هل البقاء للأقوى أم للأصلح ؟
بقلم
علي بن نايف الشحود
قال تعالى في سورة الرعد
?????????? ???? ???????????? ?????? ?????????? ???????????? ???????????? ?????????????? ?????????? ???????? ??????????? ???????? ???????????? ???????? ??? ????????? ?????????????? ????????? ????? ????????? ?????? ?????????????? ????????? ????????? ?????? ????????? ???????????????? ?????????? ??????????? ??????????? ????????? ?????????? ??? ???????? ????????? ??????????? ? ??????????? ????????? ????????? ?????? ?????????????? ????
حقوق الطبع محفوظة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين
أما بعد :
فإن كثيرا من الأقلام تردد عبارة البقاء للأقوى وهي عبارة جاهلية تمثل شريعة الغاب ولكن الذي يحدوهم إلى هذا القول ما يرونه من انتصار الأقوياء على الضعفاء والمساكين كأمريكا اليوم
والله تعالى قد بين لنا في كتابه العزيز انه لا بد من الصراع بين الحق والباطل كما في سورة الأنبياء
{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ {18}
*************
والحق في منهج الله أصيل في بناء هذا الوجود . ليس فلتة عابرة ، ولا مصادفة غبر مقصودة . .
إن الله سبحانه هو الحق . ومن وجوده تعالى يستمد كل موجود وجوده:
ذلك بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ، وأن الله هو العلي الكبير . .
وقد خلق الله هذا الكون بالحق لا يتلبس بخلقه الباطل:
ما خلق الله ذلك إلا بالحق . .
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! والحق هو قوام هذا الوجود فإذا حاد عنه فسد وهلك: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن . .
ومن ثم فلا بد للحق أن يظهر ، ولا بد للباطل أن يزهق . .(1/1)
ومهما تكن الظواهر غير هذا فإن مصيرها إلى تكشف صريح:
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق . .
والخير والصلاح والإحسان أصيلة كالحق ، باقية بقاءه في الأرض:
أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ، فاحتمل السيل زبدا رابيا ، ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع ، زبد مثله . كذلك يضرب الله الحق والباطل . فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . كذلك يضرب الله الأمثال . . .
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء . .
وأنا أقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك , أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين , ولم تلحق بهم في تاريخهم كله , إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان . إما في الشعور وإما في العمل - ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ; ثم يعود النصر للمؤمنين - حين يوجدون !
ففي "أحد" مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الطمع في الغنيمة . وفي "حنين" كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل !
ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا . .
نعرفه أو لا نعرفه . .
أما وعد الله فهو حق في كل حين .
نعم . إن المحنة قد تكون للابتلاء . .(1/2)
ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة , هي استكمال حقيقة الإيمان , ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أحد وقصه الله على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه ,جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين .
على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك . . إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح , وكلال العزيمة . فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس همودا وكلالا وقنوطا . فأما إذا بعثت الهمة , وأذكت الشعلة , وبصرت بالمزالق , وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق . .
فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد . ولو طال الطريق !
كذلك حين يقرر النص القرآني:أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا . . فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر ; والفكرة المؤمنة هي التي تسود . وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورا وشعورا ; وفي حياتها واقعا وعملا وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها . فالنصر ليس للعنوانات . إنما هو للحقيقة التي وراءها .
وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان , إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان . ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك . .
ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة . ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء ; وألا نطلب العزة إلا من الله .
ووعد الله هذا الأكيد , يتفق تماما مع حقيقة الأيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون . .
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى , التي لاتضعف ولا تفنى . .
وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها . .
ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية , أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا .
غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان . .(1/3)
إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابته ثبوت النواميس الكونية . ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل . وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها . .
ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن "حقيقة " الكفر تغلبه , إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها . .
لأن حقيقة أي شيء أقوى من "مظهر" أي شيء . ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان !
إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق . وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل . مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون . .
(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) . .
ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا . .
هذه هي السنة المقررة , فالحق أصيل في طبيعة الكون , عميق في تكوين الوجود . والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلا , طارئ لا أصالة فيه , ولا سلطان له , يطارده الله , ويقذف عليه بالحق فيدمغه . ولا بقاء لشيء يطارده الله ; ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه !
ولقد يخيل للناس أحيانا أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير . وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشا كأنه غالب , ويبدو فيها الحق منزويا كأنه مغلوب . وإن هي إلا فترة من الزمان , يمد الله فيها ما يشاء , للفتنة والابتلاء . ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض ; وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء .
والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده ; وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه ; وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه . .(1/4)
فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينا من الدهر عرفوا أنها الفتنة ; وأدركوا أنه الابتلاء ; وأحسوا أن ربهم يربيهم , لأن فيهم ضعفا أو نقصا ; وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر , وأن يجعلهم ستار القدرة , فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف . .
وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء , وحقق على أيديهم ما يشاء . أما العاقبة فهي مقررة: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) والله يفعل ما يريد .(( الظلال))
***************
وقال تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) (الرعد:17) إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية , وهو يلم في طريقه غثاء , فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان . هذا الزبد نافش راب منتفخ . .
ولكنه بعد غثاء . والماء من تحته سارب ساكن هاديء . .
ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة . .
كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة , أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص , فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل . ولكنه بعد خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء .(1/5)
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة . فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا ولكنه بعد زبد أو خبث , ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة ولا تماسك فيه . والحق يظل هادئا ساكنا . وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات . ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح , ينفع الناس . (كذلك يضرب الله الأمثال) وكذلك يقرر مصائر الدعوات , ومصائر الاعتقادات . ومصائر الأعمال والأقوال . وهو الله الواحد القهار , المدبر للكون والحياة , العليم بالظاهر والباطن والحق والباطل والباقي والزائل .
فمن استجاب لله فله الحسنى . والذين لم يستجيبوا له يلاقون من الهول ما يود أحدهم لو ملك ما في الأرض ومثله معه أن يفتدى به . وما هو بمفتد , إنما هو الحساب الذي يسوء , وإنما هي جهنم لهم مهاد . ويا لسوء المهاد !:
(للذين استجابوا لربهم الحسنى , والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به , أولئك لهم سوء الحساب , ومأواهم جهنم . وبئس المهاد) . .
ويتقابل الذين يستجيبون مع الذين لا يستجيبون . وتتقابل الحسنى مع سوء العذاب . .
ومع جهنم وبئس المهاد . .
على منهج السورة كلها وطريقتها المطردة في الأداء . . (الظلال))
إن هناك علاقة وثيقة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض وبين ذلك العمى عن الحق الذي جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والصلاح والخير . فالذين لا يستجيبون لعهد الله على الفطرة , ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عنده ويعلمون أنه وحده الحق . .
هم الذين يفسدون في الأرض ; كما أن الذين يعلمون أنه الحق ويستجيبون له هم الذين يصلحون في الأرض , وتزكو بهم الحياة:(1/6)
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ? إنما يتذكر أولو الألباب . الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق . والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل , ويخشون ربهم , ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم , وأقاموا الصلاة , وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية , ويدرءون بالحسنة السيئة , أولئك لهم عقبى الدار . . . . .
(والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه , ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل , ويفسدون في الأرض , أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) . .
إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق . ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة , وبعهد الله على آدم وذريته , أن يعبدوه وحده , فيدينوا له وحده , ولا يتلقوا عن غيره , ولا يتبعوا إلا أمره ونهيه . ومن ثم يصلون ما أمر الله به أن يوصل , ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه ; ويخافون سوء الحساب , فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل خالجة وكل حركة ; ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ذاك بكل تكاليف الاستقامة ; ويقيمون الصلاة ; وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية ; ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان
إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة ; التي تسير على هدى الله وحده ; والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه . .
إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء , التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وحده ; والتي تتبع - من ثم - مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه للصالحين من عباده . .
إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية , كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية ! . .(1/7)
إنها كلها من مناهج العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الحق , الذي لا يجوز العدول عنه , ولا التعديل فيه . . إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية ! فكلها سواء في كونها من مناهج العمي , الذين يقيمون من أنفسهم أربابا من دون الله , تضع هي مناهج الحكم ومناهج الحياة , وتشرع للناس ما لم يأذن به الله ; وتعبدهم لما تشرع , فتجعل دينونتهم لغير الله . .
وآية هذا الذي نقوله - استمدادا من النص القرآني - هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين . وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها .
سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية , وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية ! . .
وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية ! . .
إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق . .
لأنها كلها سواء من صنع العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده ; ولا تلتزم - من ثم - بعهد الله وشرعه ; ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه .
إن المسلم يرفض - بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق - كل منهج للحياة غير منهج الله ; وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي ; وكل وضع كذلك سياسي , غير المنهج الوحيد , والمذهب الوحيد , والشرع الوحيد , الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده .
ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله , هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله , فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه .(1/8)
إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي , فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه , ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض . . فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العمي ! . .
ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله ; وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العمي , الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون . فلم تسعد قط ; ولم ترتفع "إنسانيتها" قط , ولم تكن في مستوى الخلافة عن الله في الأرض قط , إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم . (( الظلال ))
*****************
وبما أن الموضوع يلامس عقيدة المسلم مباشرة فلا بد من دراسة هذا الموضوع الجلل لتظهر الحقيقة جلية للناس
هذا وقد قسمته للأبواب التالية :
الباب الأول- اختلاف الإجابة على السؤال ...
الفصل الأول - لقد انقسم الناس في الإجابة على هذا السؤال إلى فريقين :
1.فريق يرى البقاء للأقوى ...
الفصل الثاني - سبب هلاك تلك الدول ...
1.الكفر والفسوق ...
2.الظلم بكل صوره وأشكاله
3.الاستبداد بالرأي ...
4.الترف
5.الفساد الشامل
6.عبادة الأشياء والأشخاص
7.الكفر بنعم الله ...
الفريق الثاني : البقاء للأصلح ...
يرى هؤلاء أن البقاء للأصلح وليس للأقوى وذلك استنادا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من خلال الشروط النقاط التالية : ...
1.اتباع منهج الله ...
2.ما كتبه الله على نفسه في الزبور ...
3.ما ينفع الناس يمكث في الأرض وما سواه زائل
4.تلك الدول لن تسعد الإنسان ولكنها قد تشبع بعض رغباته المادية فيبقى في خواء روحي وقلق وهم وغم :
5.لا يمكن أن تتحقق العدالة والمساوة والرحمة بين الناس بالمعنى الصحيح والشامل بغير دين الله تعالى وانظر إلى واقع تلك المجتمعات التي تبدو قوية كأمريكا وأوروربا ...(1/9)
الباب الثاني - متى يكون البقاء للأصلح ؟ ...
لا يكون البقاء للأصلح إلا في الحالات التالية
1.عندما يكون هناك أناس يطبقون منهج الله بمعناه الشمولي ويضحون من أجله بكل غال ونفيس ويتحملون التبعات والأعباء فهؤلاء هم الذين يكتب الله على أيديهم النصر ويمكن لهم في الأرض :
2.وكذلك عندما يكون الصراع بين الحق الجلي والباطل الجلي
3.عندما يكون الصراع بين القلة المؤمنة المستضعفة وبين الكثرة الكافرة كما كان بين الأنبياء ومن معهم من المؤمنين وبين الكفار فمن الذي انتصر ؟ ...
الباب الثالث - أسباب النصر ...
•الإيمان والعمل الصالح ...
•الثبات والإكثار من ذكر الله وطاعة الله ورسوله وعدم التنازع والصبر وعدم البطر والرياء والغرور ...
•إن تنصروا الله ينصركم
•عدم الفرار ...
•عدم الاغترار
•لكي ينتصر الإسلام
•النصر له ثمن باهض
•اليقين بأن دين الله وهو الغالب ...
•عندما تكون الأهداف واضحة ...
•الفرق بين أهداف المسلمين وأهداف الكفار
•من معاني النصر :
الباب الرابع - متى ينتصر الباطل على الحق ؟ ...
ينتصر الباطل على الحق في الحالات التالية ...
1.عدم تماسك المؤمنين التنازع والخصام والمعاصي
2.الظلم بكل أنواعه وصوره : ...
3.الفساد العام فساد العقيدة والعبادة والنظم والحياة
4.الغرور والفخر :
5.كراهية الموت في سبيل الله
6.عدم التضحية بالمال والنفس في سبيل الله
7.إيثار الفاني على الباقي
8.الركون إلى الأرض والتثاقل
9- كفر النعم
الباب الخامس- بعض النتائج الهامة
•البقاء للأقوى عندما يكون الصراع بين باطلين فيكلهم الله تعالى إلى أنفسهم إلى حين ...
•الحروب تولد التحدي والإبداع وتسخير طاقات الكون وتظهر حقيقة المتحاربين ...
•نظرتان مختلفتان ضرب القرآن الكريم لنا مثلا عن أصحاب تلك النظرتين الذين تكلمت عنهم آنفا
•الله تعالى وحده الفعال لما يريد
•المستقبل لهذا الدين (حتما) فدين الله منصور لا محالة(1/10)
•لا بد من العودة الصادقة الكاملة إلى دين الله دون ترقيع أو تمييع أو كذب أو تجزيء: ...
•ما هو المخرج مما نحن فيه اليوم ؟
عودة صادقة إلى الله تعالى شاملة :
طبيعة المنهج القرآني
التربية الجهادية
•نقلةٌ بعيدة
•استعلاء الإيمان
•هذا هو الطريق
•معركتنا مع اليهود
وكتبه
علي بن نايف الشحود
الباحث في القرآن والسنة
في 16 جمادى الآخرة 1425 هـ الموافق 2/8/2004 م
*****************
الباب الأول- اختلاف الإجابة على السؤال
الفصل الأول - لقد انقسم الناس في الإجابة على هذا السؤال إلى فريقين :
1. فريق يرى البقاء للأقوى
( وهم غالب الناس) وذلك من خلال النظر إلى الامبراطوريات القديمة والدول الحديثة حيث إن الأقوياء هم الذين كانوا يسيطرون على الضعفاء ، وكذلك من خلال الواقع العملي الذي يراه الناس، من انتصار الدول الكبرى على الدول الصغرى وهو أمر لا يماري فيه أحد
مناقشة هذا الرأي :
زوال تلك الدول ، لماذا زالت ؟ تلك الدول القديمة والحديثة هل بقيت قوية منتصرة أبد الدهر ؟ أم أنها زالت كغيرها من الدول التي عاشت فترة من الزمان ثم انتهى أمرها ؟ والصواب الثاني أنها زالت كغيرها وهذه سنة الله تعالى في الخلق قال تعالى في سورة آل عمران { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140}
أين ذهبت قوتها ؟ لقد أصابها ما أصاب غيرها من الدول كبرت وشاخت وزالت قوتها وأفلت بالرغم من أن الذي ينظر إليها من الخارج يقول لن تزول قوتهم
سبب بقائها مدة من الزمان يعود للأسباب التالية :
العالم كله يسير وفق شريعة الغاب فإذا كان العالم كله يسير وفق شريعة الغاب فلا شك عندئذ أن البقاء للأقوى لأن الله تعالى يكلهم إلى أنفسهم ويتخلى عنهم فالكل مبطلون(1/11)
قد يكون عندهم شيء من العدل والمساواة بين بعضهم وقد أقام الله الكون على العدل قال تعالى في سورة النحل { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {90}
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ شِهَابِ الدِّينِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ مَجْدِ الدِّينِ أَبِي الْبَرَكَاتِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تيمية رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ :(1/12)
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ ؛ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إلَيْهِ ؛ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ؛ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؛ أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا فَهَدَى بِهِ مِنْ الضَّلَالَةِ . وَبَصَّرَ بِهِ مِنْ الْعَمَى وَأَرْشَدَ بِهِ مِنْ الْغَيِّ . وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا ؛ وَآذَانًا صُمًّا ؛ وَقُلُوبًا غُلْفًا حَيْثُ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ ؛ وَنَصَحَ الْأُمَّةَ ؛ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ؛ وَعَبَدَ اللَّهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا ؛ وَجَزَاهُ عَنَّا أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ . أَمَّا بَعْدُ : فَهَذِهِ : " قَاعِدَةٌ فِي الْحِسْبَةِ " .(1/13)
أَصْلُ ذَلِكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ مَقْصُودُهَا أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ؛ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِذَلِكَ وَبِهِ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَبِهِ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَعَلَيْهِ جَاهَدَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } . وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَقُولُ لِقَوْمِهِ : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } وَعِبَادَاتُهُ تَكُونُ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْخَيْرُ وَالْبِرُّ ؛ وَالتَّقْوَى وَالْحَسَنَاتُ ؛ وَالْقُرُبَاتُ وَالْبَاقِيَاتُ وَالصَّالِحَاتُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ؛ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ بَيْنَهَا فُرُوقٌ لَطِيفَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا . وَهَذَا الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ الْخَلْقُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً ؛ وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً .(1/14)
وَيُقَاتِلُ رِيَاءً : فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } " . وَكُلُّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ فَالتَّعَاوُنُ وَالتَّنَاصُرُ عَلَى جَلْبِ مَنَافِعِهِمْ ؛ وَالتَّنَاصُرُ لِدَفْعِ مَضَارِّهِمْ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ . فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أُمُورٍ يَفْعَلُونَهَا يَجْتَلِبُونَ بِهَا الْمَصْلَحَةَ . وَأُمُورٍ يَجْتَنِبُونَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ ؛ وَيَكُونُونَ مُطِيعِينَ لِلْآمِرِ بِتِلْكَ الْمَقَاصِدِ وَالنَّاهِي عَنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ فَجَمِيعُ بَنِي آدَمَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ طَاعَةِ آمِرٍ وَنَاهٍ . فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ دِينٍ فَإِنَّهُمْ يُطِيعُونَ مُلُوكَهُمْ فِيمَا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَعُودُ بِمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ ؛ مُصِيبِينَ تَارَةً وَمُخْطِئِينَ أُخْرَى وَأَهْلُ الْأَدْيَانِ الْفَاسِدَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُسْتَمْسِكِينَ بِهِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ : مُطِيعُونَ فِيمَا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِمَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . وَغَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْجَزَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَمُتَّفِقُونَ عَلَى الْجَزَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ وَلَكِنَّ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَرْضِ .(1/15)
فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ وَلِهَذَا يُرْوَى : " { اللَّهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً } " . وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ طَاعَةِ آمِرٍ وَنَاهٍ فَمَعْلُومٌ أَنَّ دُخُولَ الْمَرْءِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ خَيْرٌ لَهُ وَهُوَ الرَّسُولُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْمَكْتُوبُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ . وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَقَالَ : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } . وَقَالَ : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } .(1/16)
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ لِلْجُمُعَةِ : " { إنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ ؛ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ؛ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا } " . وَكَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ : " { مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا } " . وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَفْضَلِ الْمَنَاهِجِ وَالشَّرَائِعِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الْكُتُبِ فَأَرْسَلَهُ إلَى خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ وَحَرَّمَ الْجَنَّةَ إلَّا عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا الْإِسْلَامَ الَّذِي جَاءَ بِهِ فَمَنْ ابْتَغَى غَيْرَهُ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ . وَأَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْحَدِيدَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } .(1/17)
وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ بِتَوْلِيَةِ وُلَاةِ أُمُورٍ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ وُلَاةَ الْأُمُورِ أَنْ يَرُدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا ؛ وَإِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَفِي سُنَنِ أَبِي داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ } " . وَفِي سُنَنِهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا أَمَّرُوا أَحَدَهُمْ } " . فَإِذَا كَانَ قَدْ أَوْجَبَ فِي أَقَلِّ الْجَمَاعَاتِ وَأَقْصَرِ الِاجْتِمَاعَاتِ أَنْ يُوَلَّى أَحَدُهُمْ : كَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْوِلَايَةُ - لِمَنْ يَتَّخِذُهَا دِينًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ وَيَفْعَلُ فِيهَا الْوَاجِبَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ حَتَّى قَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ إمَامٌ عَادِلٌ وَأَبْغَضَ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ إمَامٌ جَائِرٌ } "
*****************
وللدول أعمار وللأفراد كذلك
قال تعالى في سورة الأعراف { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ {34}
يقول السيد رحمه الله :(1/18)
إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة ، يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة - غير الذاكرة ولا الشاكرة - لتستيقظ ، فلا يغرها امتداد الحياة !
والأجل المضروب إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة . وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى الأمد المقدر لقوتها في الأرض واستخلافها . .
وسواء هذا الأجل أو ذاك فإنه مرسوم لا يتقدمون عنه ولا يستأخرون .
*********************
إن سنة الله لماضية لا تتخلف ؛ وهلاك الأمم مرهون بأجلها الذي قدره الله لها ؛ مترتب على سلوكها الذي تنفذ به سنة الله ومشيئته:
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ، ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون . .
فلا يغرنهم تخلف العذاب عنهم فترة من الوقت ، فإنما هي سنة الله تمضي في طريقها المعلوم . ولسوف يعلمون .
وذلك الكتاب المعلوم والأجل المقسوم ، يمنحه الله للقرى والأمم ، لتعمل ، وعلى حسب العمل يكون المصير . فإذا هي آمنت وأحسنت وأصلحت وعدلت مد الله في أجلها ، حتى تنحرف عن هذه الأسس كلها ، ولا تبقى فيها بقية من خير يرجى ، عندئذ تبلغ أجلها ، وينتهي وجودها ، إما نهائيا بالهلاك والدثور ، وإما وقتيا بالضعف والذبول .
ولقد يقال:
إن أمما لا تؤمن ولا تحسن ولا تصلح ولا تعدل . وهي مع ذلك قوية ثرية باقية . وهذا وهم . فلا بد من بقية من خير في هذه الأمم . ولو كان هو خير العمارة للأرض ، وخير العدل في حدوده الضيقة بين أبنائها ، وخير الإصلاح المادي والإحسان المحدود بحدودها . فعلى هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفدها فلا تبقى فيها من الخير بقية . ثم تنتهي حتما إلى المصير المعلوم .
إن سنة الله لاتتخلف . ولكل أمة أجل معلوم:
ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون . .
********************
رأي العلامة ابن خلدون في أعمار الدول :
الفصل الرابع: في أن الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق :(1/19)
وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة. وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه. قال تعالى: " لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم " ، وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة، كما نبين لك بعد أن شاء الله سبحانه وتعالى، وبه التوفيق لارب سواه.
الفصل الخامس في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها :
والسبب في ذلك كما قدمناه أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم، وهم مستميتون عليه، وأهل الدولة التي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل، وتخاذلهم لتقية الموت حاصل، فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم، بل يغلبون عليهم ويعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف والذل كما قدمناه.
وهذا كما وقع للعرب صدر الإسلام في الفتوحات. فكانت جيوش المسلمين بالقادسية واليرموك بضعاً وثلاثين ألفاً في كل معسكر، وجموع فارس مائة وعشرين ألفاً بالقادسية، وجموع هرقل على ما قاله الواقدي أربعمائة ألف، فلم يقف للعرب أحد من الجانبين، وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم.
واعتبر ذلك أيضاً في دولة لمتونة ودولة الموحدين. فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممن يقاومهم في العدد والعصبية أو يشف عليهم، إلا أن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة كما قلناه، فلم يقف لهم شيء.(1/20)
واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدين، وفسدت، كيف ينتقض الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين فتغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزائدة القوة عليها الذين غلبتهم بمضاعفة الدين لقوتها، ولو كانوا أكثر عصبية منها وأشد بداوة.
واعتبر هذا في الموحدين مع زناتة، لما كانت زناتة أبدى من المصامدة وأشد توحشاً، وكان للمصامدة الدعوة الدينية بأتباع المهدي فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوة عصبيتهم بها، فغلبوا على زناتة أولاً وأستتبعوهم، وإن كانوا من حيث العصبية والبداوة أشد منهم، فلما خلوا عن تلك الصبغة الدييية انتقضت عليهم زناتة من كل جانب وغلبوهم على الأمر وانتزعوه منهم. والله غالب على أمره.
الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم :
وهذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية. وفي الحديث الصحيح كما مر " ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه " وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم ألا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية.وقد وقع هذا لابن قسي شيخ الصوفية وصاحب كتاب خلع النعلين في التصوف، ثار بالأندلس داعياً إلى الحق وسمي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهدي، فاستتب له الأمر قليلاً لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحدين، ولم تكن هناك عصائب ولا قبائل يدعونه عن شأنه، فلم يلبث حين استولى الموحدون على المغرب أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم، وتابعهم من معقله بحصن أركش، وأمكنهم من ثغره، وكان أول داعية لهم بالأندلس، وكانت ثورتة تسمى ثورة المرابطين.(1/21)
ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء. فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجورمن الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه، قال: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه " وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه.وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة. والله حكيم عليم.فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان فيه محقاً قصر به الانفراد عن العصبية، فطاح في هوة الهلاك. وأما إن كان من الملبسين بذلك في طلب الرئاسة، فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك، لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين، ولا يشك في ذلك مسلم، ولا يرتاب فيه ذو بصيرة. وأول ابتداء هذه النزعة في الملة ببغداد حين وقعت فتنة طاهر وقتل الأمين وأبطأ المأمون بخراسان عن مقدم العراق، ثم عهد لعلي بن موسى الرضا من آل الحسين، فكشف بنو العباس عن وجه النكير عليه وتداعوا للقيام وخلع طاعة المأمون والاستبدال منه، وبويع إبراهيم بن المهدي، فوقع الهرج ببغذاد وانطلقت أيدي الزعرة بها من الشطار والحربية على أهل العافية والصلاح، وقطعوا السبيل، وامتلأت أيديهم من نهاب الناس وباعوها علانية في الأسواق، واستعدى أهلها الحكام فلم يعدوهم.(1/22)
فتوافر أهل الدين والصلاح على منع الفساق وكف عاديتهم. وقام ببغداد رجل يعرف بخالد الدريوس، ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابه خلق وقاتل أهل الزعارة فغلبهم، وأطلق يده فيهم بالضرب والتنكيل.ثم قام من بعده رجل آخر من سواد أهل بغداد يعرف بسهل بن سلامة الأنصاري، ويكنى أبا حاتم، وعلق مصحفاً في عنقه ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فاتبعه الناس كافة من بين شريف ووضيع من بني هاشم فمن دونهم، ونزل قصر طاهر، واتخذ الديوان وطاف ببغداد، ومنع كل من أخاف المارة، ومنع الخفارة لأولئك الشطار. وقال له خالد الدريوس: أنا لا اعيب على السلطان، فقال له سهل: لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائناً من كان. وذلك سنة إحدى ومائتين. وجهز له إبراهيم بن المهدي العساكر فغلبه وأسره وانحل أمره سريعاً وذهب ونجا بنفسه.ثم اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية، ولا يشعرون بمغبة أمرهم ومآل أحوالهم. والذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون، وإما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجاً، وإما إذاعة السخرية منهم وعدهم من جملة الصقاعين.وقد ينتسب بعضهم إلى الفاطمي المنتظر إما بأنه هو أو بأنه داع له، وليس مع ذلك على علم من أمر الفاطمي، ولا ما هو. وأكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبسين يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية، فيحسبون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك، ولا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة، فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة، وتسوء عاقبة مكرهم.(1/23)
وقد كان لأول هذه المائة خرج بالسوس رجل من المتصوفة يدعى التوبذري، عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هنالك، وزعم أنه الفاطمي المنتظر، تلبيساً على العامة هنالك، بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك، وأن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته. فتهافتت عليه طوائف من عامة البربر تهافت الفراش. ثم خشي رؤساؤهم اتساع نطاق الفتنة، فدس إليه كبير المصامدة يومئذ عمر السكسيوي من قتله في فراشه.وكذلك خرج في غمارة أيضاً لأول هذه المائة رجل يعرف بالعباس، وادعى مثل هذه الدعوة واتبع نعيقه الأرذلون من سفهاء تلك القبائل وأغمارهم، وزحف إلى بادس من أمصارهم ودخلها عنوة ثم قتل لأربعين يوماً من ظهور دعوته، ومضى في الهالكين الأولين.وأمثال ذلك كثير، والغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبية في مثلها. وأما إن كان التلبيس فأحرى ألا يتم له أمر وأن يبوء بإثمه وذلك جزاء الظالمين. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لارب غيره ولا معبود سواه.
الفصل السابع في أن كل دولة لها حصة من الممالك و الأوطان لا تزيد عليها :
والسبب في ذلك أن عصابة الدولة وقومها القائمين بها الممهدين لها لا بد من توزيعهم حصصاً على الممالك والثغور التي تصير إليهم، ويستولون عليها لحمايتها من العدو، وإمضاء أحكام الدولة فيها من جباية وردع وغير ذلك. فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور والممالك فلا بد من نفاد عددها، وقد بلغت الممالك حينئذ إلى حد يكون ثغراً للدولة، وتخماً لوطنها، ونطاقاً لمركز ملكها. فإن تكلفت الدولة بعد ذلك زيادة على ما بيدها بقي دون حامية وكان موضعاً لانتهاز الفرصة من العدو والمجاور، ويعود وبال ذلك على الدولة، بما يكون فيه من التجاسر وخرق سياج الهيبة.(1/24)
وما كانت العصابة موفورة ولم ينفذ عددها في توزيع الحصص على الثغور والنواحي، بقي في الدولة قوة على تناول ما وراء الغاية، حتى ينفسح نطاقها إلى غايته. والعلة الطبيعية في ذلك هي قوة العصبية من سائر القوى الطبيعية، وكل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها. والدولة في مركزها أشد مما يكون في الطرف والنطاق. وإذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية عجزت وأقصرت عما وراءه، شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز والدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه. ثم إذا أدركها الهرم والضعف فإنما : تأخذ في التناقص من جهة الأطراف ولا يزال المركز محفوظاً إلى أن يتأذن الله بانقراض الأمر جملة، فحينئذ يكون انقراض المركز. وإذا غلب على الدولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف والنطاق بل تضمحل لوقتها فإن المركز كالقلب الذي تنبعث منه الروح، فإذا غلب القلب وملك انهزم جميع الأطراف.
وانظر هذا في الدولة الفارسية. كان مركزها المدائن، فلما غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع، ولم ينفع يزدجرد ما بقي بيده من أطراف ممالكه. وبالعكس من ذلك الدولة الرومية بالشام، لما كان مركزها القسطنطينية، وغلبهم المسلمون بالشام تحيزوا إلى مركزهم بالقسطنطينية ولم يضرهم انتزاع الشام من أيديهم، فلم يزل ملكهم متصلاً بها إلى أن تأدن الله بانقراضه.
وانظر أيضاً شأن العرب أول الإسلام لما كانت عصائبهم موفورة، كيف غلبوا على ما جاورهم من الشام والعراق ومصر، لأسرع وقت، ثم تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السند والحبشة وإفريقية والمغرب، ثم إلى الأندلس. فلما تفرقوا حصصاً على الممالك والثغور، ونزلوها حامية، ونفد عددهم في تلك التوزيعات، أقصروا عن الفتوحات بعد، وانتهى أمر الإسلام، ولم يتجاوز تلك الحدود، ومنها تراجعت الدولة حتى تأذن الله بانقراضها.(1/25)
وكذا كان حال الدول من بعد ذلك، كل دولة على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة، وعند نفاد عددهم بالتوزيع ينقطع لهم الفتح والاستيلاء. سنة الله في خلقه.
الفصل الثامن في أن عظم الدولة و اتساع نطاقها و طول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة و الكثرة :
والسبب في ذلك أن الملك إنما يكون بالعصبية. وأهل العصبية هم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة وأقطارها، وينقسمون عليها، فما كان من الدولة العامة قبيلها وأهل عصابتها أكثر، كانت أقوى وأكثر ممالك وأوطاناً، وكان ملكها أوسع لذلك.
واعتبر ذلك بالدولة الإسلامية لما ألف الله كلمة العرب على الإسلام وكان عدد المسلمين في غزوة تبوك، آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مائة ألف وعشرة آلاف من مضر وقحطان، ما بين فارس وراجل، إلى من أسلم منهم بعد ذلك إلى الوفاة. فلما توجهو لطلب ما في أيدي الأمم من الملك لم يكن دونه حمى ولا وزر، فاستبيح حمى فارس والروم أهل الدولتين العظيمتين في العالم لعهدهم، والترك بالمشرق والإفرنجة والبربر بالمغرب، والقوط بالأندلس، وخطوا من الحجاز إلى السوس الأقصى، ومن اليمن إلى الترك بأقصى الشمال، واستولوا على الأقاليم السبعة.(1/26)
ثم انظر بعد ذلك دولة صنهاجة والموحدين مع العبيديين قبلهم، لما كان قبيل كتامة القائمون بدولة العبيديين أكثر من صنهاجة ومن المصامدة، كانت دولتهم أعظم، فملكوا إفريقية والمغرب والشام ومصر والحجاز. ثم انظر بعد ذلك دولة زناتة لما كان عددهم أقل من المصامدة قصر ملكهم عن ملك الموحدين لقصور عددهم عن عدد المصامدة منذ أول أمرهم ثم اعتبر بعد ذلك حال الدولتين لهذا العهد لزناتة بني مرين وبني عبد الواد، لما كان عدد بني مرين لأول ملكهم أكثر من بني عبد الواد، كانت دولتهم أقوى منها وأوسع نطاقاً وكان لهم عليهم الغلب مرة بعد أخرى. يقال إن عدد بني مرين لأول ملكهم كان ثلاثة آلاف، وأن بني عبد الواد كانوا ألفاً، إلا أن الدولة بالرفه وكثرة التابع كثرت من أعدادهم.
وعلى هذه النسبة في أعداد المتغلبين لأول الملك يكون اتساع الدولة وقوتها.
وأما طول أمدها أيضاً فعلى تلك النسبة، لأن عمر الحادث من قوة مزاجه، ومزاج الدول إنما هو بالعصبية، فإذا كانت العصبية قوية كان المزاج تابعاً لها وكان أمد العمر طويلاً والعصبية إنما هي بكثرة العدد ووفوره كما قلناه. والسبب الصحيح في ذلك أن النقص إنما يبدو في الدولة من الأطراف، فإذا كانت ممالكها كثيرة كانت أطرافها بعيدة عن مركزها وكثيرة، وكل نقص يقع فلا بد له من زمن، فتكثر أزمان النقص لكثرة الممالك، واختصاص كل واحد منها بنقص وزمان فيكون أمدها طويلاً.
وانظر ذلك في دولة العرب الإسلامية كيف كان أمدها أطول الدول، لا بنو العباس أهل المركز ولا بنو أمية المستبدون بالأندلس. ولم ينقض أمر جميعهم إلا بعد الأربعمائة من الهجرة. ودولة العبيديين كان أمدها قريباً في مائتين وثمانين سنة. ودولة صنهاجة دونهم من لدن تقليد معز الدولة أمر إفريقية لبلكين بن زيري في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، إلى حين استيلاء الموحدين على القلعة وبجاية سنة سبع وخمسين وخمسمائة.(1/27)
الفصل التاسع في أن الأوطان الكثيرة القبائل و العصائب قل أن تستحكم فيها دولة :
والسبب في ذلك اختلاف الأراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها، فيكثر الانتقاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت، وإن كانت ذات عصبية، لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعة وقوة.
وانظر ما وقع من ذلك بإفريقية والمغرب منذ أول الإسلام ولهذا العهد. فإن ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيات، فلم يغن فيهم الغلب الأول الذي كان لابن أبي سرح عليهم وعلى الإفرنجة شيئاً. وعاودوا بعد ذلك الثورة والردة مرة بعد أخرى، وعظم الإثخان من المسلمين فيهم. ولما استقر الدين عندهم عادوا إلى الثورة والخروج والأخذ بدين الخوارج مرات عديدة.(1/28)
قال ابن أبي زيد: ارتدت البرابرة بالمغرب اثنتي عشرة مرة. ولم تستقر كلمة الإسلام فيهم إلا لعهد ولاية موسى بن نصير فما بعده. وهذا معنى ماينقل عن عمران إفريقية مفرقة لقلوب أهلها، إشارة إلى ما فيها كثرة العصائب والقبائل الحاملة لهم على عدم الإذعان والانقياد. ولم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصفة ولا الشام، إنما كانت حاميتها من فارس والروم، والكافة دهماء أهل مدن وأمصار. فلما غلبهم المسلمون على الأمر وانتزعوه من أيديهم لم يبق فيها ممانع ولا مشاق. والبربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تحصى، وكلهم بادية وأهل عصائب وعشائر. وكلما هلكت قبيلة عادت الأخرى مكانها وإلى دينها من الخلاف والردة، فطال أمر العرب في تمهيد الدولة بوطن إفريقية والمغرب. وكذلك كان الأمر بالشام لعهد بني إسرائيل: كان فيه من قبائل فلسطين وكنعان وبني عيصو وبني مدين وبني لوط والروم واليونان والعمالقة وأكريكش، والنبط من جانب الجزيرة والموصل ما لا يحصى كثرة وتنوعاً في العصبية. فصعب على بني إسرائيل تمهيد دولتهم ورسوخ أمرهم واضطرب عليهم الملك مرة بعد أخرى. وسرى ذلك الخلاف إليهم فاختلفوا على سلطانهم وخرجوا عليه، ولم يكن لهم ملك موطد سائر أيامهم إلى أن غلبهم الفرس ثم يونان ثم الروم آخر أمرهم عند الجلاء. والله غالب على أمره.
وبعكس هذا أيضاً الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها، ويكون سلطانها وازعاً لقلة الهرج والانتقاض، ولا تحتاج فيها إلى كثير من العصبية، كما هو الشأن في مصر والشام لهذا العهد، إذ هي خلو من القبائل والعصبيات، كأن لم يكن الشام معدناً لهم كما قلناه. فملك مصر في غاية الدعة والرسوخ لقلة الخوارج وأهل العصائب، إنما هو سلطان ورعية، ودولتها قائمة بملوك الترك وعصائبهم يغلبون على الأمر واحداً بعد واحد، وينتقل الأمر فيهم من منبت إلى منبت، والخلافة مسماة للعباسي من أعقاب الخلفاء ببغداد.(1/29)
وكذا شأن الأندلس لهذا العهد. فإن عصبية ابن الأحمر سلطانها لم تكن لأول دولتهم بقوية ولا كانت كرات، إنما يكون أهل بيت من بيوت العرب أهل الدولة الأموية بقوا، من ذلك، القلة وذلك أن أهل الأندلس لما انقرضت الدولة العربية منه وملكهم البربر من لمتونة والموحدين سئموا ملكتهم، وثقلت وطأتهم عليهم، فأشربت القلوب بغضاءهم، وأمكن الموحدون والسادة في آخر الدولة كثيراً من الحصون للطاغية في سبيل الاستظهار به على شأنهم، من تملك الحضرة مراكش. فاجتمع من كان بقي بها من أهل العصبية القديمة معادن من بيوت العرب، تجافى بهم المنبت عن الحاضرة والأمصار بعض الشيء، ورسخوا في العصبية مثل ابن هود وابن الأحمر وابن مردنيش وأمثالهم. فقام ابن هود بالأمر، ودعا بدعوة الخلافة العباسية بالمشرق، وحمل الناس على الخروج على الموحدين فنبذوا إليهم العهد وأخرجوهم، واستقل ابن هود بالأمر بالأندلس. ثم سما ابن الأحمر للأمر، وخالف ابن هود في دعوته، فدعا هؤلاء لابن أبي حفص صاحب إفريقية من الموحدين وقام بالأمر، وتناوله بعصابة قليلة من قرابته كانوا يسمون الرؤساء ولم يحتج لأكثر منهم لقلة العصائب بالأندلس، وأنها سلطان ورعية. ثم استظهر بعد ذلك على الطاغية بمن يجيز إليه البحر من أعياص زناتة، فصاروا معه عصبة على المثاغرة والرباط. ثم سما لصاحب المغرب من ملوك زنانة أمل في الاستيلاء على الأندلس، فصار أولئك الأعياص عصابة ابن الأحمر على الامتناع منه إلى أن تأثل أمره ورسخ، وألفته النفوس، وعجز الناس عن مطالبته وورثه أعقابه لهذا العهد. فلا تظن أنه بغير عصابة فليس كذلك، وقد كان مبدؤه بعصابة إلا أنها قليلة، وعلى قدر الحاجة، فإن قطر الأندلس لقلة العصائب والقبائل فيه يغني عن كثرة العصبية فى التغلب عليهم. والله غني عن العالمين.
الفصل العاشر في أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد :(1/30)
وذلك أن الملك كما قدمناه إنما هو بالعصبية، والعصبية متألفة من عصبات كثيرة تكون واحدة منها أقوى من الأخرى كلها فتغلبها وتستولي عليها، حتى تصيرها جميعاً في ضمنها، وبذلك يكون الاجتماع والغلب على الناس والدول. وسره أن العصبية العامة للقبيل هي مثل المزاج للمتكون، والمزاج إنما يكون عن العناصر، وقد تبين في موضعه أن العناصر إذا اجتمعت متكافئة فلا يقع منها مزاج أصلاً، بل لا بد أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكل حتى تجمعها وتؤلفها وتصيرها عصبية واحدة شاملة لجميع العصائب، وهي موجودة في ضمنها. وتلك العصبية الكبرى إنما تكون لقوم أهل بيت ورياسة فيهم، ولا بد أن يكون واحد منهم رئيساً لهم غالباً عليهم، فيتعين رئيساً للعصبيات كلها لغلب منبته لجميعها. وإذا تعين له ذلك فمن الطبيعة الحيوانية خلق الكبر والأنفة ة فيأخذ حينئذ من المساهمة والمشاركة في استتباعهم والتحكم فيهم، ويجيء خلق التأله الذي في طباع البشر مع ما تقتضيه السياسة من انفراد الحاكم، لفساد الكل باختلاف الحكام: " لو كان فيهما آلهة إلا اللة لفسدتا " . فتجدع حينئذ أنوف العصبيات وتفلج شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التحكم، وتقرع عصبيتهم عن ذلك، وينفرد به ما استطاع، حتى لا يترك لأحد منهم في الأمر لا ناقة ولا جملاً. فينفرد بذلك المجد بكليته ويدفعهم عن مساهمته. وقد يتم ذلك للأول من ملوك الدولة، وقد لا يتم إلا للثاني والثالث على قدر ممانعة العصبيات وقوتها. إلا أنه أمر لا بد منه في الدول. " سنة الله التي قد خلت في عباده " ، والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي عشر في أن من طبيعة الملك الترف :(1/31)
وذلك أن الأمة إذا تغلبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها فتكثر عوائدهم، ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله ورقته وزينته. ويذهبون إلى اتباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم، وتصير لتلك النوافل عوائد ضرورية في تحصيلها، وينزعون مع ذلك إلى رقة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والأنية، ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم، في أكل الطيب ولبس الأنيق وركوب الفاره، ويناغي خلفهم في ذلك سلفهم إلى آخر الدولة. وعلى قدر ملكهم يكون حظهم من ذلك، وترفهم فيه، إلى أن يبلغوا من ذلك الغاية التي للدولة أن تبلغها بحسب قوتها وعوائد من قبلها. سنة الله في خلقه والله تعالى أعلم.
الفصل الثاني عشر في أن من طبيعة الملك الدعة والسكون :
وذلك أن الأمة لا يحصل لها الملك إلا بالمطالبة، والمطالبة غايتها الغلب والملك، وإذا حصلت الغاية انقضى السعي إليها. قال الشاعر:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فإذا حصل الملك أقصروا عن المتاعب التي كانوا يتكلفونها في طلبه وآثروا الراحة والسكون والدعة، ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس، فيبنون القصور، ويجرون المياه، ويغرسون الرياض، ويستمتعون بأحوال الدنيا، ويؤثرون الراحة على المتاعب، ويتأنقون في أحوال الملابس والمطاعم والأنية والفرش ما استطاعوا، ويألفون ذلك ويورثونه من بعدهم من أجيالهم. ولا يزال ذلك يتزايد فيهم إلى أن يتأذن الله بأمره، وهو خير الحاكمين، والله تعالى أعلم.
الفصل الثالث عشر-في أنه إذا استحكمت طبيعة الملك..من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم :(1/32)
وبيانه من وجوه: الأول أنها تقتضي الانفراد بالمجد كما قلناه. وما كان المجد مشتركاً بين العصابة وكان سعيهم له واحداً، كانت هممهم في التغلب على الغير والذب عن الحوزة أسوة في طموحها وقوة شكائمها، ومرماهم إلى العز جميعاً، وهم يستطيبون الموت في بناء مجدهم ويؤثرون الهلكة على فساده. وإذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبيتهم وكبح من أعنتهم، واستأثر بالأموال دونهم، فتكاسلوا عن الغزو وفشل ريحهم ورئموا المذلة والاستعباد. ثم ربي الجيل الثاني منهم على ذلك، يحسبون ما ينالهم من العطاء أجراً من السلطان لهم على الحماية والمعونة، لا يجري في عقولهم سواه، وقل أن يستأجر أحد نفسه على الموت، فيصير ذلك وهناً في الدولة وخضداً من الشوكة، وتقبل به على مناحي الضعف والهرم لفساد العصبية بذهاب البأس من أهلها.(1/33)
والوجه الثاني أن طبيعة الملك تقتضي الترف كما قدمناه، فتكثر عوائدهم وتزيد نفقاتهم على أعطياتهم، ولا يفي دخلهم بخرجهم، فالفقير منهم يهلك والمترف يستغرق عطاءه بترفه، ثم يزداد ذلك في أجيالهم المتأخرة إلى أن يقصر العطاء كله عن الترف وعوائده، وتمسهم الحاجة وتطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو والحروب، فلا يجدون وليجة عنها، فيوقعون بهم العقوبات، وينتزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون به عليهم، أو يؤثرون به أبناءهم وصنائع دولتهم، فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم، ويضعف صاحب الدولة بضعفهم. وأيضاً إذا كثر الترف في الدولة وصار عطاؤهم مقصراً عن حاجاتهم ونفقاتهم، احتاج صاحب الدولة الذي هو السلطان إلى الزيادة في أعطياتهم حتى يسد خللهم ويزيح عللهم. والجباية مقدارها معلوم، ولا تزيد ولا تنقص وإن زادت بما يستحدث من المكوس فيصير مقدارها بعد الزيادة محدوداً. فإذا وزعت الجباية على الأعطيات وقد حدثت فيها الزيادة لكل واحد بما حدث من ترفهم وكثرة نفقاتهم، نقص عدد الحامية حينئذ عما كان قبل زيادة الأعطيات. ثم يعظم الترف وتكثر مقادير الأعطيات لذلك، فينقص عدد الحامية، وثالثاً ورابعاً إلى أن يعود العسكر إلى أقل الأعداد، فتضعف الحماية لذلك، وتسقط قوة الدولة ويتجاسر عليها من يجاورها من الدول أو من هو تحت يديها من القبائل والعصائب، ويأذن الله فيها بالفناء الذي كتبه على خليقته. وأيضاً فالترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفسفة وعوائدها كما يأتي في فصل الحضارة، فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك ودليلاً عليه، ويتصفون بما يناقضها من خلال الشر، فتكون علامة على الأدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته، وتأخذ الدولة مبادىء العطب وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها.(1/34)
الوجه الثالث: أن طبيعة الملك تقتضي الدعة كما ذكرناه، وإذا اتخذوا الدعة والراحة مألفاً وخلقاً صار لهم ذلك طبيعة وجبلة شأن العوائد كلها وإيلافها، فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش ومهاد الترف والدعة، وينقلب خلق التوحش وينسون عوائد البداوة التي كان بها الملك من شدة البأس، وتعود الافتراس وركوب البيداء وهداية القفر. فلا يفرق بينهم وبين السوقة من الحضر إلا في الثقافة والشارة فتضعف حمايتهم ويذهب بأسهم وتنخضد شوكتهم ويعود وبال ذلك على الدولة بما تلبس به من ثياب الهرم. ثم لا يزالون يتلونون بعوائد الترف والحضارة والسكون والدعة ورقة الحاشية في جميع أحوالهم، وينغمسون فيها، وهم في ذلك يبعدون عن البداوة والخشونة، وينسلخون عنها شيئاً فشيئاً، وينسون خلق البسالة التي كانت بها الحماية والمدافعة، حتى يعودوا عيالاً على حامية اخرى إن كانت لهم. واعتبر ذلك في الدول التي أخبارها في الصحف لديك تجد ما قلته لك من ذلك صحيحاً من غير ريبة.
وربما يحدث في الدولة، إذا طرقها هذا الهرم بالترف والراحة، أن يتخير صاحب الدولة أنصاراً وشيعة من غير جلدتهم ممن تعود الخشونة فيتخذهم جنداً يكون أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشدائد من الجوع والشظف، ويكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى يأذن الله فيها بأمره. وهذا كما وقع في دولة الترك بالمشرق، فأبى غالب جندها الموالي من الترك. فتتخير ملوكهم من أولئك المماليك المجلوبين إليهم فرساناً وجنداً، فيكونون أجراً على الحرب وأصبر على الشظف من أبناء الملوك الذين كانوا قبلهم وربوا في ماء النعيم والسلطان وظله وكذلك في دولة الموحدين بإفريقية، فإن صاحبها كثيراً ما يتخذ أجناده من زناتة والعرب ويستكثر منهم، ويترك أهل الدولة المتعودين للترف فتستجد الدولة بذلك عمراً آخر سالماً من الهرم. والله وارث الأرض ومن عليها.(1/35)
الفصل الرابع عشر في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص :
اعلم أن العمر الطبيعي للأشخاص على ما زعم الأطباء والمنجمون مائة وعشرون سنة، وهي سنة القمر الكبرى عند المنجمين. ويختلف العمر في كل جيل بحسب القرانات، فيزيد عن هذا وينقص منه، فتكون أعمار بعض أهل القرانات مائة تامة وبعضهم خمسين أو ثمانين أو سبعين على ما تقتضيه أدلة القرانات عند الناظرين فيها. وأعمار هذه الملة ما بين الستين إلى السبعين كما في الحديث. ولا يزيد على العمر الطبيعي الذي هو مائة وعشرون إلا في الصور النادرة وعلى الأوضاع الغريبة من الفلك كما وقع في شأن نوح عليه السلام، وقليل من قوم عاد وثمود. وأما أعمار الدول أيضاً وإن كانت تختلف بحسب القرانات، إلا أن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال. والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته. قال تعالى: " حتى إذ ا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة " . ولهذا قلنا أن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل. ويؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي وقع في بني إسرائيل، وأن المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذل ولا عرفوه، فدل على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الذي هو عمر الشخص الواحد.
وإنما قلنا أن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال: لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم، فحدهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون.(1/36)
والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الأشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به، وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع. ويبقى لهم الكثير من ذلك، بما أدركوا الجيل الأول وباشروا أحوالهم وشاهدوا من اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ومراميهم في المدافعة والحماية، فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية، وإن ذهب منه ما ذهب، ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول، أو على ظن من وجودها فيهم.
وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم الترف غايته بما تفنقوه من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عيالاً على الدولة، ومن جملة النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم، وتسقط العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة، وينسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة يموهون بها، وهم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها. فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر بالموالي، ويصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء، حتى يتأذن بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت. فهذه كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدولة وتخلفها.
ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع كما مر في أن المجد والحسب إنما هو في أربعة آباء. وقد أتيناك فيه ببرهان طبيعي كاف ظاهر مبني على ما مهدناه قبل من المقدمات، فتأمله فلن تعدو وجه الحق إن كنت من أهل الأنصاف.(1/37)
وهذه الأجيال الثلاثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما مر. ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده، إلا أن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب، فيكون الهرم حاصلاً مستولياً والطالب لم يخضرها، ولو قد جاء الطالب لما وجد مدافعاً " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " .
فهذا العمر للدولة بمثابة عمر الشخص من التزيد إلى سن الوقوف، ثم إلى سن الرجوع. ولهذا يجري على ألسنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنة، وهذا معناه. فاعتبره واتخذ منه قانوناً يصحح لك عدد الأباء في عمود النسب الذي تريده من قبل معرفة السنين الماضية إذا كنت قد استرب في عددهم، وكانت السنون الماضية منذ أولهم محصلة لديك فعد لكل مائة من السنين ثلاثة من الأباء، فإن نفدت على هذا القياس مع نفود عددهم فهو صحيح، وإن نقصت عنه بجيل فقد غلط عددهم بزيادة واحد في عمود النسب، وإن زادت بمثله فقد سقط واحد. وكذلك تأخذ عدد السنين من عددهم إذا كان محصلاً لديك، فتأمله تجده في الغالب صحيحاً. " والله يقدر الليل والنهار " .(1/38)
اعلم أن العمر الطبيعي للأشخاص على ما زعم الأطباء و المنجمون مائة وعشرون سنةً و هي سنو القمر الكبرى عند المنجمين و يختلف العمر في كل جيل بحسب القرانات فيزيد عن هذا و ينقص منه فتكون أعمار بعض أهل القرانات مائة تامة و بعضهم خمسين أو ثمانين أو سبعين على ما تقتضيه أدلة القرانات عند الناظرين فيها و أعمار هذه الملة ما بين الستينن إلى السبعين كما في الحديث و لا يزيد على العمر الطبيعي الذي هو مائة و عشرون إلا في الصور النادرة و على الأوضاع الغريبة من الفلك كما و قع في شأن نوح عليه السلام و قليل من قوم عاد و ثمود.(1/39)
و أما أعمار الدول أيضاً و إن كانت تختلف بحسب القرانات إلا أن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال و الجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو و النشوء إلى غايته قال تعالى: حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة و لهذا قلنا أن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل و يؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي وقع في بنى إسرائيل و أن المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء و نشأة جيل آخر لم يعهدوا الذل و لا عرفوه فدل على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الذي هو عمر الشخص الواحد و إنما قلنا أن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة و خشونتها و توحشها من شظف العيش و البسالة و الافتراس و الاشتراك في المجد فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظةً فيهم فحدهم مرهف و جانبهم مرهوب و الناس لهم مغلوبون و الجيل الثاني تحول حالهم بالملك و الترفه من البداوة إلى الحضارة و من الشظف إلى الترف و الخصب و من الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به و كسل الباقين عن السعي فيه و من عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء و تؤنس منهم المهانة و الخضوع و يبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأول و باشروا أحوالهم و شاهدوا اعتزازهم و سعيهم إلى المجد و مراميهم في المدافعة و الحماية فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية و إن ذهب منه ما ذهب و يكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول أو على ظن من وجودها فيهم و أما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة و الخشونة كأن لم تكن و يفقدون حلاوة العز و العصبية بما هم فيه من ملكة القهر و يبلغ فيهم الترف غايته بما تبنقوه من النعيم و غضارة العيش فيصيرون عيالاً على الدولة و من جملة النساء و الولدان المحتاجين للمدافعة عنهم و تسقط العصبية بالجملة و ينسون الحماية و المدافعة و المطالبة و يلبسون على الناس(1/40)
في الشارة و الزي و ركوب الخيل و حسن الثقافة يموهون بها و هم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة و يستكثر بالموالى و يصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء حتى يتأذن الله بانقراضها فتذهب الدولة بما حملت فهذه كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدولة و تخلفها و لهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع كما مر في أن المجد و الحسب إنما هو أربعة آباء و قد أتيناك فيه ببرهان طبيعي كاف ظافر مبني على ما مهدناه قبل من المقدمات فتأمله فلن تعدو وجه الحق إن كنت من أهل الإنصاف و هذه الأجيال الثلاثة عمرها مائة و عشرون سنة على ما مر و لا تعدو الدول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده إلا أن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب فيكون الهرم حاصلاً مستولياً و الطالب لم يحضرها و لو قد جاء الطالب لما وجد مدافعاً فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً و لا يستقدمون فهذا العمر للدولة بمثابة عمر الشخص من التزايد إلى سن الوقوف ثم إلى سن الرجوع و لهذا يجري على ألسنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنة و هذا معناه فأعتبره و اتخذ منه قانوناً يصحح لك عدد الآباء في عمود النسب الذي تريده من قبل معرفة السنين الماضية إذا كنت قد استربت في عددهم و كانت السنون الماضية منذ أولهم محصلة لديك فعد لكل مائة من السنين ثلاثة من الآباء فإن نفدت على هذا القياس مع نفود عددهم فهو صحح و إن نقصت عنه بجيل فقد غلط عددهم بزيادة واحد في عمود النسب و أن زادت بمثله فقد سقط واحد و كذلك تأخذ عدد السنين من عددهم إذا كان محصلاً لديك فتأمله تجده في الغالب صحيحاً و الله يقدر الليل و النهار.
الفصل الثاني والعشرون في أن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عوده إلى شعب أخر منها ما دامت لهم العصبية :(1/41)
والسبب في ذلك أن الملك إنما حصل لهم بعد سورة الغلب والإذعان لهم من سائر الأمم سواهم، فيتعين منهم المباشرون للأمر الحاملون لسرير الملك. ولا يكون ذلك لجميعهم لما هم عليه من الكثرة التي يضيق عنها نطاق المزاحمة والغيرة التي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرتبة. فإذا تعين أولئك القائمون بالدولة انغمسوا في النعيم، وغرقوا في بحر الترف والخصب واستعبدوا إخوانهم من ذلك الجيل، وانفقوهم في وجوه الدولة ومذاهبها. وبقي الذين بعدوا عن الأمر وكبحوا عن المشاركة في ظل من عز الدولة التي شاركوها بنسبهم، وبمنجاة من الهرم لبعدهم عن الترف وأسبابه. فإذا استولت على الأولين الأيام، وأباد خضراءهم الهرم فطبختهم الدولة، وأكل الدهر عليهم وشرب، بما أرهف النعيم من حدهم واشتفت غريزة الترف من مائهم، وبلغوا غايتهم من طبيعة التمدن الإنساني والتغلب السياسي، شعر:
كدود القز ينسج ثم يفنى ... بمركز نسجه في الانعكاس
كانت حينئذ عصبية الأخرين موفورة، وسورة غلبهم من الكاسر محفوظة وشارتهم في الغلب معلومة، فتسمو آمالهم إلى الملك الذي كانوا ممنوعين منه بالقوة الغالبة من جنس عصبيتهم، وترتفع المنازعة لما عرف من غلبهم، فيستولون على الأر ويصير إليهم. وكذا يتفق فيهم مع من بقي أيضا منتبذاً عنه من عشائر أمتهم، فلا يزال الملك ملجأ في الأمة إلا أن تنكسر سورة العصبية منها أو يفنى سائر عشائرها. سنة الله في الحياة الدنيا، " والآخرة عند ربك للمتقين " .(1/42)
واعتبر هذا بما وقع في العرب لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود، ومن بعدهم إخوانهم العمالقة ومن بعدهم إخوانهم من حمير، ومن بعدهم إخوانهم التبابعة من حمير أيضاً، ومن بعدهم الأذواء كذلك، ثم جاءت الدولة لمضر. وكذا الفرس لما انقرض أمر الكينية، ملك من بعدهم الساسانية، حتى تأذن الله بانقراضهم أجمع بالإسلام. وكذا اليونانيون انقرض أمرهم وانتقل إلى إخوانهم من الروم. وكذا البربر بالمغرب لما انقرض أمر مغراوة وكتامة الملوك الأول منهم رجع إلى صنهاجة ثم الملثمين من بعدهم، ثم المصامدة، ثم من بقي من شعوب زناتة وهكذا. سنة الله في عباده وخلقه.
الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده :(1/43)
والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه: إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقادا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه، والله أعلم، من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب، وهذا راجع للأول. ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله. وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم. وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم، حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجحران والمصانع والبيوت، حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، والأمر لله. وتأمل في هذا سر قولهم: العامة على دين الملك، فإنه من بابه، إذ الملك غالب لمن تحت يده، والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم. والله العليم الحكيم، وبه سبحانه وتعالى التوفيق.
***********************
الفصل الثاني - سبب هلاك تلك الدول
1. الكفر والفسوق(1/44)
قال تعالى في سورة الأعراف { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ {91}الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ {92} فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ {93}
يقول السيد رحمه الله :
ففي ومضة ها نحن أولاء نراهم في دارهم جاثمين . لا حياة ولا حراك . كأن لم يعمروا هذه الدار ، وكأن لم يكن لهم فيها آثار !
ويطوي صفحتهم مشيعة بالتبكيت والإهمال ، والمفارقة والانفصال ، من رسولهم الذي كان أخاهم ، ثم افترق طريقه عن طريقهم ، فافترق مصيره عن مصيرهم ، حتى لم يعد يأسى على مصيرهم الأليم ، وعلى ضيعتهم في الغابرين: فتولى عنهم ، وقال:يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ، فكيف آسى على قوم كافرين ؟ . .
إنه من ملة وهم من ملة . فهو أمة وهم أمة . أما صلة الأنساب والأقوام ، فلا اعتبار لها في هذا الدين ، ولا وزن لها في ميزان اللّه . .
فالوشيجة الباقية هي وشيجة هذا الدين ، والارتباط بين الناس إنما يكون في حبل اللّه المتين . .
وقال تعالى في سورة الإسراء{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا {16}
قال السيد رحمه الله :(1/45)
والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة ، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة ، حتى تترهل نفوسهم وتأسن ، وترتع في الفسق والمجانة ، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات ، وتلغ في الأعراض والحرمات ، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا ، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها ، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها . ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي ، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها ، فتهلك وتطوى صفحتها .
والآية تقرر سنة الله هذه . فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك ، فكثر فيها المترفون ، فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم ، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها ، فعم فيها الفسق ، فتحللت وترهلت ، فحقت عليها سنة الله ، وأصابها الدمار والهلاك . وهي المسؤولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين ، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين . فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا ، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك ، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك .
إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف ، وسننا لا تتبدل ، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فنفذ إرادة الله وتحق كلمته . والله لا يأمر بالفسق ، لأن الله لا يأمر بالفحشاء . لكن وجود المترفين في ذاته ، دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها ، وسارت في طريق الانحلال ، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقا . وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة .(1/46)
فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشيء السبب ، ولكنها ترتب النتيجة على السبب . الأمر الذي لا مفر منه لأن السنة جرت به . والأمر ليس أمرا توجيهيا إلى الفسق ، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق .
وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشيء آثارها التي لا مفر منها . وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرا .
هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح ، قرنا بعد قرن ، كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير ، والله هو الخبير بذنوب عباده البصير:
وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ، وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا .
2. الظلم بكل صوره وأشكاله :
قال تعالى في سورة الكهف { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا {59}
ولقد ظلموا فكانوا مستحقين للعذاب أو الهلاك كالقرى قبلهم . لولا أن الله قدر إمهالهم إلى موعدهم , لحكمة اقتضتها إرادته فيهم , فلم يأخذهم أخذ القرى ; بل جعل لهم موعدا آخر لا يخلفونه:
(وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا . وجعلنا لمهلكهم موعدا) . .
فلا يغرنهم إمهال الله لهم , فإن موعدهم بعد ذلك آت . وسنة الله لا تتخلف . والله لا يخلف الميعاد ( الظلال)
3. الاستبداد بالرأي:
كقول فرعون لقومه كما في سورة غافر { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ {29}
إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صواباً , وأعتقده نافعاً . وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال ! وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب ?!
وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون ?!
وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأياً ?!(1/47)
وإلا فلم كانوا طغاة ?! (الظلال)
وقولة أبي جهل :
ولما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع، ولكن قام طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائلًا : والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم بها ثلاثًا، فننحر الجَزُور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف لنا القِيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا . ( سيرة ابن هشام )
وكذلك عوف بن مالك في غزوة حنين:
ولما أجمع القائد العام ـ مالك بن عوف ـ المسير إلى حرب المسلمين، ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فسار حتى نزل بأوْطَاس ـ وهو واد في دار هَوَازِن بالقرب من حُنَيْن، لكن وادي أوطاس غير وادي حنين، وحنين واد إلى جنب ذي المجَاز، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات .
ولما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمَّةِ ـ وهو شيخ كبير، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً ـ قال دريد : بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس، قال : نعم مَجَالُ الخيل، لا حَزْنٌ ضَرسٌ ، ولا سَهْلٌ دَهِس، مإلى أسمع رُغَاء البعير، ونُهَاق الحمير، وبُكَاء الصبي، وثُغَاء الشاء ؟ قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم، فدعا مالكاً وسأله عما حمله على ذلك، فقال : أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال : راعي ضأن واللّه، وهل يرد المنهزم شيء ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك، ثم سأل عن بعض البطون والرؤساء، ثم قال : يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بَيْضَة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم، ثم الْقَ الصُّبَاة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزتَ أهلك ومالك .(1/48)
ولكن مالكاً ـ القائد العام ـ رفض هذا الطلب قائلاً : واللّه لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، واللّه لتطيعني هوازن أو لأتَّكِئَنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا : أطعناك . فقال دريد : هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنِي :
يا ليتني فيها جَذَعْ ** أخُبُّ فيها وأضَعْ
أقود وطْفَاءَ الزَّمَعْ ** كأنها شاة صَدَعْ
وجاءت إلى مالك عيون كان قد بعثهم للاستكشاف عن المسلمين، جاءت هذه العيون وقد تفرقت أوصالهم، قال : ويلكم، ما شأنكم ؟ قالوا : رأينا رجالاً بيضا على خيل بُلْق، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى .
فالاستبداد بالرأي سبب الكثير من الهزائم كما هو حال حكام العرب (سيرة ابن هشام )
4. الترف :
قال تعالى في سورة المؤمنون { حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ {64} لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ {65} قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ {66} مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ {67}
تلك اليقظة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم . والتي يستجيشها الإيمان بمجرد استقراره في القلوب . . ليست أمرا فوق الطاقة , وليست تكليفا فوق الاستطاعة . إنما هي الحساسية الناشئة من الشعور بالله والاتصال به ; ومراقبته في السر والعلن ; وهي في حدود الطاقة الإنسانية , حين يشرق فيها ذلك النور الوضيء:
(ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون) . .
ولقد شرع الله التكاليف وفق ما يعلم من استعداد النفوس ; وهو محاسبهم وفق ما يعملونه في حدود الطاقة , لا يظلمون بتحميلهم ما لا يطيقون ; ولا ببخسهم شيئا مما يعملون , وكل ما يعملونه محسوب في سجل (ينطق بالحق) ويبرزه ظاهرا غير منقوص . والله خير الحاسبين .(1/49)
إنما يغفل الغافلون لأن قلوبهم في غمرة عن الحق , لم يمسسها نوره المحيي , لانشغالها عنه , واندفاعها في التيه ; حتى تفيق على الهول , لتلقي العذاب الأليم , وتلقى معه التوبيخ والتحقير:
(بل قلوبهم في غمرة من هذا , ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون . حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون . لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون . قد كانت آياتي تتلى عليكم , فكنتم على أعقابكم تنكصون , مستكبرين به سامرا تهجرون) . .
فعلة اندفاعهم فيما هم فيه ليست هي تكليفهم بما هو فوق الطاقة ; إنما العلة أن قلوبهم في غمرة , لا ترى الحق الذي جاء به القرآن , وأنهم مندفعون في طريق آخر غير النهج الذي جاء به: (ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون) . . ثم يرسم مشهد انتباههم على الكارثة الباغتة المفاجئة:(حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون) . .
والمترفون أشد الناس استغراقا في المتاع والانحراف والذهول عن المصير . وها هم أولاء يفاجأون بالعذاب الذي يأخذهم أخذا , فإذا هم يرفعون أصواتهم بالجؤار , مستغيثين مسترحمين [ وذلك في مقابل الترف والغفلة والاستكبار والغرور ] ثم ها هم أولاء يتلقون الزجر والتأنيب:(لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون) . .(1/50)
وإذا المشهد حاضر , وهم يتلقون الزجر والتأنيب , والتيئيس من كل نجدة ومن كل نصير , والتذكير بما كان منهم وهم في غمرتهم مستغرقون:(قد كانت آياتي تتلى عليكم , فكنتم على أعقابكم تنكصون) فتتراجعون على أعقابكم كأن ما يتلى عليكم خطر تحاذرونه , أو مكروه تجانبونه , مستكبرين عن الإذعان للحق . ثم تزيدون على هذا السوء القول وهجره في سمركم , حيث تتناولون الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به بكلمات السوء . ولقد كانوا يطلقون ألسنتهم بهجر القول وفحشه في مجالسهم ; وهم يتحلقون حول الأصنام في سامرهم بالكعبة . فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهد حسابهم على ما هم فيه ; وهم يجأرون طالبين الغوث , فيذكرهم بسمرهم الفاحش , وهجرهم القبيح . وكأنما هو واقع اللحظة , وهم يشهدونه ويعيشون فيه !
وذلك على طريقة القرآن الكريم في رسم مشاهد القيامة كانها واقع مشهود .
والمشركون في تهجمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن في نواديهم وفي سمرهم يمثلون الكبرياء الجاهلة , التي لا تدرك قيمة الحق لأنها مطموسة البصيرة عمياء , فتتخذ منه مادة للسخرية والهزء والاتهام . ومثل هؤلاء في كل زمان . وليست جاهلية العرب إلا نموذجا لجاهليات كثيرة خلت في الزمان ; وما تزال تظهر الآن بعد الآن ! (الظلال)
5. الفساد الشامل :
قال تعالى في سورة البقرة { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ {205} وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ {206}(1/51)
هذه اللمسات العجيبة من الريشة المبدعة في رسم ملامح النفوس , تشي بذاتها بأن مصدر هذا القول المعجز ليس مصدرا بشريا على الإطلاق . فاللمسات البشرية لا تستوعب - في لمسات سريعة كهذه - أعمق خصائص النماذج الإنسانية , بهذا الوضوح , وبهذا الشمول .
إن كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد السمات . . وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائنا حيا , مميز الشخصية . حتى لتكاد تشير بأصبعك إليه , وتفرزه من ملايين الأشخاص , وتقول:هذا هو الذي أراد إليه القرآن ! . .
إنها عملية خلق أشبه بعملية الخلق التي تخرج كل لحظة من يد الباريء في عالم الأحياء !
هذا المخلوق الذي يتحدث , فيصور لك نفسه خلاصة من الخير , ومن الإخلاص , ومن التجرد , ومن الحب , ومن الترفع , ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس . .
هذا الذي يعجبك حديثه . تعجبك ذلاقة لسانه , وتعجبك نبرة صوته , ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح . .
(ويشهد الله على ما في قلبه) . .
زيادة في التأثير والإيحاء , وتوكيدا للتجرد والإخلاص , وإظهارا للتقوى وخشية الله . .
(وهو ألد الخصام) ! تزدحم نفسه باللدد والخصومة , فلا ظل فيها للود والسماحة , ولا موضع فيها للحب والخير , ولا مكان فيها للتجمل والإيثار .
هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه , ويتنافر مظهره ومخبره . .
هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان . .
حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء , وانكشف المستور , وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد:
(وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها , ويهلك الحرث والنسل , والله لا يحب الفساد) . . وإذا انصرف إلى العمل , كانت وجهته الشر والفساد , في قسوة وجفوة ولدد , تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والأثمار , ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال . .(1/52)
وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد . .
مما كان يستره بذلاقة اللسان , ونعومة الدهان , والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح . .
(والله لا يحب الفساد) . .
ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد . . والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس ; ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا , فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر .
ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات:
(وإذا قيل له:اتق الله أخذته العزة بالإثم . فحسبه جهنم ولبئس المهاد) . .
إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض ; وأهلك الحرث والنسل ; ونشر الخراب والدمار ; وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد . .
إذا فعل هذا كله ثم قيل له: (اتق الله) . .
تذكيرا له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه . .
أنكر أن يقال له هذا القول ; واستكبر أن يوجه إلى التقوى ; وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب . وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن(بالإثم) . .
فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة , ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به , وامام الله بلا حياء منه ; وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه ; ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء !
إنها لمسة تكمل ملامح الصورة , وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها . . وتدع هذا النموذج حيا يتحرك . تقول في غير تردد:هذا هو . هذا هو الذي عناه القرآن ! وأنت تراه أمامك ماثلا في الأرض الآن وفي كل آن !
وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم ; واللدد في الخصومة ; والقسوة في الفساد ; والفجور في الإفساد . .
في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة:
(فحسبه جهنم , ولبئس المهاد !) . .
حسبه ! ففيها الكفاية !(1/53)
جهنم التي وقودها الناس والحجارة . جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون . جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة . جهنم التي لا تبقي ولا تذر . جهنم التي تكاد تميز من الغيظ !
حسبه جهنم (ولبئس المهاد !) ويا للسخرية القاصمة في ذكر(المهاد) هنا . .
ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء ! . . . ذلك نموذج من الناس . يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس:
(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله . والله رؤوف بالعباد) . .
ويشري هنا معناها يبيع . فهو يبيع نفسه كلها لله ; ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية , ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله . ليس له فيها شيء , وليس له من ورائها شيء . بيعة كاملة لا تردد فها ولا تلفت ولا تحصيل ثمن , ولا استبقاء بقية لغير الله . .
والتعبير يحتمل معنى آخر يؤدي إلى نفس الغاية . .
يحتمل أن يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا , ليعتقها ويقدمها خالصة لله , لا يتعلق بها حق آخر إلا حق مولاه . فهو يضحي كل أعراض الحياة الدنيا ويخلص بنفسه مجردة لله . وقد ذكرت الروايات سببا لنزول هذه الآية يتفق مع هذا التأويل الأخير:
قال ابن كثير في التفسير:قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة:نزلت في صهيب بن سنان الرومي . وذلك أنه لما أسلم بمكة , وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر لماله , وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل ; فتخلص منهم , وأعطاهم ماله ; فأنزل الله فيه هذه الآية ; فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة , فقالوا له:ربح البيع . فقال:وأنتم . فلا أخسر الله تجارتكم . وما ذاك ? فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية . .(1/54)
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:" ربح البيع صهيب " . . قال ابن مردويه:حدثنا محمد بن إبراهيم , حدثنا محمد بن عبد الله بن مردويه , حدثنا سليمان بن داود , حدثنا جعفر بن سليمان الضبي , حدثنا عوف , عن أبي عثمان النهدي , عن صهيب , قال:لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش:يا صهيب . قدمت إلينا ولا مال لك ; وتخرج أنت ومالك ? والله لا يكون ذلك أبدا . فقلت لهم:أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني ? قالوا:نعم ! فدفعت إليهم مالي , فخلوا عني , فخرجت حتى قدمت المدينة , فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ":ربح صهيب . . ربح صهيب " . . مرتين . .
وسواء كانت الآية نزلت في هذا الحادث , أو أنها كانت تنطبق عليه , فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد . وهي ترسم صورة نفس , وتحدد ملامح نموذج من الناس ; ترى نظائره في البشرية هنا وهناك
والصورة الأولى تنطبق على كل منافق مراء ذلق اللسان ; فظ القلب , شرير الطبع , شديد الخصومة , مفسود الفطرة . .
والصورة الثانية تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان , متجرد لله , مرخص لأعراض الحياة . .
وهذا وذلك نموذجان معهودان في الناس ; ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز ; وتقيمهما أمام الأنظار يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن , ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان . ويتعلم منهما الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول , وطلاوة الدهان ; وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة , والنبرة المتصنعة , والنفاق والرياء والزواق !
كما يتعلمون منهما كيف تكون القيم في ميزان الإيمان . (الظلال)
*********(1/55)
وقال تعالى في سورة الفجر { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ {8} وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ {9} وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ {10} الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ {11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ {12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ {13} إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ {14}
وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات . والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء . ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام ، وكلها مما كان المخاطبون بالقرآن أول مرة يعرفونه ؛ ومما تشهد به الآثار والقصص الباقية في الأجيال المتعاقبة ، وإضافة الفعل إلى " ربك " فيها للمؤمن طمأنينة وأنس وراحة . وبخاصة أولئك الذين كانوا في مكة يعانون طغيان الطغاة ، وعسف الجبارين من المشركين ، الواقفين للدعوة وأهلها بالمرصاد .
وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم . . مصرع : " عاد إرم " وهي عاد الأولى . وقيل : إنها من العرب العاربة أو البادية . وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال . في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن . وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد . وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش ، فقد كانت قبيلة عاد هي أقوى قبيلة في وقتها وأميزها : " التي لم يخلق مثلها في البلاد " في ذلك الأوان . .
" وثمود الذين جابوا الصخر بالواد " . . وكانت ثمود تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام . وقد قطعت الصخر وشيدته قصورا ؛ كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات . .
" وفرعون ذي الأوتاد " . .(1/56)
وهي على الأرجح الأهرامات التي تشبه الأوتاد الثابتة في الأرض المتينة البنيان . وفرعون المشار إليه هنا هو فرعون موسى الطاغية الجبار .
هؤلاء هم " الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد " . .
وليس وراء الطغيان إلا الفساد . فالطغيان يفسد الطاغية ، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء . كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة . ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف ، المعمر الباني ، إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال . .
إنه يجعل الطاغية أسير هواه ، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت ، ولا يقف عند حد ظاهر ، فيفسد هو أول من يفسد ؛ ويتخذ له مكانا في الأرض غير مكان العبد المستخلف ؛ وكذلك قال فرعون . .
" أنا ربكم الأعلى " عندما أفسده طغيانه ، فتجاوز به مكان العبد المخلوق ، وتطاول به إلى هذا الادعاء المقبوح ، وهو فساد أي فساد .
ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء ، مع السخط الدفين والحقد الكظيم ، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية ، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية . والنفس التي تستذل تأسن وتتعفن ، وتصبح مرتعا لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة . وميدانا للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك . وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع ، وهو فساد أي فساد . .
ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة ، لأنها خطر على الطغاة والطغيان . فلابد من تزييف للقيم ، وتزوير في الموازين ، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة ، وتراها مقبولة مستساغة . . وهو فساد أي فساد .
فلما أكثروا في الأرض الفساد ، كان العلاج هو تطهير وجه الأرض من الفساد :
" فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبالمرصاد " . .(1/57)
فربك راصد لهم ومسجل لأعمالهم . فلما أن كثر الفساد وزاد صب عليهم سوط عذاب ، وهو تعبير يوحي بلذع العذاب حين يذكر السوط ، وبفيضه وغمره حين يذكر الصب . حيث يجتمع الألم اللاذع والغمرة الطاغية ، على الطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد .
ومن وراء المصارع كلها تفيض الطمأنينة على القلب المؤمن وهو يواجه الطغيان في أي زمان وأي مكان . ومن قوله تعالى : " إن ربك لبالمرصاد " تفيض طمأنينة خاصة . فربك هناك . راصد لا يفوته شيء . مراقب لا يند عنه شيء . فليطمئن بال المؤمن ، ولينم ملء جفونه . فإن ربه هناك ! . .
بالمرصاد . . للطغيان والشر والفساد
وهكذا نرى هنا نماذج من قدر الله في أمر الدعوة ، غير النموذج التي تعرضه سورة البروج لأصحاب الأخدود . وقد كان القرآن - ولا يزال - يربي المؤمنين بهذا النموذج وذاك . وفق الحالات والملابسات . ويعد نفوس المؤمنين لهذا وذاك على السواء . لتطمئن على الحالين . وتتوقع الأمرين ، وتكل كل شيء لقدر الله يجريه كما يشاء .
" إن ربك لبالمرصاد " . . يرى ويحسب ويحاسب (الظلال)
6. عبادة الأشياء والأشخاص :
يقول الدكتور ماجد عرسان الكيلاني :
إن صحة المجتمعات ومرضها أساسهما صحة الفكر أو مرضه، وهو ما تضمنه قوله تعالى: "إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم" [الرعد: 11] وقوله أيضًا: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نعمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " [الأنفال: 53].(1/58)
... ولشرح هذا القانون نقول: كل مجتمع يتكون من ثلاثة عناصر رئيسية هي: الأفكار، والأشخاص، والأشياء، وترتبط هذه المكونات الثلاثة طبقًا لعلاقة معينة تتبدل تبعًا للزمان والمكان. وحسب نوع هذه العلاقة تتكون شبكة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات، ويتشكل محور الولاءات في المجتمع، ويتحدد منهج الفهم والتفكير الذي ينتشر فيه، ويترتب سلم القيم الذي يوجه أنماط السلوك فيه.
... ويكون المجتمع في أعلى درجات الصحة حين يكون الولاء لـ "الأفكار" وهو المحور الذي يتمركز حوله سلوك الأفراد وعلاقاتهم وسياسات المجتمع، بينما يدور "الأشخاص والأشياء" في فلك الأفكار. في هذه الحالة يتسلم مركز القيادة الأذكياء الذين يحسنون "فقه" التحديات واتخاذ القرارات، ويتسم منهج التفكير والفهم بالرسوخ والإحاطة، وتدور اهتمامات الأفراد والجماعات حول القضايا العامة الكبرى، وحول التحديات الداخلية والخارجية وما تتطلبه من تضحيات، وتعبئة واستعدادات.
... وحين يكون الولاء لـ "الأشخاص" هو المحور، وتدور "الأفكار والأشياء" في فلك "الأشخاص" فإن السمة الغالبة للمجتمع تصبح هيمنة محبي الجاه والنفوذ وأصحاب القوة، ويسخرون "الأفكار والأشياء" لمصالحهم الشخصية أو لعشائرهم أو لطوائفهم أو لأحزابهم، وينحصر التفكير والفهم في أطر العائلة أو العشيرة أو الحزب أو الإقليم. ويتصف هذا التفكير والفهم بالسطحية والجزئية والانغلاق عن أفكار الآخرين، وتدور الاهتمامات حول القضايا التي تثيرها المنافسات والعصبيات المذهبية أو العائلية أو الإقليمية، وتسيطر هذه الأمور على التفكير حتى لا تترك متسعًا للقضايا الكبرى، ولا تدع مجالاً للإحساس بالتحديات الداخلية والخارجية.(1/59)
... أما حين يصبح الولاء لـ"الأشياء" هو المحور وتدور "الأفكار والأشخاص" في فلك الأشياء، فإن الهيمنة في المجتمع تكون لأرباب المال والتجارات، وصانعي الشهوات، وتسود ثقافة الترف والاستهلاك، وتتمزق شبكة العلاقات الاجتماعية، وتصبح الأفكار والقيم بعض سلع التجارة ومواد الاستهلاك، تُزين بها اللافتات الدعائية وواجهات المحلات التجارية وصالونات الحلاقة وأسماء الشوارع، ويتوقف التفكير والفهم ويصابان بالشلل، وينشغل الناس بأشيائهم وحاجاتهم اليومية، ويعودون كالجاهلية؛ همة أحدهم لا تتعدى بطنه وفرجه، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا. وهنا يلفظ المجتمع أنفاسه ويموت، وتتقدم إحدى الجماعات البشرية الأخرى لتعلن نبأ الوفاة وتقوم بمراسيم الدفن؛ لهذا أشفق الرسول (صلى الله عليه وسلم) على الأمة الإسلامية من هذا المصير فقال: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم. ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم. فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم" (صحيح سلم، كتاب الزهد، (شرح النووي) ، ج18، ص95).
والواقع، أن المجتمع الحضاري الكبير حين تموت الفكرة التي قامت على أساسها الحضارة فيه، تنبعث منه روائح الموت، وتجذب برابرة الشعوب كما تجذب جثة الثور الكبير صغار الوحوش لتنهش لحمه وتقطع أوصاله بعد أن كانت في حياته تمتلئ رعبًا من منظره.
والتطبيقات لهذا القانون كثيرة ووافرة في تاريخ المجتمع الإسلامي وتطوره. ففي عصر النبوة، كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يعمق الولاء لأفكار الرسالة، ويجعلها محور العلاقات الخاصة والعامة، وكانت "أشخاص" المؤمنين بالفكرة الإسلامية "وأشياؤهم" تدور في فلك الولاء لهذه "الفكرة" تطبيقًا لقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم) [التوبة: 111].(1/60)
عندما نطبق هذا القانون على التاريخ، نجد أنه في قرون الولاء للفكرة تجمعت كلمة الأشخاص وترسخت وحدتهم وازدهر أمرهم، أما في قرون الولاء للأشخاص فقد برزت الصراعات الأسرية من أجل الخلافة، وظهرت الفرق المناوئة كالخوارج، وتركزت الاهتمامات حول هيمنة الفرد أو العائلة أو المذهب، واشتغل الناس بالمنافسات والصراعات، وساد التعصب المذهبي والانغلاقي عن الآخرين.
وحين انتقل محور الولاء إلى الأشياء انحدر المجتمع الإسلامي إلى مزيد من المرض والضعف، وتمزقت شبكة العلاقات الاجتماعية حتى داخل الأطر العائلية والمذهبية والإقليمية، وصارت الشعارات الفكرية بعض سلع التجارة ووسائل الشهوات. الأمر الذي أدى إلى وفاة المجتمع الإسلامي آنذاك، ومجيء الجماعات الصليبية والمغولية لتعلن نبأ الوفاة وتقوم بمهمة الدفن!!
7. الكفر بنعم الله :
قال تعالى في سورة النحل { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ {112} وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ {113}
يقول السيد رحمه الله :
وهي حال أشبه شيء بحال مكة . جعل الله فيها البيت ، وجعلها بلدا حراما من دخله فهو آمن مطمئن ، لا تمتد إليه يد ولو كان قاتلا ، ولا يجرؤ أحد على إيذائه وهو في جوار بيت الله الكريم . وكان الناس يتخطفون من حول البيت وأهل مكة في حراسته وحمايته آمنون مطمئنون . كذلك كان رزقهم يأتيهم هينا هنيئا من كل مكان مع الحجيج ومع القوافل الآمنة ، مع أنهم في واد قفر جدب غير ذي زرع ، فكانت تجبي إليهم ثمرات كل شيء فيتذوقون طعم الأمن وطعم الرغد منذ دعوة إبراهيم الخليل .(1/61)
ثم إذا رسول منهم ، يعرفونه صادقا أمينا ، ولا يعرفون عنه ما يشين ، يبعثه الله فيهم رحمة لهم وللعالمين ، دينه دين إبراهيم باني البيت الذي ينعمون في جواره بالأمن والطمأنينة والعيش الرغيد ؛ فإذا هم يكذبونه ، ويفترون عليه الافتراءات ، وينزلون به وبمن اتبعوه الأذى . وهم ظالمون .
والمثل الذي يضربه الله لهم منطبق على حالهم ، وعاقبة المثل أمامهم . مثل القرية التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله ، وكذبت رسوله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون وأخذ قومها العذاب وهم ظالمون .
ويجسم التعبير الجوع والخوف فيجعله لباسا ؛ ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا ، لأن الذوق أعمق أثرا في الحس من مساس اللباس للجلد . وتتداخل في التعبير استجابات الحواس فتضاعف مس الجوع والخوف لهم ولذعه وتأثيره وتغلغله في النفوس . لعلهم يشفقون من تلك العاقبة التي تنتظرهم لتأخذهم وهم ظالمون
وفي التحرير والتنوير - (ج 8 / ص 146)
والمراد بالقرية أهلها إذ هم المقصود من القرية كقوله : { واسأل القرية } [ سورة يوسف : 82 ] .
والأمن : السلامة من تسلّط العدو .
والاطمئنان : الدّعة وهدوء البال . وقد تقدّم في قوله تعالى : { ولكن ليطمئنّ قلبي } في سورة البقرة ( 260 ) ، وقوله : { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } في [ سورة النساء : 103 ] .
وقدم الأمن على الطمأنينة إذ لا تحصل الطمأنينة بدونه ، كما أن الخوف يسبّب الانزعاج والقلق .
وقوله : { يأتيها رزقها رغداً } تيسير الرزق فيها من أسباب راحة العيش ، وقد كانت مكّة كذلك . قال تعالى : { أو لم نمكّن لهم حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء } [ سورة القصص : 57 ] . والرزق : الأقوات . وقد تقدم عند قوله : { لا يأتيكما طعام ترزقانه } في سورة يوسف ( 37 ) .
والرّغد : الوافر الهنيء . وتقدم عند قوله : { وكلا منها رغداً حيث شئتما } في سورة البقرة ( 35 ) .(1/62)
ومن كل مكان } بمعنى من أمكنة كثيرة . و { كل } تستعمل في معنى الكثرة ، كما تقدم في قوله تعالى : { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } في سورة الأنعام ( 25 ) .
والأنعمُ : جمع نعمة على غير قياس .
ومعنى الكفر بأنعم الله : الكفر بالمنعِم ، لأنهم أشركوا غيره في عبادته فلم يشكروا المنعم الحَقّ . وهذا يشير إلى قوله تعالى : { يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون } [ سورة النحل : 83 ] .
واقتران فعل كفرت بفاء التعقيب بعد كانت آمنة مطمئنة } باعتبار حصول الكفر عقب النعم التي كانوا فيها حين طرأ عليهم الكفر ، وذلك عند بعثة الرسول إليهم .
وأما قَرْن { فأذاقها الله لباس الجوع } بفاء التعقيب فهو تعقيب عُرفي في مثل ذلك المعقّب لأنّه حصل بعد مضي زمن عليهم وهم مصرّون على كفرهم والرسول يكرّر الدعوة وإنذارهم به ، فلما حصل عقب ذلك بمدة غير طويلة وكان جزاءً على كفرهم جعل كالشيء المعقّب به كفرهم .
والإذاقة : حقيقتها إحساس اللسان بأحوال الطعوم . وهي مستعارة هنا وفي مواضع من القرآن إلى إحساس الألم والأذى إحساساً مَكيناً كتمكّن ذوق الطعام من فم ذائقه لا يجد له مدفعاً ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ليذوق وبال أمره } في سورة العقود ( 95 ) .
واللباس : حقيقته الشيء الذي يلبس . وإضافته إلى الجوع والخوف قرينة على أنه مستعار إلى ما يغشَى من حالة إنسان ملازمةٍ له كملازمة اللباس لابسَه ، كقوله تعالى : { هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ } [ سورة البقرة : 187 ] بجامع الإحاطة والملازمة .
ومن قبيلها استعارة ( البِلى ) لزوال صفة الشخص تشبيهاً للزوال بعد التمكّن ببلى الثوب بعد جدته في قول أبي الغول الطهوي :
ولا تَبلَى بسالتهم وإن هم ... صُلوا بالحرب حيناً بعد حين واستعارة سلّ الثياب إلى زوال المعاشرة في قول امرىء القيس :(1/63)
فسُلي ثيابي عن ثيابككِ تَنْسِل ... ومن لطائف البلاغة جعل اللباس لباس شيئين ، لأن تمام اللبسة أن يلبس المرء إزاراً ودرعاً .
ولما كان اللباس مستعاراً لإحاطة ما غشيهم من الجوع والخوف وملازمتهِ أريد إفادة أن ذلك متمكّن منهم ومستقرّ في إدراكهم استقرار الطعام في البَطن إذ يُذاق في اللسان والحلق ويحسّ في الجَوف والأمعاء .
فاستعير له فعل الإذاقة تمليحاً وجمعاً بين الطعام واللباس ، لأن غاية القرى والإكرام أن يُؤْدَب للضيف ويُخلع عليه خلعة من إزار وبرد ، فكانت استعارتان تهكّميتان .
فحصل في الآية استعارتان : الأولى : استعارة الإذاقة وهي تبعية مصرحة ، والثانية : اللباس وهي أصليّة مصرّحة .
ومن بديع النظم أن جعلت الثانية متفرّعة على الأولى ومركّبة عليها بجعل لفظها مفعولاً للفظ الأولى . وحصل بذلك أن الجوع والخوف محيطان بأهل القرية في سائر أحوالهم وملازمان لهم وأنهم بالغان منهم مبلغاً أليماً .
وأجمل بما كانوا يصنعون } اعتماداً على سبق ما يبيّنه من قوله : { فكفرت بأنعام الله } .
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
لما أخبر عنهم بأنهم أذيقوا لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ، وكان إنما ذكر مِن صُنعهم أنهم كفروا بأنعم الله ، زيد هنا أن ما كانوا يصنعون عامّ لكل عمل لا يرضي الله غير مخصوص بكفرهم نعمةَ الله ، وإن من أشنع ما كانوا يصنعون تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه منهم . وذلك أظهر في معنى الإنعام عليهم والرّفق بهم . وما من قرية أُهلكت إلا وقد جاءها رسول من أهلها { وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا } [ سورة القصص : 59 ] والأخذ : الإهلاك . وقد تقدم عند قوله تعالى : { فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } في سورة الأعراف ( 95 ) .(1/64)
وتأكيد الجملة بلام القسم وحرففِ التّحقيق للاهتمام بهذا الخبر تنبيهاً للسامعين المعرّض بهم لأنه محل الإنذار .
وتعريف العذاب } للجنس ، أي فأخذهم عذاب كقوله : { وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرّعون ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مسّ آباءنا الضرّاء والسرّاء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } [ سورة الأعراف : 95 ] .
.............................
وكذلك في قصة قارون الذي لم يشكر نعمة المال:(1/65)
قال تعالى في سورة القصص { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ {76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ {77}قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ {78} فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {79} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ {80} فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ {81} وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ {82} تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {83}
وفي قصة صحاب الجنتين :(1/66)
قال تعالى في سورة الكهف { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا {32} كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا {33} وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا {34} وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا {35} وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا {36} قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا {37} لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا {38} وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا {39} فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا {40} أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا {41} وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا {42} وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا {43
وكذلك قوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وفرعون كلهم كفروا بأنعم الله تعالى
*********************
الفريق الثاني : البقاء للأصلح(1/67)
يرى هؤلاء أن البقاء للأصلح وليس للأقوى وذلك استنادا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من خلال الشروط النقاط التالية :
1. اتباع منهج الله :
قال تعالى في سورة طه { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى {123}
فمن اتبع منهج الله تعالى لن يضل وزلن يشقى ولن ينهزم ولن يذلَّ إلا لله تعالى
وقال تعالى في سورة البقرة { قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {38} وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {39}
أي فما دام متبعا لمنهج الله تعالى كما يرضي الله فلن يصاب بخوف ولا حزن أي لن يهزم
وفي تفسير التحرير والتنوير - (ج 9 / ص 111)(1/68)
وأما قوله { فلا يضل } فمعناه : أنه إذا اتبع الهُدى الوارد من الله على لسان رسله سَلِم من أن يعتريه شيء من ضلال ، وهذا مأخوذ من دلالة الفِعل في حيّز النفي على العموم كعموم النكرة في سياق النفي ، أي فلا يعتريه ضلال في الدنيا ، بخلاف من اتبع ما فيه هدى وارد من غير الله فإنه وإن استفاد هدى في بعض الأحوال لا يسلم من الوقوع في الضلال في أحْوال أخرى . وهذا حال متبعي الشرائع غير الإلهية وهي الشرائع الوضعية فإن واضعيها وإن أفرغوا جهودهم في تطلب الحق لا يسلمون من الوقوع في ضلالات بسبب غَفلات ، أو تعارض أدلة ، أو انفعال بعادات مستقرة ، أو مصانعة لرؤساء أو أمم رأوا أن من المصلحة طلبَ مرضاتهم . وهذا سقراط وهو سيّد حكماء اليونان قد كان يتذرع لإلقاء الأمر بالمعروف في أثينا بأن يفرغه في قوالب حكايات على ألسنة الحيوان ، ولم يسلم من الخنوع لمصانعة اللفيف فإنه مع كونه لا يرى تأليه آلهتهم لم يسلم من أن يأمر قبل موته بقربان ديك لعطارد ربّ الحكمة . وحالهم بخلاف حال الرسل الذين يتلقون الوحي من علاّم الغيوب الذي لا يضل ولا ينسى ، وأيدهم الله ، وعصمهم من مصانعة أهل الأهواء ، وكوّنهم تكويناً خاصاً مناسباً لما سبق في علمه من مراده منهم ، وثبت قلوبهم على تحمل اللأواء ، ولا يخافون في الله لومة لائم . وإن الذي ينظر في القوانين الوضعية نظرة حكيم يجدها مشتملة على مراعاة أوهام وعادات .
والشقاء المنفي في قوله { ولا يشقى هو شقاء الآخرة لأنه إذا سلم من الضلال في الدنيا سلم من الشقاء في الآخرة .
2. ما كتبه الله على نفسه في الزبور:
قال تعالى في سورة الأنبياء { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ {105} إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ {106} وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ {107}(1/69)
ووعد الله حق لا يتخلف أبدا فإذا كنا صالحين ورثنا الله تعالى إياها وأخذها من الفاسقين
يقول السيد رحمه الله :
والزبور أما أن يكون كتابا بعينه هو الذي أوتيه داود عليه السلام . ويكون الذكر إذن هو التوراة التي سبقت الزبور . وإما أن يكون وصفا لكل كتاب بمعنى قطعة من الكتاب الأصيل الذي هو الذكر وهو اللوح المحفوظ ، الذي يمثل المنهج الكلي ، والمرجع الكامل ، لكل نواميس الله في الوجود .
وعلى أية حال فالمقصود بقوله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر . . . هو بيان سنة الله المقررة في وراثة الأرض: أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . .
فما هي هذه الوراثة ؟ ومن هم عباد الله الصالحون ؟
لقد استخلف الله آدم في الأرض لعمارتها وإصلاحها ، وتنميتها وتحويرها ، واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها ، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة ، والبلوغ بها إلى الكمال المقدر لها في علم الله .
ولقد وضع الله للبشر منهجا كاملا متكاملا للعمل على وفقه في هذه الأرض . منهجا يقوم على الإيمان والعمل الصالح . وفي الرسالة الأخيرة للبشر فصل هذا المنهج ، وشرع له القوانين التي تقيمه وتحرسه ؛ وتكفل التناسق والتوازن بين خطواته .
في هذا المنهج ليست عمارة الأرض واستغلال ثرواتها والانتفاع بطاقاتها هو وحده المقصود . ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير الإنسان ، ليبلغ الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة . فلا ينتكس حيوانا في وسط الحضارة المادية الزاهرة ؛ ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو يرتفع إلى الأوج في استغلال موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة .(1/70)
وفي الطريق لبلوغ ذلك التوازن والتناسق تشيل كفة وترجح كفة . وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة . وقد يغلب عليها همج ومتبربرون وغزاة . وقد يغلب عليها كفار فجار يحسنون استغلال قوى الأرض وطاقاتها استغلالا ماديا . . ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق . والوراثة الأخيرة هي للعباد الصالحين ، الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح . فلا يفترق في كيانهم هذان العنصران ولا في حياتهم .
وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أمة فهي الوارثة للأرض في أية فترة من فترات التاريخ . ولكن حين يفترق هذان العنصران فالميزان يتأرجح . وقد تقع الغلبة للآخذين بالوسائل المادية حين يهمل الأخذ بها من يتظاهرون بالإيمان ، وحين تفرغ قلوب المؤمنين من الإيمان الصحيح الدافع إلى العمل الصالح ، وإلى عمارة الأرض ، والقيام بتكاليف الخلافة التي وكلها الله إلى هذا الإنسان .
وما على أصحاب الإيمان إلا أن يحققوا مدلول إيمانهم ، وهو العمل الصالح ، والنهوض بتبعات الخلافة ليتحقق وعد الله ، وتجري سنته: أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . .
فالمؤمنون العاملون هم العباد الصالحون . .
.........................
و قال تعالى في سورة القصص { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ {4} وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5}وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ {6}
وفي الظلال :(1/71)
وهكذا يرسم المسرح الذي تجري فيه الحوادث , وتنكشف اليد التي تجريها . وتنكشف معها الغاية التي تتوخاها . وانكشاف هذه اليد , وبروزها سافرة بلا ستار منذ اللحظة الأولى مقصود في سياق القصة كلها , متمش مع أبرز هدف لها . ومن ثم تبدأ القصة هذا البدء . وذلك من بدائع الأداء في هذا الكتاب العجيب .
ولا يعرف على وجه التحديد من هو الفرعون الذي تجري حوادث القصة في عهده , فالتحديد التاريخي ليس هدفا من أهداف القصة القرآنية ; ولا يزيد في دلالتها شيئا . ويكفي أن نعلم أن هذا كان بعد زمان يوسف - عليه السلام - الذي استقدم أباه وإخوته . وأبوه يعقوب هو "إسرائيل" وهؤلاء كانوا ذريته . وقد تكاثروا في مصر وأصبحوا شعبا كبيرا
فلما كان ذلك الفرعون الطاغية (علا في الأرض) وتكبر وتجبر , وجعل أهل مصر شيعا , كل طائفة في شأن من شئونه . ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل , لأن لهم عقيدة غير عقيدته هو وقومه ; فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب ; ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من فساد وانحراف , فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد ; وإنكار ألوهية فرعون والوثنية الفرعونية جميعا .
وكذلك أحس الطاغية أن هناك خطرا على عرشه وملكه من وجود هذه الطائفة في مصر ; ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الألوف , فقد يصبحون إلبا عليه مع جيرانه الذين كانت تقوم بينهم وبين الفراعنة الحروب , فابتكر عندئذ طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده ولا تعتقد بألوهيته , تلك هي تسخيرهم في الشاق الخطر من الأعمال , واستذلالهم وتعذيبهم بشتى أنواع العذاب . وبعد ذلك كله تذبيح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم , واستبقاء الإناث كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم . وبذلك يضعف قوتهم بنقص عدد الذكور وزيادة عدد الإناث , فوق ما يصبه عليهم من نكال وعذاب .(1/72)
وروي أنه وكل بالحوامل من نسائهم قوابل مولدات يخبرنه بمواليد بني إسرائيل , ليبادر بذبح الذكور , فور ولادتهم حسب خطته الجهنمية الخبيثة , التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء لا ذنب لهم ولا خطيئة هذه هي الظروف التي تجري فيها قصة موسى - عليه السلام - عند ولادته , كما وردت في هذه السورة: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا , يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم . إنه كان من المفسدين) . .
ولكن الله يريد غير ما يريد فرعون ; ويقدر غير ما يقدر الطاغية . والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم , فينسون إرادة الله وتقديره ; ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون , ويختارون لأعدائهم ما يشاءون . ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون .
والله يعلن هنا إرادته هو , ويكشف عن تقديره هو ; ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما , بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم فتيلا:
(ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة , ونجعلهم الوارثين , ونمكن لهم في الأرض , ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) .
فهؤلا ء المستضعفون الذين يتصرف الطاغية في شأنهم كما يريد له هواه البشع النكير , فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم , ويسومهم سوء العذاب والنكال . وهو مع ذلك يحذرهم ويخافهم على نفسه وملكه ; فيبث عليهم العيون والأرصاد , ويتعقب نسلهم من الذكور فيسلمهم إلى الشفار كالجزار !
هؤلاء المستضعفون يريد الله أن يمن عليهم بهباته من غير تحديد ; وأن يجعلهم أئمة وقادة لا عبيدا ولا تابعين ; وأن يورثهم الأرض المباركة [ التي أعطاهم إياها عندما استحقوها بعد ذلك بالإيمان والصلاح ] وأن يمكن لهم فيها فيجعلهم أقوياء راسخي الأقدام مطمئنين . وأن يحقق ما يحذره فرعون وهامان وجنودهما , وما يتخذون الحيطة دونه , وهم لا يشعرون !(1/73)
هكذا يعلن السياق قبل أن يأخذ في عرض القصة ذاتها . يعلن واقع الحال , وما هو مقدر في المآل . ليقف القوتين وجها لوجه: قوة فرعون المنتفشة المنتفخة التي تبدو للناس قادرة على الكثير . وقوة الله الحقيقية الهائلة التي تتهاوى دونها القوى الظاهرية الهزيلة التي ترهب الناس !
3. ما ينفع الناس يمكث في الأرض وما سواه زائل :
قال تعالى في سورة الرعد كناية عن منهجه { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ {17}
يقول السيد رحمه الله :
إن الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء عمياء . فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة ، والمشيئة المطلقة . .
والله يخلق ما يشاء ويختار . كذلك تعلمت أن يد الله تعمل . ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة ؛ وأنه ليس لنا أن نستعجلها ؛ ولا أن نقترح على الله شيئا . فالمنهج الإلهي - كما يبدو في ظلال القرآن - موضوع ليعمل في كل بيئة ، وفي كل مرحلة من مراحل النشأة الإنسانية ، وفي كل حالة من حالات النفس البشرية الواحدة . .
وهو موضوع لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض ، آخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته واستعداداته ، وقوته وضعفه ، وحالاته المتغيرة التي تعتريه . .
إن ظنه لا يسوء بهذا الكائن فيحتقر دوره في الأرض ، أو يهدر قيمته في صورة من صور حياته ، سواء وهو فرد أو وهو عضو في جماعة . كذلك هو لا يهيم مع الخيال فيرفع هذا الكائن فوق قدره وفوق طاقته وفوق مهمته التي أنشأه الله لها يوم أنشأه . .(1/74)
ولا يفترض في كلتا الحالتين أن مقومات فطرته سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرة قلم ! . .
الإنسان هو هذا الكائن بعينه . بفطرته وميوله واستعداداته يأخذ المنهج الإلهي بيده ليرتفع به إلى أقصى درجات الكمال المقدر له بحسب تكوينه ووظيفته ، ويحترم ذاته وفطرته ومقوماته ، وهو يقوده في طريق الكمال الصاعد إلى الله . . ومن ثم فإن المنهج الإلهي موضوع للمدى الطويل - الذي يعلمه خالق هذا الإنسان ومنزل هذا القرآن - ومن ثم لم يكن معتسفا ولا عجولا في تحقيق غاياته العليا من هذا المنهج . إن المدى أمامه ممتد فسيح ، لا يحده عمر فرد ، ولا تستحثه رغبة فان ، يخشى أن يعجله الموت عن
تحقيق غايته البعيدة ؛ كما يقع لأصحاب المذاهب الأرضية الذين يعتسفون الأمر كله في جيل واحد ، ويتخطون الفطرة المتزنة الخطى لأنهم لا يصبرون على الخطو المتزن !
