدوات والنماذج الحية أمام هذه الأمة.
يخبر الله تبارك وتعالى أن الابتلاء سنة لمن دخل في طريق الإيمان :[أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون]، ثم يعرض القرآن أمام هؤلاء نموذجاً حيًّا من حياة السابقين الماضين، ليجعل هذه القضية شاخصة أمام أعينهم، وأن الابتلاء ليس أمراً خاصًّا بهم، قال تبارك وتعالى: [ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين] ، إذاً فالفتنة على طريق الإيمان ليست قضية خاصة بهؤلاء المخاطبين بهذا القرآن ، وليست قضية خاصة بهذه الأمة، إنما هي سنة ماضية.
وفي القرآن الكريم حديث عن سنة لا تتخلف في قيام هذه الدعوات وانتصارها ، يقول تبارك وتعالى : [أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب]، أتظنون أنكم تدخلون الجنة؟ أتظنون أن دعواكم تصدق بالإيمان والقيام بهذا الدين ولمّا يصيبكم ما أصاب من كان قبلكم ؟ لقد مستهم البأساء والضراء حتى يتساءل الرسول وهو أعلم الناس بوعد الله ، وحتى يتساءل المؤمنون معه [متى نصر الله]؟ وهو سؤال يحمل في طياته عظم ما كان يعانيه هؤلاء من البلاء والمضايقة.
وفي آية أخرى يبين الله عز وجل طبيعة هذا الدين، وطبيعة هذا النصر والتمكين لهذه الأمة [حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين] ، إذاً فالنصر والتمكين للدين إنما يأتي حين يستيئس الرسل، وحين يظن أقوامهم المكذبون أن هؤلاء الرسل قد كُذبوا ما وُعدوا.
وفي غزوة أحد حين أصاب المؤمنين ما أصابهم، فعادوا من تلك الغزوة وما من بيت إلا وفيه قتيل أوجريح، وقد افتقدوا سبعين من خيارهم ومن صلحائهم وكانوا يظنون أنها ساعة وتأتي الدولة لهم.. يقول تبارك وتعالى مخبراً لهم أن هذه السنة سنة الماضين من قبل [وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين] .
فسنة هذه الأمة هي سنة الأولين السابقين سيصيبهم ما أصابهم، وما تلبث هذه النماذج حيث تعرض على المؤمنين الصادقين الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته ويتدبرون معانيه، ما تلبث هذه النماذج أن تعيد الأمل في تلك النفوس التي ربما أصابها ما أصابها من اليأس والقنوط ، ما تلبث هذه النماذج أن تعيد الحماس وأن ترفع الهمة لتلك النفوس التي ربما أصابها الضعف والفتور والقنوط.(1/147)
وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم نرى نماذج من ذلك ، جاء إليه أحد أصحابه وهو خباب - رضي الله عنه - يشتكي إليه ما أصابه من المشركين وقال له: ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فغضب صلى الله عليه وسلم لأنه قرأ في حديث خباب الاستعجال واستبطاء وعد الله عز وجل؛ فقعد صلى الله عليه وسلم وقال:"لقد كان من كان قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيُشق باثنين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون". إنها سنة الماضين من قبلكم، ويمضى خباب - رضي الله عنه - وقد سمع هذا التثبيت والتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم ، يمضي بنفس صادقة جادة وعزيمة أبيّة يستمد من هذه النماذج التي عرضها له صلى الله عليه وسلم روحاً تدفعه إلى مزيد من الصبر على الابتلاء والصبر على الأذى والمضايقة، وتدفعه إلى الشعور بالأمل والاستبشار وإلى أن يطرح اليأس عنه جانباً، وأن يعلم أنه إن يصيبه ما أصابه فقد أصاب السابقين قبله ما هو فوق ذلك بكثير.
ويحكي صلى الله عليه وسلم أيضاً نموذجاً آخر فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: كأني انظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء آذاه قومه وهو يقول:"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
إن المبادئ ليست رخيصة، وإن إصلاح المجتمعات لا يمكن أن يتم بجهود مبعثرة ونفوس هينة كسولة، إنه يحتاج إلى أن يُدفع لذلك ثمن باهظ، يحتاج إلى أن يكون أشرفُ خلق الله عز وجل يتعرضون لمثل هذا الأمر حتى يمسح أحدهم الدم عن وجهه وهو يقول : "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
بل أخبر الله عز وجل عن بعض أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أنهم كانوا يُقتلون بغير حق؛ فحكى القرآن كثيراً عن بني إسرائيل أنهم يقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس.
إن عرض هذه النماذج الحية لها أثر عظيم في نفوس المؤمنين الصادقين الجادين، والذين يرون أن هذه قدوات أمامهم، ولهذا قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم-وقد حكى سير طائفة من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم-: [أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين]، وهي ليست دعوة خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم ، بل هو خطاب له ولأصحابه وللأمة أجمع أن يقتدوا بهدي أولئك الأنبياء.
وفي القرآن نماذج من أخبار أتباع الأنبياء الذين ساروا على طريقهم، واحتملوا في سبيل هذا الدين المشاق والمكاره، كقصة أهل الكهف الذين اختاروا أن يعيشوا في كهف خشن بعيد عن الناس، وأصحاب الأخدود الذين اختاروا أن يقذفوا في نار الدنيا، وكان هذا أحب إليهم من أن يعودوا إلى الكفر بعد أن أنقذهم الله منه؛ فكانوا أهلاً لأن يذوقوا حلاوة الإيمان ولذة الإيمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يُكره أن يقذف في النار".
إن هذه النماذج وحدها كافية في دفع أصحاب الهمم الضعيفة وفي دفع الكسالى إلى أن يدفعوا عنهم الكسل والخمول، وأن يأخذوا بالجد والعزيمة في الدعوة لدين الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر الخير في دنيا الناس ، لكن القرآن يعرض أمام المسلمين نموذجاً آخر: ذلكم هو النموذج المنحرف، النموذج الضال، لقد كان المسلمون ربما يشعرون بنوع من اليأس والألم ويصيبهم الإحباط وهم يواجهون أعداء الله عز وجل، فيثير فيهم القرآن الكريم النظر إلى جانب آخر ربما كان له دور عظيم في إحياء نفوسهم، يقول تبارك وتعالى : [ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون] لا يصيبكم الوهن ولا الضعف وأنتم تبتغون القوم في الجهاد والدعوة ، وأن تبذلوا ما تبذلون، فإن كنتم تألمون وتدفعون الثمن فأولئك يألمون كما تألمون، إن كان يسقط منكم شهداء فأولئك يسقط منهم قتلى، إن كنتم تبذلون الوقت والجهد فأولئك يبذلون كما تبذلون.
ويقول تبارك وتعالى في آية أخرى : [إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء] .(1/148)
إذن فالقضية ليست حكراً على المؤمنين، ولا على الذين يحملون الدعوة الصادقة، إنما هي سنة الله عز وجل في كل من يريد أن يحمل مبدأ يدافع عنه ويضحي في سبيله ، فهو ثمن لابد أن يدفعه كل من يريد أن ينشر مبدأً سواءً أكان حقّاً أم باطلاً، هو ثمن لابد أن يدفعه كل من يريد أن يدعو إلى عقيدة سواءً أكانت عقيدة صحيحة أم كانت عقيدة ضالة ، لاشك أن الذي يريد هذا المطلب النفيس الغالي لابد أن يدفع الثمن، ومن ثَمّ كان المؤمنون الصادقون الداعون إلى الله عز وجل وهم ينشرون دعوة الحق والتي لا حَقّ سواها، وهم ينشرون هذا المبدأ الصادق والذي تهون دونه سائر المبادئ كان هؤلاء بحاجة إلى عرض هذا النموذج، فلئن كان طريقكم شاقاً فطريق الآخرين كذلك، وأنتم تزيدون عليهم أنكم أصحاب هدف سام ونية صادقة [وترجون من الله مالايرجون] أنتم تشعرون أن كل ما تبذلونه ستلقون جزاءه عند الله عز وجل في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، أما هؤلاء فهم حطب جهنم.
فإلى نماذج مما يبذله أهل الدنيا سواءً أكانوا من حطب جهنم: أهل المذاهب الضالة الذين يدعون إلى سبيل الشيطان، أو من أولئك الذين يريدون تحصيل شهوات الدنيا وحطامها وثمنها العاجل، إنها نماذج من الذين يكدحون ويعملون في هذه الدنيا وهم لا يعملون لدين الله عز وجل، وإن اختلفت نواياهم وتباينت مواقفهم، ما بين داعٍ إلى سبيل الشيطان، وما بين رجل يبتغي الدنيا ويبتغي الشهوات.
إننا نسمع الكثير عن بذل المشقة والسفر وسائر ألوان المشاق في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، وربما تهتز نفوسنا شوقاً إلى مثل هذه الأعمال والجهود، ويتمنى كل واحد منا أن يبذل جهداً في الدعوة إلى دين الله عز وجل، ولو دعاه ذلك إلى تحمل المشقة وتحمل الصعاب وتحمل السفر، لكن حين تريد ذلك فلا تظن أنك وحدك تفعل ذلك، بل هاهم طلاب الدنيا وأرباب الدنيا يدفعون الثمن الباهظ لذلك ومن هذه النماذج:
أولا : نماذج في السفر والجهد 1. عبدالله بن سبأ
لاشك أنكم تعلمون سيرته، وأنه رجل يهودي تظاهر بالدخول في دين الإسلام حتى يهدم فيه من الداخل، لقد سافر هذا الرجل وتردد بين الأمصار، من مصر إلى الكوفة إلى اليمن إلى هنا وهناك، كل هذا الأمر لأجل أن يجمع الأحزاب ويؤلبهم على هدم دولة الإسلام وعلى إثارة الفتن والقلاقل على خليفة المسلمين عثمان - رضي الله عنه -، وبذل في ذلك ما بذل من الجهد والسفر وبذل الأموال الطائلة حتى يدعو إلى هذا المذهب الضال ، وحتى يحقق ما يريد، واستجاب له طائفة من الرعاع، وبذلوا نفوسهم في معارك أثاروها، وما موقعة الجمل وموقعة صفّين ومقتل عمر - رضي الله عنه - ومقتل عثمان ومقتل علي - رضي الله عنهم - أجمعين وتلك الفتن التي ذهب ضحيتها خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم… ما تلك الفتن أجمع إلا حصاد جهد بذله أولئك من السهر والسفر والمشقة.
2. دعاة الباطنية
حين نشأ هؤلاء الدعاة وأول ما بدأ أمرهم أرسلوا رسلهم ودعاتهم وممن تحمل مشقة السفر والغربة في ذلك داعيتان من دعاة الباطنية وهما: علي بن الفضل والمنصور بن حسن بن زادان… واللذان ذهبا إلى بلاد اليمن وتظاهرا بالصلاح والنسك والعبادة حتى صدقهم الناس واتبعوهم ثم أعلنوا دعوتهم الباطلة الضالة وقام داعيتهم على المنبر في اليمن هناك قائلاً :
خذ السيف يا هذه واضرب *** وغني حنانيك لي واطربي
تولى نبي بني هاشمٍ *** وجاء نبي بني عربِ
وذكر قصيدته التي هي مليئة بالكفر والضلال والدعوة لهؤلاء الباطنيين ونحلتهم، وذكر فيها إباحة الخمر والنساء :
وما الخمر إلا كماء السماء *** حلال فقد سن من مذهبِ
ولقد بذل أولئك مشقة السفر والغربة والتنكّب، وجمعوا الأموال في سبيل الدعوة إلى تلك النِحلة الضالة الباطلة ، ثم انتقلت دعوتهم بعد ذلك إلى بلاد المغرب وبذلوا فيها ما بذلوا ، وكانوا يتخفون ويصيبهم ما أصابهم حتى استطاعوا أن يقيموا دولتهم المشهورة بدولة العبيديين، وذهبوا بعد ذلك إلى قلعة آلموت والذي كان زعيمهم في ذلك الحسن بن الصبّاح والذي أنشأ فرقة الحشاشين.
أتظنون أن أولئك الضالين استطاعوا أن يدعوا بدعوتهم تلك ويقيموا دولتهم وهم قاعدون كسالى؟ أم أنهم تحملوا الغربة والمشقة والسفر وواجهوا ما واجهوا في سبيل الشيطان؟
3. اليهود ودولة إسرائيل(1/149)
وها هم اليهود وقد أقاموا دولتهم، من أين أتى هؤلاء اليهود؟ إنهم شُذَّاذ الآفاق، لقد جاءوا من دول عدة ، لا تجمعهم لغة، ولا قومية، ولا تركيبة اجتماعية، لا يجمعهم إلا شيء واحد، هو أنهم يدينون باليهودية فبذلوا الجهد في تجميع شتاتهم ولَمِّ شملهم، وبذلوا الأموال حتى جاؤوا إلى تلك الأرض المقدسة وبقوا فيها، وتحملوا في سبيل ذلك ما تحملوا، حتى استطاعوا أن يحققوا أهدافهم، وهاهو أحد طغاتهم الراحلين وهو موشيه دَيّان الذي كان وزيراً في الدولة الإسرائيلية، وكان رجلها الأول في وقت من الأوقات يحكي في مذكراته كيف أنه كان يصرف الأوقات الطويلة حتى يستطيع أن يقابل أحد الزعماء في لقاء غير معلن، فيغير وجهه بالمساحيق ويزيل تلك اللفافة التي كانت على عينه، ثم يسير في رحلة طويلة إلى دولة أوروبية ثم يسير بعد ذلك في طائرة أخرى وقد أخذه الإعياء وقد سهر لمدة يومين، فيستلقي في الطائرة ويلتحف بلحاف كان معه، ثم يذهب بعد ذلك ويبقى لمدة يومين وينهي مهمته ويعود إلى منزله، ولا يجد وقتاً ليتناول الطعام فيصلح طعاماً عاجلاً بنفسه، وهي مواقف سطرها في مذكراته والوقت يقصر ويضيق عن ذكر نماذج مما يبذله هذا الرجل.
إنه يعلم ضلال مذهبه، وأنه من حطب جهنم، ومع ذلك يبذل كل ما يبذل فيتحمل السفر والمشاق والمخاطر والسهر وشظف العيش مع أنه من أعظم المسؤولين في تلك الدولة، يعيش عيشة الوزراء والعظماء.
أيكون مبدؤه أغلى من مبادئ المؤمنين الصادقين الدعاة إلى توحيد الله تبارك وتعالى؟
4. المنصرون
يحكي أحد دعاة الإسلام أنه رأى منصرة نصرانية عاشت في قرية نائية في النيجر مدة خمس وعشرين سنة ، لقد اعتادت هذه المرأة أن تعيش حياة الترف والرفاهية فهي امرأة أوروبية، ومع ذلك اختارت أن تعيش في بلاد المرض والجهل والتخلف سنوات طويلة لتدعو إلى مبدئها الضال، ومع ذلك فهي تعاني ما تعاني من قلة إقبال الناس على الاستماع لخرافاتها وخزعبلاتها كما سيأتي.
5. طلاب الدنيا
حين نترك هؤلاء الدعاة إلى سبيل الشيطان لنأخذ نموذجاً آخر -ربما كانوا من المسلمين - لكنهم ممن كانوا يجتهدون في سبيل تحصيل الدنيا -وما نحكيه ليس بالضرورة ذماً لهم ولا عيباً لهم- إنهم يبذلون جهداً مضنياً في سبيل تحصيل متاع الدنيا الزائل.
ومن هؤلاء على سبيل المثال: سائقو الشاحنات، يسير أحدهم مدة أسبوع في الطريق وهو يقود شاحنته التي تسير ببطء كما تشاهدون ذلك على الطرق، وحين يشتد به الحر يوقف شاحنته ويضطجع تحتها والرياح تهيل عليه التراب والغبار ، يبذل المشقة والجهد ويأكل طعام المسافر ويتناول شراب المسافر، ويغيب عن أهله وعن أولاده أسابيع طويلة، ويتحمل مشقة السفر ، كل ذلك من أجل أن يحصل على قوت يومه وليلته، ومثل هؤلاء أصحاب سيارات الأجرة.
أتكون الدنيا عند هؤلاء أغلى من العقيدة ومن الدين؟ فإذا كان هؤلاء يتحملون السفر والسهر والمشقة ويصبر أحدهم عن لذائذ الطعام التي اعتاد أن يأكلها كل يوم، ويفارق أحدهم أهله وزوجته وأولاده أسابيع وربما أشهر، إذا كان هؤلاء يفعلون ما يفعلون في سبيل تحصيل متاع الدنيا فما بالنا نحن؟
6. المغتربون
المغتربون الذين نراهم الآن في بلادنا، يسافر أحدهم إلى بلد لغتها غير لغته التي يعرف، وطبائع أهلها غير تلك الطباع التي يألفها هناك، ويتحمل من إيذاء الناس -وإيذاء المسلمين للأسف- وإهانتهم وازدرائهم، ويعمل الأوقات الطويلة ويبذل الجهد في سبيل تحصيل مبالغ يسيرة؛ هذه المبالغ يقترّ على نفسه فيها، ويأكل فيها الطعام الزهيد والطعام الرخيص ليوفر شيئاً من المال ليرسله إلى أهله وزوجته وأولاده، أو يوفر شيئاً من المال لأجل أن يحصل في ذلك الزواج ، أو أن يتيسر له أن يؤدي فريضة الحج، إن هذا الثمن الباهظ الذي يدفعه الرجل المغترب إنما هو لأجل تحصيل الدنيا وقوت يومه، وليس معيباً في ذلك؛ فالمرء حين يحصل الرزق الذي يعفه عن الحرام ويعفه عن مسألة الناس هو في طاعة وعبادة.
إن الدعوة لدين الله عز وجل أغلى واللهِ عند أصحابها من هذا الحطام الفاني عند أمثال هؤلاء الذين يبذلون فيه ما يبذلون، فإن كانوا يألمون فنحن أولى أن نألم، وإن كان يمسهم القرح فنحن أولى أن يمسنا القرح، ونحن نعلم أن ساعة سهر نقضيها في سبيل الله مدخرة لنا عند الله عز وجل، ونحن نعلم أن تعباً ونصباً نبذله في سبيل الله عز وجل لن يضيع وسوف نلقاه عند الله تبارك وتعالى .
ثانياً : التضحية بالوقت
وكما أن هؤلاء يتعبون ويسافرون، فهم يضحون بأوقاتهم، ويبذلونها في سبيل تحقيق مقاصدهم.
ولنأخذ على ذلك مثالاً واحداً من طلاب الدنيا:(1/150)
صاحب الوظيفتين -كما يقال - يعمل في الصباح من الساعة الثامنة إلى الساعة الثانية والنصف ، فيعود إلى بيته مجهداً متعباً يتبقى له دقائق يتناول فيها الطعام والراحة، ثم ينصرف بعد صلاة العصر مباشرة إلى وظيفة أخرى أياً كانت هذه الوظيفة، ويعود بعد ذلك بعد أن مضت ساعات طويلة من العِشاء، ولا يدري ما يتبقى له من الوقت أيصرفه في الراحة؟ أم يصرفه في قضاء حاجات أهله وأولاده؟
ومن هؤلاء: العاملون في المحلات التجارية، فأحدهم في متجره بعد صلاة العصر وبعد صلاة المغرب وبعد صلاة العشاء ثم يعود بعد ذلك، وما أن يعلو النهار حتى يذهب إلى محله، وهكذا حاله وشأنه وديدنه.
ولو قُدّر لك أن تذهب بعد صلاة الفجر إلى سوق الماشية أو إلى سوق الخضار لرأيت أولئك الذين قد سبقوك، وربما جاء أحدهم من مسافة بعيدة وافترش الرصيف هناك، ونام ينتظر أن يدرك البكور ويدرك السوق في أوله، وأنت حيث يطلب منك التبكير إلى مجلس علم أو التبكير إلى بذل جهد وعمل تحتسبه عند الله عز وجل ، ربما استكثرت ذلك وظننت أن ذلك الجهد الذي تبذله جهد كثير مضنٍ ، فلو رأيت ما يبذله هؤلاء علمت أنهم يألمون أشد مما تألم ويصيبهم القرح أشد مما يصيبك وأنت ترجو من الله عز وجل أكثر مما يرجو هؤلاء، فأنت أولى بالبذل والتضحية.
ثالثاً: الإنفاق وبذل الأموال
في تقرير نشر عام 1980م (أي قبل خمس عشرة سنة، وقد تضاعفت الأرقام الآن): يقول إن عدد المنصرين يبلغ: 220 ألفاً، وفي إفريقيا وحدها 119 ألف منصِّر ومنصرة ينفقون بليوني دولار في السنة، وفي إندونيسيا ما لا يقل عن 40 ألف منصِّر كاثوليكي وبروتستانتي، وفي جزيرة بورنو وهي جزيرة إسلامية داخل إندونيسيا أكثر 1000 منصِّر ، وفي عام ثلاثة عشر وأربعمائة وألف للهجرة بلغت ميزانية التنصير 181 مليار دولار، أي ما يعادل 680 مليار ريال سعودي ، وهذا الرقم يوازي ميزانية خمس دول نفطية، هذه المبالغ كلها تصرف في سبيل التنصير، وقد نشرت الندوة العالمية للشباب الإسلامي نشرة عن جهود المنصرين جاء فيها: أن عدد المنظمات التنصيرية في العالم 42580 منظمة، وعدد المعاهد التنصيرية يزيد على 98720 معهد، وعدد المنصرين المتطوعين للعمل خارج إطار المجتمع النصراني أكثر من 273770 منصر أي ربع مليون منصر، هؤلاء هم المنصرون المتفرغون الذين يعملون خارج إطار المجتمع النصراني ، أضف إلى ذلك الذين يعملون في مجتمعات النصرانية، أضف إلى ذلك العديد من المنصرين غير المتفرغين، وعدد الكتب المؤلفة لأغراض التنصير 22100 كتاب، وعدد النشرات والمجلات الدورية المنتظمة 2270 نشرة ومجلة تُطبع منها ملايين النسخ، وعدد المحطات التنصيرية يزيد على 1900 محطة، وذكرت النشرة أن مجموع التبرعات التي حصل عليها المنصرون لعام واحد بلغ 151 مليار دولار.
إنها جهود هائلة من الطاقات البشرية والطاقات المادية، والتي تنفق في سبيل التنصير، أبعد ذلك كله يسترخص المسلمون ما يبذلونه في سبيل نصرة مبادئهم ودينهم؟
رابعاً: الأذى والمخاطر
ربما يشعر الذين يقومون بالدعوة لهذا الدين أنهم يتحملون الأذى والمخاطر، وهو شأن ليس خاصاً بالدعاة إلى دين الله عز وجل وحده، بل هو شأن السابقين كلهم كما قال تبارك وتعالى : [إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله] ، ها هو عبدالله بن سبأ وأصحابه تعرضوا لما تعرضوا له، فمنهم من قتل، وطوائف منهم حرّقهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما غلو فيه ووافقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلهم لكنهم خالفوه في طريقة قتلهم، هاهم أولئك بذلوا نفوسهم، وتحملوا التحريق والأذى في سبيل دعوتهم.
ولو قدر لك أن تقرأ عن سيرة بعض الطوائف الضالة ومنها على سبيل المثال طائفة نشأت قريباً وهي البابية ونشأت عنها البهائية، لو قدر لك أن تقرأ تلك المخاطر والأذى الذي تحمله زعيمهم الباب حتى سجن مرات عدة، وحتى أعدم هناك في إيران وما بذلته داعيتهم الكبيرة المسماة بقرة العين والتي يلقبونها بالطاهرة حيث سافرت من إيران، وسافرت إلى العتبات المقدسة كما يسمونها، وبذلت ما بذلت وتحملت المضايقة والأذى والمطاردة من أهلها ، وما بذله خلف الباب البهاء وصاحبه حتى أوذوا وسُجنوا وطردوا من إيران، ثم ذهبوا إلى العراق وطردوا من هناك حتى ذهب أحدهم إلى قبرص والآخر إلى عكا، لقد دفعوا ثمناً باهظاً وتحملوا أذى ومخاطر في سبيل نشر مبدئهم الضال.(1/151)
وما يتحمله تجار المخدرات ومروجوها، إن كل هؤلاء يعلم الواحد منهم وهو يدخل هذا الطريق أنه يعرض حياته للخطر، ويعيش حياته كلها وقد سيطر عليه القلق، وهو ينتظر أن يقع في فخ أولئك الذين يريدون أن يصطادوه بالجرم المشهود، ومع كل ما يبذل في مواجهة أولئك المجرمين العتاة فإن هذا لم يصدهم عن جرائمهم، وهم يعلمون أنهم إنما يسعون لدمار البشرية، وهم يعلمون أنه لا يوجد عاقل في الدنيا يقر هؤلاء على فسادهم وجرمهم وضلالهم، ومع ذلك يتحملون اللأواء في سبيل تحصيل حطام الدنيا، أو ربما في سبيل تحقيق أهدافهم من إفساد المجتمعات ، ويدفعون الثمن الباهظ.
وانظروا إلى ما يتعرض إليه المنصرون من المخاطر … منذ عام 1965م إلى عام 1980م أي خلال خمسة عشر عاماً قُتل في مجاهل إفريقيا 218 منصراً كاثوليكيًّا ، و139 منصراً بروتستانتياً أي معدل منصرين كل شهر، ومع ذلك يصر هؤلاء وهم يقدمون كل شهر اثنين من المنصرين الذين تعبوا في تعليمهم وتدريبهم ، يصرون على نشر باطلهم ومذهبهم.
وفي كولومبيا وحدها قتل 126 منصراً خلال عشر سنوات، وفي نفس الوقت أغلقت الحكومة الكولومبية 279 مدرسة و60 كنيسة بروتستانتية، وأعدمت حكومة نيكاراجوا 6 من الرهبان المنصرين الكاثوليك عشية زيارة الباب لأمريكا الوسطى، إذن فهؤلاء الذين الآن يتربعون على عرش الدعاة إلى المبادئ في العالم كله، والذين يُتَحدث عنهم من خلال أرقام فلكية، وأرقام قياسية هاهم يتحملون المرض والمصائب والقتل والمضايقة والأذى في سبيل نشر دعوتهم ومبادئهم الضالة.
خامساً: تحمل الفشل والإحباط
يقول البعض إنني أعمل وأبذل فأواجه مواقف من الإحباط والفشل ،والإحباط والفشل ليسا وقفاً عليكم وحدكم، بل أنتم وحدكم الذين لا تعرفون الفشل لأن جهدكم حين تضيع ثمرته العاجلة وحين لا يستجاب لأحدكم فأجره مدخر عند الله تبارك وتعالى، ولا شك أن كلاًّ منا يريد أن يرى ثمرة دعوته ونتاجها عاجلاً ، لكنه حين لا يرى ذلك فهذا لا يعني الفشل ، ولا يعني الإحباط فأجره مدخر عند الله تبارك وتعالى ، أما غيركم فيعاني من ذلك أكثر مما تعانون.
لقد عرضنا جانباً مذهلاً من جهود المنصرين، وهم من أكثر الناس إحباطاً، في تقرير قدمه أحدهم كان موضوعه (مقارنة بين وضع الإسلام والنصرانية في شمال إفريقيا) بعد أن قدم هذا التقرير جاءت تعقيبات عليه منها : يقول أحدهم : قرأت ذلك والأسف يملك نفسي، ماذا كان يفعل الفرنسيون والإيطاليون عندما كانوا هناك … والثاني يقول : إحصائيات مدمرة . والثالث يقول : إن الصورة التي رسمها الأب لفنكستون للنصرانية في شمال إفريقيا هي صورة كئيبة بالتأكيد … وفي دراسة أخرى في مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في جنوب شرق آسيا … يقول أولئك أنهم خلال خمس سنوات في تايلند استطاعوا أن ينصروا 28 من المسلمين فقط - خلال خمس سنوات - وبعد ذلك رجع منهم اثنان إلى الإسلام … بقي أن تعلموا أن كل هؤلاء الذين نصّروا كانوا مصابين بمرض الجذام وكان دخولهم في النصرانية إنما هو لا يعدو أن يكون ثمناً لتحصيل هذا العلاج.
والمثال الثاني: الإحباط والفشل الذي يعاني منه أصحاب الشهوات، إنهم يعانون حتى يحصلوا شهواتهم من الأذى والجحيم داخل أنفسهم. كما قال تبارك وتعالى : [فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم] ، إن هؤلاء الذين يسعون إلى الشهوات يدفعون ثمناً باهظاً، ويعيشون حياة من القلق والمصائب لا تساوي بحال ما بذلوه في سبيل تحصيل هذه الشهوات، إضافة إلى ما يصيبهم من الإحباط وما يفوتهم مما كانوا يسعون إليه، أما أنت فأنت الوحيد الذي ليس في طريقك فشل؛ لأنك مهما دعوت ولم يستجب لك فأجرك مدخر عند الله تبارك وتعالى ومنزلتك محفوظة عند الله عز وجل ، أما أولئك فهم إنما يريدون سبيل الشيطان، فإن حصّلوا كان وبالاً عليهم وإن لم يحصّلوا كان مزيداً من الوبال والجهد والنكد يدخرونه رصيداً مع ما يلقونه عند الله تبارك وتعالى.
ومن الشباب من يألمون
ربما تطرحون سؤالاً مفاده: هاأنت تتحدث حديثاً ربما يعني فئة أعلى من قدرنا، فماذا عنا نحن الشباب ؟ ولهذا أحتاج حتى أعطيكم صورة قريبة أن أنقلكم إلى صورة تعيشونها في واقعكم، وترونها صباح مساء، لا يعدو دوري هنا أن أستعيد شريط الذكريات لكم، إنكم ترون طائفة من أقرانكم وأترابكم من أصحاب الشهوات، الذين يشعر أحدهم أن تحصيله لشهوته يفرض عليه أن يتعرف على مزيد من الناس وهو يعلم مغبة هذا الأمر وهذا الدور الذي يقوم به، فتراه يتحايل كثيراً في افتعال الموقف الذي يتيح له الفرصة في اللقاء مع فلان أو فلانة من الناس ليربط معه علاقة محرمة لتحصيل شهوة زائلة، ويدفع في ذلك ثمناً باهظاً من وقته، وربما من ماله لأجل أن يحصل على فرصة للحديث معه والتعرف عليه، ثم يعرض نفسه لمخاطر مع ولي أمره الشاب أو الفتاة، أو مع إدارة المدرسة، أو مع رجال الحسبة أو الأمن.(1/152)
إن هذا الشاب الذي يبذل هذا الجهد المضني والطويل في التعرف على صاحبه ولا تقف دونه الحواجز والعوائق يدرك أنه ربما تعرض لمخاطر وربما دفع الثمن باهظاً، إن ذلك الشاب الذي يحتال مثلاً حتى يحصل على رقم هاتفي لفتاة تشاركه هم الفساد والسوء ويحصل عليه بعد تجارب عدة ويقضي طويلاً في الحديث معها ثم يقضي وقتاً في اللقاء معها خارج المنزل وهو لقاء محفوف بالكثير من المخاطر، إنه يدفع ثمناً باهظاً ويبذل جهداً مضنياً في سبيل تحقيق هذه الشهوة واللذة المحرمة، وهو يعلم أن طريقه محفوف بالمخاطر ومحفوف بالمشكلات.
إنهم يألمون كما تألمون، ويصيبهم القرح كما يصيبكم القرح، لكنكم ترجون من الله ما لا يرجون.
شتان بين ما يطلبه الشاب المتدين ويرجوه وهو يريد أن يقيم صلة وعلاقة مع فلان من الناس ليسدي له كلمة صادقة أو ينهاه عن رذيلة رآه عليها، ولأجل أن يستنقذ صاحبه وأخاه من براثن الشهوة والرذيلة، أو بين ما تبذله الفتاة لأجل أن تنقذ أختها، شتان بين ما يبذله هؤلاء وبين مايبذله أولئك الضالون التائهون.
هذه نماذج قصدت بها أن أدفع همتنا وهمتكم جميعاً في سبيل العمل والدعوة لهذا الدين ، وليس بالضرورة أن نتطلع إلى مثل تلك النماذج وأن نبذل كما يبذل هؤلاء إنما يبذل كلٌّ منا في موقعه ، وفي مكانه، وحيثما يشعر أنه بحاجة إلى أن يبذل الجهد، وأن يتحمل في سبيل الدعوة لدين الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا نستكثر أمراً نبذله في سبيل الله عز وجل، وأن نسترخص ونستهين بكل ما نبذله، فإذا كان هؤلاء يبذلون مع أنهم على الباطل، فنحن أولى أن نبذل ونحن على الحق، أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم ويجعلنا وإياكم جميعاً من الدعاة لدينه إنه سميع مجيب.
المواظبة على طاعة الله بكل أشكالها في السر والعلن :
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78) سورة الحج
وفي الظلال :
(يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا , واعبدوا ربكم , وافعلوا الخير لعلكم تفلحون . وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم ; وما جعل عليكم في الدين من حرج , ملة أبيكم إبراهيم . هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم , وتكونوا شهداء على الناس . فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة , واعتصموا بالله هو مولاكم , فنعم المولى ونعم النصير) . .
وفي هاتين الآيتين يجمع المنهاج الذي رسمه الله لهذه الأمة , ويلخص تكاليفها التي ناطها بها , ويقرر مكانها الذي قدره لها , ويثبت جذورها في الماضي والحاضر والمستقبل , متى استقامت على النهج الذي أراده لها الله .
إنه يبدأ بأمر الذين آمنوا بالركوع والسجود . وهما ركنا الصلاة البارزان . ويكني عن الصلاة بالركوع والسجود ليمنحها صورة بارزة , وحركة ظاهرة في التعبير , ترسمها مشهدا شاخصا , وهيئة منظورة . لأن التعبير على هذا النحو أوقع أثرا وأقوى استجاشة للشعور .
ويثني بالأمر العام بالعبادة . وهي أشمل من الصلاة . فعبادة الله تشمل الفرائض كلها وتزيد عليها كذلك كل عمل وكل حركة وكل خالجة يتوجه بها الفرد إلى الله . فكل نشاط الإنسان في الحياة يمكن أن يتحول إلى عبادة متى توجه القلب به إلى الله . حتى لذائذه التي ينالها من طيبات الحياة بلفتة صغيرة تصبح عبادات تكتب له بها حسنات . وما عليه إلا أن يذكر الله الذي أنعم بها , وينوي بها أن يتقوى على طاعته وعبادته فإذا هي عبادات وحسنات , ولم يتحول في طبيعتها شيء , ولكن تحول القصد منها والاتجاه !
ويختم بفعل الخير عامة , في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالصلاة والعبادة . .
يأمر الأمة المسلمة بهذا رجاء أن تفلح . فهذه هي أسباب الفلاح . .
العبادة تصلها له فتقوم حياتها على قاعدة ثابتة وطريق واصل . وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة , الجماعية على قاعدة من الإيمان وأصالة الاتجاه .
فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة من الصلة بالله واستقامة الحياة , فاستقام ضميرها واستقامت حياتها نهضت بالتبعة الشاقة:
(وجاهدوا في الله حق جهاده) . .
وهو تعبير شامل جامح دقيق , يصور تكليفا ضخما , يحتاج إلى تلك التعبئة وهذه الذخيرة وذلك الإعداد . .
(وجاهدوا في الله حق جهاده) . .
والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء , وجهاد النفس , وجهاد الشر والفساد . . كلها سواء . .(1/153)
(وجاهدوا في الله حق جهاده) . .
فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة , واختاركم لها من بين عباده: (هو اجتباكم) . . وإن هذا الاختيار ليضخم التبعة , ولا يجعل هنالك مجالا للتخلي عنها أو الفرار ! وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء !
وهو تكليف محفوف برحمة الله: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) . . وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته . ملحوظ فيه تلبيته تلك الفطرة . وإطلاق هذه الطاقة , والاتجاه بها إلى البناء والاستعلاء . فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم . ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم !
وهو منهج عريق أصيل في ماضي البشرية , موصول الماضي بالحاضر: (ملة أبيكم إبراهيم) وهو منبع التوحيد الذي اتصلت حلقاته منذ عهد إبراهيم - عليه السلام - فلم تنقطع من الأرض , ولم تفصل بينها فجوات مضيعة لمعالم العقيدة كالفجوات التي كانت بين الرسالات قبل إبراهيم عليه السلام .
وقد سمى الله هذه الأمة الموحدة بالمسلمين . سماها كذلك من قبل وسماها كذلك في القرآن: (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا) . .
والإسلام إسلام الوجه والقلب لله وحده بلا شريك . فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الأجيال والرسل والرسالات . حتى انتهى بها المطاف إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحتى سلمت إليها الأمانة , وعهد إليها بالوصاية على البشرية . فاتصل ماضيها بحاضرها بمستقبلها كما أرادها الله: (ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) . .
فالرسول صلى الله عليه وسلم يشهد على هذه الأمة , ويحدد نهجها واتجاهها , ويقرر صوابها وخطأها . وهي تشهد على الناس بمثل هذا , فهي القوامة على البشرية بعد نبيها ; وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها , وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة . ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج , المختار من الله .
ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي وطبقته في حياتها الواقعية . حتى إذا انحرفت عنه , وتخلت عن تكاليفه , ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة . وما تزال . ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله .
هذا الأمر يقتضي الاحتشاد له والاستعداد . . ومن ثم يأمرها القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله:
فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله . هو مولاكم . فنعم المولى ونعم المصير . .
فالصلاة صلة الفرد الضعيف الفاني بمصدر القوة والزاد . والزكاة صلة الجماعة بعضها ببعض والتأمين من الحاجة والفساد . والاعتصام بالله العروة الوثقى التي لا تنفصم بين المعبود والعباد
بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها لها الله . وتملك الانتفاع بالموارد والطاقات المادية التي تعارف الناس على أنها مصادر القوة في الأرض . والقرآن الكريم لا يغفل من شأنها , بل يدعو إلى إعدادها . ولكن مع حشد القوى والطاقات والزاد الذي لا ينفد , والذي لا يملكه إلا المؤمنون بالله .
فيوجهون به الحياة إلى الخير والصلاح والاستعلاء .
إن قيمة المنهج الإلهي للبشرية أنه يمضي بها قدما إلى الكمال المقدر لها في هذه الأرض ; ولا يكتفي بأن يقودها للذائذ والمتاع وحدهما كما تقاد الأنعام .