وفي الطريق العسوف التي يسلكونها تقوم المجازر ، وتسيل الدماء ، وتتحطم القيم ، وتضطرب الأمور . ثم يتحطمون هم في النهاية وتتحطم مذاهبهم المصطنعة تحت مطارق الفطرة التي لا تصمد لها المذاهب المعتسفة !
فأما الإسلام فيسير هينا لينا مع الفطرة ، يدفعها من هنا ، ويردعها من هناك ، ويقومها حين تميل ، ولكنه لا يكسرها ولا يحطمها . إنه يصبر عليها صبر العارف البصير الواثق من الغاية المرسومة . .
والذي لا يتم في هذه الجولة يتم في الجولة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو المائة أو الألف . .
فالزمن ممتد ، والغاية واضحة ، والطريق إلى الهدف الكبير طويل ، وكما تنبت الشجرة الباسقة وتضرب بجذورها في التربة ، وتتطاول فروعها وتتشابك . . كذلك ينبت الإسلام ويمتد في بطء وعلى هينة وفي طمأنينة . ثم يكون دائما ما يريده الله أن يكون . .(1/75)
والزرعة قد تسقى عليها الرمال ، وقد يأكل بعضها الدود ، وقد يحرقها الظمأ . وقد يغرقها الري . ولكن الزارع البصير يعلم أنها زرعة للبقاء والنماء ، وأنها ستغالب الآفات كلها على المدى الطويل ؛ فلا يعتسف ولا يقلق ، ولا يحاول إنضاجها بغير وسائل الفطرة الهادئة المتزنة ، السمحة الودود . .
إنه المنهج الإلهي في الوجود كله . .
ولن تجد لسنة الله تبديلا . .
والحق في منهج الله أصيل في بناء هذا الوجود . ليس فلتة عابرة ، ولا مصادفة غبر مقصودة . .
إن الله سبحانه هو الحق . ومن وجوده تعالى يستمد كل موجود وجوده: ذلك بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ، وأن الله هو العلي الكبير . . وقد خلق الله هذا الكون بالحق لا يتلبس بخلقه الباطل:
ما خلق الله ذلك إلا بالحق . .
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! والحق هو قوام هذا الوجود فإذا حاد عنه فسد وهلك: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن . .
ومن ثم فلا بد للحق أن يظهر ، ولا بد للباطل أن يزهق . .
ومهما تكن الظواهر غير هذا فإن مصيرها إلى تكشف صريح: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق . .
والخير والصلاح والإحسان أصيلة كالحق ، باقية بقاءه في الأرض: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ، فاحتمل السيل زبدا رابيا ، ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع ، زبد مثله . كذلك يضرب الله الحق والباطل . فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . كذلك يضرب الله الأمثال . . .
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء . .(1/76)
أي طمأنينة ينشئها هذا التصور ؟ وأي سكينة يفيضها على القلب ؟ وأي ثقة في الحق والخير والصلاح ؟ وأي قوة واستعلاء على الواقع الصغير يسكبها في الضمير ؟
ويقول أيضا :
وإنزال الماء من السماء حتى تسيل به الوديان يتناسق مع جو البرق والرعد والسحاب الثقال في المشهد السابق ؛ ويؤلف جانبا من المشهد الكوني العام ، الذي تجري في وجوه قضايا السورة وموضوعاتها . وهو كذلك يشهد بقدرة الواحد القهار . .
وأن تسيل هذه الأودية بقدرها ، كل بحسبه ، وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته يشهد بتدبير الخالق وتقديره لكل شيء .
وهي إحدى القضايا التي تعالجها السورة . .
وليس هذا أو ذاك بعد إلا إطارا للمثل الذي يريد الله ليضربه للناس من مشهود حياتهم الذي يمرون عليه دون انتباه .
إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية ، وهو يلم في طريقه غثاء ، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان . هذا الزبد نافش راب منتفخ . .
ولكنه بعد غثاء . والماء من تحته سارب ساكن هادئ . .
ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة . .كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة ، أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص ، فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل . ولكنه بعد خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء . .
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة . فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا ولكنه بعد زبد أو خبث ، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة ولا تماسك فيه . والحق يظل هادئا ساكنا . وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات . ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح ، ينفع الناس . كذلك يضرب الله الأمثال وكذلك يقرر مصائر الدعوات ، ومصائر الاعتقادات . ومصائر الأعمال والأقوال . وهو الله الواحد القهار ، المدبر للكون والحياة ، العليم بالظاهر والباطن والحق والباطل والباقي والزائل .(1/77)
فمن استجاب لله فله الحسنى . والذين لم يستجيبوا له يلاقون من الهول ما يود أحدهم لو ملك ما في الأرض ومثله معه أن يفتدى به . وما هو بمفتد ، إنما هو الحساب الذي يسوء ، وإنما هي جهنم لهم مهاد . ويا لسوء المهاد !
وفي التفسير الوسيط - (ج 1 / ص 2376)
قال الإِمام الشوكانى : " هذان مثلان ضربهما الله - تعالى - فى هذه الآية للحق وللباطل يقول : إن الباطل وإن ظهر على الحق فى بعض الأحوال وعلاه ، فإن الله - تعالى - سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله .
كالزبد الذى يعلو الماء فيلقيه الماء ، وكخبث هذه الأجسام ، فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه ، فهذا مثل الباطل .
وأما الماء الذى ينفع الناس وينبت المراعى فيمكث فى الأرض ، وكذلك الصافى من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصا لا شوب فيه ، وهو مثل الحق .
وقال الزجاج : فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإِيمان كمثل هذا الماء المنتفع به فى نبات الأرض وحياة كل شئ ، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعا لها .
ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذى يذهب جفاء ، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذى لا ينفع به "
4. تلك الدول لن تسعد الإنسان ولكنها قد تشبع بعض رغباته المادية فيبقى في خواء روحي وقلق وهم وغم :
يقول الدكتور / يوسف القرضاوي في محاضرة بعنوان:
الخواء الروحي في الحضارة المادية المعاصرة
روح الحضارة المعاصرة :
لكل حضارة جسم وروح، كالإنسان تماما، فجسم الحضارة يتمثل في منجزاتها المادية من العمارات والمصانع والآلات، وكل ما ينبىء عن رفاهية العيش ومتاع الحياة الدنيا وزينتها.(1/78)
أما روح الحضارة فهو مجموعة العقائد والمفاهيم والقيم والآداب والتقاليد التي تتجسد في سلوك الأفراد والجماعات وعلاقاتهم بعضهم ببعض، ونظرتهم إلى الدين والحياة، والكون والإنسان، والفرد والمجتمع. والحضارات الكبرى التي عرفها تاريخ البشرية تتفاوت فيما بينها في موقفها من المادية والروحية، فمنها مايغلب عليه الجانب المادي، ومنها ما يغلب عليه الجانب الروحي، ومنها ما يسوده التوازن بينهما.
والحضارة التي تسود عالمنا اليوم هي (الحضارة الغربية) وهي حضارة لها مزاياها التي لا تنكر، من ناحية احترام حرية الإنسان وخاصة داخل أوطانها، وإطلاق حوافزه وطاقاته، حتى استطاع أن يطوع (الطبيعة) لخدمته ويفجر الذرة لمصلحته، وأن يحلق في الهواء كالطير، ويغوص في البحر كالسمك، وينطلق في الأرض كالمارد . كما استطاع أن يصنع ذلك الجهاز العجيب الذي وفر للإنسان وقته وجهده الذهني، وهو (الحاسوب) أو الحاسب) و الحافظ (الكومبيوتر)، وإنما فعل ذلك كله بفضل العلم الذي اكتشف قوانينه، وأحسن استخدامه وتطبيقاته (التكنولوجية) مع حسن إدارة وروعة تنظيم، وإحكام رقابة وتوجيه.
وبهذا ستطاع الفرد العادي أن يعيش في مستوى من الرفاهية يحسده عليه ملوك العصور السابقة، الذين لم يكونوا يجدون ما يقاومون به شدة الحر ولا قسوة البرد، كما يجده الإنسان الآن من أجهزة التكييف، وآلات التدفئة. وما تيسر له من الأدوات الأتوماتيكية التي تدار أو توقف بمجرد الضغط على زر صغير، فيضاء الظلام ، و يطهى الطعام، أو يسخن البارد، أو يبرد الحار أو يقرب البعيد، أو ينطق الحديد.
ورغم هذه الإنجازات المادية الضخمة، يقول الواقع: إن هذه الحضارة لم تهىء لأهلها السعادة المنشودة ، أو السكينة المرجوة، إنها جسم فيل له روح فأر!
أجل إن عيب الحضارة المعاصرة ما يتغلغل في أعماقها من (المادية النفعية) التي جعلتنا نقول :(1/79)
إنها روح الحضارة الغربية، وأساس فلسفتها والطابع العام لها، وجوهر فكرها الذي يميزها.
الجميع يشعرون بخطر المادية المحدق:
لقد تفاقم الخطر، وتطاير الشرر: خطر المادية، وشرر الحياة الآلية، ولم يبق ذو عقل إلا أعلن شكواه من هذا البلاء الواقع والمتوقع، الظاهر والكامن كمون النار في البركان، يوشك أن ينفجر في لحظة من اللحظات ويأتي على الأخضر واليابس.
يستوي في ذلك العلماء والأدباء، والفلاسفة والمفكرون، والسياسيون والإداريون.
أما العلماء فحسبنا منهم ثلاثة: اثنان من حملة جائزة نوبل في العلوم، أحدهما: العالم العالمي الكبير الكسيس كاريل، والثاني: رينيه دوبو، وكلاهما فرنسي الأصل، عاشا في أمريكا، وقد نقلنا من كل منهما في مناسبات سابقة. والثالث طبيب نفسي أمريكي، جمع بين العلم والعمل الميداني العلاجي، هو د. (هنري لنك).
يقول الكسيس كاريل في كتابه الشهير (الإنسان ذلك المجهول):
" إن الحضارة العصرية تجد نفسها قي موقف صعب ، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتها الحقيقية، إذ أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم، ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا، إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا... " .
لقد أهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال، إهمالا تاما عند تنظيم الحياة الصناعية . إذ أن الصناعة العصرية تنهض على مبدأ: "الحد الأقصى من الإنتاج بأقل التكاليف " حتى يستطيع فرد أو مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على أكبر مبلغ مستطاع من المال. وقد اتسع نطاقها دون أي تفكير في طبيعة البشر ا الذين يديرون الآلات. ودون أي اعتبار للتأثيرات التي تحدثها طريقة الحياة الصناعية التي يفرضها المصنع على الأفراد، وأحفادهم.... " .(1/80)
"يجب أن يكون الإنسان مقياسا لكل شىء، ولكن الواقع هو عكس ذلك، فهو غريب في العالم الذي ابتدعه ، إنه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه، لأنه لا يملك معرفة عملية بطبيعته.. ومن ثم فإن التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التي عانت منها الإنسانية.. فالبيئة التي ولدتها عقولنا واختراعاتنا غير صالحة لا بالنسبة لقوامنا ولا بالنسبة لهيئتنا.، إننا قوم تعساء، ننحط أخلاقيا وعقليا..
إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم هى على وجه الدقة، الجماعات والأمم الآخذة في الضعف، والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها . ولكنها لا تدرك ذلك، إذ ليس هناك ما يحميها من الظروف العدائية التي شيدها العلم حولها.. وحقيقة الأمر أن مدنيتنا مثل المدنيات التي سبقتها، أوجدت أحوالا معينة للحياة من شأنها أن تجعل الحياة نفسها مستحيلة. وذلك لأسباب لا تزال غامضة.. إن القلق والهموم التي يعاني منها سكان المدن العصرية تتولد عن نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية... "(1/81)
"إننا لن نصيب أية فائدة من زيادة عدد الاختراعات الميكانيكية. وقد يكون من الأجدى أن لا نضفي مثل هذا القدر الكبير من الأهمية على اكتشافات الطبيعة والفلك والكيمياء. فحقيقة الأمر أن العلم الخالص لا يجلب لنا مطلقا ضررا مباشرا ولكن حينما يسيطر جماله الطاغي على عقولنا، ويستعبد أفكارنا في مملكة الجماد، فإنه يصبح خطرا. ومن ثم يجب أن يحول الإنسان اهتمامه إلى نفسه وإلى السبب في عجزه الخلقي والعقلي. إذ ما جدوى زيادة الراحة والفخامة والجمال والمنظر وأسباب تعقيد حضارتنا إذا كان ضعفنا يمنعنا من الاستعانة بها فيما يعود علينا بالنفع؟ حقا إنه لمما لا يستحق أي عناء أن نمضي في تجميل طريق حياة تعود علينا بالانحطاط الخلقي، وتؤدي إلى اختفاء أنبل عناصر الأجناس الطيبة "ويقول البروفسور (رينيه دوبوا في كتابه المترجم بعنوان (إنسانية الإنسان) : نحن ندعي أننا نعيش في عصر العلم. إلا أن الحقيقة هي أن الميدان العلمي كما يدار الآن، ليس فيه توازن يسمح للعلم بأن يكون ذا فائدة تذكر في إدارة أمور الإنسان. لقد جمعنا جسما هائلا من المعلومات حول المادة، وتقنية قوية لضبط واستغلال العالم الخارجي.. ومع ذلك لا يزال جهلنا واضحا بالآثار التي قد تنتج عن اللعب بمهاراتنا هذه. ونتصرف في غالب الأحيان وكأننا آخر جيل يعيش على هذه الأرض.
لقد اكتسبنا معلومات كثيرة عن آلية الجسم، وبعض المهارة في ضبط تفاعلاته وتصليح عيوبه، ولكن بالمقابل، نحن نكاد لا نعلم شيئا مطلقا عن الطرق التي يحول بها الإنسان قابلياته الموروثة ليهندس بها شخصيته الفردية، فبدون هذه المعلومات لن تفيد الاختراعات الحديثة- التقنية والاجتماعية- الأهداف الإنسانية.
إن الحياة الشاذة التي يعيشها عامة الناس الآن تخنق وتعطل التفاعلات الحيوية الضرورية لسلامة الإنسان العقلية، ونمو الإمكانات الإنسانية.(1/82)
إن كل المفكرين قلقون على مستقبل الأبناء الذين سيقضون حياتهم في بيئات اجتماعية ومحيطية سخيفة عابثة باطلة، نخلقها نحن لهم بدون أي تفكير. وأكثر ما يزعج هو علمنا بأن الخصائص العضوية والفكرية للإنسان تخططها اليوم البيئات الملوثة، والشوارع المتراصة والأبنية الشاهقة، والخليط الحضري المتمرد، والعادات الاجتماعية التي تهتم بالأشياء ، وتهمل البشر .
الإنسان العصري قلق حتى ولو كان في زمن السلم وفي جو البحبوحة الاقتصادية لأن عالم التكنولوجيا الذي يشكل محيطه المباشر، والذي فصله عن عالم الطبيعة الذي تطور الإنسان فيه أصلا، فشل- أي عالم التكنولوجيا-. في توفير حاجات الإنسان الأساسية التي لم تتغير ولم تتبدل. ومن نواح كثيرة يشبه إنسان العصر "الحيوان البري " الذي يقضي حياته في حديقة الحيوانات فالإنسان الآن كهذا الحيوان.. يتوفر له الغذاء الكافي والحماية الكافية من القسوة. ولكنه يحرم من المثيرات الطبيعية الأساسية للعديد من وظائفه الجسدية والفكرية. فإنسان اليوم ليس فقط غربيا عن أخيه الإنسان وعن الطبيعة بل الأهم بكثير هو أنه غريب معزول عن أعماق ذاته .
منذ. قرنين تقريبا والإنسان الغربي يعتقد أن خلاصه سيأتي عن طريق الاكتشافات التكنولوجية، ولا جدال في أن المكتشفات التكنولوجية زادت من غناه المادي وحسنت صحته العضوية.. إلا أنها لم تجلب له بالضرورة الغنى والصحة اللذين يولدان السعادة .(1/83)
وتواجهنا العلوم المادية بتناقضات لا حلول لها عندما نحاول فهم حدود الفضاء، أو بدايات الزمن، أضف إلى ذلك أن الإنجازات العلمية تثير- بصورة عامة- مسائل أخلاقية يعتبرها كثير من العلماء خارج نطاق كفاءتهم ، ويشيرون إلى أن العلم والتكنولوجيا أدوات ووسائل ليس لها أخلاق، ويمكن استعمالها لخير البشرية أو لدمارها. والاعتقاد بأن العلم قادر على حل أكثر المشاكل العلمية أمر يكذبه الوعي المتزايد بأن تكنولوجيا العلم تثير مشاكل جديدة في محاولاتها لحل المشكلات القديمة .
وإذا سمح للتكنولوجيا بالنمو دون مراقبة مناسبة، فقد تصبح قوة مخربة تؤثر على العلاقات الدقيقة التي بنيت عليها المدنيات في الماضي. وكما تنبأ الكاتب الإنكليزي (أ. م فورمستر) في كتابه "توقف الآلة":-
ستسير التكنولوجيا قدما.. ولكن ليس على خطوطنا التي رسمناها لها. وستتقدم ولكن ليس نحو أهدافنا وأكثر المسائل التي تثيرها التكنولوجيا- أساسا- اجتماعية سياسية اقتصادية أكثر مما هي علمية في طبيعتها. أضف إلى ذلك أن التكنولوجيا غير قادرة- نظريا- على التهرب من الرقابة البشرية، إلا أنها في الواقع تسير في طريق مستقل لسبب بسيط ، هو أن مجتمعاتنا لم تضع بعد توجيهات وضوابط للتحكم فيها بالأسلوب الفعال المناسب.
وكل المجتمعات المتأثرة بمدنية الغرب تتبع "توراة التنمية" كعقيدة. وتدور في دائرة تشبه (حلقات ذكر الدراويش). وتقول هذه "التوراة": "أنتجوا أكثر، لكي تستهلكوا أكثر، ثم لكي تنتجوا أكثر. ولا يحتاج الإنسان لكي يكون عالم اجتماع حتى يدرك أن هذه هي فلسفة مريضة، مجنونة، فلن يستطيع تسارع النمو الاستمرار طويلا. فضلا عن الاستمرار الدائم إلى ما لا نهاية.
والواقع أن هذا النمو قد يتوقف في فترة أقصر مما يتوقعه الوعي النامي بين جمهور المثقفين، والذي يعتقد أن التكنولوجي بدون ضوابط يضر بصفات "الكيف) لحياة الإنسان.(1/84)
وفي حديث بعنوان "هل تستطيع أميركا التغلب على خرافة النمو"؟ كان سكرتير وزارة الداخلية استيوارت. ل. أودال) شجاعا عندما قال: "إنه من السهل اعتبار أميركا التي صنعها الإنسان.. كارثة على مستوى القارة ". لقد ذكر (أودال) مستمعيه: "إننا نملك أكبر عدد من السيارات وأسوأ ساحات (الخردة) بالمقارنة لأية دولة أخرى في العالم! نحن أكثر سكان العام تنقلا ونتحمل أكبر قدر من الازدحام! ونولد أكبر قدر من العلاقة! وفي أجوائنا أكثر الهواء تلوثا في العالم "! ولقد نقل عن رئيس بلدية (كليفلند) قوله مازحا: "إذا لم نكن واعين فسيذكرنا التاريخ على أساس أننا الجيل الذي رفع إنسانا إلى القمر.. بينما هو غائص إلى ركبتيه في الأوحال والقاذورات "!!
ويقول الدكتور "هنري لنك " طبيب النفس الأمريكي الشهير، معارضا للذين ينكرون الإيمان بالغيب، باسم العلم واحترام الفكر، مبينا أن العلم وحده لا يستطيع أن يحقق للإنسان أسباب السعادة الحقة:
"والواقع أنه يوجد الآن في كل ميدان من ميادين العلم من الظواهر ما يؤجج شعلة ذلك الضلال، وأعني به تعظيم شأن الفكر، ومع ذلك كان علماء النفس هم الذين توصلوا إلى أن الاعتماد المطلق على التفكير فحسب، كفيل بهدم سعادة الإنسان، وإن لم يقوض دعائم نجاحه. ثم إن إماطة اللثام عن هذا الاكتشاف لم تتم إلا عن طريق تجارب هؤلاء العلماء مع الناس، واختباراتهم العلمية التي أجروها على الآلاف، وبقي أن أقول: إن الوصول إلى هذه المكتشفات قد تم بالنسبة لعلاقتها بطرق التعلم والدين، والشخصية وفلسفة الحياة عموما.(1/85)
فلن نهتدي إلى حل شاف لمشكلات الحياة العويصة، ولن ننهل من مورد السعادة عن طريق تقدم المعلومات،- المعرفة العلمية وحدها. فارتقاء العلم معناه ازدياد الارتباك واضطراد التخبط، وما لم يتم توحيد هذه العلوم كلها تحت راية حقائق الحياة اليومية الواضحة وإخضاعها، فلن تؤدي هذه العلوم إلى تحرير العقول التي ابتدعتها وابتكرتها، بل ستقود حتما إلى انهيار هذه العقول وتعفنها. كما أن هذا التوحيد لابد أن يأتي عن طريق آخر غير طريق العلم، وأعني به طريق الإيمان .
أما الفلاسفة والمفكرون الذين حذروا من مادية الحضارة الغربية، وإغراقها في الآلية الصناعية، فهم كثيرون..من ذلك تحذير الفيلسوف الأمريكي الشهير (جون ديوي) الذي قال: إن الحضارة التي تسمح للعلم بتحطيم القيم المتعارف عليها، ولا تثق بقوة هذا العلم في خلق قيم جديدة.. لهي حضارة تدمر نفسها بنفسها!
ومنهم المفكر الكبير، المؤرخ البريطاني المعاصر "توينبي " إذ يقول : "لقد أغرت فنون الصناعة ضحاياها، وجعلتهم يسلمونها قياد أنفسهم ببيعها "المصابيح الجديدة" لهم مقابل "المصابيح القديمة" لقد أغرتهم فباعوها أرواحهم وأخذوا بدلا منها "السينما" و "الراديو" وكانت نتيجة هذا الدمار الحضاري الذي سببته تلك "الصفقة الجديدة" إقفارا روحيا وصفه أفلاطون بأنه "مجتمع الخنازير" ووصفه الدوس هكسلي بأنه "عالم زاه جديد .
"ويأمل توينبي في نهاية البحث بأن خلاص الغرب لا يكون إلا بالانتقال من الاقتصاد إلى الدين، ولكنه لا يخبرنا كيف سيتم هذا الانتقال، وإنما يؤكد قائلا: "إن الغربي يستطيع بواسطة الدين أن يتصرف تصرفا روحيا يضمن سلامته بالقوة المادية التي ألقتها بين يديه ميكانيكية الصناعة الغربية".(1/86)
ولعل أحدث رجال الفكر من نقاد الحضارة الغربية المادية، ومن أهلها هو المفكر الفرنسي الشهير (روجيه جارودي) الذي انتهى به نقده للحضارة الغربية إلى هداية الإسلام، ولنستمع إليه يقوله في محاضرة له في جامعة قطر منذ ثلاث سنوات: "بفضل تخصيص 600 بليون دولار سنة 1982م للإنفاق على التسلح أصبح كل ساكن من سكان الأرض تحت تهديد ما يعادل أربعة أطنان من المتفجرات، وصارت الموارد والثروات في نفس السنة موزعة بشكل أدى إلى هلاك 50 مليون نسمة في العالم الثالث بسبب المجاعة وسوء التغذية ومن الصعب أن نسمي ذلك المسار التاريخي الذي سلكته الحضارة الغربية تقدما، والذي أصبحت على أثره، ولأول مرة في تاريخ الملحمة الإنسانية الذي يمتد على مدى مليوني أو ثلاثة ملايين سنة قادرة تقنيا على محو كل أثر للحياة الاجتماعية على وجه البسيطة.
على الصعيد الاقتصادي يسود مفهوم النمو، أي تلك الرغبة العمياء في زيادة الإنتاج أكثر فأكثر، بسرعة متزايدة ، وإنتاج أي شيء صالحا كان أو غير صالح، مضرا أو مسببا للهلاك.
على الصعيد السياسي، قامت علاقات اجتماعية داخلية وخارجية يطغى عليها العنف، أي الصراع بين مصالح الأفراد والطبقات والأمم، ونزعتهم إلى القوة والهيمنة.
على الصعيد الثقافي الذي يتميز بفقدان المعنى والغاية ، قامت تقنية غايتها التقنية لذاتها، وعلم يهدف إلى العام ذاته، وفن لا يهدف إلا للفن ، وحياة لا تهدف إلى شىء.
وفي مستوى العقيدة ضاع مفهوم التسامي والعلو، أي ذلك البعد الإنساني الحقيقي للبشر.(1/87)
إن الثقافة (الفرعونية) التي تعتمد عليها هذه الحضارة تدعى حصر الحياة في الضرورة والصدفة، كما يدعيه أحد علماء الأحياء، أو إلى عاطفة لا طائل من ورائها مثلما كتب أحد الفلاسفة، أو إلى اللامعقول كما أعلنه أحد الروائيين، أي انعدام المعنى، وموت الآلة ، وموت الإنسان، وموت كل شىء ، مثلما يردده علينا دعاة العدم والمتنبئون به. وليس هناك من حضارة أغفلت بصفة كلية التساؤل عن معنى الحياة والموت مثلما هو الشأن بالنسبة للحضارة الغربية الخيالية، فهذه الثقافة (الفرعونية) تعتمد على مبادىء أربعة زجت بنا في ظرف خمسة قرون في طريق مسدود لو استمررنا فيه فسوف يؤدي إلى انتحار الكون بأكمله.
الفصل بين العلم والحكمة أي الفصل بين الوسائل والغايات.
إخضاع كل حقيقة واقعية إلى المفاهيم والكمية. مستبعدين بذلك الحق والإيمان والمعنى.
الفردانية التي تجعل من الأفراد أو المجموعات محور ومقياس كل شىء وتعتبر كل (نظام) توازنا مؤقتا بين أطماعهم المتنافسة.
إنكار التسامي، أي إمكانية الإفلات من هذه المتاهات (الاكتفاء) بالنسبة لحتميات نمو يقتصر على الكم ويستبعد الخلق والحرية والأمل.
أما الأدباء الذين نقدوا مادية الحضارة، وحذروا من سيطرتها على الإنسان بمقالاتهم أو أشعارهم أو رواياتهم فهم كثيرون من شتى المدارس، ومختلف الاتجاهات.
وحسبي أن أذكر هنا ما كتبه أديب أمريكي كبير، هو( جون شتايينك) وهو كاتب قصصي يعد في نظر كثيرين أعظم كتاب القصة في أمريكا، وذلك في خطاب أرسله إلى صديقه (ادلاى استيفنسون) مرشح الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية لسنة 1951 و 1956.
وخلاصة الخطاب كما نشره الأستاذ أحمد بهاء الدين في صحيفة (الأخبار) القاهرية:
"إن كل مشكلة أمريكا هي ثراؤها، وأن لديها أشياء كثيرة، ولكن ليس لديها رسالة روحية كافية. وقال:(1/88)
لو أنني أردت، أن أدمر شعبا، فإنني أعطيه أكثر مما يريد، فهذه الوفرة تجعله جشعا تعيسا مريضا! إن شعبنا لا يمكن أن يعيش طويلا على الأسس الحالية لحياته.
إننا في حاجة إلى ضربة قوية تجعلنا نفيق من ثرائنا، لقد انتصرنا على الطبيعة، ولكننا لم ننتصر على أنفسنا !! ".
وأما السياسيون فنكتفي منهم بالسياسي الأمريكي الشهير (فوستر دلاس) وزير خارجية أمريكا في عهد الرئيس (ايزنهاور) وصاحب كتاب (حرب أم سلام؟).
يقول دلاس في فصل من كتابه، تحت عنوان (حاجتنا الروحية):
"إن هناك شيئا ما يسير بشكل خاطيء في أمتنا وإلا لما أصبحنا في هذا الحرج، وفي هذه الحالة النفسية.. لا يجدر بنا أن نأخذ موقفا دفاعيا وأن يتملكنا الذعر..
إن ذلك أمر جديد في تاريخنا!
"إن الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية، إن ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي ، فبدونه يكون كل ما لدينا قليلا وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، أو الدبلوماسيون، مهما كانت فطنتهم ، أو العلماء مهما كثرت اختراعاتهم، أو القنابل مهما بلغت قوتها!
"فمتى شعر الناس بالحاجة إلى الاعتماد على الأشياء المادية، فإن النتائج السيئة تصبح أمرا حتميا".
"وفي بلادنا لا تجتذب نظمنا الإخلاص الروحي اللازم للدفاع عنها. وهناك حيرة في عقول الناس ، وتآكل لأرواحهم، وذلك يجعل أمتنا معرضة للتغلغل المادي- كما كشف عنه نشاط الجواسيس الذين تم كشفهم حتى الآن- ولن تستطيع أي إدارة لمكافحة التجسس أن تقوم بحمايتنا في هذه الظروف ".
.. "لقد تقابلنا مع أقسى الاختبارات التي يمكن أن يلتقي بها أي شعب.. وهو اختبار الحياة في رفاهية..(1/89)
" لقد قال يسوع: إن هذه الأشياء المادية سيحظى بها أولئك الذين يعملون من أجل ما أمر به الله ، ومن أجل تحقيق عدالته.. ولكن عندما يحدث ذلك فعندئذ يبدأ الامتحان الأكبر. لأن هذه الأشياء المادية- كما أنذر يسوع- يمكنها أن تصلح الصدأ الذي ينخر في الأرواح.
(كذلك فإن لدينا نموذجا معروفا، فالرجال الذين لديهم إحساس بالواجب إزاء كائن أعلى، يجاهدون لتحقيق إرادته، لأن إيمانهم يمنحهم القوة والفضيلة والحكمة المبسطة.. إنهم لا يبنون ليومهم فقط، بل للغد، وليس لأنفسهم وحدهم، وإنما للجنس البشري، ومجتمع هذا أساسه ستكون من نتائجه الثروة والرفاهية للكثيرين إذا ساعدته الأحوال.. وعندما تأتي هذه المنتجات الفرعية فإنها تكون طيبة، إلى درجة أنها تشجع على الاعتقاد بأنها النهاية المرتقبة وبذا سيبتعد الناس عن بذل الجهود الإنشائية للأجل الطويل ويبد أون الصراع من أجل الحصول على الأشياء المادية.
"لقد أخفقنا بشكل يدعو إلى الرثاء فى أن نرى أن من الممكن الحصول على عدالة اجتماعية، دون أن نمارس الإلحاد والمادية.. إن ذلك يعتمد على الرغبة الاختيارية للفرد في قبول أو التخلي عن الالتزامات الاجتماعية تجاه الفرد الآخر.
"ونتيجة لذلك فإن كثيرا من قومنا قد فقدوا إيمانهم في مجتمع حر وكأمة فقدنا كذلك إيماننا الديني وممارسة شعائرنا الدينية، رغم أننا مازلنا متدينين!
إننا نفرق بين الدين وممارسة الدين!
ولم نعد نؤمن بأن الإيمان يتمشى مع الظروف الحديثة.. ومتى تحطمت الصلة بين الإيمان والعمل، فلن تستطيع بعد ذلك أن ننمي قوة روحية نستطيع نشرها في جميع أنحاء العالم ".
ويجب أن نفهم كذلك بوضوح أن مجتمعا حرا ليس معناه مجتمعا يسعى كل فرد فيه لنفسه، بل إنه مجتمع متناسق. والقيود المفروضة هي قبل كل شىء ، روابط الأخوة المنبعثة من الإيمان. فإن الناس خلقوا لكي يعيشوا إخوانا في رعاية الله .. ".
ثم يختم هذا الفصل بقوله:(1/90)
"لن تكون هناك فائدة من إنشاء "أصوات أمريكا" أخرى عالية الصوت إلا إذا كان لدينا شيء نقوله، بكون أكثر إغراء مما قيل حتى الآن !".
كتب الرئيس ولسون قبل وفاته بأسابيع قليلة مقالا استعرض فيه تهديد المبادىء الثورية وأعمال الشيوعية، وختمه بقوله: إن اختصار المسألة بأسرها هو ما يلي: إن حضارتنا لا تستطيع الاستمرار في البقاء من الناحية المادية، إلا إذا استردت روحانيتها..
هذا هو التحدي النهائي لكنائسنا ومنظماتنا السياسية وللرأسماليين عندنا، ولكل فرد يخاف الله، أو يحب بلده ! "
فهل تستطيع المسيحية أن تقدم "طوق النجاة" لعالم يهدده الغرق ويحيط به الموج من كل مكان.
عجز المسيحية عن القيام بدور المنقذ:
لا تستطيع المسيحية أن تقوم بدور المنقذ للبشرية المعاصرة مما تعانيه من القلق والتخبط تحت سلطان الحضارة الغربية السائدة .
وذلك لعدة أسباب:
ا- إن المسيحية في صورتها المثالية لا تحمل رسالة حضارية، بل هي- في صلب تعاليمها- معادية للحياة، مناوئة للعقل ، مجافية للعلم ، قاسية على فطرة الإنسان.
والمسيحي المثالي يتجسد في (الراهب) المعتزل للحياة، المنقطع عن الدنيا، المعرض عن الطيبات، حتى عن الزواج !.
والأخلاق المسيحية أخلاق غير واقعية، لأنها فوق الطاقة المعتادة للبشر، كما في قول الإنجيل "أحبوا أعداءكم، باركوا لا عنيكم ، من ضربك على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر، ومن سرق قميصك فأعطه إ زارك.. ".(1/91)
إن المسيحية الأصلية كانت رسالة مؤقتة، لفترة محدودة، ولقوم معينين، ولم تكن مهيأة قط لتكون رسالة عامة ولا خالدة ، وقد عبر المسيح عن ذلك بأنه إنما بعث لخراف بني إسرائيل الضالة، وأنه لم يقل كل الحق، كما بشر بمن يأتي بعده ليبين للناس كل شيء، ويكسر عمود الكفر. فكيف والمسيحية الأصلية نفسها قد غيرت وبدلت، وذهب كتابها الأصلي، ودخل عليها من التحريف اللفظي والمعنوي في عقائدها وشعائرها وأصولها وفروعها ما مسخها وأضاع حقيقتها، وأخرجها من التوحيد إلى الوثنية، ومن عبادة الله الواحد إلى عبادة المسيح أو العذراء!
والمسيح يقول: " لا يدخل الغني ملكوت السماوات حتى يدخل الجمل في سم الخياط". ويقول لمن أراد أن يتبعه: "بع مالك ثم اتبعني ".
وشعار المسيحية المتوارث المشهور: أعتقد وأنت أعمى! أي اعزل إيمانك عن عقلك.
والإيمان المسيحي بطبيعته وتاريخه شيء خارج دائرة العقل، حتى قال القديس أوجستين يوما في تعليل إيمانه بعبر المعقول: أومن بهذا، لأنه محال!
معنى هذا أن المسيحي الحق لابد أن يختار بين الحضارة والدين فإما دين بلا حضارة، وإما حضارة بلا دين!
2- إن المسيحية ينوء كاهلها بتاريخ شديد الظلمة، حالك السواد، ملطخ بدماء العلماء والمفكرين الأحرار، تاريخ تقشعر لمجرد ذكره الأبدان وتشيب لهوله الولدان. تاريخ وقفت فيه الكنيسة مع الجمود ضد الفكر ومع الخرافة ضد العلم، ومع الاستبداد ضد الحرية، ومع الظلام ضد النور، وصنعت من المجازر البشرية- وخاصة مع النخبة والصفوة - مالا ينساه التاريخ .
وبهذا لم يعد وجه المسيحية مقبولا بحال للقيام بالدور المنتظر حتى لو افترضنا قدرتها على ذلك، وما هي بقادرة .(1/92)
3- إن المسيحية لا تنفصل عن (الاكليروس) عن رجال الكهنوت. وسيادة المسيحية تعني سيادة هؤلاء الذين يتكمون في ضمائر الناس، ويزعمون أنهم وحدهم الممسكون بمفاتيح أبواب الملكوت، وأنهم حلقة الفصل بين السماء والأرض، ومحتكرو الوساطة بين الله وعباده، والبشرية التي دفعت ما دفعت للتحرر من، استبداد الملوك ورجال الدنيا، ليست مستعدة أن تقع أسيرة لاستبداد رجال الدين.
4- إن الحضارة الغربية يزعم لها الكثيرون أنها حضارة مسيحية! ويحاولون إلصاقها بالمسيح، وإن كان المسيح منها براء، فهي- كما قلت مرة- حضارة المسيح الدجال، لا حضارة المسيح بن مريم، لأن الدجال أعور، وهي حضارة عوراء، تنظر إلى الحياة بعين واحدة، هي العين المادية. ولهذا كله يستبعد المفكرون الغربيون أنفسهم أن تكون المسيحية هي مصدر الخلاص، وسبيل النجاة.
فدور المسيحية قد انتهى إلى غير رجعة، والمسيح (قد مات)، وهو ما عبر عنه، نيتشه وغيره بأن الإله قد مات !
وعبارة (موت الإله) شديدة الوقع على الحس الإسلامي، والعقل الإسلامي، لأن الإله عندنا هو رب الناس ، ملك الناس، إله الناس، الذي خلقهم وسواهم، وأحياهم ثم يميتهم ثم يحييهم. ومثل هذا الإله المسمى المميت لا يتصور أن يموت، بل هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، بله أن يعتريه موت . أما إله الغرب! أو إله المسيحيين، فهو- في اعتقادهم- مجرد بشر تجسد فيه، أو حل فيه روح الإله.
وهم يعتقدون أنه صلب من قبل، فلا غرابة أن يموت من بعد!!
يقول البرفسور رينيه دوبو، في نقده للحضارة الغربية، وبعد فصل كامل سماه (البحث عن معنى) وتحت عنوان فصل جديد: (التخلص من أسطورة النمو والتنمية):(1/93)
"إذا راجعنا التاريخ ربما يظهر موضوع "البحث عن معنى" عملا لا فائدة منه. ففي كل مرة تتعرض البشرية لمثالية ، تعطيها معنى لحياتها تتجزأ هذه المثالية وتختفي، ولقد ظهر في الماضي كثير من العقائد الدينية والفلسفية والاجتماعية أنارت للبشر طريقهم لمدة ما وضاعت من بعد ذلك في مستنقع من شكوك فلسفية وجدل ضيق عقيم.
دت المسيحية في القرون الوسطى كقوة موحدة عندما أعطت شعوب أوروبا بعض الآمال، والمطامح المشتركة، والسلوك الاجتماعي المستوحي من محبة الله وخوفه. ولقد حركت أفكار المسيحية القدرات البشرية في أعمال جماعية مدهشة، كبناء الأديرة والكاتدرائيات ذات الفن الغوطي والروماني.
ولكن بعد ذلك انشغل المسيحيون باطراد في مجادلات لاهوتية مكررة، وتحولت المسيحية من عقيدة روحانية من المحبة إلى اعتقاد جامد محافظ خال من أي إلهام، والآن كثيرا ما نراها- أي المسيحية- تتفتت لتصبح فئات متعددة تتبنى أخلاقا اجتماعية مبهمة.
فاللاهوتيون مشغولون بمناقشات فلسفية زائفة لمحاولة التوفيق بين المسيحية والرأي الذي لا معنى له،عن "موت الإله "! .
اليهودية أشد عجزا :
وإذا كانت المسيحية عاجزة عن القيام بدور المنقذ، فإن اليهودية أشد عجزا.
واليهودية نفسها لا تزعم أن لديها هداية تقدمها للبشر، فهي ديانة تغلب عليها الطابع العنصري، وبنو إسرائيل- وحدهم دون الناس- هم شعب الله المختار.
والله في دين اليهود ليس رب العالمين، ولكنه رب إسرائيل ، والآخرة عند اليهود ليست هي ملكوت السماء عند النصارى ، ولا جنة الخلد عند المسلمين ، إنما هي ملك إسرائيل.
و (العهد القديم) كتاب اليهود المقدس الذي يضم أشعار التوراة وملحقاتها يدور جله حول تاريخ إسرائيل، وأحلام إسرائيل .
التوحيد الذي دعا إليه موسى عليه السلام ضاع في هذا الكتاب الذي شوه صورة الألوهية، وأضفى على الإله من نقائص البشر، من الجهل والخوف والحسد، والضعف.(1/94)
والأنبياء الذين جعلهم الله هداة للبشر ومعلمين، لوثت سيرتهم، وألصقت بهم التهم، في هذا الكتاب، فلم يعودوا ليصلحوا أسوة للناس.
والشريعة فيه تحل لبني إسرائيل ما تحرمه على غيرهم، فالربا حرام إذا تعامل اليهودي مع مثله. أما مع غيره من الناس فهو حلال زلال.
أما تعاليم (التلمود) فتجعل من اليهود (عصابة) تستحل دماء البشر، وأموالهم وحرماتهم ، باسم الدين، فكل من عداهم من الأمم يجب أن يكونوا عبيدا لهم، وأن يكون لهم السيادة على العالم، وكل من دونهم أحط من البهائم .
على أن اليهود لو كانوا يملكون رسالة لهداية البشر، لكانوا أبعد الناس عن الصلاحية لحملها. فهم بأنانيتهم وعزلتهم، وحقدهم وطمعهم وشرهم لا يصلحون لحمل رسالة عالمية.
وهم- بما نشر عنهم في بروتوكولات حكماء صهيون، وما ظهر على أيديهم في فلسطين ولبنان، أعداء البشرية لا منقذوها!
وهم بتاريخهم الدموي مع أنبياء الله ورسله زكريا ويحيى والمسيح ومحمد عليهم الصلاة والسلام لا يصلحون لحمل الرسالة.
وهم بتاريخهم في إيقاد الفتن، وتمزيق الجماعات، وبث الأفكار الهدامة، ونشر الفلسفات، والمذاهب الانحلالية- لا يصلحون للإنقاذ، وإخراج البشرية من الظلمات إلى النور، فإن فاقد الشيء لا يعطيه!
الماركسية داء لا دواء:
وإذا عجزت المسيحية، وعجزت اليهودية عن إنقاذ الإنسان المعاصر من الدمار المعنوي الذي يهدده صباح مساء، فلا يتصور أن تكون (الماركسية) هي البديل الذي يقدم قارورة الدواء للمريض، ومضخة الإطفاء للحريق . وذلك لأمرين.
(الأول): أن الماركسية جزء من الحضارة المادية المعاصرة، بل هي الجزء الأشد غرقا وإغراقا في المادية، فكيف تكون البديل لنفسها؟ وكيف يصلح الداء دواء إلا على طريقة أبي نواس، وداوني بالتي كانت هي الداء؟! وقد قال الشاعر:
إذا استشفيت من داء بداء... فأقتل ما أعلك ما شفاك!
((1/95)
والثاني): إدن الماركسية عاجزة كل العجز عن تكوين الإنسان المطمئن النفس المشرق الروح، السعيد القلب، لأن هذا ينبع من الإيمان بالله وبالخلود، والماركسي لا يؤمن إلا بالمادة المحسة، لهذا يقول فلاسفة الأخلاق :
الإنسان الماركسي ليس إنسانا حرا: ذلك أن على المناضل العادي أن يطيع رؤساءه إطاعة عمياء فيكون عبد "أسياده" كما هو عبد الكون المادي.
إنه لولب بسيط يعمل في آلة التطور. وما حريته إلا أن يخضع- بحسب النظرية الألمانية الزائفة- طائعا مختارا واعيا إن مثل الماركسي في العالم- وقد تحرر من الدين ومن الأخلاق ومن الله!- مثل العامل في المصنع، إنه يشعر بأنه عبد حتمية قاهرة كحركة الآلة الطاغية. وأن آلة العالم تأمر وتسيطر، ويبدو أن ليس في وسعه الخروج على مشيئتها، ولا الإفلات من أسرها إلا خلال لحظات ثورة ولهو، كما يأبق العبد ويفلت لحظة من رقابة سيده.
ثم إن الإنسان الماركسي ، في الواقع، عاجز أشل: إنه يعلم أن ليس في وسعه الحيلولة دون حدوث ما هو حادث. حتما، ويعجز عن استخدام مبادهته الخاصة على نحو أصيل، وغاية ما يقدر عليه الإسهام في تسارع إيقاع التطور.
إنه يشعر بعجزه عن تأمين مصيره الخاص، فيقضي معظم حياته خائفا مذعورا.
والإنسان الماركسي أخيرا لا يتمتع بروح اجتماعية حقيقية، لأنه لا يعرف الحب الحقيقي، ولا يحترم إنسانية الإنسان. نعم إن الماركسية تزعم الإسهام في إسعاد البشر، ولكن هل تستطيع أن تحب الناس؟
إن الإنسان لا يحب حبا حقيقيا إلا أشخاصا يعترف بأن لكل واحد منهم قيمة فردية خاصة ومصيرا خاصا.
يقول " بردييف ":(1/96)
"تتكشف الأخلاق الشيوعية الثورية عن أنها أخلاق لا تعرف الرحمة نحو الإنسان المشخص الحي، نحو الغريب. فالفرد ليس سوى لبنة لابد منها في بناء المجتمع الشيوعي- إنه أداة وحسب- وإن الشيوعية لتنطوي في ذاتها على عنصر سليم صحيح يتصل بنظرتها إلى الحياة، وهذا العنصر يطابق النظرة المسيحية، ويمثل في أن على الإنسان ألا يستهدف مصلحته الخاصة، بل أن ينفق حياته في خدمة مثل أعلى. ولكن هذه الفكرة- وهي بذاتها رائعة- تفسر برفض منح الشخص البشري جدارة مستقلة، وقيمة مستقلة، أي منحه نفحة روحية" (من كتاب فلسفة الأخلاق للدكتور عادل العوا ).
الحضارة التي ينشدها العالم :
إن البشرية اليوم في حاجة إلى حضارة جديدة، لها فلسفة الحضارة الغربية ورسالتها، الحضارة الغربية بشقيها: الرأسمالي والشيوعي، فكلاهما ثمرة لشجرة واحدة، هي الشجرة الملعونة في القرآن والتوراة والإنجيل، هي الشجرة المادية النفعية.
ولن تكون هذه الحضارة إلا حضارة الإسلام، ولا هذه الرسالة إلا رسالة الإسلام.
البشرية . في حاجة إلى حضارة تعيد إليها إيمانها بالله وبرسالاته، وبلقائه وبحسابه وعدالة جزائه، وبالقيم العليا التي لا يكون الإنسان إنسانا بغيرها ولا يكون للحياة مذاق ولا معنى بسواها
البشرية في حاجة ماسة إلى حضارة جديدة تعطيها الدين ولا تفقدها العلم ، تعطيها الإيمان، ولا تسلبها العقل، تعطيها الروح ولا تحرمها المادة، تعطيها الآخرة ولا تحرم عليها الدنيا، تعطيها الحق ولا تمنعها القوة، تعطيها الأخلاق ولا تسلبها الحرية.
إنه في حاجة إلى حضارة تتصل بها الأرض بالسماء، وتتعانق فيها المعاني الربانية والمصالح الإنسانية، ويتآخى فيها العقل المفكر والقلب المؤمن، ويمضي فيها الإنسان قدما إلى الأمام مستضيئا بنور الوحي الإلهي. ونور الفكر البشري، فكلاهما من فضل الله ورحمته بالإنسان (نور على نور).(1/97)
وليست هذه الحضارة إلا حضارة الإسلام، التي يتجلى فيها التوازن والتكامل بصورة لا يقدر عليها إلا العليم الحكيم ، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض أو السماوات.
منهج التوازن والتكامل:
إن الإسلام هو الرسالة الوحيدة التي تقدم للبشرية منهجا يتميز بالتوازن والتكامل،.
ونعني بالتوازن: التوسط بين طرفي الغلو والتفريط، اللذين لم يسلم منهما منهج بشري صرف، أو منهج ديني دخله تحريف البشر، وهو ما يعبر عنه القرآن باسم (الصراط المستقيم) وهو المذكور في فاتحة الكتاب، الذي يسأل المسلم ربه كل يوم أن يهديه إليه مالا يقل عن سبع عشرة مرة في صلواته (اهدنا الصراط المستقيم)! فهو منهج متميز عن طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين.
وقد يعبر عنه ب (الميزان) الذي يحب ألا يشوبه طغيان ولا إخسار كما قال تعالى: (والسماء رفعها ووضع، الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) ( الرحمن: 7: 9).
فالطغيان هو الميل إلى جاذب الغلو والإفراط والإخسار: هو الميل إلى جانب التقصير والتفريط، وكلاهما ذميم .
في هذا المنهج تلتقي المتقابلات التي يحسب كثير من الناس التقاءها ضربا من المحال، لأنها في نظرهم متضادة، والضدان لا يجتمعان، ولكنها في الإسلام تلتقي في صورة من الاتساق المبدع، بحيث يأخذ كل منها المسحة المناسبة له، دون أن يطغى على مقابلة: لا طغيان ولا إخسار.
فهو يضع الموازين القسط
بين الربانية والإنسانية
أو بين الوحي والعقل
بين الروحية والمادية
.. بين الأخروية والدنيوية
.. بين الفردية والجماعية
بين المثالية والواقعية
بين الماضوية والمستقبلية
بين المسئولية والحرية
بين الاتباع والابتداع
بين الواجبات والحقوق
بين الثبات والتغير(1/98)
وبهذا التوازن تتميز الأمة المسلمة عن غيرها من الأمم، ويضعها في مرتبة الأستاذية، وهو ما خاطبها الله تعالى به بقوله: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) (سورة البقرة: 143).
وأما التكامل فلا نعني به التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين كالذي ذكرناه في التوازن.
إنما نعفي به اجتماع معان وأشياء يكمل بعضها بعضا، ولا يستغني بأحدهما عن الآخر، لكي يؤدي الإنسان رسالته كاملة في عمارة الأرض، وخلافة الله، وعبادته كما أمر الله تعالى.
مثال ذلك:
العلم.... والإيمان
الحق.... والقوة
العقيدة.... والعمل
الدين.... والدولة
التربية.... والتشريع
أو وازع الإيمان.... ووازع السلطان.
الإبداع المادي.... والسمو الخلقي.
القوة العسكرية.... والروح المعنوية
فليس العلم مقابلا أو مضادا للإيمان، في نظر الإسلام، ولا في واقع الأمر وليس الحق مقابلا للقوة، وليست العقيدة مقابلة للعمل، ولا التربية مقابلة للتشريع.... وهكذا. إنما هي معان يكمل بعضها بعضا.
فإن الحياة التي ينشدها الإسلام لا تستقيم ولا تتكامل إلا بهذه الأمور كلها.
وعيب، المناهج والأنظمة البشرية أنها تهتم ببعض الجوانب دون بعض، وتركز على بعض القيم دون بعض، فنراها تعني- مثلا- بالاقتصاد والإنتاج، أعني بإشباع البطون، ولكن لا تعني كثيرا بإشباع العقول، وقد تعني بإشباع العقول بالعلم المادي، ولكنها لا تعني بإشباع القلوب والأرواح برحيق الإيمان. وقد تهتم بتيسير المواصلات بين البلدان، على حين تغفل الاهتمام بالصلات الاجتماعية والنفسية بين الناس.
ولكن الإسلام- منهج الله- يعني بإشباع حاجات الإنسان كله: جسمه وعقله وروحه، ويهتم بالإنسان في كل أجواله: فردا، وعضوا في أسرة، وعضوا في مجتمع، ويوجه عنايته التوجيهية والتشريعية إلى الإنسان في كل مر احله وأوضاعه، الإنسان طفلا، والإنسان شابا، والإنسان شيخا، الإنسان رجلا، والإنسان امرأة..
الإنسان حاكما، والإنسان محكوما.(1/99)
الإسلام هو معقد الرجاء:
إن إنسان العلم الحديث هو (ذلك المجهول) الذي لم يستطع العلم أن يسبر غوره، وأن يتعرف على حقيقته، وأن ينفذ إلى أعماقه ، كما بين ذلك الكسيس كاريل ورينيه دوبو، وغيرهما، لقد عرف العلم الجمادات أو المادة، وحللها واكتشف قوانينها، ولكنه عجز عن معرفة الإنسان، لأن الإنسان من التركيب، والتعقيد بحيث لا يعرفه إلا من خلقه فسواه ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟).
وما دام العلم يجهل الإنسان، فلا يؤمل منه أن يحسن توجيهه وتربيته والتشريع له.
و(إنسان الفلسفة) ليس أحسن حظا من إنسان العلم، والفلسفة رغم اهتمامها بالإنسان- منذ أنزلها سقراط من السماء إلى الأرض- لم تتفق على رأي في نظرتها إلى الإنسان، أهو روح أم مادة؟.. عقل أم شهوة ؟.. ملاك أم شيطان؟.. الأصل فيه الخير أم الشر؟.. أهو إنسان كما نراه، أم ذئب مقنع؟ أهو أناني أم غيرى؟ أهو فردي أم جماعي؟ أتجدي فيه التربية أم لا تجدي؟ أهو مختار أم مجبور؟
اختلفت الفلسفات في الإجابة عن هذه التساؤلات وتناقضت، فلا تستطيع أن تخرج منها بطائل، حتى قال شيخنا رحمه الله د. عبد الحليم محمود- وهو أستاذ الفلسفة في كلية أصول الدين- قبل أن يكون شيخا للأزهر: الفلسفة لا رأى لها، لأنها تقول الرأي وضده، والفكرة ونقيضها.