وإن القيم الإنسانية العليا لتعتمد على كفاية الحياة المادية , ولكنها لا تقف عند هذه المدارج الأولى . وكذلك يريدها الإسلام في كنف الوصاية الرشيدة , المستقيمة على منهج الله في ظل الله (الظلال)
--------------
العبودية
1060 - 36 وَسُئِلَ الشَّيْخُ ( ابن تيمية ) رحمه الله : عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ } فَمَا الْعِبَادَةُ وَفُرُوعُهَا ؟ وَهَلْ مَجْمُوعُ الدِّينِ دَاخِلٌ فِيهَا أَمْ لَا ؟ وَمَا حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ ؟ وَهَلْ هِيَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمْ فَوْقَهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَقَامَاتِ ؟ وَلْيَبْسُطُوا لَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ .(1/154)
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ : " الْعِبَادَةُ " هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ : مِنْ الْأَقْوَالِ , وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ ; فَالصَّلَاةُ , وَالزَّكَاةُ , وَالصِّيَامُ , وَالْحَجُّ , وَصِدْقُ الْحَدِيثِ , وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ , وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ , وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ , وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ , وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَالْجِهَادُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ , وَالْإِحْسَانُ إلَى الْجَارِ , وَالْيَتِيمِ , وَالْمِسْكِينِ , وَابْنِ السَّبِيلِ , وَالْمَمْلُوكِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ , وَالدُّعَاءُ , وَالذِّكْرُ , وَالْقِرَاءَةُ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ . وَكَذَلِكَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ , وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ , وَالصَّبْرُ لِحُكْمِهِ , وَالشُّكْرُ لِنِعَمِهِ , وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ , وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ , وَالرَّجَاءُ لِرَحْمَتِهِ , وَالْخَوْفُ لِعَذَابِهِ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ مِنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ , وَالْمَرَضِيَّةُ لَهُ , الَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَبِهَا أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ , كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ : { اُعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } . وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ , وَصَالِحٌ , وَشُعَيْبٌ , وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إلَى الْمَوْتِ كَمَا قَالَ : { وَاعْبُدْ رَبَّك حَتَّى يَأْتِيَك الْيَقِينُ } . وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّك لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ : { وَقَالَ رَبُّكُمْ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } . وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } . وَقَالَ : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } الْآيَاتِ . وَلَمَّا قَالَ الشَّيْطَانُ : { بِمَا أَغْوَيْتنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأَغْوَيْنَهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا عِبَادَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْغَاوِينَ } . وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا تَكَادُ السَّمَوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدَّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَسِيحِ - الَّذِي اُدُّعِيَتْ فِيهِ الْأُلُوهِيَّةُ وَالنُّبُوَّةُ - { إنْ هُوَ إلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ(1/155)
وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ } . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا : عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } . وَقَدْ نَعَتَهُ اللَّهُ " بِالْعُبُودِيَّةِ " فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ فَقَالَ فِي الْإِسْرَاءِ : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } وَقَالَ فِي الْإِيحَاءِ : { فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } وَقَالَ فِي الدَّعْوَةِ : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } وَقَالَ فِي التَّحَدِّي : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } فَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ قَالَ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ , وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ , وَتَصُومَ رَمَضَانَ , وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ : فَمَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ , وَمَلَائِكَتِهِ , وَكُتُبِهِ , وَرُسُلِهِ , وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ , وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ : فَمَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ , فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك } ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ : { هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } فَجَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الدِّينِ . " وَالدِّينُ " يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ . يُقَالُ : دِنْته فَدَانَ , أَيْ : ذَلَلْتُهُ فَذَلَّ , وَيُقَالُ يَدِينُ اللَّهَ ; وَيَدِينُ لِلَّهِ أَيْ : يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُطِيعُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ , فَدِينُ اللَّهِ عِبَادَتُهُ وَطَاعَتُهُ وَالْخُضُوعُ لَهُ . " وَالْعِبَادَةُ " أَصْلُ مَعْنَاهَا الذُّلُّ , أَيْضًا , يُقَالُ : طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إذَا كَانَ مُذَلَّلًا , قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ . لَكِنَّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الذُّلَّ وَمَعْنَى الْحُبِّ , فَهِيَ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الذُّلِّ لِلَّهِ بِغَايَةِ الْمَحَبَّةِ لَهُ , فَإِنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ الْحُبِّ هُوَ التَّتَيُّمُ , وَأَوَّلُهُ " الْعَلَاقَةُ " لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ , ثُمَّ " الصَّبَابَةُ " لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ , ثُمَّ " الْغَرَامُ " وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ ثُمَّ " الْعِشْقُ " وَآخِرُهَا التَّتَيُّمُ " يُقَالُ : تَيْمُ اللَّهَ أَيْ : عَبْدُ اللَّهَ . فَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ لِمَحْبُوبِهِ . وَمَنْ خَضَعَ لِإِنْسَانٍ مَعَ بُغْضِهِ لَهُ لَا يَكُونُ عَابِدًا لَهُ , وَلَوْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَخْضَعْ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا لَهُ , كَمَا قَدْ يُحِبُّ وَلَدَهُ وَصَدِيقَهُ , وَلِهَذَا لَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى , بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ , وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَعْظَمَ عِنْدَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ , بَلْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ وَالذُّلَّ التَّامَّ إلَّا اللَّهُ . وَكُلُّ مَا أُحِبَّ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ , وَمَا عُظِّمَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ كَانَ تَعْظِيمُهُ بَاطِلًا , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } . فَجِنْسُ الْمَحَبَّةِ تَكُونُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , كَالطَّاعَةِ ; فَإِنَّ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْإِرْضَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ : { وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } وَالْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } . وَأَمَّا " الْعِبَادَةُ " وَمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ التَّوَكُّلِ ; وَالْخَوْفِ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } إلَى قَوْلِهِ : { فَإِنْ(1/156)
تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كَقَوْلِهِ : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } . وَأَمَّا الْحَسْبُ وَهُوَ الْكَافِي فَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُك اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك اللَّهُ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَعْنَى حَسْبُك اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا , كَمَا قَدْ بَسَطْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } . " وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ " أَنَّ الْعَبْدَ يُرَادُ بِهِ " الْمُعَبَّدُ " الَّذِي عَبَّدَهُ اللَّهُ فَذَلَّلَهُ وَدَبَّرَهُ وَصَرَّفَهُ . وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ : الْمَخْلُوقُونَ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ مِنْ الْأَبْرَارِ , وَالْفُجَّارِ , وَالْمُؤْمِنِينَ , وَالْكُفَّارِ , وَأَهْلِ الْجَنَّةِ , وَأَهْلِ النَّارِ , إذْ هُوَ رَبُّهُمْ كُلِّهِمْ وَمَلِيكُهُمْ , لَا يَخْرُجُونَ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ , وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ ; فَمَا شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَاءُوا . وَمَا شَاءُوا إنْ لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَكُنْ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } . فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ , وَخَالِقُهُمْ , وَرَازِقُهُمْ , وَمُحْيِيهمْ , وَمُمِيتُهُمْ , وَمُقَلِّبُ قُلُوبِهِمْ , وَمُصَرِّفُ أُمُورِهِمْ , لَا رَبَّ لَهُمْ غَيْرُهُ , وَلَا مَالِكَ لَهُمْ سِوَاهُ , وَلَا خَالِقَ إلَّا هُوَ , سَوَاءٌ اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ أَوْ نَكِرُوهُ , وَسَوَاءٌ عَلِمُوا ذَلِكَ أَوْ جَهِلُوهُ ; لَكِنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ عَرَفُوا ذَلِكَ وَاعْتَرَفُوا بِهِ , بِخِلَافِ مَنْ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ ; أَوْ جَاحِدًا لَهُ مُسْتَكْبِرًا عَلَى رَبِّهِ , لَا يُقِرُّ وَلَا يَخْضَعُ لَهُ , مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ . فَالْمَعْرِفَةُ بِالْحَقِّ إذَا كَانَتْ مَعَ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ قَبُولِهِ , وَالْجَحْدِ لَهُ كَانَ عَذَابًا عَلَى صَاحِبِهِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } . فَإِنْ اعْتَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ , مُحْتَاجٌ إلَيْهِ عَرَفَ الْعُبُودِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ , وَهَذَا الْعَبْدُ يَسْأَلُ رَبَّهُ فَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ , لَكِنْ قَدْ يُطِيعُ أَمْرَهُ , وَقَدْ يَعْصِيهِ , وَقَدْ يَعْبُدُهُ مَعَ ذَلِكَ ; وَقَدْ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَالْأَصْنَامَ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ , وَلَا يَصِيرُ بِهَا الرَّجُلُ مُؤْمِنًا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاَللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ , سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } . وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَشْهَدُهَا يَشْهَدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَهِيَ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا وَفِي شُهُودِهَا وَمَعْرِفَتِهَا(1/157)
الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ , وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ , وَإِبْلِيسُ مُعْتَرِفٌ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ ; وَأَهْلُ النَّارِ . قَالَ إبْلِيسُ : { رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وَقَالَ : { رَبِّ بِمَا أَغَوَيْتنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأَغْوَيْنَهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ : { فَبِعِزَّتِك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ : { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْت عَلَيَّ } وَأَمْثَالُ هَذَا مِنْ الْخِطَابِ الَّذِي يُقِرُّ فِيهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَخَالِقُ غَيْرِهِ ; وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ قَالُوا : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } . فَمَنْ وَقَفَ عِنْدَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ , وَعِنْدَ شُهُودِهَا , وَلَمْ يَقُمْ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَتُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَطَاعَةِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ إبْلِيسَ وَأَهْلِ النَّارِ ; وَإِنْ ظَنَّ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ الَّذِينَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الشَّرْعِيَّانِ , كَانَ مِنْ أَشَرِّ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَضِرَ وَغَيْرَهُ سَقَطَ عَنْهُمْ الْأَمْرُ لِمُشَاهَدَةِ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ هَذَا مِنْ شَرِّ أَقْوَالِ الْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ , حَتَّى يَدْخُلَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي " مِنْ مَعْنَى الْعَبْدِ وَهُوَ الْعَبْدُ بِمَعْنَى الْعَابِدِ , فَيَكُونُ عَابِدًا لِلَّهِ لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ ; فَيُطِيعُ أَمْرَهُ وَأَمْرَ رُسُلِهِ , وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ ; وَيُعَادِي أَعْدَاءَهُ , وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِلَهِيَّتِهِ , وَلِهَذَا كَانَ عُنْوَانُ التَّوْحِيدِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " بِخِلَافِ مَنْ يُقِرُّ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَلَا يَعْبُدُهُ , أَوْ يَعْبُدُ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ , فَالْإِلَهُ الَّذِي يَأْلَهُهُ الْقَلْبُ بِكَمَالِ الْحُبِّ , وَالتَّعْظِيمِ , وَالْإِجْلَالِ , وَالْإِكْرَامِ , وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ هِيَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا , وَبِهَا وَصَفَ الْمُصْطَفِينَ مِنْ عِبَادِهِ , وَبِهَا بَعَثَ رُسُلَهُ . وَأَمَّا " الْعَبْدُ " بِمَعْنَى الْعَبْدِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَهُ ; فَتِلْكَ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ . وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ " الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ " الدَّاخِلَةِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَأَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا , وَيُوَالِي أَهْلَهَا وَيُكْرِمُهُمْ بِجَنَّتِهِ , وَبَيْنَ " الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ " الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ , وَالْبَرُّ , وَالْفَاجِرُ الَّتِي مَنْ اكْتَفَى بِهَا , وَلَمْ يَتَّبِعْ الْحَقَائِقَ الدِّينِيَّةَ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ , وَالْكَافِرِينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ , وَمَنْ اكْتَفَى بِهَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ , أَوْ فِي مَقَامٍ , أَوْ حَالٍ , نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ وَوِلَايَتِهِ لِلَّهِ بِحَسَبِ مَا نَصَّ مِنْ الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ . وَهَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ فِيهِ غَلِطَ الْغَالِطُونَ ; وَكَثُرَ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ عَلَى السَّالِكِينَ , حَتَّى زَلَقَ فِيهِ مِنْ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ الْمُدَّعِينَ التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْإِعْلَانَ ; وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ رحمه الله فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ , فَبَيَّنَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الرِّجَالِ إذَا وَصَلُوا إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا , إلَّا أَنَا فَإِنِّي انْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةٌ فَنَازَعْت أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ ; وَالرَّجُلُ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِلْقَدَرِ لَا مَنْ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْقَدَرِ . وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رحمه الله هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ; لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الرِّجَالِ غَلِطُوا , فَإِنَّهُمْ قَدْ يَشْهَدُونَ مَا يُقَدَّرُ عَلَى أَحَدِهِمْ مِنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ ; أَوْ مَا يُقَدَّرُ عَلَى(1/158)
النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ , بَلْ مِنْ الْكُفْرِ ; وَيَشْهَدُونَ أَنَّ هَذَا جَارٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ رُبُوبِيَّتِهِ , وَمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ , فَيَظُنُّونَ الِاسْتِسْلَامَ لِذَلِكَ وَمُوَافَقَتَهُ وَالرِّضَا بِهِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ , دِينًا وَطَرِيقًا وَعِبَادَةً ; فَيُضَاهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } وَقَالُوا : { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } وَقَالُوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } . وَلَوْ هُدُوا لَعَلِمُوا أَنَّ الْقَدَرَ أَمَرَنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ وَنَصْبِرَ عَلَى مُوجِبِهِ فِي الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُنَا : كَالْفَقْرِ , وَالْمَرَضِ , وَالْخَوْفِ , قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { احْتَجَّ آدَم وَمُوسَى , فَقَالَ مُوسَى : أَنْتَ آدَم الَّذِي خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ , وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ , وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ , وَعَلَّمَك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ , فَلِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ آدَم : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ , فَهَلْ وَجَدْت ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَحَجَّ آدَم مُوسَى } . وَآدَمُ عليه السلام لَمْ يَحْتَجَّ عَلَى مُوسَى بِالْقَدَرِ ظَنًّا أَنَّ الْمُذْنِبَ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ , فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ , وَلَوْ كَانَ هَذَا عُذْرًا لَكَانَ عُذْرًا لَإِبْلِيسَ , وَقَوْمِ نُوحٍ , وَقَوْمِ هُودٍ , وَكُلِّ كَافِرٍ , وَلَا مُوسَى لَامَ آدَمَ أَيْضًا لِأَجْلِ الذَّنْبِ . فَإِنَّ آدَمَ قَدْ تَابَ إلَى رَبِّهِ فَاجْتَبَاهُ وَهَدَى , وَلَكِنْ لَامَهُ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ بِالْخَطِيئَةِ . وَلِهَذَا قَالَ : فَلِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَأَجَابَهُ آدَم أَنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ , فَكَانَ الْعَمَلُ وَالْمُصِيبَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ مُقَدَّرًا , وَمَا قُدِّرَ مِنْ الْمَصَائِبِ يَجِبُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ , فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الرِّضَا بِاَللَّهِ رَبًّا . وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُذْنِبَ , وَإِذَا أَذْنَبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ , فَيَتُوبُ مِنْ الْمَعَائِبِ وَيَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ . قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَقَالَ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَالَ يُوسُفُ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . وَكَذَلِكَ ذُنُوبُ الْعِبَادِ , يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ فِيهَا أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ - وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَيُوَالِيَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِيَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيُحِبَّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضَ فِي اللَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلَى قَوْلِهِ : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَحْدَهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ(1/159)
بِرُوحٍ مِنْهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } وَقَالَ : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءٌ مَحَيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ , وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ , وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ } وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلَى قَوْلِهِ : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ , وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ } وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يُفَرِّقُ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ , وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ , وَأَهْلِ الْبِرِّ , وَأَهْلِ الْفُجُورِ , وَأَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ , وَأَهْلِ الْغَيِّ وَالرَّشَادِ , وَأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ . فَمَنْ شَهِدَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " دُونَ " الدِّينِيَّةِ " سَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهَا غَايَةَ التَّفْرِيقِ حَتَّى يَئُولَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهَ بِالْأَصْنَامِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : { تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ , إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } بَلْ قَدْ آلَ الْأَمْرُ بِهَؤُلَاءِ إلَى أَنْ سَوَّوْا اللَّهَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ , وَجَعَلُوا مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ حَقًّا لِكُلِّ مَوْجُودٍ إذْ جَعَلُوهُ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ , وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ بِرَبِّ الْعِبَادِ . وَهَؤُلَاءِ يَصِلُ بِهِمْ الْكُفْرُ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ عِبَادٌ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعْبِدُونَ , وَلَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ عَابِدُونَ : إذْ يَشْهَدُونَ أَنَّ أَنْفُسَهُمْ هِيَ الْحَقُّ , كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَاغِيتُهُمْ : كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ " , وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُلْحِدِينَ الْمُفْتَرِينَ : كَابْنِ سَبْعِينَ , وَأَمْثَالِهِ , وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ , وَهَذَا لَيْسَ بِشُهُودٍ لِحَقِيقَةٍ ; لَا كَوْنِيَّةٍ وَلَا دِينِيَّةٍ ; بَلْ هُوَ ضَلَالٌ , وَعَمًى عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ , حَيْثُ جَعَلُوا وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ , وَجَعَلُوا كُلَّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ وَمَمْدُوحٍ نَعْتًا لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ , إذْ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودُ هَذَا عِنْدَهُمْ . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ , عَوَامُّهُمْ وَخَوَاصُّهُمْ , الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ , وَخَاصَّتُهُ } . فَهَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ , وَخَالِقُهُ , وَأَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ , لَيْسَ هُوَ حَالًّا فِيهِ وَلَا مُتَّحِدًا بِهِ , وَلَا وُجُودُهُ وُجُودَهُ . وَالنَّصَارَى كَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِأَنْ قَالُوا بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ خَاصَّةً , فَكَيْفَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ ؟ , وَيَعْلَمُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ , وَطَاعَةِ رَسُولِهِ , وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ , وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ , وَأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ , وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ , وَأَنَّ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَعْبُدُوهُ فَيُطِيعُوا أَمْرَهُ , وَيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ , كَمَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَمِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ -(1/160)
بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ . فَيَجْتَهِدُونَ فِي إقَامَةِ دِينِهِ , مُسْتَعِينِينَ بِهِ , دَافِعِينَ مُزِيلِينَ بِذَلِكَ مَا قُدِّرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ , دَافِعِينَ بِذَلِكَ مَا قَدْ يُخَافُ مِنْ ذَلِكَ , كَمَا يُزِيلُ الْإِنْسَانُ الْجُوعَ الْحَاضِرَ بِالْأَكْلِ , وَيَدْفَعُ بِهِ الْجُوعَ الْمُسْتَقْبَلَ , وَكَذَلِكَ إذَا آنَ أَوَانُ الْبَرْدِ دَفَعَهُ بِاللِّبَاسِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَطْلُوبٍ يُدْفَعُ بِهِ مَكْرُوهٌ , كَمَا { قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا , وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا , وَتُقَاةً نَتَّقِي بِهَا , هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ } . وَفِي الْحَدِيثِ { إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } فَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ .(1/161)
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " وَهِيَ رُبُوبِيَّتُهُ تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ , وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَرَاتِبَ فِي الضَّلَالِ . فَغُلَاتُهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مُطْلَقًا عَامًّا , فَيَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ فِي كُلِّ مَا يُخَالِفُونَ فِيهِ الشَّرِيعَةَ . وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } وَقَالُوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ تَنَاقُضًا : بَلْ كُلُّ مَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ , فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقِرَّ كُلَّ آدَمِيٍّ عَلَى مَا فَعَلَ ; فَلَا بُدَّ إذَا ظَلَمَهُ ظَالِمٌ أَوْ ظَلَمَ النَّاسَ ظَالِمٌ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَأَخَذَ يَسْفِكُ دِمَاءَ النَّاسِ وَيَسْتَحِلُّ الْفُرُوجَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ بِهَا أَنْ يَدْفَعَ هَذَا الْقَدَرَ ; وَأَنْ يُعَاقِبَ الظَّالِمَ بِمَا يَكُفُّ عُدْوَانَ أَمْثَالِهِ . فَيُقَالُ لَهُ : إنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً فَدَعْ كُلَّ أَحَدٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِك وَبِغَيْرِك , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً بَطَلَ أَصْلُ قَوْلِك : حُجَّةٌ . وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ [ الَّذِينَ ] يَحْتَجُّونَ بِالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ لَا يَطْرُدُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا يَلْتَزِمُونَهُ , وَإِنَّمَا هُمْ بِحَسَبِ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ ; كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِي , وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِي ; أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْتَ بِهِ . وَمِنْهُمْ " صِنْفٌ " يَدَّعُونَ التَّحْقِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ , فَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِمَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ فِعْلًا وَأَثْبَتَ لَهُ صُنْعًا ; أَمَّا مَنْ شَهِدَ أَنَّ أَفْعَالَهُ مَخْلُوقَةٌ ; أَوْ أَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى ذَلِكَ ; وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ . كَمَا تُحَرَّكُ سَائِرُ الْمُتَحَرِّكَاتِ , فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ . وَقَدْ يَقُولُونَ : مَنْ شَهِدَ " الْإِرَادَةَ " سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ , وَيَزْعُمُ أَحَدُهُمْ أَنَّ الْخَضِرَ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ لِشُهُودِهِ الْإِرَادَةَ , فَهَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ , فَشَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ أَفْعَالَ الْعِبَادِ , وَأَنَّهُ يُدَبِّرُ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ , وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا وَبَيْنَ مَنْ يَرَاهُ شُهُودًا , فَلَا يُسْقِطُونَ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ وَيَعْلَمُهُ فَقَطْ , وَلَكِنْ عَمَّنْ يَشْهَدُهُ , فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ فِعْلًا أَصْلًا , وَهَؤُلَاءِ لَا يَجْعَلُونَ الْجَبْرَ وَإِثْبَاتَ الْقَدَرِ مَانِعًا مِنْ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَاقَ نِطَاقُهُمْ عَنْ كَوْنِ الْعَبْدِ يُؤْمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ خِلَافُهُ , كَمَا ضَاقَ نِطَاقُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ , ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتَتْ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّيْنِ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الَّذِي هُوَ إرَادَةُ اللَّهِ الْعَامَّةُ وَخَلْقُهُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ , وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَنَفَوْا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي حَقِّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ , إذْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ مُطْلَقًا . وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ ; وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ , وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِلْمَحْجُوبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ , وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ مَنْ وَصَلَ إلَى شُهُودِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ , وَصَارَ مِنْ الْخَاصَّةِ . وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوا عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّك حَتَّى يَأْتِيَك الْيَقِينُ } وَجَعَلُوا الْيَقِينَ هُوَ(1/162)
مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ , وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ كُفْرٌ صَرِيحٌ , وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كُفْرٌ ; فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِكُلِّ عَبْدٍ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا إلَى أَنْ يَمُوتَ , لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا بِشُهُودِهِ الْقَدَرَ , وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ , فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ عُرِّفَهُ , وَبُيِّنَ لَهُ , فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اعْتِقَادِ سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ , وَقَدْ كَثُرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ . وَأَمَّا الْمُسْتَقْدِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ , فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتُ مَعْرُوفَةً فِيهِمْ . وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ هِيَ مُحَادَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمُعَادَاةٌ لَهُ , وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِهِ , وَمُشَاقَّةٌ لَهُ , وَتَكْذِيبٌ لِرُسُلِهِ ; وَمُضَادَّةٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ , وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ قَدْ يَجْهَلُ ذَلِكَ , وَيَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ طَرِيقُ الرَّسُولِ , وَطَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُحَقِّقِينَ ; فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ; لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ , أَوْ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَا يَضُرُّهُمْ شُرْبُ الْخَمْرِ ; أَوْ أَنَّ الْفَاحِشَةَ حَلَالٌ لَهُ ; لِأَنَّهُ صَارَ كَالْبَحْرِ لَا تُكَدِّرُهُ الذُّنُوبُ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِ اللَّهِ ; وَبَيْنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ ; فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , إمَّا أَنْ يَبْتَدِعُوا , وَإِمَّا أَنْ يَحْتَجُّوا بِالْقَدَرِ , وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } . وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي فِيهِ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ , وَالْعِبَادَةُ الَّتِي لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ بِمِثْلٍ قوله تعالى : { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ : { يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُسَمُّونَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ " حَقِيقَةً " , كَمَا يُسَمُّونَ مَا يَشْهَدُونَ مِنْ الْقَدَرِ " حَقِيقَةً " . وَطَرِيقُ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ السُّلُوكُ الَّذِي لَا يَتَقَيَّدُ صَاحِبُهُ بِأَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ , وَلَكِنْ بِمَا يَرَاهُ وَيَذُوقُهُ وَيَجِدُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ لَا يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ مُطْلَقًا , بَلْ عُمْدَتُهُمْ اتِّبَاعُ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ , وَجَعْلُهُمْ لِمَا يَرَوْنَهُ وَيَهْوُونَهُ حَقِيقَةً , وَأَمْرُهُمْ بِاتِّبَاعِهَا دُونَ اتِّبَاعِ(1/163)
أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , نَظِيرُ بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ , الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَقَائِقَ عَقْلِيَّةً يَجِبُ اعْتِقَادُهَا . دُونَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السَّمْعِيَّاتُ , ثُمَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إمَّا أَنْ يُحَرِّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ , وَإِمَّا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ , فَلَا يَتَدَبَّرُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ , بَلْ يَقُولُونَ : نُفَوِّضُ مَعْنَاهُ إلَى اللَّهِ , مَعَ اعْتِقَادِهِمْ نَقِيضَ مَدْلُولِهِ . وَإِذَا حُقِّقَ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدْتَ جَهْلِيَّاتٍ وَاعْتِقَادَاتٍ فَاسِدَةً . وَكَذَلِكَ أُولَئِكَ إذَا حُقِّقَ عَلَيْهِمْ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ حَقَائِقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدْتَ مِنْ الْأَهْوَاءِ الَّتِي يَتَّبِعُهَا أَعْدَاءُ اللَّهِ لَا أَوْلِيَاؤُهُ . وَأَصْلُ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ هُوَ بِتَقْدِيمِ قِيَاسِهِ عَلَى النَّصِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , وَاخْتِيَارِهِ الْهَوَى عَلَى اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ , فَإِنَّ الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ بِحَسَبِ مَا يُحِبُّهُ الْعَبْدُ , فَكُلُّ مُحِبٍّ لَهُ ذَوْقٌ وَوَجْدٌ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ , فَأَهْلُ الْإِيمَانِ لَهُمْ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ مِثْلُ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا , وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ , وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا , وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا , وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا } . وَأَمَّا أَهْلُ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ وَالشَّهَوَاتِ فَكُلٌّ بِحَسْبِهِ , قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ : مَا بَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَهُمْ مَحَبَّةٌ شَدِيدَةٌ لِأَهْوَائِهِمْ ؟ , فَقَالَ : أَنَسِيتَ قوله تعالى : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ ؟ , فَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَك فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } . وَقَالَ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى } وَلِهَذَا يَمِيلُ هَؤُلَاءِ إلَى سَمَاعِ الشِّعْرِ وَالْأَصْوَاتِ الَّتِي تُهَيِّجُ الْمَحَبَّةَ الْمُطَلَّقَةَ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ , بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهَا مُحِبُّ الرَّحْمَنِ , وَمُحِبُّ الْأَوْثَانِ , وَمُحِبُّ الصُّلْبَانِ وَمُحِبُّ الْأَوْطَانِ , وَمُحِبُّ الْإِخْوَانِ , وَمُحِبُّ الْمُرْدَانِ , وَمُحِبُّ النِّسْوَانِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ أَذْوَاقَهُمْ وَمَوَاجِيدَهُمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ . فَالْمُخَالِفُ لِمَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِدِينٍ شَرَعَهُ اللَّهُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاك عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ . إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } . بَلْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَهُمْ فِي ذَلِكَ تَارَةً يَكُونُونَ عَلَى بِدْعَةٍ يُسَمُّونَهَا حَقِيقَةً يُقَدِّمُونَهَا عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ , وَتَارَةً يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ عَلَى الشَّرِيعَةِ , كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ .(1/164)
وَمِنْ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ هُمْ أَعْلَاهُمْ قَدْرًا وَهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِالدِّينِ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْمَشْهُورَةِ , وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَشْهُورَةِ , لَكِنْ يَغْلَطُونَ فِي تَرْكِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ , ظَانِّينَ أَنَّ الْعَارِفَ إذَا شَهِدَ " الْقَدَرَ " أُعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ . مِثْلُ مَنْ يَجْعَلُ التَّوَكُّلَ مِنْهُمْ , أَوْ الدُّعَاءَ , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ , بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ عَلِمَ أَنَّ مَا قُدِّرَ سَيَكُونُ , فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ , وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ . فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ بِأَسْبَابِهَا كَمَا قَدَّرَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ بِأَسْبَابِهَا . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهَا لَهُمْ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ , وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ } . وَكَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْمَقَادِيرَ , فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ ؟ فَقَالَ : لَا . اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ , أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ , وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ } . فَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ فَهُوَ عِبَادَةٌ وَالتَّوَكُّلُ مَقْرُونٌ بِالْعِبَادَةِ كَمَا فِي قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَفِي قَوْلِهِ : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ مَتَابِ } . وَقَوْلِ شُعَيْبٍ عليه السلام { عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَدْ تَتْرُكُ الْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ الْأَعْمَالِ دُونَ الْوَاجِبَاتِ , فَتُنْقَصُ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَغْتَرُّونَ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ مِثْلِ مُكَاشَفَةٍ , أَوْ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْعَادَةِ الْعَامَّةِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَيَشْتَغِلُ أَحَدُهُمْ عَمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالشُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا كَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِأَهْلِ السُّلُوكِ وَالتَّوَجُّهِ ; وَإِنَّمَا يَنْجُو الْعَبْدُ مِنْهَا بِمُلَازَمَةِ أَمْرِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ . كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ : كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا يَقُولُونَ : الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ . وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ - كَمَا قَالَ مَالِكٌ رحمه الله - مِثْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا , وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ .(1/165)
وَالْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَلُزُومُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَقْصُودُهَا وَاحِدٌ وَلَهَا أَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَلَا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ . " وَالثَّانِي " : أَنْ يُعْبَدَ بِمَا أَمَرَ وَشَرَعَ , لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ . قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاِتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } . فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْإِحْسَانُ , وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ , " وَالْحَسَنَاتُ " هِيَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَهُوَ مَا أُمِرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ , فَمَا كَانَ مِنْ الْبِدَعِ فِي الدِّينِ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهَا وَلَا رَسُولُهُ , فَلَا تَكُونُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ , كَمَا أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ مَا لَا يَجُوزُ كَالْفَوَاحِشِ , وَالظُّلْمِ لَيْسَ مِنْ الْحَسَنَاتِ , وَلَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وَقَوْلُهُ : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } فَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَحْدَهُ , وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا , وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا . وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ , وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ , حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا , وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ , وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ دَاخِلًا فِي اسْمِ الْعِبَادَةِ فَلِمَاذَا عَطَفَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا ; كَقَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلِ نُوحٍ : { اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } وَكَذَلِكَ قَوْلُ غَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ , قِيلَ هَذَا لَهُ نَظَائِرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وَالْفَحْشَاءُ مِنْ الْمُنْكَرِ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى هُوَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ , كَمَا أَنَّ الْفَحْشَاءَ وَالْبَغْيَ مِنْ الْمُنْكَرِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ مِنْ أَعْظَمِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } وَدُعَاؤُهُمْ رَغَبًا وَرَهَبًا مِنْ الْخَيْرَاتِ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَهَذَا الْبَابُ يَكُونُ تَارَةً مَعَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا بَعْضَ الْآخَرِ , فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ تَخْصِيصًا لَهُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ , وَالْمَعْنَى الْخَاصِّ , وَتَارَةً تَكُونُ دَلَالَةُ الِاسْمِ تَتَنَوَّعُ بِحَالِ الِانْفِرَادِ وَالِاقْتِرَانِ , فَإِذَا أَفْرَدَ عَمَّ , وَإِذَا قَرَنَ بِغَيْرِهِ خَصَّ , كَاسْمِ " الْفَقِيرِ " " وَالْمِسْكِينِ " لَمَّا أَفْرَدَ أَحَدَهُمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ , وَلَمَّا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } صَارَا نَوْعَيْنِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْخَاصَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْعَامِّ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَامِّ حَالَ الِاقْتِرَانِ ; بَلْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا(1/166)
لَيْسَ لَازِمًا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } . وَذِكْرُ الْخَاصِّ مَعَ الْعَامِّ يَكُونُ لِأَسْبَابٍ مُتَنَوِّعَةٍ : تَارَةً لِكَوْنِهِ لَهُ خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْعَامِّ ; كَمَا فِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى . وَتَارَةً لِكَوْنِ الْعَامِّ فِيهِ إطْلَاقٌ قَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ , كَمَا فِي قَوْلِهِ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ , الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ , وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك } فَقَوْلُهُ : { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } يَتَنَاوَلُ الْغَيْبَ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ ; لَكِنْ فِيهِ إجْمَالٌ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ الْغَيْبِ مَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك . وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ الْغَيْبُ , وَبِالْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ , وَهُوَ مَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قوله تعالى : { اُتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْك مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ } وَقَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } " وَتِلَاوَةُ الْكِتَابِ " هِيَ اتِّبَاعُهُ , كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قوله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } قَالَ : يُحَلِّلُونَ حَلَالَهُ , وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ , وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ , فَاتِّبَاعُ الْكِتَابِ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا , لَكِنْ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِمَزِيَّتِهَا , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ لِذِكْرِهِ مِنْ أَجَلِّ عِبَادَتِهِ , وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } وَقَوْلُهُ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } وَقَوْلُهُ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ هِيَ أَيْضًا مِنْ تَمَامِ تَقْوَى اللَّهِ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فَإِنَّ التَّوَكُّلَ وَالِاسْتِعَانَةَ هِيَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ ; لَكِنْ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِيَقْصِدَهَا الْمُتَعَبِّدُ بِخُصُوصِهَا ; فَإِنَّهَا هِيَ الْعَوْنُ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَعُونَتِهِ . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكَمَالُ الْمَخْلُوقِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ , وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَحْقِيقًا لِلْعُبُودِيَّةِ ازْدَادَ كَمَالُهُ وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ , وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَخْرُجُ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ , أَوْ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا أَكْمَلُ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَضَلِّهِمْ . قَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ , لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا , لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا } إلَى قَوْلِهِ : { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا , لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا , وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَسِيحِ : { إنْ هُوَ إلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ , يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ اُدْعُونِي(1/167)
أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ , فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَاَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّك يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ رَبَّك فِي نَفْسِك تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّك لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } . وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا فِيهِ وَصْفُ أَكَابِرِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْعِبَادَةِ وَذَمُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ , وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ بِذَلِكَ . فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَالَ تَعَالَى لِبَنِي إسْرَائِيلَ : { يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وَقَالَ : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ , وَأُمِرْت لَأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ , قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْت رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ , قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي , فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } . وَكُلُّ رَسُولٍ مِنْ الرُّسُلِ افْتَتَحَ دَعْوَتَهُ بِالدُّعَاءِ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ كَقَوْلِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ عليهم السلام : { اُعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي , وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصِّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي } . وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ عِبَادَهُ هُمْ الَّذِينَ يَنْجُونَ مِنْ السَّيِّئَاتِ قَالَ الشَّيْطَانُ : { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ , إلَّا عِبَادَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْغَاوِينَ } وَقَالَ : { فَبِعِزَّتِك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ , إلَّا عِبَادَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ فِي حَقِّ يُوسُفَ : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ , إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ : { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ , إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَاَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } وَبِهَا نَعَتَ كُلَّ مَنْ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ كَقَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ , إنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ , وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ } وَقَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابُ } وَقَالَ عَنْ سُلَيْمَانَ : { نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ } وَعَنْ أَيُّوبَ : { نِعْمَ الْعَبْدُ } وَقَالَ : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ } وَقَالَ نُوحٌ عليه السلام : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } وَقَالَ : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } وَقَالَ : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } وَقَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } وَقَالَ : { فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } وَقَالَ : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَعِبَادُ(1/168)
الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ .
فَصْلٌ - إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ :
فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ تَفَاضُلًا عَظِيمًا . وَهُوَ تَفَاضُلُهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ , وَهُمْ يَنْقَسِمُونَ فِيهِ إلَى : عَامٍّ , وَخَاصٍّ , وَلِهَذَا كَانَتْ رُبُوبِيَّةُ الرَّبِّ لَهُمْ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ ; وَلِهَذَا كَانَ الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ , تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ , تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ , تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ , تَعِسَ وَانْتَكَسَ , وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ , إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ , وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ } فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الدِّرْهَمِ , وَعَبْدَ الدِّينَارِ , وَعَبْدَ الْقَطِيفَةِ , وَعَبْدَ الْخَمِيصَةِ . وَذِكْرُ مَا فِيهِ دُعَاءٌ وَخَبَرٌ , وَهُوَ قَوْلُهُ : { تَعِسَ وَانْتَكَسَ , وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ } وَالنَّقْشُ : إخْرَاجُ الشَّوْكَةِ مِنْ الرِّجْلِ , وَالْمِنْقَاشُ : مَا يُخْرَجُ بِهِ الشَّوْكَةُ , وَهَذِهِ حَالُ مَنْ إذَا أَصَابَهُ شَرٌّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ , وَلَمْ يَفْلَحْ لِكَوْنِهِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ . فَلَا نَالَ الْمَطْلُوبَ وَلَا خَلَصَ مِنْ الْمَكْرُوهِ , وَهَذِهِ حَالُ مَنْ عَبَدَ الْمَالَ , وَقَدْ وَصَفَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ { إذَا أُعْطِيَ رَضِيَ , وَإِذَا مُنِعَ سَخِطَ } كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُك فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } فَرِضَاهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ , وَسُخْطُهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ , وَهَكَذَا حَالُ مَنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِرِئَاسَةٍ أَوْ بِصُورَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَهْوَاءِ نَفْسِهِ إنْ حَصَلَ لَهُ رَضِيَ , وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ سَخِطَ , فَهَذَا عَبْدُ مَا يَهْوَاهُ مِنْ ذَلِكَ , وَهُوَ رَقِيقٌ لَهُ , إذْ الرِّقُّ وَالْعُبُودِيَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ رِقُّ الْقَلْبِ وَعُبُودِيَّتُهُ , فَمَا اسْتَرَقَّ الْقَلْبَ وَاسْتَعْبَدَهُ فَهُوَ عَبْدُهُ . وَلِهَذَا يُقَالُ : الْعَبْدُ حُرٌّ مَا قَنَعَ وَالْحُرُّ عَبْدٌ مَا طَمَعَ وَقَالَ الْقَائِلُ : أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي وَلَوْ أَنِّي قَنَعْت لَكُنْت حُرًّا وَيُقَالُ : الطَّمَعُ غُلٌّ فِي الْعُنُقِ قَيْدٌ فِي الرِّجْلِ , فَإِذَا زَالَ الْغُلُّ مِنْ الْعُنُقِ زَالَ الْقَيْدُ مِنْ الرِّجْلِ . وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : الطَّمَعُ فَقْرٌ , وَالْيَأْسُ غِنًى , وَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا يَئِسَ مِنْ شَيْءٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ . وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ ; فَإِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَيْأَسُ مِنْهُ لَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَطْمَعُ بِهِ , وَلَا يَبْقَى قَلْبُهُ فَقِيرًا إلَيْهِ , وَلَا إلَى مَنْ يَفْعَلُهُ , وَأَمَّا إذَا طَمِعَ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَرَجَاهُ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ , فَصَارَ فَقِيرًا إلَى حُصُولِهِ ; وَإِلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِهِ , وَهَذَا فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ صلى الله عليه وسلم : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . فَالْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِزْقٍ , مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ , فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِنْ اللَّهِ صَارَ عَبْدًا لِلَّهِ , فَقِيرًا إلَيْهِ , وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إلَيْهِ . وَلِهَذَا كَانَتْ " مَسْأَلَةُ الْمَخْلُوقِ " مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ , وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ , وَفِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ , وَالسُّنَنِ , وَالْمَسَانِيدِ : كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ } وَقَوْلِهِ : { مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ } وَقَوْلِهِ : { لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ , أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ , أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ } هَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحِ , وَفِيهِ أَيْضًا : { لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَذْهَبَ فَيَحْتَطِبَ(1/169)
خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ } وَقَالَ : { مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ , وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك } فَكُرِهَ أَخْذُهُ مِنْ سُؤَالِ اللِّسَانِ وَاسْتِشْرَافِ الْقَلْبِ , وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ , وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ; وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ; وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ } وَأَوْصَى خَوَّاصٌ أَصْحَابِهِ أَنْ لَا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا . وَفِي الْمُسْنَدِ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِي إيَّاهُ ; وَيَقُولُ : خَلِيلِي أَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا " . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ , وَغَيْرِهِ : عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ النَّبِيَّ بَايَعَهُ فِي طَائِفَةٍ وَأَسَرَّ إلَيْهِمْ كَلِمَةً خَفِيَّةً : أَنْ لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا , فَكَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمْ , وَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِي إيَّاهُ } وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَسْأَلَةِ الْخَالِقِ , وَالنَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَخْلُوقِ ; فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّك فَارْغَبْ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عَبَّاسٍ : { إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ ; وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ } وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } وَلَمْ يَقُلْ فَابْتَغُوا الرِّزْقَ عِنْدَ اللَّهِ ; لِأَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ يُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ ; كَأَنَّهُ قَالَ لَا تَبْتَغُوا الرِّزْقَ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } وَالْإِنْسَانُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُصُولِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ وَنَحْوِهِ ; وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ ; وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ شُرِعَ لَهُ أَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُ لِلَّهِ ; فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ وَإِلَيْهِ يَشْتَكِي ; كَمَا قَالَ يَعْقُوبُ عليه السلام : { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " " وَالصَّفْحَ الْجَمِيلَ " " وَالصَّبْرَ الْجَمِيلَ " وَقَدْ قِيلَ : إنَّ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " هُوَ هَجْرٌ بِلَا أَذًى , وَالصَّفْحَ الْجَمِيلَ صَفْحٌ بِلَا مُعَاتَبَةٍ . وَالصَّبْرَ الْجَمِيلَ صَبْرٌ بِغَيْرِ شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ ; وَلِهَذَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَرَضِهِ أَنَّ طَاوُسًا كَانَ يَكْرَهُ أَنِينَ الْمَرِيضِ وَيَقُولُ : إنَّهُ شَكْوَى فَمَا أَنَّ أَحْمَدُ حَتَّى مَاتَ . وَأَمَّا الشَّكْوَى إلَى الْخَالِقِ فَلَا تَنَافِي الصَّبْرَ الْجَمِيلَ ; فَإِنَّ يَعْقُوبَ قَالَ : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } وَقَالَ : { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ } . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه . يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِسُورَةِ ( يُونُسَ ) , ( وَيُوسُفَ ) , ( وَالنَّحْلِ ) فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي قِرَاءَتِهِ فَبَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ . وَمِنْ دُعَاءِ مُوسَى : " اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ , وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى , وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ , وَبِكَ الْمُسْتَغَاثُ , وَعَلَيْك التُّكْلَانُ , وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك " . وَفِي الدُّعَاءِ الَّذِي دَعَا بِهِ النَّبِيُّ لَمَّا فَعَلَ بِهِ أَهْلُ الطَّائِفِ مَا فَعَلُوا : { اللَّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي ; وَقِلَّةَ حِيلَتِي ; وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ ; أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي . اللَّهُمَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي , أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي ; إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي ; غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك أَوْسَعُ لِي , أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ ; وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك ; أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُك ; لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ; فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك } - وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ - { وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك } . وَكُلَّمَا قَوِيَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَجَائِهِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَدَفْعِ ضَرُورَتِهِ(1/170)
قَوِيَتْ عُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَحُرِّيَّتُهُ مِمَّا سِوَاهُ ; فَكَمَا أَنَّ طَمَعَهُ فِي الْمَخْلُوقِ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ فَيَأْسُهُ مِنْهُ يُوجِبُ غِنَى قَلْبِهِ عَنْهُ . كَمَا قِيلَ : اسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْت تَكُنْ نَظِيرَهُ , وَافْضُلْ عَلَى مَنْ شِئْت تَكُنْ أَمِيرَهُ ; وَاحْتَجْ إلَى مَنْ شِئْت تَكُنْ أَسِيرَهُ . فَكَذَلِكَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي رَبِّهِ وَرَجَاؤُهُ لَهُ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ : وَإِعْرَاضُ قَلْبِهِ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ وَالرَّجَاءِ لَهُ يُوجِبُ انْصِرَافَ قَلْبِهِ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ ; لَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ يَرْجُو الْمَخْلُوقَ وَلَا يَرْجُو الْخَالِقَ ; بِحَيْثُ يَكُونُ قَلْبُهُ مُعْتَمِدًا إمَّا عَلَى رِئَاسَتِهِ وَجُنُودِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَمَمَالِيكِهِ ; وَإِمَّا عَلَى أَهْلِهِ وَأَصْدِقَائِهِ ; وَإِمَّا عَلَى أَمْوَالِهِ وَذَخَائِرِهِ ; وَإِمَّا عَلَى سَادَاتِهِ وَكُبَرَائِهِ ; كَمَالِكِهِ وَمِلْكِهِ ; وَشَيْخِهِ وَمَخْدُومِهِ وَغَيْرِهِمْ ; مِمَّنْ هُوَ قَدْ مَاتَ أَوْ يَمُوتُ قَالَ تَعَالَى { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } . وَكُلُّ مَنْ عَلَّقَ قَلْبَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَنْ يَنْصُرُوهُ , أَوْ يَرْزُقُوهُ , أَوْ أَنْ يُهْدُوهُ خَضَعَ قَلْبُهُ لَهُمْ ; وَصَارَ فِيهِ مِنْ الْعُبُودِيَّةِ لَهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ ; وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ أَمِيرًا لَهُمْ مُدَبِّرًا لَهُمْ مُتَصَرِّفًا بِهِمْ ; فَالْعَاقِلُ يَنْظُرُ إلَى الْحَقَائِقِ لَا إلَى الظَّوَاهِرِ ; فَالرَّجُلُ إذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِامْرَأَةٍ وَلَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً لَهُ يَبْقَى قَلْبُهُ أَسِيرًا لَهَا تَحْكُمُ فِيهِ وَتَتَصَرَّفُ بِمَا تُرِيدُ ; وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ سَيِّدُهَا لِأَنَّهُ زَوْجُهَا . وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ أَسِيرُهَا وَمَمْلُوكُهَا لَا سِيَّمَا إذَا دَرَتْ بِفَقْرِهِ إلَيْهَا , وَعِشْقِهِ لَهَا ; وَأَنَّهُ لَا يَعْتَاضُ عَنْهَا بِغَيْرِهَا ; فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَحْكُمُ فِيهِ بِحُكْمِ السَّيِّدِ الْقَاهِرِ الظَّالِمِ فِي عَبْدِهِ الْمَقْهُورِ ; الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ مِنْهُ بَلْ أَعْظَمُ . فَإِنَّ أَسْرَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ أَسْرِ الْبَدَنِ , وَاسْتِعْبَادَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِعْبَادِ الْبَدَنِ , فَإِنَّ مَنْ اسْتَعْبَدَ بَدَنَهُ وَاسْتَرَقَّ لَا يُبَالِي إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُسْتَرِيحًا مِنْ ذَلِكَ مُطْمَئِنًّا , بَلْ يُمْكِنُهُ الِاحْتِيَالُ فِي الْخَلَاصِ , وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَلْبُ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ رَقِيقًا مُسْتَعْبَدًا مُتَيَّمًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الذُّلُّ وَالْأَسْرُ الْمَحْضُ , وَالْعُبُودِيَّةُ لِمَا اسْتَعْبَدَ الْقَلْبُ . وَعُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ وَأَسْرُهُ هِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ , فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ أَسَرَهُ كَافِرٌ ; أَوْ اسْتَرَقَّهُ فَاجِرٌ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ قَائِمًا بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ , وَمَنْ اسْتَعْبَدَ بِحَقٍّ إذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ لَهُ أَجْرَانِ , وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالْكُفْرِ فَتَكَلَّمَ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطَمْئِنٌ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ فَصَارَ عَبْدًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَهَذَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ , وَلَوْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَلِكَ النَّاسِ . فَالْحُرِّيَّةُ حُرِّيَّةُ الْقَلْبِ , وَالْعُبُودِيَّةُ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ , كَمَا أَنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ , وَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ } . وَهَذَا لَعَمْرِي إذَا كَانَ قَدْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةٌ مُبَاحَةٌ , فَأَمَّا مَنْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةٌ مُحَرَّمَةٌ : امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ , فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي لَا يُدَانُ فِيهِ . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عَذَابًا وَأَقَلِّهِمْ ثَوَابًا , فَإِنَّ الْعَاشِقَ لِصُورَةٍ إذَا بَقِيَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا , مُسْتَعْبَدًا لَهُ اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ , وَلَوْ سَلِمَ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى , فَدَوَامُ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا بِلَا فِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ , مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ وَيَزُولُ أَثَرُهُ مِنْ قَلْبِهِ ,(1/171)
وَهَؤُلَاءِ يُشَبَّهُونَ بِالسُّكَارَى وَالْمَجَانِينِ . كَمَا قِيلَ : سَكْرَانِ : سُكْرُ هَوًى , وَسُكْرُ مُدَامَةٍ وَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سَكْرَانِ , وَقِيلَ : قَالُوا جُنِنْت بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْت لَهُمْ الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَذَا الْبَلَاءِ إعْرَاضُ الْقَلْبِ عَنْ اللَّهِ , فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ طَعْمَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ قَطُّ أَحْلَى مِنْ ذَلِكَ , وَلَا أَلَذُّ وَلَا أَطْيَبُ , وَالْإِنْسَانُ لَا يَتْرُكُ مَحْبُوبًا إلَّا بِمَحْبُوبٍ آخَرَ يَكُونُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهُ , أَوْ خَوْفًا مِنْ مَكْرُوهٍ , فَالْحُبُّ الْفَاسِدُ إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ عَنْهُ بِالْحُبِّ الصَّالِحِ ; أَوْ بِالْخَوْفِ مِنْ الضَّرَرِ . قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } , فَاَللَّهُ يَصْرِفُ عَنْ عَبْدِهِ مَا يَسُوءُهُ مِنْ الْمَيْلِ إلَى الصُّوَرِ وَالتَّعَلُّقِ بِهَا , وَيَصْرِفُ عَنْهُ الْفَحْشَاءَ بِإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ . وَلِهَذَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَذُوقَ حَلَاوَةَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصَ لَهُ تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهَا , فَإِذَا ذَاقَ طَعْمَ الْإِخْلَاصِ , وَقَوِيَ فِي قَلْبِهِ انْقَهَرَ لَهُ هَوَاهُ بِلَا عِلَاجٍ , قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } . فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا دَفْعٌ لِلْمَكْرُوهِ , وَهُوَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ , وَفِيهَا تَحْصِيلُ الْمَحْبُوبِ , وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ , وَحُصُولُ هَذَا الْمَحْبُوبِ أَكْبَرُ مِنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ , فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ , وَعِبَادَةُ الْقَلْبِ لِلَّهِ مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا . وَأَمَّا انْدِفَاعُ الشَّرِّ عَنْهُ فَهُوَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ وَالْقَلْبُ خَلْقٌ يُحِبُّ الْحَقَّ وَيُرِيدُهُ وَيَطْلُبُهُ . فَلَمَّا عَرَضَتْ لَهُ إرَادَةُ الشَّرِّ طَلَبَ دَفْعَ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ يَفْسُدُ الْقَلْبُ كَمَا يَفْسُدُ الزَّرْعُ بِمَا يَنْبُتُ فِيهِ مِنْ الدَّغَلِ , وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا , وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } . وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى , وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } . وَقَالَ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ غَضَّ الْبَصَرِ , وَحِفْظَ الْفَرْجِ هُوَ أَزْكَى لِلنَّفْسِ . وَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ الْفَوَاحِشِ مِنْ زَكَاةِ النُّفُوسِ , وَزَكَاةُ النُّفُوسِ تَتَضَمَّنُ زَوَالَ جَمِيعِ الشُّرُورِ مِنْ الْفَوَاحِشِ , وَالظُّلْمِ , وَالشِّرْكِ , وَالْكَذِبِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ طَالِبُ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ قَلْبُهُ رَقِيقٌ لِمَنْ يُعِينُهُ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُقَدَّمَهُمْ وَالْمُطَاعَ فِيهِمْ . فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ يَرْجُوهُمْ وَيَخَافُهُمْ , فَيَبْذُلُ لَهُمْ الْأَمْوَالَ وَالْوِلَايَاتِ , وَيَعْفُو عَنْهُمْ لِيُطِيعُوهُ , وَيُعِينُوهُ , فَهُوَ فِي الظَّاهِرِ رَئِيسٌ مُطَاعٌ , وَفِي الْحَقِيقَةِ عَبْدٌ مُطِيعٌ لَهُمْ , وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كِلَيْهِمَا فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِلْآخَرِ , وَكِلَاهُمَا تَارِكٌ لِحَقِيقَةِ عِبَادَةِ اللَّهِ , وَإِذَا كَانَ تَعَاوُنُهُمَا عَلَى الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَانَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْفَاحِشَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ , فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّخْصَيْنِ لِهَوَاهُ الَّذِي اسْتَعْبَدَهُ وَاسْتَرَقَّهُ يَسْتَعْبِدُهُ الْآخَرُ . وَهَكَذَا أَيْضًا طَالِبُ الْمَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَعْبِدُهُ وَيَسْتَرِقُّهُ , وَهَذِهِ الْأُمُورُ نَوْعَانِ : مِنْهَا : مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ , وَشَرَابِهِ , وَمَسْكَنِهِ , وَمُنْكَحِهِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَهَذَا يَطْلُبُهُ مِنْ اللَّهِ وَيَرْغَبُ إلَيْهِ فِيهِ , فَيَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِي حَاجَتِهِ بِمَنْزِلَةِ حِمَارِهِ الَّذِي يَرْكَبُهُ , وَبِسَاطِهِ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ(1/172)
; بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْكَنِيفِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعْبِدَهُ , فَيَكُونَ هَلُوعًا إنْ مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ; وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا . وَمِنْهَا : مَا لَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ , فَهَذِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِهَا ; فَإِذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا صَارَ مُسْتَعْبَدًا لَهَا ; وَرُبَّمَا صَارَ مُعْتَمِدًا عَلَى غَيْرِ اللَّهِ , فَلَا يَبْقَى مَعَهُ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ , وَلَا حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ; بَلْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ , وَشُعْبَةٌ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ , وَهَذَا مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ , تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ , تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ , تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ } وَهَذَا هُوَ عَبْدُ هَذِهِ الْأُمُورِ , فَلَوْ طَلَبَهَا مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَعْطَاهُ إيَّاهَا رَضِيَ ; وَإِذَا مَنَعَهُ إيَّاهَا سَخِطَ , وَإِنَّمَا عَبْدُ اللَّهِ مَنْ يُرْضِيهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ ; وَيُسْخِطُهُ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ ; وَيُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَيَبْغُضُ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ; وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِي أَعْدَاءَ اللَّهِ تَعَالَى , وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ , وَأَبْغَضَ لِلَّهِ , وَأَعْطَى لِلَّهِ , وَمَنَعَ لِلَّهِ : فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ } وَقَالَ : { أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ : الْحُبُّ فِي اللَّهِ , وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ } . وَفِي الصَّحِيحِ : عَنْهُ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا , وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ , وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } , فَهَذَا وَافَقَ رَبَّهُ فِيمَا يُحِبُّهُ , وَمَا يَكْرَهُهُ فَكَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا , وَأَحَبُّ الْمَخْلُوقِ لِلَّهِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ , فَكَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ لِلَّهِ , فَإِنَّ مَحَبَّةَ مَحْبُوبِ الْمَحْبُوبِ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّةِ الْمَحْبُوبِ ; فَإِذَا أَحَبَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَ اللَّهِ لِأَجْلِ قِيَامِهِمْ بِمَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ , فَقَدْ أَحَبَّهُمْ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ } . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } فَإِنَّ الرَّسُولَ يَأْمُرُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَيَنْهَى عَمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُخْبِرُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ التَّصْدِيقَ بِهِ ; فَمَنْ كَانَ مُحِبًّا لِلَّهِ لَزِمَ أَنْ يَتْبَعَ الرَّسُولَ فَيُصَدِّقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَيُطِيعُهُ فِيمَا أَمَرَ وَيَتَأَسَّى بِهِ فِيمَا فَعَلَ , وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ فَعَلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ; فَيُحِبُّهُ اللَّهُ ; فَجَعَلَ اللَّهُ لِأَهْلِ مَحَبَّتِهِ عَلَامَتَيْنِ : اتِّبَاعَ الرَّسُولِ ; وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَادَ حَقِيقَتُهُ الِاجْتِهَادُ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ; وَمِنْ دَفْعِ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } فَتَوَعَّدَ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ بِهَذَا الْوَعِيدِ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ , وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } . وَفِي الصَّحِيحِ : أَنَّ { عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي : فَقَالَ : لَا يَا عُمَرُ , حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك(1/173)
مِنْ نَفْسِك فَقَالَ : فَوَاَللَّهِ , لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ : الْآنَ يَا عُمَرُ } . فَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِمُوَالَاةِ الْمَحْبُوبِ , وَهُوَ مُوَافَقَتُهُ فِي حُبِّ مَا يُحِبُّ , وَبُغْضِ مَا يَبْغُضُ , وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى , وَيَبْغُضُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُبَّ يُحَرِّكُ إرَادَةَ الْقَلْبِ , فَكُلَّمَا قَوِيَتْ الْمَحَبَّةُ فِي الْقَلْبِ طَلَب الْقَلْبُ فِعْلَ الْمَحْبُوبَاتِ , فَإِذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ تَامَّةً اسْتَلْزَمَتْ إرَادَةً جَازِمَةً فِي حُصُولِ الْمَحْبُوبَاتِ , فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَيْهَا حَصَّلَهَا , وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ الْفَاعِلِ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ; وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا } . وَقَالَ : { إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا , وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ . قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ . قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } .(1/174)
" وَالْجِهَادُ " هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَدَفْعِ مَا يَكْرَهُهُ الْحَقُّ , فَإِذَا تَرَكَ الْعَبْدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْجِهَادِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَلْبِهِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحْبُوبَاتِ لَا تُنَالُ غَالِبًا إلَّا بِاحْتِمَالِ الْمَكْرُوهَاتِ , سَوَاءٌ كَانَتْ مَحَبَّةً صَالِحَةً أَوْ فَاسِدَةً , فَالْمُحِبُّونَ لِلْمَالِ وَالرِّئَاسَةِ وَالصُّوَرِ لَا يَنَالُونَ مَطَالِبَهُمْ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , فَالْمُحِبُّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ مَا يَرَى ذُو الرَّأْيِ مِنْ الْمُحِبِّينَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا يَحْتَمِلُونَ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِهِمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ إذَا كَانَ مَا يَسْلُكُهُ أُولَئِكَ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُشِيرُ بِهِ الْعَقْلُ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } . نَعَمْ , قَدْ يَسْلُكُ الْمُحِبُّ لِضَعْفِ عَقْلِهِ وَفَسَادِ تَصَوُّرِهِ طَرِيقًا لَا يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ , فَمِثْلُ هَذِهِ الطَّرِيقِ لَا تُحْمَدُ إذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ صَالِحَةً مَحْمُودَةً , فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ فَاسِدَةً وَالطَّرِيقُ غَيْرَ مُوَصِّلٍ , كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَهَوِّرُونَ فِي طَلَبِ الْمَالِ , وَالرِّئَاسَةِ وَالصُّوَرِ فِي حُبِّ أُمُورٍ تُوجِبُ لَهُمْ ضَرَرًا , وَلَا تُحَصِّلُ لَهُمْ مَطْلُوبًا , وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الطُّرُقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا الْعَقْلُ لِحُصُولِ مَطْلُوبِهِ . وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْقَلْبُ حُبًّا لِلَّهِ ازْدَادَ لَهُ عُبُودِيَّةً , وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ عُبُودِيَّةً ازْدَادَ لَهُ حُبًّا وَحُرِّيَّةً عَمَّا سِوَاهُ , وَالْقَلْبُ فَقِيرٌ بِالذَّاتِ إلَى اللَّهِ مِنْ " وَجْهَيْنِ " : مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَةِ وَهِيَ الْعِلَّةُ الْغَائِبَةُ وَمِنْ جِهَةِ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ , وَهِيَ الْعِلَّةُ الْفَاعِلِيَّةُ . فَالْقَلْبُ لَا يَصْلُحُ وَلَا يَفْلَحُ , وَلَا يَلْتَذُّ , وَلَا يُسَرُّ , وَلَا يَطِيبُ , وَلَا يَسْكُنُ , وَلَا يَطْمَئِنُّ إلَّا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ , وَحُبِّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ , وَلَوْ حَصَلَ لَهُ كُلُّ مَا يَلْتَذُّ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ يَطْمَئِنَّ , وَلَمْ يَسْكُنْ , إذْ فِيهِ فَقْرٌ ذَاتِيٌّ إلَى رَبِّهِ , وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُ , وَمَحْبُوبُهُ , وَمَطْلُوبُهُ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ الْفَرَحُ , وَالسُّرُورُ , وَاللَّذَّةُ , وَالنِّعْمَةُ , وَالسُّكُونُ , وَالطُّمَأْنِينَةُ . وَهَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ , لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ لَهُ إلَّا اللَّهُ , فَهُوَ دَائِمًا مُفْتَقِرٌ إلَى حَقِيقَةِ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَإِنَّهُ لَوْ أُعِينَ عَلَى حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ وَيَطْلُبُهُ وَيَشْتَهِيهِ يُرِيدُهُ , وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِبَادَتُهُ لِلَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ غَايَةَ مُرَادِهِ وَنِهَايَةَ مَقْصُودِهِ وَهُوَ الْمَحْبُوبُ لَهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ إنَّمَا يُحِبُّهُ لِأَجْلِهِ لَا يُحِبُّ شَيْئًا لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهَ , فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ حَقَّقَ حَقِيقَةَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَلَا حَقَّقَ التَّوْحِيدَ , وَالْعُبُودِيَّةَ , وَالْمَحَبَّةَ , وَكَانَ فِيهِ مِنْ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ , بَلْ مِنْ الْأَلَمِ , وَالْحَسْرَةِ , وَالْعَذَابِ , بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَلَوْ سَعَى فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ , مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ , مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي حُصُولِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ , فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ , فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَطْلُوبُ الْمَحْبُوبُ الْمُرَادُ الْمَعْبُودُ . وَمِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَسْئُولُ الْمُسْتَعَانُ بِهِ الْمُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ , فَهُوَ إلَهُهُ لَا إلَهَ لَهُ غَيْرُهُ , وَهُوَ رَبُّهُ لَا رَبَّ لَهُ سِوَاهُ . وَلَا تَتِمُّ عُبُودِيَّتُهُ لِلَّهِ إلَّا بِهَذَيْنِ " فَمَتَى كَانَ يُحِبُّ غَيْرَ اللَّهِ لِذَاتِهِ أَوْ يَلْتَفِتُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ(1/175)
أَنَّهُ يُعِينُهُ كَانَ عَبْدًا لِمَا أَحَبَّهُ , وَعَبْدًا لِمَا رَجَاهُ بِحَسَبِ حُبِّهِ لَهُ وَرَجَائِهِ إيَّاهُ . وَإِذَا لَمْ يُحِبَّ لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهَ , وَكُلَّمَا أَحَبَّ سِوَاهُ فَإِنَّمَا أَحَبَّهُ لَهُ , وَلَمْ يَرْجُ قَطُّ شَيْئًا إلَّا اللَّهَ وَإِذَا فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنْ الْأَسْبَابِ , أَوْ حَصَّلَ مَا حَصَّلَ مِنْهَا كَانَ مُشَاهِدًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهَا وَقَدَّرَهَا وَأَنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاَللَّهُ رَبُّهُ , وَمَلِيكُهُ , وَخَالِقُهُ , وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ , كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ تَمَامِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ بِحَسَبِ مَا قُسِمَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَالنَّاسُ فِي هَذَا عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ لَا يُحْصِي طَرَفَيْهَا إلَّا اللَّهُ . فَأَكْمَلُ الْخَلْقِ , وَأَفْضَلُهُمْ , وَأَعْلَاهُمْ , وَأَقْرَبُهُمْ إلَى اللَّهِ , وَأَقْوَاهُمْ , وَأَهْدَاهُمْ : أَتَمُّهُمْ عُبُودِيَّةً لِلَّهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ , وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ , وَهُوَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ , فَالْمُسْتَسْلِمُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مُشْرِكٌ , وَالْمُمْتَنِعُ عَنْ الِاسْتِسْلَامِ لَهُ مُسْتَكْبِرٌ , وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ كَمَا أَنَّ النَّارَ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } فَجَعَلَ الْكِبْرَ مُقَابِلًا لِلْإِيمَانِ , فَإِنَّ الْكِبْرَ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ , كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ : الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي , فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته } فَالْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ , وَالْكِبْرِيَاءُ أَعْلَى مِنْ الْعَظَمَةِ ; وَلِهَذَا جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ , كَمَا جَعَلَ الْعَظَمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ . وَلِهَذَا كَانَ شِعَارُ الصَّلَوَاتِ , وَالْأَذَانِ , وَالْأَعْيَادِ هُوَ : التَّكْبِيرُ , وَكَانَ مُسْتَحَبًّا فِي الْأَمْكِنَةِ الْعَالِيَةِ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ , وَإِذَا عَلَا الْإِنْسَانُ شُرَفًا أَوْ رَكِبَ دَابَّةً وَنَحْوَ ذَلِكَ , وَبِهِ يُطْفَأُ الْحَرِيقُ وَإِنْ عَظُمَ , وَعِنْدَ الْأَذَانِ يَهْرُبُ الشَّيْطَانُ . قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } . وَكُلُّ مَنْ اسْتَكْبَرَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَهُ , فَإِنَّ الْإِنْسَانَ حَسَّاسٌ يَتَحَرَّكُ بِالْإِرَادَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ } فَالْحَارِثُ الْكَاسِبُ الْفَاعِلُ , وَالْهَمَّامُ فَعَّالٌ مِنْ الْهَمِّ , وَالْهَمُّ أَوَّلُ الْإِرَادَةِ , فَالْإِنْسَانُ لَهُ إرَادَةٌ دَائِمًا , وَكُلُّ إرَادَةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ تَنْتَهِي إلَيْهِ , فَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ مُرَادٍ مَحْبُوبٍ هُوَ مُنْتَهَى حُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ . فَمَنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ مَعْبُودَهُ وَمُنْتَهَى حُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ ذَلِكَ , فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُرَادٌ مَحْبُوبٌ يَسْتَعْبِدُهُ غَيْرُ اللَّهِ , فَيَكُونُ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ : إمَّا الْمَالُ , وَإِمَّا الْجَاهُ , وَإِمَّا الصُّوَرُ , وَإِمَّا مَا يَتَّخِذُهُ إلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ : كَالشَّمْسِ , وَالْقَمَرِ , وَالْكَوَاكِبِ , وَالْأَوْثَانِ , وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ , وَالصَّالِحِينَ , أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ , الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمْ أَرْبَابًا , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ . وَإِذَا كَانَ عَبْدًا لِغَيْرِ اللَّهِ يَكُونُ مُشْرِكًا , وَكُلُّ مُسْتَكْبِرٍ فَهُوَ مُشْرِكٌ , وَلِهَذَا كَانَ فِرْعَوْنُ مِنْ أَعْظَمِ الْخَلْقِ اسْتِكْبَارًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ , وَكَانَ مُشْرِكًا . قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } إلَى قَوْلِهِ : { وَقَالَ مُوسَى إنِّي عُذْت بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا(1/176)
يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } إلَى قَوْلِهِ : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ } وَقَالَ : { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } , وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَقَدْ وُصِفَ فِرْعَوْنُ بِالشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ : { وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَك وَآلِهَتَك } . بَلْ الِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْظَمَ اسْتِكْبَارًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَانَ أَعْظَمَ إشْرَاكًا بِاَللَّهِ ; لِأَنَّهُ كُلَّمَا اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ ازْدَادَ فَقْرُهُ وَحَاجَتُهُ إلَى الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ : مَقْصُودُ الْقَلْبِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ , فَيَكُونُ مُشْرِكًا بِمَا اسْتَعْبَدَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَلَنْ يَسْتَغْنِيَ الْقَلْبُ عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ مَوْلَاهُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَسْتَعِينُ إلَّا بِهِ , وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ , وَلَا يَفْرَحُ إلَّا بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ , وَلَا يَكْرَهُ إلَّا مَا يَبْغُضُهُ الرَّبُّ وَيَكْرَهُهُ , وَلَا يُوَالِي إلَّا مَنْ وَالَاهُ اللَّهُ , وَلَا يُعَادِي إلَّا مَنْ عَادَاهُ اللَّهُ , وَلَا يُحِبُّ إلَّا لِلَّهِ , وَلَا يَبْغُضُ شَيْئًا إلَّا لِلَّهِ , وَلَا يُعْطِي إلَّا لِلَّهِ , وَلَا يَمْنَعُ إلَّا لِلَّهِ , فَكُلَّمَا قَوِيَ إخْلَاصُ دِينِهِ لِلَّهِ كَمُلَتْ عُبُودِيَّتُهُ وَاسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ , وَبِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ يُبْرِئُهُ مِنْ الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ , وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النَّصَارَى , وَالْكِبْرُ غَالِبٌ عَلَى الْيَهُودِ . قَالَ تَعَالَى فِي النَّصَارَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَالَ فِي الْيَهُودِ : { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } . وَلَمَّا كَانَ الْكِبْرُ مُسْتَلْزِمًا لِلشِّرْكِ , وَالشِّرْكُ ضِدُّ الْإِسْلَامِ , وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ - قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاَللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاَللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } - كَانَ الْأَنْبِيَاءُ جَمِيعُهُمْ مَبْعُوثِينَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ , فَهُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ , لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الْآخِرِينَ . قَالَ نُوحٌ : { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ فِي حَقِّ إبْرَاهِيمَ : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ , إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَقَالَ يُوسُفُ : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } وَقَالَ مُوسَى : { يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاَللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ , فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا(1/177)
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } وَقَالَتْ بِلْقِيسُ { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْت مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } وَقَالَ { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وَقَالَ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } فَذَكَرَ إسْلَامَ الْكَائِنَاتِ طَوْعًا وَكَرْهًا , لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعَهَا مُتَعَبِّدَةٌ لَهُ التَّعَبُّدَ الْعَامَّ , سَوَاءٌ أَقَرَّ الْمُقِرُّ بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَهُ , وَهُمْ مَدِينُونَ مُدَبَّرُونَ , فَهُمْ مُسْلِمُونَ لَهُ طَوْعًا وَكَرْهًا . لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ خُرُوجٌ عَمَّا شَاءَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَضَاهُ , وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ , وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ , وَمَلِيكُهُمْ يُصَرِّفُهُمْ كَيْفَ يَشَاءُ , وَهُوَ خَالِقُهُمْ كُلِّهِمْ وَبَارِئُهُمْ وَمُصَوِّرُهُمْ , وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مَرْبُوبٌ , مَصْنُوعٌ , مَفْطُورٌ , فَقِيرٌ , مُحْتَاجٌ , مُعَبَّدٌ , مَقْهُورٌ , وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ . وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَقَ مَا خَلَقَ بِأَسْبَابٍ , فَهُوَ خَالِقُ السَّبَبِ وَالْمُقَدِّرُ لَهُ , وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ كَافْتِقَارِ هَذَا , وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِفِعْلٍ وَلَا دَفْعِ ضَرَرٍ بَلْ كُلُّ مَا هُوَ سَبَبٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى سَبَبٍ آخَرَ يُعَاوِنُهُ وَإِلَى مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الضِّدَّ الَّذِي يُعَارِضُهُ وَيُمَانِعُهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ , لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ يُعَاوِنُهُ وَلَا ضِدٌّ يُنَاوِئُهُ وَيُعَارِضُهُ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ : { يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ , إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ , وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا } إلَى قوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَيُّنَا لَمْ يُلْبِسْ إيمَانَهُ بِظُلْمٍ , فَقَالَ : إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ , أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } } . وَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ إمَامُ الْحُنَفَاءِ الْمُخْلَصِينَ حَيْثُ بُعِثَ وَقَدْ طَبَّقَ الْأَرْضَ دِينُ الْمُشْرِكِينَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُك لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } فَبَيَّنَ أَنَّ عَهْدَهُ بِالْإِمَامَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الظَّالِمَ , فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ إمَامًا , وَأَعْظَمُ الظُّلْمِ الشِّرْكُ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } . " وَالْأُمَّةُ " هُوَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ , كَمَا أَنَّ " الْقُدْوَةَ " الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ , وَإِنَّمَا بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَهُ بِمِلَّتِهِ قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ أَوْلَى النَّاسِ(1/178)
بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ إبْرَاهِيمَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ النَّبِيِّ وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } وَقَالَ : { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا , وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ } - يَعْنِي نَفْسَهُ - وَقَالَ { لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ } . وَقَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ , أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ , فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَكُلُّ هَذَا فِي الصَّحِيحِ . وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ : ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَيَّامٍ , وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ رِسَالَتِهِ . فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَحْقِيقَ تَمَامِ مُخَالَلَتِهِ لِلَّهِ الَّتِي أَصْلُهَا مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ , وَمَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ خِلَافًا لِلْجَهْمِيَّةِ . وَفِي ذَلِكَ تَحْقِيقُ تَوْحِيدِ اللَّهِ , وَأَنْ لَا يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ , وَرَدٌّ عَلَى أَشْبَاهِ الْمُشْرِكِينَ . وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَبْخَسُونَ الصِّدِّيقَ حَقَّهُ , وَهُمْ أَعْظَمُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ إشْرَاكًا بِالْبَشَرِ .(1/179)