وإذا سقط إنسان العلم، وإنسان الفلسفة، بقي إنسان الدين.
ولكن أي دين هو القادر على بناء الإنسان المنشود؟
أما ( إنسان اليهودية) فهو إنسان مادي عنصري متعصب مغلق، ينظر إلى الناس جميعا على أنهم عدو، عليه أن يغزوه ويقهره، ويستبيح أرضه وماله، لأنه عطية الرب إلهه له! هكذا فهمه من التوراة. وهكذا علمه التلمود.(1/100)
أما (إنسان المسيحية) فهو إنسان محمل منذ ولادته بعبء الخطيئة الأولى، ويؤمن بمثالية معادية للحياة، متنكرة للعقل، مرتبطة بكاهن يملك مفاتيح الجنة والنار! أما (إنسان الوثنية) الأسيوية أو الإفريقية فهو أقل شأنا من أن يذكر هنا في مقام المقارنة بين الأديان الكتابية الكبرى.
ولم يبق إذن إلا (إنسان الإسلام)، الإنسان المرجو لغد البشرية وإنقاذ الحضارة من الغرق المخوف.
الإنسان الذي يصنعه الإسلام:
إن الإسلام هو الرسالة القادرة على بناء إنسان قوي متوازن متكامل الشخصية يمشي على الأرض، ويتطلع إلى السماء ، ويعايش الواقع، ويرنو إلى المثال ويعمل للدنيا ولا ينسى الآخرة، ويجمع المال، ولا ينسى الحساب، ويأخذ الحق ولا ينسى الواجب، ويتعامل مع الخلق، ولا ينسى الخالق، ويعتز بماضيه ولا ينسى حاضره.. ومستقبله، ويحب قومه ولا ينسى بني الإنسان، ويصلح نفسه ولا ينسى إصلاح غيره، يهتدي ويهدي، يأتمر ويأمر، وينتهي وينهى، فهو دائما داع إلى الخير، آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، حافظ لحدود الله، يتواصى مع سائر المؤمنين بالحق وبالصبر، كما أمر الله: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) . سورة العصر/ 1، 2، 3.
إنسان لا يطغيه الغني، ولا ينسيه الفقر، لا يستخفه النصر، ولا تسحقه الهزيمة لا تبطره النعمة، ولا تزلزله المصيبة، مطمئن القلب، راضي النفس، متفائل الروح، لا ييئس وإن سدت في وجهه الأبواب، وتقطعت دونه الأسباب، موقن بأن مع العسر يسرا، وبعد الليل فجرا، وبعد الضيق فرجا، وأنه لا ييئس من روح اله إلا القوم الكافرون. ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.(1/101)
إنسان يولد على الفطرة، لم يلوث بخطيئة ورثها من أبيه الأول، كما تزعم المسيحية، ولم يحمل ذنب أحد، إنما يحمل، مسئولية نفسه، إن اهتدى فلها، وإن ضل فعليها، وليس له إلا ما سعى، لا يخاف ظلما ولا هضما. أقام الله له الحجة وبين له المحجة، وأزاح عنه العلة، وأرسل له الرسول، وأنزل عليه الكتاب وملكه أمر نفسه ، يزكيها أو يدسيها (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) سورة الشمس/ 9، 10. إنسان صنعته عقيدة (التوحيد الخالص) الذي تميز به الإسلام، فلم تشبه شائبة الوثنية، فلا يشرك بالله شيئا، ولا يشرك بالله أحدا ، تكمل هذه العقيدة عقيدة الجزاء، يوم يقوم الناس لرب العالمين، حيث توفى كل نفس ماكسبت.
إنسان صقلته عبادات الإسلام التي حررها من رق الكهنوت، ومن احتكار الكهان وفتح بابها للاتصال بالله الواحد الأحد، بلا وسيط ولا سمسار مزعوم: من صلاة تصله بالله كل يوم خمس مرات، ومن صيام يربى إرادته، ويعده لتقوى الله شهرا من كل عام، ومن زكاة تزكي نفسه، وتطهرها من رجس الشح والأنانية، ليصبح في زمرة المنفقين مما رزق الله، ومن حج يجمعه مرة في العمر بغيره من المسلمين من أقطار الأرض حول أول بيت وضع لعبادة الله.
إنسان هذبته أخلاق الإسلام، وحملت حياته آدابه، ووضحت طريقة قيمه ومفاهيمه ورقته تربيته وتعليمه، يعلم علم اليقين أن عليه حقوقا لازمة: نحو ربه ونحو نفسه، ونحو والديه، ونحو أولاده، ونحو أقاربه، ونحو جيرانه، ونحو أهل وطنه، ونحو أبناء دينه، ونحو بنى جنسه، فعليه أن يوازن بين هذه الحقوق وأن يعطي، كل ذي حق حقه .
إن الإنسانية اليوم، تحت سلطان الحضارة المادية- مهددة بطوفان كطوفان نوح، يمكن أن يأتي على بنيانها من، القواعد، ولا بد لها من سفينة كسفينة نوح، بها يعصمها الله من الهلاك والدمار.
ولن تكون هذه السفينة إلا رسالة الإسلام، التي جعلها الله رحمة للعالمين وهداية للحائرين.(1/102)
ولكن هذه الرسالة في حاجة إلى أمة تمثلها وتتمثلها وتعطي للبشرية الأسوة والنموذج . كما أعطت أمة الإسلام القرون الأولى، ودخلت الأمم في دين الله أفواجا .
أمة يتجسد فيها الإسلام: توحيدا خالصا، وإيمانا صادقا، وعلما نافعا، وعملا صالحا، وخلقا فاضلا، ودعوة إلى الخير، وتواصيا بالحق والصبر وتعاونا على البر والتقوى، وجهادا في سبيل ذلك كله، حتى تكون بحق خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله .
أمة وسط ، لا تنتمي إلى اليمين ولا إلى اليسار، لا إلى الشرق الشيوعي ولا إلى الغرب الرأسمالي، أمة متميزة الوجهة، مستقلة الشخصية ( لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور) . سورة النور/ 35.
ولن تستطيع هذه الأمة أن تقوم بدورها في إنقاذ البشرية من سعار الحضارة المادية، إذا أصابها هي من شررها وشرها ما أصاب الآخرين من أدواء المادية والإباحية والنفعية والأنانية.
لهذا كان على هذه الأمة أن تحصن نفسها بالإسلام، وأن تجدد شبابها بالإيمان، وأن تأخذ من الحضارة المعاصرة خير ما فيها من علم وتكنولوجيا وهي في الواقع بضاعتها ترد إليها، فأسسها قد أخذت منها، وأن تعرض عما تشكو منه من أوصاب وأمراض.
إن أمتنا بيدها حبل النجاة، إذا أحسنت الفهم للإسلام وأحسنت العمل بالإسلام، وأحسنت الدعوة إلى الإسلام .
(ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) . سورة فصلت / 33.
مكتبة البحث
-----------------
(1) ترجمة د. نبيل صبحي الطويل: نشر مؤسسة الرسالة.
(2) العودة إلى الإيمان ص 81: 82 وقد ترجم إلى العربية في أوائل الخمسينات وذكر مترجمه: ثروت عكاشه أنه طبع في أمريكا 48 طبعة.
(3) نفس المرجع السابق .
(4) بتاريخ 28/ 1/ 1960 م(1/103)
5. لا يمكن أن تتحقق العدالة والمساوة والرحمة بين الناس بالمعنى الصحيح والشامل بغير دين الله تعالى وانظر إلى واقع تلك المجتمعات التي تبدو قوية كأمريكا وأوروربا
يقول العلامة أبو الحسن علي الحسني الندوي ( رحمه الله )) في كتابه النفيس ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" :
الفصل الأول من الباب الأول:
كان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف . فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون . وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها . وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه , فنسي نفسه ومصيره , وفقد رشده , وقوة التمييز بين الخير والشر , والحسن والقبيح . وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن , والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم , أو بقيت ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب , فضلا عن البيوت , فضلا عن البلاد . وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة , ولاذوا بالأديرة والكنائس والخلوات فرارا بدينهم من الفتن , وضنا بأنفسهم , أو رغبة إلى الدعة والسكون , وفرارا من تكاليف الحياة وجدها , أو فشلا في كفاح الدين والسياسة , والروح والمادة ; ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا وعاونهم على إثمهم وعدوانهم , وأكل أموال الناس بالباطل . . .
أصبحت الديانات العظيمة فريسة العابثين والمتلاعبين ; ولعبة المجرمين والمنافقين , حتى فقدت روحها وشكلها , فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها ; وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام وعسف الحكام , وشغلت بنفسها لا تحمل للعالم رسالة , ولا للأمم دعوة , وأفلست في معنوياتها , ونضب معين حياتها , لا تملك مشرعا صافيا من الدين السماوي , ولا نظاما ثابتا من الحكم البشري" . .(1/104)
هذه اللمحة السريعة تصور في إجمال حالة البشرية والديانات قبيل البعثة المحمدية . وقد أشار القرآن إلى مظاهر الكفر الذي شمل أهل الكتاب والمشركين في مواضع شتى . .
من ذلك قوله عن اليهود والنصارى: وقالت اليهود عزير ابن الله . وقالت النصارى المسيح ابن الله . . (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء , وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) . .
وقوله عن اليهود: وقالت اليهود:يد الله مغلولة . غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا . بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء .
وقوله عن النصارى: لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم . . (لقد كفر الذين قالوا:إن الله ثالث ثلاثة ) .
وقوله عن المشركين: (قل يا أيها الكافرون , لا أعبد ما تعبدون , ولا أنتم عابدون ما أعبد . ولا أنا عابد ما عبدتم ; ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دين) . . وغيرها كثير . .
وكان وراء هذا الكفر ما وراءه من الشر والانحطاط والشقاق والخراب الذي عم أرجاء الأرض . . . "وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج , ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة , ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة , ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة , لا دين صحيح مأثور عن الأنبياء " .
ومن ثم اقتضت رحمة الله بالبشرية إرسال رسول من عنده يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة . وما كانالذين كفروا من المشركين ومن الذين أوتوا الكتاب ليتحولوا عن ذلك الشر والفساد إلا ببعثة هذا الرسول المنقذ الهادي المبين . . .
ولما قرر هذه الحقيقة في مطلع السورة عاد يقرر أن أهل الكتاب خاصة لم يتفرقوا ويختلفوا في دينهم عن جهل أو عن غموض في الدين أو تعقيد . إنما هم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ومن بعد ما جاءتهم البينة من دينهم على أيدي رسلهم:
(وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) . .(1/105)
وكان أول التفرق والاختلاف ما وقع بين طوائف اليهود قبل بعثة عيسى - عليه السلام - فقد انقسموا شعبا وأحزابا . مع أن رسولهم هو موسى - عليه السلام - وكتابهم هو التوراة . فكانوا طوائف خمسة رئيسية هي طوائف الصدوقيين , والفريسيين , والآسيين , والغلاة , والسامريين . . ولكل طائفة سمة واتجاه . ثم كان التفرق بين اليهود والنصارى , مع أن المسيح - عليه السلام - هو أحد أنبياء بني إسرائيل وآخرهم , وقد جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة , ومع هذا فقد بلغ الخلاف والشقاق بين اليهود والمسيحيين حد العداء العنيف والحقد الذميم . وحفظ التاريخ من المجازر بين الفريقين ما تقشعر له الأبدان
"وقد تجدد في أوائل القرن السابع من الحوادث ما بغضهم [ أي اليهود ] إلى المسيحيين وبغض المسيحيين إليهم , وشوه سمعتهم . ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس [ 610م ] أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية , فأرسل الأمبراطور قائده [ ابنوسوس ] ليقضي على ثورتهم , فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة , فقتل الناس جميعا قتلا بالسيف , وشنقا , وإغراقا , وإحراقا , وتعذيبا , ورميا للوحوش الكاسرة . . . وكان ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة , قال المقريزي في كتاب الخطط:"وفي أيام [ فوقا ] ملك الروم , بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخربوا كنائس القدس , وفلسطين وعامة بلاد الشام , وقتلوا النصارى بأجمعهم , وأتوا إلى مصر في طلبهم , وقتلوا منهم أمة كبيرة , وسبوا منهم سبيا لا يدخل تحت حصر . وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم ; وأقبلوا نحو الفرس من طبرية , وجبل الجليل , وقرية الناصرة ومدينة صور , وبلاد القدس ; فنالوا من النصارى كل منال وأعظموا النكاية فيهم , وخربوا لهم كنيستين بالقدس , وأحرقوا أماكنهم , وأخذوا قطعة من عود الصليب , وأسروا بطرك القدس وكثيرا من أصحابه . إلى أن قال - بعد أن ذكر فتح القدس:(1/106)
"فثارت اليهود في أثناء ذلك بمدينة صور , وأرسلوا بقيتهم في بلادهم , وتواعدوا على الإيقاع بالنصارى وقتلهم , فكانت بينهم حرب , اجتمع فيها من اليهود نحو 20 ألفا وهدموا كنائس النصارى خارج صور . فقوس النصارى عليهم وكاثروهم فانهزم اليهود هزيمة قبيحة , وقتل منهم كثير . وكان هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية , وغلب الفرس بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنه , ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر , ويجدد ما خربه الفرس , فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها , وقدموا له الهدايا الجليلة وطلبوا منه أن يؤمنهم منه ويحلف لهم على ذلك , فأمنهم وحلف لهم . ثم دخل القدس , وقد تلقاهم النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة , فوجد المدينة وكنائسها خرابا , فساءه ذلك , وتوجع لهم , وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس , وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس , وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس , وقاموا قياما كبيرا في قتلهم عن آخرهم , وحثوا هرقل على الوقيعة بهم , وحسنوا له ذلك . فاحتجعليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه , فأفتاه رهبانهم وبطارقتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم , فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمنهم من غير أن يعلم بما كان منهم , وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كل سنة عنه على مر الزمان والدهور ! فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها , حتى لم يبق في ممالك الروم في مصر والشام إلا من فر واختفى . .
"وبهذه الروايات يعلم ما وصل إليه الفريقان:اليهود والنصارى , من القسوة والضراوة بالدم الإنساني , وتحين الفرص للنكاية في العدو , وعدم مراعاة الحدود في ذلك" .(1/107)
ثم كان التفرق والاختلاف بين النصارى أنفسهم , مع أن كتابهم واحد ونبيهم واحد . تفرقوا واختلفوا أولا في العقيدة . ثم تفرقوا واختلفوا طوائف متعادية متنافرة متقاتلة . وقد دارت الخلافات حول طبيعة المسيح - عليه السلام - وعما إذا كان لاهوتية أو ناسوتية . وطبيعة أمه مريم . وطبيعة الثالوث الذي يتألف منه "الله" - في زعمهم - وحكى القرآن قولين منها أو ثلاثة في قوله: (لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم) . .
(لقد كفر الذين قالوا:إن الله ثالث ثلاثة) (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس:اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ?) .
"وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية , وبين نصارى مصر . أو بين "الملكانية " , "المنوفوسية " بلفظ أصح . فكان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح , وكان المنوفوسيون يعتقدون أن للسيد المسيح طبيعة واحدة هي الإلاهية . التي تلاشت فيها طبيعة المسيح البشرية كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له . وقد اشتد هذا الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع , حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين , أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى . . كل طائفة تقول للأخرى:إنها ليست على شيء .(1/108)
"وحاول الإمبراطور هرقل [ 610 - 641 ] بعد انتصاره على الفرس [ سنة 638 ] جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها , وأراد التوفيق , وتقررت صورة التوفيق أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة السيد المسيح , وعما إذا كانت له صفة واحدة أم صفتان , ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن الله له إرادة واحدة أو قضاء واحد . وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك , وصار المذهب المنوثيلي مذهبا رسميا للدولة , ومن تضمهم من أتباع الكنيسة المسيحية . وصمم هرقل على إظهار المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المخالفة , متوسلا إلى ذلك بكل الوسائل . ولكن القبط نابذوه العداء , وتبرأوا من هذه البدعة والتحريف ! وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة . وحاول الإمبراطور مرة أخرى توحيد المذاهب وحسم الخلاف فاقتنع بأن يقر الناس بأن الله له إرادة واحدة . وأما المسألة الأخرى وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل فأرجأ القول فيه , ومنع الناس أن يخوضوا في مناظراته . وجعل ذلك رسالة رسمية , ذهب بها إلى جميع جهات العالم الشرقي . ولكن الرسالة لم تهدئ العاصفة في مصر , ووقع اضطهاد فظيع على يد قيصر في مصر استمر عشر سنين , ووقع في خلالها ما تقشعر منه الجلود , فرجال كانوا يعذبون ثم يقتلون غرقا , وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياءحتى يسيل الدهن من الجانبين إلى الأرض ويوضع السجين في كيس مملوء بالرمل ويرمى في البحر . إلى غير ذلك من الفظائع"
************
ويقول السيد رحمه الله :
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان ، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام ، أو التي عرفته ثم تنكرت له ، وارتدت إلى الجاهلية ، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان . .(1/109)
هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري ، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين .
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو "السويد" . حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام . وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدا والعلاج المجاني في المستشفيات . وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان ، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت . .
وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب . .
ولكن ماذا ؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله ؟
إنه شعب مهدد بالانقراض ، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط ! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط !
والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ؛ ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة . والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب . .
ثم الانتحار . .
والحال كهذا في أمريكا . .
والحال أشنع من هذا في روسيا . .
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة . فلا يذوق طعم أسلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة ، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار:
***********
إن العالم الذي نعيش فيه اليوم - في أنحاء الأرض - هو عالم القلق والاضطراب والخوف ؛ والأمراض العصبية والنفسية - باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه ، وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية . .(1/110)
وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية ، والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار . وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار . .
ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة ، وحرب الأعصاب ، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك !
إنها الشقوة البائسة المنكودة ، التي لا تزيلها الحضارة المادية ، ولا الرخاء المادي ، ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة . وما قيمة هذا كله إذا لم ينشىء في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة ؟
إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى ؛ ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى !
حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاما . .
في أمريكا ، وفي السويد ، وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء ماديا . .
إن الناس ليسوا سعداء . .
أنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء !
وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج ! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة . وفي "التقاليع" الغريبة الشاذة تارة . وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة . ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب . الهرب من أنفسهم . ومن الخواء الذي يعشش فيها !
ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها . فيهربون بالانتحار . ويهربون بالجنون . ويهربون بالشذوذ !
ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبدا !
لماذا ؟
السبب الرئيسي طبعا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة - على كل ما لديها من الرخاء المادي - من زاد الروح . .
من الإيمان . .
من الاطمئنان إلى الله . .
وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله ، وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه .
**************
ويقول الأستاذ العلامة محمد قطب في كتابه النفيس جاهلية القرن العشرين :
ملامح الجاهلية الحديثة :(1/111)
... لكل جاهلية فى التاريخ ملامح خاصة تميزها، هى ملامح البيئة التى تعيش فيها، وملامح ((الطور)) الاقتصادى والاجتماعى والسياسى الذى يحيط بها، وإن كانت كلها مع ذلك تشترك فى خصائص أصيلة هى التى تمنحها سمة الجاهلية على مدار التاريخ0
... وسنتحدث بتفصيل واف فى الفصلين القادمين عن انحرافات الجاهلية الحديثة: فى التصور والسلوك. فى عالم النظريات وعالم الواقع. ولكن يحس بنا قبل هذا التفصيل أن نلم إلمامة سريعة بالملامح التى تكون صورة الجاهلية الحديثة، كما ألممنا فى الفصل السابق بلمحة سريعة من التاريخ، تتبعنا فيها مولد هذه الجاهلية وتطوراتها خلال القرون0
* * *
... كل الجاهليات لا تؤمن بالله الإيمان الحق 0
... تلك هى الخصيصة الكبرى المشتركة بين كل جاهليات التاريخ0 بل هى الأساس الذى تنشأ منه الجاهلية، وتنبنى عليه كل الانحرافات الأخرى فى التصور وفى السلوك0
... إن العقيدة الصحيحة هى التى تحدد للإنسان مكانه الصحيح فىالكون، وتسدد خطاه فى الزمان والمكان، حيث تعين له وجهته الصائبة، وترسم له طريقة المستقيم، فيستقيم وجدانه وسلوكه، ومشاعره وأعماله، ومبادئه وواقعه. ويصبح كله – كما ينبغى أن يكون – وحدة متماسكة متكاملة، متجهة الاتجاه الصحيح0
... وحين تنحرف هذه العقيدة فلابد أن يشمل الاضطراب كيان الإنسان كله.. كما تضطرب الإبرة المغنطيسية حين يحال بينها وبين اتجاهها المرسوم. فيتفرق الكيان الموحد، وتضطرب خطواته فى الزمان والمكان. وتتوزع مشاعره وأعماله، ووجدانه وسلوكه، ومبادئه وواقعه؛ فلا يعود تلك الوحدة التى ينبغى أن يكونها، ولا يشمل كيانه الأمن والسكون اللذان يستمتع بهما فى ظلال العقيدة الصحيحة والمنهج الصحيح0
... وعندئذ توجه الجاهلية 00(1/112)
... فالجاهلية هى الانحراف عن عبادة الله الحق، هذه العبادة التى تتمثل فى التحاكم إليه وحده فى أمر الحياة كله. ثم ما يترتب على هذا الانحراف من اضطراب وتوزع، وتمزق وتشتيت. اضطراب فى النظم واضطراب فى الأفكار. اضطراب فى علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بالكون والحياة من حوله، وعلاقته بأخيه الإنسان0
... ولم يحدث قط فى التاريخ انحراف عن عبادة الله الحق، دون أن يتبعها انحراف فى علاقات الإنسان إلى ذلك أم لم يتنبه، وأراد أم لم يرد! فإذا صحت العقيدة استقام الكيان كله، واستقامت خطواته، وإذا اضطربت العقيدة سرى إلى الكيان كله ذلك الاضطراب0
... ومن الوجه الآخر لم يحدث اضطراب فى الأرض مع استقامة فى عبادة الله !
... قد توجد العقيدة. نعم. ولكن مجرد وجودها ليس هو الفيصل فى هذا الأمر. وإنما هو الوجود الحى المتحرك، الشامل المتكامل. والوجود الذى يشمل الإنسان كله، لا جزءاً منه دون جزء. يشمل مشاعره وسلوكه فى ذات الوقت. يشمل مبادئه وواقعه، وتصوراته وأعماله0
... وكل وضع خلاف ذلك – سواء وجدت فيه عقيدة متجهة إلى الله أم لم توجد – هو لون من الجاهلية، ينطبق عليه اسم الجاهلية، وتصيبه عواقبها الحتمية التى لا تتخلف00 لأنها سنة الله0
* * *
وقد كان العرب فى الجاهلية يعرفون الله، ويؤمنون بوجوده. ويتوجهون إليه 00 ولكنه توجه سقيم!
يقول القرآن الكريم عن العرب فى الجاهلية :
(( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله!))(1)
((ولئن سألتهم من خلقهم؟ ليقولن الله!))(2)0
((قل: من يرزقكم من السماء والأرض؟ أمن يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى، ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون الله!))(3)0
((قل : لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله! قل: أفلا تذكرون؟
قل: من رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله! قل: أفلا تتقون؟
__________
(1) سورة لقمان (25) 0
(2) سورة الزخرف (87)0
(3) سورة يونس (31)0(1/113)
قل: من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله!
قل: فأنى تسحرون؟))(1)0
وإذن فقد كانوا يعرفون الله، وكانوا يؤمنون بأنه الخالق المدبر الذى بيده ملكوت كل شىء!ثم لا يتبعون هذه المعرفة نتائجها الطبيعية المنطقية التى لابد أن تترتب عليها0
ولكن جاهليتهم أنهم لم يكونوا يعرفونه على حقيقته – سبحانه – ولا يؤمنون به الإيمان الحق. ولا يحكمونه وحده فى أمرهم كله0
((وما قدروا الله حق قدره))(2)0
كانوا يعرفونه ثم لا يتبعون هذه المعرفة نتائجها الطبيعية المنطقية التى لابد أن تترتب عليها0
يعرفونه ثم يعبدون معه آلهة أخرى00 ذلك من حيث الاعتقاد الوجدانى0
ويعرفونه ثم لا ينفذون شريعته ولا يتحاكمون إليه وحده فى أمرهم كله 00 ذلك من حيث السلوك الواقعى0
وبهذه وتلك كانوا كفاراً 00 وكانوا جاهلين00
وكانت الجاهلية التى يندد بها القرآن شاملة لهذه وتلك0
فأما فى قضية الاعتقاد فلم يشفع لهم – وما كان يمكن أن يشفع – أنهم لا يعبدون هذه الأصنام – أو الآلهة – لذاتها، وإنما لتقربهم إلى الله : ((ألا لله الدين الخالص. والذين اتخذوا من دونه أولياء: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى! إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون. إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار))(3)0
وأما قضية الشريعة فقد شدد القرآن فيها تشديداً لأنه لا انفصال بينها وبين قضية الاعتقاد، وما يمكن أن يوجد إيمان مع الانحراف عن شريعة الله، وتحكيم غير الله فى شأن من شئون الحياة:
((
__________
(1) سورة الأنعام (91)
(2) سورة المؤمنين (84-89)
(3) سورة الزمر (3)0(1/114)
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، فلا تخشوا الناس واخشون، ولا تشتروا بآياتى ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون. وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى موعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون. وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك. فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون . أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟))(1)0
((ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه. وإنه لفسق. وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم. وإن أطعتموهم إنكم لمشركون))(2)0
__________
(1) سورة المائدة (44-50)
(2) سورة الأنعام (121)0(1/115)
قضية الشريعة إذن كقضية العقيدة، لا فرق بين هذه وتلك: إما الحكم بما أنزل الله وإما الجاهلية والشرك. فالمعرفة بالله الحق، والإيمان الصحيح به، يستتبعان إفراده – سبحانه – بالحاكمية كإفراده بالألوهية. لأنه هو الخالق والمالك، ومن ثم فهو – وحده – الذى ينبغى أن يطاع، وشرعه – وحده – هو الواجب الاتباع. والعقيدة والشريعة قضية ذات شقين، تنبعان من أصل واحد وتلتقيان فى غاية واحدة والأصل والغاية هما الإيمان بالله والإسلام له0
والسمة الأولى لكل جاهلية – السمة التى تجعل منها جاهلية – هى عدم الإيمان الحق بالله أو عدم الإسلام له فى أى شأن . يستوى فى ذلك العقيدة والشريعة، بلا انفصال ولا افتراق0
الإيمان يقتضى إفراد الله – سبحانه – بالألوهية، والإسلام يقتضى إفراد – سبحانه – بالحاكمية0
والجاهلية تنشأ من عدم إفراد الله بالألوهية وعدم إفراده بالحاكمية. فتشرك مع الله آلهة أخرى، ولا تحكم بما أنزل الله0
* * *
وإذ كانت الجاهلية لا تحكم بما أنزل الله، فهى تتبع ((الأهواء))0
وتلك هى السمة الثانية لكل جاهلية، النابعة فى الأصل من عدم الإيمان الحق بالله وعدم الإسلام له 0
((وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم. واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك(1). فالقضية مترابطة: إما الإيمان بالله، الذى ينشأ عن الإسلام له واتباع ما أنزله، وإما الجاهلية واتباع ((الأهواء)) . وكل شرع غير شرع الله هوى.. ذلك ما قرره الله. ومصداقه هو تاريخ الحياة!
لقد اختلفت ((الأهواء)) من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة، ومن أمة إلى أمة. ولكنها كانت دائماً ((هوى)) فريق من الناس، يحكمون به سائر الناس! ومصلحة معينة لفرد أو جماعة، يسخر من أجلها بقية الخلق على حسب ((هواه))0
__________
(1) سورة المائدة (49)(1/116)
وشرع الله وحده هو البرئ من الأهواء . لأن الله سبحانه ليست له ((مصلحة)) مع هذا الفريق أو ذاك : ((ما أريد منهم من رزق، وما أريد أن يطعمون(1)" 0
وكل الناس خلقه بالتساوى.. لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى0
((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله آتاقكم . إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير))(2)0
فإما اتباع لشرع الله.. فهو الإسلام . وإما اتباع للأهواء.. فهى الجاهلية فى كل زمان ومكان0
* * *
والسمة الثالثة المشتركة فى كل جاهلية هى وجود طواغيت فى الأرض يهمهم أن ينصرف الناس عن عبادة الله الواحد والحكم بشريعته، ليتحولوا إلى عبادة أولئك الطواغيت والحكم بشريعتهم – أى بأهوائهم:
((الله ولى الذين آمنوا، يخرجهم من الظلمات إلى النور. والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات))(3)0
((الذين آمنوا يقاتلون فى سبيل الله والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت))(4)0
ووجود الطواغيت سمة ملازمة للبعد عن منهج الله 00 فحين ينحرف الناس عن العبادة الحقة، يتوجهون إلى عبادة كائنات أخرى – بمفردها، أو بالإشراك مع الله – وعندئذ تصبح هذه المعبودات طواغيت!
ويستوى أن يكون الطاغوت فرداً، أو طائفة، أو جماعة ، أو عرفاً ، أو تقليداً، أو أى قوة تستعبد الناس لها فلا يملكون الخروج عن أوامرها0
والطاغوت – سواء كان فرداً أو طائفة أو جماعة.. إلخ – لا يحب للناس أن يؤمنوا بالله ويعبدوه حق عبادته. فإنه لا يستطيع أن يعيش ويتمكن حيث يكون الولاء لله! ولا يعيش ويتمكن إلا بصرف الناس عن عبادة الله، ليتمكن هو من أن يفرض هواه!
ومن ثم يقف الطاغوت دائماً موقف العداء من العقيدة الحقة، لأنه يريد الولاء لشخصه ومصالحه؛ والعقيدة الحقة تجعل الولاء لله !
__________
(1) سورة الذاريات (57)
(2) سورة الحجرات (13)0
(3) سورة البقرة (257)0
(4) سورة النساء (76) 0(1/117)
ومن ثم كذلك فإن الجاهلية – أى الانحراف عن عبادة الله – تتلازم دائماً مع وجود الطاغوت0
* * *
والسمة الرابعة المشتركة، وهى مترتبة كذلك على البعد عن منهج الله – وإن كانت أسبابها كامنة فى الفطرة البشرية ذاتها – هى الانجراف فى تيار الشهوات0
الشهوات أمر محبب للإنسان: ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا00))(1)0
وقدر من هذه الأمور كلها ضرورى للحياة البشرية 00 ضرورى لمهمة الخلافة التى يتولاها الإنسان فى الأرض. ومن ثم كانت ((الدوافع)) فى كيان الإنسان، دوافع الطعام والشراب والمسكن والملبس0 والجنس. والبروز . والتملك(2). لترابطه بالحياة، وتدفعه إلى الحياة0
ولكنها حين تزيد عن قدرها المعقول، وتصبح ((شهوة)) مسيطرة على كيان الإنسان، فعندئذ لا تؤدى مهمتها الفطرية التى أوجدها الله من أجلها، وإنما تصبح مدمرة لكيان الإنسان، مبددة لطاقاته، صارفة له عن مهمة الخلافة، وهابطة به عن مستوى الإنسان الكريم الذى كرمه الله وعلاه، إلى مستوى البهائم ومستوى الشياطين00
والذى يحد من اندفاعها وسيطرتها على كيان الإنسان.. هو العقيدة فى الله، والحياة فى ظل نظام يقوم على شريعة الله!
والتجربة البشرية الطويلة خلال القرون تؤكد هذه الحقيقة! إما الاهتداء بهدى الله وإما الانجراف فى تيار الشهوات، كل الشهوات00 وشهوة الجنس فى مقدمة الشهوات!
إن الإنسان لا يمكن أن يمتنع عن الشهوات أبداً 00 إلا لله !
لقد يخشى عقوبة القانون 00 فيسعى إلى التستر على ما يعتبره القانون جريمة !
ولقد يخشى الناس 00فيرتكب جريمته فى خفية من الناس !
ولكنه لا يمتنع امتناعاً حقيقياً عن الجريمة إلا حين يخشى الله 00 لأنه لا ستر من دون الله!
__________
(1) سورة آل عمران (14)
(2) انظر فصل ((الدوافع والضوابط)) من كتاب ((دراسات فى النفس الإنسانية))0(1/118)
على أن المشاهد فى التاريخ كله أن الجاهليات لا تحرم الفاحشة الخلقية على وجه التحديد! يستوى فى ذلك الجاهلية العربية، والجاهلية الفارسية، والجاهلية الهندية 00 واليونانية والرومانية والفرعونية 00 وجاهلية القرن العشرين!
وتختلف الأسباب 00
فقد يكون السبب هو انشغال الطاغوت الذى يحكم – وكل حكم بغير ما أنزل الله فهو الطاغوت – بحماية مصالحه القريبة عن كل أمر عداه . ومن ثم لا يلتفت إلى انحراف الناس فى شئون الجنس، ولا يعنيه أن يقوم هذا الانحراف0
وقد يكون السبب هو قيام الطاغوت بنشر الفاحشة عمداً، ليستمتع هو بالمتعة المحرمة، أو لتلهية الناس عن الظلم الواقع عليهم – وكل حكم بغير ما أنزل الله ظلم – بالانغماس فى متع الجنس الفاحشة، فينسون ، وينصرفون عن محاكمة الطاغوت!
وعلى أية حال فهناك تلازم دائم بين كل جاهلية وبين الانجراف فى تيار الشهوات0
* * *
تلك سمات تبرز فى كل جاهلية على وجه الأرض خلال التاريخ 00 وهى جميعاً ناشئة من السمة الرئيسية الكبرى فى كل جاهلية، وهى الانحراف عن عبادة الله.
سمات مشتركة لا يمكن أن تخلو منها الجاهلية 00
كانت موجودة فى الجاهلية العربية، وكانت موجودة فى الجاهلية الفارسية واليونانية والرومانية والفرعونية.. وهى كذلك قائمة فى الجاهلية الحديثة، بلا اختلاف فى غير الصورة الظاهرة، وبلا اختلاف حتى فى الصورة فى بعض الأحيان!(1/119)
فى الجاهلية العربية كان الانحراف عن عبادة الله وحده – عقيدة وشريعة- حيث كانت الأصنام والأوثان تعبد إلى جوار الله، وحيث كانت قوانين الجاهلية وعرفها تحكم بدلاً من شريعة الله. وكانت ((الأهواء)) تسيطر على تصرفات الناس 00 القوى يغلب الضعيف بغير حق، والانتصاف لا بالحق ولكن بقوة الذراع! وكانت الطواغيت.. طواغيت قريش وغيرها من كهنة وسدنة ووضاع للأعراف المنحرفة والتقاليد 00 يحرمون ما يشاءون تحريمه ويحلون ما يشاءون تحليله، وليس ذلك فقط بل ((يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً))(1) إذا شاءت لهم الأهواء، ويمارسون سلطاناً باطلاً يستذلون به الناس ويتحكمون فى رقابهم.. وكانت الشهوات .. الخمر والنساء والميسر، والقتل والسلب والنهب، والغارات والثأر والمفاخرة بالعدوان00!
واليوم على بعد أربعة عشر قرناً من ذلك التاريخ تقوم الجاهلية الحديثة .. على نفس الأركان!!
فأما الانحراف عن عبادة الله – عقيدة وشريعة – فأمر أشهر من أن يشار إليه! أمر لا يقف عند حد الانحراف عن العقيدة فى كثير من حقائقها، والانحراف عن الشريعة فى كل مظاهرها.. وإنما يتعداه إلى الإلحاد الكامل، يتلهى به أفراد، أو تفرضه الطواغيت على الناس، وتباركه الشياطين فى جميع الأحوال
وأما اتباع الأهواء 00 فليس فى التاريخ قرن ركب رأسه واتبع هواه كما صنع هذا القرن.. فى كل شىء.. فى الشرق وفى الغرب سواء .. من تحطيم للعقائد. ولهو بالمقدسات.. وعبث بكل الضوابط التى تضبط تصرفات الإنسان.. و((تقاليع)) و((مودات)) وأفانين من العبث تفوق الحسبان0
وأما الطواغيت .. فما أكثرهم! طاغوت الرأسمالية تارة، وطاغوت البروليتاريا تارة، وطاغوت الفرد المقدس تارة، وطاغوت العرف الفاسد والقيم المنحلة تارة.. وهى فى كل مرة طواغيت!
وأما الشهوات 00!
* * *
... تلك سمات لا تنجو منها جاهلية فى الأرض 00 فى كل التاريخ 0
__________
(1) سورة التوبة (37)(1/120)
... فإذا عرفنا هذا القدر المشترك فى كل جاهلية [وسنعود إلى تفصيله فى الفصلين القادمين] فقد بقى أن نلم فى هذه اللمحة السريعة بالخصائص المميزة للجاهلية الحديثة0
... لتكتمل فى أذهاننا صورتها العامة – وهى خصائص تنبع فى الأصل من السمة الرئيسية الكبرى – الانحراف عن عبادة الله – ولكن الجاهلية الحديثة تنفرد بها من حيث صورتها وتفصيلاتها، لأنها نتيجة البيئة والظروف، و ((التطور)) العلمى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى والفكرى الذى حدث على مبعدة من منهج الله، وعلى عداء مع منهج الله(1)0
... لقد كان لكل جاهلية فى التاريخ سماتها الخاصة المميزة إلى جانب سماتها المشتركة00
... كانت الجاهلية العربية مثلاً تتميز بوأد البنات، وبأشياء أخرى سخيفة ومضحكة، كخروج بعض الناس لحج بيت الله الحرام عرايا – فى الحج!! – رجالاً ونساء !! وتحريم بعض الحرث والأنعام بلا سبب على هذا النحو المضحك :
... ((وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا هذا لله – بزعمهم – وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله! وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم! ساء ما يحكمون! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم، ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم، ولو شاء الله ما فعلوه، فذرهم وما يفترون. وقالوا: هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء – بزعمهم – وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكر اسم الله عليها – افتراء عليه – سيجزيهم بما كانوا يفترون، وقالوا : ما فى بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء 00))(2)0
__________
(1) انظر الفصل السابق ((صفحة من التاريخ))0
(2) سورة الأنعام (136-139)0(1/121)
... وكانت الجاهلية اليونانية تتميز بعبادة العقل 00 وعبادة الجسم 00 والجاهلية الرومانية بحلبات المبارزة الوحشية 00 والجاهلية الهندية بنظام المنبوذين، وبتخصيص بغايا ((لخدمة المعابد !! يخدمنها يبذل أعراضهن المدنسة! ويكون ذلك جزءاً من ((الدين))!! والجاهلية المصرية القديمة بعبادة الفرعون واستذلال كيان الشعب كله فى خدمة ذلك الفرعون المقدس! وجاهلية القرون الوسطى بطغيان الكنيسة والفساد الخلقى فى الأديرة، وصكوك الغفران00
... وكذلك تتميز الجاهلية الحديثة بسماتها الخاصة التى تفردها بين الجاهليات بعد أن تشترك معها فى بقية السمات00
... تلك الخصائص يمكن حصرها – على وجه التقريب – فى هذه الأمور :
? التقدم العلمى الفائق الذى يستخدم [من بين ما يستخدم] فى تضليل البشرية عن هدى الله، وفى إيقاع الشر والأذى بمخلوقات الله0
? تبجح ((الإنسان)) فى مواجهة الخالق، مفتوناً بنتائج العلم والتقدم المادى، حتى ليحسب الإنسان أنه أصبح فى غنى عن الله . أو أنه أصبح هو الله0
? النظريات (العلمية) المتعددة التى توجه الناس إلى الانحراف، فى الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس..وكل مجال من الحياة 0
? الفتنة ((بالتطور))0
? ((تحرير)) المرأة 0
? وليس هنا مجال التفصيل فى ملامح الجاهلية الحديثة، سواء منها سماتها الخاصة أو سماتها المشتركة مع بقية الجاهليات، فمجال ذلك فى الفصلين القادمين.. ولكنا نقول كلمة فى ختام هذا الفصل عن ((الفتنة)) القائمة فى هذه الجاهلية00
إن الفتنة الكبرى فى هذه الجاهلية أنها تملك كثيراً من العلم، وكثيراً من القوة المادية، وأنها حققت تيسيرات حضارية مادية كثيرة للبشر على ظهر الأرض، ينطوى بعضها على خير ظاهرى ومنافع للناس0
ومن أجل ذلك قلنا فى مقدمة الكتاب إن الجاهلية الحديثة أو عر وأخبث وأعنف من كل جاهلية سابقة فى التاريخ0
لقد كان ((الباطل)) فى الجاهليات القديمة واضح البطلان0(1/122)
وعلى الرغم من الجهالة التى كانت ترين على عقول الناس وضمائرهم، فلا يرون ما فى باطلهم من بطلان، ويتصورون أن الحق الذى يدعون إليه هو الباطل، أوالخسران0
على الرغم من ذلك فقد كانت ((كمية)) الجهل والشر والباطل أقل.. وكان الهدى – على ثقل مهمته – ينتصر فى معركة حاسمة فيتبين الحق للناس، ولا يعودون بعد ذلك يترددون0
ولكن الباطل اليوم يستند إلى ((العلم)) ويتخذ العلم وسيلته للتضليل!
ومن أجل ذلك يلتبس الحق بالباطل فى أذهان الناس ولا يقدرون على التمييز0
* * *
والقوة المادية كذلك من أسباب الفتنة 0
وعلى الرغم من أن كل جاهلية فى التاريخ كانت تستند إلى لون من ألوان القوة المادية تستند به طاغوتها وتفرضه على ضمائر الناس، بحيث يأخذون ما يقوله الطاغوت قضايا مسلمة لا تناقش – عن رهبة ورغبة! – ويتقبلون سلطانه بلا معارضة أو تفكير فى المعارضة.. على الغرم من ذلك فقد كانت تلك القوى المادية فى الجاهليات القديمة أقل رهبة وفتكاً وتنظيماً مما هى اليوم. فهى اليوم ليست أموالاً جبارة فحسب، وليست أسلحة فتاكة فحسب.. بل إلى جانبها من وسائل الإعلام على نطاق واسع ما لم تعرفه البشرية فى تاريخها كله، تظل تلح على أذهان الناس وضمائرهم، فى الصحافة والإذاعة والسينما والتليفزيون، حتى يخيل لهم أن الباطل هو الحق، وأن الحق خيال طائر ليس له فى الواقع وجود !
* * *
... وكذلك ذلك القدر من الخير الظاهرى والنفع الذى تحققه هذه الجاهلية للناس..
... لقد كان دائماً فى كل جاهلية قدر من الخير الظاهرى.. ولا يمكن أن توجد جاهلية فى أية لحظة على الأرض خلو من الخير كله.. فليس ذلك من طبائع الأشياء ولا طبائع النفوس0
... إن الكيان البشرى – مهما فسد – لا يمكن أن يتمحض للشر فى مجموعه !
قد يفعل ذلك أفراد 00 يغلب عليهم الشر حتى لا يرى فيهم وجه الخير 0(1/123)
ولكن مجموع البشرية لا يمكن أن يفعل ذلك0 سيظل فيهم قدر من الخير فى جميع الأحوال. ومن هذا القدر المتبقى فى النفس البشرية – فى أسوأ حالاتها – يتجمع فى كل جاهلية قدر من الخير الظاهرى – ظاهرى لأنه لا يستند إلى ((الحق)) ولا ينبع من المنهج الصحيح، ومن ثم يذهب بدداً فى واقع الحياة – ولكنه يزيغ أبصار الناس فيحسبون أنهم ليسوا فى جاهلية 00 ((ويحسبون أنهم مهتدون))(1)0
ولكن هذه الجاهلية الحديثة تحقق للناس من النفع – بإمكانياتها العلمية والمادية – ما لم يتحقق فى نوعه وكميته فى كل عصور التاريخ! ومن هنا تزيغ أبصار الناس أكثر مما زاغت فى أى وقت مضى 00 ويحسبون أنهم مهتدون!
* * *
... هذا الطغيان العنيف للجاهلية الحديثة – المتمثل فى فتنة الناس بها إلى هذا الحد – ناشئ من عنف الانحراف عن منهج الله ! فعلى قدر انحراف الناس تكون قوة الطاغوت 00 وقد انحرف الناس فى هذا العصر عن المنهج الربانى أعنف انحراف شهدته البشرية فى تاريخها كله 00 ومن أجل ذلك كانت قوة الطاغوت أعلى ما وصلت إليه فى كل مراحل التاريخ00
... والعلم والقوة والتنظيم 00 وهى سمات هذا العصر وعبقرياته 00
أدوات تخدم الطاغوت اليوم، لأنها بطبيعتها طاقات محايدة تخدم السيد الذى يسيطر عليها 00
... وفى وسع البشرية غداً حين تهتدى إلى الله الحق، أن تستخدم هذه الأدوات كلها فى سبيل الخير00 الخير الحقيقى الشامل لمجموع البشرية 00
__________
(1) سورة الأعراف (30)0(1/124)
... وحسب الناس – المفتونين بهذه الجاهلية الطاغية – أن يروا كم أفسدت هذه الجاهلية من أحوالهم ومشاعرهم ، وكم ضيعت من فرص الخير الشامل التى كان يمكن أن تصيبهم، ليعرفوا أن كل النفع الذى تقدمه لهم الجاهلية اليوم – فى عمل العلم على تيسير الحياة لهم على الأرض، وفى الخدمات الطبية والاجتماعية، و((العدالة)) الجزئية التى ينالونها فى هذا النظام أو ذاك – إنما هو فتات ضئيل ينثره الطاغوت على الناس ليبرر بقاءه فى الأرض، ولتستنيم له عواطف ((الجماهير)) بينما هو يستمتع وحده بسلطان مروع يستذل به رقاب الخلق، لم يتجمع قط فى أى طاغوت فى التاريخ00
... عند ذلك سيعرفون أنهم يعيشون فى الجاهلية حقا 00 وأن هذه الجاهلية ينبغى أن تزول!
...
***************
إن هذا الدين يأخذ في اعتباره - كما قلنا - واقع الناس ، دون أن يدعهم يتلبطون في الوحل باسم هذا الواقع ! وقد علم الله ما يحيط بحياة الرقيق من مؤثرات . تجعل الواحدة - ولو كانت متزوجة - أضعف من مقاومة الإغراء والوقوع في الخطيئة . فلم يغفل هذا الواقع ويقرر لها عقوبة كعقوبة الحرة . ولكن كذلك لم يجعل لهذا الواقع كل السلطات ، فيعفيها نهائيا من العقوبة .
قوام وسط . يلحظ كل المؤثرات وكل الملابسات .
كذلك لم يجعل من انحطاط درجة الرقيق سببا في مضاعفة العقوبة ، كما كانت قوانين الجاهلية السائدة في الأرض كلها تصنع مع الطبقات المنحطة والطبقات الراقية ؛ أو مع الوضعاء والأشراف تخفف عن الأشراف ، وتقسو على الضعاف .
كان المعمول به في القانون الروماني الشهير أن تشدد العقوبة كلما انحطت الطبقة . فكان يقول:"ومن يستهو أرملة مستقيمة أو عذراء ، فعقوبته - إن كان من بيئة كريمة - مصادرة نصف ماله . وإن كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد والنفي من الأرض"(1/125)
وكان المعمول به في القانون الهندي الذي وضعه "منو" وهو القانون المعروف باسم "منوشاستر" أن البرهمي إن استحق القتل ، فلا يجوز للحاكم إلا أن يحلق رأسه . أما غيره فيقتل! وإذا مد أحد المنبوذين إلى برهمي يدا أو عصا ليبطش به قطعت يده . . . الخ
وكان اليهود إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد .
وجاء الإسلام ليضع الحق في نصابه ؛ وليأخذ الجاني بالعقوبة ، مراعيا جميع اعتبارات "الواقع" . وليجعل حد الأمة - بعد الإحصان - نصف حد الحرة قبل الإحصان . فلا يترخص فيعفيها من العقوبة ، ويجعل إرادتها ملغاة كلية من ارتكاب الفعل تحت وطأة الظروف . فهذا خلاف الواقع . ولا يغفل واقعها كذلك فيعاقبها عقاب الحرة - وواقعها يختلف عن واقع الحرة . ولا يتشدد تشدد الجاهلية مع الضعاف دون الأشراف !!!
وما تزال الجاهلية الحديثة في أمريكا وفي جنوب أفريقية وفي غيرها تزاول هذه التفرقة العنصرية ، وتغفر للأشراف "البيض" ما لا تغفره للضعاف "الملونين" والجاهلية هي الجاهلية حيث كانت . والإسلام هو الإسلام . . حيث كان . .
*************
وقد ظهرت آثار هذه الفوضى في فرنسا مبكرة ، مما جعلها تركع على أقدامها في كل حرب خاضتها منذ سنة 1870 إلى اليوم ، وهي في طريقها إلى الانهيار التام ، كما تدل جميع الشواهد . وهذه بعض الأمارات التي أخذت تبدو وأضحة من بعد الحرب العالمية الأولى:(1/126)
"إن أول ما قد جر على الفرنسيين تمكن الشهوات منهم:اضمحلال قواهم الجسدية ، وتدرجها إلى الضعف يوما فيوما . فإن الهياج الدائم قد أوهن أعصابهم ؛ وتعبد الشهوات يكاد يأتي على قوة صبرهم وجلدهم ؛ وطغيان الأمراض السرية قد أجحف بصحتهم . فمن أوائل القرن العشرين لا يزال حكام الجيش الفرنسي يخفضون من مستوى القوة والصحة البدنية المطلوب في المتطوعة للجند الفرنسي ، على فترة كل بضع سنين . لأن عدد الشبان الوافين بالمستوى السابق من القوة والصحة لا يزال يقل ويندر في الأمة على مسير الأيام . .
وهذا مقياس أمين ، يدلنا كدلالة مقياس الحرارة - في الصحة والتدقيق - على كيفية اضمحلال القوى الجسدية في الأمة الفرنسية . ومن أهم عوامل هذا الاضمحلال:الأمراض السرية الفتاكة . يدل على ذلك أن كان عدد الجنود الذين اضطرت الحكومة إلى أن تعفيهم من العمل ، وتبعث بهم إلى المستشفيات ، في السنتين الأوليين من سني الحرب العالمية الأولى ، لكونهم مصابين بمرض الزهري ، خمسة وسبعين ألفا . وابتلي بهذا المرض وحده 242 جنديا في آن واحد في ثكنة متوسطة . وتصور - بالله - حال هذه الأمة البائسة في الوقت الذي كانت فيه - بجانب - في المضيق الحرج بين الحياة والموت ، فكانت أحوج ما تكون إلى مجاهدة كل واحد من أبنائها المحاربين لسلامتها وبقائها . وكان كل فرنك من ثروتها مما يضن به ويوفر ؛ وكانت الحال تدعو إلى بذل أكثر ما يمكن من القوة والوقت وسائر الأدوات والوسائل في سبيل الدفاع . وكان - بجانب آخر - أبناؤها الشباب الذين تعطل آلاف منهم عن أعمال الدفاع ، من جراء انغماسهم في اللذات ؛ وما كفى أمتهم ذلك خسرانا ، بل ضيعوا جانبا من ثروة الأمة ووسائلها في علاجهم ، في تلك الأوضاع الحرجة .(1/127)
"يقول طبيب فرنسي نطاسي يدعى الدكتور ليريه:إنه يموت في فرنسا ثلاثون ألف نسمة بالزهري ، وما يتبعه من الأمراض الكثيرة في كل سنة . وهذا المرض هو أفتك الأمراض بالأمة الفرنسية بعد حمى [ الدق ] . وهذه جريرة مرض واحد من الأمراض السرية التي فيها عدا هذا أمراض كثيرة أخرى "
والأمة الفرنسية يتناقص تعدادها بشكل خطير:ذلك أن سهولة تلبية الميل الجنسي ، وفوضى العلاقات الجنسية والتخلص من الأجنة والمواليد ، لا تدع مجالا لتكوين الأسرة ، ولا لاستقرارها ولا لاحتمال تبعة الأطفال الذين يولدون من الالتقاء الجنسي العابر . ومن ثم يقل الزواج ، ويقل التناسل ، وتتدحرج فرنسا منحدرة إلى الهاوية .
**************
والحال في أمريكا لا تقل عن هذه الحال . ونذر السوء تتوالى . والأمة الأمريكية في عنفوانها لا تتلفت للنذر . ولكن عوامل التدمير تعمل في كيانها ، على الرغم من هذا الرواء الظاهري ؛ وتعمل بسرعة ، مما يشي بسرعة الدمار الداخلي على الرغم من كل الظواهر الخارجية !!!
لقد وجد الذين يبيعون أسرار أمريكا وبريطانيا العسكرية لأعدائهم ، لا لأنهم في حاجة إلى المال . ولكن لأن بهم شذوذًا جنسيًا ، ناشئًا من آثار الفوضى الجنسية السائدة في المجتمع .
وقبل سنوات وضع البوليس الأمريكي يده على عصابة ضخمة ذات فروع في مدن شتى . مؤلفة من المحامين والأطباء - أي من قمة الطبقة المثقفة - مهمتها مساعدة الأزواج والزوجات على الطلاق بإيجاد الزوج أو الزوجة في حالة تلبس بالزنا ، وذلك لأن بعض الولايات لا تزال تشترط هذا الشرط لقبول توقيع الطلاق !
ومن ثم يستطيع الطرف الكاره أن يرفع دعوى على شريكه بعد ضبطه عن طريق هذه العصابة متلبسًا ، وهي التي أوقعته في حبائلها !
كذلك من المعروف أن هناك مكاتب مهمتها البحث عن الزوجات الهاربات والبحث عن الأزواج الهاربين !(1/128)
وذلك في مجتمع لا يدري فيه الزوج إن كان سيعود فيجد زوجته في الدار أم يجدها قد طارت مع عشيق ! ولا تدري الزوجة إن كان زوجها الذي خرج في الصباح سيعود إليها أم ستخطفه أخرى أجمل منها أو أشد جاذبية ! مجتمع تعيش البيوت فيه في مثل هذا القلق الذي لا يدع عصبًا يستريح !!!
وأخيرًا يعلن رئيس الولايات المتحدة أن ستة من كل سبعة من شباب أمريكا لم يعودوا يصلحون للجندية بسبب الانحلال الخلقي الذي يعيشون فيه .
وقد كتبت إحدى المجلات الأمريكية منذ أكثر من ربع قرن تقول:
"عوامل شيطانية ثلاثة يحيط ثالوثها بدنيانا اليوم . وهي جميعها في تسعير سعير لأهل الأرض ، أولها:الأدب الفاحش الخليع الذي لا يفتأ يزداد في وقاحة ورواجه بعد الحرب العالمية [ الأولى ] بسرعة عجيبة . والثاني الأفلام السينمائية التي لا تذكي في الناس عواطف الحب الشهواني فحسب ، بل تلقنهم دروسًا عملية في بابه . والثالث انحطاط المستوى الخلقي في عامة النساء ، الذي يظهر في ملابسهن ، بل في عريهن ، وفي إكثارهن من التدخين ، واختلاطهن بالرجال بلا قيد ولا التزام . . هذه المفاسد الثلاث فينا إلى الزيادة والانتشار بتوالي الأيام . ولا بد أن يكون مآلها زوال الحضارة والاجتماع النصرانيين وفناءهما آخر الأمر . فإن نحن لم نحد من طغيانها ، فلا جرم أن يأتي تاريخنا مشابهًا لتاريخ الرومان ، ومن تبعهم من سائر الأمم ، الذين قد أوردهم هذا الاتباع للأهواء والشهوات موارد الهلكة والفناء ، مع ما كانوا فيه من خمر ونساء ، أو مشاغل رقص ولهو وغناء" .
والذي حدث أن أمريكا لم تحد من طغيان هذه العوامل الثلاثة ، بل استسلمت لها تمامًا وهي تمضي في الطريق الذي سار فيه الرومان !(1/129)
ويكتب صحفي آخر عن موجة انحراف الشباب في أمريكا وبريطانيا وفرنسا ، ليهون من انحلال شبابنا ! يقول: "انتشرت موجة الإجرام بين المراهقين والمراهقات من شباب أمريكا . وأعلن حاكم ولاية نيويورك ، أنه سوف يجعل علاج هذا الانحراف على رأس برنامج الإصلاح الذي يقوم به في الولاية:
"وعمد الحاكم إلى إنشاء المزارع و "الإصلاحيات" التهذيبية والأندية الرياضية . . الخ"
"ولكنه أعلن أن علاج الإدمان على المخدرات - التي انتشرت بصفة خاصة بين طلبة وطالبات الجامعات ومنها الحشيش والكوكايين ! - لا يدخل في برنامجه ، وأنه يترك أمره للسلطات الصحية !
"وأما في انجلترا فقد كثرت في العامين الأخيرين جرائم الاعتداء على النساء وعلى الفتيات الصغيرات في طرق الريف . وفي معظم الحالات كان المعتدي أو المجرم غلامًا مراهقًا . وفي بعضها كان المجرم يعمد إلى خنق الفتاة أو الطفلة ، وتركها جثة هامدة ، حتى لا تفشي سره ، أو تتعرف عليه ، إذا عرضه عليها رجال البوليس .
"ومنذ شهرين اثنين كان شيخ عجوز في طريقه إلى القرية ، عندما أبصر على جانب الطريق - وتحت شجرة - غلامًا يضاجع فتاة . .
"واقترب الشيخ منهما ، ووكز الغلام بعصاه وزجره ووبخه ، وقال له:إن ما يفعله لا يجوز ارتكابه في الطريق العام !
"ونهض الفتى ، وركل الشيخ بكل قوته في بطنه . . . ووقع الشيخ .
"وهنا ركله الفتى في رأسه بحذائه . . . واستمر يركله بقسوة حتى تهشم الرأس !
"وكان الغلام في الخامسة عشرة ، والفتاة في الثالثة عشرة من عمرها ! "
وقد قررت لجنة الأربعة عشر الأمريكية التي تعنى بمراقبة حالة البلاد الخلقية أن 90 في المائة من الشعب الأمريكي مصابون بالأمراض السرية الفتاكة [ وذلك قبل وجود المركبات الحديثة من مضادات الحيويات كالبنسلين والاستريبتومايسين ! ]
وكتب القاضي لندسي بمدينة "دنفر" أنه من كل حالتي زواج تعرض قضية طلاق !(1/130)
وكتب الطبيب العالم العالمي ألكسيس كاريل في كتابه:"الإنسان ذلك المجهول":
"بالرغم من أننا بسبيل القضاء على إسهال الأطفال والسل والدفتريا والحمى التيفودية . الخ فقد حلت محلها أمراض الفساد والانحلال . فهناك عدد كبير من أمراض الجهاز العصبي والقوى العقلية . . . ففي بعض ولايات أمريكا يزيد عدد المجانين الذين يوجدون في المصحات على عدد المرضى الموجودين في جميع المستشفيات الأخرى . وكالجنون ، فإن الاضطرابات العصبية وضعف القوى العقلية آخذ في الازدياد . وهي أكثر العناصر نشاطًا في جلب التعاسة للأفراد ، وتحطيم الأسر . . إن الفساد العقلي أكثر خطورة على الحضارة من الأمراض المعدية ، التي قصر علماء الصحة والأطباء اهتمامهم عليها حتى الآن ! . .
هذا طرف مما تتكلفه البشرية الضالة ، في جاهليتها الحديثة ، من جراء طاعتها للذين يتبعون الشهوات ولا يريدون أن يفيئوا إلى منهج الله للحياة . المنهج الملحوظ فيه اليسر والتخفيف على الإنسان الضعيف ، وصيانته من نزواته ، وحمايته من شهواته ، وهدايته إلى الطريق الآمن ، والوصول به إلى التوبة والصلاح والطهارة:
والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيما . يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا .
************
إنها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة - التي التقطها المنهج الإسلامي من سفح الجاهلية - وكانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصلية الشاملة ؛ وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع . كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في القديم والحديث أيضا . . الخمر كانت ظاهرة مميزة للمجتمع الروماني في أوج جاهليته ؛ وللمجتمع الفارسي أيضا . وكذلك هي اليوم ظاهرة مميزة للمجتمع الأوربي والمجتمع الأمريكي في أوج جاهليته ! والشأن أيضا كذلك في جاهلية المجتمع الإفريقي المتخلفة من الجاهلية الأولى !(1/131)
في السويد - وهي أرقى أو من أرقى أمم الجاهلية الحديثة - كانت كل عائلة في النصف الأول من القرن الماضي تعد الخمر الخاصة بها . وكان متوسط ما يستهلكه الفرد ، حوالي عشرين لترا . وأحست الحكومة خطورة هذه الحال ، وما ينشره من إدمان ؛ فاتجهت إلى سياسة احتكار الخمور ، وتحديد الاستهلاك الفردي ، ومنع شرب الخمور في المحال العامة . . ولكنها عادت فخففت هذه القيود منذ أعوام قليلة ! فأبيح شرب الخمر في المطاعم بشرط تناول الطعام . ثم أبيحت الخمر في عدد محدود من المحال العامة ، حتى منتصف الليل فقط ! وبعد ذلك يباح شرب "النبيذ والبيرة " فحسب ! وإدمان الخمر عند المراهقين يتضاعف . . !
أما في أمريكا ، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانونا في سنة 1919 سمي قانون "الجفاف" ! من باب التهكم عليه ، لأنه يمنع "الري" بالخمر ! وقد ظل هذا القانون قائما مدة أربعة عشر عاما ، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة 1933 . وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما والمحاضرات للدعاية ضد الخمر . ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليونا من الدولارات . وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة . وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون جنيه . وقد أعدم فيها 300 نفس ؛ وسجن كذلك 335ر532 نفسا . وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه . وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة بلايين جنيه . . وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون .
فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي . . ببضع آيات من القرآن .
وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية وفي علاج المجتمع الإنساني . . بين منهج الله ، ومناهج الجاهلية قديما وحديثا على السواء !(1/132)
ولكي ندرك تغلغل هذه الظاهرة في المجتمع الجاهلي ، يجب أن نعود إلى الشعر الجاهلي ؛ حيث نجد "الخمر" عنصرا أساسيا من عناصر المادة الأدبية ؛ كما أنه عنصر أساسي من عناصر الحياة كلها .
لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر ، أن أصبحت كلمة التجارة ، مرادفة لبيع الخمر . . يقول لبيد:
قد بت سامرها وغاية تاجر وافيت إذ رفعت وعز مدامها
ويقول عمرو بن قميئة:
إذا أسحب الريط والمروط إلى أدني تجاري وأنفض اللمما
ووصف مجالس الشراب ، والمفاخرة بها تزحم الشعر الجاهلي ، وتطبعه طابعا ظاهرا .
**************
. . إن المجتمع الرباني المسلم لا يحتقر المادة ؛ لا في صورة "النظرية " باعتبار المادة هي التي تؤلف كيان هذا الكون الذي نعيش فيه ؛ ولا في صورة "الإنتاج المادي" والاستمتاع به . فالإنتاج المادي من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه ؛ والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو الإسلام إليه - كما سنرى في سياق هذه السورة - ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص "الإنسان" ومقوماته ! كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية . . الملحدة أو المشركة . .(1/133)
وحين تكون القيم "الإنسانية " والأخلاق "الإنسانية " - كما هي في ميزان الله - هي السائدة في مجتمع ، فإن هذا المجتمع يكون متحضراً متقدماً . . أو بالاصطلاح الإسلامي . . ربانياً مسلماً . . والقيم "الإنسانية " والأخلاق "الإنسانية " ليست مسألة غامضة ولا مائعة ؛ وليست كذلك قيماً وأخلاقاً متغيرة لا تستقر على حال - كما يزعم الذين يريدون أن يشيعوا الفوضى في الموازين ، فلا يبقى هنالك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقييم . . إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان "خصائص الإنسان" التي ينفرد بها دون الحيوان . وتُغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويجعل منه إنساناً . وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه الجوانب المشتركة بينه وبين الحيوان . . وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم وثابت ، لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها "التطوريون" ! عندئذ لا تكون هناك أخلاق زراعية وأخرى صناعية . ولا أخلاق رأسمالية وأخرى اشتراكية . ولا أخلاق صعلوكية وأخرى برجوازية ! لا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومن مستوى المعيشة ، على اعتبار أن هذه العوامل مستقلة في صنع القيم والأخلاق والاصطلاح عليها ، وحتمية في نشأتها وتقريرها . . إنما تكون هناك فقط "قيم وأخلاق إنسانية " يصطلح عليها المسلمون في المجتمع المتحضر . "وقيم وأخلاق حيوانية " - إذا صح هذا التعبير - يصطلح عليها الناس في المجتمع المتخلف . . أو بالاصطلاح الإسلامي تكون هناك قيم وأخلاق ربانية إسلامية ؛ وقيم وأخلاق رجعية جاهلية !
إن المجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية ، لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة ، مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي ! إن هذا المقياس لا يخطىء في قياس مدى التقدم في الإنسان ذاته .(1/134)
وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان . ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية - ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة - رذيلة أخلاقية ! إن المفهوم "الأخلاقي" ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية - أحياناً في حدود مصلحة الدولة ! - والكتاب والصحفيون والروائيون وكل أجهزة التوجيه والإعلام في هذه المجتمعات الجاهلية تقولها صريحة للفتيات والزوجات والفتيان والشبان:إن الاتصالات الجنسية الحرة ليست رذائل أخلاقية !
مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة غير متحضرة - من وجهة النظر "الإنسانية " . وبمقياس خط التقدم الإنساني . . وهي كذلك غير إسلامية . . لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته ، وتنمية خصائصه الإنسانية ، وتغلبها على نزعاته الحيوانية . .
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في وصف المجتمعات البشرية الحاضرة ، وإغراقها في الجاهلية . . من العقيدة إلى الخلق . ومن التصور إلى أوضاع الحياة . . ونحسب أن هذه الإشارات المجملة تكفي لتقرير ملامح الجاهلية في المجتمعات البشرية الحاضرة . ولتقرير حقيقة ما تستهدفه الدعوة الإسلامية اليوم وما يستهدفه الدعاة إلى دين الله . . إنها دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام:عقيدة وخلقاً ونظاماً . . إنها ذات المحاولة التي كان يتصدى لها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وإنها ذات النقطة التي بدأ منها دعوته أول مرة . وإنه ذات الموقف الذي وقفه بهذا الكتاب الذي أنزل إليه ؛ وربه - سبحانه - يخاطبه:
كتاب أنزل إليك ، فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين . .
***********
ويقول العلامة القرضاوي :
حاجة الإنسان إلى الدين(1/135)
إن حاجة الإنسان إلى الدين عامة، وإلى الإسلام خاصة، ليست حاجة ثانوية ولا هامشية، إنها حاجة أساسية أصيلة، تتصل بجوهر الحياة، وسرالوجود، وأعمق أعماق الإنسان.
وفى أقصى ما يمكن من الإيجاز ـ غير المخل ـ نبين هنا وجه الحاجة إلى الدين في حياة الإنسان:
* حاجة العقل إلى معرفة الحقائق الكبرى في الوجود:
1- حاجة الإنسان إلى عقيدة دينية تنبثق ـ أول ما تنبثق ـ من حاجته إلى معرفة نفسه ومعرفة الوجود الكبير من حوله، أي إلى معرفة الجواب عن الأسئلة التي شغلت بها فلسفات البشر ولم تقل فيها ما يشفي.
فالإنسان منذ نشأته تلح عليه أسئلة يحتاج إلى الجواب عنها: من أين؟ وإلى أين؟ ولم؟! ومهما تشغله مطالب العيش عن هذا التساؤل، فإنه لا بدواقف يوما ليسأل نفسه هذه الأسئلة الخالدة:
(أ) يقول الإنسان في نفسه: من أين جئت وجاء هذا الكون العريض من حولي؟ هل وجدت وحدي أم هناك خالق أوجدني؟ ومن هو؟ وما صلتي به؟ وكذلك هذا العالم الكبير بأرضه وسمائه، وحيوانه ونباته وجماده وأفلاكه، هل وجد وحده أم أوجده خالق مدبر؟.
(ب) ثم ماذا بعد هذه الحياة ... وبعد الموت؟ إلى أين المسير بعد هذه الرحلة القصيرة على ظهر هذا الكوكب الأرضي؟ أتكون قصة الحياة مجرد" أرحام تدفع، وأرض تبلع" ولا شيء بعد ذلك ؟ وكيف تستوي نهاية الأخيار الطاهرين الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الحق والخير، ونهاية الأشرار الملوثين الذين ضحوا بغيرهم في سبيل الهوى والشهوة ؟ أتختتم الحياة بالموت؟ . . أم هناك وراء الموت حياة يجزى فيها الذين أساءوا بما عملوا والذين أحسنوا بالحسنى؟
((1/136)
ج) ثم لماذا وجد الإنسان؟ لماذا أعطى العقل والإرادة وتميز عن سائر الحيوان؟ لماذا سخر له ما في السموات وما في الأرض؟ أهناك غاية من وجوده؟ أله مهمة في حياته؟ أم وجد لمجرد أن يأكل كما تأكل الأنعام ـ ثم ينفق كما تنفق الدواب؟ وإن كانت هناك غاية من وجوده فما هي؟ وكيف يعرفها؟ أسئلة تلح على الإنسان في كل عصر وتتطلب الجواب الذي يشفي الغليل ويطمئن به القلب ، ولا سبيل إلى الجواب الشافي إلا باللجوء إلى الدين إلى العقيدة الدينية الصافية. الدين هو الذي يعرف الإنسان ـ أول ما يعرفه ـ أنه لم يخرج من العدم إلى الوجود صدفة، ولا قام في هذا الكون وحده، وإنما هو مخلوق لخالق عظيم، هو ربه الذي خلقه فسواه فعدله ونفخ فيه من روحه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وأمده بنعمه الغامرة، منذ كان جنينا في بطن أمه: (ألم نخلقكم من ماء مهين، فجعلناه في قرار مكين، إلى قدر معلوم، فقدرنا فنعم القادرون).
وهذا الكون الكبير من حوله ليس غريبا عنه ولا عدوا له، إنه مخلوق مثله لله لا يسير جزافا ولا يمشي اعتباطا، كل شيء فيه بقدر، وكل أمر فيه بحساب وميزان، إنه نعمة من الله للإنسان ورحمة، ينعم بخيراته، ويستفيد من بركاته، ويتأمل في آياته، فيستدل به عن ربه: (الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى)، (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب).
بهذه العقيدة يرتبط الإنسان بالوجود الكبير، وبرب الوجود كله، ولا يعيش منطويا على نفسه، معزولا عما حوله، أو خائف منه.(1/137)
والدين هو الذي يعرف الإنسان: إلى أين يسير بعد الحياة والموت؟ إنه يعرفه أن الموت ليس فناء محضا، ولا عدما صرفا، إنما هو انتقال إلى مرحلة أخرى . . إلى حياة برزخية بعدها نشأة أخرى توفى فيها كل نفس ما كسبت، وتخلد فيما عملت، فلا يضيع هناك عمل عامل من ذكر أو أنثى، ولا يفلت من العدل الإلهي جبار أو مستكبر: ( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) بهذا يعيش الإنسان بوجدانه في الخلود، ويعلم أنه خلق للأبد، وإنما انتقل بالموت من دار إلى دار.
والدين هو الذي يعرف الإنسان: لماذا خلق؟ ولماذا كرم وفضل؟ يعرفه بغاية وجوده، ومهمته فيه، إنه لم يخلق عبثا، ولم يترك سدى، إنه خلق ليكون خليفة الله في الأرض، يعمرها كما أمر الله، ويسخرها لما يحب الله، يكشف مكنوناتها، ويأكل من طيباتها، غير طاغ على حق غيره، ولا ناس حق ربه. وأول حقوق ربه عليه أن يعبده وحده، ولا يشرك به شيئا، وأن يعبده بما شرع، على ألسنة رسله، الذين بعثهم إليه هداة معلمين، مبشرين ومنذرين، فإذا أدى مهمته في هذه الدار المحفوفة بالتكليف والابتلاء، وجد جزاءه هناك في الدار الآخرة: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا).
بهذا يدرك الإنسان سر وجوده، ويستبين مهمته في الحياة، بينها له بارئ الكون، وواهب الحياة، وخالق الإنسان.
إن الذي يعيش بغير دين ـ بغير عقيدة في الله والآخرة ـ إنسان شقي محروم حقا. إنه في نظر نفسه مخلوق حيواني، ولا يفترق عن الحيوانات الكبيرة التي تدب على الأرض من حوله . . .(1/138)
والتي تعيش وتتمتع ثم تموت وتنفق، بدون أن تعرف لها هدفا، أو تدرك لحياتها سرا، إنه مخلوق صغير تافه لا وزن له ولا قيمة، وجد ولا يعرف: كيف وجد، ولا من أوجده؟ ويعيش ولا يدرى: لماذا يعيش؟ ويموت ولا يعلم لماذا يموت؟ وماذا بعد الموت؟ إنه في شك ـ بل في عمى ـ من أمره كله: محياه ومماته، مبدئه ومنتهاه، كالذين قال الله فيهم: (بل أدارك علمهم في الآخرة، بل هم في شك منها، بل هم منها عمون).
وما أقسى حياة إنسان يعيش في جحيم الشك والحيرة أو في ظلمات العمى والجهل، في أخص ما يخصه: في حقيقة نفسه، وسر وجوده، وغاية حياته. إنه الشقي التعيس حقا، وإن غرق في الذهب والحرير وأسباب الرفاهية والنعيم، وحمل أرقى الشهادات، وتسلم أعلى الدرجات! وفرق كبير بين إنسان كعمر الخيام يقول في حال حيرته وشكه:
لبست ثوب العمر لم أستشر وحرت فيه بين شتى الفكر!
سوف أنضو الثوب عني، ولم أدر: لماذا جئت، أين المفر؟
وبين آخر يقول في يقين وطمأنينة:
وما الموت إلا رحلة، غير أنها من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي!
وحرت فيه بين شتى الفكر :
ويقول عمر بن عبد العزيز: " إنا خلقنا للأبد، وإنما ننقل من دار إلى دار".
إن حاجة الإنسان إلى الدين تنبثق ـ قبل كل شيء ـ من حاجته إلى معرفة حقيقة نفسه وإلى معرفة حقائق الوجود الكبرى، وأول هذه الحقائق وأعظمها:
وجود الله تعالى ووحدانيته وكماله سبحانه، فبمعرفته والإيمان به ـ جل شأنه ـ تنحل عقد الوجود، ويتضح للإنسان الغاية والوجهة، ويتحدد المنهج والطريق.
* حاجة الفطرة البشرية:(1/139)
2- ما ذكرناه من حاجة الإنسان إلى الدين يتصل بحاجاته العقلية، ولكن هناك حاجة الوجدان والشعور أيضا، فالإنسان ليس عقلا فقط، كالأدمغةالإلكترونية، إنما هو عقل ووجدان وروح، هكذا تكونت فطرته، ونطقت جبلته. فالإنسان بفطرته لا يقنعه علم ولا ثقافة، ولا يشبع نهمته فن ولا أدب، ولا يملأ فراغ نفسه زينة أو متعة، ويظل قلق النفس، جوعان الروح، ظمآن الفطرة، وشاعرا بالفراغ والنقص، حتى يجد العقيدة في الله،فيطمئن بعد قلق، ويسكن بعد اضطراب، ويأمن بعد خوف، ويحس بأنه وجد نفسه.
يقول الفيلسوف "أجوست سياته" في كتابه "فلسفة الأديان":
"لماذا أنا متدين؟ إني لم أحرك شفتي بهذا السؤال مرة، إلا وأراني مسوقا للإجابة عليه بهذا الجواب، وهو: أنا متدين، لأني لا أستطيع خلاف ذلك، لأن التدين لازم معنوي من لوازم ذاتي. يقولون لي: ذلك أثر من آثار الوراثة أو التربية أو المزاج، فأقول لهم: قد اعترضت على نفسي كثيرا بهذا الاعتراض نفسه، ولكني وجدته يقهقر المسألة ولا يحلها".
ولا عجب أن وجدنا هذه العقيدة عند كل الأمم، بدائية ومتحضرة، وفي كل القارات شرقية وغربية، وفى كل العصور قديمة وحديثة، وإن كان الأكثرون قد انحرفوا بها عن الصراط المستقيم.
يقول المؤرخ الإغريقي "بلوتارك": قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد ...
ولهذا جعل القرآن الدين ـ بمعنى العقيدة ـ هو الفطرة البشرية نفسها: (فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرت الله التي فطر الناس عليها).
* حاجة الإنسان إلى الصحة النفسية والقوة الروحية:(1/140)
3- وثمة حاجة أخرى إلى الدين: حاجة تقتضيها حياة الإنسان وآماله فيها، وآلامه بها ... حاجة الإنسان إلى ركن شديد يأوي إليه، وإلى سند متين يعتمد عليه، إذا ألمت به الشدائد، وحلت بساحته الكوارث، ففقد ما يحب، أو واجه ما يكره، أو خاب ما يرجو، أو وقع به ما يخاف، هنا تأتي العقيدة الدينية، فتمنحه القوة عند الضعف، والأمل في ساعة اليأس، والرجاء في لحظة الخوف، والصبر في البأساء والضراء، وحين البأس.
إن العقيدة في الله وفي عدله ورحمته، وفي العوض والجزاء عنده في دار الخلود، تهب الإنسان الصحة النفسية والقوة الروحية، فتشيع في كيانه البهجة، ويغمر روحه التفاؤل، وتتسع في عينه دائرة الوجود، وينظر إلى الحياة بمنظار مشرق، ويهون عليه ما يلقى وما يكابد في حياته القصيرة الفانية، ويجد من العزاء والرجاء والسكينة ما لا يقوم مقامه ولا يغنى عنه علم ولا فلسفة ولا مال ولا ولد ولا ملك المشرق والمغرب.
ورضي الله عن عمر إذ قال: "ما أصبت بمصيبة إلا كان لله علي فيها أربع نعم: أنها لم تكن في ديني ... وأنها لم تكن أكبر منها ... وأنني لم أحرم الرضا عند نزولها ... وأنني أرجو ثواب الله عليها".
أما الذي يعيش في دنياه بغير دين، بغير إيمان، يرجع إليه في أموره كلها وبخاصة إذا ادلهمت الخطوب، وتتابعت الكروب، والتبست على الناس المسالك والدروب، يستفتيه فيفتيه، ويسأله فيجيبه، ويستعينه فيعينه، ويمنحه المدد الذي لا يغلب، والعون الذي لا ينقطع الذي يعيش بغير هذا الإيمان يعيش مضطرب النفس، متحير الفكر، مبلبل الاتجاه، ممزق الكيان، شبهه بعض فلاسفة الأخلاق بحال "راقاياك" التعس، الذي يحكون عنه أنه اغتال الملك، فكان جزاؤه أن يربط من يديه ورجليه إلى أربعة من الجياد، ثم ألهب ظهر كل منها، لتتجه مسرعة، كل واحد منها إلى جهة من الجهات الأربع، حتى مزق جسمه شر ممزق!(1/141)
هذا التمزق الجسمي البشع مثل للتمزق النفسي الذي يعانيه من يحيا بغير دين، ولعل الثاني أقسى من الأول وأنكى في نظر العارفين المتعمقين، لأنه تمزق لا ينتهي أثره في لحظات، بل هو عذاب يطول مداه، ويلازم من نكب به طول الحياة.
ولهذا نرى الذين يعيشون بغير عقيدة راسخة يتعرضون أكثر من غيرهم للقلق النفسي، والتوتر العصبي، والاضطراب الذهني، وهم ينهارون بسرعة إذا صدمتهم نكبات الحياة، فإما انتحروا انتحارا سريعا، وإما عاشوا مرضى النفوس، أمواتا كالأحياء! على نحو ما قال الشاعر العربي قديما:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء!
إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء!
وهذا ما يقرره علماء النفس وأطباء العلاج النفسي في العصر الحديث وهو ما سجله المفكرون والنقاد في العالم كله.
يقول المؤرخ الفيلسوف "آرنولد توينبى" :
"الدين إحدى الملكات الضرورية الطبيعية البشرية، وحسبنا القول بأن افتقار المرء للدين يدفعه إلى حالة من اليأس الروحي، تضطره إلى التماس العزاء الديني على موائد لا تملك منه شيئا".
ويقول الدكتور "كارل بانج" في كتابه "الإنسان العصري يبحث عن نفسه" : "إن كل المرضى الذين استشاروني خلال الثلاثين سنة الماضية، من كل أنحاء العالم، كان سبب مرضهم هو نقص إيمانهم، وتزعزع عقائدهم ولم ينالوا الشفاء إلا بعد أن استعادوا إيمانهم".
ويقول "وليم جيمس" فيلسوف المنفعة والذرائع: "إن أعظم علاج للقلق ـ ولا شك ـ هو الإيمان".
ويقول الدكتور "بريال": "إن المرء المتدين حقا لا يعاني قط مرضا نفسيا".
ويقول "ديل كارنيجي" في كتابه "دع القلق وابدأ الحياة": "إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين، كفيلان بأن يقهرا القلق، والتوتر العصبي، وأن يشفيا من هذه الأمراض".(1/142)
وقد أفاض الدكتور "هنري لنك" في كتابه "العودة إلى الإيمان" في بيان ذلك والتدليل عليه بما لمسه وجربه من وقائع وفيرة، خلال عمله في العلاج النفسي.
لا بديل عن الدين :
ومن الناس من يتصور إمكان الاستغناء عن الدين بالعلم الحديث حينا، أو المذاهب الفكرية "الأيديولوجيات" الحديثة حينا آخر.
وكلا التصورين خطأ.
فقد بين الواقع الناطق أنه لا شيء يغني عن الدين، ويقوم بديلا عنه في أداء رسالته الضخمة في حياة الإنسان.
العلم ليس بديلا عن الدين:
أما العلم فليس بديلا عن الدين والإيمان بحال. فإن مجال العلم غير مجال الدين. وأريد بـ "العلم" هنا العلم بمفهومه الغربي المحدود، لا بمفهومه الإسلامي الشامل ـ الذي يشمل العلم بالظواهر الجزئية للكون، والعلم بحقائق الوجود الكبرى ـ أي ما يشمل علم الدنيا، وعلم الدين. فليس هو علم المادة وخواصها فحسب، بل العلم المتعلق بالكون والحياة والإنسان، وخالقها سبحانه.
العلم بالمفهوم الغربي لا يصلح بديلا عن الدين، لأن مهمة هذا العلم أن ييسر للإنسان أسباب الحياة، لا أن يفسر له ألغازها. العلم يعين الإنسان على حل مشكلة العيش، ولكنه لا يعينه على حل مشكلة الوجود وقضاياه الكبرى.
ولهذا نرى أعظم البلاد في عصرنا تقدما في العلم، وأخذا بأسبابه، يشكو أهلها من الفراغ الروحي، والقلق النفسي، والاضطراب الفكري، والشعور الدائم بالتفاهة والاكتئاب والضياع. ونرى شبابها ينقلبون بين شتى البدع الفكرية والسلوكية، ثائرين على آلية الحياة، ومادية الحضارة، وإن لم يهتدوا إلى المنهج السليم، والصراط المستقيم.
وهذا هو سر العوج والشذوذ والانحرافات، التي لمسها العالم كله في سلوك أولئك الشباب الحائرين، الذين يسمونهم "الخنافس" أو "الهيبيين" وأشباههم ممن ضاق ذرعهم بتفاهة العيش، وتمردوا على حضارة الغرب وإن نشأوا بين أحضانها.
إن العلم الحديث محدود الوسع، محدود القدرة، محدود المجال.(1/143)
في وسع العلم أن يمنح الإنسان الوسائل والآلات، ولكن ليس في وسعه ولا من اختصاصه أن يمنحه الأهداف والغايات، وما أتعس الإنسان إذا تكدست لديه الوسائل دون أن يعرف لنفسه هدفا ولا لحياته قيمة، إلا أهداف السباع في العدوان، أو أهداف البهائم في الأكل والسفاد. أما هدف رفيع يليق بمواهب الإنسان، وخصائص الإنسان، وكرامة الإنسان، فلا.
إن الدين وحده هو الذي يمنح الإنسان أهدافا عليا للحياة وغايات كبرى للوجود، ويجعل له فيه مهمة ورسالة، ولحياته قيمة واعتبارا، كما يمنحه القيم الخلقية والمثل العليا التي تحبسه عن الشر، وتحفزه على الخير، لغير منفعة مادية عاجلة.
لقد قوى العلم الجانب المادي في الإنسان إلى أبعد حد، ولكنه أضعف الجانب الروحي فيه إلى أدنى مستوى.
فقد أعطى العلم الإنسان جناحي طائر فحلق في الفضاء، وأعطاه خياشيم حوت فغاص في أعماق الماء، ولكنه لم يعطه قلب إنسان!
وحين يعيش الإنسان في الحياة بغير "قلب الإنسان" تستحيل أدوات العلم في يديه إلى مخالب وأنياب تقتل وترهب، وإلى معاول وألغام تنسف وتدمر.
تستحيل أدوات العلم إلى أسلحة ذرية، وقنابل نابالم، وغازات سامة، وأسلحة كيماوية، وجرثومية تنشر الموت والخراب عند استعمالها، وتشيع الذعر والخوف قبل استعمالها.
أجل قد استطاع العلم أن يضع قدم الإنسان على سطح القمر، ولكنه لم يملك أن يضع يده على سر وجوده وغاية حياته!
لقد اكتشف الإنسان بالعلم، "أشياء" كثيرة، ولكنه لم يكتشف حقيقة نفسه! أوصله علم القرن العشرين إلى القمر. ولكن لم يوصله إلى السعادة والطمأنينة على ظهر الأرض! جلب من هناك بعض الصخور والأتربة، ولكنه لم يجد هناك ما يخرجه من التعاسة والقلق والضياع في كوكبه!(1/144)
أصلح العلم ظاهر الإنسان، وعجز عن إصلاح باطنه، لم يستطع أن ينفذ إلى تلك "اللطيفة الربانية" المدركة الواعية، الشاعرة الحساسة، التي إذا صلحت صلح الإنسان كله، وإذا فسدت فسد الإنسان كله، ألا وهي القلب، أو النفس، أو الروح، سمها ما شئت، فهي حقيقة الإنسان!
أعطى العلم إنسان القرن العشرين سلاحا انتصر به على بعض قوى الطبيعة، ولم يعطه ما ينتصر به على نفسه: على شهواته، وشكه، وقلقه، وخوفه، وتخبطه، وصراعه الداخلي والاجتماعي.
لقد تقدم الطب الحديث والجراحة إلى أقصى حدودهما في هذا القرن، وبدأ الأطباء يقولون: إن العلم يستطيع القضاء على كل مرض غير الموت والشيخوخة!! ولكن الأمراض تكثر وتتشعب وتنتشر بسرعة مذهلة، ومنها "الأمراض العصبية" و"النفسية" التي هي نتائج وأعراض "التناقض" الشديد الذي يمر به الفرد والمجتمع. وسر ذلك أن العلم المادي ـ على سعته واكتشافاته ـ لم يعرف حقيقة الإنسان، الذي عرف المادة وقوانينها، ولكنه لم يعرف نفسه، ولا غرو أن كتب أحد أقطاب العلم "ألكسيس كاريل" في كتابه الشهير: "الإنسان ذلك المجهول".
ومن هنا حاول العلم الحديث أن يغذي كل الجوانب المادية في الجوانب المادية في الجسم الإنساني، ولكنه فشل في تغذية النفس الإنسانية مما فيها من شعور وأماني وإرادة . . . وكانت حصيلة ذلك جسما طويل القامة، قوي العضلات، ولكن الجانب الآخر ـ وهو أصل الإنسان ـ أصبح يعانى من أزمات لا حل لها.
لقد أكدت إحصائية: أن ثمانين في المائة (80%) من مرضى المدن الأمريكية الكبرى يعانون أمراضا ناتجة عن أزمات نفسية وعصبية من ناحية أو أخرى.
ويقول علم النفس الحديث: إن من أهم جذور هذه الأمراض النفسية: الكراهية والحقد والخوف والإرهاق واليأس والترقب والشك والآثرة والانزعاج من البيئة، وكل هذه الأعراض تتعلق مباشرة بالحياة المحرومة من الإيمان بالله.
الفلسفة ليست بديلا عن الدين:(1/145)
لقد تبين لنا أن إنسان العلم الحديث هو "ذلك المجهول" الذي لم يستطع العلم أن يسبر غوره، وأن يتعرف على حقيقته، وأن ينفذ إلى أعماقه، كما بين ذلك "ألكسيس كاريل" و "رينيه دوبو"، وغيرهما. لقد عرف العلم الجمادات أو المادة، وحللها واكتشف قوانينها، ولكنه عجز عن معرفة الإنسان، لأن الإنسان من التركيب والتعقيد بحيث لا يعرفه إلا من خلقه فسواه: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
ومادام العلم يجهل الإنسان، فلا يؤمل منه أن يحسن توجيهه وتربيته والتشريع له، بل بدا اليوم أن العلم ـ بعبارة أدق: تطبيقاته التكنولوجية ـ أصبح خطرا على فطرة الإنسان، وبيئة الإنسان.
و"إنسان الفلسفة" ليس أحسن حظا من إنسان العلم، والفلسفة رغم اهتمامها بالإنسان ـ منذ أنزلها "سقراط" من السماء إلى الأرض ووجه العقل الإنساني إلى محاولة اكتشاف ذاته: اعرف نفسك ـ لم تتفق على رأي في نظرتها إلى الإنسان: أهو روح أم مادة؟ جسم يفنى أم روح يبقى؟ عقل أم شهوة؟ ملاك أم شيطان؟ الأصل فيه الخير أم الشر؟ أهو إنسان كما نراه، أم ذئب مقنع؟ أو أناني أم غيري؟ أهو فردي أم جماعي؟ أهو ثابت أم متطور؟ أتجدي فيه التربية أم لا تجدي؟ أهو مختار أم مجبور؟
اختلفت الفلسفات في الإجابة عن هذه التساؤلات وتناقضت، فلا تستطيع أن تخرج منها بطائل، حتى قال شيخنا الدكتور عبد الحليم محمود ـ وهو أستاذ الفلسفة في كلية أصول الدين ـ قبل أن يكون شيخا للأزهر: "الفلسفة لا رأي لها، لأنها تقول الرأي وضده، والفكرة ونقيضها".
هنا نجد الفلسفة الإلهية مناقضة للفلسفة المادية، والفلسفة المثالية مناقضة للفلسفة الواقعية، وفلسفة الواجب معارضة لفلسفة المنفعة أو اللذة، إلى آخر ما نعرفه من تناقضات في الساحة الفلسفية، فهذا يثبت، وذاك ينفي، وهذا يبني، وذاك يهدم.(1/146)
ومن هنا لا تستطيع الفلسفة وحدها أن تهدى الإنسان سبيلا أو تشفي له غليلا، أو تمنحه منهجا يركن له ويطمئن إليه، ويقيم حياته على أساسه.
وأبعد الفلسفات عن هداية الإنسان وإسعاده هي الفلسفات المادية، التي تنكر أن للكون إلها، وأن للإنسان روحا، وأن وراء الدنيا آخرة. وعلى رأس هذه الفلسفات: الفلسفة الماركسية القائمة على المادة الجدلية، والتي تتبنى مقولة بعض الفلاسفة الماديين: ليس صوابا أن الله خلق الإنسان، بل الصواب أن الإنسان هو الذي خلق الله !!
ومثل ذلك: الفلسفات العبثية والعدمية والشكية، فكلها فلسفات تهدم ولا تبني. وتميت ولا تحيى.
ويبين شيخنا الدكتور دراز الفرق بين: الفلسفة والدين، فيرى أن الفلسفة فكرة هادئة باردة، أما الدين فهو قوة دافعة، فعالة، خلاقة، لا يقف فيسبيلها شيء في الكون إلا استهانت به أو تبلغ هدفها.
ذلك هو فصل ما بين الفلسفة والدين، غاية الفلسفة المعرفة، وغاية الدين الإيمان، مطلب الفلسفة فكرة جافة، ترتسم في صورة جامدة، ومطلب الدين روح وثابة، وقوة محركة.
لا نقول كما يقول كثير من الناس: إن الفلسفة تخاطب العقول، وإن الدين في كل أوضاعه لا يقنع بعمل العقل قليلا أو كثيرا حتى يضم إليه ركون القلب.
الفلسفة تعمل إذا في جانب من جوانب النفس، والدين يستحوذ عليها في جملها. ومن هنا يستنبط فرق دقيق بين الفلسفة والدين:
ذلك أن غاية الفلسفة نظرية، حتى في قسمها العملي، وغاية الدين عملية، حتى في جانبه العلمي، فأقصى مطالب الفلسفة أن تعرفنا الحق والخير ما هما؟ وأين هما؟ ولا يعنيها بعد ذلك موقفنا من الحق الذي تعرفه، والخير الذي تحدده. أما الدين فيعرفنا الحق لا لنعرفه فحسب، بل لنؤمن به ونحبه ونمجده، ويعرفنا الواجب لنؤديه ونوفيه، ونكمل نفوسنا بتحقيقه.(1/147)
ثم يبين شيخنا أن الدين حركة شعبية (ديمقراطية) عامة، والفلسفة حركة (أرستقراطية) خاصة. فالدين يسعى بطبيعته إلى الانتشار، والفلسفة تجنح إلى العزلة، داعية الدين وسط الجماهير، ورجل الفلسفة في برجه العاجي، فإذا رأيت فيلسوف يدعو إلى مذهبه فقد تغير وضعه، وتحولت فكرته إلى إيمان، وإذا رأيت مؤمنا لا يهتم إلا بنفسه فقد استحالت نار إيمانه إلى رماد.
تفنيد مقولة (الدين أفيون الشعب)
أما دعوى الماركسيين: أن الدين (أفيون الشعوب) يفعل في عقولها ما تفعله المخدرات بالأفراد، ويشغلهم عن حقوقهم المسلوبة، بأماني الآخرة، ويخضعهم لإرادة الظلمة والطغاة، فيطيعونهم وهم راضون ـ فهي دعوى مردودة ـ .
ذلك أن الدين الصحيح لا يخدر الشعب، ولا يلهيه عن المطالبة بحقه في الدنيا، استغراقا بطلب النعيم في الآخرة! الدين الصحيح لا يقر الظلم، ولا يرضى بالفساد والانحراف، فإن صح هذا الادعاء في شأن بعض الأديان، فلا يصح بحال في شأن الإسلام.
الإسلام في الحقيقة ثورة إنسانية كبرى، ثورة لتحرير الإنسان ـ كل إنسان ـ من العبودية والخضوع لغير خالقه. ثورة في عالم الفكر والضمير والشعور، وثورة في عالم الواقع والتطبيق.
وكان عنوان هذه الثورة هي هذه الكلمة العظيمة، كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" فكل مدع أو متعاط للألوهية في الأرض، بالقول أو بالفعل، هو مزور لا وجود له، ولا يستحق البقاء. وكل الذين زعموا لأنفسهم ـ أو زعم لهم بعض الناس ـ أنهم أرباب مع الله، أو من دون الله، يجب أن يسقطوا إلى الأبد، ويتواروا عن مسرح الحياة.
الناس إذن سواسية، لا يجوز أن يتعبد بعضهم بعضا، أو يطغى بعضهم على بعض، فإذا ظلم بعض الناس وطغى وأفسد، كان على الناس أن يعترضوا طريقه، ويأخذوا على يديه، وإلا كانوا شركاءه في الإثم واستحقاق العقوبة العادلة من الله .
يقول القرآن الكريم: (ولا تركنوا إلى الدين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون).(1/148)
ويقول: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديد العقاب).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده".
ويوجب على كل من رأى منكرا ـ أي ظلما أو فسادا أو انحرافا ـ أن يعمل على تغييره بكل ما يستطع من قوة: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإذ لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
والتغيير بالقلب ـ الذي هو أدنى الدرجات وأضعف الإيمان ـ ليس أمرا سلبيا تافها. إنها جمرة الغضب والكراهية للفساد والمنكر تتوهج وتتقد في الجوانح حتى تجد الفرصة للتغيير بالقول أو الفعل، باللسان أو اليد، وأدنى ثمراته العاجلة النفور من الظلمة والمفسدين والمقاطعة لهم، فلا يؤاكلهم ولا يشاربهم، ولا يجالسهم ولا يصاحبهم.
وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم مقاومة الظلم والفساد الداخلي، كمقاومة الغزو والعدوان الخارجي، كلاهما جهاد في سبيل الله، بل حين سئل: أي الجهاد أفضل؟ قال: "كلمة حق عند سلطان جائر". فاعتبر ذلك أفضل الجهاد وأعلاه.
فهذا دين يحرض على مقاومة الظلم حتى الموت، ويعد الميت في سبيل ذلك شهيدا في سبيل الله، بل في طليعة الشهداء المرموقين، بجوار حمزة بن عبد المطلب، سيد الشهداء، كما قال عليه الصلاة والسلام:
"سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه فقتله".
إن الإسلام يربي المسلم على الشعور بالكرامة وعزة النفس، ويجعل ذلك من خصائص الإيمان وآثاره: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، بل من خصائص الإنسانية ولوازمها: (ولقد كرمنا بني آدم).
ولهذا يبرأ الإسلام من كل من يرضى لنفسه بالذل والمهانة، ويصبر على القيد يوضع في رجله، أو الغل يوضع في عنقه دون أن يقاوم الظلم، أو يحاول التخلص منه، ولو بالهجرة إلى أرض الله الفسيحة. يقول القرآن:
((1/149)
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم، وساءت مصيرا).
و يرد الرسول صلى الله عليه وسلم منطق الإسلام الجبري أو السلبي لأحداث الحياة ووقائع الدهر، باسم الإيمان بالقدر. ويعتبر ذلك ضربا من العجز المذموم في دين الله. إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر، فقل: حسبي الله، ونعم الوكيل".
كره النبي صلى الله عليه وسلم من الرجل أن يواري عجزه بالحسبلة والحوقلة، بدل أن يواجه الأمر بما ينبغي له من الحكمة والتفطن. فذكر الله في غير موضعه عجز واستسلام.
ومن هنا جاء في وصاياه صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ... احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز.
وجاء في أدعيته التي علمها لبعض أصحابه: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال".
ففي هذا الدعاء استعاذة بالله تعالى من كل مظاهر الضعف التي تعتري الإنسان فتغلبه وتقهره وتذله.
ومثل ذلك ما جاء في دعاء القنوت الذي يرويه ابن مسعود، ويقرؤه الأحناف في صلاة الوتر كل ليلة: "اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك".. فانظر ما تحمله هذه العبارة : "ونخلع ونترك من يفجرك" من تحريض سافر على خلع ومقاومة كل ظالم فاجر، مهما تكن مكانته ومنصبه في الناس.(1/150)
فهل يقال في مثل هذا الدين الذي يدعو إلى الثورة على الباطل والضعف والعجز والعبودية، ويحرض على نصرة الحق والقوة والحرية ـ إنه أفيون الشعب: يخدره ويمنيه بنعيم الجنة، ليسكت على مظالم حياته الدنيا؟!!
لعل "ماركس" كان معذورا حين قال ما قال، لأنه لم يعرف الإسلام، ولم يعرف موقفه من الظلم والبغي والفساد، مع أن المنهج العلمي كان يلزمه ألا يصدر حكمه عاما شاملا إلا بعد استقراء كامل، ودراسة تامة لكل الأديان ـ أو للأديان الكبرى على الأقل ـ وأثرها في الأمم على مدار التاريخ، فإن لم يستطع كان عليه أن يحكم على الدين الذي عرفه لا على غيره. هذا هو مقتضى الأمانة العلمية، والمنهج العلمي.
***************
الباب الثاني - متى يكون البقاء للأصلح ؟
لا يكون البقاء للأصلح إلا في الحالات التالية :
1. عندما يكون هناك أناس يطبقون منهج الله بمعناه الشمولي ويضحون من أجله بكل غال ونفيس ويتحملون التبعات والأعباء فهؤلاء هم الذين يكتب الله على أيديهم النصر ويمكن لهم في الأرض :
قال تعالى في سورة الصافات { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ {171} إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ {172} وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ {173}
يقول السيد رحمه الله :(1/151)
والوعد واقع وكلمة الله قائمة . ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض ؛ وقام بناء الإيمان ، على الرغم من جميع العوائق ، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين ، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين . ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار . وذهبت سطوتهم ودولتهم ؛ وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل . تسيطر على قلوب الناس وعقولهم ، وتكيف تصوراتهم وأفهامهم . وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض . وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل ، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل . باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعث منها . وحقت كلمة الله لعباده المرسلين . إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون .
هذه بصفة عامة . وهي ظاهرة ملحوظة . في جميع بقاع الأرض . في جميع العصور .
وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله . يخلص فيها الجند ، ويتجرد لها الدعاة . إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل . ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار ، وقوى الدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة ، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها . ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله . والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه . الوعد بالنصر والغلبة والتمكين .
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية . سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة ؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان ؛ وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء . . ولكنها مرهونة بتقدير الله ، يحققها حين يشاء . ولقد تبطىء آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة . ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة ، ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين !(1/152)
ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله . ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى . فيكون ما يريده الله . ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون .
ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة ؛ وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة . وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام . وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام .
ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك ، وتدور عليهم الدائرة ، ويقسو عليهم الابتلاء ؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر . ولأن الله يهيىء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع ، وفي خط أطول ، وفي أثر أدوم .
لقد سبقت كلمة الله ، ومضت إرادته بوعده ، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد:
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون .
...........................
وقال تعالى في سورة الحج { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ {41}
يقول السيد رحمه الله :
الذين إن مكناهم في الأرض . .
فحققنا لهم النصر ، وثبتنا لهم الأمر . .
أقاموا الصلاة . .
فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به ، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين . . وآتوا الزكاة . .
فأدوا حق المال ، وانتصروا على شح النفس ، وتطهروا من الحرص ، وغلبوا وسوسة الشيطان ، وسدوا خلة الجماعة ، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج ، وحققوا لها صفة الجسم الحي - كما قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى . .
وأمروا بالمعروف . .(1/153)
فدعوا إلى الخير والصلاح ، ودفعوا إليه الناس . .
ونهوا عن المنكر . .
فقاوموا الشر والفساد ، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر وهي قادرة على تغييره ، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه . .
هؤلاء هم الذين ينصرون الله ، إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة ، معتزين بالله وحده دون سواه . وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين .
فهو النصر القائم على أسبابه ومقتضياته . المشروط بتكاليفه وأعبائه . . والأمر بعد ذلك لله ، يصرفه كيف يشاء ، فيبدل الهزيمة نصرا ، والنصر هزيمة ، عندما تختل القوائم ، أو تهمل التكاليف:
ولله عاقبة الأمور . .
إنه النصر الذي يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة . من انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة إلى الخير والصلاح . المنظور فيه إلى هذه الغاية التي يتوارى في ظلها الأشخاص والذوات ، والمطامع والشهوات . .
وهو نصر له سببه . وله ثمنه . وله تكاليفه . وله شروطه . فلا يعطى لأحد جزافا أو محاباة ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه . .
2. وكذلك عندما يكون الصراع بين الحق الجلي والباطل الجلي :
حتى لا يلتبس الأمر على الناس قال تعالى في سورة الأنبياء { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ {18}
وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى , فكذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض . فالسنة التي لا تتخلف أن يغلب الحق في النهاية وأن يزهق الباطل , لأن الحق قاعدة كونية وغلبته سنة إلهية:
(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) . .
وأن يحل الهلاك بالظالمين المكذبين , وينجي الله الرسل والمؤمنين:(ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين) . .(1/154)
وأن يرث الأرض عباد الله الصالحون:(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) . . (الظلال)
و(بل) للإضراب عن الحديث في موضوع اللهو ; والعدول عنه إلى الحديث في الواقع المقرر الذي تجري به السنة ويقتضيه الناموس . وهو غلبة الحق وزهوق الباطل .
والتعبير يرسم هذه السنة في صورة حسية حية متحركة . فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة . تقذف به على الباطل , فيشق دماغه !
فإذا هو زاهق هالك ذاهب . .
هذه هي السنة المقررة , فالحق أصيل في طبيعة الكون , عميق في تكوين الوجود . والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلا , طاريء لا أصالة فيه , ولا سلطان له , يطارده الله , ويقذف عليه بالحق فيدمغه . ولا بقاء لشيء يطارده الله ; ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه !
ولقد يخيل للناس أحيانا أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير . وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشا كأنه غالب , ويبدو فيها الحق منزويا كأنه مغلوب . وإن هي إلا فترة من الزمان , يمد الله فيها ما يشاء , للفتنة والابتلاء . ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض ; وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء .
والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده ; وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه ; وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه . . فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينا من الدهر عرفوا أنها الفتنة ; وأدركوا أنه الابتلاء ; وأحسوا أن ربهم يربيهم , لأن فيهم ضعفا أو نقصا ; وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر , وأن يجعلهم ستار القدرة , فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف . .
وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء , وحقق على أيديهم ما يشاء . أما العاقبة فهي مقررة: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) والله يفعل ما يريد .(1/155)
00000000000000000
وقال تعالى : الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) [النساء/141] .
وفي تفسير هذه الآية وردت رواية أن المقصود بهذا النص يوم القيامة . حيث يحكم الله بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل .
كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط الله الكافرين على المسلمين تسليط استئصال . وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحايين .
وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب , لأنه ليس فيه تحديد .
والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد . .
أما بالنسبة للدنيا , فإن الظواهر أحيانا قد توحي بغير هذا . ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق:
إنه وعد من الله قاطع . وحكم من الله جامع:أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين ; وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة , ونظاما للحكم , وتجردا لله في كل خاطرة وحركة , وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة . .
فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا . .
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها !
وأنا أقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك , أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين , ولم تلحق بهم في تاريخهم كله , إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان . إما في الشعور وإما في العمل - ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ; ثم يعود النصر للمؤمنين - حين يوجدون !(1/156)
ففي "أحد" مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الطمع في الغنيمة . وفي "حنين" كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل !
ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا . .
نعرفه أو لا نعرفه . .
أما وعد الله فهو حق في كل حين .
نعم . إن المحنة قد تكون للابتلاء . .
ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة , هي استكمال حقيقة الإيمان , ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أحد وقصه الله على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه ,جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين .
على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك . . إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح , وكلال العزيمة . فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس همودا وكلالا وقنوطا . فأما إذا بعثت الهمة , وأذكت الشعلة , وبصرت بالمزالق , وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق . .
فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد . ولو طال الطريق !
كذلك حين يقرر النص القرآني:
أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا . .
فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر ; والفكرة المؤمنة هي التي تسود . وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورا وشعورا ; وفي حياتها واقعا وعملا وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها . فالنصر ليس للعنوانات . إنما هو للحقيقة التي وراءها . .
وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان , إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان . ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك . .
ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة . ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء ; وألا نطلب العزة إلا من الله .
ووعد الله هذا الأكيد , يتفق تماما مع حقيقة الأيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون . .(1/157)
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى , التي لا تضعف ولا تفنى . .
وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها . .
ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية , أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا .
غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان . . إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية . ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل . وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها . .
ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن "حقيقة " الكفر تغلبه , إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها . .لأن حقيقة أي شيء أقوى من "مظهر" أي شيء . ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان !
إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق . وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل . مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون . .
(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) . .
ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا . .
0000000000000000000
وقال تعالى في سورة آل عمران { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ {195}
وهي استجابة مفصلة , وتعبير مطول , يتناسق مع السمة الفنية للتعبير القرآني ; وفق مقتضى الحال , ومتطلبات الموقف , من الجانب النفسي والشعوري .(1/158)
ثم نخلص لمحتويات هذه الاستجابة الإلهية , ودلالتها على طبيعة هذا المنهج الإلهي ومقوماته , ثم على طبيعة منهج التربية الإسلامية وخصائصه . .
إن أولي الألباب هؤلاء , تفكروا في خلق السماوات والأرض , وتدبروا اختلاف الليل والنهار , وتلقوا من كتاب الكون المفتوح , واستجابت فطرتهم لإيحاء الحق المستكن فيه , فاتجهوا إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع الواجف الطويل العميق . . ثم تلقوا الاستجابة من ربهم الكريم الرحيم , على دعائهم المخلص الودود . . فماذا كانت الاستجابة ?
لقد كانت قبولا للدعاء , وتوجيها إلى مقومات هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في آن:
(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم . . من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) . .
إنه ليس مجرد التفكر ومجرد التدبر . وليس مجرد الخشوع والارتجاف . وليس مجرد الاتجاه إلى الله لتكفير السيئات والنجاة من الخزي ومن النار . .
إنما هو "العمل" . العمل الإيجابي , الذي ينشأ عن هذا التلقي , وعن هذه الاستجابة , وعن هذه الحساسية الممثلة في هذه الارتجافة . العمل الذي يعتبره الإسلام عبادة كعبادة التفكر والتدبر , والذكر والاستغفار , والخوف من الله , والتوجه إليه بالرجاء . بل العمل الذي يعتبره الإسلام الثمرة الواقعية المرجوة لهذه العبادة , والذي يقبل من الجميع:ذكرانا وإناثا بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس . فكلهم سواء في الإنسانية - بعضهم من بعض - وكلهم سواء في الميزان . .
ثم تفصيل للعمل , تتبين منه تكاليف هذه العقيدة في النفس والمال ; كما تتبين منه طبيعة المنهج , وطبيعة الأرض التي يقوم عليها , وطبيعة الطريق وما فيه من عوائق وأشواك , وضرورة مغالبة العوائق , وتكسير الأشواك , وتمهيد التربة للنبتة الطيبة , والتمكين لها في الأرض , أيا كانت التضحيات , وأيا كانت العقبات:
((1/159)
فالذين هاجروا , وأخرجوا من ديارهم , وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا . لأكفرن عنهم سيئاتهم , ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ثوابا من عند الله , والله عنده حسن الثواب) .
وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أول مرة . الذين هاجروا من مكة , وأخرجوا من ديارهم , في سبيل العقيدة , وأوذوا في سبيل الله لا في أي غاية سواه , وقاتلوا وقتلوا . .
ولكنها صورة أصحاب هذه العقيدة في صميمها . .
في كل أرض وفي كل زمان . .
صورتها وهي تنشأ في الجاهلية - أية جاهلية - في الأرض المعادية لها - أية أرض - وبين القوم المعادين - أي قوم - فتضيق بها الصدور , وتتأذى بها الأطماع والشهوات , وتتعرض للأذى والمطاردة , وأصحابها - في أول الأمر - قلة مستضعفة . .
ثم تنمو النبتة الطيبة - كما لا بد أن تنمو - على الرغم من الأذى , وعلى الرغم من المطاردة , ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها . فيكون القتال , ويكون القتل . .
وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيئات , ويكون الجزاء ويكون الثواب .
هذا هو الطريق . .
طريق هذا المنهج الرباني , الذي قدر الله أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري , وعن طريق هذا الجهد , وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله . ابتغاء وجه الله .
وهذه هي طبيعة هذا المنهج , ومقوماته , وتكاليفه . .
ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية , وطريقته في التوجيه , للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله ; إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقا للمنهج الذي أراده الله .
ثم التفاتة واقعية إلى الفتنة المستكنة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفار والعصاة والمعادين لمنهج الله .(1/160)
التفاتة لإعطاء هذا المتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة , حتى لا يكون فتنة لأصحابه , ثم كي لا يكون فتنة للمؤمنين , الذي يعانون ما يعانون , من أذى وإخراج من الديار , وقتل وقتال:
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . .
ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها نزلا من عند الله . وما عند الله خير للأبرار) . .
وتقلب الذين كفروا في البلاد , مظهر من مظاهر النعمة والوجدان , ومن مظاهر المكانة والسلطان , وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين ; وهم يعانون الشظف والحرمان , ويعانون الأذى والجهد , ويعانون المطاردة أو الجهاد . .
وكلها مشقات وأهوال , بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ! . .
ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة , وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء , والباطل وأهله في منجاة , بل في مسلاة !
ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ; فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد .
هنا تأتي هذه اللمسة:
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) .
متاع قليل . .
ينتهي ويذهب . .
أما المأوى الدائم الخالد , فهو جهنم . .
وبئس المهاد !
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله:
(جنات تجري من تحتها الأنهار) . .
(خالدين فيها) . .
(نزلا من عند الله) . .
(وما عند الله خير للأبرار) . .
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة , وهذا النصيب في كفة , أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان . وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب !(1/161)
إن الله - سبحانه - في موضع التربية , وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر , ولا يعدهم بقهر الأعداء , ولا يعدهم بالتمكين في الأرض , ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة . .
مما يعدهم به في مواضع أخرى , ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا . هو (ما عند الله) . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة:التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية , ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون , ويكلوا أمرها إليه , وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة:عطاء ووفاء وأداء . .
فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض , وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . .
ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر , ويقع التمكين , ويقع الاستعلاء . .
ولكن هذا ليس داخلا في البيعة . ليس جزءا من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . .
والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ; ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية , إلا حين تجردوا هذا التجرد , ووفوا هذا الوفاء:(1/162)
قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ليلة العقبة [ ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه صلى الله عليه وسلم على الهجرة إليهم ]:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " . . قالوا:ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل . .
هكذا . . "الجنة " . .
والجنة فقط !
لم يقل . . النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا . . ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . .
لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ; أنهي أمرها , وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها !
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض , وزمام القيادة , وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها , وكل رغباتها , وكل شهواتها , حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها , والمنهج الذي تحققه , والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه , أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة . ( الظلال)
3. عندما يكون الصراع بين القلة المؤمنة المستضعفة وبين الكثرة الكافرة كما كان بين الأنبياء ومن معهم من المؤمنين وبين الكفار فمن الذي انتصر ؟(1/163)
قال تعالى في سورة القمر { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ {9} فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ {10} فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ {11} وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ {12} وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ {13} تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ {14} وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ {15} فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {16} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ {17} كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {18} إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ {19} تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ {20} فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {21} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ {22} كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ {23} فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ {24} أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ {25} سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ {26} إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ {27}وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ {28} فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ {29} فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {30} إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ {31} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ {32} كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ {33} إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ(1/164)
حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ {34} نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ {35} وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ {36} وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ {37} وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ {38} فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ {39} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ {40} وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ {41} كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ {42} أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ {43} أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ {44} سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ {45}
000000000000000
وقال تعالى في سورة هود تعقيبا على هلاك الكافرين { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْك مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ {100} وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ {101} وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ {102} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ {103} وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ {104}
فما كان لك به من علم , إنما هو الوحي ينبئك بهذا الغيب المطمور . وذلك بعض أغراض القصص في القرآن . (منها قائم) . .(1/165)
لا تزال آثاره تشهد بما بلغ أهله من القوة والعمران , كبقايا عاد في الأحقاف وبقايا ثمود في الحجر . ومنها(حصيد) كالزرع المحصود . اجتث من فوق الأرض وتعرى وجهها منه , كما حل بقوم نوح أو قوم لوط . وما الأقوام ? وما العمران ? . .
إن هي إلا حقول من الأناسي كحقول النبات . غرس منها يزكو وغرس منها خبيث ! غرس منها ينمو وغرس منها يموت !
(وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) . .
فهم قد عطلوا مداركهم , وتولوا عن الهدى , وكذبوا بالآيات , واستهزأوا بالوعيد , فصاروا إلى ما صاروا إليه ظالمين لأنفسهم لا مظلومين .
(فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك , وما زادوهم غير تتبيب) .
وهذا غرض آخر من أغراض هذا القصص . فقد افتتحت السورة بإنذار الذين يدينون لغير الله سبحانه ; وتكرر الإنذار مع كل رسول ; وقيل لهم:
إن هذه الأرباب المفتراة لا تعصمهم من الله . .
فها هي ذي العاقبة تصدق النذر . فلا تغني عنهم آلهتهم شيئا , ولا تدفع عنهم العذاب لما جاء أمر ربك , بل ما زادهم هؤلاء الآلهة إلا خسارة ودمارا . [ ولفظ تتبيب أقوى ببنائه اللفظي وجرسه المشدد ] ذلك أنهم اعتمدوا عليهم , فزادوا استهتارا وتكذيبا . فزادهم الله نكالا وتدميرا . فهذا معنى (ما زادوهم) فهم لا يملكون لهم ضرا كما أنهم لا يملكون لهم نفعا . ولكن بسببهم كانت الخسارة المضاعفة والتدمير المضاعف والنكال الشديد . .
(وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة) . . .
كذلك الذي قصصناه عليك , وبمثل هذا الدمار والنكال يأخذ ربك القرى حين يأخذها وهي ظالمة . .
ظالمة:مشركة حين تدين لغير الله بالربوبية , وظالمة لنفسها بالشرك والفساد في الأرض والإعراض عن دعوة التوحيد والصلاح . وقد ساد فيها الظلم وسيطر الظالمون .
(إن أخذه أليم شديد) . .(1/166)
بعد الإمهال والمتاع والابتلاء , وبعد الإعذار بالرسل والبينات , وبعد أن يسود الظلم في الأمة ويسيطر الظالمون . ويتبين أن دعاة الحق المصلحين قلة منعزلة لا تأثير لها في حياة الجماعة الظالمة السادرة في الضلال . . ثم . . بعد أن تفاصل العصبة المؤمنة قومها السادرين في الضلال ; وتعتبر نفسها أمة وحدها لها دينها ولها ربها ولها قيادتها المؤمنة ولها ولاؤها الخاص فيما بينها . وتعلن الأمة المشركة من قومها بهذا كله , وتدعها تلاقي مصيرها الذي يقدره الله لها . وفق سنته التي لا تتخلف على مدار الزمان .
ذلك الأخذ الأليم الشديد في الدنيا علامة على عذاب الآخرة , يراها من يخافون عذاب الآخرة , أي الذين تفتحت بصائرهم ليدركوا أن الذي يأخذ القرى بظلمها في هذه الحياة سيأخذها بذنوبها في الآخرة , فيخافوا هذا العذاب . .
وهنا يعبر السياق بالقلب البشري من مشاهد الأرض إلى مشاهد القيامة على طريقة القرآن في وصل الرحلتين بلا فاصل في السياق:
(إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة . ذلك يوم مجموع له الناس , وذلك يوم مشهود . وما نؤخره إلا لأجل معدود . يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه , فمنهم شقي وسعيد . فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق . خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض - إلا ما شاء ربك - إن ربك فعال لما يريد . وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض - إلا ما شاء ربك - عطاء غير مجذوذ) . .
(إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة) . .
ففي ذلك الأخذ الأليم الشديد مشابه من عذاب الآخرة , تذكر بهذا اليوم وتخيف . .
وإن كان لا يراها إلا الذين يخافون الآخرة فتتفتح بصائرهم بهذه التقوى التي تجلو البصائر والقلوب . .(1/167)
والذين لا يخافون الآخرة تظل قلوبهم صماء لا تتفتح للآيات , ولا تحس بحكمة الخلق والإعادة , ولا ترى إلا واقعها القريب في هذه الدنيا , وحتى العبر التي تمر في هذه الحياة لا تثير فيها عظة ولا فهما . ( الظلال)
00000000000000000
و النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه ومع اليهود ومع العرب فمن الذي انتصر ؟
المسلمون وأعدائهم عبر التاريخ كما في بدر القادسية ، عين جالوت ،0000
الحركات التحررية اليوم كلها(انطلقت من المساجد ضد أعتى الدول فمن الذي انتصر ؟
قال تعالى في سورة البقرة { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ {249}وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {250} فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {251} تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {252
يقول السيد رحمه الله :
هكذا . .
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة . .(1/168)
بهذا التكثير . فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله .
القاعدة:
أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار . ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى ؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة . قوة الله الغالب على أمره ، القاهر فوق عباده ، محطم الجبارين ، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين .
وهم يكلون هذا النصر لله: بإذن الله . .
ويعللونه بعلته الحقيقية: والله مع الصابرين . .
فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل . .
ونمضي مع القصة . فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله ، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء ، وتستمد قوتها كلها من إذن الله ، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله ، وأنه مع الصابرين . .
إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة ، الثابتة ، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته ، مع ضعفها وقلتها . .
إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة . بعد أن تجدد عهدها مع الله ، وتتجه بقلوبها إليه ، وتطلب النصر منه وحده ، وهي تواجه الهول الرعيب:
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا:
ربنا أفرغ علينا صبرا ، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين . فهزموهم بإذن الله ، وقتل داود جالوت ، وآتاه الله الملك والحكمة ، وعلمه مما يشاء . .
هكذا . .
ربنا أفرغ علينا صبرا . .
وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضا من الله يفرغه عليهم فيغمرهم ، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالا للهول والمشقة . وثبت أقدامنا . .
فهي في يده - سبحانه - يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد . وانصرنا على القوم الكافرين . .
فقد وضح الموقف . .
إيمان تجاه كفر . وحق إزاء باطل . ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين . فلا تلجلج في الضمير ، ولا غبش في التصور ، ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق .(1/169)
وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها:
فهزموهم بإذن الله . .
ويؤكد النص هذه الحقيقة: بإذن الله . .
ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علما . وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون ، ولطبيعة القوة التي تجريه . .
إن المؤمنين ستار القدرة ؛ يفعل الله بهم ما يريد ، وينفذ بهم ما يختار . .
بإذنه . . ليس لهم من الأمر شيء ، ولا حول لهم ولا قوة ، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته ، فيكون منهم ما يريده بإذنه . .
وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين . .
إنه عبد الله . اختاره الله
لدوره . وهذه منة من الله وفضل . وهو يؤدي هذا الدور المختار ، ويحقق قدر الله النافذ . ثم يكرمه الله - بعد كرامة الاختيار - بفضل الثواب . .
ولولا فضل الله ما فعل ، ولولا فضل الله ما أثيب . .
ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق . .
فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي ، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد . استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص .
? لا بد من الصراع بين الحق والباطل:
قال تعالى في سورة البقرة { فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {251} تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {252}
يقول السيد رحمه الله :(1/170)
وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض من اصطراع القوى وتنافس الطاقات وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموار . وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف تموج بالناس ، في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات . . ومن ورائها جميعا تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعا ، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق ، إلى الخير والصلاح والنماء ، في نهاية المطاف . .
لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض . ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة ، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع ، فتنفض عنها الكسل والخمول ، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة ، وتظل أبدا يقظة عاملة ، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة . .
وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء . .
يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة . تعرف الحق الذي بينه الله لها . وتعرف طريقها إليه واضحا . وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض . وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل ، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه . .
وهنا يمضي الله أمره ، وينفذ قدره ، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا ، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية ، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه . وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدر لها في الحياة .
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر . ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض ، وتمكين الصلاح في الحياة . إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار
00000000000000000(1/171)
وقال تعالى في سورة الحج { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ {39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40}
يقول السيد رحمه الله :
إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة . وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة ! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة . يبتلي الطائعين والعصاة سواء . بهذه وبذاك سواء . . والمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر ، ويبتلى بالرخاء فيشكر . ويكون أمره كله خيرا . .
وفي الحديث: عجبًا للمؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له [ رواه مسلم ] .
فأما هذه الأمم التي كذبت بالرسل ، والتي يقص الله من أنبائها هنا . فإنهم لما نسوا ما ذكروا به ، وعلم الله - سبحانه - أنهم مهلكون ، وابتلاهم بالبأساء والضراء فلم يتضرعوا . .
فأما هؤلاء فقد فتح عليهم أبواب كل شيء للاستدراج بعد الابتلاء . .
والتعبير القرآني: فتحنا عليهم أبواب كل شيء . . يصور الأرزاق والخيرات ، والمتاع ، والسلطان . . متدفقة كالسيول ؛ بلا حواجز ولا قيود ! وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولا كد ولا حتى محاولة !
إنه مشهد عجيب ؛ يرسم حالة في حركة ؛ على طريقة التصوير القرآني العجيب .
حتى إذا فرحوا بما أوتوًا . .(1/172)
وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة ؛ واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها - بلا شكر ولا ذكر - وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه ؛ وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات ، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع . وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع ، بعد فساد القلوب والأخلاق ؛ وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها . .
عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل:
أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون . .
فكان أخذهم على غرة ؛ وهم في سهوة وسكرة . فإذا هم حائرون منقطعو الرجاء في النجاة عاجزون عن التفكير في أي اتجاه . وإذا هم مهلكون بجملتهم حتى آخر واحد منهم .
فقطع دابر القوم الذين ظلموًا . .
ودابر القوم هو آخر واحد منهم يدبرهم أي يجيء على أدبارهم فإذا قطع هذا فأوائلهم أولى ! . .
و الذين ظلموا تعني هنا الذين أشركوا . .
كما هو التعبير القرآني في أغلب المواضع عن الشرك بالظلم وعن المشركين بالظالمين . .
والحمد لله رب العالمين . .
تعقيب على استئصال الظالمين [ المشركين ] بعد هذا الاستدراج الإلهي والكيد المتين . .
وهل يحمد الله على نعمة ، أجل من نعمة تطهير الأرض من الظالمين ، أو على رحمة أجل من رحمته لعباده بهذا التطهير ؟
لقد أخذ الله قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط ، كما أخذ الفراعنة والإغريق والرومان وغيرهم بهذه السنة ؛ ووراء ازدهار حضارتهم ثم تدميرها ، ذلك السر المغيب من قدر الله ؛ وهذا القدر الظاهر من سنته ؛ وهذا التفسير الرباني لهذا الواقع التاريخي المعروف .(1/173)
ولقد كان لهذه الأمم من الحضارة ؛ وكان لها من التمكين في الأرض ؛ وكان لها من الرخاء والمتاع ؛ ما لا يقل - إن لم يزد في بعض نواحيه - عما تتمتع به اليوم أمم ؛ مستغرقة في السلطان والرخاء والمتاع ؛ مخدوعة بما هي فيه ؛ خادعة لغيرها ممن لا يعرفون سنة الله في الشدة والرخاء . .
هذه الأمم لا تدرك أن هناك سنة ، ولا تشعر أن الله يستدرجها وفق هذه السنة . والذين يدورون في فلكها يبهرهم اللألاء الخاطف ، ويتعاظمهم الرخاء والسلطان ، ويخدعهم إملاء الله لهذه الأمم ، وهي لا تعبد الله أو لا تعرفه ، وهي تتمرد على سلطانه ، وهي تدعي لأنفسها خصائص ألوهيته ، وهي تعيث في الأرض فسادا ، وهي تظلم الناس بعد اعتدائها على سلطان الله . .
ولقد كنت - في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية - أرى رأي العين مصداق قول الله سبحانه: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء . . فإن المشهد الذي ترسمه هذه الآية . . مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب ! . .
لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك !
وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه ، وشعورهم بأنه وقف على "الرجل الأبيض" وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة ، وفي وحشية كذلك بشعة !
وفي صلف على أهل الأرض كلهم لا يقاس إليه صلف النازية الذي شهر به اليهود في الأرض كلها حتى صار علما على الصلف العنصري . بينما الأمريكي الأبيض يزاوله تجاه الملونين في صورة أشد وأقسى ! وبخاصة إذا كان هؤلاء الملونون من المسلمين . .
كنت أرى هذا كله فأذكر هذه الآية ، وأتوقع سنة الله ، وأكاد أرى خطواتها وهي تدب إلى الغافلين:
حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين . .(1/174)
وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فهناك ألوان من العذاب باقية . والبشرية - وبخاصة الأمم التي فتحت عليها أبواب كل شيء - تذوق منها الكثير . على الرغم من هذا النتاج الوفير ، ومن هذا الرزق الغزير !
إن العذاب النفسي ، والشقاء الروحي ، والشذوذ الجنسي ، والانحلال الخلقي . . الذي تقاسي منه هذه الأمم اليوم ، ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع ؛ وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء ! ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية ، التي تباع فيها أسرار الدولة ، وتقع فيها الخيانة للأمة ، في مقابل شهوة أو شذوذ . .
وهي طلائع لا تخطى ء على نهاية المطاف !
وليس هذا كله إلا بداية الطريق . .
وصدق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال: إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا - على معاصيه - ما يحب . فإنما هو استدراج . .
ثم تلا: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء . حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . . [ رواه ابن جرير ، وابن أبى حاتم ] .
غير أنه ينبغي ، مع ذلك ، التنبية إلى أن سنة الله في تدمير [ الباطل ] أن يقوم في الأرض [ حق ] يتمثل في [ أمة ] . .
ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغة فإذاهو زاهق . .
فلا يقعدن أهل الحق كسالى يرتقبون
أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولا كد . فإنهم حينئذ لا يمثلون الحق ، ولا يكونون أهله . .
وهم كسالى قاعدون . . .
والحق لا يتمثل إلا في أمة تقوم لتقر حاكمية الله في الأرض ، وتدفع المغتصبين لها من الذين يدعون خصائص الألوهية . .
هذا هو الحق الأول ، والحق الأصيل . .
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . . ( الظلال)
***************
ويقول أيضا :
ولا بد من وقفة أمام هذه النصوص القليلة الكلمات العميقة الدلالة ، وما وراءها من أسرار في عالم النفس وعالم الحياة .(1/175)
إن الله يبدأ الإذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون ، واعتدى عليهم المبطلون ، بأن الله يدافع عن الذين آمنوا ، وأنه يكره المعتدين عليهم من الكفار الخائنين:
إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور . .
فقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم . ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتما من عدوه ، ظاهر حتما على عدوه . .
ففيم إذن يأذن لهم بالقتال ؟
وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد ؟
وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح ، والجهد والمشقة ، والتضحية والآلام . . .
والعاقبة معروفة ، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة ، ولا تضحية ولا ألم ، ولا قتل ولا قتال ؟
والجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا ، وأن لله الحجة البالغة . .
والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من "التنابلة " الكسالى ، الذين يجلسون في استرخاء ، ثم يتنزل عليهم نصره سهلا هينا بلا عناء ، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء ، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء !
نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة ، وأن يرتلوا القرآن ، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء . ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها ؛ إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة . والذخيرة التي يدخرونها للموقعة ، والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله .
لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة . فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر ؛ وهي تدفع وتدافع ، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة . .(1/176)
عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدي دورها ؛ ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة ؛ ولتؤتي أقصى ما تملكه ، وتبذل آخر ما تنطوي عليه ؛ وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال .
والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها ، واحتشاد كل قواها ، وتوفز كل استعدادها ، وتجمع كل طاقاتها ، كي يتم نموها ، ويكمل نضجها ، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها .
والنصر السريع الذي لا يكلف عناء ، والذي يتنزل هينا لينا على القاعدين المستريحين ، يعطل تلك الطاقات عن الظهور ، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها .
وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه . أولا لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة . وثانيا لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تحشد طاقاتهم وتشحد لكسبه . فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه .
وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة ، والكر والفر ، والقوة والضعف والتقدم والتقهقر . ومن المشاعر المصاحبة لها . . من الأمل والألم . ومن الفرح والغم ، ومن الاطمئنان والقلق . ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة . .
ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجاهات في ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة ، وتدبير الأمور في جميع الحالات . .
وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة وتقوم عليها وعلى الناس .
من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله . .
جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم ؛ ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء .
والنصر قد يبطئ على الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا:
ربنا الله . فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله .(1/177)
قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها ، ولم يتم بعد تمامها ، ولم تحشد بعد طاقاتها ، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات . فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكا لعدم قدرتها على حمايته طويلا !
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة ، وآخر ما تملكه من رصيد ، فلا تستبقي عزيزا ولا غالبا ، لا تبذله هينا رخيصا في سبيل الله .
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها ، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر . إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهي تعاني وتتألم وتبذل ؛ ولا تجد لها سندا إلا الله ، ولا متوجها إلا إليه وحده في الضراء . وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله . فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله .
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه ، أو تقاتل حمية لذاتها ، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله ، بريئا من المشاعر الأخرى التي تلابسه . وقد سئل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى . فأيها في سبيل الله . فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .
كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير ، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصا ، ويذهب وحده هالكا ، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار !(1/178)
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماما . فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه ، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله ؛ فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة . فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريا للناس ، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية !
وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار . فيظل الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستبقائه !
من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله ، قد يبطئ النصر ، فتتضاعف التضحيات ، وتتضاعف الآلام . مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية .
وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه ، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه:
وقال تعالى في سورة البقرة { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ {214}
يقول السيد رحمه الله :(1/179)
هذه هي سنة الله القديمة ، في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة ، وليكونوا لها أهلا:أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم ؛ وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر ؛ وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة ؛ حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم ، لم تزعزعهم شدة ، ولم ترهبهم قوة ، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة . . استحقوا نصر الله ، لأنهم يومئذ أمناء على دين الله ، مأمونون على ما ائتمنوا عليه ، صالحون لصيانته والذود عنه . واستحقوا الجنة لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف وتحررت من الذل ، وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة والرخاء . فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة ، وارفع ما تكون عن عالم الطين:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه:متى نصر الله ؟
ألا إن نصر الله قريب . .
هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى ، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها ، وإلى سنته - سبحانه - في تربية عباده المختارين ، الذين يكل إليهم رايته ، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته . وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم . .
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة . .
إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه . من الرسول الموصول بالله ، والمؤمنين الذين آمنوا بالله . إن سؤالهم: متى نصر الله ؟
ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة . ولن تكون إلا محنة فوق الوصف ، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب ، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب:
متى نصر الله ؟ . .
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة . .
عندئذ تتم كلمة الله ، ويجيء النصر من الله:
ألا إن نصر الله قريب . .(1/180)
إنه مدخر لمن يستحقونه . ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية . الذين يثبتون على البأساء والضراء . الذين يصمدون للزلزلة . الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة . الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله ، وعندما يشاء الله . وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها ، فهم يتطلعون فحسب إلى نصر الله ، لا إلى أي حل آخر ، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله . ولا نصر إلا من عند الله .
بهذا يدخل المؤمنون الجنة ، مستحقين لها ، جديرين بها ، بعد الجهاد والامتحان ، والصبر والثبات ، والتجرد لله وحده ، والشعور به وحده ، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه .
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ، ويرفعها على ذواتها ، ويطهرها في بوتقة الألم ، فيصفو عنصرها ويضيء ، ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية ، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها . وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجا كما وقع ، وكما يقع في كل قضية حق ، يلقي أصحابها ما يلقون في أول الطريق ، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين . .
على أنه - حتى إذا لم يقع هذا - يقع ما هو أعظم منه في حقيقته . يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها ، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة ، والحرص على الحياة نفسها في النهاية . . وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها ، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء . كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون ، والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته .
وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف . .
وهذا هو الطريق . .
هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى ، وللجماعة المسلمة في كل جيل .
هذا هو الطريق:إيمان وجهاد . .
ومحنة وابتلاء . وصبر وثبات . .
وتوجه إلى الله وحده . ثم يجيء النصر . ثم يجيء النعيم . .(1/181)
? ليست العبرة بكثرة العدد والعدد (وإن كان ذلك مطلوبا شرعا)) :
قال تعالى في سورة الأنفال { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ {60}) وقال تعالى في سورة الأنفال { } يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ {65} الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ {66}
يقول السيد رحمه الله :
ويقف الفكر ليستعرض القوة التي لا راد لها ، ولا معقب عليها - قوة الله القوي العزيز - وأمامها تلك القوة الضئيلة العاجزة الهزيلة - التي تتصدى لكتائب الله - فإذا الفرق شاسع ، والبون بعيد . وإذا هي معركة مضمونة العاقبة ، معروفة النهاية ، مقررة المصير . .
وهذا كله يتضمنه قوله تعالى:
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين . .
ومن ثم يأتي الأمر بتحريض المؤمنين على القتال - في سبيل الله - وقد تهيأت كل نفس ، واستعد كل قلب وشد كل عصب ، وتحفز كل عرق ؛ وانسكبت في القلوب الطمأنينة والثقة واليقين:
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال . .
حرضهم وهم لعدوهم وعدو الله كفء ، وإن قل عددهم وكثر أعداؤهم وأعداء الله حولهم:
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين ، وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا . .(1/182)
فأما تعليل هذا التفاوت فهو تعليل مفاجيء عجيب . ولكنه صادق عميق:
بأنهم قوم لا يفقهون . .
فما صلة الفقه بالغلب في ظاهر الأمر ؟
ولكنها صلة حقيقية ، وصلة قوية . .
إن الفئة المؤمنة إنما تمتاز بأنها تعرف طريقها ، وتفقه منهجها ، وتدرك حقيقة وجودها وحقيقة غايتها .
إنها تفقه حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ؛ فتفقه أن الألوهية لا بد أن تنفرد وتستعلي ، وأن العبودية يجب أن تكون لله وحده بلا شريك . وتفقه أنها هي - الأمة المسلمة - المهتدية بهدى الله ، المنطلقة في الأرض بإذن الله لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ؛ وأنها هي المستخلفة عن الله في الأرض ؛ الممكنة فيها لا لتستعلي هي تستمع ؛ ولكن لتعلي كلمة الله وتجاهد في سبيل الله ؛ ولتعمر الأرض بالحق ؛ وتحكم بين الناس بالقسط ؛ وتقيم في الأرض مملكة الله التي تقوم على العدل بين الناس
وكل ذلك فقه يسكب في قلوب العصبة المسلمة النور والثقة والقوة واليقين ؛ ويدفع بها إلى الجهاد في سبيل الله في قوة وفي طمأنينة للعاقبة تضاعف القوة . بينما أعداؤها قوم لا يفقهون . قلوبهم مغلقة ، وبصائرهم مطموسة ؛ وقوتهم كليلة عاجزة مهما تكن متفوقة ظاهرة . إنها قوة منقطعة معزولة عن الأصل الكبير !
وهذه النسبة . . واحد لعشرة . .
هي الأصل في ميزان القوى بين المؤمنين الذين يفقهون والكافرين الذين لا يفقهون . .
وحتى في أضعف حالات المسلمين الصابرين فإن هذه النسبة هي:واحد لاثنين:
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ، والله مع الصابرين . .(1/183)
وقد فهم بعض المفسرين والفقهاء أن هذه الآيات تتضمن أمراً للذين آمنوا ألا يفر الواحد منهم من عشرة في حالة القوة ، وألا يفر الواحد من اثنين في حالة الضعف . . وهناك خلافات فرعية كثيرة لا ندخل نحن فيها . . فالراجح عندنا أن الآيات إنما تتضمن حقيقة في تقدير قوة المؤمنين في مواجهة عدوهم في ميزان الله وهو الحق ؛ وأنها تعريف للمؤمنين بهذه الحقيقة لتطمئن قلوبهم ، وتثبت أقدامهم ؛ وليست أحكاماً تشريعية - فيما نرجح - والله أعلم بما يريد .
والمسلمون عبر التاريخ كانوا أقل عددا وعدة ومع هذا انتصروا على عدوهم انتصارات باهرة ونادرة حتى فتحوا نصف العمورة قبل نهاية القرن الهجري الأول
**********************
الباب الثالث - أسباب النصر :
وهي كثيرة جدا وهذه أهمها :
? الإيمان والعمل الصالح
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (277) سورة البقرة
وقال تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (9) سورة يونس
وقال تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (96) سورة مريم
? الثبات والإكثار من ذكر الله وطاعة الله ورسوله وعدم التنازع والصبر وعدم البطر والرياء والغرور(1/184)
قال تعالى في سورة الأنفال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ {45}وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {46} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {47} وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ {48}
وفي هذه الفقرات القليلة تحتشد معان وإيحاءات , وقواعد وتوجيهات , وصور ومشاهد ; وتشخص مواقف من المعركة كأنها حية واقعة , وتتكشف خواطر ومشاعر وضمائر وسرائر . .
مما يحتاج تصويره إلى أضعاف هذه المساحة من التعبير ; ثم لا يبلغ ذلك شيئاً من هذا التصوير المدهش الفريد !
إنها تبدأ بنداء الذين آمنوا - في سلسلة النداءات المتكررة للعصبة المسلمة في السورة - وتوجيههم إلى الثبات عند لقاء الأعداء , وإلى التزود بزاد النصر ; والتأهب بأهبته .
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا , واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون , وأطيعوا الله ورسوله , ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم , واصبروا إن الله مع الصابرين . ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط) . .(1/185)
فهذه هي عوامل النصر الحقيقية:الثبات عند لقاء العدو . والاتصال بالله بالذكر . والطاعة لله والرسول . وتجنب النزاع والشقاق . والصبر على تكاليف المعركة . والحذر من البطر والرئاء والبغي . .
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر . فأثبت الفريقين أغلبهما . وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون ; وأنه يألم كما يألمون , ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون ; فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه !
وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار ; وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين:الشهادة أو النصر ?
بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا ; وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها , ولا حياة له سواها ?!
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن ; كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة , وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي . ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عندما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة , فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي , قولهم:
(وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا . ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين) . .
ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل , وهي تواجه جالوت وجنوده:(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا:ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) . .
ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة:
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير , فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله , وما ضعفوا وما استكانوا , والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا:
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا , وثبت أقدامنا , وانصرنا على القوم الكافرين . .(1/186)
ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة ; فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدواً . وقد حكى الله - فيما بعد - عن العصبة التي أصابها القرح في "أحد" ; فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم , كان هذا التعليم حاضراً في نفوسها: (الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيماناً وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل) . .
إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى:إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب ; والثقة بالله الذي ينصر أولياءه . .
وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها , فهي معركة لله , لتقرير ألوهيته في الأرض , وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية ; وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا ; لا للسيطرة , ولا للمغنم , ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي . .
كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف . . وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة ; يحققها هذا التعليم الرباني .
وأما طاعة الله ورسوله , فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء ; فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) . .
فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه ; وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار . فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر , إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها !
وإنما هو وضع "الذات" في كفة , والحق في كفة ; وترجيح الذات على الحق ابتداء ! . .
ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة . .
إنه من عمليات "الضبط" التي لا بد منها في المعركة . .(1/187)
إنها طاعة القيادة العليا فيها , التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها . وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله , ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلاً . .
والمسافة كبيرة كبيرة . .
وأما الصبر . فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة . .
أية معركة . .
في ميدان النفس أم في ميدان القتال .
(واصبروا , إن الله مع الصابرين) . .
وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح . .
ويبقى التعليم الأخير: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط) . .
يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها !
وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها . .
والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله ; تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر , وتقرير عبودية العباد لله وحده . وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده , والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية - بغير إذن الله وشرعه - وتخرج لإعلان تحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل عبودية لغير الله , تستذل إنسانية الإنسان وكرامته . وتخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم , لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الإستخدام المنكر . وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة , فلا يكون لها من النصر والغلب إلا تحقيق طاعة الله في تلبية أمره بالجهاد ; وفي إقامة منهجه في الحياة ; وفي إعلاء كلمته في الأرض ; وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه . .
حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله . .(1/188)
ولقد كانت صورة الخروج بطراً ورئاء الناس وصدا عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة ; يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها ; كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشاً التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله:وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة . .
وكان الله سبحانه يذكر العصبة المسلمة بشيء حاضر له وقعه وله إيحاؤه: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله . والله بما يعملون محيط) . .
والبطر والمراءاة والصد عن سبيل الله تتجلى كلها في قولة أبي جهل , وقد جاءه رسول أبي سفيان - بعد أن ساحل بالعير فنجت من رصد المسلمين - يطلب إليه الرجوع بالنفير , إذ لم تعد بهم حاجة لقتال محمد وأصحابه . وكانت قريش قد خرجت بالقيان والدفوف يغنون وينحرون الجزر على مراحل الطريق . فقال أبو جهل:" لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً , فنقيم ثلاثاً , ننحر الجزر , ونطعم الطعام , ونشرب الخمر , وتعزف القيان علينا , فلن تزال العرب تهابنا أبداً " . .
فلما عاد الرسول إلى أبي سفيان برد أبي جهل قال:" واقوماه ! هذا عمل عمرو بن هشام [ يعني أبا جهل ] كره أن يرجع , لأنه ترأس على الناس فبغى , والبغي منقصة وشؤم , إن أصاب محمد النفير ذللنا " . . وصحت فراسة أبي سفيان , وأصاب محمد صلى الله عليه وسلم النفير ; وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله ; وكانت بدر قاصمة الظهر لهم:
(والله بما يعملون محيط) . .
لا يفوته منهم شيء , ولا يعجزه من قوتهم شيء , وهو محيط بهم وبما يعملون .(1/189)
ويمضي السياق يصور وسوسة الشيطان للمشركين وإغراءهم بهذا الخروج الذي نالهم منه ما نالهم من الذل والخيبة والخسار والانكسار: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم , وقال:لا غالب لكم اليوم من الناس , وإني جار لكم . فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه , وقال:إني بريء منكم , إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله , والله شديد العقاب) . .
ولقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار ; ليس من بينها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما رواه مالك في الموطأ:حدثنا أحمد بن الفرج , قال:حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون , قال:حدثنا مالك , عن إبراهيم بن أبي عبلة , عن طلحة بن عبيد الله بن كريز:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما رئي إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة , وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب , إلا ما رأى يوم بدر " ! قالوا:يا رسول الله وما رأى يوم بدر ? قال:" أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة " . .
وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون , وهو ضعيف الحديث , والخبر مرسل . فأما سائر الآثار فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريق علي بن أبي طلحة وطريق ابن جريج . وعن عروة بن الزبير من طريق ابن إسحاق . وعن قتادة من طريق سعيد بن جبير . وعن الحسن وعن محمد بن كعب . وهذه أمثلة منها من رواية ابن جرير الطبري:(1/190)
حدثني المثنى , قال:حدثنا عبد الله بن صالح , قال:حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قال:جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه راية , في صورة رجل من بني مدلج , والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم . فقال الشيطان للمشركين:" لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم " . . فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين , فولوا مدبرين . وأقبل جبير إلى إبليس , فلما رآه , وكانت يده في يد رجل من المشركين , انتزع إبليس يده فولى مدبراً هو وشيعته , فقال الرجل:يا سراقة , تزعم أنك لنا جار ? قال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب) وذلك حين رأى الملائكة .
حدثنا ابن حميد قال:حدثنا سلمة قال:قال ابن إسحاق:حدثني يزيد بن رومان . عن عروة بن الزبير قال:لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر - يعني من الحرب - فكاد ذلك أن يثنيهم . فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي , وكان من أشراف كنانة , فقال:
أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً .
حدثنا بشر بن معاذ قال:حدثنا يزيد , حدثنا سعيد , عن قتادة قوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) إلى قوله: (شديد العقاب) قال:ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة فزعم عدو الله أنه لا يد له بالملائكة , وقال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله) . . وكذب والله عدو الله , ما به مخافة الله , ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له , وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له , حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم , وتبرأ منهم عند ذلك .(1/191)
ونحن - على منهجنا في هذه الظلال - لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر . فهي من أمور لاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته . ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض . .
وفي هذا الحديث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم , وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم ; وأنه بعد ذلك - لما تراءى الجمعان أي بريء منكم إني رأى أحدهما الآخر - (نكص على عقبيه وقال:إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله , والله شديد العقاب) . . فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم , ولم يوف بعهده معهم . .
ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم , والتي قال لهم بها:لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم . والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك . .
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها . ذلك أن أمر الشيطان كله غيب ; ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلا في حدود النص المسلم . والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث . .
فإلى هنا ينتهي اجتهادنا . ولا نميل إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الشيخ محمد عبده في التفسير من محاولة تأويل كل أمر غيبي من هذا القبيل تأويلا معينا ينفي الحركة الحسية عن هذه العوالم . وذلك كقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية:
(وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم , وقال:لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) . . أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين , إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته , وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم:لا غالب لكم اليوم من الناس , لا أتباع محمد الضعفاء ولا غيرهم من قبائل العرب , فأنتم أعز نفرا وأكثر نفيرا وأعظم بأسا , وإني مع هذا - أو والحال أني - جار لكم . قال البيضاوي في تفسيره:وأوهمهم أن اتباعهم إياه , فيما يظنون أنها قربات , مجير لهم , حتى قالوا:اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين" .
((1/192)
فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه) . . أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر , وصار بحيث يراه ويعرف حاله , وقبل أن يلقاه في المعركة ويصطلي نار القتال معه , نكص:أي رجع القهقرى , وتولى إلى الوراء وهو جهة العقبين [ أي مؤخري الرجلين ] وأخطأ من قال من المفسرين:إن المراد بالترائي التلاقي - والمراد:أنه كف عن تزيينه لهم وتغريره إياهم , فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء ; وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره . ثم زاد على هذا ما يدل على براءته منهم , وتركه إياهم وشأنهم وهو [ وقال:إني بريء منكم , إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله ] أي تبرأ منهم وخاف عليهم , وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة [ والله شديد العقاب ] يجوزأن يكون هذا من كلامه ويجوز أن يكون مستأنفاً" .
. . . "أقول:معنى هذا أن جند الشيطان الخبيث كانوا منبثين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة ما يغريهم ويغرهم ; كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم . . . " .
وهذا الميل الظاهر إلى تفسير أفعال الملائكة بأنها مجرد ملابسة لأرواح المؤمنين ; وقد جزم في موضع آخر بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر على الرغم من قول الله تعالى: (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) - وتفسير فعل الشيطان بأنه مجرد ملابسة لأرواح المشركين . .
هو منهج تلك المدرسة بجملتها . .
ومثله تفسير "الطير الأبابيل" بأنها ميكروبات الجدري !
في تفسير الشيخ محمد عبده لجزء عم . .(1/193)
هذا كله مبالغة في تأويل هذه النصوص المتعلقة بأمور غيبية ; حيث لا ضرورة لهذا التأويل , لأنه ليس هناك ما يمنع من الدلالة الصريحة للألفاظ فيها . . وكل ما ينبغي هو الوقوف وراء النصوص بلا تفصيلات لا تدل عليها دلالة صريحة . . وهو المنهج الذي اتخذناه فعلاً . .
وبعد , فإنه بينما كان الشيطان يخدع المشركين الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , ويشجعهم على الخروج , ثم يتركهم لمصيرهم البائس . . .
كان المنافقون والذين في قلوبهم ضعف , يظنون بالعصبة المؤمنة الظنون ; وهم يرونها تواجه جحافل المشركين , وهي قليلة العدد ضعيفة العدة ; ويرون - بقلوبهم المدخولة ونظرتهم إلى الظواهر المادية الخادعة - أن المؤمنين أوردوا أنفسهم موارد التهلكة , مخدوعين بدينهم , ظانين أنه ينصرهم أو يقيهم:
(إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض:غر هؤلاء دينهم) . .
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض قيل:إنهم مجموعة من الذين مالوا إلى الاسلام في مكة - ولكن لم تصح عقيدتهم ولم تطمئن قلوبهم - خرجوا مع النفير مزعزعين , فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين قالوا هذه المقالة !
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة ; فهم يرون ظواهر الأمور , دون أن تهديهم بصيرة إلى بواطنها ; ودون أن يشعروا بالقوة الكامنة في العقيدة , والثقة في الله , والتوكل عليه , واستصغار شأن الجموع والقوى التي لا ترتكن إلى عقيدة في الله تمنحها القوة الحقيقية
فلا جرم يظنون المسلمين يومئذ مخدوعين في موقفهم , مغرورين بدينهم , واردين موارد التهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين التي يرونها !
إن الواقع المادي الظاهر لا يختلف من ناحية مظهره عند القلوب المؤمنة وعند القلوب الخاوية من الإيمان . ولكن الذي يختلف هو التقدير والتقويم لهذا الواقع المادي الظاهر . .(1/194)
فالقلوب الخاوية تراه ولا ترى شيئاً وراءه ; والقلوب المؤمنة ترى ما وراءه من "الواقع" الحقيقي !
الواقع الذي يشمل جميع القوى , ويوازن بينها موازنة صحيحة:
(ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) . .
هذا ما تدركه القلوب المؤمنة وتطمئن إليه ; وما هو محجوب عن القلوب الخاوية فلا تحسب حسابه !
وهذا ما يرجح الكفة , ويقرر النتيجة , ويفصل في القضية في نهاية المطاف في كل زمان وفي كل مكان
وقولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض , عن العصبة المسلمة يوم بدر: (غر هؤلاء دينهم) . .
هي قولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض كلما رأوا العصبة المسلمة تتعرض لجحافل الطاغوت في عنفوانه ; وعدتها الأساسية التي تملكها هي هذا الدين ; وهي هذه العقيدة الدافعة الدافقة ; وهي الغيرة على ألوهية الله وعلى حرمات الله ; وهي التوكل على الله والثقة بنصره لأوليائه .
إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت , وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر , وتستخف بالخطر !
وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة , وللأخطار الواضحة .
إنهم هم لا يعرفون مبرراً لهذا التهور - كما يسمونه - وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة ! . .
إنهم يحسبون الحياة كلها - بما فيها الدين والعقيدة - صفقة في سوق التجارة . إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها ; فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى ! . .
إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن , ولا يزنون النتائج كذلك بميزان الإيمان . . إنها في حس المؤمن وميزانه صفقة رابحة دائماً ; فهي مؤدية الى إحدى الحسنيين:النصر والغلب , أو الشهادة والجنة . .
ثم إن حساب القوى في نفسه يختلف ; فهناك الله . .
وهذا مالا يدخل في حساب المنافقين والذين في قلوبهم مرض !(1/195)
والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أن تزن بميزان الإيمان والعقيدة ; وأن تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه , وأن ترى بنور الله وهداه , وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة , وألا تستهين بقوتها ووزنها فإن معها الله , وأن تلقي بالها دائما إلى تعليم الله سبحانه للمؤمنين:
(ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) . .
. . وصدق الله العظيم . . ( الظلال)
? إن تنصروا الله ينصركم :
قال الله تعالى في سورة آل عمران(3) : {إن يَنصُرْكُمُ الله فلا غالِبَ لكم وإن يَخذُلْكُمْ فمن ذا الَّذي يَنصُرُكُمْ من بعدهِ وعلى الله فَليتوكَّلِ المؤمنونَ(160)}
ومضات:
ـ النصر والخذلان من قوانين الله تعالى. فالنصر حليف من لاذ بالله والتجأ إلى حماه، والتزم بقوانينه، والخذلان نصيب من خذل قوانين الله، وعمل بعكس تعاليمه عزَّ وجل.
في رحاب الآيات:(1/196)
قضت سنَّة الله في هذا العالَمِ بتوقُّف النتائج على المقدِّمات، وارتباط المسبَّبات بالأسباب، فبقدر ما يفي الإنسان بالتزاماته، بقدر ما يحقِّق الله له من النتائج الإيجابية المثمرة. وهكذا فإن المقدِّمات ترتبط بمشيئة الإنسان وقراره الشخصي في إطار مشيئة الله، وتظلُّ النتائج والعواقب متعلِّقة بمشيئة الله وحدها أوَّلاً، وبمقدار الجهد المبذول والإتقان للعمل المنفَّذ ثانياً. وباعتبار أن قضية النصر والخذلان في أيِّ معركة حياتية يخوضها الإنسان تخضع لعوامل كثيرة، فإن الآية الكريمة تردُّ الناس إلى قدر الله ومشيئته، وتعلُّقهم بإرادته وقوانينه، لذلك فالنصر لا يكون إلا لمن سار على هذه القوانين. وهذه الحقيقة تُلْزِمُ المسلمين باتباع المنهج والتقيُّد بالتوجيه، والنهوض بالتكاليف، وبذل الجهد والتوكُّل بعد هذا كلِّه على الله تعالى: {..وعلى الله فليتوَكَّلِ المؤمنون} (9 التوبة آية 51) وبذلك يخلص تصوُّر المسلم من التماس شيء من عند غير الله، ويتَّصل قلبه مباشرة بالقوَّة الفاعلة في هذا الوجود.
إن ظاهر الآية يوحي أن النصر والخذلان كليهما من الله تعالى، وأن الإنسان ما هو إلا أداة مسيَّرة، والواقع أن المعنى الحقيقي الَّذي يجب أن نفهمه هو أن من يسير ضمن قوانين الله وتعاليمه ينصره الله، فنصر الله يكلِّل طاعتنا وتنفيذنا لهذه التعاليم، فإن تجاوزناها فإن الله يخذلنا بتقصيرنا وتفريطنا بمقتضيات قانونه التكويني العام، والأدلَّة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {وأعِدُّوا لهم ما استطَعْتُم من قوَّة..} (8 الأنفال آية 60) وقوله في آية أخرى: {إنَّ الله يُحِبُّ الَّذين يُقاتِلون في سبيلِهِ صفّاً كأنَّهم بُنيانٌ مرصوص} (61 الصف آية 4) فإعداد القوَّة الحسيَّة والمعنوية، إلى جانب الوحدة وتجميع القوى، يشكِّلان أساساً من أسس النصر، أمَّا إهمالهما فيكون عاملاً من عوامل الفشل والهزيمة.
سورة محمَّد(47)(1/197)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إن تنصُروا الله ينصُرْكم ويُثبِّت أقدامكم(7) والَّذين كفروا فتَعْساً لهم وأضلَّ أعمالَهُم(8) ذلك بأنَّهم كَرِهوا ما أنزلَ الله فأحبَطَ أعمالَهُم(9)}
ومضات:
ـ نصرة المؤمنين لله تعالى تعبير، رمزي مجازي، يُعبِّر عن مدى التزامهم العملي بتطبيق شريعته، بحماس وقوَّة إرادة، مع التحلِّي بالأخلاق الفاضلة، والاستزادة من الحكمة والعلوم بأنواعها.
ـ نصرة الله تعالى للمؤمنين تعني إمدادهم بالعطاء الروحي والنور الإلهي، وتيسير سُبُل العطاء المادِّي ممَّا يحقِّق لهم السعادة والسكينة والاستقرار، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، ويجعل لهم من عُسرهم يُسراً، ومن ضيقهم مخرجاً وفرجاً، مما يثبِّت لهم مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية، ليشكِّلوا قاعدة يقوم عليها السَّلام والرخاء.