" وَالْخُلَّةُ " هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ مِنْ الْعَبْدِ كَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ , وَمِنْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ كَمَالَ الرُّبُوبِيَّةِ لِعِبَادِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ , وَلَفْظُ الْعُبُودِيَّةِ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الذُّلِّ , وَكَمَالَ الْحُبِّ , فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : قَلْبٌ مُتَيَّمٌ إذَا كَانَ مُتَعَبِّدًا لِلْمَحْبُوبِ , وَالْمُتَيَّمُ الْمُتَعَبِّدُ , وَتَيَّمَ اللَّهُ عَبَدَهُ , وَهَذَا عَلَى الْكَمَالِ حَصَلَ لِإِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ; وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلٌ ; إذْ الْخُلَّةُ لَا تَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ فَإِنَّهُ كَمَا قِيلَ فِي الْمَعْنَى . قَدْ تَخَلَّلَتْ مَسْلَكُ الرُّوحِ مِنِّي وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا بِخِلَافِ أَصْلِ الْحُبِّ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { فِي الْحَسَنِ وَأُسَامَةَ : اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا } { وَسَأَلَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ : عَائِشَةُ قَالَ : فَمِنْ الرِّجَالِ ؟ قَالَ : أَبُوهَا وَقَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه : لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ , وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ , وَيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ , وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ , وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ , وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ , وَيُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ , وَقَالَ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } فَقَدْ أَخْبَرَ بِمَحَبَّتِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ , وَمَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ , حَتَّى قَالَ : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } , وَأَمَّا الْخُلَّةُ فَخَاصَّةٌ . وَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ : إنَّ مُحَمَّدًا حَبِيبُ اللَّهِ . وَإِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ , وَظَنُّهُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ فَوْقَ الْخُلَّةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ , فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَيْضًا خَلِيلُ اللَّهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ . وَمَا يُرْوَى " أَنَّ الْعَبَّاسَ يُحْشَرُ بَيْنَ حَبِيبٍ وَخَلِيلٍ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ , فَأَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ لَا تَصْلُحُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهَا . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مَحَبَّةَ مَا أَحَبَّ , كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ , وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ وُجُودَ الْحَلَاوَةِ بِالشَّيْءِ يَتْبَعُ الْمَحَبَّةَ لَهُ , فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَوْ اشْتَهَاهُ إذَا حَصَلَ لَهُ مُرَادُهُ , فَإِنَّهُ يَجِدُ الْحَلَاوَةَ وَاللَّذَّةَ وَالسُّرُورَ بِذَلِكَ , وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ يَحْصُلُ عَقِيبَ إدْرَاكِ الْمُلَائِمِ الَّذِي هُوَ الْمَحْبُوبُ أَوْ الْمُشْتَهِي . وَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّذَّةَ إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ , فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ غَلَطًا مُبِينًا ; فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ يَتَوَسَّطُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَاللَّذَّةِ , فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَثَلًا يَشْتَهِي الطَّعَامَ فَإِذَا أَكَلَهُ حَصَلَ لَهُ عَقِيبَ ذَلِكَ اللَّذَّةُ , فَاللَّذَّةُ تَتْبَعُ النَّظَرَ إلَى الشَّيْءِ , فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِ الْتَذَّ , فَاللَّذَّةُ تَتْبَعُ النَّظَرَ لَيْسَ نَفْسَ النَّظَرِ , وَلَيْسَتْ هِيَ رُؤْيَةَ الشَّيْءِ ; بَلْ تَحْصُلُ عَقِيبَ رُؤْيَتِهِ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } وَهَكَذَا جَمِيعُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ اللَّذَّاتِ , وَالْآلَامِ مِنْ فَرَحٍ وَحُزْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِالشُّعُورِ بِالْمَحْبُوبِ , أَوْ الشُّعُورِ بِالْمَكْرُوهِ , وَلَيْسَ نَفْسُ الشُّعُورِ هُوَ الْفَرَحُ وَلَا الْحُزْنُ . فَحَلَاوَةُ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمَّنَةِ مِنْ اللَّذَّةِ(1/180)
بِهِ وَالْفَرَحِ مَا يَجِدُهُ الْمُؤْمِنُ الْوَاجِدُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ تَتْبَعُ كَمَالَ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ , وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ تَكْمِيلُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ , وَتَفْرِيعُهَا , وَدَفْعُ ضِدِّهَا . " فَتَكْمِيلُهَا " أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا , فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِأَصْلِ الْحُبِّ , بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ . " وَتَفْرِيعُهَا " أَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ . " وَدَفْعُ ضِدِّهَا " أَنْ يَكْرَهَ ضِدَّ الْإِيمَانِ أَعْظَمَ مِنْ كَرَاهَتِهِ الْإِلْقَاءَ فِي النَّارِ , فَإِذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ , وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ ; لِأَنَّهُ أَكْمَلُ النَّاسِ مَحَبَّةً لِلَّهِ , وَأَحَقُّهُمْ بِأَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ , وَيَبْغُضَ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ , " وَالْخُلَّةُ " لَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهَا نَصِيبٌ , بَلْ قَالَ : { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا } عُلِمَ مَزِيدُ مَرْتَبَةِ الْخُلَّةِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ . وَالْمَقْصُودُ هُوَ أَنَّ " الْخُلَّةَ " " وَالْمَحَبَّةَ لِلَّهِ " تَحْقِيقُ عُبُودِيَّتِهِ ; وَإِنَّمَا يَغْلَطُ مَنْ يَغْلَطُ فِي هَذِهِ مِنْ حَيْثُ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ مُجَرَّدُ ذُلٍّ وَخُضُوعٍ فَقَطْ , لَا مَحَبَّةَ مَعَهُ , أَوْ أَنَّ الْمَحَبَّةَ فِيهَا انْبِسَاطٌ فِي الْأَهْوَاءِ , أَوْ إذْلَالٌ لَا تَحْتَمِلُهُ الرُّبُوبِيَّةُ ; وَلِهَذَا يُذْكَرُ عَنْ " ذِي النُّونِ " أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عِنْدَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَحَبَّةِ , فَقَالَ : أَمْسِكُوا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَسْمَعُهَا النُّفُوسُ فَتَدَّعِيهَا . وَكَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ مُجَالَسَةَ أَقْوَامٍ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ فِي الْمَحَبَّةِ بِلَا خَشْيَةٍ ; وَقَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ , وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ , وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حَرُورِيٌّ , وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ . وَلِهَذَا وُجِدَ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ مَنْ انْبَسَطَ فِي دَعْوَى الْمَحَبَّةِ حَتَّى أَخْرَجَهُ ذَلِكَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الرُّعُونَةِ , وَالدَّعْوَى الَّتِي تُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ وَتُدْخِلُ الْعَبْدَ فِي نَوْعٍ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ ; وَيَدَّعِي أَحَدُهُمْ دَعَاوَى تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ , أَوْ يَطْلُبُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَصْلُحُ - بِكُلِّ وَجْهٍ - إلَّا لِلَّهِ لَا يَصْلُحُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ . وَهَذَا بَابٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَسَبَبُهُ ضَعْفُ تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْهَا الرُّسُلُ وَحَرَّرَهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الَّذِي جَاءُوا بِهِ , بَلْ ضَعْفُ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُ الْعَبْدُ حَقِيقَتَهُ ; وَإِذَا ضَعُفَ الْعَقْلُ وَقَلَّ الْعِلْمُ بِالدِّينِ وَفِي النَّفْسِ مَحَبَّةٌ انْبَسَطَتْ النَّفْسُ بِحُمْقِهَا فِي ذَلِكَ , كَمَا يَنْبَسِطُ الْإِنْسَانُ فِي مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ مَعَ حُمْقِهِ وَجَهْلِهِ , وَيَقُولُ : أَنَا مُحِبٌّ فَلَا أُؤَاخَذُ بِمَا أَفْعَلُهُ مِنْ أَنْوَاعٍ يَكُونُ فِيهَا عُذْرٌ أَوْ جَهْلٌ . فَهَذَا عَيْنُ الضَّلَالِ , وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } فَإِنَّ تَعْذِيبَهُ لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مَحْبُوبِينَ وَلَا مَنْسُوبِينَ إلَيْهِ بِنِسْبَةِ الْبُنُوَّةِ , بَلْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ مَخْلُوقُونَ . فَمَنْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ مَحْبُوبُهُ , لَا يَفْعَلُ مَا يَبْغُضُهُ الْحَقُّ , وَيَسْخَطُهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ , وَمَنْ فَعَلَ الْكَبَائِرَ , وَأَصَرَّ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا , فَإِنَّ اللَّهَ يَبْغُضُ مِنْهُ ذَلِكَ ; كَمَا يُحِبُّ(1/181)
مِنْهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْخَيْرِ ; إذْ حُبُّهُ لِلْعَبْدِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ , وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّهُ لِكَوْنِ اللَّهِ يُحِبُّهُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَيْهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَنَاوُلَ السُّمِّ لَا يَضُرُّهُ مَعَ مُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ , وَعَدَمِ تَدَاوِيهِ مِنْهُ بِصِحَّةِ مِزَاجِهِ . وَلَوْ تَدَبَّرَ الْأَحْمَقُ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَصَصِ أَنْبِيَائِهِ ; وَمَا جَرَى لَهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ; وَمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ الَّذِي فِيهِ تَمْحِيصٌ لَهُمْ وَتَطْهِيرٌ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ ; عَلِمَ بَعْضَ ضَرَرِ الذُّنُوبِ بِأَصْحَابِهَا وَلَوْ كَانَ أَرْفَعَ النَّاسِ مَقَامًا , فَإِنَّ الْمُحِبَّ لِلْمَخْلُوقِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِمَصْلَحَتِهِ وَلَا مُرِيدًا لَهَا ; بَلْ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْحُبِّ - وَإِنْ كَانَ جَهْلًا وَظُلْمًا - أَنَّ ذَلِكَ سَبَبًا لِبُغْضِ الْمَحْبُوبِ لَهُ وَنُفُورِهِ عَنْهُ ; بَلْ لِعُقُوبَتِهِ .(1/182)
وَكَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ سَلَكُوا فِي دَعْوَى حُبِّ اللَّهِ أَنْوَاعًا مِنْ أُمُورِ الْجَهْلِ بِالدِّينِ ; إمَّا مِنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ ; وَإِمَّا مِنْ تَضْيِيعِ حُقُوقِ اللَّهِ , وَإِمَّا مِنْ ادِّعَاءِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا , كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ فِي النَّارِ أَحَدًا فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ ; فَقَالَ الْآخَرُ : أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ . فَالْأَوَّلُ جَعَلَ مُرِيدَهُ يُخْرِجُ كُلَّ مَنْ فِي النَّارِ ; وَالثَّانِي جَعَلَ مُرِيدَهُ يَمْنَعُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ . وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَصَبْت خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُؤْثَرُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَشْهُورِينَ ; وَهِيَ إمَّا كَذِبٌ عَلَيْهِمْ , وَإِمَّا غَلَطٌ مِنْهُمْ ; وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَصْدُرُ فِي حَالِ سُكْرٍ وَغَلَبَةٍ وَفَنَاءٍ يَسْقُطُ فِيهَا تَمْيِيزُ الْإِنْسَانِ ; أَوْ يَضْعُفُ حَتَّى لَا يَدْرِي مَا قَالَ , " وَالسُّكْرُ " هُوَ لَذَّةٌ مَعَ عَدَمِ تَمْيِيزٍ وَلِهَذَا كَانَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا صَحَا اسْتَغْفَرَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ . وَاَلَّذِينَ تَوَسَّعُوا مِنْ الشُّيُوخِ فِي سَمَاعِ الْقَصَائِدِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْحُبِّ , وَالشَّوْقِ , وَاللَّوْمِ , وَالْعَذْلِ , وَالْغَرَامِ كَانَ هَذَا أَصْلَ مَقْصِدِهِمْ ; وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ لِلْمَحَبَّةِ مِحْنَةً يَمْتَحِنُ بِهَا الْمُحِبَّ فَقَالَ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } فَلَا يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ إلَّا مَنْ يَتَّبِعُ رَسُولَهُ , وَطَاعَةُ الرَّسُولِ وَمُتَابَعَتُهُ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ . وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ يَخْرُجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَسُنَّتِهِ , وَيَدَّعِي مِنْ الْخَيَالَاتِ مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ , حَتَّى قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَتَحْلِيلَ الْحَرَامِ لَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مُخَالَفَةُ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ وَسُنَّتِهِ , وَطَاعَتِهِ , بَلْ قَدْ جَعَلَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَمَحَبَّةَ رَسُولِهِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ . " وَالْجِهَادُ " يَتَضَمَّنُ كَمَالَ مَحَبَّةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ , وَكَمَالَ بُغْضِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ , وَلِهَذَا قَالَ فِي صِفَةِ مَنْ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ : { أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَلِهَذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِلَّهِ أَكْمَلَ مِنْ مَحَبَّةِ مَنْ قَبْلَهَا , وَعُبُودِيَّتُهُمْ لِلَّهِ أَكْمَلَ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَنْ قَبْلَهُمْ . وَأَكْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ بِهِمْ أَشْبَهَ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ أَكْمَلَ , فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَدَّعُونَ الْمَحَبَّةَ ؟ , . [ وَفِي ] كَلَامِ بَعْضِ الشُّيُوخِ : الْمَحَبَّةُ نَارٌ تُحَرِّقُ فِي الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ . وَأَرَادُوا أَنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ وُجُودَهُ , فَظَنُّوا أَنَّ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ أَنْ يُحِبَّ الْعَبْدُ كُلَّ شَيْءٍ , حَتَّى الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ , وَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِبَّ كُلَّ مَوْجُودٍ بَلْ يُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ وَيَنْفَعُهُ وَيَبْغُضُ مَا يُنَافِيهِ وَيَضُرُّهُ , وَلَكِنْ اسْتَفَادُوا بِهَذَا الضَّلَالِ اتِّبَاعَ أَهْوَائِهِمْ , فَهُمْ يُحِبُّونَ مَا يَهْوَوْنَهُ كَالصُّوَرِ وَالرِّئَاسَةِ وَفُضُولِ الْمَالِ , وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ , زَاعِمِينَ أَنَّ هَذَا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ , وَمِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ بُغْضُ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَجِهَادُ أَهْلِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ . وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ الَّذِي قَالَ : " إنَّ الْمَحَبَّةَ نَارٌ تُحَرِّقُ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ " قَصَدَ بِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى الْإِرَادَةَ الدِّينِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ , فَكَأَنَّهُ قَالَ : تُحَرِّقُ مِنْ الْقَلْبِ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ , وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ . فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ الْحُبِّ أَنْ لَا يُحِبَّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ , فَإِذَا أَحْبَبْت مَا لَا يُحِبُّ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ نَاقِصَةً ,(1/183)
وَأَمَّا قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ فَهُوَ يَبْغُضُهُ , وَيَكْرَهُهُ , وَيَسْخَطُهُ , وَيَنْهَى عَنْهُ , فَإِنْ لَمْ أُوَافِقْهُ فِي بُغْضِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَسُخْطِهِ لَمْ أَكُنْ مُحِبًّا لَهُ , بَلْ مُحِبًّا لِمَا يَبْغُضُهُ . فَاتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ , وَالْقِيَامُ بِالْجِهَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوقِ بَيْنَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ , وَبَيْنَ مَنْ يَدَّعِي مَحَبَّةَ اللَّهِ نَاظِرًا إلَى عُمُومِ رُبُوبِيَّتِهِ , أَوْ مُتَّبِعًا لِبَعْضِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرِيعَتِهِ , فَإِنَّ دَعْوَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مِنْ جِنْسِ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَحَبَّةَ لِلَّهِ , بَلْ قَدْ تَكُونُ دَعْوَى هَؤُلَاءِ شَرًّا مِنْ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَا فِيهِمْ مِنْ النِّفَاقِ الَّذِينَ هُمْ بِهِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ , كَمَا قَدْ تَكُونُ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى شَرٌّ مِنْ دَعْوَاهُمْ إذَا لَمْ يَصِلُوا إلَى مِثْلِ كُفْرِهِمْ , وَفِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَا هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ , حَتَّى إنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمُ وَصَايَا النَّامُوسِ . فَفِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ : " أَعْظَمُ وَصَايَا الْمَسِيحِ أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ بِكُلِّ قَلْبِك وَعَقْلِك وَنَفْسِك " , وَالنَّصَارَى يَدَّعُونَ قِيَامَهُمْ بِهَذِهِ الْمَحَبَّةِ , وَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ هُوَ مِنْ ذَلِكَ , وَهُمْ بَرَاءٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ إذْ لَمْ يَتَّبِعُوا مَا أَحَبَّهُ , بَلْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ , وَاَللَّهُ يَبْغُضُ الْكَافِرِينَ وَيَمْقُتُهُمْ , وَيَلْعَنُهُمْ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُ , لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُحِبٍّ لَهُ , بَلْ بِقَدْرِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَكُونُ حُبُّ اللَّهِ لَهُ ; وَإِنْ كَانَ جَزَاءُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَعْظَمَ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعَا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً } . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ , وَالْمُحْسِنِينَ وَالصَّابِرِينَ , وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ , وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ , بَلْ هُوَ يُحِبُّ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ , كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ , فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ , وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ } الْحَدِيثَ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُخْطِئِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَشْيَاخًا فِي " الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ " وَقَعُوا فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّصَارَى : مِنْ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مَعَ مُخَالَفَةِ شَرِيعَتِهِ , وَتَرْكِ الْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَيَتَمَسَّكُونَ فِي الدِّينِ الَّذِي يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلَى اللَّهِ بِنَحْوِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ النَّصَارَى مِنْ الْكَلَامِ الْمُتَشَابِهِ , وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ صِدْقُ قَائِلِهَا , وَلَوْ صَدَقَ لَمْ يَكُنْ قَائِلُهَا مَعْصُومًا , فَيَجْعَلُونَ مَتْبُوعِيهِمْ شَارِعِينَ لَهُمْ دِينًا , كَمَا جَعَلَ النَّصَارَى قِسِّيسِيهِمْ وَرُهْبَانَهُمْ شَارِعِينَ لَهُمْ دِينًا , ثُمَّ إنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَ الْعُبُودِيَّةَ وَيَدَّعُونَ أَنَّ الْخَاصَّةَ يَتَعَدَّوْنَهَا كَمَا يَدَّعِي النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ , وَيُثْبِتُونَ لِلْخَاصَّةِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي اللَّهِ مِنْ جِنْسِ مَا تُثْبِتُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ يَطُولُ شَرْحُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا دِينُ الْحَقِّ هُوَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ بِكُلِّ وَجْهٍ , وَهُوَ تَحْقِيقُ مَحَبَّةِ اللَّهِ بِكُلِّ دَرَجَةٍ وَبِقَدْرِ تَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ تَكْمُلُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ , وَتَكْمُلُ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ , وَبِقَدْرِ نَقْصِ هَذَا يَكُونُ نَقْصُ هَذَا ; وَكُلَّمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَتْ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ , وَكُلَّمَا كَانَ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ(1/184)
كَانَ فِيهِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ , وَكُلُّ مَحَبَّةٍ لَا تَكُونُ لِلَّهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ , وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ . فَالدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ , وَلَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَهُوَ الْمَشْرُوعُ . فَكُلُّ عَمَلٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ , وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ , بَلْ لَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ , وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ . كَمَا قَالَ : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ , وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ , وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ; فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } . وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ , وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِهِ يَكُونُ تَحْقِيقُ الدِّينِ وَبِهِ أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ , وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ , وَإِلَيْهِ دَعَا الرَّسُولُ , وَعَلَيْهِ جَاهَدَ ; وَبِهِ أَمَرَ , وَفِيهِ رَغِبَ ; وَهُوَ قُطْبُ الدِّينِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ . وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النُّفُوسِ , وَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . { وَهُوَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ . كَيْفَ نَنْجُو مِنْهُ , وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ : أَلَا أُعَلِّمُك كَلِمَةً إذَا قُلْتَهَا نَجَوْتَ مِنْ دِقِّهِ وَجِلِّهِ ؟ قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أُشْرِكَ بِك وَأَنَا أَعْلَمُ , وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا أَعْلَمُ } . وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا , وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا , وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا . وَكَثِيرًا مَا يُخَالِطُ النُّفُوسَ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا تَحْقِيقَ مَحَبَّتِهَا لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتَهَا لَهُ , وَإِخْلَاصَ دِينِهَا لَهُ . كَمَا قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ : يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ . قِيلَ لِأَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ : وَمَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ ؟ قَالَ : حُبُّ الرِّئَاسَةِ , وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي فَسَادِ الدِّينِ لَا يَنْقُصُ عَنْ فَسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ , وَذَلِكَ بَيِّنٌ ; فَإِنَّ الدِّينَ السَّلِيمَ لَا يَكُونُ فِيهِ هَذَا الْحِرْصُ , وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ حَلَاوَةَ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُقَدِّمَهُ عَلَيْهِ , وَبِذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ السُّوءُ وَالْفَحْشَاءُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } . فَإِنَّ الْمُخْلِصَ لِلَّهِ ذَاقَ مِنْ حَلَاوَةِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ لِغَيْرِهِ , وَمِنْ حَلَاوَةِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِهِ , إذْ لَيْسَ عِنْدَ الْقَلْبِ لَا أَحْلَى وَلَا أَلَذُّ(1/185)
وَلَا أَطْيَبُ وَلَا أَلْيَنُ وَلَا أَنْعَمُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمِّنِ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ , وَمَحَبَّتَهُ لَهُ , وَإِخْلَاصَهُ الدِّينَ لَهُ , وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْجِذَابَ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ فَيَصِيرُ الْقَلْبُ مُنِيبًا إلَى اللَّهِ خَائِفًا مِنْهُ رَاغِبًا رَاهِبًا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } . إذْ الْمُحِبُّ يَخَافُ مِنْ زَوَالِ مَطْلُوبِهِ وَحُصُولِ مَرْغُوبِهِ , فَلَا يَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ وَمُحِبَّهُ إلَّا بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ ; قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّك كَانَ مَحْذُورًا } . وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُخْلِصًا لَهُ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَيُحْيِي قَلْبَهُ , وَاجْتَذَبَهُ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ , وَيَخَافُ مِنْ حُصُولِ ضِدِّ ذَلِكَ ; بِخِلَافِ الْقَلْبِ الَّذِي لَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ , فَإِنَّهُ فِي طَلَبٍ وَإِرَادَةٍ وَحُبٍّ مُطْلَقٍ , فَيَهْوَى مَا يَسْنَحُ لَهُ وَيَتَشَبَّثُ بِمَا يَهْوَاهُ , كَالْغُصْنِ أَيُّ نَسِيمٍ مَرَّ بِعِطْفِهِ أَمَالَهُ فَتَارَةً تَجْتَذِبُهُ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ وَغَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ ; فَيَبْقَى أَسِيرًا عَبْدًا لِمَنْ لَوْ اتَّخَذَهُ هُوَ عَبْدًا لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ عَيْبًا وَنَقْصًا وَذَمًّا . وَتَارَةً يَجْتَذِبُهُ الشَّرَفُ وَالرِّئَاسَةُ , فَتُرْضِيهِ الْكَلِمَةُ وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ وَيَسْتَعْبِدُهُ مَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ , وَيُعَادِي مَنْ يَذُمُّهُ وَلَوْ بِالْحَقِّ . وَتَارَةً يَسْتَعْبِدُهُمْ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَعْبِدُ الْقُلُوبَ , وَالْقُلُوبُ تَهْوَاهَا فَيَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيَتَّبِعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِلَّهِ عَبْدًا لَهُ قَدْ صَارَ قَلْبُهُ مُعْبِدًا لِرَبِّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , بِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ , وَيَكُونُ ذَلِيلًا لَهُ خَاضِعًا وَإِلَّا اسْتَعْبَدَتْهُ الْكَائِنَاتُ , وَاسْتَوْلَتْ عَلَى قَلْبِهِ الشَّيَاطِينُ , وَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ , وَصَارَ فِيهِ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ , وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا حِيلَةَ فِيهِ ; فَالْقَلْبُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَنِيفًا مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ وَإِلَّا كَانَ مُشْرِكًا . قَالَ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَك لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إبْرَاهِيمَ وَآلَ إبْرَاهِيمَ أَئِمَّةً لِهَؤُلَاءِ الْحُنَفَاءِ الْمُخْلَصِينَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ ; كَمَا جَعَلَ فِرْعَوْنَ وَآلَ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةَ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَّبِعِينَ أَهْوَاءَهُمْ . قَالَ تَعَالَى فِي إبْرَاهِيمَ : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } . وَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ } . وَلِهَذَا يَصِيرُ أَتْبَاعُ فِرْعَوْنَ أَوَّلًا إلَى أَنْ لَا يُمَيِّزُوا بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ . وَبَيْنَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ وَقَضَاهُ ; بَلْ يَنْظُرُونَ إلَى الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ الشَّامِلَةِ . ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ , بَلْ يَجْعَلُونَ وُجُودَ هَذَا وُجُودَ هَذَا , وَيَقُولُ مُحَقِّقُوهُمْ الشَّرِيعَةُ فِيهَا طَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ . وَالْحَقِيقَةُ فِيهَا مَعْصِيَةٌ بِلَا طَاعَةٍ ; وَالتَّحْقِيقُ لَيْسَ فِيهِ طَاعَةٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ , وَهَذَا تَحْقِيقُ مَذْهَبِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ(1/186)
أَنْكَرُوا الْخَالِقَ وَأَنْكَرُوا تَكْلِيمَهُ لِعَبْدِهِ مُوسَى وَمَا أَرْسَلَهُ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ وَآلُ إبْرَاهِيمَ الْحُنَفَاءُ وَالْأَنْبِيَاءُ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ , وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ . وَأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا ازْدَادَ تَحْقِيقًا ازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَطَاعَتُهُ لَهُ وَإِعْرَاضُهُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَمَحَبَّةِ غَيْرِهِ وَطَاعَةِ غَيْرِهِ , وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الضَّالُّونَ يُسَوُّونَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ . وَالْخَلِيلُ يَقُولُ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } وَيَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى . مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْفَنَاءِ " فَإِنَّ " الْفَنَاءَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : نَوْعٌ لِلْكَامِلِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ; وَنَوْعٌ لِلْقَاصِدِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ; وَنَوْعٌ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ الْمُشَبِّهِينَ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ " بِحَيْثُ لَا يُحِبُّ إلَّا اللَّهَ . وَلَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ , وَلَا يَطْلُبُ غَيْرَهُ ; وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِقَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي يَزِيدَ حَيْثُ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ إلَّا مَا يُرِيدُ . أَيْ الْمُرَادُ الْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ ; وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ وَكَمَالُ الْعَبْدِ أَنْ لَا يُرِيدَ وَلَا يُحِبَّ وَلَا يَرْضَى إلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ , وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ ; وَلَا يُحِبُّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } , قَالُوا : هُوَ السَّلِيمُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ , أَوْ مِمَّا سِوَى عِبَادَةِ اللَّهِ , أَوْ مِمَّا سِوَى إرَادَةِ اللَّهِ , أَوْ مِمَّا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ , فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذَا الْمَعْنَى إنْ سُمِّيَ فَنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ هُوَ أَوَّلُ الْإِسْلَامِ وَآخِرُهُ . وَبَاطِنُ الدِّينِ وَظَاهِرُهُ . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي : فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى " . وَهَذَا يَحْصُلُ لِكَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ , فَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ انْجِذَابِ قُلُوبِهِمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَضَعْفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ أَنْ تَشْهَدَ غَيْرَ مَا تَعْبُدُ وَتَرَى غَيْرَ مَا تَقْصِدُ ; لَا يَخْطِرُ بِقُلُوبِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ ; بَلْ وَلَا يَشْعُرُونَ ; كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } قَالُوا : فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى . وَهَذَا كَثِيرٌ يَعْرِضُ لِمَنْ فَقَمَهُ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ إمَّا حُبٌّ وَإِمَّا خَوْفٌ . وَإِمَّا رَجَاءٌ يَبْقَى قَلْبُهُ مُنْصَرِفًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا عَمَّا قَدْ أَحَبَّهُ أَوْ خَافَهُ أَوْ طَلَبَهُ ; بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي ذَلِكَ لَا يَشْعُرُ بِغَيْرِهِ . فَإِذَا قَوِيَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ هَذَا فَإِنَّهُ يَغِيبُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ , وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ , وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ , وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ , حَتَّى يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُعْبَدَةُ مِمَّنْ سِوَاهُ , وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزُلْ وَهُوَ الرَّبُّ تَعَالَى . وَالْمُرَادُ فَنَاؤُهَا فِي شُهُودِ الْعَبْدِ وَذِكْرِهِ , وَفَنَاؤُهُ عَنْ أَنْ يُدْرِكَهَا أَوْ يَشْهَدَهَا . وَإِذَا قَوِيَ هَذَا ضَعُفَ الْمُحِبُّ حَتَّى اضْطَرَبَ فِي تَمْيِيزِهِ فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ مَحْبُوبُهُ , كَمَا يُذْكَرُ : أَنَّ رَجُلًا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى مُحِبُّهُ نَفْسَهُ خَلْفَهُ , فَقَالَ : أَنَا وَقَعْتُ فَمَا أَوْقَعَكَ خَلْفِي قَالَ : غِبْتُ بِكَ عَنِّي , فَظَنَنْتَ أَنَّكَ أَنِّي . " وَهَذَا الْمَوْضِعُ " يَزِلُّ فِيهِ أَقْوَامٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ اتِّحَادٌ , وَأَنَّ الْمُحِبَّ يَتَّحِدُ بِالْمَحْبُوبِ حَتَّى(1/187)
لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فِي نَفْسِ وُجُودِهِمَا , وَهَذَا غَلَطٌ ; فَإِنَّ الْخَالِقَ لَا يَتَّحِدُ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا , بَلْ لَا يَتَّحِدُ شَيْءٌ بِشَيْءٍ إلَّا إذَا اسْتَحَالَا وَفَسَدَا وَحَصَلَ مِنْ اتِّحَادِهِمَا أَمْرٌ ثَالِثٌ لَا هُوَ هَذَا وَلَا هَذَا , كَمَا إذَا اتَّحَدَ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ , وَالْمَاءُ وَالْخَمْرُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلَكِنْ يَتَّحِدُ الْمُرَادُ وَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ وَيَتَّفِقَانِ فِي نَوْعِ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ , فَيُحِبُّ هَذَا مَا يُحِبُّ هَذَا . وَيَبْغُضُ هَذَا مَا يَبْغُضُ هَذَا , وَيَرْضَى مَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ , وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي وَهَذَا الْفَنَاءُ كُلُّهُ فِيهِ نَقْصٌ . وَأَكَابِرُ الْأَوْلِيَاءِ كَأَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ , وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ : لَمْ يَقَعُوا فِي هَذَا الْفَنَاءِ , فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَعْدَ الصَّحَابَةِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مِمَّا فِيهِ غَيْبَةُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزُ لِمَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ ; فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم كَانُوا أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَثْبَتَ فِي الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ مِنْ أَنْ تَغِيبَ عُقُولُهُمْ . أَوْ يَحْصُلَ لَهُمْ غَشْيٌ أَوْ صَعْقٌ أَوْ سُكْرٌ أَوْ فَنَاءٌ أَوْ وَلَهٌ أَوْ جُنُونٌ . وَإِنَّمَا كَانَ مَبَادِئُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي التَّابِعِينَ مِنْ عُبَّادِ الْبَصْرَةِ , فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ إذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ : كَأَبِي جَهِيرٍ الضَّرِيرِ وَزُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ . وَكَذَلِكَ صَارَ فِي شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ مَا يَضْعُفُ مَعَهُ تَمْيِيزُهُ , حَتَّى يَقُولَ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا إذَا صَحَا عَرَفَ أَنَّهُ غَالِطٌ فِيهِ , كَمَا يُحْكَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مِثْلِ أَبِي يَزِيدَ , وَأَبِي الْحَسَنِ الثَّوْرِيِّ , وَأَبِي بَكْرٍ الشِّبْلِيِّ , وَأَمْثَالِهِمْ . بِخِلَافِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ , وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ , وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ بَلْ وَبِخِلَافِ الْجُنَيْدِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ وَتَمْيِيزُهُمْ يَصْحَبُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ فَلَا يَقَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ وَنَحْوِهِ , بَلْ الْكُمَّلُ تَكُونُ قُلُوبُهُمْ لَيْسَ فِيهَا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ , وَعِنْدَهُمْ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ مَا يَشْهَدُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ , بَلْ يَشْهَدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ مُدَبَّرَةً بِمَشِيئَتِهِ بَلْ مُسْتَجِيبَةً لَهُ قَانِتَةً لَهُ , فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَذِكْرَى , وَيَكُونُ مَا يَشْهَدُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مُؤَيِّدًا وَمُمِدًّا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ , وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ لَهُ , وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَهَذِهِ " الْحَقِيقَةُ " الَّتِي دَعَا إلَيْهَا الْقُرْآنُ , وَقَامَ بِهَا أَهْلُ تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ , وَالْكُمَّلُ مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ . وَنَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم إمَامُ هَؤُلَاءِ وَأَكْمَلُهُمْ ; وَلِهَذَا لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَوَاتِ وَعَايَنَ مَا هُنَالِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَأَوْحَى إلَيْهِ مَا أَوْحَى مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاجَاةِ أَصْبَحَ فِيهِمْ وَهُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ , وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ , بِخِلَافِ مَا كَانَ يَظْهَرُ عَلَى مُوسَى مِنْ التَّغَشِّي - صلى الله عليهم وسلم أَجْمَعِينَ .(1/188)
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ : مِمَّا قَدْ يُسَمَّى فَنَاءً : فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا مَوْجُودَ إلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ , فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ فَهَذَا فَنَاءُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْإِلْحَادِ الْوَاقِعِينَ فِي الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ . وَالْمَشَايِخُ الْمُسْتَقِيمُونَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمْ : مَا أَرَى غَيْرَ اللَّهِ , أَوْ لَا أَنْظُرُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ فَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ مَا أَرَى رَبًّا غَيْرَهُ , وَلَا خَالِقًا غَيْرَهُ وَلَا مُدَبِّرًا غَيْرَهُ , وَلَا إلَهًا غَيْرَهُ وَلَا أَنْظُرُ إلَى غَيْرِهِ مَحَبَّةً لَهُ أَوْ خَوْفًا مِنْهُ أَوْ رَجَاءً لَهُ , فَإِنَّ الْعَيْنَ تَنْظُرُ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ , فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَوْ رَجَاهُ أَوْ خَافَهُ الْتَفَتَ إلَيْهِ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةٌ لَهُ وَلَا رَجَاءٌ لَهُ وَلَا خَوْفٌ مِنْهُ وَلَا بُغْضٌ لَهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ لَهُ لَمْ يَقْصِدْ الْقَلْبُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَرَاهُ وَإِنْ رَآهُ اتِّفَاقًا رُؤْيَةً مُجَرَّدَةً كَانَ كَمَا لَوْ رَأَى حَائِطًا وَنَحْوَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ تَعَلُّقٌ بِهِ . وَالْمَشَايِخُ الصَّالِحُونَ - رضي الله عنهم - يَذْكُرُونَ شَيْئًا مِنْ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَتَحْقِيقِ إخْلَاصِ الدِّينِ كُلِّهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُلْتَفِتًا إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَا نَاظِرًا إلَى مَا سِوَاهُ : لَا حُبًّا لَهُ , وَلَا خَوْفًا مِنْهُ , وَلَا رَجَاءً لَهُ بَلْ يَكُونُ الْقَلْبُ فَارِغًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ خَالِيًا مِنْهَا لَا يَنْظُرُ إلَيْهَا إلَّا بِنُورِ اللَّهِ , فَبِالْحَقِّ يَسْمَعُ وَبِالْحَقِّ يُبْصِرُ وَبِالْحَقِّ يَبْطِشُ وَبِالْحَقِّ يَمْشِي , فَيُحِبُّ مِنْهَا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ , وَيَبْغُضُ مِنْهَا مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ , وَيُوَالِي مِنْهَا مَا وَالَاهُ اللَّهُ , وَيُعَادِي مِنْهَا مَا عَادَاهُ اللَّهُ , وَيَخَافُ اللَّهَ فِيهَا وَلَا يَخَافُهَا فِي اللَّهِ , وَيَرْجُو اللَّهَ فِيهَا وَلَا يَرْجُوهَا فِي اللَّهِ , فَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الْحَنِيفُ الْمُوَحِّدُ الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ الْمُوَحِّدُ بِمَعْرِفَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ , وَبِحَقِيقَتِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْفَنَاءُ فِي الْمَوْجُودِ : فَهُوَ تَحْقِيقُ آلِ فِرْعَوْنَ وَمَعْرِفَتُهُمْ وَتَوْحِيدُهُمْ كَالْقَرَامِطَةِ وَأَمْثَالِهِمْ . وَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ " الْفَنَاءُ الْمَحْمُودُ " الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ بِهِ مِمَّنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ , وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ , وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ . وَلَيْسَ مُرَادُ الْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الَّذِي أَرَاهُ بِعَيْنِي مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ , فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ ؟ إمَّا فَسَادُ الْعَقْلِ ; وَإِمَّا فَسَادُ الِاعْتِقَادِ . فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِلْحَادِ . وَكُلُّ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ , وَلَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ , وَأَنَّهُ يَجِبُ إفْرَادُ الْقَدِيمِ عَنْ الْحَادِثِ ; وَتَمْيِيزُ الْخَالِقِ عَنْ الْمَخْلُوقِ . وَهَذَا فِي كَلَامِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ ذِكْرُهُ هُنَا . وَهُمْ قَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى مَا يَعْرِضُ لِلْقُلُوبِ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالشُّبُهَاتِ ; وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَشْهَدُ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَظُنُّهُ خَالِقَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ وَالْفُرْقَانِ فِي قَلْبِهِ : بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى شُعَاعَ الشَّمْسِ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الشَّمْسُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ . وَهُمْ قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي " الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ " وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الْمُتْلِفَةِ نَظِيرُ مَا دَخَلَ فِي الْفَنَاءِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا شَهِدَ التَّفْرِقَةَ وَالْكَثْرَةَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ يَبْقَى قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا ,(1/189)
مُتَشَتِّتًا نَاظِرًا إلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِهَا : إمَّا مَحَبَّةً وَإِمَّا خَوْفًا وَإِمَّا رَجَاءً ; فَإِذَا انْتَقَلَ إلَى الْجَمْعِ اجْتَمَعَ قَلْبُهُ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَالْتَفَتَ قَلْبُهُ إلَى اللَّهِ بَعْدَ الْتِفَاتِهِ إلَى الْمَخْلُوقِينَ فَصَارَتْ مَحَبَّتُهُ لِرَبِّهِ وَخَوْفُهُ مِنْ رَبِّهِ وَرَجَاؤُهُ لِرَبِّهِ وَاسْتِعَانَتُهُ بِرَبِّهِ , وَهُوَ فِي هَذَا الْحَالِ قَدْ لَا يَسَعُ قَلْبَهُ النَّظَرُ إلَى الْمَخْلُوقِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ . فَقَدْ يَكُونُ مُجْتَمِعًا عَلَى الْحَقِّ مُعْرِضًا عَنْ الْخَلْقِ نَظَرًا وَقَصْدًا وَهُوَ نَظِيرُ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْفَنَاءِ . وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ , " الْفَرْقُ الثَّانِي " وَهُوَ : أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةٌ بِاَللَّهِ مُدَبَّرَةٌ بِأَمْرِهِ وَيَشْهَدَ كَثْرَتَهَا مَعْدُومَةً بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْمَصْنُوعَاتِ وَإِلَهُهَا وَخَالِقُهَا وَمَالِكُهَا فَيَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِ قَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ - إخْلَاصًا لَهُ وَمَحَبَّةً وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَاسْتِعَانَةً وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ وَمُوَالَاةً فِيهِ وَمُعَادَاةً فِيهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ - نَاظِرًا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مُمَيِّزًا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا يَشْهَدُ تَفَرُّقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَكَثْرَتَهَا مَعَ شَهَادَتِهِ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ , وَخَالِقُهُ , وَأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهَذَا هُوَ الشُّهُودُ الصَّحِيحُ الْمُسْتَقِيمُ وَذَلِكَ وَاجِبٌ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَشَهَادَتِهِ وَذِكْرِهِ وَمَعْرِفَتِهِ : فِي حَالِ الْقَلْبِ وَعِبَادَتِهِ وَقَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَطَاعَتِهِ . وَذَلِكَ تَحْقِيقُ " شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَإِنَّهُ يَنْفِي عَنْ قَلْبِهِ أُلُوهِيَّةَ مَا سِوَى الْحَقِّ وَيَثْبُتُ فِي قَلْبِهِ أُلُوهِيَّةُ الْحَقِّ فَيَكُونُ نَافِيًا لِأُلُوهِيَّةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مُثْبِتًا لِأُلُوهِيَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ , وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ اجْتِمَاعَ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى مُفَارَقَةِ مَا سِوَاهُ , فَيَكُونُ مُفَرِّقًا : فِي عِلْمِهِ وَقَصْدِهِ فِي شَهَادَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فِي مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ , بِحَيْثُ يَكُونُ عَالِمًا بِاَللَّهِ تَعَالَى ذَاكِرًا لَهُ عَارِفًا بِهِ , وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَالِمٌ بِمُبَايَنَتِهِ لِخَلْقِهِ وَانْفِرَادِهِ عَنْهُمْ وَتَوَحُّدِهِ دُونَهُمْ , وَيَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ مُعَظِّمًا لَهُ عَابِدًا لَهُ رَاجِيًا لَهُ خَائِفًا مِنْهُ مُوَالِيًا فِيهِ مُعَادِيًا فِيهِ مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ , مُمْتَنِعًا عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالْمُوَالَاةِ فِيهِ وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ وَالطَّاعَةِ لِأَمْرِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ إلَهِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَإِقْرَارُهُ بِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ مَا سِوَاهُ يَتَضَمَّنُ إقْرَارَهُ بِرُبُوبِيَّتِهِ , وَهُوَ أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَمُدَبِّرُهُ , فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُوَحِّدًا لِلَّهِ . وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ أَفْضَلَ الذِّكْرِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ , وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } وَفِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا ذِكْرُ الْعَامَّةِ , وَأَنَّ ذِكْرَ الْخَاصَّةِ هُوَ الِاسْمُ الْمُفْرَدُ , وَذِكْرَ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ هُوَ الِاسْمُ الْمُضْمَرُ , فَهُمْ ضَالُّونَ غَالِطُونَ , وَاحْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } مِنْ أَبْيَنِ غَلَطِ هَؤُلَاءِ , فَإِنَّ الِاسْمَ هُوَ مَذْكُورٌ فِي(1/190)
الْأَمْرِ بِجَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ . وَهُوَ قَوْلُهُ : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ اللَّهُ } أَيْ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى , فَالِاسْمُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ . كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ تَقُولُ : مَنْ جَارُهُ فَيَقُولُ زَيْدٌ وَأَمَّا الِاسْمُ الْمُفْرَدُ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا فَلَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ , وَلَا جُمْلَةً مُفِيدَةً وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ , وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ , وَلَا شَرَعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ , وَلَا يُعْطِي الْقَلْبَ بِنَفْسِهِ مَعْرِفَةً مُفِيدَةً وَلَا حَالًا نَافِعًا . وَإِنَّمَا يُعْطِيهِ تَصَوُّرًا مُطْلَقًا لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ , فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَحَالِهِ مَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ , وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ . وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا تُشَرِّعُ مِنْ الْأَذْكَارِ مَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ لَا مَا تَكُونُ الْفَائِدَةُ حَاصِلَةً بِغَيْرِهِ . وَقَدْ وَقَعَ بَعْضُ مَنْ وَاظَبَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ فِي فُنُونٍ مِنْ الْإِلْحَادِ وَأَنْوَاعٍ مِنْ الِاتِّحَادِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ مِنْ أَنَّهُ قَالَ : أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . حَالٌ لَا يُقْتَدَى فِيهَا بِصَاحِبِهَا , فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَلَطِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ ; إذْ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَمُتْ إلَّا عَلَى مَا قَصَدَهُ وَنَوَاهُ , إذْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ , وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { أَمَرَ بِتَلْقِينِ الْمَيِّتِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَقَالَ : مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مَحْذُورًا لَمْ يُلَقَّنْ الْمَيِّتُ كَلِمَةً يُخَافُ أَنْ يَمُوتَ فِي أَثْنَائِهَا مَوْتًا غَيْرَ مَحْمُودٍ بَلْ كَانَ يُلَقَّنُ مَا اخْتَارَهُ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ . وَالذِّكْرُ بِالِاسْمِ الْمُضْمَرِ الْمُفْرَدِ أَبْعَدُ عَنْ السُّنَّةِ , وَأَدْخَلُ فِي الْبِدْعَةِ وَأَقْرَبُ إلَى إضْلَالِ الشَّيْطَانِ , فَإِنَّ مَنْ قَالَ : يَا هُوَ يَا هُوَ , أَوْ : هُوَ هُوَ . وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَّا إلَى مَا يُصَوِّرُهُ قَلْبُهُ , وَالْقَلْبُ قَدْ يَهْتَدِي وَقَدْ يَضِلُّ , وَقَدْ صَنَّفَ صَاحِبُ الْفُصُوصِ كِتَابًا سَمَّاهُ " كِتَابَ الْهُوَ " وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } مَعْنَاهُ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ هَذَا الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " الْهُوَ " . وَقِيلَ هَذَا وَإِنْ كَانَ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ بَلْ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَبْيَنِ الْبَاطِلِ , فَقَدْ يَظُنُّ ذَلِكَ مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ , حَتَّى قُلْتُ مَرَّةً لِبَعْضِ مَنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا كَمَا قُلْتَهُ لَكُتِبَتْ ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ هُوَ ) مُنْفَصِلَةً . ثُمَّ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّهُ يَحْتَجُّ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ : " اللَّهُ " بِقَوْلِهِ : { قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } وَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَقُولَ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ , وَهَذَا غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ , فَإِنَّ قَوْلَهُ : { قُلْ اللَّهُ } مَعْنَاهُ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى . وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ } أَيْ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى . رَدَّ بِذَلِكَ قَوْلَ مَنْ قَالَ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ , فَقَالَ : { مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } ثُمَّ قَالَ : { قُلْ اللَّهُ } أَنْزَلَهُ { ثُمَّ ذَرْهُمْ } هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ { فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } . وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَا تَقَدَّمَ : مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِ أَنَّ الْعَرَبَ يَحْكُونَ بِالْقَوْلِ مَا كَانَ كَلَامًا , لَا يَحْكُونَ(1/191)
بِهِ مَا كَانَ قَوْلًا , فَالْقَوْلُ لَا يُحْكَى بِهِ إلَّا كَلَامٌ تَامٌّ , أَوْ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ أَوْ فِعْلِيَّةٌ , وَلِهَذَا يَكْسِرُونَ إنَّ إذَا جَاءَتْ بَعْدَ الْقَوْلِ , فَالْقَوْلُ لَا يُحْكَى بِهِ اسْمٌ , وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ أَحَدًا بِذِكْرِ اسْمٍ مُفْرَدٍ , وَلَا شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ اسْمًا مُفْرَدًا مُجَرَّدًا , وَالِاسْمُ الْمُجَرَّدُ لَا يُفِيدُ الْإِيمَانَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ , وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُخَاطَبَاتِ . وَنَظِيرُ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ مَا يُذْكَرُ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ مَرَّ بِمُؤَذِّنٍ يَقُولُ : " أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ " بِالنَّصْبِ فَقَالَ : مَاذَا يَقُولُ هَذَا ؟ هَذَا الِاسْمُ فَأَيْنَ الْخَبَرُ عَنْهُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ ؟ وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } وَقَوْلِهِ : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } وَقَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى , وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } وَقَوْلِهِ : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي ذِكْرَهُ مُفْرَدًا بَلْ فِي السُّنَنِ { أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّك الْعَظِيمِ } قَالَ اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قَالَ اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ } فَشَرَعَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ , وَفِي السُّجُودِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى . وَفِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ , وَفِي سُجُودِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى } وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : { اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَسُجُودِكُمْ } بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَتَسْبِيحُ اسْمِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَذِكْرُ اسْمِ رَبِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ بِالْكَلَامِ التَّامِّ الْمُفِيدِ , كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ - وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ اللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ , وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } . وَفِي الصَّحِيحِ : عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ , ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ , حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ , سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , لَهُ الْمُلْكُ . وَلَهُ الْحَمْدُ , وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ , كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ . وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ , إلَّا رَجُلٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ } . { وَمَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ , حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ } . وَفِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ : عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } . وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ فِي أَنْوَاعِ مَا يُقَالُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ . وَكَذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ : بِسْمِ اللَّهِ . وَهَذَا جُمْلَةٌ تَامَّةٌ إمَّا اسْمِيَّةٌ عَلَى أَظْهَرِ قَوْلَيْ النُّحَاةِ ; أَوْ فِعْلِيَّةٌ ; وَالتَّقْدِيرُ ذَبْحِي بِاسْمِ اللَّهِ , أَوْ اذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ , وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَارِئِ فَتَقْدِيرُهُ : قِرَاءَتِي بِسْمِ اللَّهِ ; أَوْ اقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُضْمِرُ فِي(1/192)
مِثْلِ هَذَا ابْتِدَائِي بِسْمِ اللَّهِ ; أَوْ ابْتَدَأْتُ بِسْمِ اللَّهِ , وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ مَفْعُولُ بِسْمِ اللَّهِ , لَيْسَ مُجَرَّدُ ابْتِدَائِهِ كَمَا أَظْهَرَ الْمُضْمَرَ فِي قَوْلِهِ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ } وَفِي قَوْلِهِ : { بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } . وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِسْمِ اللَّهِ } . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِرَبِيبِهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ : { سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِك ; وَكُلْ مِمَّا يَلِيك } فَالْمُرَادُ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ . لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَذْكُرَ الِاسْمَ مُجَرَّدًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ مَنْزِلَهُ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ ; وَعِنْدَ خُرُوجِهِ , وَعِنْدَ طَعَامِهِ . قَالَ الشَّيْطَانُ لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَكَذَلِكَ مَا شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاتِهِمْ وَآذَانِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ بِالْجُمْلَةِ التَّامَّةِ كَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ . أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ; أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَقَوْلِ الْمُصَلِّي : اللَّهُ أَكْبَرُ . سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ . سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى . سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ . التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ . وَقَوْلِ الْمُلَبِّي : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ . وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَجَمِيعُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الذِّكْرِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ تَامٌّ لَا اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا مُظْهَرٌ وَلَا مُضْمَرٌ , وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ كَلِمَةً , كَقَوْلِهِ : { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ . ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ . حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ ; سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } وَقَوْلِهِ : { أَفْضَلُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ } وَمِنْهُ قوله تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّك صِدْقًا وَعَدْلًا } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ الْكَلِمَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , بَلْ وَسَائِرِ كَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ , كَمَا كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْحَرْفَ فِي الِاسْمِ , فَيَقُولُونَ : هَذَا حَرْفٌ غَرِيبٌ أَيْ لَفْظُ الِاسْمِ غَرِيبٌ . وَقَسَّمَ سِيبَوَيْهِ الْكَلَامَ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ جَاءَ لِمَعْنًى , لَيْسَ بِاسْمٍ وَفِعْلٍ . وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ يُسَمَّى حَرْفًا لَكِنَّ خَاصَّةَ الثَّالِثِ أَنَّهُ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ ; وَسُمِّيَ حُرُوفُ الْهِجَاءِ بِاسْمِ الْحَرْفِ وَهِيَ أَسْمَاءٌ , وَلَفْظُ الْحَرْفِ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَغَيْرَهَا ; كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ : أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ : { الم } حَرْفٌ , وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ , وَلَامٌ حَرْفٌ , وَمِيمٌ حَرْفٌ } وَقَدْ سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ عَنْ النُّطْقِ بِحَرْفِ الزَّايِ مِنْ زَيْدٍ فَقَالُوا : زَايٌ , فَقَالَ : جِئْتُمْ بِالِاسْمِ , وَإِنَّمَا الْحَرْفُ " ز " . ثُمَّ إنَّ النُّحَاةَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُسَمَّى فِي اللُّغَةِ بِالْحَرْفِ يُسَمَّى كَلِمَةً , وَأَنَّ لَفْظَ الْحَرْفِ يُخَصُّ لِمَا جَاءَ لِمَعْنًى , لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ , كَحُرُوفِ الْجَرِّ وَنَحْوِهَا , وَأَمَّا أَلْفَاظُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فَيُعَبَّرُ تَارَةً بِالْحَرْفِ عَنْ نَفْسِ الْحَرْفِ مِنْ اللَّفْظِ , وَتَارَةً بِاسْمِ ذَلِكَ الْحَرْفِ , وَلَمَّا غَلَبَ هَذَا الِاصْطِلَاحُ صَارَ يَتَوَهَّمُ مَنْ اعْتَادَهُ أَنَّهُ هَكَذَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ لَفْظَ الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ لَفْظًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ(1/193)
الِاسْمِ مَثَلًا وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ , وَلَا يَعْرِفُ فِي صَرِيحِ اللُّغَةِ مِنْ لَفْظِ الْكَلِمَةِ إلَّا الْجُمْلَةَ التَّامَّةَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ ذِكْرُهُ " بِجُمْلَةٍ تَامَّةٍ " وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَلَامِ , وَالْوَاحِدُ مِنْهُ بِالْكَلِمَةِ , وَهُوَ الَّذِي يَنْفَعُ الْقُلُوبَ , وَيَحْصُلُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْأَجْرُ , وَالْقُرْبُ إلَى اللَّهِ وَمَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَخَشْيَتُهُ , وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وَالْمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ . وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى " الِاسْمِ الْمُفْرَدِ " مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا فَلَا أَصْلَ لَهُ , فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصَّةِ وَالْعَارِفِينَ , بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَذَرِيعَةٌ إلَى تَصَوُّرَاتِ أَحْوَالٍ فَاسِدَةٍ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ , وَأَهْلِ الِاتِّحَادِ , كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَجِمَاعُ الدِّينِ " أَصْلَانِ " أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ , وَلَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ , لَا نَعْبُدَهُ بِالْبِدَعِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . وَذَلِكَ تَحْقِيقُ " الشَّهَادَتَيْنِ " : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . فَفِي الْأُولَى أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا إيَّاهُ , وَفِي الثَّانِيَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ رَسُولُهُ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ . فَعَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ خَبَرَهُ وَنُطِيعَ أَمْرَهُ , وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا مَا نَعْبُدُ اللَّهَ بِهِ , وَنَهَانَا عَنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ , وَأَخْبَرَ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ . قَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . كَمَا أَنَّا مَأْمُورُونَ أَنْ لَا نَخَافَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَى اللَّهِ , وَلَا نَرْغَبُ إلَّا إلَى اللَّهِ , وَلَا نَسْتَعِينُ إلَّا بِاَللَّهِ : وَأَنْ لَا تَكُونَ عِبَادَتُنَا إلَّا لِلَّهِ , فَكَذَلِكَ نَحْنُ مَأْمُورُونَ أَنْ نَتَّبِعَ الرَّسُولَ وَنُطِيعَهُ وَنَتَأَسَّى بِهِ , فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ , وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ , قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ , كَمَا قَالَ : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وَجَعَلَ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ , كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُك اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ حَسْبُكَ وَحَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } . ثُمَّ قَالَ : { سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ , وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْفَضْلِ ; لِأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ , وَلَهُ الْفَضْلُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَقَالَ : { إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَجَعَلَ الرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ , وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عَبَّاسٍ : { إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ } . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَجَعَلَ الْعِبَادَةَ وَالْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ , وَجَعَلَ الطَّاعَةَ وَالْمَحَبَّةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , كَمَا فِي قَوْلِ نُوحٍ عليه السلام : { أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ } وَأَمْثَالِ(1/194)
ذَلِكَ فَالرُّسُلُ أُمِرُوا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ , وَالطَّاعَةِ لَهُمْ . فَأَضَلَّ الشَّيْطَانُ النَّصَارَى وَأَشْبَاهَهُمْ فَأَشْرَكُوا بِاَللَّهِ وَعَصَوْا الرَّسُولَ فَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ , فَجَعَلُوا يَرْغَبُونَ إلَيْهِمْ وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِمْ وَيَسْأَلُونَهُمْ , مَعَ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَمْرِهِمْ وَمُخَالَفَاتِهِمْ لِسُنَّتِهِمْ , وَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ أَهْلَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ , الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوهُ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ , فَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ , وَأَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ لِلَّهِ , وَأَنَابُوا إلَى رَبِّهِمْ , وَأَحَبُّوهُ وَرَجَوْهُ وَخَافُوهُ وَسَأَلُوهُ وَرَغِبُوا إلَيْهِ وَفَوَّضُوا أُمُورَهُمْ إلَيْهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ , وَأَطَاعُوا رُسُلَهُ وَعَزَّرُوهُمْ وَوَقَّرُوهُمْ وَأَحَبُّوهُمْ وَوَالُوهُمْ وَاتَّبَعُوهُمْ , وَاقْتَفَوْا آثَارَهُمْ وَاهْتَدَوْا بِمَنَارِهِمْ . وَذَلِكَ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنْ الرُّسُلِ وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا إلَّا إيَّاهُ , وَهُوَ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ , وَيُكْمِلَهُ لَنَا وَيُمِيتَنَا عَلَيْهِ وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
0000000000000000
صنائع المعروف
كتبه : منقذ محمود السقار
معنى المعروف وأهمية هذه العبادة
1- المعروف المقصود هنا هو فعل الخير وإسداؤه للعباد، سواء كان هذا الخير مالاً كالصدقة والإطعام وسقاية الماء وسداد الديون، أو جاهاً كما في الإصلاح بين المتهاجرين والشفعة وبذل الجاه، أوعلماً، أو سائر المصالح التي يحتاجها الناس، كحسن المعاملة وإماطة الأذى وعيادة المرضى، و...
ومن النصوص التي أشارت إلى تنوع هذه العبادة قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو ذر قال: قلت: يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر يصلون ويصومون ويحجون! قال ((وأنتم تصلون وتصومون وتحجون)) قلت: يتصدقون ولا نتصدق؟ قال ((وأنت فيك صدقة، رفعك العظم عن الطريق صدقة، وهدايتك الطريق صدقة، وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة، وبيانك عن الأرثم(الذي لا يبين الكلام) صدقة، ومباضعتك امرأتك صدقة)) قال: قلت: يا رسول الله نأتي شهوتنا ونؤجر؟ قال (( أرأيت لو جعلته في حرام أكان تأثم)) قال: قلت: نعم قال (( فتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير )) [أحمد ح20856]
وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((على كل مسلم صدقة فقالوا يا نبي الله فمن لم يجد قال يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق قالوا فإن لم يجد قال يعين ذا الحاجة الملهوف قالوا فإن لم يجد قال فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة)) [البخاري ح1445، مسلم ح1008]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((كل سلامى عليه صدقة كل يوم يعين الرجل في دابته يحامله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة ودل الطريق صدقة)) [البخاري ح2891، مسلم ح1009] 2- كثير من الناس يطلق معنى العبادة على مايتعلق بحقوق الله فحسب، ويغفل عن باب آخر عظيم، وهو حسن المعاملة مع العباد والإحسان إليهم.
أدلة صناعة المعروف من القرآن الكريم
{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}[الحج:77] فقوله {وافعلوا الخير} أمر يشمل كل خير، وقال تعالى{لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}[النساء:114]{وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}[البقرة:195]
أدلة صناعة المعروف وتعدد صوره من السنة النبوية(1/195)
عن ابن عمر أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله ونصف الأعمال أحب إلى الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً( في مسجد المدينة) ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غضبه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رخاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام)) [رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، وحسّن الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة ح906]
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه))[ابن ماجه ح237، وابن أبي عاصم في السنة، وحسنه الألباني بطرقه ، السلسلة الصحيحة ح1322]
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) [البخاري ح2566، مسلم ح1030]
وعن أبي جرىٍّ الهجيميّ قال أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول اللّه إنّا قوم من أهل البادية فعلّمنا شيئًا ينفعنا اللّه تبارك وتعالى به قال ((لا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلّم أخاك ووجهك إليه منبسط))[أحمد ح20110]
عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة))[مسلم ح1552]
عن سعد بن عبادة أن أمه ماتت فقال يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: ((سقي الماء، فتلك سقاية سعد بالمدينة)) [النسائي ح3666، أحمد ح23333]
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(( لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره)) قال أبو هريرة ( ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم) [مسلم ح1609، البخاري ح2463]
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)).[مسلم ح35]
عن أبي موسى رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء))[البخاري ح1432، مسلم ح2627]
عن معاوية بن أبي سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إن الرجل ليسألني الشيء، فأمنعه حتى تشفعوا فيه فتؤجروا))، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اشفعوا تؤجروا))[النسائي ح2557، أبو داود ح5132]
عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال:((الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً، قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق، قال: قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك)) [البخاري ح2518،مسلم ح84]
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((كل معروف صدقة))[البخاري ح6021، مسلم ح1005]
عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك))[الترمذي ح1970، قال: هذا حديث حسن صحيح]
التحذير من ترك صناعة المعروف
{فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون}[الماعون:4-7] {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين }[المدثر:41-44] {ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا حميم ولا طعام إلا من غسلين}[الحاقة:34-35]
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم )) فذكر منهم ((ورجل منع فضل ماء فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)) [البخاري ح2369]
عن أنس قال توفي رجل من أصحابه فقال يعني رجلا أبشر بالجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولا تدري، فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه)) [رواه الترمذي ح2316، وقال: هذا حديث غريب]
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ))[البخاري ح3318، مسلم ح2242](1/196)
وروى مالك أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً له من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى محمد فقال له الضحاك: لم تمنعني وهو لك منفعة، تشرب به أولاً وآخراً ولا يضرك، فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله فقال محمد: لا فقال عمر: (لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع، تسقي به أولاً وآخراً، وهو لا يضرك) فقال محمد: لا والله. فقال عمر: (والله ليمرن به ولو على بطنك) فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك.[الموطأ ح1463] الأنبياء وصناعة المعروف
الأنبياء هم أسرع الناس إلى طاعة الله، فهم الذين قضوا حياتهم في دعوة الناس وهدايتهم إلى خيرهم، إذ حياتهم كلها بذل وتضحية ومعروف.
فهذا إبراهيم الخليل، بلغ هذه المنزلة بصناعته للمعروف، فقد روى البيهقي في الشعب بسنده إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يا جبريل لِم اتخذ الله إبراهيم خليلاً؟ قال لإطعامه الطعام يا محمد))[الدر المنثور 2/706]
وهذا موسى عليه السلام {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير}[القصص:23-24]
وقال الله على لسان عيسى{وجعلني مباركاً أينما كنت}[مريم:31] روى أبو نعيم وغيره بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تفسيره للآية: ((جعلني نفاعاً للناس أين اتجهت)){الدر المنثور5/509}
وكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم ، قيل لعائشة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو قاعد؟ قالت: (نعم بعد ما حطمه الناس) أي بكثرة حوائجهم [مسلم ح732]
ومن صور صناعته للمعروف صلى الله عليه وسلم ما جاء عن عبد الله بن جعفر قال: فدخل صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت فقال: ((من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه)) [أبو داود ح2549]
ومنه أيضاً شفاعته لمغيث عند زوجته السابقة بريرة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، وفيه أن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: (( يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو راجعتِه قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع. قالت: لا حاجة لي فيه)).[البخاري ح5283]
وقد صدق الشاعر حين قال عنه
تراه إذا ما جئته متهللاًكأنما تعطيه الذي أنت سائله
لو لم يكن في كفه إلا روحه لجاد بها فليتق الله سائله
صناعة المعروف عند السلف
كان السلف رحمهم الله أسرع الناس في صناعة المعروف وبذله:
ومن ذلك ما ذكر من إنفاق الصديق وعثمان والزبير وأمهات المؤمنين وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم، وهذا يطول ذكره.
ومنه أيضاً صنيع أبي بكر الصديق حين ولي الخلافة ، فكان في كل يوم يأتي بيتاً في عوالي المدينة تسكنه عجوز عمياء، فينضج لها طعامها، ويكنس لها بيتها، وهي لا تعلم من هو، فكان يستبق وعمر بن الخطاب إلى خدمتها.[أُسد الغابة 3/327]
ولما ولي عمر الخلافة خرج يتحسس أخبار المسلمين، فوجد أرملة وأيتاماً عندها يبكون، يتضاغون من الجوع، فلم يلبث أن غدا إلى بيت مال المسلمين، فحمل وقر طعام على ظهره وانطلق فأنضج لهم طعامهم، فما زال بهم حتى أكلوا وضحكوا .[الرياض النضرة1/385]
ومن صناعة المعروف أيضاً ماذكر عن علي زين العابدين، فقد كان أناس من أهل المدينة، لايدرون من أين معايشهم، فلما مات فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل.
ولما غسلوه رحمه الله وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقله بالليل إلى بيوت الأرامل.[سير أعلام النبلاء4/393]
وهذا عبد الله بن المبارك كان ينفق من ماله على الفقهاء، وكان من أراد الحج من أهل مرو إنما يحج من نفقة ابن المبارك، كما كان يؤدي عن المديون دينه ويشترط على الدائن أن لا يخبر مدينه باسمه[سير أعلام النبلاء8/386]
ثمرات صناعة المعروف
1- صرف البلاء وسوء القضاء في الدنيا
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)) [ابن ماجه ح2417](1/197)
ولما عرض جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: (( زملوني زملوني )) فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: (كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب) .[البخاري ح4، مسلم ح160]
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو أمامة ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب)) [رواه الطبراني في معجمه الكبير ح8014، وقال الهيثمي: إسناده حسن 3/115]
2- دخول الجنة
وروي عن أبي أمامة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أول أهل الجنة دخولاً أهل المعروف)) [رواه الطبراني في الكبير ح8015]
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)) [مسلم ح1914]
3- مغفرة الذنوب والنجاة من عذاب وأهوال الآخرة
عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا. قالوا: تذكر ،قال: كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر، قال: قال الله: عز وجل تجوزوا عنه))
وفي رواية عند مسلم ((فقال الله أنا أحق بذا منك تجاوزوا عن عبدي )) [مسلم ح1560، البخاري ح2077]
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا رجل بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر)) [البخاري ح2466، مسلم2244]
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخذه، فشكر الله له فغفر له)) [البخاري ح2471، مسلم ح1914]
آداب صناعة المعروف
ولصناعة المعروف آداب، يتعلق بعضها بالصانع ، وبعضها بالمصنوع له.
ومن الآداب المتعلقة بمن صنع له المعروف:
1- شكر الله عز وجل أولاً، إذ هو المنعم الحقيقي، فهو أولى بالحمد من كل أحد، قال الله {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}[النحل:83]قال عون بن عبد الله : إنكارهم إياها : أن يقول الرجل: لولا فلان أصابني كذا وكذا، ولولا فلان لم أصب كذا وكذا.[الدر المنثور 5/155] وقد أسدي إلى بعض السلف معروف، فشكر الله ، ثم عاد إلى صاحبه في اليوم الثاني فشكره على معروفه، وقال: استحييت من الله أن أضيف شكرك إلى شكره.
2- شكر صاحب المعروف فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من لا يشكر الناس لا يشكر الله )) [الترمذي ح1945، أبو داود ح4811، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح]
عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن استجار بالله فأجيروه ومن آتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه))[النسائي ح2567، أبو داود ح5109]
وعن أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء))[الترمذي ح2035]
قال المكي بن إبراهيم كنا عند ابن جريج المكي فجاء سائل فسأله فقال ابن جريج لخازنه: أعطه ديناراً فقال: ما عندي إلا دينار، إن أعطيته جعت وعيالك، قال: فغضب وقال: أعطه.
قال المكي: فنحن عند ابن جريج إذ جاءه رجل بكتاب وصرة، وقد بعث إليه بعض إخوانه، وفي الكتاب إني قد بعثت خمسين ديناراً قال: فحل ابن جريج الصرة فعدها، فإذا هي أحد وخمسون ديناراً، قال: فقال ابن جريج لخازنه: قد أعطيت واحداً فرده الله عليك وزادك خمسين ديناراً [ذكره الترمذي عقب الحديث السابق]
3- أن يقبل المعروف الذي أسدي إليه، فعن خالد بن عدي الجهني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من بلغه معروف عن أخيه من غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله ولا يرده، فإنما هو رزق ساقه الله عز وجل إليه ))[أحمد ح17477]
ومن الآداب المتعلقة بصانع المعروف:
1- إخلاصه وإسراره بالعمل وعدم انتظار العوض من الناس، قال تعالى{إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}[الإنسان:9]
وهذا عدي بن حاتم لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعروف والخير الذي كان يصنعه أبوه في الجاهلية ابتغاء المدح والذكر الحسن، فقال صلى الله عليه وسلم (( إن أباك أراد شيئاً فأدركه )) [أحمد ح1888] أي الأجر من الناس بالثناء.(1/198)
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا))[أبو داود ح3541]
ومن الإخلاص الإسرار بالمعروف،قال تعالى {إن تبدو الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}[البقرة:271] قالصلى الله عليه وسلم ((إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء)) [الحاكم ح4]،وقال في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه))[البخاري ح660، مسلم1031]
2- أن يبذله لمن يستحقه ويحتاج إليه من إنسان أو حيوان، أن يبذله للبر والفاجر بل والكافر.
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم ((لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا طائر ولا شيء إلا كان له أجر)) [رواه الطبراني في الأوسط ، وقال الهيثمي: إسناده حسن. مجمع الزوائد 3/134]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال رجل لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يدي زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يدي غني فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق وعلى زانية وعلى غني، فأتي فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله)) [البخاري ح1421، مسلم ح1022]
3- أن يعلم أن معروفه نوع من المعاملة مع الله قبل أن يكون معاملة مع الخلق، فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده.
يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي.
يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي))[مسلم ح2569]
4- أنه يقع عند الله بمكان مهما صغر شأنه عند الله، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)) [البخاري ح2472، مسلم ح1914]
عن عائشة أنها قالت جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ((إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار)) [مسلم ح2630]
5- أن يبادر إلى حاجة أخيه ولو لم يطلبها منه، جاء مديون إلى سفيان بن عيينة يسأله العون على قضاء حاجته، فأعانه ثم بكى، فقالت له زوجته: ما يبكيك؟ فقال: أبكي أن أحتاج أخي فلم أشعر بحاجته حتى سألني.
6- المسارعة بالخير والمسابقة إليه{فاستبقوا الخيرات}[البقرة:148] عن سعد بن أبي وقاص مرفوعاً أو موقوفاً ((التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة ))[أبو داود ح4810]
7- أن يستصغر معروفه ولا يمن به{لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}[البقرة:264]
===========
التحلي بمكارم الأخلاق
قال تعالى : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) سورة الرعد
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ? إنما يتذكر أولو الألباب . . إن المقابل لمن يعلم أن أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا , إنما المقابل هو الأعمى !(1/199)
وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق . وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف . فالعمى وحده هو الذي ينشى ء الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى . والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان:مبصرون فهم يعلمون , وعمي فهم لا يعلمون !
والعمى عمى البصيرة , وانطماس المدارك , واستغلال القلوب , وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح , وانفصالها عن مصدر الإشعاع . .
إنما يتذكر أولو الألباب . .
الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر , وتنبه إلى دلائله فتتفكر .
وهذه صفات أولي الألباب هؤلاء:
(الذين يوفون بعهد الله , ولا ينقضون الميثاق) . .
وعهد الله مطلق يشمل كل عهد , وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق . والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان ; والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان .
وعهدالإيمان قديم وجديد . قديم مع الفطرة البشرية المتصلة بناموس الوجود كله ; المدركة إدراكا مباشرا لوحدة الإرادة التي صدر عنها الوجود , ووحدة الخالق صاحب الإرادة , وأنه وحده المعبود . وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم فيما ارتضيناه لها من تفسير . .
ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان ولكن ليجددوه ويذكروا به ويفصلوه , ويبينوا مقتضياته من الدينونة لله وحده والانخلاع من الدينونة لسواه , مع العمل الصالح والسلوك القويم , والتوجه به إلى الله وحده صاحب الميثاق القديم . .
ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر . سواء مع الرسول أو مع الناس . ذوي قرابة أو أجانب . أفرادا أم جماعات . فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود , لأن رعايتها فريضة ; والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس , لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق .
فهي القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله . يقررها في كلمات .
(والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل , ويخشون ربهم , ويخافون سوء الحساب) . .
هكذا في إجمال . فكل ما أمر الله به أن يوصل يصلونه . أي أنها الطاعة الكاملة والاستقامة الواصلة , والسير على السنة ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء . لهذا ترك الأمر مجملا , ولم يفصل مفردات ما أمر الله به أن يوصل , لأن هذا التفصيل يطول , وهو غير مقصود , إنما المقصود هو تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي , والطاعة المطلقة التي لا تتفلت , والصلة المطلقة التي لا تنقطع . . ويلمح عجز الآية إلى الشعور المصاحب في نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة:
(ويخشون ربهم , ويخافون سوء الحساب) . .
فهي خشية الله ومخافة العقاب الذي يسوء قي يوم لقائه الرهيب . وهم أولوا الألباب الذين يتدبرون الحساب قبل يوم الحساب .
(والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم) . .
والصبر ألوان . وللصبر مقتضيات . صبر على تكاليف الميثاق . من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد . .
الخ وصبر على النعماء والبأساء . وقل من يصبرعلى النعمة فلا يبطر ولا يكفر . وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور . . وصبر وصبر وصبر . .
كله ابتغاء وجه ربهم , لا تحرجا من أن يقول الناس:جذعوا . ولا تجملا ليقول الناس:صبروا . ولا رجاء في نفع من وراء الصبر . ولا دفعا لضر يأتي به الجزع . ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله , والصبر على نعمته وبلواه . صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع . .
وأقاموا الصلاة . .
وهي داخلة في الوفاء بعهد الله وميثاقه , ولكنه يبرزها لأنها الركن الأول لهذا الوفاء , ولأنها مظهر التوجه الخالص الكامل لله , ولأنها الصلة الظاهرة بين العبد والرب , الخالصة له ليس فيها من حركة ولا كلمة لسواه .
(وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) . .
وهي داخلة في وصل ما أمر الله به أن يوصل , وفي الوفاء بتكاليف الميثاق . ولكنه يبرزها لأنها الصلة بين عباد الله , التي تجمعهم في الله وهم في نطاق الحياة . والتي تزكي نفس معطيها من البخل , وتزكي نفس آخذها من الغل ; وتجعل الحياة في المجتمع المسلم لائقة بالبشر المتعاونين المتضامنين الكرام على الله . والإنفاق سرا وعلانية . السر حيث تصان الكرامة وتطلب المروءة , وتتحرج النفس من الإعلان . والعلانية حيث تطلب الأسوة , وتنفذ الشريعة , ويطاع القانون . ولكل موضعه في الحياة .
ويدرأون بالحسنة السيئة . .(1/200)
والمقصود أنهم يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية لا في دين الله . ولكن التعبير يتجاوز المقدمة إلى النتيجة . فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شرة النفوس , وتوجهها إلى الخير ; وتطفئ جذوة الشر , وترد نزغ الشيطان , ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية . فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيبا في مقابلة السيئة بالحسنة وطلبا لنتيجتها المرتقبة . ثم هي إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عندما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها ! فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع , ويحتاج الشر إلى الدفع , فلا مكان لمقابلتها بالحسنة , لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي .
ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين . فأما في دين الله فلا . .
إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم . والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم . والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف , واستشارة الألباب , والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب .
(أولئك لهم عقبى الدار:جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ; والملائكة يدخلون عليهم من كل باب . سلام عليكم بما صبرتم , فنعم عقبى الدار) . .
(أولئك) في مقامهم العالي لهم عقبى الدار:جنات عدن للإقامة والقرار .
في هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم . وهؤلاء يدخلون الجنة بصلاحهم واستحقاقهم . ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم , وتلاقي أحبابهم , وهي لذة أخرى تضاعف لذة الشعور بالجنان .
وفي جو التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم , في حركة رائجة غادية:
(يدخلون عليهم من كل باب) . .
ويدعنا السياق نرى المشهد حاضرا وكأنما نشهده ونسمع الملائكة أطوافا أطوافا:
(سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) . .
فهو مهرجان حافل باللقاء والسلام والحركة الدائبة والإكرام .
وهكذا يتقرر أن الذين لا يستجيبون لهذا الحق هم - بشهادة الله سبحانه - عمي . وأنهم لا يتفكرون ولا يعقلون . وأن الذين يستجيبون له هم أولو الألباب , وهؤلاء تطمئن قلوبهم بذكر الله , وتتصل بما هي عارفة له ومصطلحة عليه بفطرتها العميقة , فتسكن وتستريح .
وإن الإنسان ليجد مصداق قول الله هذا في كل من يلقاه من الناس معرضا عن هذا الحق الذي تضمنه دين الله , والذي جاء به في صورته الكاملة محمد رسول الله . . فإن هي إلا جبلات مؤوفة مطموسة . وإن هي إلا كينونات معطلة في أهم جوانبها بحيث لا تتلقى إيقاعات هذا الوجود كله من حولها , وهو يسبح بحمد ربه ; وينطق بوحدانيته وقدرته وتدبيره وتقديره .
وإذا كان الذين لا يؤمنون بهذا الحق عميا - بشهادة الله سبحانه - فإنه لا ينبغي لمسلم يزعم أنه يؤمن برسول الله , ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند الله . .
لا ينبغي لمسلم يزعم هذا الزعم أن يتلقى في شأن من شؤون الحياة عن أعمى ! وبخاصة إذا كان هذا الشأن متعلقا بالنظام الذي يحكم حياة الإنسان ; أو بالقيم والموازين التي تقوم عليها حياته ; أو بالعادات والسلوك والتقاليد والآداب التي تسود مجتمعه . .
وهذا هو موقفنا من نتاج الفكر - غير الإسلامي - بجملته - فيما عدا العلوم المادية البحتة وتطبيقاتها العملية مما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:" أنتم أعلم بشؤون دنياكم " . فإنه ما ينبغي قط لمسلم يعرف هدى الله ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول الله , أن يقعد مقعد التلميذ الذي يتلقى من أي إنسان لم يستجب لهذا الهدى ولم يعلم أنه الحق . .
فهو أعمى بشهادة الله سبحانه . .
ولن يرد شهادة الله مسلم . . ثم يزعم بعد ذلك أنه مسلم !!!
إنه لا بد لنا أن نأخذ هذا الدين مأخذ الجد ; وأن نأخذ تقريراته هذه مأخذ الجزم . . وكل تميع في مثل هذه القضية هو تميع في العقيدة ذاتها ; إن لم يكن هو رد شهادة الله - سبحانه - وهو الكفر البواح في هذه الصورة !
وأعجب العجب أن ناسا من الناس اليوم يزعمون أنهم مسلمون ; ثم يأخذون في منهج الحياة البشرية عن فلان وفلان من الذين يقول عنهم الله سبحانه:إنهم عمي . ثم يظلون يزعمون بعد ذلك أنهم مسلمون ! إن هذا الدين جد لا يحتمل الهزل , وجزم لا يحتمل التميع , وحق في كل نص فيه وفي كل كلمة . فمن لم يجد في نفسه هذا الجد وهذا الجزم وهذه الثقة فما أغنى هذا الدين عنه . والله غني عن العالمين !
وما يجوز أن يثقل الواقع الجاهلي على حس مسلم , حتى يتلقى من الجاهلية في منهج حياته ; وهو يعلم أن ما جاءه به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق ; وأن الذي لا يعلم أن هذا هو الحق(أعمى) . ثم يتبع هذا الأعمى , ويتلقى عنه , بعد شهادة الله سبحانه وتعالى . .
وأخيرا نقف أمام المعلم الأخير من المعالم التي تقيمها هذه السورة لهذا الدين . .(1/201)
إن هناك علاقة وثيقة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض وبين ذلك العمى عن الحق الذي جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والصلاح والخير . فالذين لا يستجيبون لعهد الله على الفطرة , ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عنده ويعلمون أنه وحده الحق . . هم الذين يفسدون في الأرض ; كما أن الذين يعلمون أنه الحق ويستجيبون له هم الذين يصلحون في الأرض , وتزكو بهم الحياة:
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ? إنما يتذكر أولو الألباب . الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق . والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل , ويخشون ربهم , ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم , وأقاموا الصلاة , وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية , ويدرأون بالحسنة السيئة , أولئك لهم عقبى الدار . . . . .
(والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه , ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل , ويفسدون في الأرض , أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) . .
إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق . ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة , وبعهد الله على آدم وذريته , أن يعبدوه وحده , فيدينوا له وحده , ولا يتلقوا عن غيره , ولا يتبعوا إلا أمره ونهيه . ومن ثم يصلون ما أمر الله به أن يوصل , ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه ; ويخافون سوء الحساب , فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل خالجة وكل حركة ; ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ذاك بكل تكاليف الاستقامة ; ويقيمون الصلاة ; وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية ; ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان
إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة ; التي تسير على هدى الله وحده ; والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه . .
إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء , التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وحده ; والتي تتبع - من ثم - مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه للصالحين من عباده . .
إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية , كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية ! . .
إنها كلها من مناهج العمى الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الحق , الذي لا يجوز العدول عنه , ولا التعديل فيه . . إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية ! فكلها سواء في كونها من مناهج العمى , الذين يقيمون من أنفسهم أربابا من دون الله , تضعهي مناهج الحكم ومناهج الحياة , وتشرع للناس ما لم يأذن به الله ; وتعبدهم لما تشرع , فتجعل دينونتهم لغير الله . .
وآية هذا الذي نقوله - استمدادا من النص القرآني - هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين . وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها . .
سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية , وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية ! . .
وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية ! . .
إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق . .
لأنها كلها سواء من صنع العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده ; ولا تلتزم - من ثم - بعهد الله وشرعه ; ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه .
إن المسلم يرفض - بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق - كل منهج للحياة غير منهج الله ; وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي ; وكل وضع كذلك سياسي , غير المنهج الوحيد , والمذهب الوحيد , والشرع الوحيد , الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده .
ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله , هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله , فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه .
إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي , فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه , ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض . . فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العمي ! . .
ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله ; وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العمى , الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون . فلم تسعد قط ; ولم ترتفع "إنسانيتها" قط , ولم تكن في مستوى الخلافة عن الله في الأرض قط , إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم .
هذه بعض المعالم البارزة في هذه السورة , وقفنا عندها هذه الوقفات التي لا تبلغ مداها , ولكنها تشير إليها .(1/202)
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . .(الظلال)
--------------
وفي كتاب ركائز الإيمان - (ج 1 / ص 92)
…*(( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب(19) الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق(20) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب(21) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار(22) جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب(23) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار))(الرعد : 19-24)0
…تبدأ الآيات بموازنة بين المؤمنين والكافرين يتبين منها لأول وهلة أنهم مفترقون بعضهم عن بعض فى صفاتهم ومقومات حياتهم وفكرهم. والقرآن يصف المؤمنين بأنهم هم الذين يعلمون أن ما أنزل إلى الرسول ? من ربه هو الحق، بينما يصف الأخرين بأنهم عمى. ثم يسأل هذا السؤال الإنكارى (أى الذى جوابه دائماً: لا) : ((أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى))؟
والجواب لابد أن يكون : لا ! فمن يقول إن الأعمى كالبصير، وإن من يعلم كمن لا يعلم؟!
…والتعبير القرآنى الجميل يوحى إلينا بأن من يعلم أن القرآن والوحى حق هو المبصر، الذى يسير فى الطريق على نور، ولا يتخبط فى سيره لأنه يرى ما حوله. بينما الذى يشك فى الوحى ولا يتبعه هو الأعمى الذى يتخبط فى الطريق لأنه لا يراه. وهذه حقيقة، فإن المؤمن يعرف - من وحى إيمانه- ما هى غايته فى الحياة، وما الطريق الذى ينبغى أن يسلكه ليصل إلى غايته. فغايته هى إرضاء الله سبحانه وتعالى والتقرب إلأيه، ووسيلته هى الأعمال الصالحة، هى الطاعة لأوامر الله. بينما الكافر لا يعرف لماذا يعيش، إلا لإرضاء ملذاته القريبة، غافلاً عن النهاية التى تنتظره فى آخر الطريق 0
…ثم يجئ التعقيب فى نهاية الآية : ((إنما يتذكر أولوا الألباب))، فالذين لهم عقول هم الذين يتذكرون، وغيرهم لا يتذكر ولا يعتبر. والتعبير القرآنى يوحى إلينا مرة أخرى أن الكافر ليس من أولى الألباب، أى ليس له عقل. ذلك لأنه لا يفكر بهذا العقل الذى وهبه له الله ليفكر ويتدبر، ويعرف عن طريق تدبره حقيقة الألوهية والربوبية0
…((إنما يتذكر أولوا الألباب(19) الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق))0
…وأولوا الألباب هم الذين وصفتهم الآية بأنهم الذين يعلمون أن ما أنزل على الرسول ? هو الحق . ولكن الآية الثانية تبين لنا حقيقة عظيمة ينبغى لنا أن نتدبرها.
…هل المطلوب من الإنسان هو أن ((يعلم)) مجرد علم بأن القرآن حق؟ فقط؟! وهل يكفى هذا عند الله؟
…إن الآية الثانية وما بعدها تبين لنا أثر هذا العلم فى حياة الإنسان وسلوكه وتفكيره وشعوره، فهؤلاء الذين علموا أن القرآن حق يصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم ((يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق))0
…إذن فليس المطلوب هو مجرد ((العلم))! بل إن هذا العلم ينبغى أن يحدث آثاره فى حياة الإنسان، وإلا أصبح بلا معنى، وأصبح وجوده وعدمه سواء 0
…إن الصفة الكبرى التى يتصف بها أولئك العالمون بأن القرآن حق هى أنهم يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق. ولا تحدد الآية عهداً معيناً ولا ميثاقاً معيناً، إنما تشمل كل عهد وكل ميثاق مع الله. والعهد الأكبر هو الذى أودعه الله فى الفطرة وأشهد الفطرة عليه، وهو عبادة الله الواحد بلا شريك: ((وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا)) (الأعراف : 172)0
…وكذلك العهد الذى تذكره سورة يس : ((ألم أعهد إليكم يا بنى آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين(60) وأن اعبدونى هذا صراط مستقيم))(يس : 60: 61)0
…ولا تنتهى صفة المؤمنين بأنهم هم الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، بل يستمر السياق فيصفهم بأوصاف جميلة أخرى : ((والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب)). ((يصلون ما أمر الله به أن يوصل)) أى : يصلون كل ما أمر الله به أن يوصل، لأن ((ما)) تفيد العموم . والتعبير بإطلاقه هكذا دون تحديد يشمل كل شىء أمر الله بوصله. وفى مقدمة كل شىء صلة الإنسان بربه بطبيعة الحال، فهذه أول صلة أمر الله بها أن توصل: صلة العبادة الحقه لله. ويأتى بعدها صلات الإنسان بوالديه، وصلاته بذوى قرباه، وصلاته بالمسلمين جميعاً يحب لهم الخير، ويحب لهم كما يحب لنفسه. وهكذا يشمل هذا التعبير الموجز كثيراً من تصرفات الإنسان0
…ومع القيام بهذه الصلات التى أمر الله بوصلها فهم يخشون ربهم، وهذه الخشية تجعلهم يتصرفون فى أمورهم بما يرضى الله، فيتعاملون بالصدق والأمانة والإخلاص، خشية أن يغضب الله عليهم، وكذلك يخافون سوء الحساب، فيتجنبون الأعمال والأقوال التى تعرضهم للحساب الشديد 0(1/203)
…((والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم))، فهم يصبرون على الشدائد لأنهم يبتغون وجه الله، ويتطلعون إليه بالرجاء، ولكنهم صابرون، لأنهم يعلمون أن ما أصابهم هو قدر من الله، فيرضون به تقرباً لله وتحبباً إليه ليرضى عنهم.
…((وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية))، فهم لا يبخلون بأموالهم، وكذلك لا ينفقونها رياء، وإنما ينفقونها لوجه الله فى السر والعلانية 0
…(( ويدرءون بالحسنة السيئة))، يتلقون السيئة ويردون عليها بالحسنة نبلاً منهم وترفعاً، وتقرباً إلى الله، لا ضعفاً ولا استخذاء، وإنما كما يقول الله سبحانه وتعالى : ((الذين ينفقون فى السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين))(آل عمران : 134)0
…وهكذا رأينا أن أولى الألباب، الذى يعلمون أن القرآن حق، يتصفون بكل هذه الصفات النبيلة الرائعة. تصرفاتهم نظيفة، مشاعرهم نظيفة، كل سلوكهم جميل. لماذا؟ لأنهم عرفوا الحق، وهذه هى المعرفة التى يريدها الله من عباده. فحين يعرفون حقيقة الألوهية ينعكس ذلك على سلوكهم فيصبح على هذه الصورة الرفيعة المحبوبة التى يحبها الله ويحبها الناس 0
…وما جزاؤهم على ذلك كله ؟!
…((أولئك لهم عقبى الدار)) لهم العاقبة الحسنة فى الدار الآخرة.
…((جنات عدن يدخلونها))، ويا لها من جائزة جميلة على السلوك الجميل!
…ولكن الله يتفضل عليهم بأكثر من ذلك! ((جنات عدن يدخلونها ومن صلح آبائهم وأزواجهم وذرياتهم))، فهم لا يدخلون وحدهم، ولكن يدخل معهم الأشخاص الذين يحبونهم من آباء وأزواج وذرية. فيا لها من متعة: متعة الصحبة فى جنات النعيم، جزاء الاستقامة على أمر الله 0
…وهل ينتهى الأمر عند ذلك؟ كلا! إن فضل الله يشملهم بأكثر من ذلك !
…أرأيت حين تكون ضيفاً عند أحد الناس، فيدخل من باب الحجرة فيحييك. أليس ذلك يسر قلبك ويشعرك بالحفاوة والتكريم؟ وإذا كرر الدخول عليك بالتحية؟ ألا يسرك ذلك أكثر؟ وإذا كان أهل البيت كلهم يجيئون إليك ويظهرون حفاوتهم بك فكيف يكون شعورك؟ ألا تحس بالسعادة والرضى والارتياح؟
…إن الله يحتفى بك فى الجنة، فيرسل ملائكته يحيونك! ((والملائكة يدخلون عليهم من كل باب))، يدخلون عليهم بالتحية والحفاوة والتكريم، يقولون : ((سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار))0
…ألا يروقك هذا النعيم؟! ألا تحب أن تكون واحداً من هؤلاء الذين يكرمهم الله هذا التكريم؟ بلى ولا شك!
…والآن قارن حال الفريق الآخر، الذى رفض الهدى وأصر على أن يكون أعمى لا يبصر. إنه يمثل الصورة المقابلة تماماً فى كل شىء! (( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون فى الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار))(الرعد:25)0
…فمن أى الفريقين تحب أن تكون، بعد أن رأيت مصير هؤلاء ومصير هؤلاء؟!
-----------
وفي تفسير السعدي - (ج 1 / ص 416)
يقول تعالى: مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهم: { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ } ففهم ذلك وعمل به. { كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } لا يعلم الحق ولا يعمل به فبينهما من الفرق كما بين السماء والأرض، فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر أي الفريقين أحسن حالا وخير مآلا فيؤثر طريقها ويسلك خلف فريقها، ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره.
{ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ } أي: أولو العقول الرزينة، والآراء الكاملة، الذين هم لُبّ العالم، وصفوة بني آدم، فإن سألت عن وصفهم، فلا تجد أحسن من وصف الله لهم بقوله:
{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ } الذي عهده إليهم والذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة، فالوفاء بها توفيتها حقها من التتميم لها، والنصح فيها { و } من تمام الوفاء بها أنهم { لا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } أي: العهد الذي عاهدوا عليه الله، فدخل في ذلك جميع المواثيق والعهود والأيمان والنذور، التي يعقدها العباد. فلا يكون العبد من أولي الألباب الذين لهم الثواب العظيم، إلا بأدائها كاملة، وعدم نقضها وبخسها.
{ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وهذا عام في كل ما أمر الله بوصله، من الإيمان به وبرسوله، ومحبته ومحبة رسوله، والانقياد لعبادته وحده لا شريك له، ولطاعة رسوله.
ويصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والفعل وعدم عقوقهم، ويصلون الأقارب والأرحام، بالإحسان إليهم قولا وفعلا ويصلون ما بينهم وبين الأزواج والأصحاب والمماليك، بأداء حقهم كاملا موفرا من الحقوق الدينية والدنيوية.
والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به أن يوصل، خشية الله وخوف يوم الحساب، ولهذا قال: { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي: يخافونه،
[ ص 417 ]
فيمنعهم خوفهم منه، ومن القدوم عليه يوم الحساب، أن يتجرؤوا على معاصي الله، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به خوفا من العقاب ورجاء للثواب.(1/204)
{ وَالَّذِينَ صَبَرُوا } على المأمورات بالامتثال، وعن المنهيات بالانكفاف عنها والبعد منها، وعلى أقدار الله المؤلمة بعدم تسخطها.
ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر { ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة، فإن هذا هو الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه، طلبا لمرضاة ربه، ورجاء للقرب منه، والحظوة بثوابه، وهو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان، وأما الصبر المشترك الذي غايته التجلد ومنتهاه الفخر، فهذا يصدر من البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فليس هو الممدوح على الحقيقة.
{ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } بأركانها وشروطها ومكملاتها ظاهرا وباطنا، { وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً } دخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات والنفقات المستحبة وأنهم ينفقون حيث دعت الحاجة إلى النفقة، سرا وعلانية، { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي: من أساء إليهم بقول أو فعل، لم يقابلوه بفعله، بل قابلوه بالإحسان إليه.
فيعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويصلون من قطعهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان، فما ظنك بغير المسيء؟!
{ أُولَئِكَ } الذين وصفت صفاتهم الجليلة ومناقبهم الجميلة { لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } فسرها بقوله: { جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي: إقامة لا يزولون عنها، ولا يبغون عنها حولا؛ لأنهم لا يرون فوقها غاية لما اشتملت عليه من النعيم والسرور، الذي تنتهي إليه المطالب والغايات.
ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم أنهم { يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ } من الذكور والإناث { وَأَزْوَاجِهِمْ } أي الزوج أو الزوجة وكذلك النظراء والأشباه، والأصحاب والأحباب، فإنهم من أزواجهم وذرياتهم، { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ } يهنئونهم بالسلامة وكرامة الله لهم ويقولون: { سَلامٌ عَلَيْكُمْ } أي: حلت عليكم السلامة والتحية من الله وحصلت لكم، وذلك متضمن لزوال كل مكروه، ومستلزم لحصول كل محبوب.
{ بِمَا صَبَرْتُمْ } أي: صبركم هو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية، والجنان الغالية، { فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }
فحقيق بمن نصح نفسه وكان لها عنده قيمة، أن يجاهدها، لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب، لعلها تحظى بهذه الدار، التي هي منية النفوس، وسرور الأرواح الجامعة لجميع اللذات والأفراح، فلمثلها فليعمل العاملون وفيها فليتنافس المتنافسون.
{ 25 } { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } .
لما ذكر حال أهل الجنة ذكر أن أهل النار بعكس ما وصفهم به، فقال عنهم: { والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } أي: من بعد ما أكده عليهم على أيدي رسله، وغلظ عليهم، فلم يقابلوه بالانقياد والتسليم، بل قابلوه بالإعراض والنقص، { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } فلم يصلوا ما بينهم وبين ربهم بالإيمان والعمل الصالح، ولا وصلوا الأرحام ولا أدوا الحقوق، بل أفسدوا في الأرض بالكفر والمعاصي، والصد عن سبيل الله وابتغائها عوجا، { أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ } أي: البعد والذم من الله وملائكته وعباده المؤمنين، { وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } وهي: الجحيم بما فيها من العذاب الأليم.
********************
الباب الرابع )- متى يتخلى الله عنا ويخذلنا ؟
يتخلى الله تعالى عنا إذا فعلنا الأشياء التالية أو بعضها :
عدم الإنفاق في سبيل الله
قال تعالى في سورة محمد ( هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ {38} (
وقال تعالى في سورة البقرة (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {195} (
ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله . فمنكم من يبخل . ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه . والله الغني وأنتم الفقراء . وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم . .(1/205)
والآية ترسم صورة وصفية لواقع الجماعة المسلمة يومذاك . ولواقع الناس تجاه الدعوة إلى البذل في كل بيئة . فهي تقرر أن منهم من يبخل . ومعنى هذا أن هنالك من لا يبخلون بشيء . وقد كان هذا واقعا ، سجلته الروايات الكثيرة الصادقة ، وسجله القرآن في مواضع أخرى . وقد حقق الإسلام في هذا المجال مثلا تحسب من خوارق الأمثال في البذل والتضحية عن رضى وعن فرح بالبذل والعطاء . ولكن هذا لم يمنع أن يكون هنالك من يبخل بالمال . ولعل الجود بالنفس أرخص عند بعضهم من الجود بالمال !
والقرآن يعالج هذا الشح في هذه الآية:
ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه . .
فما يبذله الناس إن هو إلا رصيد لهم مذخور ، يجدونه يوم يحتاجون إلى رصيد ، يوم يحشرون مجردين من كل ما يملكون . فلا يجدون إلا ذلك الرصيد المذخور . فإذا بخلوا بالبذل ، فإنما يبخلون على أنفسهم ؛ وإنما يقللون من رصيدهم ؛ وإنما يستخسرون المال في ذواتهم وأشخاصهم ؛ وإنما يحرمونها بأيديهم !
أجل . فالله لا يطلب إليهم البذل ، إلا وهو يريد لهم الخير ، ويريد لهم الوفر ، ويريد لهم الكنز والذخر . وما يناله شيء مما يبذلون ، وما هو في حاجة إلى ما ينفقون:
والله الغني وأنتم الفقراء . .
فهو الذي أعطاكم أموالكم ، وهو الذي يدخر لكم عنده ما تنفقونه منها . وهو الغني عما أعطاكم في الدنيا ، الغني عن أرصدتكم المذخورة في الآخرة . وأنتم الفقراء في الدارين وفي الحالين . أنتم الفقراء إلى رزقه في الدنيا ، فما لكم من قدرة على شيء من الرزق إلا أن يهبكم إياه . وأنتم الفقراء إلى أجره في الآخرة ، فهو الذي يتفضل به عليكم ، وما أنتم بموفين شيئا مما عليكم ، فضلا على أن يفضل لكم شيء في الآخرة ، إلى أن يتفضل عليكم .
ففيم البخل إذن وفيم الشح ؟ وكل ما في أيديكم ، وكل ما ينالكم من أجر على ما تنفقون هو من عند الله ، ومن فضل الله ؟
ثم الكلمة الأخيرة وهي فصل الخطاب . .
إن اختيار الله لكم لحمل دعوته تكريم ومن وعطاء . فإذا لم تحاولوا أن تكونوا أهلا لهذا الفضل ، وإذا لم تنهضوا بتكاليف هذه المكانة ، وإذا لم تدركوا قيمة ما أعطيتم فيهون عليكم كل ما عداه . .
فإن الله يسترد ، ما وهب ، ويختار غيركم لهذه المنة ممن يقدر فضل الله:
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم . .
وإنها لنذارة رهيبة لمن ذاق حلاوة الإيمان ، وأحس بكرامته على الله ، وبمقامه في هذا الكون وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم . ويمشي في الإرض بسلطان الله في قلبه ؛ ونور الله في كيانه ؛ ويذهب ويجيء وعليه شارة مولاه . .
وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها ثم تسلب منه ، ويطرد من الكنف ، وأثرا في كيان هذا الوجود ، وفي قيامه بدوره ، وانتهائه إلى غايته .(الظلال)
-----------------
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 341)(1/206)
وَالنَّاسُ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ :
قَوْمٌ لَا يَقُومُونَ إلَّا فِي أَهْوَاءِ نُفُوسِهِمْ ؛ فَلَا يَرْضَوْنَ إلَّا بِمَا يُعْطُونَهُ وَلَا يَغْضَبُونَ إلَّا لِمَا يحرمونه ؛ فَإِذَا أُعْطِيَ أَحَدُهُمْ مَا يَشْتَهِيهِ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ زَالَ غَضَبُهُ وَحَصَلَ رِضَاهُ وَصَارَ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ مُنْكَرًا - يُنْهَى عَنْهُ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ ؛ وَيَذُمُّ صَاحِبَهُ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِ - مَرْضِيًّا عِنْدَهُ وَصَارَ فَاعِلًا لَهُ وَشَرِيكًا فِيهِ ؛ وَمُعَاوِنًا عَلَيْهِ ؛ وَمُعَادِيًا لِمَنْ نَهَى عَنْهُ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِ . وَهَذَا غَالِبٌ فِي بَنِي آدَمَ يَرَى الْإِنْسَانُ وَيَسْمَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصِيهِ . وَسَبَبُهُ : أَنَّ الْإِنْسَانَ ظَلُومٌ جَهُولٌ ؛ فَلِذَلِكَ لَا يَعْدِلُ بَلْ رُبَّمَا كَانَ ظَالِمًا فِي الْحَالَيْنِ يَرَى قَوْمًا يُنْكِرُونَ عَلَى الْمُتَوَلِّي ظُلْمَهُ لِرَعِيَّتِهِ وَاعْتِدَاءَهُ عَلَيْهِمْ ؛ فَيَرْضَى أُولَئِكَ الْمُنْكِرُونَ بِبَعْضِ الشَّيْءِ فَيَنْقَلِبُونَ أَعْوَانًا لَهُ . وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَسْكُتُوا عَنْ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ تَرَاهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَزْنِي وَيَسْمَعُ الْمَلَاهِيَ حَتَّى يُدْخِلُوا أَحَدَهُمْ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ ؛ أَوْ يَرْضَوْهُ بِبَعْضِ ذَلِكَ ؛ فَتَرَاهُ قَدْ صَارَ عَوْنًا لَهُمْ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَعُودُونَ بِإِنْكَارِهِمْ إلَى أَقْبَحِ مِنْ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَقَدْ يَعُودُونَ إلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ أَوْ نَظِيرِهِ . وَقَوْمٌ يَقُومُونَ دِيَانَةً صَحِيحَةً يَكُونُونَ فِي ذَلِكَ مُخْلِصِينَ لِلَّهِ مُصْلِحِينَ فِيمَا عَمِلُوهُ وَيَسْتَقِيمُ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يَصْبِرُوا عَلَى مَا أُوذُوا . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهُمْ مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ : يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ . وَقَوْمٌ يَجْتَمِعُ فِيهِمْ هَذَا وَهَذَا ؛ وَهُمْ غَالِبُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ فِيهِ دِينٌ وَلَهُ شَهْوَةٌ تَجْتَمِعُ فِي قُلُوبِهِمْ إرَادَةُ الطَّاعَةِ وَإِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ وَرُبَّمَا غَلَبَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً . وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ الثُّلَاثِيَّةُ كَمَا قِيلَ : الْأَنْفُسُ ثَلَاثٌ : أَمَّارَةٌ ؛ وَمُطَمْئِنَةٌ ؛ وَلَوَّامَةٌ . فَالْأَوَّلُونَ هُمْ أَهْلُ الْأَنْفُسِ الْأَمَّارَةِ الَّتِي تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ . وَالْأَوْسَطُونَ هُمْ أَهْلُ النُّفُوسِ الْمُطْمَئِنَّةِ الَّتِي قِيلَ فِيهَا : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } { ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } { وَادْخُلِي جَنَّتِي } . وَالْآخَرُونَ هُمْ أَهْلُ النُّفُوسِ اللَّوَّامَةِ الَّتِي تَفْعَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ تَلُومُ عَلَيْهِ ؛ وَتَتَلَوَّنُ : تَارَةً كَذَا . وَتَارَةً كَذَا . وَتَخْلِطُ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ اللَّذَيْنِ أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْتَدُوا بالذين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } أَقْرَبُ عَهْدًا بِالرِّسَالَةِ وَأَعْظَمُ إيمَانًا وَصَلَاحًا ؛ وَأَئِمَّتُهُمْ أَقْوَمُ بِالْوَاجِبِ وَأَثْبَتُ فِي الطُّمَأْنِينَةِ : لَمْ تَقَعْ فِتْنَةٌ ؛ إذْ كَانُوا فِي حُكْمِ الْقِسْمِ الْوَسَطِ . وَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَخِلَافَةِ عَلِيٍّ كَثُرَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ؛ فَصَارَ فِيهِمْ شَهْوَةٌ وَشُبْهَةٌ مَعَ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ ؛ وَصَارَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْوُلَاةِ وَبَعْضِ الرَّعَايَا ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ بَعْدُ ؛ فَنَشَأَتْ الْفِتْنَةُ الَّتِي سَبَبُهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ تَمْحِيصِ التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ ؛ وَاخْتِلَاطِهِمَا بِنَوْعِ مِنْ الْهَوَى وَالْمَعْصِيَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ : وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَأَوِّلٌ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَنَّهُ مَعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَعَ هَذَا التَّأْوِيلِ نَوْعٌ مِنْ الْهَوَى ؛ فَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ؛ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ الْأُخْرَى . فَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ ؛ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي أَنْ يُقِيمَ قَلْبَهُ وَلَا يُزِيغَهُ : وَيُثَبِّتَهُ عَلَى الْهُدَى(1/207)
وَالتَّقْوَى ؛ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } . وَهَذَا أَيْضًا حَالُ الْأُمَّةِ فِيمَا تَفَرَّقَتْ فِيهِ وَاخْتَلَفَتْ فِي الْمَقَالَاتِ وَالْعِبَادَاتِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مِمَّا تَعْظُمُ بِهَا الْمِحْنَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى شَيْئَيْنِ : إلَى دَفْعِ الْفِتْنَةِ الَّتِي اُبْتُلِيَ بِهَا نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ فِتْنَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا عَنْ نُفُوسِهِمْ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهَا : فَإِنَّ مَعَهُمْ نُفُوسًا وَشَيَاطِينَ كَمَا مَعَ غَيْرِهِمْ فَمَعَ وُجُودِ ذَلِكَ مِنْ نُظَرَائِهِمْ يَقْوَى الْمُقْتَضِي عِنْدَهُمْ ؛ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ ؛ فَيَقْوَى الدَّاعِي الَّذِي فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَشَيْطَانُهُ ؛ وَمَا يَحْصُلُ مِنْ الدَّاعِي بِفِعْلِ الْغَيْرِ وَالنَّظِيرِ . فَكَمْ مِمَّنْ لَمْ يَرِدْ خَيْرًا وَلَا شَرًّا حَتَّى رَأَى غَيْرَهُ - لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ نَظِيرُهُ - يَفْعَلُهُ فَفَعَلَهُ فَإِنَّ النَّاسَ كَأَسْرَابِ الْقَطَا ؛ مَجْبُولُونَ عَلَى تَشَبُّهِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُبْتَدِئُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ : لَهُ مِثْلُ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ؛ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا } وَذَلِكَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ . وَأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ . وَشَبَهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ . فَإِذَا كَانَ هَذَانِ دَاعِيَيْنِ قَوِيَّيْنِ : فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِمَا دَاعِيَانِ آخَرَانِ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْمُنْكَرِ يُحِبُّونَ مَنْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ ؛ وَيُبْغِضُونَ مَنْ لَا يُوَافِقُهُمْ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الدِّيَانَاتِ الْفَاسِدَةِ مِنْ مُوَالَاةِ كُلِّ قَوْمٍ لِمُوَافَقِيهِمْ ؛ وَمُعَادَاتِهِمْ لِمُخَالِفِيهِمْ . وَكَذَلِكَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ كَثِيرًا مَا يَخْتَارُونَ وَيُؤْثِرُونَ مَنْ يُشَارِكُهُمْ : إمَّا لِلْمُعَاوَنَةِ عَلَى ذَلِكَ ؛ كَمَا فِي الْمُتَغَلِّبِينَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاسَاتِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِمْ . وَإِمَّا بِالْمُوَافَقَةِ ؛ كَمَا فِي الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَخْتَارُونَ أَنْ يَشْرَبَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُمْ وَإِمَّا لِكَرَاهَتِهِمْ امْتِيَازَهُ عَنْهُمْ بِالْخَيْرِ : إمَّا حَسَدًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِئَلَّا يَعْلُوَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَيُحْمَدُ دُونَهُمْ . وَإِمَّا لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ . وَإِمَّا لِخَوْفِهِمْ مِنْ مُعَاقَبَتِهِ لَهُمْ بِنَفْسِهِ ؛ أَوْ بِمَنْ يَرْفَعُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ ؛ وَلِئَلَّا يَكُونُوا تَحْت مِنَّتِهِ وَخَطَرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } . وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَدَّتْ الزَّانِيَةُ لَوْ زَنَى النِّسَاءُ كُلُّهُنَّ . وَالْمُشَارِكَةُ قَدْ يَخْتَارُونَهَا فِي نَفْسِ الْفُجُورِ كَالِاشْتِرَاكِ فِي الشُّرْبِ وَالْكَذِبِ وَالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ وَقَدْ يَخْتَارُونَهَا فِي النَّوْعِ ؛ كَالزَّانِي الَّذِي يَوَدُّ أَنَّ غَيْرَهُ يَزْنِي ؛ وَالسَّارِقُ الَّذِي يَوَدُّ أَنَّ غَيْرَهُ يَسْرِقُ أَيْضًا ؛ لَكِنْ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ الَّتِي زَنَى بِهَا أَوْ سَرَقَهَا . وَأَمَّا الدَّاعِي الثَّانِي فَقَدْ يَأْمُرُونَ الشَّخْصَ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُنْكَرِ . فَإِنْ شَارَكَهُمْ وَإِلَّا عَادُوهُ وَآذَوْهُ عَلَى وَجْهٍ يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ ؛ أَوَّلًا يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ مُشَارَكَةَ الْغَيْرِ لَهُمْ فِي(1/208)
قَبِيحِ فِعْلِهِمْ أَوْ يَأْمُرُونَهُ بِذَلِكَ وَيَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ : مَتَى شَارَكَهُمْ وَعَاوَنَهُمْ وَأَطَاعَهُمْ انْتَقَصُوهُ وَاسْتَخَفُّوا بِهِ . وَجَعَلُوا ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ فِي أُمُورٍ أُخْرَى . وَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ عَادَوْهُ وَآذَوْهُ . وَهَذِهِ حَالُ غَالِبِ الظَّالِمِينَ الْقَادِرِينَ . وَهَذَا الْمَوْجُودُ فِي الْمُنْكَرِ نَظِيرُهُ فِي الْمَعْرُوفِ وَأَبْلَغُ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَإِنَّ دَاعِيَ الْخَيْرِ أَقْوَى ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِيهِ دَاعٍ يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ ؛ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ ؛ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فَإِذَا وُجِدَ مَنْ يَعْمَلُ مِثْلَ ذَلِكَ صَارَ لَهُ دَاعٍ آخَرُ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ نَظِيرُهُ ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ الْمُنَافَسَةِ وَهَذَا مَحْمُودٌ حَسَنٌ . فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُ عَلَى ذَلِكَ وَمُشَارَكَتَهُ لَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالصَّالِحِينَ ؛ وَيُبْغِضُهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْ : صَارَ لَهُ دَاعٍ ثَالِثٌ ؛ فَإِذَا أَمَرُوهُ بِذَلِكَ وَوَالَوْهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَادَوْهُ وَعَاقَبُوهُ عَلَى تَرْكِهِ صَارَ لَهُ دَاعٍ رَابِعٌ . وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يُقَابِلُوا السَّيِّئَاتِ بِضِدِّهَا مِنْ الْحَسَنَاتِ ؛ كَمَا يُقَابِلُ الطَّبِيبُ الْمَرَضَ بِضِدِّهِ . فَيُؤْمَرُ الْمُؤْمِنُ بِأَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ بِشَيْئَيْنِ : بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ . وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ مَعَ وُجُودِ مَا يَنْفِي الْحَسَنَاتِ وَيَقْتَضِي السَّيِّئَاتِ . وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ . وَيُؤْمَرُ أَيْضًا بِإِصْلَاحِ غَيْرِهِ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبِعَةِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ وَإِمْكَانِهِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَالْعَصْرِ } { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } . وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ فَكَّرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي سُورَةِ ( وَالْعَصْرِ لَكَفَتْهُمْ . وَهُوَ كَمَا قَالَ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ خَاسِرُونَ إلَّا مَنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُؤْمِنًا صَالِحًا ؛ وَمَعَ غَيْرِهِ مُوصِيًا بِالْحَقِّ مُوصِيًا بِالصَّبْرِ . وَإِذَا عَظُمَتْ الْمِحْنَةُ كَانَ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ سَبَبًا لِعُلُوِّ الدَّرَجَةِ وَعَظِيمِ الْأَجْرِ ؛ كَمَا { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ الْأَنْبِيَاءُ : ثُمَّ الصَّالِحُونَ ؛ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ؛ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ . فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ . وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَاجُ مِنْ الصَّبْرِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ غَيْرُهُ : وَذَلِكَ هُوَ سَبَبُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . فَلَا بُدَّ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكِ السَّيِّئِ الْمَحْظُورِ ؛ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى فِعْلِ الْأَذَى وَعَلَى مَا يُقَالُ ؛ وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَكَارِهِ ؛ وَالصَّبْرُ عَنْ الْبَطَرِ عِنْدَ النِّعَمِ : وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ . وَلَا يُمْكِنُ الْعَبْدُ أَنْ يَصْبِرَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ وَيَتَنَعَّمُ بِهِ وَيُغْتَذَى بِهِ وَهُوَ الْيَقِينُ ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ ؛ وَالْعَافِيَةَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ فَسَلُوهُمَا اللَّهُ } . وَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ يُحْسِنُ أَوْ أَحَبَّ مُوَافَقَتَهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ أَوْ نَهَى غَيْرَهُ عَنْ شَيْءٍ ؛ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُحْسِنَ إلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ إحْسَانًا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ ؛ مِنْ حُصُولِ الْمَحْبُوبِ وَانْدِفَاعِ الْمَكْرُوهِ ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ لَا تَصْبِرُ عَلَى الْمُرِّ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الْحُلْوِ ؛(1/209)
لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ ؛ حَتَّى جَعَلَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ نَصِيبًا فِي الصَّدَقَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْبِرَ وَأَنْ يَرْحَمَ وَهَذَا هُوَ الشَّجَاعَةُ وَالْكَرَمُ . وَلِهَذَا يُقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ تَارَةً ؛ وَهِيَ الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّبْرِ تَارَةً . وَلَا بُدَّ مِنْ الثَّلَاثَةِ : الصَّلَاةِ ؛ وَالزَّكَاةِ ؛ وَالصَّبْرِ . لَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ الْمُؤْمِنِينَ إلَّا بِذَلِكَ ؛ فِي صَلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَإِصْلَاحِ غَيْرِهِمْ ؛ لَا سِيَّمَا كُلَّمَا قَوِيَتْ الْفِتْنَةُ وَالْمِحْنَةُ ؛ فَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ تَكُونُ أَشَدَّ ؛ فَالْحَاجَةُ إلَى السَّمَاحَةِ وَالصَّبْرِ عَامَّةً لِجَمِيعِ بَنِي آدَمَ لَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَلَا دُنْيَاهُمْ إلَّا بِهِ . وَلِهَذَا جَمِيعُهُمْ يَتَمَادَحُونَ بِالشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ حَتَّى إنَّ ذَلِكَ عَامَّةُ مَا يَمْدَحُ بِهِ الشُّعَرَاءُ فِي شِعْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ يَتَذَامُّونَ بِالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ . وَالْقَضَايَا الَّتِي يَتَّفِقُ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ لَا تَكُونُ إلَّا حَقًّا ؛ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَدْحِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ ؛ وَذَمِّ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ . وَقَدْ قَالَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ الْأَعْرَابُ ؛ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إلَى سَمُرَةٍ فَتَعَلَّقَتْ بِرِدَائِهِ ؛ فَالْتَفَتَ إلَيْهِمْ وَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ عِنْدِي عَدَدَ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْته عَلَيْكُمْ ؛ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذُوبًا } . لَكِنْ يَتَنَوَّعُ ذَلِكَ بِتَنَوُّعِ الْمَقَاصِدِ وَالصِّفَاتِ ؛ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى . وَلِهَذَا جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِذَمِّ الْبُخْلِ وَالْجُبْنِ ؛ وَمَدْحِ الشَّجَاعَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي سَبِيلِهِ دُونَ مَا لَيْسَ فِي سَبِيلِهِ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } . وَقَالَ : { مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ ؟ فَقَالُوا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أَنَّا نَزِنُهُ بِالْبُخْلِ فَقَالَ : وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ } وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّ السَّيِّدَ لَا يَكُونُ بَخِيلًا بَلْ سَيِّدُكُمْ الْأَبْيَضُ الْجَعْدُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ } . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إمَّا أَنْ تُعْطِيَنِي وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي فَقَالَ تَقُولُ : وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ فَجَعَلَ الْبُخْلَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمْرَاضِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ : { قَالَ عُمَرُ : قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ لَغَيْرُ هَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُمْ فَقَالَ : إنَّهُمْ خَيَّرُونِي بَيْنَ أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ وَبَيْنَ أَنْ يبخلوني وَلَسْت بِبَاخِلِ يَقُولُ : إنَّهُمْ يَسْأَلُونِي مَسْأَلَةً لَا تَصْلُحُ فَإِنْ أَعْطَيْتهمْ وَإِلَّا قَالُوا : هُوَ بَخِيلٌ فَقَدْ خَيَّرُونِي بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُكْرِهِينَ لَا يَتْرُكُونِي مِنْ أَحَدِهِمَا : الْفَاحِشَةُ وَالتَّبْخِيلُ . وَالتَّبْخِيلُ أَشَدُّ ؛ فَأَدْفَعُ الْأَشَدَّ بِإِعْطَائِهِمْ . } وَالْبُخْلُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعُ : كَبَائِرَ ؛ وَغَيْرُ كَبَائِرَ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَقَالَ : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ(1/210)
إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } . وَقَالَ : { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } . وَقَالَ : { وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ } . وَقَالَ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } . وَقَالَ : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } الْآيَةَ . وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِيتَاءِ وَالْإِعْطَاءِ وَذَمِّ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ : كُلُّهُ ذَمٌّ لِلْبُخْلِ وَكَذَلِكَ ذَمُّهُ لِلْجُبْنِ كَثِيرٌ مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . وَقَوْلُهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } . وَقَوْلُهُ : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } . وَقَوْلُهُ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } . وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ وَذَمِّ النَّاكِلِينَ عَنْهُ وَالتَّارِكِينَ لَهُ : كُلُّهُ ذَمٌّ لِلْجُبْنِ . وَلَمَّا كَانَ صَلَاحُ بَنِي آدَمَ لَا يَتِمُّ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إلَّا بِالشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ : بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَنْ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ أَبْدَلَ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ ؛ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ } { إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } . وَبِالشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَضَّلَ [ اللَّهُ ] السَّابِقِينَ فَقَالَ : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } . وَقَدْ ذَكَرَ الْجِهَادَ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِهِ ؛ وَمَدَحَهُ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ ؛ وَذَلِكَ هُوَ الشَّجَاعَةُ وَالسَّمَاحَةُ فِي طَاعَتِهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } . وَالشَّجَاعَةُ لَيْسَتْ هِيَ قُوَّةُ الْبَدَنِ وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ قَوِيَّ الْبَدَنِ ضَعِيفَ الْقَلْبِ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ . فَإِنَّ(1/211)
الْقِتَالَ مَدَارُهُ عَلَى قُوَّةِ الْبَدَنِ وَصَنْعَتِهِ لِلْقِتَالِ ؛ وَعَلَى قُوَّةِ الْقَلْبِ وَخِبْرَتِهِ بِهِ . وَالْمَحْمُودُ مِنْهُمَا مَا كَانَ بِعِلْمِ وَمَعْرِفَةٍ ؛ دُونَ التَّهَوُّرِ الَّذِي لَا يُفَكِّرُ صَاحِبُهُ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَحْمُودِ وَالْمَذْمُومِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ . حَتَّى يَفْعَلَ مَا يَصْلُحُ . فَأَمَّا الْمَغْلُوبُ حِينَ غَضَبِهِ فَلَيْسَ بِشُجَاعِ وَلَا شَدِيدٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جِمَاعَ ذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ . وَالصَّبْرُ صَبْرَانِ : صَبْرٌ عِنْدَ الْغَضَبِ ؛ وَصَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ . كَمَا قَالَ الْحَسَنُ : مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جُرْعَةً أَعْظَمَ مِنْ جُرْعَةِ حِلْمٍ عِنْدَ الْغَضَبِ ؛ وَجُرْعَةِ صَبْرٍ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ عَلَى الْمُؤْلِمِ . وَهَذَا هُوَ الشُّجَاعُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى الْمُؤْلِمِ . وَالْمُؤْلِمُ إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الْغَضَبَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الْحُزْنَ ؛ وَلِهَذَا يَحْمَرُّ الْوَجْهُ عِنْدَ الْغَضَبِ لِثَوَرَانِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْقُدْرَةِ وَيَصْفَرُّ عِنْدَ الْحُزْنِ لِغَوْرِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْعَجْزِ ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : الرَّقُوبُ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ قَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ بِالرَّقُوبِ ؛ وَلَكِنَّ الرَّقُوبَ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ : مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ ؟ قُلْنَا : الَّذِي لَا تَصْرَعُهُ الرِّجَالُ فَقَالَ : لَيْسَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّ الصُّرَعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } فَذَكَرَ مَا يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وَالصَّبْرَ عِنْدَ الْغَضَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُصِيبَةِ : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } { الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْغَضَبِ : { وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } . وَهَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ صَبْرِ الْمُصِيبَةِ وَصَبْرِ الْغَضَبِ نَظِيرُ الْجَمْعِ بَيْنَ صَبْرِ النِّعْمَةِ [ وَصَبْرِ الْمُصِيبَةِ ] كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } { إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } . وَقَالَ : { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } . وَبِهَذَا وَصَفَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ مَنْ وَصَفَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ الْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ قَالَ : لَا يَفْرَحُونَ إذَا نَالَتْ سُيُوفُهُمْ قَوْمًا وَلَيْسُوا مجازيعا إذَا نِيلُوا وَكَذَلِكَ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي صِفَةِ الْأَنْصَارِ : لَا فَخْرَ إنْ هُمْ أَصَابُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا خَوْرَ وَلَا هَلَعَ وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْلِبُ فَلَا يَبْطَرُ ؛ وَيَغْلِبُ فَلَا يَضْجَرُ . وَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُو النَّاسَ عِنْدَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ إلَى تَعَدِّي الْحُدُودِ بِقُلُوبِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَمَّا قِيلَ لَهُ : وَقَدْ بَكَى لَمَّا رَأَى إبْرَاهِيمَ فِي النَّزْعِ أَتَبْكِي ؟ أَوَلَمْ تَنْهَ عَنْ الْبُكَاءِ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا نَهَيْت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ : صَوْتٌ عِنْدَ نَغْمَةِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرَ شَيْطَانٍ . وَصَوْتٌ عِنْدَ مُصِيبَةِ لَطْمِ خُدُودٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَدُعَاءٍ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّوْتَيْنِ . وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمَصَائِبِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا(1/212)
بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } . وَقَالَ : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْحَالِقَةِ وَالصَّالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ } . وَقَالَ : { مَا كَانَ مِنْ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ } . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ عَلَى دَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا حُزْنِ الْقَلْبِ ؛ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا أَوْ يَرْحَمُ - وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ وَقَالَ : مَنْ يُنَحْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ } . وَاشْتَرَطَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْبَيْعَةِ أَنْ لَا يَنُحْنَ وَقَالَ : { إنَّ النَّائِحَةَ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا فَإِنَّهَا تَلْبَسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِرْعًا مَنْ جَرَبٍ وَسِرْبَالًا مِنْ قَطِرَانٍ } . وَقَالَ فِي الْغَلَبَةِ وَالْمَصَائِبِ وَالْفَرَحِ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ ؛ وَلْيَحُدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } . وَقَالَ : { إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ } . وَقَالَ : { لَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا } . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ بِهِ فِي الْجِهَادِ مِنْ الْعَدْلِ وَتَرْكِ الْعُدْوَانِ ؛ اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } . وَنَهَى عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ وَتَخَتُّمِ الذَّهَبِ ؛ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ وَإِطَالَةِ الثِّيَابِ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ فِي النِّعَمِ وَذَمِّ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَجَعَلَ فِيهِمْ الْخَسْفَ وَالْمَسْخَ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } . وَقَالَ عَنْ قَارُونَ : { إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } . وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ مَعَ الصَّبْرِ عَنْ الِاعْتِدَاءِ فِي الشَّهْوَةِ هِيَ جَوَامِعُ هَذَا الْبَابِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَشْتَهِيهِ : وَبَيْنَ مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ فَهُوَ يَطْلُبُ الْأَوَّلَ بِمَحَبَّتِهِ وَشَهْوَتِهِ وَيَدْفَعُ الثَّانِيَ بِبُغْضِهِ وَنُفْرَتِهِ . وَإِذَا حَصَلَ الْأَوَّلُ أَوْ انْدَفَعَ الثَّانِي أَوْجَبَ لَهُ فَرَحًا وَسُرُورًا وَإِنْ حَصَلَ الثَّانِي أَوْ انْدَفَعَ الْأَوَّلُ حَصَلَ لَهُ حُزْنٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ عِنْدَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ عُدْوَانِهِمَا ؛ وَعِنْدَ الْغَضَبِ وَالنُّفْرَةِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ عُدْوَانِهِمَا ؛ وَعِنْدَ الْفَرَحِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ عُدْوَانِهِ ؛ وَعِنْدَ الْمُصِيبَةِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ الْجَزَعِ مِنْهَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ الْفَاجِرَيْنِ : الصَّوْتُ الَّذِي يُوجِبُ الِاعْتِدَاءَ فِي الْفَرَحِ حَتَّى يَصِيرَ الْإِنْسَانُ فَرِحًا فَخُورًا ؛ وَالصَّوْتُ الَّذِي يُوجِبُ الْجَزَعَ . وَأَمَّا الصَّوْتُ الَّذِي يُثِيرُ الْغَضَبَ لِلَّهِ : كَالْأَصْوَاتِ الَّتِي تُقَالُ فِي الْجِهَادِ مِنْ الْأَشْعَارِ الْمُنْشَدَةِ : فَتِلْكَ لَمْ تَكُنْ بِآلَاتِ وَكَذَلِكَ أَصْوَاتُ الشَّهْوَةِ فِي الْفَرَحِ ؛ فَرَخَّصَ مِنْهَا فِيمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْأَفْرَاحِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . وَعَامَّةِ الْأَشْعَارِ الَّتِي تُنْشَدُ بِالْأَصْوَاتِ لِتَحْرِيكِ النُّفُوسِ هِيَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبِعَةِ وَهِيَ التَّشْبِيبُ ؛ وَأَشْعَارُ الْغَضَبِ وَالْحَمِيَّةِ ؛ وَهِيَ الْحَمَاسَةُ وَالْهِجَاءُ . وَأَشْعَارُ الْمَصَائِبِ كَالْمَرَاثِي وَأَشْعَارِ النِّعَمِ وَالْفَرَحِ وَهِيَ الْمَدَائِحُ . وَالشُّعَرَاءُ جَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنْ يَمْشُوا مَعَ الطَّبْعِ ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } وَلِهَذَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَتْبَعُهُمْ الْغَاوُونَ وَالْغَاوِي : هُوَ الَّذِي يَتْبَعُ هَوَاهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛ وَهَذَا هُوَ الْغَيُّ ؛ وَهُوَ خِلَافُ الرُّشْدِ . كَمَا أَنَّ(1/213)
الضَّالَّ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَصْلَحَتَهُ هُوَ خِلَافُ الْمُهْتَدِي قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي } . فَلِهَذَا تَجِدُهُمْ يَمْدَحُونَ جِنْسَ الشُّجَاعَةِ وَجِنْسَ السَّمَاحَةِ ؛ إذْ كَانَ عَدَمُ هَذَيْنِ مَذْمُومًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَمَّا وُجُودُهُمَا فَبِهِ تَحْصُلُ مَقَاصِدُ النُّفُوسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ لَكِنَّ الْعَاقِبَةَ فِي ذَلِكَ لِلْمُتَّقِينَ . وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَّقِينَ فَلَهُمْ عَاجِلَةٌ لَا عَاقِبَةٌ وَالْعَاقِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْآخِرَةِ فَتَكُونُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ نُوحٍ وَنَجَاتَهُ بِالسَّفِينَةِ : { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } إلَى قَوْلِهِ : { فَاصْبِرْ إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } . وَقَالَ : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } . وَالْفُرْقَانُ : أَنْ يَحْمَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا حَمِدَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَمْدُهُ زَيْنٌ وَذَمُّهُ شَيْنٌ ؛ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الشُّعَرَاءِ وَالْخُطَبَاءِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ الْقَائِلُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَذَمِّي شَيْنٌ قَالَ لَهُ : " ذَاكَ اللَّهُ " . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ حَمِدَ الشَّجَاعَةَ وَالسَّمَاحَةَ فِي سَبِيلِهِ ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ { أَبِي مُوسَى قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلَ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً ؛ وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً ؛ وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لَهُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } فَكُلُّ مَا كَانَ لِأَجْلِ الْغَايَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا الْخَلْقُ كَانَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي يَبْقَى لِصَاحِبِهِ وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ . وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ : مَنْ يَعْمَلْ لِلَّهِ بِشَجَاعَةِ وَسَمَاحَةٍ ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلْجَنَّةِ . وَمَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللَّهِ بِشَجَاعَةِ وَسَمَاحَةٍ ؛ فَهَذَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمَنْ يَعْمَلْ لِلَّهِ لَكِنْ لَا بِشَجَاعَةِ وَلَا سَمَاحَةٍ ؛ فَهَذَا فِيهِ مِنْ النِّفَاقِ وَنَقْصِ الْإِيمَانِ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَمَنْ لَا يَعْمَلْ لِلَّهِ وَلَيْسَ فِيهِ شَجَاعَةٌ وَلَا سَمَاحَةٌ ؛ فَهَذَا لَيْسَ لَهُ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٌ . فَهَذِهِ الْأَخْلَاقُ وَالْأَفْعَالُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمُؤْمِنُ عُمُومًا وَخُصُوصًا فِي أَوْقَاتِ الْمِحَنِ وَالْفِتَنِ الشَّدِيدَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى صَلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَدَفْعِ الذُّنُوبِ عَنْ نُفُوسِهِمْ عِنْدَ الْمُقْتَضِي لِلْفِتْنَةِ عِنْدَهُمْ وَيَحْتَاجُونَ أَيْضًا إلَى أَمْرِ غَيْرِهِمْ وَنَهْيِهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ مِنْ الصُّعُوبَةِ مَا فِيهِ ؛ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَمَرَهُمْ بِدَعْوَةِ النَّاسِ وَجِهَادِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } . وَكَمَا قَالَ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }(1/214)
وَكَمَا قَالَ : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } . وَكَمَا قَالَ : { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } .
---------------
وفي الوسيط - (ج 1 / ص 329)
ثم أمر الله - تعالى - المؤمنين ببذل المال من أجل إعلاء كلمته ، ونصرة دينه ، فقال : { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } .
قال الإِمام الرازي : الإِنفاق هو صرف المال إلى وجوه المصالح فلذلك لا يقال في المضيع : إنه منفق . فإذا قيد الإِنفاق بذكر سبيل الله ، فالمراد به طريق الدين ، لأن السبيل هو الطريق ، وسبيل الله هو دينه ، فكل ما أمر الله به في دينه من الإِنفاق فهو داخل في الآية سواء أكان إنفاقاً في حج أو في صلة رحم أو غير ذلك ، إلا أن الأقرب في هذه الآية - وقد تقدم ذكر الجهاد - أنه يراد به الإِنفاق في الجهاد ، وقوله { فِي سَبِيلِ الله } كالتنبيه على العلة في وجوب هذا الإِنفاق ، وذلك لأن المال مال الله فيجب انفاقه في سبيله ، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز ونشط فيسهل عليه إنفاق المال .
و { تُلْقُواْ } من الإِلقاء وهو طرح الشيء من اليد .
قال الجمل : والباء في قوله : { بِأَيْدِيكُمْ } تحتمل وجهين :
أحدهما : أنها زائدة في المفعول به لأن ألقى يتعدى بنفسه ، قال - تعالى - { فألقى عَصَاهُ } والثاني : أن يضمن ألقى معنى فعل يتعدى بالباء فيتعدى تعديته فيكون المفعول به في الحقيقة هو المجرور بالباء تقديره ، ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة كقوله : أفضيت بجنبي إلى الأرض أي : طرحته على الأرض " .
والمراد بالأيد : الأنفس ، من باب ذكر الجزء وإرادة الكل ، لأن أكثر ظهور أفعال النفس تكون عن طريق اليد .
والتهلكة : الهلاك والموت . أو كل شيء تصير عاقبته إليه . مصدر هلك يهلك هكلاً وهلاكاً وتهلكه .
والجملة الكريمة معطوفة على جملة { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ . . . } ألخ ، لأنهم لما أمروا بقتال عدوهم ، وكان أوفر منهم عدة وعدداً ، كلفهم بالاستعداد له عن طريق إنفاق الكثير من أموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله لأن هذا الإِنفاق من أقوى الوسائل التي توصل إلى النصر .
والمعنى : عليكم ، أيها المؤمنون - أن تقاتلوا في سبيل الله من قاتلكم ، وأن تنفقوا من أجل إعلاء كلمة الله أموالكم ، ولا تقلوا أنفسكم فيما فيه هلاككم في دين أو دنيا ، بسبب ترككم الجهاد وبخلكم عن الإِنفاق فيه مق القدرة على ذلك .
ويشهد لهذا المعنى ما أخرجه الترمذي وغيره عن أبي عمران قال : كنا بمدينة الروم القسطنطينية - فأخرجوا إلينا صفا عظيماً من الروم . فخرج إليهم من المسلمين مثلهم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقى بيديه إلى التهلكة!! فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : يا أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار .
لما أعز الله الإِسلام وكثر ناصروه ، فقال بعضنا لبعض سراً - دون رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإِسلام ، وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله - تعالى - على نبيه يرد علينا ما قلناه { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } . فكانت التهلكة الإِقامة على الأموال ، وإصلاحها ، وتركنا الغزو .
قال الراوي : فمازال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم .
فالآية الكريمة تأمر المؤمنين بأن ببذلوا أموالهم في الجهاد في سبيل الله بصفة خاصة ، وفي كل موطن من مواطن الخير بصفة عامة ، لأن عدم البذل في سبيل الخير يؤدي إلى ضعف الأمة واضملالها .
ثم ختم - سبحانه - الآية بالترغيب في الإِحسان فقال : { وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } أي : أحسنوا كل أعمالكم وأتقنوها ، لأنه - سبحانه - يحب المحسنين في كل شئونهم ، ويثيبهم على ذلك بما يسعدهم في دينهم ودنياهم .
هذا ، وتأمل معي - أيها القارئ الكريم - في هذه الآيات تراها قد رسمت أحكم منهاج وأعدله في شأن الحرب والسلم .
إنها تأمر المؤمنين أن يجاهدوا أعداءهم الذين بدأوهم بالقتال ، وأن يقتلوهم حيث وجدوهم ، ويخرجوهم من حيث أخرجوهم ، كما تأمرهم أن يبذلوا أموالهم في سبيل الله بدون إمساك أو بخل ، وهذا من أقوى أنواع الحض على الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله .
ولكنها في الوقت نفسه تنهاهم عن الاعتداء ، وتنهاهم عن القتال في الأشهر الحرام وفي الأماكن المقدسة إلا إذا قاتلهم المشركون فيها ، كما تنهاهم عن قتالهم إذا ما انتهوا عن عدوانهم وكفرهم ، لأن شريعة القرآن تستجيب لداعي السلم متى كف المعتدون عن العدوان ، واحترموا كلمة الإِسلام .(1/215)
وبذلك نرى أن القتال في الإِسلام ليس من أجل الغنائم ، أو الاستغلال أو الاستعباد ، أو التباهي . . كلا ليس لأجل شيء من هذا ، وإنما هو من أجل الدفاع عن الحق وأهله ، حتى تكون كلمته هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى ، وبهذا تسعد الإِنسانية ، وتنال ما تصبوا إليه من عزة وفلاح
وبعد هذا الحديث المحكم عن القتال في سبيل الله ، وبيان أحكامه بالنسبة للأشهر الحرام وللبيت الحرام ، ساق القرآن في بضع آيات جملة من الأحكام والآداب التي تتعلق بفريضة الحج ، إذ القتال جهاد لحماية الأمة الإِسلامية من الخارج ، والحج جهاد لتذهيب النفس وحماية الأمة من الداخل عن طريق تجميع أبنائها على اختلاف ديارهم في مكان واحد ليشهدوا منافع لهم ، وليتعاونوا على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان ==============
الركون إلى الدنيا
قال تعالى في سورة التوبة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ {38} إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {39} إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {40} (
إنها ثقلة الأرض ، ومطامع الأرض ، وتصورات الأرض . .
ثقلة الخوف على الحياة ، والخوف على المال ، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع . .
ثقلة الدعة والراحة والاستقرار . .
ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب . . .
ثقلة اللحم والدم والتراب . .
والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه: اثاقلتم . وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل ، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل ! ويلقيها بمعنى ألفاظه: اثاقلتم إلى الأرض . .
وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق .
إن النفرة للجهاد في سبيل اللّه انطلاق من قيد الأرض ، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم ؛ وتحقيق للمعنى العلوى في الإنسان ، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة ؛ وتطلع إلى الخلود الممتد ، وخلاص من الفناء المحدود:
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .
وما يحجم ذو عقيدة في اللّه عن النفرة للجهاد في سبيله ، إلا وفي هذه العقيدة دخل ، وفي إيمان صاحبها بها وهن . لذلك يقول الرسول - [ صلى الله عليه وسلم ] - من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق . فالنفاق - وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل اللّه خشية الموت أو الفقر ، والآجال بيد اللّه ، والرزق من عند اللّه . وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .
ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد:
إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ، ولا تضروه شيئاً ، واللّه على كل شيء قدير . .
والخطاب لقوم معينين في موقف معين . ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في اللّه . والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده ، فهو كذلك عذاب الدنيا . عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح ، والغلبة عليهم للأعداء ، والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين ؛ وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد ؛ ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء . وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب اللّه عليها الذل ، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء .
ويستبدل قوماً غيركم . . يقومون على العقيدة ، ويؤدون ثمن العزة ، ويستعلون على أعداء اللّه:
ولا تضروه شيئاً . .
ولا يقام لكم وزن ، ولا تقدمون أو تؤخرون في الحساب !
واللّه على كل شيء قدير . .
لا يعجزه أن يذهب بكم ، ويستبدل قوماً غيركم ، ويغفلكم من التقدير والحساب !
إن الاستعلاء على ثقلة الأرض وعلى ضعف النفس ، إثبات للوجود الإنساني الكريم . فهو حياة بالمعنى العلوي للحياة:وإن التثاقل إلى الأرض والاستسلام للخوف إعدام للوجود الإنساني الكريم . فهو فناء في ميزان اللّه وفي حساب الروح المميزة للإنسان .(الظلال)
-----------------
وفي الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 1197)
استنفارٌ
«التعريف»(1/216)
1 - الاستنفار في اللّغة مصدر : استنفر ، من نفر القوم « نفيراً » أي أسرعوا إلى الشّيء ، وأصل النّفير مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمرٍ حرّك ذلك ، ويقال للقوم النّافرين لحربٍ أو لغيرها : نفيرٌ ، تسميةً بالمصدر.
2 - وفي الاصطلاحيّ الشّرعيّ : الخروج إلى قتال العدوّ ونحوه من الأعمال الصّالحة بدعوةٍ من الإمام أو غيره أو للحاجة إلى ذلك.
ولكن غلب استعماله عند الفقهاء في قتال العدوّ.
الألفاظ ذات الصّلة
«الاستنجاد»
3 - الاستنجاد : وهو طلب العون من الغير.
يقال : استنجده فأنجده ، أي استعان به فأعانه.
الحكم الإجماليّ
4 - لا خلاف بين المسلمين في أنّ الخروج إلى الجهاد فرضٌ ، منذ شرع بعد الهجرة ، واختلفوا في نوع الفرضيّة في عهده صلى الله عليه وسلم فذهب الشّافعيّة في أصحّ القولين عندهم إلى أنّ النّفير كان فرض كفايةٍ في عهده صلى الله عليه وسلم.
أمّا كونه فرضاً فبالإجماع ، وأمّا كونه على الكفاية فلقوله تعالى : «لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل اللّه» ، إلى قوله تعالى : «وكلاًّ وعد اللّه الحسنى» .
ووجه الاستدلال : أنّ الحقّ تبارك وتعالى فاضل بين القاعدين والمجاهدين في سبيل اللّه ، ثمّ وعد كليهما الحسنى.
والعاصي لا يوعد بها ، ولا يفاضل بين مأجورٍ ومأزورٍ ، فكانوا غير عاصين بقعودهم.
وقيل : كان النّفير في عهده صلى الله عليه وسلم فرض عينٍ ، فلم يكن لأحدٍ من غير المعذورين أن يتخلّف عنه ، لقوله تعالى : «إلاّ تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً» .
إلى قوله تعالى : «انفروا خفافاً وثقالاً» .
وقالوا : إنّ القاعدين المشار إليهم بآية سورة النّساء كانوا حرّاساً على المدينة ، وهو نوعٌ من الجهاد.
وهناك أقوالٌ أخرى : يرجع إليها في مصطلح : « جهادٌ » .
أمّا بعد عهده صلى الله عليه وسلم فللعدوّ حالتان :
5 - أن يكون في بلاده مستقرّاً ، ولم يقصد إلى شيءٍ من بلاد المسلمين ، ففي هذه الحالة : اتّفق جمهور الفقهاء على أنّ النّفير فرض كفايةٍ ، إذا قام به فريقٌ من النّاس مرّةً في السّنة سقط الحرج عن الباقين ، أمّا الفرضيّة فلقوله تعالى : «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» .
ولقوله صلى الله عليه وسلم « الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة » .
وأمّا كونه على الكفاية فلأنّه لم يفرض لذاته وإنّما فرض لإعزاز دين اللّه وإعلاء كلمة الحقّ ، ودفع الشّرّ عن العباد ، فإذا حصل المقصود بالبعض سقط الحرج عن الباقين ، بل إذا أمكنه أن يحصل بإقامة الدّليل والدّعوة بغير جهادٍ كان أولى من الجهاد ، فإن لم يقم به أحدٌ أثم الجميع بتركه.
6 - أمّا إذا دهم العدوّ بلداً من بلاد الإسلام ، فإنّه يجب النّفير على جميع أهل هذا البلد ، ومن بقربهم وجوباً عينيّاً ، فلا يجوز لأحدٍ أن يتخلّف عنه ، حتّى الفقير ، والولد ، والعبد ، والمرأة المتزوّجة بلا إذنٍ من : الأبوين ، والسّيّد ، والدّائن ، والزّوج.
فإن عجز أهل البلد ومن بقربهم عن الدّفاع فعلى من يليهم ، إلى أن يفترض على جميع المسلمين فرض عينٍ كالصّلاة تماماً على هذا التّدريج.
7 - وكذلك يكون النّفير فرض عينٍ على كلّ من يستنفر ممّن له حقّ الاستنفار كالإمام أو نوّابه ، ولا يجوز لأحدٍ أن يتخلّف إذا دعاه داعي النّفير ، إلاّ من منعه الإمام من الخروج ، أو دعت الحاجة إلى تخلّفه لحفظ الأهل أو المال ، لقوله تعالى : «يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم» .
«النّفير من منًى»
------------
وفي الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 5585)
7 - الجهاد فرض في الجملة ، والدّليل على فرضيّته قوله عزّ وجلّ : «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ» ، وقوله تعالى : «انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ» ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « الجهاد ماض منذ بعثني اللّه إلى أن يقاتل آخر أمّتي الدّجّال » .
والمراد - واللّه أعلم - أنّه فرض باق ، لأنّ المضيّ معناه النّفاذ ، والنّفاذ إنّما هو في الفرض من الأحكام ، فإنّ النّدب والإباحة لا يجب فيهما الامتثال والنّفاذ.
وقد نقل عن ابن عبد البرّ أنّ الجهاد فرض كفاية مع الخوف ، ونافلة مع الأمن.
8- ثمّ اختلف القائلون بالفرضيّة : فذهب الجمهور إلى أنّه فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود وهو كسر شوكة المشركين ، وإعزاز الدّين.
ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض إليه قوم يكفون في جهادهم ، إمّا أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك ، أو يكونوا أعدّوا أنفسهم له تطوّعاً بحيث إذا قصدهم العدوّ حصلت المنعة بهم ، ويكون في الثّغور من يدفع العدوّ عنها ، ويبعث في كلّ سنة جيشا يغيرون على العدوّ في بلادهم.
وفرض الكفاية : ما قصد حصوله من غير شخص معيّن ، فإن لم يوجد إلاّ واحد تعيّن عليه ، كردّ السّلام ، والصّلاة على الجنازة.(1/217)
فإذا لم يقم بالواجب من يكفي ، أثم النّاس كلّهم.
واستدلّوا بقوله تعالى : «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ» .
واستدلّوا كذلك بقوله تعالى : «فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيماً» .
واستدلّوا لذلك بأنّ الجهاد ما فرض لعينه ، وإنّما فرض لإعزاز دين اللّه ، ودفع الشّرّ عن العباد.
والمقصود أن يأمن المسلمون ، ويتمكّنوا من القيام بمصالح دينهم ودنياهم.
فإذا اشتغل الكلّ بالجهاد لم يتفرّغوا للقيام بمصالح دنياهم.
وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تارة يخرج ، وتارة يبعث غيره ، حتّى قال : « والّذي نفسي بيده ، لولا أنّ رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا عنّي ، ولا أجد ما أحملهم عليهم ، ما تخلّفت عن سريّة تغدو في سبيل اللّه » .
فهذا يدلّ على أنّ القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم ، فقد وعد اللّه كلّا الحسنى ، والعاصي لا يوعد بها ، ولا تفاضل بين مأجور ومأزور.
وروى أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان ، وقال : ليخرج من كلّ رجلين رجل ، ثمّ قال للقاعدين : أيّكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج » .
وقال سعيد بن المسيّب : إنّ الجهاد من فروض الأعيان.
لقوله تعالى : «انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ» .
وقوله : «إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً» .
وقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « من مات ولم يغز ، ولم يحدّث نفسه بالغزو ، مات على شعبة من نفاق » .
وأنّ القاعدين الموعودين بالحسنى كانوا حرّاساً ، أي كانوا من هذين كذلك.
«متى يصير الجهاد فرض عين ؟»
9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يصير الجهاد فرض عين في كلّ من الحالات الآتية:
أ - إذا التقى الزّحفان ، وتقابل الصّفّان ، حرّم على من حضر الانصراف ، وتعيّن عليه المقام ، لقوله تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ»
إلى قوله : «وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» .
ب - إذا هجم العدوّ على قوم بغتة ، فيتعيّن عليهم الدّفع ولو كان امرأة أو صبيّاً ، أو هجم على من بقربهم ، وليس لهم قدرة على دفعه ، فيتعيّن على من كان بمكان مقارب لهم أن يقاتلوا معهم إن عجز من فجأهم العدوّ عن الدّفع عن أنفسهم ، ومحلّ التّعيّن على من بقربهم إن لم يخشوا على نسائهم وبيوتهم من عدوّ بتشاغلهم بمعاونة من فجأهم العدوّ ، وإلاّ تركوا إعانتهم.
وعند الشّافعيّة يعتبر من كان دون مسافة القصر من البلدة كأهلها ، ومن على المسافة يلزمه الموافقة بقدر الكفاية إن لم يكف أهلها ، ومن يليهم.
وأمّا من لم يفجأهم العدوّ فلا يتعيّن عليهم ، يستوي في ذلك المقلّ منهم والمكثر.
ومعناه : أنّ النّفير يعمّ جميع النّاس ممّن كان من أهل القتال حين الحاجة لمجيء العدوّ إليهم ، ولا يجوز لأحد التّخلّف إلاّ من يحتاج إلى تخلّفه لحفظ المكان والأهل والمال ، ومن يمنعه الأمير من الخروج ، أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال.
وقد ذمّ اللّه تعالى الّذين أرادوا الرّجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب فقال : «وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً» .
ج - إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النّفير معه إلاّ من له عذر قاطع ، لقول اللّه تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ» .
وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة ، وإذا استنفرتم فانفروا » .
وذلك لأنّ أمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ، ويلزم الرّعيّة طاعته فيما يراه من ذلك.
ونصّ المالكيّة على أنّه يتعيّن الجهاد بتعيين الإمام ولو لصبيّ مطيق للقتال أو امرأة ، وتعيين الإمام إلجاؤه إليه وجبره عليه ، كما يلزم بما فيه صلاح حاله ، لا بمعنى عقابه على تركه ، فلا يقال : إنّ توجّه الوجوب للصّبيّ خرق للإجماع.
«حكمة تشريع الجهاد»(1/218)
10 - القصد من الجهاد دعوة غير المسلمين إلى الإسلام ، أو الدّخول في ذمّة المسلمين ودفع الجزية ، وجريان أحكام الإسلام عليهم ، وبذلك ينتهي تعرّضهم للمسلمين ، واعتداؤهم على بلادهم ، ووقوفهم في طريق نشر الدّعوة الإسلاميّة ، وينقطع دابر الفساد ، قال تعالى : «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ» .
وقال عزّ وجلّ : «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» .
وقد مضت سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وسيرته ، وسيرة الخلفاء الرّاشدين من بعده على جهاد الكفّار ، وتخييرهم بين ثلاثة أمور مرتّبة وهي : قبول الدّخول في الإسلام ، أو البقاء على دينهم مع أداء الجزية ، وعقد الذّمّة.
فإن لم يقبلوا ، فالقتال.
ولا ينطبق هذا على مشركي العرب ، على تفصيل وخلاف ينظر في مصطلحي : « جزية ، وأهل الذّمّة » .
------------------
وفي الموسوعة الفقهية 1-42 - (ج 1 / ص 8669)
سَريّة
التّعريف
1 - في اللّغة : السَّرِيّة - بفتح المهملة ، وكسر الرّاء وتشديد الياء - : قطعة من الجيش.
فعيلة بمعنى فاعلة.
من سرى في اللّيل وأسرى : إذا ذهب فيه.
والجمع سرايا ، وسريّات.
وفي الاصطلاح : فرقة من الجيش أقصاها أربعمائة ، يبعثها الأمير لقتال العدوّ ، أو التّجسّس على الأعداء ، وسمّيت سريّةً لأنّهم يسرّون باللّيل ويكمنون بالنّهار لقلّة عددهم.
الألفاظ ذات الصّلة
«الجيش ، ونحوه»
2 - الجيش ما زاد على ثمانمائة ، والجحفل : ما زاد على أربعة آلاف ، والخميس : هو الجيش العظيم ، والبعث : هو ما تفرّع عن السّريّة ، والكتيبة : هي ما اجتمع ، ولم ينتشر.
«الحكم الشّرعيّ»
3 - خروج المجاهدين لإعزاز الدّين ، ودفع الشّرّ عن العباد وحماية البيضة من فروض الكفاية ، ومن أفضل القربات إلى اللّه.
وقد حثّ القرآن على الخروج في سبيل اللّه ، فقال عزّ من قائل : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ، إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
وقال جلّ شأنه : «مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .
وغير ذلك من الآيات.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « ألا أنبّئكم بليلة أفضل من ليلة القدر : حارس حرس في أرض خوف لعلّه أن لا يرجع إلى أهله » .
وداوم النّبيّ صلى الله عليه وسلم على بعث السّرايا حتّى بلغت سراياه الّتي بعثها سبعاً وأربعين سريّةً.
وأمر بعث السّرايا موكول إلى اجتهاد الإمام ، وإلى من ينوب عنه من أمراء الجيش.
==============
حب الدنيا وكراهية الموت
أخرج أبو داود بسند صحيح 4299 - عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ».
----------------
الوهن وباء خطير ومرض قاتل
ويقول د محمد الزحيلي:((مجلة الوعي الإسلامي العدد(243)
يتعرض الفرد والمجتمع والأمة دائما وباستمرار إلى عوارض متعددة، وظروف طارئة، وتطورات كثيرة، وأمراض مختلفة، ويتفاوت أثر ذلك بحسب طبيعة المؤثر الجديد، وبنيان الفرد والمجتمع، والعوامل المساعدة، وقد ينتاب الفرد أو المجتمع مرض عارض، ويزول بسرعة دون أن يترك أثرا ما، وقد يصاب الفرد بمرض معين، فيقتصر عليه ولا يمتد إلى المجتمع، ولا تحس به الأمة، وقد يتحول المرض من الفرد إلى المجتمع، فيصبح مرضا قاتلا، ووباء فتاكا، ويكون أثره إزهاق الفرد، وإبادة الأمة وسحق المجتمع.(1/219)
وإن أمراض الإنسان كثيرة، منها عضوية، ومنها نفسية ومنها اجتماعية، وهي في معظمها أمراض عامة لا تخص فردا أو مجتمعا أو أمة، فإذا حلت في فرد أو مجتمع أو أمة فلا بد أن تظهر أعراضها، وينتشر خطرها، ويحس بآلامها المصاب وغيره، وقد تفتك بالمريض، وتؤدي إلى العدوى، لتفتك بالمجموع.
ومن هنا تقوم الديانات السماوية، والمفكرون في كل أمة، والمصلحون في كل مجتمع، بمجابهة هذه الأمراض، ووصف الأدوية لها، بل يسارعون إلى التحذير منها لأخذ الوقاية والمناعة قبل أن تحل وتستشري بين الناس، لأن الوقاية خير من العلاج، وبذلك ينقذون أمتهم ومجتمعهم من الأخطار المحدقة، ويجنبون الأفراد ويلات تحيق بهم، وتهدد وجودهم.
ومن هذه الأمراض الفتاكة التي يشترك فيها الفرد والمجتمع، وتنذر الأمة بالويل والدمار مرض الوهن الذي بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعراضه وأسبابه، وحذر منه.
والوهن في اللغة العربية الضعف، سواء أكان ماديا أم معنويا، وسواء أكان في الفرد أم في المجتمع، من وهن يهن وهنا أي ضعف، ويقال وهن عظمه، واسم التفضيل أوهن، ويقال: وهن الرجل أي جبن عن لقاء عدوه، وهذا داخل في الضعف، وقد استعمل القرآن الكريم هذا المعنى في عدة آيات، فقال تعالى: {قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا} مريم/ 4، وقال تعالى: {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله} آل عمران / 146، وقال تعالى: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون} النساء/ 104 أي لا تجبنوا، وقال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} آل عمران / 139، وقال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن} لقمان / 14، وقال عز وجل: {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} العنكبوت /41.
ولكن الوهن المقصود في هذا المقال هو مرض عضال، ووباء عام بينه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة وثوبان قالا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، قيل: يا رسول الله: فمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم يومئذ كثير،ولكنكم غثاء كغثاء السيل،ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن" فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت".
وهكذا يكشف الرسول صلى الله عليه وسلم أعراض الوهن الذي يبدأ من الفرد، وينتهي بالمجتمع، هذا المرض الذي يصيب الأمم والشعوب فيقضي عل كيانها، ويهد م وجودها، ويسقط هيبتها، ويمحو أثرها، ويزلزل أركانها، ويحطم دعائمها، فتهوى من عليائها وكرامتها واستعلائها إلى أن تركع أمام الأمم الأخرى، وتستخذل أمام الشعوب المجاورة، وتصبح لقمة سائغة للطامعين فيها، بل يكثر الأكلة حولها، ويجتمعون على اقتسامها والقضاء عليها، كما يجتمع الجياع حول الطعام ليتناولوه، ويأخذوه، ويقتسموه، فلا يرفعون أيديهم عنه، وفي القصعة أثر لوجوده.(1/220)
هذا المرض بأعراضه وأسبابه يصيب الدول في القديم والحديث، ويؤدي إلى سقوطها وانهيارها، وهو اليوم مقيم بين المسلمين، وقد حط بكلكله عليهم، ونزل بهم الوهن منذ أمد، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر بعين الغيب (الذي يطلعه عليه الوحي) ويصور حال المسلمين، وقد تداعت عليهم الأمم الاستعمارية، والشعوب المعادية وتكالبت على أرضهم وبلادهم، وجزأت أوطانهم وديارهم، وسلبت نصيبا كبيرا وعزيزا من مقدساتهم، وتآمرت، ولا تزال تتآمر، عليهم في كل قطر وجانب، وتحيك لهم المؤامرة تلو المؤامرة للإطاحة بهم، وفرض الاستسلام عليهم، وضمان الاستذلال والاستسلام لهم، وتنوع عليهم أساليب الاستغلال والابتزاز لثرواتهم واقتصادهم، وتفرض عليهم الأفكار الخبيثة، والمبادئ البراقة، والقيم الدخيلة، والقوانين الوضعية، وتغزوهم فكريا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا في عقر دارهم، وتتقاسمهم النفوذ ومناطق السيطرة، وتتقاذفهم ذات اليمين وذات اليسار، وتحفر لهم الحفر ليسقطوا فيها، وترى القطر الواحد يوما مع الشرق ويوما مع الغرب، وتارة يستورد أفكاره وقيمه ومواده وأسلحته من هنا، وتارة من هناك، والمسلمون اليوم في ضياع وتمزق، وتردد واضطراب، لا يعرفون ذاتا لأنفسهم، ولا يعلمون هوية لشخصيتهم، ويجهلون السفينة التي تحملهم، وهم نائمون عن الرياح التي تتقاذفهم، وقد تكسرت السواري، وسقطت الراية، وهم في بحر لجي، في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرجوا أصابعهم لا يكادون يرونها من الحجب الكثيفة، والنظارات السوداء التي أحكم العدو ربطها على أعينهم، وشدد الخناق فيها على رقابهم، لكن أعدادهم كثيرة، وثرواتهم ضخمة، ومركزهم استراتيجي، وهم ملايين وملايين، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، لا قيمة له، ولا يثبت على حال، ويقذفه السيل إلى الحضيض، ولذلك فقدوا هيبتهم، وطمع بهم القريب والبعيد، والقوى والضعيف، وسامهم الذل والهوان على أيدي عصابات صهيون، وجنود المرتزقة، وتسلط العملاء.
حب الدنيا وكراهية الموت:
وقد شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم المرض، فبين أنه الوهن، ثم شرح أعراضه الظاهرة وأسبابه القريبة والبعيدة، وهي حب الدنيا، والتعلق بها، والافتتان بزينتها، والسعي وراءها، والطمع فيها، وقصور الآمال عليها، واعتبارها المبدأ والمنتهى، والظن بالخلود فيها، وحب الاستزادة من البقاء فيها، وبالتالي كراهية الموت، لأنه يقطع هذه ا لآمال والأماني وكأن لسان حال القوم يردد سخافات الجاهلية من الدهريين وغيرهم، حين يقولون: {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين} المؤمنون/37، {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} الأنعام/ 29، {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} الجاثية / 24 .
إن المرض واحد، ولكن له وجهان متقابلان، وصفتان متلازمتان، وعرضان متحدان، وهما حب الدنيا وكراهية الموت، وهذان العرضان نشيطان ومؤثران، ويتركان الآثار العظيمة، والنتائج الخطيرة، ويدفعان إلى أعمال جمة.
فمن آثار حب الدنيا أن تبدأ من الفرد لتصل إلى المجتمع، فتصبغه بها، وينتشر الحرص على جمع المال، والانكباب على كسبه بالطرق المشروعة وغير المشروعة، ويظهر التقاتل والتخاصم، والشح والبخل، والجشع والطمع، واللف والدوران في التعامل، والتحايل والتهرب، والسرقة والغصب، ثم يعقب ذلك التخاذل والجبن والخوف والاضطراب، والقلق الشديد من المستقبل.
ومن آثار كراهية الموت أن يعب الإنسان من طيبات الحياة ما استطاع إلى ذ لك سبيلا، وألا يعد للموت عدته، ولا يقدم شيئا أمامه، ويسرف في الملذات، ويسعى لإشباع الشهوات، وينقاد وراء الغرائز، ولو قتل نفسه بنفسه، ثم يهلك ذاته بيده.
ويشرح القرآن الكريم هذا المرض بشقيه، مبينا أثره وخطره وعاقبته، فيقول تعالى: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} التكاثر.
حقيقة الدنيا:(1/221)
< وإن حب الدنيا وكراهية الموت يعني أن الإنسان يجهل حقيقة الدنيا، ويغتر بمظاهرها، ويفتتن بمغرياتها، وأن صاحبها قصير النظر، كليل البصر، ينظر بين رجليه، ولا يستعد لأبعد من ذلك، ولا يهيء نفسه لمستقبل أيامه، ولا يدخر سلاحه وقوته لوقت حاجته، لذلك حرص القرآن الكريم على أن يكشف للمسلم حقيقة الدنيا، ويميط له اللثام عن مفاتنها، ويحذره من الاغترار فيها، وذلك في آيات كثيرة، قال تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} الحديد/ 20. وقال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} آل عمران/ 14، ويبين القرآن حقيقة الحياة، ويحذر من فتنتها، فيقول تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} فاطر/ 5، كما يقرر القرآن الكريم أشياء كثيرة من زينة الحياة الدنيا، ثم يدعو الناس إلى عدم الوقوف عندها، ويطلب منهم تجاوزها إلى ما هو خير وأشمل، وأحسن وأدوم وأثمن وأبقى، فيقول تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} الكهف/46.
فالدنيا جميلة، وفيها من المسليات والملاهي الشيء الكثير، ولكن ذلك إلى زوال، وأن الحياة الحقيقية، والسعادة الحقة هي في الدار الآخرة، فيقول تعالى: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} العنكبوت/ 64، ثم يحذر الرسول الكريم من مفاتن الدنيا، والانشغال بمالها وخيراتها، والتنافس فيها، والغفلة عن الله والآخرة، فيقول عليه الصلاة والسلام في حديث طويل رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم"، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قيمة الدنيا، وهوانها عند الله تعالى، وأنه لا قدر لها إذ ا قصدت لذاتها، وإنما تظهر قيمتها إذا جعلت طريقا إلى الآخرة، ومزرعة للأعمال، فقال عليه الصلاة و السلام - فيما رواه الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء "، وحذر الرسول الكريم المؤمنين من استعباد الدنيا وزينتها لهم، فالعاقل لا يكون عبدا للدرهم والدينار، وإلا استحق السخط والغضب، يروي البخاري عن أبي هر يرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تعس عبد الدينار والدرهم، والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض"، وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء" وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، وهذه الآيات والأحاديث، وغيرها كثير، تحذير للمسلمين من الفتنة بالدنيا، والتعلق بها، والاغترار بزينتها، وليكون ذ لك وقاية لهم من الانغماس فيها، ولكن ذ لك لا يعني التخلي عن الدنيا وترك ما فيها، واعتبارها نجسا كما يحلو لأتباع بعض الديانات المحرفة، بل الدنيا مزرعة للآخرة، وأن الدنيا ميراث وتركة للمؤمن، ينفقها في سبيل الآخرة، ويشترى بها الدرجات العليا في الجنة، روى الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة اذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك".
الاستعداد للموت:(1/222)
وهذه النظرة الحقيقية للدنيا، وعدم التعلق بها، وسيلة تربوية حتى يكون المال وغيره في يد المؤمن والعاقل، وليس في قلبه، فلا يستأسره ويسيطر عليه، وإنما يستخدمه لنفع العباد والبلاد، ويسخر ما في يده من خير ليكون أمامه يوم الدين والحساب، وليبقى ذكرا له، وعملا نافعا، وأجرا دائما بعد وفاته، وأن الادخار والبخل، والاكتناز والشح لا يعود عليه بشيء، ولن يخلد في الدنيا، وسوف ينقل إلى القبر، ويدفن تحت التراب، ويبقى المال لغيره، ويكشف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الحقيقة، مبينا حظ الإنسان من ماله، فيما يرويه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن عبد الله بن الشخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت" ولذلك يستعد العاقل للموت، - ويهيئ له الأسباب المحمودة، فإن جاءه الموت كان عل خير حال، دون أن يغفل عن هذه الحقيقة التي تلازم البشرية، وأن الدنيا ليست مقرا ولا مستقرا، ولم يخلد فيها إنسان، والموت حق يقيني، ومهما جمع الإنسان في هذه الحياة، فإن متطلباته منها محدودة، وحصيلته مقررة، وانتفاعه محصور، والزائد عنه سيبقى لغيره من الأحياء، ويروح المرء إلى مصيره المحتوم شاء أم أبى، وإن أنفق ماله في الشر والإيذاء فسوف يحاسب عليه، وإن كان رشيدا أنفقه في الخير، واستعد لما بعد الموت، لما روي الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكيس (وفي رواية العاقل) من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني"، وقد خلق الله الحياة ابتلاء للإنسان واختبارا له، ليستعد إلى لقاء ربه، ويغتنم الفرصة في حياته، لما رواه الإمام أحمد والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك". وكان اليهود يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، فوضعهم الله على المحك الحقيقي،وطلب منهم تمني الموت إن كانوا صادقين في لقاء الله، فقال تعالى: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} الجمعة/ 6.
وفي هذا التوجيه، والتربية الإسلامية يكون الإنسان سويا وقويا، ويضمن لنفسه العزة والكرامة، ويحقق لأمته النصر والحياة العزيزة، ويغرس في نفسه المناعة والوقاية من الوهن، ويطلب الموت لتوهب له الحياة، وينزع من قلبه حب الدنيا، ويضع الموت نصب عينيه ليحاسب نفسه قبل أن تحاسب، وفقنا الله لما يحبه ويرضاه، وردنا إلى دينه ردا جميلا، والحمد لله رب العالمين.
================
إيثار الدنيا ومتاعها على الآخرة
قال تعالى في سورة التوبة ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {24}
إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكا ؛ فإما تجرد لها ، وإما انسلاخ منها . وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ؛ ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة . .
كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب ، ويخلص لها الحب ، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة ، وهي المحركة والدافعة . فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة ؛ على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة .
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع ؛ وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض . فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة وبالزوج والعشيرة ؛ ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن ؛ ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق - في غير سرف ولا مخيلة - بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب ، باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده ، وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب .
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء - إن استحبوا الكفر على الإيمان - . .
وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب ، إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة . وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في الله . فلله الولاية الأولى ، وفيها ترتبط البشرية جميعا ، فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك ، والحبل مقطوع والعروة منقوضة .
ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون . .(1/223)
و الظالمون هنا تعني المشركين . فولاية الأهل والقوم - إن استحبوا الكفر على الإيمان - شرك لا يتفق مع الإيمان .
ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ ، بل يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ ؛ ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى:الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة [ وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج ] والأموال والتجارة [ مطمع الفطرة ورغبتها ] والمساكن المريحة [ متاع الحياة ولذتها ] . .
وفي الكفة الأخرى:حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله . الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته . الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب ، وما يتبعه من تضييق وحرمان ، وما يتبعه من ألم وتضحية ، وما يتبعه من جراح واستشهاد . . وهو - بعد هذا كله - "الجهاد في سبيل الله" مجردا من الصيت والذكر
والظهور . مجردا من المباهاة ، والفخر والخيلاء . مجردا من إحساس أهل الأرض به وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه . وإلا فلا أجر عليه ولا ثواب . .
قل:إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها ، وتجارة تخشون كسادها ، ومساكن ترضونها ، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله . . فتربصوا حتى يأتي الله بأمره . . .
ألا إنها لشاقة . ألا وإنها لكبيرة . ولكنها هي ذاك . . وإلا:
فتربصوا حتى يأتي الله بأمره .
وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين:
والله لا يهدي القوم الفاسقين . .
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده ، إنما تطالب به الجماعة المسلمة ، والدولة المسلمة . فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله .
وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف ، إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه - فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها - وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال ؛ وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها . .
لذة الشعور بالاتصال بالله ، ولذة الرجاء في رضوان الله ، ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط ، والخلاص من ثقلة اللحم والدم ، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء . فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك .(الظلال)
---------------
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :(1/224)
وَالْفَنَاءُ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ :
أَحَدُهَا : هُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَمَّا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ : فَيَفْنَى عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ بِعِبَادَتِهِ وَعَنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَعَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَعَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ ؛ وَعَنْ خَوْفِ غَيْرِهِ بِخَوْفِهِ بِحَيْثُ لَا يَتَّبِعُ الْعَبْدُ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ ، وَبِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } فَهَذَا كُلُّهُ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا ( الْفَنَاءُ الثَّانِي : وَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَفْنَى بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِحَيْثُ قَدْ يَغِيبُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ لِمَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا حَالٌ نَاقِصٌ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ لَوَازِمَ طَرِيقِ اللَّهِ وَلِهَذَا لَمْ يُعْرَفْ مِثْلُ هَذَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَنْ جَعَلَ هَذَا نِهَايَةَ السَّالِكِينَ فَهُوَ ضَالٌّ ضَلَالًا مُبِينًا وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ لَوَازِمِ طَرِيقِ اللَّهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بَلْ هُوَ مِنْ عَوَارِضِ طَرِيقِ اللَّهِ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي تَحْصُلُ لِكُلِّ سَالِكٍ وَأَمَّا الثَّالِثُ : فَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السَّوِيِّ بِحَيْثُ يَرَى أَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ وَأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ فَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَضَلِّ الْعِبَادِ وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ : فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَطْرُدَ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُشَاهِدًا لِلْقَدَرِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ فَعُومِلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُضْرَبَ وَيُجَاعَ حَتَّى يُبْتَلَى بِعَظِيمِ الْأَوْصَابِ وَالْأَوْجَاعِ فَإِنْ لَامَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ وَعَابَهُ فَقَدْ نَقَضَ قَوْلُهُ وَخَرَجَ عَنْ أَصْلِ مَذْهَبِهِ وَقِيلَ لَهُ : هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مَقْضِيٌّ مَقْدُورٌ فَخَلْقُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَمَشِيئَتُهُ : مُتَنَاوَلٌ لَك وَلَهُ وَهُوَ يَعُمُّكُمَا فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَك فَهُوَ حُجَّةٌ لِهَذَا وَإِلَّا فَلَيْسَ بِحُجَّةِ لَا لَك وَلَا لَهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى الْقَدَرِ وَيُعْرِضُ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } . وَقَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فَالتَّقْوَى فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } فَأَمَرَهُ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ بِالصَّبْرِ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةٍ } وَقَالَ : " { إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ(1/225)
مَرَّةٍ } . وَكَانَ يَقُولُ " { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَئِي وَعَمْدِي وَهَزْلِي وَجِدِّي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ } وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَتَابَ إلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ ؛ وَعَنْ إبْلِيسَ أَبِي الْجِنِّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَصَرَّ مُتَعَلِّقًا بِالْقَدَرِ فَلَعَنَهُ وَأَقْصَاهُ فَمَنْ أَذْنَبَ وَتَابَ وَنَدِمَ فَقَدْ أَشْبَهَ أَبَاهُ وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَغَيْرُهُ : " { يَقُولُ الشَّيْطَانُ أَهْلَكْت النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ ؛ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ بَثَثْت فِيهِمْ الْأَهْوَاءَ فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَتُوبُونَ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذِي النُّونِ أَنَّهُ نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ قَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كَرْبَهُ } وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الْأَمْرِ مَنْ أَصْلَيْنِ وَلَا بُدَّ لَهُ فِي الْقَدَرِ مِنْ أَصْلَيْنِ . فَفِي " الْأَمْرِ " عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي الِامْتِثَالِ عِلْمًا وَعَمَلًا فَلَا تَزَالُ تَجْتَهِدُ فِي الْعِلْمِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْعَمَلِ بِذَلِكَ . ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ مِنْ تَفْرِيطِهِ فِي الْمَأْمُورِ وَتَعَدِّيهِ الْحُدُودَ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ يَخْتِمَ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ بِالِاسْتِغْفَارِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا انْصَرَفَ مِنْ صِلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ } فَقَامُوا بِاللَّيْلِ وَخَتَمُوهُ بِالِاسْتِغْفَارِ ، وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : " { سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي } يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ وَأَمَّا فِي " الْقَدَرِ " فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ فِي فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَهُ ؛ وَيَرْغَبَ إلَيْهِ وَيَسْتَعِيذَ بِهِ وَيَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ وَيَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ؛ وَإِذَا آذَاهُ النَّاسُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ احْتِجَاجُ آدَمَ وَمُوسَى لَمَّا قَالَ : يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ(1/226)
فِيك مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ ؛ لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ فَبِكَمْ وَجَدْتَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْلَقَ : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } قَالَ : بِكَذَا وَكَذَا فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ عَتَبُهُ لِآدَمَ لِأَجْلِ الذَّنْبِ فَإِنَّ آدَمَ قَدْ كَانَ تَابَ مِنْهُ وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ؛ وَلَكِنْ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ ذَلِكَ . وَهُمْ مَأْمُورُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى الْقَدَرِ فِي الْمَصَائِبِ وَأَنْ يَسْتَغْفِرُوا مِنْ المعائب كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } فَمَنْ رَاعَى الْأَمْرَ وَالْقَدَرَ كَمَا ذَكَرَ : كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُطِيعًا لَهُ مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مِنْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } فَالْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ الْأُضْحِيَّةِ اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك } فَمَا لَمْ يَكُنْ بِاَللَّهِ لَا يَكُونُ ؛ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ بِاَللَّهِ فَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ
--------------
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :(1/227)
وَ ( أَيْضًا فَمِنْ تَمَامِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بُغْضُ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } . فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَأَسَّوْا بِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ حَيْثُ أَبْدَوْا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ لِمَنْ أَشْرَكَ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَحْدَهُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَالِ مَنْ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً وَهَؤُلَاءِ سَلَكُوا طَرِيقَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا سَلَكَ أَهْلُ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ طَرِيقَ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَقَعَ هَؤُلَاءِ فِي ضَلَالَاتٍ وَهَؤُلَاءِ فِي ضَلَالَاتٍ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } وَقَالَ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وَقَالَ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } وَقَالَ : { قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنْ قِيلَ : صَاحِبُ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ قَدْ شَهِدَ أَنَّ الرَّبَّ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدْ يَكُونُ مِمَّنْ يُثْبِتُ الْحِكْمَةَ فَيَقُولُ : إنَّمَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ لِحِكْمَةِ وَهُوَ يُحِبُّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ وَيَرْضَاهَا وَإِنَّمَا خَلَقَ مَا يَكْرَهُهُ لِمَا يُحِبُّهُ . وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ قَالُوا : الْمَرِيضُ يُرِيدُ الدَّوَاءَ وَلَا يُحِبُّهُ وَإِنَّمَا يُحِبُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ وَهُوَ الْعَافِيَةُ وَزَوَالُ الْمَرَضِ . فَالرَّبُّ تَعَالَى خَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ مُرِيدٌ لِكُلِّ مَا خَلَقَ وَلِمَا أَحَبَّهُ مِنْ الْحِكْمَةِ ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يُحِبُّ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ ؛ لَكِنَّهُ يُحِبُّ الْحِكْمَةَ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا ؛ فَالْعَارِفُ إذَا شَهِدَ هَذَا أَحَبَّ أَيْضًا أَنْ يُخْلَقَ لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ وَتَكُونُ الْأَشْيَاءُ مُرَادَةً مَحْبُوبَةً لَهُ كَمَا هِيَ لِلْحَقِّ ؛ فَهُوَ وَإِنْ كَرِهَ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ لَكِنْ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْهُ خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ وَإِرَادَةٍ فَهُوَ مُرَادٌ مَحْبُوبٌ بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ لَا بِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ . قِيلَ : مَنْ شَهِدَ هَذَا الْمَشْهَدَ فَهُوَ يَسْتَحْسِنُ مَا حَسَّنَهُ اللَّهُ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ ؛ وَيَسْتَقْبِحُ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ ، وَسَخِطَهُ وَلَكِنْ إذَا كَانَ اللَّهُ خَلَقَ هَذَا الْمَكْرُوهَ لِحِكْمَةِ يُحِبُّهَا ؛ فَالْعَارِفُ هُوَ أَيْضًا يَكْرَهُهُ وَيُبْغِضُهُ كَمَا كَرِهَهُ اللَّهُ ؛ وَلَكِنْ يُحِبُّ الْحِكْمَةَ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا فَيَكُونُ حُبُّهُ وَعِلْمُهُ مُوَافِقًا لِعِلْمِ اللَّهِ(1/228)
وَحُبِّهِ لَا مُخَالِفًا . وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَكِيمٌ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيُرِيدُهُ وَيَتَكَلَّمُ بِهِ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَفْعَلُهُ . فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ وَالشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ مُتَّصِفٌ بِمَا هُوَ مَذْمُومٌ لِأَجْلِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يُبْغِضَهُ وَيَكْرَهَهُ ؛ وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي وُجُودِهِ حُصُولَ حِكْمَةٍ مَحْبُوبَةٍ مَحْمُودَةٍ كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّهُ يَخْلُقُهُ وَيُرِيدُهُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الْمَحْبُوبَةِ الَّتِي هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى حُصُولِهِ . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ هَذَا " الْوَسَطَ " يُحَبُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى مَحْبُوبٍ لِذَاتِهِ ، وَيُبْغَضُ بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ كَانَ هَذَا حَسَنًا كَمَا تَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُبْغِضُ الدَّوَاءَ مِنْ وَجْهٍ وَيُحِبُّهُ مِنْ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تُحَبُّ مِنْ وَجْهٍ وَتُبْغَضُ مِنْ وَجْهٍ . وَ ( أَيْضًا يُحِبُّ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُضِرًّا بِالشَّخْصِ مَكْرُوهًا لَهُ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لِحِكْمَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ أَنَّ لَهُ حِكْمَةً وَرَأَى هَذَا مَعَ الْجَمْعِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمَخْلُوقَاتُ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ شُهُودِ هَذَا الْفَرْقِ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ وَهَذَا الشُّهُودُ مُطَابِقٌ لِعِلْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَحْبُوبَاتُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ ، وَقَالَ فِي الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } . فَلَا بُدَّ لِمُحِبِّ اللَّهِ مِنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَالْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ بَلْ هَذَا لَازِمٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } فَهَذَا حُبُّ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ .( مجموع الفتاوى )
-------------
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :(1/229)
مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَأَكْبَرِ أُصُولِهِ وَأَجَلِّ قَوَاعِدِهِ ؛ بَلْ هِيَ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ كَمَا أَنَّ التَّصْدِيقَ بِهِ أَصْلُ كُلِّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ فِي الْوُجُودِ إنَّمَا تَصْدُرُ عَنْ مَحَبَّةٍ : إمَّا عَنْ مَحَبَّةٍ مَحْمُودَةٍ أَوْ عَنْ مَحَبَّةٍ مَذْمُومَةٍ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي " قَاعِدَةِ الْمَحَبَّةِ " مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ . فَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الدِّينِيَّةِ لَا تَصْدُرُ إلَّا عَنْ الْمَحَبَّةِ الْمَحْمُودَةِ . وَأَصْلُ الْمَحَبَّةِ الْمَحْمُودَةِ هِيَ مَحَبَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذْ الْعَمَلُ الصَّادِرُ عَنْ مَحَبَّةٍ مَذْمُومَةٍ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَكُونُ عَمَلًا صَالِحًا بَلْ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الدِّينِيَّةِ لَا تَصْدُرُ إلَّا عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا فَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ { الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ : الْقَارِئُ الْمُرَائِي وَالْمُجَاهِدُ الْمُرَائِي وَالْمُتَصَدِّقُ الْمُرَائِي } . بَلْ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ هُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ سِوَاهُ وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ الرُّسُلِ وَأَنْزَلَ بِهِ جَمِيعَ الْكُتُبِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَهَذَا هُوَ خُلَاصَةُ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ وَهُوَ قُطْبُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ . قَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وَالسُّورَةُ كُلُّهَا عَامَّتُهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى . كَقَوْلِهِ : { قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } إلَى قَوْلِهِ : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } الْآيَةَ . إلَى قَوْلِهِ : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ } ؟ { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } إلَى قَوْلِهِ { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا قَصَّهُ مِنْ قِصَّةِ آدَمَ وَإِبْلِيسَ أَنَّهُ قَالَ : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } وَقَالَ : { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّ سُلْطَانَ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَاءَهُ إنَّمَا هُوَ لِغَيْرِ الْمُخْلَصِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَأَتْبَاعُ الشَّيْطَانِ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ(1/230)
لِمَنْ يَشَاءُ } وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتُبْ وَلِهَذَا خَصَّصَ الشِّرْكَ وَقَيَّدَ مَا سِوَاهُ بِالْمَشِيئَةِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ وَمَا دُونَهُ يَغْفِرُهُ لِمَنْ يَشَاءُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } فَتِلْكَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ ؛ وَلِهَذَا عَمَّ وَأَطْلَقَ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَعَ سَبَبِ نُزُولِهَا . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَوَّلِينَ والآخرين إنَّمَا أُمِرُوا بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَالسُّورَةِ الَّتِي قَرَأَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أبي لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ إبْلَاغٍ وَإِسْمَاعٍ بِخُصُوصِهِ فَقَالَ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } الْآيَةَ . وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَبِذَلِكَ بَعَثَ جَمِيعَ الرُّسُلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَجَمِيعُ الرُّسُلِ افْتَتَحُوا دَعْوَتَهُمْ بِهَذَا الْأَصْلِ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } وَكَذَلِكَ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَغَيْرُهُمْ كُلٌّ يَقُولُ : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } لَا سِيَّمَا أَفْضَلُ الرُّسُلِ الَّذِينَ اتَّخَذَ اللَّهُ كِلَاهُمَا خَلِيلًا إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَإِنَّ هَذَا الْأَصْلَ بَيَّنَهُ اللَّهُ بِهِمَا وَأَيَّدَهُمَا فِيهِ وَنَشَرَهُ بِهِمَا فَإِبْرَاهِيمُ هُوَ الْإِمَامُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا } وَفِي ذُرِّيَّتِهِ جُعِلَ النُّبُوَّةُ وَالْكِتَابُ وَالرُّسُلُ فَأَهْلُ هَذِهِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ هُمْ مِنْ آلِهِ الَّذِينَ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } . فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ هِيَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَهِيَ الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ إلَّا مِنْ الْخَالِقِ الَّذِي فَطَرَنَا كَمَا قَالَ صَاحِبُ يس : { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ } { إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا يُبَيِّنُ ضَلَالَ مَنْ اتَّخَذَ بَعْضَ الْكَوَاكِبِ رَبًّا يَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ : { فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } { إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } إلَى قَوْلِهِ { وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا } وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } وَقَالَ تَعَالَى { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ } الْآيَةَ . وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أَقَامَ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ الْخَالِصَ لِلَّهِ(1/231)
دِينَ التَّوْحِيدِ وَقَمَعَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا فِي الْأَصْلِ وَمِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ { بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلتَّوْحِيدِ . وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } إلَى قَوْلِهِ { إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } { وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } { بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ } { فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ } إلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فِي التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ إلَى قَوْلِهِ : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } { إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْأَصْلُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَالنُّورِ وَآلِ طسم وَآلِ حم وَآلِ المر وَسُوَرِ الْمُفَصَّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَمَوَاضِعَ مِنْ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ كَثِيرٌ ظَاهِرٌ فَهُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ وَقَاعِدَةُ الدِّينِ حَتَّى فِي سُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ : ( { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . وَهَاتَانِ السُّورَتَانِ . كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَسُنَّةِ الْفَجْرِ وَهُمَا مُتَضَمِّنَتَانِ لِلتَّوْحِيدِ . فَأَمَّا ( { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ الْإِرَادِيِّ وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ مَشَايِخُ التَّصَوُّفِ غَالِبًا . وَأَمَّا سُورَةُ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ } أَحَدٌ فَمُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّوْحِيدِ الْقَوْلِيِّ الْعَمَلِيِّ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقْرَأُ : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي صَلَاتِهِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلُوهُ لِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقَالَ أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ } . وَلِهَذَا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِي يَنْفِي قَوْلَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَقَوْلِ أَهْلِ التَّمْثِيلِ مَا صَارَتْ بِهِ هِيَ الْأَصْلَ الْمُعْتَمَدَ فِي مَسَائِلِ الذَّاتِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَذَكَرْنَا اعْتِمَادَ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهَا مَعَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ كَمَا جَاءَ تَفْسِيرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ " التَّوْحِيدُ الْعَمَلِيُّ " وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ مُرْتَبِطًا بِالْآخَرِ . فَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الجهمية وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ إلَّا وَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ الْعَمَلِيِّ إذْ أَصْلُ قَوْلِهِمْ فِيهِ شِرْكٌ وَتَسْوِيَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومَاتِ كَمَا يُسَوِّي الْمُعَطِّلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومَاتِ فِي الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي لَا تَسْتَلْزِمُ مَدْحًا وَلَا ثُبُوتَ كَمَالٍ أَوْ يُسَوُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاقِصِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ فِي صِفَاتِ النَّقْصِ وَكَمَا يُسَوُّونَ إذَا أَثْبَتُوا هُمْ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ الْمُمَثِّلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ(1/232)
الْمَخْلُوقَاتِ فِي حَقَائِقِهَا حَتَّى قَدْ يَعْبُدُونَهَا فَيَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمْ وَيَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا وَيُسَوُّونَ الْمَخْلُوقَاتِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَالْيَهُودُ كَثِيرًا مَا يَعْدِلُونَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ وَيُمَثِّلُونَهُ بِهِ حَتَّى يَصِفُوا اللَّهَ بِالْعَجْزِ وَالْفَقْرِ وَالْبُخْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النَّقَائِصِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهَا وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ وَالنَّصَارَى كَثِيرًا مَا يَعْدِلُونَ الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ حَتَّى يَجْعَلُوا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ نُعُوتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَيُجَوِّزُونَ لَهُ مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ . وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } وَفِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ } وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْعَمَلِ الدِّينِيِّ هُوَ إخْلَاصَ الدِّينِ لِلَّهِ وَهُوَ إرَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ فَالشَّيْءُ الْمُرَادُ لِنَفْسِهِ هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ وَهَذَا كَمَالُ الْمَحَبَّةِ لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا جَاءَ الْمَطْلُوبُ مُسَمًّى بِاسْمِ الْعِبَادَةِ كَقَوْلِهِ : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } وَأَمْثَالُ هَذَا وَالْعِبَادَةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحُبِّ وَنِهَايَتَهُ وَكَمَالَ الذُّلِّ وَنِهَايَتَهُ ؛ فَالْمَحْبُوبُ الَّذِي لَا يُعَظَّمُ وَلَا يُذَلُّ لَهُ لَا يَكُونُ مَعْبُودًا وَالْمُعَظَّمُ الَّذِي لَا يُحَبُّ لَا يَكُونُ مَعْبُودًا ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمْ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا وَإِنْ كَانُوا يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ فَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْهُمْ لِلَّهِ وَلِأَوْثَانِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَالْحُبُّ يَتْبَعُ الْعِلْمَ وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلُوا جَمِيعَ حُبِّهِمْ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَأُولَئِكَ جَعَلُوا بَعْضَ حُبِّهِمْ لِغَيْرِهِ وَأَشْرَكُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْدَادِ فِي الْحُبِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ . قَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } وَاسْمُ الْمَحَبَّةِ فِيهِ إطْلَاقٌ وَعُمُومٌ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ اللَّهَ وَيُحِبُّ رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ الَّتِي لِلَّهِ لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ ؛ وَلِهَذَا جَاءَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَذْكُورَةً بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالتَّبَتُّلِ لَهُ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَكُلُّ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ تَتَضَمَّنُ مَحَبَّةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ إنَّهُ كَمَا بَيَّنَ أَنَّ مَحَبَّتَهُ أَصْلُ الدِّينِ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ بِكَمَالِهَا وَنَقْصَهُ بِنَقْصِهَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْجِهَادَ ذُرْوَةُ سَنَامِ الْعَمَلِ وَهُوَ أَعْلَاهُ وَأَشْرَفُهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ(1/233)
وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { أَجْرٌ عَظِيمٌ } وَالنُّصُوصُ فِي فَضَائِلِ الْجِهَادِ وَأَهْلِهِ كَثِيرَةٌ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْعَبْدُ . وَالْجِهَادُ دَلِيلُ الْمَحَبَّةِ الْكَامِلَةِ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } فَوَصَفَ الْمَحْبُوبِينَ الْمُحِبِّينَ بِأَنَّهُمْ أَذِلَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَأَنَّهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ . فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْجِهَادِ لِأَنَّ الْمُحِبَّ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ مَحْبُوبُهُ وَيُبْغِضُ مَا يُبْغِضُ مَحْبُوبُهُ وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِيهِ وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِيهِ ؛ وَيَرْضَى لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فِي ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَرْضَى الرَّبُّ لِرِضَاهُمْ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ إذْ هُمْ إنَّمَا يَرْضَوْنَ لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُونَ لِمَا يَغْضَبُ لَهُ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي طَائِفَةٍ فِيهِمْ صهيب وَبِلَالٌ : لَعَلَّك أَغْضَبْتهمْ لَئِنْ كُنْت أَغْضَبْتهمْ لَقَدْ أَغْضَبْت رَبَّك . فَقَالَ لَهُمْ : يَا إخْوَتِي هَلْ أَغْضَبْتُكُمْ قَالُوا لَا ؛ يَغْفِرُ اللَّهُ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ } وَكَانَ قَدْ مَرَّ بِهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَالُوا : مَا أَخَذَتْ السُّيُوفُ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ : أَتَقُولُونَ هَذَا لِسَيِّدِ قُرَيْشٍ ؟ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ غَضَبًا لِلَّهِ لِكَمَالِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُوَالَاةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُعَادَاةِ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ : { لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ؛ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ؛ وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ؛ فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ : وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ : يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ تَعَارُضُ إرَادَتَيْنِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ عَبْدُهُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ فَهُوَ يَكْرَهُهُ كَمَا قَالَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ قَضَى بِالْمَوْتِ فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَمُوتَ فَسَمَّى ذَلِكَ تَرَدُّدًا ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ . وَهَذَا اتِّفَاقٌ وَاتِّحَادٌ فِي الْمَحْبُوبِ الْمَرْضِيِّ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمُبْغِضِ الْمَكْرُوهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَقَدْ يُقَالُ لَهُ اتِّحَادٌ نَوْعِيٌّ وَصْفِيٌّ وَلَيْسَ ذَلِكَ اتِّحَادُ الذَّاتَيْنِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ وَالْقَائِلُ بِهِ كَافِرٌ وَهُوَ قَوْلُ النَّصَارَى وَالْغَالِيَةِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَالنُّسَّاكِ كَالْحَلَّاجِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَهُوَ " الِاتِّحَادُ الْمُقَيَّدُ " فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ . وَأَمَّا " الِاتِّحَادُ الْمُطْلَقُ " الَّذِي هُوَ قَوْلُ أَهْلِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ فَهَذَا تَعْطِيلٌ لِلصَّانِعِ وَجُحُودٌ لَهُ وَهُوَ جَامِعٌ لِكُلِّ شِرْكٍ ؛ فَكَمَا أَنَّ الِاتِّحَادَ(1/234)