ـ الَّذين يرفضون الإيمان بالله، وينأون بجانبهم عن محبَّة الله وعبادته، هم غارقون في متاهات الفراغ والملل، ويسلكون سبل الضياع، تتقاذفهم أمواج الخوف والقلق. ذلك أنهم أقاموا آمالهم على قواعد ركيكة من الوهم والخيال، كارهين الحقَّ وأهله لعدم تجانسه مع نفوسهم المريضة، فانهارت آمالهم، وحبطت أعمالهم وصارت هشيماً تذروه الرياح.
في رحاب الآيات:(1/198)
قد يُفهَم من ظاهر الآية أن الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى دعم مادِّي، أو قوَّة عسكرية تدافع عنه وتحميه! والحقيقة أنه تعالى هو الغني عنَّا، ونحن الفقراء إليه، ونحن المحتاجون إلى دعمه ومدده ونصرته. والأمر المنوط بنا أن نقدِّم أنفسنا وأموالنا في سبيل نصرة دين الله، ورفع راية العمل لتحقيق تعاليمه المفيدة في سائر نواحي الحياة. وفي سبيل تحقيق ذلك، علينا أن نجرِّد نفوسنا لله، وألا نشرك به شيئاً، لا شِرْكاً ظاهراً ولا خفياً، وأن يكون الله أَحَبَّ إلينا من ذواتنا ومن كلِّ ما نحبُّ ونهوى، وأن نراقبه في رَغَبِنا ورَهَبِنا وحركاتنا وسكناتنا، وسرِّنا وعلانيتنا، ونشاطنا كلِّه وخلجات أفئدتنا عامَّة، وهذا نصر الله في ذات نفوسنا.
إن لله شريعة واضحة ومنهاجاً محدَّداً للحياة، يقومان على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للحياة وللوجود كلِّه، وإن نصر الله يتحقَّق بنصرة منهاجه وشريعته، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلِّها دون استثناء، وهذا نصر الله في واقع الحياة، بشرط أن يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تهيمن شريعته ومنهاجه على ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم، وعلى أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم. هذا شرط الله على الَّذين آمنوا، أمَّا وعده لهم في مقابل ذلك فهو النصر وتثبيت الأقدام، وقوَّة الإيمان ليتَقوَّوا بها على أنفسهم وأهوائهم، وعلى كلِّ من يحاول تخريب هذه المسيرة الطاهرة المباركة. والنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان، وبين الهداية والضلال، فللنصر تكاليفه في ذات النفس وفي واقع الحياة، وذلك في عدم الزهُوِّ به، وعدم التراخي بعده والبعد عن التهاون في المحافظة عليه.(1/199)
هذا هو الوجه الحسن الَّذي يصوِّر المؤمنين مع الله، ولو أننا نظرنا إلى الوجه الآخر لرأينا النقيض، إننا نرى التعاسة والخيبة والخذلان تلقي بظلالها على من كفر بالله وآياته، ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه، وهي حالة كثير من النفوس الفاسدة الَّتي تكره بطبعها ذاك النهج السليم القويم، وتتصادم معه من داخلها، بحكم مغايرة باطلها لحقيقته، وغاياتها لغاياته. إن أصحاب هذه النفوس موجودون في كلِّ زمان وفي كلِّ مكان، يحملون في قلوبهم الحقد والكراهية للدِّين ولكلِّ ما يتَّصل به، لأنهم يَرَوْنَ فيه حدّاً من سيطرتهم، وكفّاً لتجاوزاتهم وطغيانهم؛ ولقد كان جزاء الله لهم أن أحبط أعمالهم، فانتهوا إلى الهلاك والضياع.
وصفوة القول: نحن بحاجة إلى الله حين ننصره لأن في ذلك نصراً لنا بوصفنا من أتباع دينه وأنصاره، ونحن بحاجة إلى الله حين ينصرنا لأن في ذلك تزكية لنفوسنا وأرواحنا، وبالتالي سُمُوّاً وعُلُوّاً لنا؛ ونحن الرابحون في كلتا الحالتين. ورد في الأثر: [يقول سبحانه وتعالى: خلقت الخلق ليربحوا علي لا لأربح عليهم].
سورة النصر(110)
قال الله تعالى: {إذا جاء نصرُ الله والفتحُ(1) ورأيتَ النَّاسَ يَدْخُلونَ في دينِ الله أفواجاً(2) فسبِّحْ بحمدِ ربِّكَ واستغفِرْهُ إنَّه كان توَّاباً(3)}
ومضات:
ـ ترصد هذه الآيات الكريمة لحظات النصر الكبير وقد جاء الناس مقبلين على دين الله في جموع وافرة، وتُنبِّه إلى أن ما ينبغي على المؤمن أن يبادر إليه لدى رؤيته هذا المشهد الرائع والزاخر بالمحبَّة والمجد، هو الإقبال على أعتاب الحضرة الإلهية مسبِّحاً بحمد الله، شاكراً لنعمائه، طالباً منه التوبة والمغفرة.
في رحاب الآيات:(1/200)
نَصْرُ الله تعالى مهيَّأ في كلِّ ساعة؛ لكلِّ من يعمل بصدق وإخلاص في خدمة شريعته عزَّ وجل. فلا صعاب مع تأييد الله، ولا عناء مع عونه؛ فالآلام تذوب في تجلِّيات محبَّته، وتستحيل لذةً وسعادة وسروراً. ولا يخفى أن للنصر نشوته وفرحته والَّتي قد تُفقد المنتصر صوابه، ثمَّ ما تلبث أن تحلِّق به في أجواء الفخر والاعتزاز، مما يُخرج صاحبه عن المنهج القويم الَّذي أوصله إلى النصر، ولذلك فإن العناية الإلهية تتدخَّل كما في كلِّ مرَّة لتعيد للمنتصر اتِّزانه وصوابه، ليُقِرَّ بأن النصر من عند الله، وإنما كان واسطة لهذا النصر لا مسبِّباً له، ويدرك بذلك حجمه الحقيقي فلا ينجرف وراء منزلقات الكِبْر والغرور، ولا يجرف أتباعه وراءه إلى المهالك. ذلك أن من أكبر الفتن والامتحانات الَّتي قد يتعرَّض لها قادة الأمم تعلُّق الشعوب بهم، وكثرة التفافهم حولهم، فحينها قد يفقد المنتصر صوابه وينسى خالقه فيبالغ في قراراته الَّتي يتَّخذها، وقد تجرفه المطامع، فيجرُّ شعبه بنزواته إلى الهلاك والدمار، بعد أن كان بالنسبة إليهم محطَّ الآمال في الإعمار والازدهار. والشواهد على ذلك كثيرة منذ فجر التاريخ وحتَّى الحرب العالمية الثانية.
وقد نزلت هذه السورة تحمل البشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر الله والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، واتِّخاذهم إياه قائداً وإماماً، وتُوَجِّهُه إلى مقابلة ذلك بالتسبيح والتحميد والاستغفار. وقد وردت روايات عدَّة عن سبب نزول هذه السورة نختار منها رواية الإمام أحمد عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قوله: سبحان الله وبحمده، استغفر الله وأتوب إليه، وقال: إن ربي أخبرني أني سأرى علامة في أمَّتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبِّح بحمده وأستغفره إنه كان توَّابا، وقد رأيتها».(1/201)
وفي مطلع الآية إيحاءٌ خاصٌّ يتمثَّل في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله} فهو نصر الله، يجيء به الله، في الوقت الَّذي يقدِّره، وللغاية الَّتي يرسمها، وليس للنبي ولا لأصحابه يد في هذا النصر سوى اتِّخاذ الأسباب إليه. فقد ربَّى الرسول عليه السَّلام صحابة أجلاَّء، وقادةً عقلاء، وقد أهَّلهم ذلك ليكون لهم شرف الكفاح، وتحقيق النصر بإذن الله تعالى وإرادته، وحسبهم فخراً أن يجريه الله على أيديهم، وأن يقيمهم عليه حرَّاساً، ويجعلهم عليه أمناء. إن مِنَّة الله على الرسول والمؤمنين عظيمة، فقد أجرى النصر على أيديهم، ولهذا فإن عليهم أن يسبِّحوه ويحمدوه شكراً وعرفاناً على ما أولاهم من منَّة، وعلى ما أَوْلى البشرية كلَّها من رحمة، بنصره لدينه، وفتحه على رسوله، ودخول الناس أفواجاً في هذا الخير العميم، بعد العمى والضلال. وأن يستغفروه مما قد يساور القلب في مدَّة الكفاح الطويل والعناء القاسي، من ضيق أو استبطاء لوعد الله بالنصر، وأن يستغفروه على تقصيرهم في حمده وشكره، فمهما بلغ جهد الإنسان فإنه يبقى ضعيفاً محدوداً، وآلاء الله دائمة الفيض والانتشار. وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار؛ ففيه إيحاءٌ للنفس، وإشعار لها في لحظة الزهُوِّ والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز، فأَوْلى بها أن تخفِّف من كبريائها وتطلب العفو من ربِّها، وهذا مما ينفي الشعور بالزهوِّ والغرور، ويضمن عدم طغيان المنتصرين على المقهورين، ويراقب الله فيهم، فهو الَّذي سلَّطه عليهم لأمر يريده هو، والنصر نصره والفتح فتحه، وإلى الله تصير الأمور.(1/202)
وكم كان الرسول الكريم وأتباعه الفضلاء ملتزمين بهذه الأخلاق، ومتحلِّين بهذه السجايا، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن مَنَّ الله عليه بالفتح الأكبر، يقف أمام الكعبة وجموع الناس تنظر إليه، وقد بلغت القلوب الحناجر، وهي تنتظر قراره فيها، يقف ليقول: «يامعشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم قالوا: خيراً أخ كريم، وابن أخٍ كريم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» (أخرجه البيهقي في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
هذا هو الأدب الَّذي اتَّسمت به النبوَّة دائماً، وهكذا كان محمَّد صلى الله عليه وسلم في حياته كلِّها، وفي موقف النصر والفتح الَّذي جعله ربُّه علامة له، انحنى شاكراً على ظهر دابَّته، ودخل مكَّة على هذه الصورة، مكَّة الَّتي آذاه أهلها، وأخرجوه، وحاربوه، ووقفوا في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة، فلما جاءه نصر الله نسي فرحة النصر، وانحنى انحناءة الشكر، وسبَّح وحمد واستغفر، كما لقَّنه ربُّه، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار. وفي تلك اللحظات النادرة في التاريخ، وقد هُرِع الناس إليه من كلِّ حدب وصوب، مؤمنين مبايعين، باذلين أرواحهم في سبيل الدعوة، تراه عليه السَّلام يخاطب امرأة جاءته في مسألة، وهي ترتجف رُعباً من هيبته، فيقول لها بكلِّ حبٍّ وصفاء وتواضع: «هوِّني عليك! ما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكَّة» (أخرجه ابن ماجه والحاكم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه ). صلَّى الله عليك ياسيِّدي يا رسول الله!!
هكذا كان كلامه وخطابه وأخلاقه، مع شدَّة تواضعه وعظيم تذلُّله لله ربِّ العرش العظيم؛ فلنذكر الله تعالى ونسبِّحه ونستغفره، ونتواضع لعظمته، وطوبى للمستغفرين المتواضعين.
? عدم الفرار(1/203)
قال تعالى في سورة الأنفال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ {15} وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {16}
وفي تفسير السعدي - (ج 1 / ص 317)
يأمر اللّه تعالى عباده المؤمنين بالشجاعة الإيمانية، والقوة في أمره، والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب والأبدان،ونهاهم عن الفرار إذا التقى الزحفان، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا } أي: في صف القتال، وتزاحف الرجال، واقتراب بعضهم من بعض، { فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ } بل اثبتوا لقتالهم، واصبروا على جلادهم، فإن في ذلك نصرة لدين اللّه، وقوة لقلوب المؤمنين، وإرهابا للكافرين.
{ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ } أي: رجع { بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ } أي: مقره { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
وهذا يدل على أن الفرار من الزحف من غير عذر من أكبر الكبائر، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وكما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد.(1/204)
ومفهوم الآية: أن المتحرف للقتال، وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى، ليكون أمكن له في القتال، وأنكى لعدوه، فإنه لا بأس بذلك، لأنه لم يول دبره فارا، وإنما ولى دبره ليستعلي على عدوه، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته، أو ليخدعه بذلك، أو غير ذلك من مقاصد المحاربين، وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار، فإن ذلك جائز،فإن كانت الفئة في العسكر، فالأمر في هذا واضح،وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين، فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز،ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون أن الانهزام أحمد عاقبة، وأبقى عليهم.
أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم، فيبعد - في هذه الحال -أن تكون من الأحوال المرخص فيها، لأنه - على هذا - لا يتصور الفرار المنهي عنه،وهذه الآية مطلقة، وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد.
? عدم الاغترار :
قال تعالى في سورة التوبة { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْتُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ {25} ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ {26}(1/205)
المواطن التي نصرهم الله فيها , ولم تكن لهم قوة ولا عدة . ويوم حنين الذي هزموا فيه بكثرتهم ثم نصرهم الله بقوته . يوم أن انضم إلى جيش الفتح ألفان فقط من الطلقاء ! يوم أن غفلت قلوب المسلمين لحظات عن الله مأخوذة بالكثرة في العدد والعتاد . ليعلم المؤمنون أن التجرد لله , وتوثيق الصلة به هي عدة النصر التي لا تخذلهم حين تخذلهم الكثرة في العدد والعتاد ; وحين يخذلهم المال والإخوان والأولاد:
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة , ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا , وضاقت عليكم الأرض بما رحبت , ثم وليتم مدبرين ; ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين , وأنزل جنودا لم تروها , وعذب الذين كفروا , وبذلك جزاء الكافرين . ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء , والله غفور رحيم .(1/206)
ولقد كان نصر الله لهم في المواطن الكثيرة قريبا من ذاكرتهم لا يحتاج إلى أكثر من الإشارة . فأما وقعة حنين فكانت بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة . وذلك لما فرغ صلى الله عليه وسلم من فتح مكة , وتمهدت أمورها , وأسلم عامة أهلها , وأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه , وأن أميرهم مالك بن عوف النضري , ومعه ثقيف بكمالها , وبنو جشم , وبنو سعد ابن بكر , وأوزاع من بني هلال - وهم قليل - وناس من بني عمرو بن عامر وعوف بن عامر ; وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم ; وجاءوا بقضهم وقضيضهم . فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب , ومعه الذين أسلموا من أهل مكة , وهم الطلقاء , في ألفين ; فسار بهم إلى العدو ; فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له "حنين" فكانت فيه الواقعة في أول النهار في غلس الصبح . انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن , فلما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم , ورشقوا بالنبال , وأصلتوا السيوف , وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم . فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين - كما قال الله عز وجل - وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهو راكب بغلته الشهباء , يسوقها إلى نحر العدو , والعباس آخذ بركابها الأيمن , وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب آخذ بركابها الأيسر , يثقلانها لئلا تسرع السير , وهو ينوه باسمه - عليه الصلاة والسلام - ويدعو المسلمين إلى الرجعة , ويقول:" إلي يا عباد الله . إلي أنا رسول الله " ويقول في تلك الحال:" أنا النبي لا كذب .(1/207)
أنا ابن عبدالمطلب " وثبت معه من أصحابه قريب من مائة , ومنهم من قال ثمانون ; فمنهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - والعباس وعلي والفضل بن عباس , وأبو سفيان بن الحارث , وأيمن بن أم أيمن , وأسامة بن زيد , وغيرهم - رضي الله عنهم - ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته:يا أصحاب الشجرة - يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على ألا يفروا عنه - فجعل ينادي بهم:يا أصحاب السمرة , ويقول تارة:يا أصحاب سورة البقرة . فجعلوا يقولون:يا لبيك , يا لبيك . وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول - الله صلى الله عليه وسلم - حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله , ورجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدقوا الحملة . . . وانهزم المشركون فأتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون , وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذه هي المعركة التي اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش عدته اثنا عشر ألفا فأعجبتهم كثرتهم , وغفلوا بها عن سبب النصر الأول , فردهم الله بالهزيمة في أول المعركة إليه ; ثم نصرهم بالقلة المؤمنة التي ثبتت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصقت به .
والنص يعيد عرض المعركة بمشاهدها المادية , وبانفعالاتها الشعورية:
(إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا , وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين) . . .
فمن إنفعال الإعجاب بالكثرة , إلى زلزلة الهزيمة الروحية , إلى انفعال الضيق والحرج حتى لكأن الأرض كلها تضيق بهم وتشد عليهم . إلى حركة الهزيمة الحسية , وتولية الأدبار والنكوص على الأعقاب . . (الظلال)
? لكي ينتصر الإسلام :(1/208)
إن الله تعالى أنعم على هذه الأمة ببعثة خاتم الرسل فجعلها خاتم الأمم كما كان نبيها خاتم الرسل عليه وعليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام . بعث الله تعالى هذا النبي المختار في أمة كان كل همها و وكدها وشغلها تتبع أصول أذناب الإبل في هذه الصحراء القاحلة , وأنها كانت تركض وراء اليرابيع و الضببة تأكل منها وتشرب من ماء هذه الصحراء ثم لا هم لها بعد ذلك غير ذلك أبدا . فصوت فيها النبي صلى الله عليه وسلم وصاح فيها بنداء لا إله إلا الله محمد رسول الله فرفعت إليه رؤوسها وفتحت له عيونها و أصاخت له آذانها فاهتدت بهداه فكانت بذلك خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله عز وجل وتجاهد في سبيله , فخرجت من هذه الصحراء القاحلة لتقول لأساتذة المدنية وشيوخ الحضارة في فارس والروم جئناكم لنخرج من شاء الله تعالى من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة العيش ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
أيها الأحبة ..
هذا النبي الذي بُعث في هذه الأمة كان من أعظم ما أهدى لها هداية السماء ونور التوحيد الذي عرف به الإنسان معنى إنسانيته وكرامته . ذلك الإنسان الذي لم يكن له معنى في الجاهلية وكان يرضى أن يطأطئ رأسه لإله من حجرٍ أو شجرٍ أو صنمٍ فيعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى بعث إليه صلى الله عليه وسلم ليعلمه ألا إله إلا الله و لا معبود بحق سواه و أنه لا يجوز أن يطأطئ رأسه إلا لله عز وجل فلا يسجد لغيره ولا يعبد سواه مخلصاً له الدين ولو كره الكافرون . فنفخ فيه روح العزة ومعنى الحمية وسر الشجاعة والإنسانية حتى علّم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الإنسان الأعزل الفقير علمه إلا يذل ويخضع لشيء من متاع الدنيا وكيف يذل لغير الله عز وجل.
تأبى عقيدتنا ، تأبى أصالتنا *** أن يصبح العُرب أشتاتا وقطعانا
فلا لشرقٍ ولا غربٍ نطأطئها ***** بل ترفض الجبهة الشماء إذعاناً(1/209)
\فأصبح هذا الأعرابي بالأمس الذي يركض وراء إبله و غنمه وكل همه من الدنيا ملبس أو مطعم أو مشرب , أصبح هذا الإنسان عزيزا مرفوع الهامة تناطح السحاب لا يذل لغير الله عز وجل وليس لديه أي استعداد أن يهادن أو يداهن في دين الله عز وجل , حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في ضمن دروس العزة والكرامة التي ألقاها على هذه الأمة العظيمة (( من قُتل دون ماله فهو شهيد ومن قُتل دون دمه أو نفسه فهو شهيد ومن قُتل دون عرضه فهو شهيد )) فعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان أن يكون أبياً رفيعاً قوياً عزيزاً منيعاً وألا يكون همه هذه الحياة الدنيا . كلا , لابد أن يكون للإنسان سرٌ وراء هذه الحياة ومعنىً فوق هذه الدنيا وألا يكون الإنسان تراباً فحسب ، بل هو حفنة من التراب عانقت هدي السماء فارتفعت وسمت و سمقت وارتفعت وشمخت فأصبحت أعظم من كل معاني البشرية لأنها ارتبطت بهدي الله عز وجل ونور الوحي النازل من السماء , فأصبح الإنسان بذلك عزيزاً مرفوع الهامة شامخ الأنف لا يذل لغير الله عز وجل طرفة أو لحظة . لم يسمح النبي صلى الله عليه وسلم للقبيلة أن تهدر قيمة الفرد كما لم يسمح للفرد أن يعتدي على كرامة القبيلة أو المجتمع أو الدولة بل جعل هذه الأشياء كلها تسير جنبا إلى جنب . فلا قيمة لقبيلة أفرادها مجموعة من الضعفاء والأتباع المقهورين الأذلاء الذين لا يرون لأنفسهم قيمة ولا كرامة , ولا قيمة لفردٍ لا ينتسب لذلك المجتمع الإسلامي الكبير الذي يتعاون أفراده على البر والتقوى ولا يتعاونون على الآثم والعدوان
لقد جاء الإسلام الذي يحمّل الإنسان -كل إنسان- مسئوليته على كافة المستويات فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يخاطب الفرد ليحمّله مسئوليته على كافة الأصعدة.(1/210)
مسئوليته أولاً : في تعلُمِ العلم الشرعي أصولا وفروعا عقيدة وأحكاما , فلا يكون الإنسان مقلدا أو تابعا رضي أن يهدر عقله ويهدر فهمه ويهدر إدراكه ليكونَ تابعاً ومقلداً لفلان وفلانٍ دون حجةٍ ولا بصيرةٍ ولا هدى ولا كتابٍ منيرٍ . بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر العذاب الذي يصيب الإنسان الفاجر أو الكافر في قبره بَيَّنَ أنَّ من أعظم أسباب هذا العذاب أن يكون الإنسان مقلدا في دينه لم يتعب في البحث عن الدين ولم يجهد في استخراج الحجج واستنباطها ولم يستخدم هذا العقل الذي أنعم الله تعالى به عليه في الوصول إلى الحق بالدليل الشرعي من آية أو حديث أو إجماع و إنما رضي أن يكون مجرد مقلد لفلانٍ وفلانٍ . فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا وضع في قبره أنه يُسأل من ربُك ؟ وما دينُك ؟ ومن نبيُك ؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم .. وحينئذ يُسأل سؤالا رابعا ما علمك؟ من أين حصلت على هذا العلم؟ هل هو بالهوى والتقليد أو حصلت علية بالبحث والاتباع ؟ فيقول المؤمن الموقن : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت . إذا هو علمٌ مبنيٌ على التحري ومبنيٌ على الدليل ومبنيٌ على الاتباع ومبنيٌ على الحُجة من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أجهد هذا المسلم نفسه في طلب العلم وثنى ركبه في مجالس الذكر واستمع إلى قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعمل عقله حتى وصل إلى الهداية وظفر بها وتمسك بها وعض عليها بالنواجذ , ولهذا نجح في الاختبار العظيم الكبير يوم يُوسَد في قبره ويتخلى عنه كل أحبابه وأصحابه وأولاده وأتباعه ويبقى وحيداً إلا من عمله الصالح .(1/211)
أما الكافر أو المنافق الذي كان لا يعرف الدين حقيقة في هذه الدنيا أو يقلد الناس فيقول ما يقولون دون حجةٍ ودون تَبصرٍ ودون أن يستخدم هذه الجوهرة العظيمة التي أعطاه الله تعالى - العقل - في معرفة دين الله تعالى وفهم النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والوصول إلى الحق , ولو كان يردد في هذه الدنيا العبارات والكلمات والألفاظ دون أن يعيها فإنه يُخفق في الاختبار فيقول : هاه هاه لا أدري كنت أقول ما يقول الناس . إذا هو كان يقول وكان يردد لكن دون وعي ودون بصيرة ودون أن يحرك إنسانيته أو يستخدم مواهبه , إنما كان مجرد مقلد لفلان وفلان . فيخفق ولا يتذكر ماذا كان يقول في الدنيا وينسى ما يجب أن يقول في القبر فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس , فيقال له : لا دريت ولا تليت فيضرب بمطرقة من حديد يصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلان ولو سمعها الإنس والجن لصعقوا من هول ما يسمعون .
فيا أخي الكريم ..(1/212)
صور نفسك وأنت في هذا الموقع الصعب العسير وأنت تتعرض لهذا الابتلاء الكبير في ذلك الموقف الخطير الذي لن ينفعك فيه مال ولا جاه ولا سمعة ولا شهرة ولا فلان ولا علان , إنما ينفعك فقط شيءٌ واحدٌ : علمٌ نافع أو عمل صالح . فهل تلقيت دينَ الله تعالى بالحجةِ والبرهان والدليلِ أم تلقيته من فلانٍ وعلانٍ ؟ وهل اهتممت بهذا الدين وتتبعت أحكامه أم اكتفيت بالموروثات الاجتماعية ؟ هذه الموروثات التي قد تكون صواباً في بعض الأحيان وقد تكون خطأً في أحيانٍ أخرى ونحن نرى اليوم مع الأسف الشديد أن الكثير من المسلمين يتعصبون لهذه الموروثات ويتحمسون لها ويركضون وراءها و يتناصرون من أجلها أكثر مما يتحمسون لبعض الأحكام الشرعية التي يسمعونها من أفواه العلماء و الدعاة والمتحدثين . إذاً لقد جعل الله تعالى عليك أنت بالذات مسئوليةً شخصيةً في تَعَلُمِ دينِ الله تعالى ومعرفة أحكام ما أنزل الله على رسوله بالأدلة الشرعية ولا يغنيك أن تكون مجرد مقلدٍ أعمى دون أن تبحث عن دليلٍ أو حجةٍ , لا يكفي أن تكون مقلداً لما نشأت عليه في مجتمعك .(1/213)
كما إن الإسلام حمّلك مسئولية شخصية في وجوب تزكية نفسك لهذا العلم . فأيُ معنى أو قيمةٍ لعلمٍ يكون محصوراً في رأسك وعقلك لم يتحول إلى علم نافع بل هو علم مجرد , وكثيراً ما نواجه في مجتمعنا وواقعنا أشخاصاً إذا تكلموا كانوا كالفلاسفة , يعرفون ويتحدثون وربما يستشهدون بالنصوص وربما يقولون قال فلان وعلان لكن إذا أتيت إلى واقعهم الشخصي في عباداتهم , في علاقاتهم بأهلهم , الوضع البيتي والمنزلي الذي يعيشون فيه , الوضع الاقتصادي , الوضع الاجتماعي , لوجدت هؤلاء الأشخاصَ أبعدَ ما يكونون عن تَمثُلِ والتزام هداية السماء في تزكية أنفسهم وتزكية من حولهم . كم من إنسان قد يتكلم بالحق في لسانه ولكنك حين تنظر إلى سلوكه الشخصي تجد شيئا آخر وحين تنظر إلى بيته تجد ألوان المعاصي والمنكرات وتجد أهله وذريته وأولاده في وادٍ آخر لم يتعاهدهم بالهداية ولم يعلمهم بل ولم يمنعهم من الحرام فأتاح لهم كل وسائل الفساد وكل وسائل الاتصال بالعالم كله وهو يقول هؤلاء على مستوى أن يميزوا الطيب من الخبيث ، نعم كانوا على مستوى أن يميزوا الطيب من الخبيث لو أنك تعاهدتهم وعلمتهم وربيتهم وهذبتهم وأدبتهم ووضعت لهم الموازين المستقيمة التي يستطيعون أن يميزوا بها بين الحق والباطل والهُدى والضلال أما أن تتركهم لعوادي الزمن وخطط الأعداء يسمع في التلفاز الكثير ويسمع في المذياع الكثير و يقرأ في الجريدة الكثير ويسمع في المدرسة ويجالس قرناء السوء وربما أتيح له كثيراً أن يشاهد أفلام الفيديو مثلاً بل أن يطلع على القنوات الفضائية التي تبث من أنحاء العالم ومنها قنوات تنصيرية ومنها قنوات جنسية ومنها قنوات تخريبيه ومنها قنوات تنقل لنا قاذورات العالم كله وما فيه من خير وشر , ثم تترك لهذا العقل الغض الطري البسيط الذي لم ينضج بعد ولم يملك إمكانية التمييز وتقول إنه قادرٌ , فإن الأمر حينئذ يكون كما قيل :(1/214)
ألقاه في اليَمِ مكتوفاً وقال له ******* إياكَ إياكَ أن تبتلَ بالماءِ
أو تجد هذا الإنسان الذي قد يفهم بعض النصوص في تعاملاته التجارية قد يأكل الربا ويأكل الحرام وقد يغش وقد يخدع وقد يأخذ أموال الآخرين أو يعتدي على أراضيهم أو يأخذ مالهم بالباطل لا بالحق , ومع ذلك يلتمس لنفسه ألف عذرٍ وعذر في أن من حقه أن يفعل ذلك كله . فأين التزكية إذن ؟ً وأين العلم الذي يجيده هذا الإنسان في لسانه والله تعالى يقول {{ ونفسٍ وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها }} فلا بد أن تزكي نفسك ثانيا بهذا العلم . وهذه التزكية لا يغني فيها أحدٌ عن أحدٍ ولا ينفع فيها قريبٌ عن قريبه ولا أبٌ عن ابنه ولا زوجٌ عن زوجه {{ يوم لا يُغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون }} , {{ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم }} .(1/215)
كما إن الإسلام لم يقنع منك بهذا فحسب , فلم يقنع منك أن تكون عالماً بالشرع فقط أو أن تضيفَ إلي ذلك تزكية نفسك شخصيا وتزكية أولادك وزوجك ومن ائتمنك الله عليهم فحسب , بل لابد أن تضيف إلى هذين الأمرين أمراً ثالثاً هو عربون دينك وإيمانك وانتسابك إلى هذا الاسم الشريف العظيم " الإسلام " وإلى هذا المجتمع الكبير - المجتمع المسلم - ألا وهو أن تكون متحمساً لقضايا المسلمين , متعاطفاً مع همومهم , فلا تعتبر أن ما يصيب المسلم في المشرق والمغرب قضيةٌ خارجيةٌ لا تعنيك أو شأنٌ خاصٌ في دولةٍ من الدول , بل تعتبر أن من علامة صدق الإيمان في قلبك أن يتحرك المؤشر كلما سمعت خبراً , فإن كان الخبرُ ساراً تحرك المؤشرُ بالفرحِ والسرور وإن كان الخبرُ مزعجاً تحرك المؤشر بالحزن والتعاطفِ مع قضايا المسلمين بقدر ما تستطيع . وأنت تستطيع الكثير ولو لم تستطع إلا الكلمة الطيبة لكانت الكلمة الطيبة صدقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .(1/216)
فمن الذي يحول بينك وبين أن تتحدث عن قضايا المسلمين وهمومهم أو تشاطرهم أفراحهم وأتراحهم وأحزانهم , أو تعمل على توعية من حولك بما يعانيه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من ألوان الاضطهاد والتنكيل التي تبدأ بمحاولة نقلهم عن دينهم إلى دين آخر , سواء كان هذا الدين هو النصرانية أو كان هذا الدين هو العلمانية أو كان هذا الدين هو الإعراض عن دين الله عز وجل والجهل به , وهو الذي نشهده في كثير من الشعوب الإسلامية التي تحمل بطاقة مسلم أو هوية مسلم ولكنك حين تسأله تجد أنه يجهل كل قضايا الإسلام , بدءاً بقضية التوحيد وشهادة أن محمداً رسولُ الله التي أصبح من المسلمين من يجهلها , وانتهاءً بالأحكام الشرعية التي لا يفهم الكثير منها إلا أقل القليل , ومرورا بتجهيل المسلمين أمور دنياهم ليصبحوا عالة على عدوهم فهم يستوردون من عدوهم كل شي ويعتمدون على عدوهم في كل شي , لا أقول في السلاح فقط بل يعتمدون على عدوهم في الثوب الذي يلبسونه والنعل الذي ينتعلون والسيارة التي يركبون والبيت الذي يسكنون والورق الذي عليه يكتبون والقلم الذي يستخدمون وكل وسائل الحياة التي يحتاجون إليها أصبحوا عالة على عدوهم فأصبح عدوهم يمسك بخناقهم .(1/217)
وأصبح المسلمون في كثير من البلاد يحكمهم نصراني فيجعل التعليم لأبناء النصارى ويجعل الوظائف لأبناء النصارى ويجعل البعثات العلمية لهم ويجعل المواقع الحساسة لهم , أما المسلم فأصبح حظُه فقط هو أن يكون مستهلِكا مُستَعمَرا مهجَناً ليس له من الأمر شيئٌ - قليل أو كثير - وانتهاءً باضطهاد المسلم والتضييق عليه ومحاولة تصفيته جسديا والقضاء عليهم بما يسمى بالتطهير العرقي الذي يعمد إلى القضاء على المسلم , حتى لو كان المسلم ضعيف الولاء لدينه , حتى لو كان مسلما جاهلا , حتى لو كان مسلما لا يُقدم لدينه أي شيء , أصبح الكفارُ لا يُطيقون من يحمل اسمَ محمدٍ , أو علي , أو صالحٍ , أو يحمل في هويته أنه مسلمٌ أو ينتسب إلى عُروقٍ إسلاميةٍ ولو كان لا يُمت إلى الإسلام بأدنى صلة . إنهم يقتلون المسلم اليوم بالهوية في عدد من البلاد القريبة والبعيدة .(1/218)
فلا بد أن تتحدث عن هذه القضايا ولا بد أن تشاطر المسلمين همومهم بالكلمة الطيبة على أقل تقدير , والكلمة الطيبة منك لا تكفي لأنك تملك أكثر من ذلك , تملك المشاركة الحقيقية : المشاركة بالمال مثلاً في قضايا المسلمين فإذا سمعت نكبة المسلمين في الصومال التي نستطيع أن تقول أنها نكبه الغرب وأن الصومال اليوم هو أفقر بلد في العالم وأنه يعيش كارثة و أزمة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلا , تهدد بإبادة شعب بأكمله من الوجود , أتدري لماذا ؟ صحيح أن الجانب القدري في هذا واضح وهذا قضاء الله تعالى وقدره ومسألة الجفاف لا يد لأحد فيها , ولكن ثمة سبب أخر . إن أصابع النصارى واضحة فيما يبدو , فالصومال هو البلد الأفريقي الوحيد الذي يسكنه المسلمون فقط ( 100% مسلمون ) لا يوجد به نصرانيٌ واحدٌ ولم يكن به قبل بضع سنوات كنيسة واحدة , فعمل النصارى على تمزيق هذا البلد وقسموه إلى خمسة أقسام واستعمروه وحاولوا أن يسلطوا عليه الأعداء بعد الخروج منه , حتى أثاروا النعرات القبلية وما زالوا يخططون و يكيدون ويمكرون مكر الليل والنهار , حتى أصبحت الصومال تواجه هذه الأزمة الخانقة التي تعيشها اليوم , واستطاع النصارى أن يستغلوا هذه الكارثة في محاولة تنصير أعدادٍ غفيرةٍ من المسلمين رجالاً ونساءً , كباراً وصغاراً , يقول أحد المسلمين وهو يبكي : " واللهِ لقد كُنا يوما من الأيام نسأل الله تعالى ونحن في قلب الصحراء أن لا نرى بأعيننا نصرانياً أو كافراً على وجه الأرض , فإذا بنا اليوم نفرح إذا رأينا النصراني لأننا نجد عنده الطعام والشراب والغذاء والدواء والكساء .(1/219)
واللهِ لقد كنا يوما من الأيام إذا وجدنا إناءً شرب فيه النصراني أو أكل غسلناه سبع مرات إحداهن بالتراب كما نفعل إذا شرب فيه الكلب ، أما اليوم فقد أصبحنا نَهِشُ للنصارى ونَبِشُ ونستقبلُهم بالبشر والترحاب لأننا وجدنا عندهم الإغاثة التي لم نجدها مع الأسف عند إخواننا المسلمين " . وأصبح ما يزيد على مليوني مسلمٍ في بلاد أوروبا يتعرضون لعملية تنصيرٍ جادةٍ تستهدف تحويل الصومال إلى منطقةٍ أو دولةٍ نصرانيةٍ .(1/220)
فأنت تستطيع حين تسمع هذا أن تشارك بالمال وأن تؤدي بعض شكر نعمة الله تعالى عليك بالزكاة أو غيرها من الصدقات التي قد تُطعِم بها جائعاً أو تكسو عارياً أو تروي ظمآناً أو تعالج بها مريضاً أو يهدي اللهُ تعالى بها ضالاً أو متعرضا للتنصير والتكفير . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( تصدق رجلٌ من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره - حتى قال عليه الصلاة والسلام - ولو بشق تمره ) . إذن لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن يكون ذلك شق تمره أو ريالاً واحداً , فأنت لو تصورت أن ألف مليون مسلم اليوم أو ألفاً ومائتي مليونِ مسلمٍ , لو أن كل واحد منهم تخلى عن ريالٍ واحدٍ فقط لكان معنى ذلك أننا جمعنا في حملةٍ واحدةٍ ألف ومائتين مليون ريال !! كم سوف تنفع هذه الأموال ؟ كم سوف تدفع بإذن الله تعالى من الشرور عن المسلمين ؟ لكن المشكلة العظيمة أن الكثيرين تخلوا عن دورهم ولو كان دوراً محدوداً ولو كان دوراً قليلاً وظنوا أن المطالبةَ بالإنفاق وأن المطالبةَ بالبذل هي مسئوليةُ الأغنياءِ فقط , أو تخلوا عن دورهم في الدعوة والهِداية وظنوا أن الدعوة والهداية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مسئولية العلماء أو مسئولية الدعاة فقط أو مسئولية الخطباء فقط ونسوا أن الله تعالى حين خلقنا جمعياً خلقنا بشراً مسئولين مكلفين , وحين أنزل الدين لم يقل أبدا إن الدين مسئولية فئة الخاصة ولا مسئولية طبقة معينة و إنما جعل مسئولية هذا الدين على عاتق كل واحد منا سواء قام بها وحفظها أم ضيعها فهو مسؤول بين يدي الله عز وجل , قال الله تعالى {{ وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون }} .
أسال الله تعالى أن يوفقني وإياكم إلي القيام بما ائتمننا عليه إنه على كل شي قدير أقول هذا القول وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله ..(1/221)
إن من ألوان المشاركة أيها الأخ الكريم أن تشارك بنفسك فإن المسلمين اليوم يتعرضون لحملات تقتيل وتشريد في بلاد شتى وهم بأمس الحاجة إلى أن نقول لهم إننا معكم , ولكن هذه الكلمة بذاتها لا يمكن أن تنقذ إنساناً من القتل ولا يمكن أن تُخرجَه من الأزمة التي يعيشها , فلماذا لا نتبع القول بالعمل و نصدق كلامنا بأفعالنا ؟! فنعبر للمسلمين حقيقة عن تعاطفنا معهم ووقوفنا إلى جانبهم وأن مشاعر الاخوة الإسلامية التي أقامها هذا الدين لا تزال تتحرك في صدورنا ولا تزال تعتمل في نفوسنا . إن العدو قد أفلح في إقامة الحواجز بين المسلمين فأصبحنا لا نشعر بهموم المسلمين البعيدين كما نشعر بهموم من حولنا , وأصبحوا هم يشكون في صدق أخوتنا لهم ويشكون في تعاوننا معهم . لقد رأوا أن الذين يقفون إلى جانبهم في كل المواقف غالباً هم النصارى أو غير المسلمين , أما المسلمين فطالما صاحوا ثم صاحوا ثم صاحوا ولا من مجيب .
لقد أسمعت لو ناديت حياً ********** ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت ******** ولكن أنت تنفخ في رمادٍ(1/222)
أنتم جمعيا سمعتم ورأيتم بعيونكم المأساة التاريخية التي يشهدها المسلمون في البوسنة والهرسك . إنها عملية إبادة تصرح وسائل الأعلام الغربية بأن القرن كله لم يشهد لها مثيل , فهل فعلا لا يستطيع المسلمون في العالم الإسلامي أن يصنعوا لإخوانهم في يوغسلافيا شيئاً ؟ نقول كلا ثم كلا . واللهِ الذي لا إله غيرُه لو أن المسلمين شعروا بالمسئولية لاستطاعوا أن يصنعوا من الهزيمة في يوغسلافيا نصراً ومن الذل عزاً ومن القهر تمرداً ليس على الصرب الملاعين والكفار فقط بل على الصليبية العالمية ممثلة في هيئة الأمم المتحدة وفى الدول الكبرى التي تقف وراءها . إن الغرب يزعجه كثيرا أن يسمع كلمة جهاد , ولو شعر الغرب أن المسلمين يتنادون إلى دعم إخوانهم في البوسنة والهرسك , وأن هناك أعداداً من المسلمين وقفت إلى جانبهم تعلمهم وتصبرهم وتثبتهم وتعزز مواقعهم ومواقفهم وتدعوا الله تعالى لهم بالنصر وتؤازرهم بالمال وبما تستطيع , لو شعر الغرب لأحس أنه مهددٌ في قلبه – في قلب أوروبا - مهددٌ بخطر كبير يستدعي أن يسارع في حل المشكلة خشية أن تتفاقم وتتطور إلى أمور لا يستطيع أن يوقفها عند حدها , ولكن المسلمين في كثير من الأحيان يشعرون بأنهم عاجزون وأنهم مكتوفوا الأيدي على حين أنهم يستطيعون أن يعملوا الكثير.
أيها الأحبة ..(1/223)
لنفرض جدلاً أنك لا تستطيع أن تتكلم ولا أن تعمل ولا أن تبذل المال ولا أن تقف بنفسك مع إخوانك معلماً وداعياً ومرشدا و مُصَبِّراًً , فإنك تستطيع ولا بد أمراً بعد ذلك ألا وهو المشاركة الوجدانية . قدم لي الدليل العملي على أنك فعلا تشعر بمشاعر المسلمين في كل مكان , أثبت لي أنك لست شامتاً تسخر مما يقع للمسلمين , قدم الأدلة المادية على أن روح الاخوة الإسلامية ما ماتت بعدُ في قلبك . إن المشاركة الشعورية والوجدانية هي أحد الأشياء التي نحتاج أليها كثيرا ولو لم تعمل , فإن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه وهو في معركة تبوك يقول لهم : ( إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر ) . إذن لنفترض أنك معذورٌ لا تستطيع أن تتكلم لأنك أبكم ولا تستطيع أن تنفقَ لأنك فقيرٌ ولا تستطيع أن تشاركَ بنفسك لأنك مريضٌ ولا تستطيع أن تعمل شيئاً , أثبت لنا أن عندك قلباً يحزن لآلامهم ويفرح لفرحهم , أثبت أن لديك مشاركةً وجدانيةً مع إخوانك في كل مكان ، أثبت أن روح الاخوة لا تزال تعمل في قلبك .
يا راحلين إلى البيت العتيق ******* لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً
إنا أقمنا على عذرٍ نكابده ******** ومن أقام على عذرٍ كمن راحَا
هذا الشعور الوجداني في قلبك سيتبعه تمني , سيتبعه على أقل تقدير دعوة ترفعها في الهزيع الأخير من الليل إلى رب العالمين تفتح لها أبوابُ السماء:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ********* ولا تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن ********* لها أجلٌ وللأجل انقضاء(1/224)
الأمة التي قوام أعدادها ألف ومائتا مليون , هل تعتقد أنه لا يوجد فيها واحد مستجاب الدعوة ؟ هل تظن أن أرحام النساء عقمت أن تلد شخصاً تقياً ولياً لو أقسم على الله لأبره ؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) ؟ نحن نجزم يقيناً أن في هذه الأمة من الأولياء من لو دعوا الله لأجابهم , ولو استسقوا المطر من السماء لسقاهم شراباً طهوراً , ولو سألوا الله تعالى ما رد سؤالهم , ولو أقسموا على الله تعالى لأبرهم , فأين هؤلاء ؟ لماذا لا نحرك همم الناس ؟ العجائز والأطفال والكبار والصغار والسذج والمغفلين والجهال والمتعلمين والجميع لنقول لهم ادعوا الله . وإذا دعوت الله فادعُ لنفسك أولا ولا شك ولا تلام على هذا , ولكن أضف إلى هذا أن تدعوا إلى غيرك كما تدعوا لوالديك وللأقربين وللعلماء وللدعاة أن تدعوا لإخوانك المسلمين في كل مكان أن يفرج الله تعالى عنهم كروبهم ويزيل عنهم همومهم ويؤمنهم من خوف و يطعمهم من جوع ويرويهم من ظمأ , وقبل ذلك كله أن يعلمهم من جهل وأن يبصرهم في دينهم .
أيها الاخوة ..(1/225)
إن آخر هذه الأمة لن يَصْلُحَ إلا بما صَلُحَ به أولها , فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم رَبَّى هذه الأمة على هذه المعاني , فرباها على المسئولية الشخصية في طلب العلم الشرعي والتعب وراء تحصيله بدليله , وربى هذه الأمة على مسئولية التزكية لهذا العلم للنفس وللغير , و ربى هذه الأمة على مسئولية المشاركة وأن تكون الأمة جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى كما قال عليه الصلاة والسلام , وكما قال في الحديث الآخر المتفق عليه ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها . فلا بد إذن من دعوة لهذه الأمة , دعوة إلى الدين كله لا بعضه فلا ندعوا إلى بعض الدين ونغفل عن بعضه {{ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }} إننا لا نقبل تجزيء الإسلام أو علمنته فالدين جاء ليُعلم الإنسان كيف يتوضأ وكيف يصلي وكيف يبيع ويشتري وكيف يحكم , جاء ليهيمن على حياة الإنسان كلها دقيقها وجليلها , ولا يجوز التفريط بشي من الدين أو اعتبار أن جزءاً من الحياة غير داخل في مسألة الهداية الربانية . ولا بد أن تكون الدعوة إلى الدين لا إلى الهوى فالدين واحد أما الأهواء فهي شتى {{ ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون }} , {{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم }} . يجب أن ندعو إلى دين الله : كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا , لسنا ندعوا إلى أهوائنا ولا إلى أمزجتنا ولا إلى رغباتنا ولا إلى آرائنا الشخصية وإنماً ندعو إلى دين الله تعالى , أما آراءنا فقد نعرضها ولكننا لا نُلزم بها أحداً لأنها تحتمل أن تكون خطأ وتحتمل أن تكون صواباً .(1/226)
والراياتُ المرفوعة اليوم كثيرة والكثير منها ينادي إلى القرآن والسنة ولا شك أن الدعوة إلى الكتاب والسنة دعوةُ خيرٍ وهي دعوة تامة فاللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة . والخلاف بين المسلمين اليوم كثير و ربما الكثير منه خلاف شخصي ناتج عن اختلاف الطبائع وتفاوت الملكات ويمكن تجاوز الاختلاف بأن نقوم بعمل واحد في خدمة هذا الدين نتعاون فيه على البر والتقوى كما أمر الله عز وجل {{ وتعاونوا على البر و التقوى }} ولابد أن تكون دعوتنا إلى الدين فوق مستوى أن ندعو إلى لافتةٍ خاصةٍ أو رايةٍ خاصةٍ واسمٍ خاصٍ أو حزبٍ خاصٍ أو شخصٍ معينٍ , و إنما نحن نهتم بالدين وندعو إلى الدين ولا يهمنا بعد ذلك أي جنس تكون وأي لون تكون وأي اسمٍ تنتحل فإن المهم هو أن تكون ملتزماً بحقيقة الدين وجوهره ومظهره , فلا بد من هذا أولا أن نقوم بدعوة جادةٍ إلى دين الله عز وجل . ولا بد ثانيا أن تكون هذه الدعوة موجهةً للأمة كلها فليست الدعوة إلى الإسلام حكراً على فئةٍ خاصةٍ من المثقفين مثلاً أو من الأذكياء أو من الطلابِ والشبابِ أو من الدعاةِ كلا الدين نزل للجميع , والأعرابي الذي يركض وراء إبله أو ينعق بغنمه قد نزل الدين له و بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه لدعوته . وقد يتساءل البعض وماذا يستفيد الإسلام من الأعرابي في الصحراء أو مزارع في بستانه ؟ فأقول دعك من سؤال ماذا يستفيد الإسلام من هذا الرجل , و لكن اسأل ماذا يستفيد هذا الرجل من الإسلام , يكفيه أن ينقذه الله من النار . وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على يهودي وهو في مرض الموت فقال له : ( قل أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فنطق بها ثم مات فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه من النار ) , هذا الرجل اليهودي الذي أسلم لم يقدم للدين شيئا ولكنه قدم لنفسه .(1/227)
والدين جاء لهداية الناس وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ووقايتهم من عذاب السعير ومن سخط الله تعالى حتى يحظوا برضوان الله تعالى والجنة , فالذي يُهمُنا أن ننقذ الناس بدين الله تعالى ولو لم يقدموا لدين الله تعالى شيئاً . ثم إن هذا الأمر جانب من تعظيم الإسلام لهذا الإنسان , فإن هذا الإنسان إذا اهتدى كان له شأنٌ كبيرٌ وقدرٌ عظيمٌ عند الله عز وجل مهما رخص في نظر الناس وقد هبت الريح يوماً من الأيام فلعبت بعبد الله بن أم مسعود وكان قصير القامة نحيف الساقين فضحك الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أتعجبون من دقة ساقيه والله لهما في الميزان أثقل من جبل أحد ) . ثم إنك لا تدري في أي طعامك البركة , فما يدريك أن يكون هذا الأعرابي الذي تحقره أو هذا الفلاح الذي لا تقيم له وزنا أو هذا العامي المشغول بتجارته أو هذا الإنسان الساذج المغفل الذي لا تعبأ به , ما يدريك أن يكون هذا الإنسان عظيما عند الله أو صادق القلب أو مخلص النية أو ذا دعوة مستجابة ؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أبغوني ضعفاءكم هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم بدعائهم و استنصارهم )
? النصر له ثمن باهض :
يقول السيد رحمه الله :
هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة . هو روحها وباعثها . وهو قوامها وكيانها . وهو حارسها وراعيها . وهو بيانها وترجمانها . وهو دستورها ومنهجها . وهو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة - كما يستمد منه الدعاة - وسائل العمل ، ومناهج الحركة ، وزاد الطريق .
ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا ، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية ، ذات وجود حقيقي ؛ ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة ؛ ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض ؛ وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك . معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات .(1/228)
وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن ، طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة ، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان ، والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين ! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية ، ذات كينونة واقعية حية ؛ ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا ، نشأ عنه وجود ، ذو خصائص في حياة "الإنسان" بصفة عامة ، وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص .
ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة ، في فترة من فترات التاريخ محددة ، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها ، ولكنه - مع هذا - يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة ، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية ، وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها ، وفي معركتها كذلك في داخل النفس ، وفي عالم الضمير ، بنفس الحيوية ، ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك .
ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة ، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة ، ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل . . ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة . .
كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة ، وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها ؛ وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها ؛ وتتصارع مع شهواتها وأهوائها ؛ ويتنزل القرآن حينئذ ليواجه هذا كله ، ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة:مع نفسها التي بين جنبيها ، ومع أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما . . وفيما وراءهما كذلك . .
أجل . .(1/229)
يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى ؛ ونتمثلها في بشريتها الحقيقية ، وفي حياتها الواقعية ، وفي مشكلاتها الإنسانية ؛ ونتأمل قيادة القرآن لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية وفي أهدافها الكلية على السواء ؛ ونرى كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة . وهي تعثر وتنهض . وتحيد وتستقيم . وتضعف وتقاوم . وتتألم وتحتمل . وترقى الدرج الصاعد في بطء ومشقة ، وفي صبر ومجاهدة ، تتجلى فيها كل خصائص الإنسان ، وكل ضعف الإنسان ، وكل طاقات الإنسان .
ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة الأولى . وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها ، تملك الاستجابة للقرآن ، والانتفاع بقيادته في ذات الطريق .
إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى ؛ ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا . وسنحس أنه معنا اليوم وغدا . وأنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهومة بعيدة عن واقعنا المحدد ، كما أنه ليس تاريخا مضى وانقضى وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية .
إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته . الكون كتاب الله المنظور . والقرآن كتاب الله المقروء . وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع ؛ كما أن كليهما كائن ليعمل . .
والكون بنواميسه ما زال يتحرك ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه . الشمس ما زالت تجري في فلكها وتؤدي دورها ، والقمر والأرض ، وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها ، وجدة هذا الدور في المحيط الكوني . .(1/230)
والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية ، وما يزال هو هو . فالإنسان ما يزال هوهو كذلك . ما يزال هو هو في حقيقته وفي أصل فطرته . وهذا القرآن هو خطاب الله لهذا الإنسان - فيمن خاطبهم الله به . خطاب لا يتغير ، لأن الإنسان ذاته لم يتبدل خلقا آخر ، مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله ، ومهما يكن هو قد تأثر وأثر في هذه الظروف والملابسات . .
والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير ؛ ويملك أن يوجه حياته اليوم وغدا لأنه معد لهذا ، بما أنه خطاب الله الأخير ؛ وبما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة متحركة بدون تبديل .
وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا:هذا نجم قديم "رجعي ؟ " يحسن أن يستبدل به نجم جديد "تقدمي ! " أو أن هذا "الإنسان" مخلوق قديم "رجعي" يحسن أن يستبدل به كائن آخر "تقدمي" لعمارة هذه الأرض !!!
إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك ، فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن . خطاب الله الأخير للإنسان .
وهذه السورة تمثل قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد "غزوة بدر" - في السنة الثانية
من الهجرة - إلى ما بعد "غزوة أحد" في السنة الثالثة . وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتى في خلال هذه الفترة الزمنية . وفعل القرآن - إلى جانب الأحداث - في هذه الحياة ، وتفاعله معها في شتى الجوانب .(1/231)
والنصوص من القوة والحيوية بحيث تستحضر صورة هذه الفترة ؛ وصورة الحياة التي عاشتها الجماعة المسلمة ؛ وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت بهذه الحياة . مع استبطان السرائر والضمائر ، وما يدب فيها من الخواطر ، وما يشتجر فيها من المشاعر ، حتي لكأن قارئها يعيش هذه الأحداث ، ويعايش الأمة التي كانت تخوضها وتتفاعل وإياها . ولو أغمض الإنسان عينيه فلربما تراءت له - كما تراءت لي - شخوص الجماعة المسلمة رائحة غادية ، بسماتها الظاهرة على الوجوه ، ومشاعرها المستكنة في الضمائر . ومن حولها أعداؤها يتربصون بها ، ويبيتون لها ، ويلقون بينها بالفرية والشبهة ، ويتحاقدون عليها ، ويجمعون لها ، ويلقونها في الميدان ، وينهزمون أمامها - في أحد - ثم يكرون عليها فيوقعون بها . . وكل ما يجري في المعركة من حركة وكل ما يصاحب حركاتها من انفعال باطن وسمة ظاهرة . .
والقرآن يتنزل ليواجه الكيد والدس ، ويبطل الفرية والشبهة ، ويثبت القلوب والأقدام ، ويوجه الأرواح والأفكار ، ويعقب على الحادث ويبرز منه العبرة ، ويبني التصور ويزيل عنه الغبش ، ويحذر الجماعة المسلمة من العدو الغادر والكيد الماكر ، ويقود خطاها بين الأشواك والمصايد والأحابيل ، قيادة الخبير بالفطرة العليم بما تكن الصدور . .
ومن وراء هذا كله تبقى التوجيهات والتلقينات التي احتوتها السورة خالصة طليقة من قيد الزمان والمكان ، وقيد الظروف والملابسات ، تواجه النفس البشرية ، وتواجه الجماعة المسلمة - اليوم وغدا - وتواجه الإنسانية كلها ، وكأنها تتنزل اللحظة لها ، وتخاطبها في شأنها الحاضر ، وتواجهها في واقعها الراهن . ذلك أنها تتناول أمورا وأحداثا ومشاعر وجدانية وحالات نفسية كأنما كانت ملحوظة في سياق السورة . .
بل هي ملحوظة قطعا في تقدير العليم الخبير بالنفوس والأشياء والأمور .(1/232)
ومن ثم يتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان وفي أي زمان . وهو دستور هذه الأمة في أي جيل ومن أي قبيل . وهو حادي الطريق وهادي السبيل على توالي القرون . .
ذلك أنه خطاب الله الأخير لهذا الإنسان في جميع العصور . .
في هذه الفترة كانت الجماعة المسلمة في المدينة قد استقرت بعض الاستقرار في موطنها الجديد في مدينة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومضت خطوة وراء الموقف الذي صورناه من قبل في هذه الظلال في مطلع استعراض "سورة البقرة " .
كانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت ؛ وكتب الله فيها النصر للمسلمين على قريش . وكان هذا النصر بظروفه التي تم فيها والملابسات التي أحاطت به تبدو فيه رائحة المعجزة الخارقة . .
ومن ثم اضطر رجل كعبد الله بن أبي بن سلول من عظماء الخزرج أن ينزل عن كبريائه وكراهته لهذا الدين ونبيه [ صلى الله عليه وسلم ] وأن يكبت حقده وحسده للرسول الكريم ؛ وأن ينضم - منافقا - للجماعة المسلمة ، وهو يقول:"هذا أمر قد توجه" . .
أي ظهرت له وجهة هو ماض فيها لا يرده عنها راد !
بذلك وجدت بذرة النفاق في المدينة - أو تمت وأفرخت ، فقد كان هناك قبل بدر من اضطروا لمنافقة أهلهم الذين دخلوا في الإسلام - وأصبحت مجموعة من الرجال ، ومن ذوي المكانة فيهم ، مضطرة إلى التظاهر بالإسلام ، والانضمام إلى المجتمع المسلم ، بينما هي تضمر في أنفسها الحقد والعداء للإسلام والمسلمين ؛ وتتربص بهم الدوائر ؛ وتتلمس الثغرات في الصف ؛ وتترقب الأحداث التي تضعضع قوى المسلمين أو تزعزع الصف المسلم ، ليظهروا كوامن صدورهم ، أو ليضربوا ضربة الإجهاز إذا كان ذلك في مكنتهم !(1/233)
وقد وجد هؤلاء المنافقون حلفاء طبيعيين لهم في اليهود ، الذين كانوا يجدون في أنفسهم من الحقد على الإسلام والمسلمين ، وعلى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام مثل ما يجد المنافقون بل أشد . وقد هددهم الإسلام تهديدا قويا في مكانتهم بين "الأميين" من العرب في المدينة ؛ وسد عليهم الثغرة التي كانوا ينفذون منها للعب بين الأوس والخزرج ، بعدما أصبحوا بنعمة الله إخوانا ، وفي ظل الإسلام صفا واحدا مرصوصا .
وقد غص اليهود وشرقوا بانتصار المسلمين في بدر ، وارتفع غليان حقدهم على الجماعة المسلمة ، وانطلقوا بكل ما يملكون من دس وكيد وتآمر يحاولون تفتيت الصف الإسلامي ، وإلقاء الحيرة في قلوب المسلمين ، ونشر الشبهات والشكوك ، في عقيدتهم وفي أنفسهم على السواء !
وفي هذه الفترة وقع حادث بني قينقاع فوضح العداء وسفر . .
على الرغم مما كان بين اليهود والنبي [صلى الله عليه وسلم ] من مواثيق أبرمها معهم عقب مقدمه إلى المدينة .
كذلك كان المشركون موتورين من هزيمتهم في بدر ، يحسبون ألف حساب لانتصار محمد صلى الله عليه وسلم ومعسكر المدينة ، وللخطر الذي يتمثل إذن على تجارتهم وعلى مكانتهم وعلى وجودهم كذلك !
ومن ثم يتهيأون لدفع هذا الخطر الماحق قبل أن يصبح القضاء عليه مستحيلا .
وبينما كان أعداء المعسكر الإسلامي في عنفوان قوتهم وفي عنفوان حقدهم كذلك ! كان الصف المسلم ما يزال في أوائل نشأته بالمدينة . غير متناسق تماما . فيه الصفوة المختارة من السابقين من المهاجرين والأنصار ؛ ولكن فيه كذلك نفوس وشخصيات لم تنضج بعد . والجماعة كلها على العموم لم تنل من التجارب الواقعية ما يسوي النتوءات ، ويوضح حقيقة الدعوة وحقيقة الظروف الملابسة لها ، وحقيقة منهجها العملي وتكاليفه .(1/234)
كان للمنافقين - وعلى رأسهم عبد الله بن أبي - مكانتهم في المجتمع ، وروابطهم العائلية والقبلية لم تنفصم بعد ؛ ولم ينضج في نفوس المسلمين الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي أسرتهم وهي قبيلتهم وهي وشيجتهم التي لا وشيجة معها . ومن ثم كانت هناك خلخلة في الصف الإسلامي بسبب وجود مثل هذه العناصر مندمجة في الصف ، مؤثرة في مقاديره . [ كما يتجلى ذلك في أحداث غزوة أحد عند استعراض النصوص الخاصة بها في السورة ] .
وكان لليهود مكانتهم كذلك في المدينة ، وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية مع أهلها . ولم يتبين عداؤهم سافرا . ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي الوطن وهي أصل التعامل والتعاقد ، وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع العقيدة !
ومن ثم كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة . وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به . وكان هناك من يدفع عنهم ما يريد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم [ كما حدث في شفاعة عبد الله بن أبي في بني قينقاع ، وإغلاظه في هذا للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ] .
ومن ناحية أخرى كان المسلمون قد انتصروا في بدر ذلك النصر الكامل الباهر بأيسر الجهد والبذل . فقد خرج ذلك العدد القليل من المسلمين ، غير مزودين بعدة ولا عتاد - إلا اليسير - فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم وعتادهم . ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزر الباهر .
وكان هذا النصر في الوقعة الأولى التي يلتقي فيها جند الله بجند الشرك قدرا من قدر الله . ندرك اليوم طرفا من حكمته . ولعله كان لتثبيت الدعوة الناشئة وتمكينها . بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة ، لتأخذ بعد ذلك طريقها .(1/235)
فأما المسلمون فلعلهم قد وقع في نفوسهم - من هذا النصر - أنه الشأن الطبيعي الذي لا شأن غيره . وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق !
أليسوا بالمسلمين ؟
أليس أعداؤهم بالكافرين ؟
وإذن فهو النصر لا محالة حيثما التقى المسلمون بالكافرين !
غير أن سنة الله في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة ، فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس ، وتكوين الصفوف ، وإعداد العدة ، واتباع المنهج ، والتزام الطاعة والنظام ، واليقظة لخوالج النفس ولحركات الميدان . .
وهذا ما أراد الله أن يعلمهم إياه بالهزيمة في "غزوة أحد" على النحو الذي تعرضه السورة عرضا حيا مؤثرا عميقا ، وتعرض أسبابه من تصرفات بعض المسلمين ؛ وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف على السواء .
000000000000000000
وقال تعالى في سورة العنكبوت { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ {4} مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {5} وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {6}
ويقول السيد رحمه الله :(1/236)
إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف ؛ وأمانة ذات أعباء ؛ وجهاد يحتاج إلى صبر ، وجهد يحتاج إلى احتمال . فلا يكفي أن يقول الناس:آمنا . وهم لا يتركون لهذه الدعوى ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم . كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به - وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه - وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب . هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت ، وسنة جارية ، في ميزان الله سبحانه: ولقد فتنا الذين من قبلهم ، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين . .
والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء ؛ ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله ، مغيب عن علم البشر ؛ فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم . وهو فضل من الله من جانب ، وعدل من جانب ، وتربية للناس من جانب ، فلا يأخذوا أحدا إلا بما استعلن من أمره ، وبما حققه فعله . فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه ! .
ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين .
إن الإيمان أمانة الله في الأرض ، لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة ، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص . وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة ، وعلى الأمن والسلامة ، وعلى المتاع والإغراء . وإنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق الله ، وتحقيق كلمته في عالم الحياة . فهي أمانة كريمة ؛ وهي أمانة ثقيلة ؛ وهي من أمر الله يضطلع بها الناس ؛ ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء .(1/237)
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ؛ ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه ، ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة ؛ ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان . وهذه هي الصورة البارزة للفتنة ، المعهودة في الذهن حين تذكر الفتنة . ولكنها ليست أعنف صور الفتنة . فهناك فتن كثيرة في صور شتى ، ربما كانت أمر وأدهى .
هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه ، وهو لا يملك عنهم دفعا . وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم ؛ وينادونه باسم الحب والقرابة ، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك . وقد أشير في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين وهو شاق عسير .
وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين ، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين ، تهتف لهم الدنيا ، وتصفق لهم الجماهير ، وتتحطم في طريقهم العوائق ، وتصاغ لهم الأمجاد ، وتصفو لهم الحياة . وهو مهمل منكر لا يحس به أحد ، ولا يحامي عنه أحد ، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئا .
وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة ، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقا في تيار الضلالة ؛ وهو وحده موحش غريب طريد .
وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام . فتنة أن يجد المؤمن أمما ودولا غارقة في الرذيلة ، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها ، متحضرة في حياتها ، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان . ويجدها غنية قوية ، وهي مشاقة لله !(1/238)
وهنالك الفتنة الكبرى . أكبر من هذا كله وأعنف . فتنة النفس والشهوة . وجاذبية الأرض ، وثقلة اللحم والدم ، والرغبة في المتاع والسلطان ، أو في الدعة والاطمئنان . وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه ، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس ، وفي ملابسات الحياة ، وفي منطق البيئة ، وفي تصورات أهل الزمان !
فإذا طال الأمد ، وأبطأ نصر الله ، كانت الفتنة أشد وأقسى . وكان الابتلاء أشد وأعنف . ولم يثبت إلا من عصم الله . وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان ، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى ، أمانة السماء في الأرض ، وأمانة الله في ضمير الإنسان .
وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء ، وأن يؤذيهم بالفتنة . ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة . فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق ؛ وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات ، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام ، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه ، وعلى الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء .
والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث ؛ وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع . وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل . وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات ، فلا يبقى صامدا إلا أصلبها عودا ؛ وأقواها طبيعة ، وأشدها اتصالا بالله ، وثقة فيما عنده من الحسنيين:
النصر أو الأجر ، وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية . مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار .(1/239)
وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن ؛ وبما بذلوا لها من الصبر على المحن ؛ وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات . والذي يبذل من دمه وأعصابه ، ومن راحته واطمئنانه ، ومن رغائبه ولذاته . ثم يصبر على الأذى والحرمان ؛ يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل ؛ فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام .
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله . وما يشك مؤمن في وعد الله . فإن أبطأ فلحكمة مقدرة ، فيها الخير للإيمان وأهله . وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله . وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ، ويقع عليهم البلاء ، أن يكونوا هم المختارين من الله ، ليكونوا أمناء على حق الله . وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء:
جاء في الصحيح:
أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء . .
وأما الذين يفتنون المؤمنين ، ويعملون السيئات ، فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين . مهما انتفخ باطلهم وانتفش ، وبدا عليه الانتصار والفلاح . وعد الله كذلك وسنته في نهاية المطاف:
أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ؟ ساء ما يحكمون ! . .
فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق ، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه ، وفسد تقديره ، واختل تصوره . فإن الله الذي جعل الابتلاء سنة ليمتحن إيمان المؤمن ويميز بين الصادقين والكاذبين ؛ هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد .
? اليقين بأن دين الله وهو الغالب :
قال تعالى في سورة المجادلة { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ {20} كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ {21}
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله :(1/240)
هذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لا بد أن يكون على الرغم مما قد يبدو أحيانا من الظاهر الذي يخالف هذا الوعد الصادق .
فالذي وقع بالفعل أن الإيمان والتوحيد قد غلبا على الكفر والشرك . واستقرت العقيدة في الله في هذه الأرض ؛ ودانت لها البشرية بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية ، وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد . وإذا كانت هناك فترات عاد فيها الإلحاد أو الشرك إلى الظهور في بعض بقاع الأرض - كما يقع الآن في الدول الملحدة والوثنية - فإن العقيدة في الله ظلت هي المسيطرة بصفة عامة . فضلا على أن فترات الإلحاد والوثنية إلى زوال مؤكد ، لأنها غير صالحة للبقاء . والبشرية تهتدي في كل يوم إلى أدلة جديدة تهدي إلى الاعتقاد في الله والتمكين لعقيدة الإيمان والتوحيد .
والمؤمن يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة . فإذا كان الواقع الصغير في جيل محدود أو في رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة ، فهذا الواقع هو الباطل الزائل . الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة . لعلها استجاشة الإيمان وإهاجته لتحقيق وعد الله في وقته المرسوم .
وحين ينظر الإنسان اليوم إلى الحرب الهائلة التي شنها أعداء الإيمان على أهل الإيمان في صورها المتنوعة ، من بطش ومن ضغط ومن كيد بكل صنوف الكيد في عهود متطاولة ، بلغ في بعضها من عنف الحملة على المؤمنين أن قتلوا وشردوا وعذبوا وقطعت أرزاقهم وسلطت عليهم جميع أنواع النكاية . ثم بقي الإيمان في قلوب المؤمنين ، يحميهم من الانهيار ، ويحمي شعوبهم كلها من ضياع شخصيتها وذوبانها في الأمم الهاجمة عليها ، ومن خضوعها للطغيان الغاشم إلا ريثما تنقض عليه وتحطمه . . حين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع في المدى المتطاول يجد مصداق قول الله تعالى . يجده في هذا الواقع ذاته بدون حاجة إلى الانتظار الطويل !!(1/241)
وعلى أية حال فلا يخالج المؤمن شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لا بد أن تظهر في الوجود ، وأن الذين يحادون الله ورسوله هم الأذلون ، وأن الله ورسله هم الغالبون . وأن هذا هو الكائن والذي لا بد أن يكون . ولتكن الظواهر غير هذا ما تكون !
? عندما تكون الأهداف واضحة :
قال تعالى في سورة المجادلة { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {22} وقال تعالى في سورة القصص { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {83}
يقول السيد رحمه الله :
وفي النهاية تجيء القاعدة الثابتة التي يقف عليها المؤمنون ، أو الميزان الدقيق للإيمان في النفوس:
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون . .
إنها المفاضلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان ، والانحياز النهائي للصف المتميز ، والتجرد من كل عائق وكل جاذب ، والارتباط في العروة الواحدة بالحبل الواحد .
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . .(1/242)
فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، وما يجمع إنسان في قلب واحد ودين:ودا لله ورسوله وودا لأعداء الله ورسوله ! فإما إيمان أو لا إيمان . أما هما معا فلا يجتمعان . ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . .
فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان . إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين:
لواء الله ولواء الشيطان . والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان . فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد . ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر . وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن . وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير . وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم . متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة . وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله .
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان . .
فهو مثبت في قلوبهم بيد الله مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن . فلا زوال له ولا اندثار ، ولا انطماس فيه ولا غموض !
وأيدهم بروح منه . .
وما يمكن أن يعزموا هذه العزمة إلا بروح من الله . وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق ، ويصلهم بمصدر القوة والإشراق .
ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . .
جزاء ما تجردوا في الأرض من كل رابطة وآصرة ؛ ونفضوا عن قلوبهم كل عرض من أعراضها الفانية .
رضي الله عنهم ورضوا عنه . .
وهذه صورة وضيئة راضية مطمئنة ، ترسم حالة المؤمنين هؤلاء ، في مقام عال رفيع . وفي جو راض وديع . .(1/243)
ربهم راض عنهم وهم راضون عن ربهم . انقطعوا عن كل شيء ووصلوا أنفسهم به ؛ فتقبلهم في كنفه ، وأفسح لهم في جنابه ، وأشعرهم برضاه . فرضوا . رضيت نفوسهم هذا القرب وأنست به واطمأنت إليه . .
أولئك حزب الله . .
فهم جماعته . المتجمعة تحت لوائه . المتحركة بقيادته . المهتدية بهديه . المحققة لمنهجه . الفاعلة في الأرض ما قدره وقضاه . فهي قدر من قدر الله .
ألا إن حزب الله هم المفلحون .
ومن يفلح إذن إذا لم يفلح أنصار الله المختارون ؟
وهكذا تنقسم البشرية إلى حزبين اثنين:حزب الله وحزب الشيطان . وإلى رايتين اثنتين:راية الحق وراية الباطل . فإما أن يكون الفرد من حزب الله فهو واقف تحت راية الحق ، وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل . .
وهما صفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان !!
لا نسب ولا صهر ، ولا أهل ولا قرابة ، ولا وطن ولا جنس ، ولا عصبية ولا قومية . .
أنما هي العقيدة ، والعقيدة وحدها . فمن انحاز إلى حزب الله ووقف تحت راية الحق فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في الله . تختلف ألوانهم وتختلف أوطانهم ، وتختلف عشائرهم وتختلف أسرهم ، ولكنهم يلتقون في الرابطة التي تؤلف حزب الله ، فتذوب الفوارق كلها تحت الراية الواحدة . ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت راية الباطل ، فلن تربطه بأحد من حزب الله رابطة . لا من أرض ، ولا من جنس ، ولا من وطن ولا من لون ، ولا من عشيرة ولا من نسب ولا من صهر . .
لقد أنبتت الوشيجة الأولى التي تقوم عليها هذه الوشائج فأنبتت هذه الوشائج جميعا . .
ومع إيحاء هذه الآية بأنه كان هناك في الجماعة المسلمة من تشده أواصر الدم والقرابة وجواذب المصلحة والصداقة ، مما تعالجه هذه الآية في النفوس ، وهي تضع ميزان الإيمان بهذا الحسم الجازم ، والمفاضلة القاطعة . .(1/244)
إلا أنها في الوقت ذاته ترسم صورة لطائفة كانت قائمة كذلك في الجماعة المسلمة ، ممن تجردوا وخلصوا ووصلوا إلى ذلك المقام .
وهذه الصورة هي أنسب ختام للسورة التي بدأت بتصوير رعاية الله وعنايته بهذه الأمة في واقعة المرأة الفقيرة التي سمع الله لها وهي تجادل رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] في شأنها وشأن زوجها !
فالانقطاع لله الذي يرعى هذه الأمة مثل هذه الرعاية هو الاستجابة الطبيعية . والمفاضلة بين حزب الله وحزب الشيطان هي الأمر الذي لا ينبغي غيره للأمة التي اختارها الله للدور الكوني الذي كلفها إياه .
? الفرق بين أهداف المسلمين وأهداف الكفار :
قال تعالى في سورة النساء { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا {75} الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا {76}
يقول السيد رحمه الله :
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ؛ لتحقيق منهجه ، وإقرار شريعته ، وإقامة العدل "بين الناس" باسم الله . لا تحت أي عنوان آخر . اعترافا بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم:
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ، لتحقيق مناهج شتى - غير منهج الله - وإقرار شرائع شتى - غير شريعة الله - وإقامة قيم شتى - غير التي أذن بها الله - ونصب موازين شتى غير ميزان الله !
ويقف الذين آمنوا مستندين الى ولاية الله وحمايته ورعايته .(1/245)
ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم ، وشتى مناهجهم ، وشتى شرائعهم ، وشتى طرائقهم ، وشتى قيمهم ، وشتى موازينهم . . فكلهم أولياء الشيطان .
ويأمر الله الذين أمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان ؛ ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان:
فقاتلوا أولياء الشيطان ، إن كيد الشيطان كان ضعيفًا .
وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة ، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد . مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله ، ليس لأنفسهم منها نصيب ، ولا لذواتهم منها حظ . وليست لقومهم ، ولا لجنسهم ، ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء . .
إنما هي لله وحده ، ولمنهجه وشريعته . وأنهم يواجهون قوما أهل باطل ؛ يقاتلون لتغليب الباطل على الحق . لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية - وكل مناهج البشر جاهلية - على شريعة منهج الله ؛ ولتغليب شرائع البشر الجاهلية - وكل شرائع البشر جاهلية - على الله ؛ ولتغليب ظلم البشر - وكل حكم للبشر من دون الله ظلم - على عدل الله ، الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس . .
كذلك يخوضون المعركة ، وهم يوقنون أن الله وليهم فيها . وأنهم يواجهون قوما ، الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف . .
إن كيد الشيطان كان ضعيفا . .
ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين ، وتتحدد نهايتها . قبل أن يدخلوها . وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة - فهو واثق من النتيجة - أم بقي حتى غلب ، ورأى بعينيه النصر ؛ فهو واثق من الأجر العظيم .
ويقول السيد :
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض ؛ وتحقيق منهجه في حياة الناس . ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين ؛ وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس ، والناس عبيد الله وحده يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه !
وهذا يكفي . .
مع تقرير مبدأ: لا إكراه في الدين . .(1/246)
أي لا إكراه على اعتناق العقيدة ، بعد الخروج من سلطان العبيد ؛ والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله . أو أن الدين كله لله . بهذا الاعتبار .
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض . بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك . .
وهذه وحدها تكفي . . ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول:خرجنا ندافع عن وطننا المهدد !
أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين ! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة !
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر ، وحذيفة بن محصن ، والمغيرة بن شعبة ، جميعاً لرستم قائد جيش الفرس في القادسية ، وهو يسألهم واحداً بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية ، قبل المعركة:
ما الذي جاء بكم ؟ فيكون الجواب:الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ومن ضيق الدنيا إلى سعتها . ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . .
فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه ، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه ، وتركناه وأرضه . ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر" .
إن هناك مبرراً ذاتياً في طبيعة هذا الدين ذاته ؛ وفي إعلانه العام ، وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه ، في مراحل محددة ، بوسائل متجددة . .
وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء - ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها - إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته ، وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية . . لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة ، وموقوتة !
وإنه ليكفي أن يخرج المسلم مجاهداً بنفسه وماله . .
في سبيل الله . في سبيل هذه القيم التي لا يناله هو من ورائها مغنم ذاتي ؛ ولا يخرجه لها مغنم ذاتي . .
إن المسلم قبل أن ينطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان(1/247)
مع هواه وشهواته . .
مع مطامعه ورغباته . .
مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه . .
مع كل شارة غير شارة الإسلام . .
ومع كل دافع إلا العبودية لله ، وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان الله . .
والذين يبحثون عن مبررات للجهاد الإسلامي في حماية "الوطن الإسلامي" يغضون من شأن "المنهج" ويعتبرونه أقل من "الموطن" ! وهذه ليست نظرة الإسلام إلى هذه الاعتبارات . .
إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس الإسلامي ، فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحس الإسلامي . أما الأرض - بذاتها - فلا اعتبار لها ولا وزن ! وكل قيمة للأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج الله وسلطانه فيها . وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج و "دار الإسلام" ونقطة الانطلاق لتحرير "الإنسان" . .
وحقيقة أن حماية "دار الإسلام" حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج . ولكنها هي ليست الهدف النهائي . وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي . إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها . ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها ، وإلى النوع الإنساني بجملته . فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين ، والأرض هي مجاله الكبير !
وكما أسلفنا فإن الانطلاق بالمنهج الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة ، ونظام المجتمع ، وأوضاع البيئة . .
وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة . كي يخلو له وجه الأفراد من الناس ، يخاطب ضمائرهم وأفكارهم ، بعد أن يحررها من الأغلال المادية ؛ ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار . .(1/248)
يجب ألا تخدعنا أو تفزعنا حملات المستشرقين على مبدأ "الجهاد" ، وألا يثقل على عاتقنا ضغط الواقع وثقله في ميزان القوى العالمية ، فنروح نبحث للجهاد الإسلامي عن مبررات أدبية خارجة عن طبيعة هذا الدين ، في ملابسات دفاعية وقتية ، كان الجهاد سينطلق في طريقه سواء وجدت هذه الملابسات أم لم توجد !
ويجب ونحن نستعرض الواقع التاريخي ألا نغفل عن الاعتبارات الذاتية في طبيعة هذا الدين وإعلانه العام ومنهجه الواقعي . .
وألا نخلط بينها وبين المقتضيات الدفاعية الوقتية . .
حقاً إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له . لأن مجرد وجوده ، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله ، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية ، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية ، لأن الحاكمية فيه لله وحده . . إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله ، القائمة على قاعدة العبودية للعباد ، أن تحاول سحقه ، دفاعاً عن وجودها ذاته . ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه . .
هذه ملابسة لا بد منها . تولد مع ميلاد الإسلام ذاته . وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضاً ، ولا خيار له في خوضها . وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً . .
هذا كله حق . .
ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده . ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضاً . .
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة . .
إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء ؛ لإنقاذ "الإنسان" في "الأرض" من العبودية لغير الله . ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية ؛ ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية ؛ تاركاً "الإنسان" . . نوع الإنسان . .
في "الأرض" . .
كل الأرض . .(1/249)
للشر والفساد والعبودية لغير الله .
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام ، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية ؛ ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام ! . . ولكن الإسلام لا يهادنها ، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية ، ضماناً لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها .
هذه طبيعة هذا الدين ، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين !
وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة ، وتصوره قابعا داخل حدود إقليمية أو عنصرية ، لا يحركه إلا خوف الاعتداء ! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق !
إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية ، وليس منهج إنسان ، ولا مذهب شيعة من الناس ، ولا نظام جنس من الأجناس ! . .
ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة . .
حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد . .
إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي !
والمسافة قد لا تبدو كبيرة عند مفرق الطريق ، بين تصور أن الإسلام كان مضطراً لخوض معركة لا اختيار له فيها ، بحكم وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الأخرى التي لا بد أن تهاجمه . وتصور أنه هو بذاته لا بد أن يتحرك ابتداء ، فيدخل في هذه المعركة . .
المسافة عند مفرق الطريق قد لا تبدو كبيرة . فهو في كلتا الحالتين سيدخل المعركة حتماً . ولكنها في نهاية الطريق تبدو هائلة شاسعة ، تغير المشاعر والمفهومات الإسلامية تغييرا كبيرا . .
خطيرا . .(1/250)
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجاً إلهياً ، جاء ليقرر ألوهية الله في الأرض ، وعبودية البشر جميعاً لإله واحد ، ويصب هذا التقرير في قالب واقعي ، هو المجتمع الإنساني الذي يتحرر فيه الناس من العبودية للعباد ، بالعبودية لرب العباد ، فلا تحكمهم إلا شريعة الله ، التي يتمثل فيها سلطان الله ، أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته . .
فمن حقه إذن أن يزيل العقبات كلها من طريقه ، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي ، أو أوضاع الناس الاجتماعية . .
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو ، واعتباره نظاماً محلياً في وطن بعينه . فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية !
هذا تصور . .
وذاك تصور . .
ولو أن الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد . . ولكن التصور الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه ، يختلف اختلافاً بعيداً ، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخطة والاتجاه .
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء . فالإسلام ليس نحلة قوم ، ولا نظام وطن ، ولكنه منهج إله ، ونظام عالم . .
ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية "الإنسان" في الاختيار . وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته . إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة ، المفسدة للفطرة ، المقيدة لحرية الاختيار .
من حق الإسلام أن يخرج "الناس" من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . . ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعالمين ، وتحرير الناس أجمعين . .
وعبادة الله وحده لا تتحقق - في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي - إلا في ظل النظام الإسلامي . فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم . حاكمهم ومحكومهم . أسودهم وأبيضهم . قاصيهم ودانيهم . فقيرهم وغنيهم تشريعاً واحداً يخضع له الجميع على السواء . .(1/251)
أما في سائر الأنظمة ، فيعبد الناس العباد ، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد . وهو من خصائص الألوهية . فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصاً وعملاً ، سواء ادعاها قولاً أم لم يعلن هذا الادعاء ! وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية سواء سماها باسمها أم لم يسمها !
والإسلام ليس مجرد عقيدة . حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان . إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس . والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو . ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرر العام . وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله لله . فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته ، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد !
إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر ، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر ، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة . لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة . والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست هي الحقيقة . ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة . .
ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام ، بنفي هذا الاتهام ! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية !
ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته ، وحقه في "تحرير الإنسان" ابتداء .
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة "الدين" . .
وأنه مجرد "عقيدة " في الضمير ؛ لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة . .
ومن ثم يكون الجهاد للدين ، جهاداً لفرض العقيدة على الضمير !(1/252)
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام . فالإسلام منهج الله للحياة البشرية . وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية ! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام . أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع ، في ظل النظام العام ، بعد رفع جميع المؤثرات . .
ومن ثم يختلف الأمر من أساسه ، وتصبح له صورة جديدة كاملة .
وحيثما وجد التجمع الإسلامي ، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي ، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام . مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان . .
فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد ، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ . مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة . وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة ، في المراحل التاريخية المتجددة . ولا نخلط بين دلالالتها المرحلية ، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل .
? من معاني النصر :
الحمد لله رب العالمين ونصلي ونسلم على رسول العالمين أما بعد :(1/253)
من معتقد أهل السنة والجماعة في معاني أسماء الله وصفاته أن الله لا يُخذل من توجّه إليه بصدق وتوكل واعتمد عليه . فإنه لم يحصل في تاريخ البشرية منذ أن خلق الله هذه الأرض أن نبياً من الأنبياء أو عالماً أو داعيةً أو مجاهداً أو مجتمعاً أو دولةً أو غيرهم توكلوا على الله وصدقوا الله واعتمدوا على الله وتركوا جميع الناس من أجل الله ثم خذلهم الله ، هذا لا يعرف في التاريخ أبداً ، بل من فهمنا لمعاني أسماء الله وصفاته أن كل من توكل على الله واعتمد عليه وترك من سواه من الخلق فإن الله لا يخذله بل سينصره كما قال سبحانه : (وَكَانَ حَقًّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) . فإن هذا من معاني أسمائه وصفاته . فالله عز وجل بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا كتب النصر والغلبة لأهل الحق من أوليائه الصالحين والمصلحين وكتب المهانة والذلة على أع
دائه من الكافرين والمنافقين وهذه سنة لا تتخلف إلاّ إذا تخلفت أسبابها (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّة اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة اللَّهِ تَحْوِيلاً) .
لكن لهذا النصر صور عديدة وليس النصر محصوراً في انتصار المعارك فحسب بل قد يقتل النبيّ أو يطرد العالم أو يسجن الداعية أو يموت المجاهد أو تسقط الدولة والمؤمنون منهم من يسام العذاب ومنهم من يلقى في الأخدود ومنهم من يَستشهد ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد ومع ذلك يكون كل هؤلاء قد انتصروا بل وحققوا نصراً مؤزراً وتحقق فيهم قول الله تعالى (وَكَانَ حَقًّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) . ومن قَصَرَ معنى النصر على صورة واحدة وهي الانتصار في المعارك فحسب لم يدرك معنى النصر في الإسلام .
إليكم بعض صور النصر في الإسلام :
النوع الأول من أنواع النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين : نصر العزة والتمكين في الأرض وجعل الدولة والجولة للإسلام :(1/254)
كما نصر الله عز وجل داود وسليمان عليهما السلام كما قال سبحانه : (وقَتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة) وقال عز وجل: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) فجمع الله عز وجل لهذين النبيين الكريمين بين النبوة والحكم والملك العظيم . وكذلك موسى عليه السلام نصره الله على فرعونَ وقومه وأظهر الدين في حياته كما قال سبحانه : (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) . أما نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فقد نصره الله نصراً مؤزراً فما فارق النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا حتى أقرّ الله عز وجل عينه بالنصر المبين، والعز والتمكين، بل جعل الله عز وجل النصر ودخول الناس في دين الله أفواجا علامة قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) فما فارق النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا حتى حكم الإسلام جزيرة العرب، ثم فتح تلامذته من بعده البلاد شرقاً وغربا وشمالاً وجنوبا، حتى استنارَ أكثرُ الأرض بدعوة الإسلام، وسالت دماء الصحابة في الأقطار والأمصار، يرفعون راية الإسلام، وينشرون دين الله عز وجل حتى وقف عقبة بن عامر على شاطئ بحر الاطلنطي وقال : "والله يا بحر لو أعلم أن وراءك أرض تفتح في سبيل الله لخضتك بفرسي هذا" وما كان يعلم رضي الله عنه أن وراء ذلكم البحر الأمريكتان ولو كتب الله وخاض البحر ودخل المسلمون تلك البلاد لكان التاريخ شيئاً آخر ، فشاء الله تعالى أن تقف خيول عقبة بن عامر على شاطئ الاطلنطي لحكمة يعلمها سبحانه لايُسأل عما يفعل وهم يُسألون .(1/255)
وهذا الخليفة المسلم هارون الرشيد نظر إلى السحابة في السماء وقال لها : "أمطري حيث تشائين فسوف يأتيني خراجك" لقد انتصر الإسلام لما وجد الرجال الذين يقومون به ويضحون من أجله والله عز وجل يقول : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ) .
النوع الثاني من أنواع النصر : أن يُهلك الله عز وجل الكافرين والمكذبين وينجي رسله وعباده المؤمنين
قال عز وجل حاكياً عن نوح عليه السلام: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) وكما نصر الله عز وجل هوداً وصالحاً ولوطاًً وشعيباً عليهم الصلاة والسلام أهلك الله عز وجل الكافرين والمكذبين وأنجى رسله وعباده المؤمنين .
النوع الثالث من أنواع النصر: وهو انتصار العقيدة والإيمان
وهو أن يثبت المؤمنون على إيمانهم وأن يضحوا بأبدانهم حماية لأديانهم وأن يؤثروا أن تخرج أرواحهم ولا يخرج الإيمان من قلوبهم فهذا نصر للعقيدة وانتصار للإيمان . فنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة ؟ ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار مع أن الذين ألقوه في النار يرون أنفسهم أنهم قد هزموه ، كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار . هذه صورة وتلك صورة وهما في الظاهر بعيد من بعيد فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب !(1/256)
وهذا خبر الغلام في قصة أصحاب الأخدود حين عجز الملك عن قتله فقال له : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، وانظر إلى عزة الإسلام وهو يقول للملك "ما آمرك به" قال : ما هو ؟ قال : تجمعُ الناس في صعيد واحد وتصلُبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل : باسم اللهِ ربِّ الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال : باسم الله ربِّ الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صُدغه، فوضع يده في صُدغه في موضع السهم فمات . فقال الناس : آمنا بربِّ الغلام، آمنا بربِّ الغلام، فأُتي الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك قد آمن الناس .(1/257)
فانظروا كيف ضحى هذا الغلام بحياته من أجل الدعوة، وهذا ما يجب على الدعاة إلى الله عز وجل أن لا يبخلوا بشيء في سبيل نشر دعوتهم، ولو أنفقوا حياتهم ثمناً لإيمان الناس، فقد مضى الغلام إلى ربه، إلى رحمته وجنته وآمن الناس بدعوته، عند ذلك أمر الملك بحفر الأخاديد في أفواه السكك وأضرم فيها النيران وقال : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام : يا أماه اصبري فإنك على الحق، وسجل الله عز وجل لنا في كتابه الخالد خاتمة القصة، وعاقبة الفريقين في الآخرة فقال عز وجل (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) .
في النظرة القريبة قد يُظن أن هؤلاء قد انهزموا لكنهم في الحقيقة أنهم انتصروا وأيّ انتصار وإن كانت نهايتهم الحرق بالنار .(1/258)
وقافلة الإيمان تسير يتقدمها الأنبياء الكرام والصديقون والشهداء (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) ما جفت الأرض من دماء الشهداء في عصر من العصور ولا خلت الأرض من مخلص يقدم للأمة نموذجاً فيموت هو وينتشر الخير بعده بسببه فهذا صاحب الظلال رحمه الله كان قتله انتصاراً لمنهجه الذي عاش من أجله ومات في سبيله بذل حياته كلها من أجل أن يبين في وقته أن الحكم من أمور العقيدة والتحاكم إلى غير شرع الله والحكم بغير حكمه كفر بالله عز وجل (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) وقال تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وبعد أن حكم عليه بالإعدام وقبل أن ينفذ فيه الحكم الظالم كتب هذه الأبيات وكتب الله عز وجل لها الحياة وخرجت من وراء القضبان تقول للعالم .
أخي أنت حر وراء السدود أخي أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما فماذا يضيرك كيد العبيد
أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد
أخي إن مت نلق أحبابنا فروضات ربي أعدت لنا
وأطيارها رفرفت حولنا فطوبى لنا في ديار الخلود
أخي إن ذرفت عليّ الدموع وبللت قبري بها في خشوع
فأوقد لهم من رفاتي الشموع وسيروا بها نحو مجد تليد
فرحمة الله على صاحب الظلال ورحماته . قال عنه أحد الشيوعيين وهو في سجنه : إنني أتمنى أن أقتل كما قتل وينشر مبدئي وكتبي كما انتشرت كتبه .(1/259)
نعم لقد وجدنا مطابع النصارى في لبنان تسارع إلى طباعة ونشر كتبه بعدما قتل من أجلها ، وهذا ما قصده رحمه الله عندما قال : إن كلماتَنا وأقوالَنا تظل جثثاً هامدة حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بدمائنا عاشت وانتفضت بين الأحياء . إنه نصر وأيّ نصر ، إنه أعظم وأجل من انتصارات كثير من المعارك والتي سرعان ما تنتهي بانتهائها أما هذا النصر فإنه يبقى ما شاء الله أن يبقى .
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده ويظن أعداؤه أنهم قد انتصروا عليه ، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي كتبها بدمه ، فتبقى حافزاً ومحركاً للأبناء والأحفاد وربما كانت حافزاً ومحركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال .
النوع الرابع من أنواع انتصار المؤمنين : وهو أن يحمي الله عز وجل عباده المؤمنين من كيد الكافرين
كما قال تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) وكما قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : (والله يعصمك من الناس) وجاء في السيرة المباركة كيف عصمه الله عز وجل من الرجل الذي رفع عليه السيف وقال : من يعصمك مني ؟ فقال :(الله) فارتجف الرجل وسقط السيف من يده . وقصة الشاه المسمومة التي انطقها الله عز وجل وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بأنها مسمومة . وقصة إجلاء بني النضير، ونزول جبريل وميكائيل يوم أحد يدافعان عن شخص النبي صلى الله عليه وسلم . كل هذا وغيره يعد صوراً من حماية الله لأوليائه وهو نصر لهم .(1/260)
وهل سمعتم عن يوم الرجيع ؟ هل تعرفون عاصم بن ثابت رضي الله عنه ؟ بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عيناً وأمّر عليهم عاصم بن ثابت فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذُكروا لحيّ من هذيل يقال لهم : بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا : هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتُهي إلى عاصم وأصحابه لجأوا إلى مكان مرتفع وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا لا نقتل منكم رجلا . فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنّا نبيك، فقاتَلوهم حتى قَتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قد قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء . وكان عاصم بن ثابت قد عاهد الله أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبدا، فكان عمر يقول : لما بلغه خبره، يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته. فكان عاصم رضي الله عنه مدافعاً أول النهار عن دين الله، ودافع الله عز وجل عن جسده آخر النهار، فلم يمسه مشرك . فإن قال قائل : لماذا لم يمنعهم الله عز وجل من قتله كما منعهم من الوصول إلى جسده بعد قتله ؟ فالجواب : أن الله عز وجل يحب أن يرى صدق الصادقين ويحب أن يرى عباده المؤمنين وهم يبذلون أنفسهم لله عز وجل فيبوؤهم منازل الكرامة، ويزيدُهم من فضله، فالله عز وجل أراد أن يشرّفه بدرجة الشهادة فلم يمنعهم من قتله ثم حمى الله عز وجل جسده من أن يمسه مشرك . فهذه صورة من صور النصر ولو انتهت بموت وقتل صاحبه
النوع الخامس من النصر الذي ينصر الله عز وجل به عباده المؤمنين : وهو نصر الحجة(1/261)
كما قال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) والرفع هو الانتصار ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" . فهذا الظهور أدناه أنه ظهور حجة وبيان، وقد يكون معه ظهور دولة وسلطان .
هذه أنواع من النصر كلها تدخل في وعد الله سبحانه وتعالى (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ولكن النصر الذي بشرنا الله عز وجل به، وبشرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم هو النصر الأول وهو نصر التمكين والظهور قال الله تعالى:(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر" وقال صلى الله عليه وسلم : "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكُها ما زُوي لي منها". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أوالشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود" . ونقرأ هذه الأحاديث تحقيقاً لوعد الله ووعد نبينا صلى الله عليه وسلم ونحن بانتظار الشمس أن تشرق وهذا الليل أن ينجلي وذلكم الصبح أن يتنفس ..
صبح تنفس بالضياء وأشرقا وهذه الصحوة الكبرى تهز البيرقا
وشبيبة الإسلام هذا فيلق فى ساحة الأمجاد يتبع فيلقا
و قوافل الإيمان تتخذ المدى ضرباً و تصنع للمحيط الزورقا
وما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا(1/262)
هي نخلة طاب الثرى فنمى لها جذع طويل فى التراب وأعذقا
هي في رياض قلوبنا زيتونة فى جذعها غصن الكرامة أورقا
فجر تدفق من سيحبِس نوره ؟! أرني يداً سدت علينا المشرقا
إن الثقة بنصر الله ، وعونه ووعده الحق لمن جاهد في سبيله ، هي زاد الطريق ، ومفتاح الأمل ، ونور الأجيال الإسلامية التي تبصر بها آفاق الرحلة وتبقى لحظة النصر وبشارة التمكين حية شاخصة في رؤى المجاهدين ومشاعرهم وإن من فقد هذه الثقة بالله ونصره ، فقد خسر خسراناً مبيناً ، ومن تشكك فيها لحظة ، فقد تأخر عليه النصر على قدرها (مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آياتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ) .(1/263)
من كان يشك في نصر الله لأوليائه فليقرأ قول الله تعالى : (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) من كان يشك في نصر الله لأوليائه فليقرأ قوله سبحانه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) من كان يشك في نصر الله لأوليائه فليقرأ قوله عز وجل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ) من كان يشك في نصر الله لأوليائه فليقرأ قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) .
إن نصر الله جل وعز متحقق لمن يستحقونه وهم المؤمنون الذين يثبتون حتى النهاية ، الذين يثبتون على البأساء والضراء ، الذين يصمدون للزلزلة الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة ، الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله ، وعندما يشاء الله ، وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها فهم يتطلعون فحسب إلى نصر الله لا إلى أي حل آخر ، ولا إلى نصر لا يجيء من عند الله ، ولا نصر إلا من عند الله ومع ذلك فإن من سنن الله تعالى أن النصر قد يتأخر ولو كان أهله مسلمون وأعدائهم كفار وذلك لأسباب :(1/264)
منها : أن البنية للأمة لم تنضج بعد ولم يتم بعد تمامها ولم تُحشد بعد طاقاتها ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات فلو نالت النصر حينئذٍ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلا . لأن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه لأنه رخيص الثمن لم تُبذل فيه تضحيات عزيزة .
ومن الأسباب أيضاً : أنه قد يتأخر النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله وهي تعاني وتتألم وتتأذى وتبذل ولا تجد لها سنداً إلا الله ولا ملجأً إلا إليه ، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على المنهج الصحيح بعد النصر عندما يتأذن به الله ، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها الله به .
وقد يتأخر النصر أيضاً : لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه أو تقاتل حمية لذاتها أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم : الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى مكانه فأيها في سبيل الله ؟ فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله . متفق عليه
وقد يتأخر النصر أيضاً : لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً فلو غلبه المؤمنون حينئذٍ فقد يجد الباطل له أنصاراً من المخدوعين فيه لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة فيشاء الله أن يبقى الباطل مدة من الزمن حتى يتكشف عارياً للناس وإذا ما ذهب فإنه يذهب غير مأسوف عليه .(1/265)
وقد يتأخر النصر أيضاً : لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصر حينئذٍ للقيت معارضة من البيئة حولها لا يستقر معها قرار ، فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه .
من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله ولا نعلمه نحن قد يتأخر نصر الله فتتضاعف التضحيات وتتضاعف الآلام وتتضاعف معها الأجور وفي كل ذلك خير مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) . ( بقلم : ناصر الأحمد )
***********************
الباب الرابع - متى ينتصر الباطل على الحق ؟
ينتصر الباطل على الحق في الحالات التالية :(1/266)
1. عدم تماسك المؤمنين التنازع والخصام والمعاصي:
قال تعالى في سورة الأنفال { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {46}
2. الظلم بكل أنواعه وصوره :
قال تعالى في سورة التوبة { كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {69} أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {70}
إنها الفتنة بالقوة , والفتنة بالأموال والأولاد . فأما الذين اتصلت قلوبهم بالقوة الكبرى فهم لا يفتنون بالقوة العارضة التي تخول لهم في الأرض , لأنهم يخشون من هو أقوى , فينفقون قوتهم في طاعته وإعلاء كلمته . وهم لا يفتنون بالأموال والأولاد , لأنهم يذكرون من أنعم عليهم بالأموال والأولاد , فيحرصون على شكر نعمته , وتوجيه أموالهم وأولادهم إلى طاعته . .
وأما الذين انحرفت قلوبهم عن مصدر القوة والنعمة فهم يبطرون ويفجرون في الأرض , ويتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام:
(أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة) . .
وبطلت بطلانا أساسياً , لأنها كالنبتة بلا جذور , لا تستقر ولا تنمو ولا تزدهر .
(وأولئك هم الخاسرون) . .
الذين خسروا كل شيء على وجه الإجمال بلا تحديد ولا تفصيل .(1/267)
ويلتفت السياق من خطابهم إلى خطاب عام , كأنما يعجب من هؤلاء الذين يسيرون في طريق الهالكين ولا يعتبرون:
(ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات ? أتتهم رسلهم بالبينات , فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) . .
هؤلاء الذين يستمتعون غير شاعرين , ويسيرون في طريق الهلكى ولا يتعظون . . هؤلاء (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم) ممن ساروا في نفس الطريق ? (قوم نوح) وقد غمرهم الطوفان وطواهم اليم في تيار الفناء المرهوب(وعاد) وقد أهلكوا بريح صرصر عاتية(وثمود) وقد أخذتهم الصيحة (وقوم إبراهيم) وقد أهلك طاغيتهم المتجبر وأنجى إبراهيم (وأصحاب مدين) وقد أصابتهم الرجفة وخنقتهم الظلة(والمؤتفكات) قرى قوم لوط وقد قطع الله دابرهم إلا الأقلين . .
ألم يأتهم نبأ هؤلاء الذين (أتتهم رسلهم بالبينات) فكذبوا بها , فأخذهم الله بذنوبهم:
(فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ?
إن النفس المنحرفة تبطرها القوة فلا تذكر , وتعميها النعمة فلا تنظر . وما تنفع عظات الماضي ولا عبره إلا من تتفتح بصائرهم لإدراك سنة الله التي لا تتخلف , ولا تتوقف , ولا تحابي أحداً من الناس . وإن كثيراً ممن يبتليهم اللّه بالقوة وبالنعمة لتغشى أبصارهم وبصائرهم غشاوة , فلا يبصرون مصارع الأقوياء قبلهم , ولا يستشعرون مصير البغاة الطغاة من الغابرين . عندئذ تحق عليهم كلمة اللّه , وعندئذ تجري فيهم سنة اللّه , وعندئذ يأخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر . وهم في نعمائهم يتقلبون , وبقوتهم يتخايلون . واللّه من ورائهم محيط .
إنها الغفلة والعمى والجهالة نراها تصاحب القوة والنعمة والرخاء , نراها في كل زمان وفي كل مكان . إلا من رحم اللّه من عباده المخلصين . ( الظلال)
3. الفساد العام فساد العقيدة والعبادة والنظم والحياة :(1/268)
قال تعالى في سورة الرعد { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ {25}
يقول السيد رحمه الله :
والله أمر بصلات كثيرة . .
أمر بصلة الرحم والقربى . وأمر بصلة الإنسانية الكبرى . وأمر قبل هذا كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية ، التي لا تقوم صلة ولا وشيجة إلا معها . . وإذا قطع ما أمر الله به أن يوصل فقد تفككت العرى ، وانحلت الروابط ، ووقع الفساد في الأرض ، وعمت الفوضي .
ويفسدون في الأرض . .
والفساد في الأرض ألوان شتى ، تنبع كلها من الفسوق عن كلمة الله ، ونقض عهد الله ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل . ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهجه الذي اختاره ليحكم حياة البشر ويصرفها . هذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى الفساد حتما ، فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض ، ومنهج الله بعيد عن تصريفها ، وشريعة الله مقصاة عن حياتها . وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو فهو الفساد الشامل للنفوس والأحوال ، وللحياة والمعاش ؛ وللأرض كلها وما عليها من ناس وأشياء .
إنه الهدم والشر والفساد حصيلة الفسوق عن طريق الله . .
ومن ثم يستحق أهله أن يضلهم الله بما يهدي به عباده المؤمنين .
ويقول :
إنهم ينقضون عهد الله المأخوذ على الفطرة في صورة الناموس الأزلي ؛ وينقضون من بعده كل عهد ، فمتى نقض العهد الأول فكل عهد قائم عليه منقوض من الأساس . والذي لا يرعى الله لا يبقى على عهد ولا ميثاق . ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل على وجه العموم والإطلاق . ويفسدون في الأرض في مقابل صبر أولئك وإقامتهم للصلاة وإنفاقهم سرا وعلانية ودرء السيئة بالحسنة . فالإفساد في الأرض يقابل هذا كله ، وترك شيء من هذا كله إنما هو إفساد أو دافع إلى الإفساد .
أولئك . .(1/269)
المبعدون المطرودون لهم اللعنة والطرد في مقابل التكريم هناك ولهم سوء الدار ولا حاجة إلى ذكرها ، فقد عرفت بمقابلها هناك !
أولئك فرحوا بالحياة الدنيا ومتاعها الزائل فلم يتطلعوا إلى الآخرة ونعيمها المقيم . مع أن الله هو الذي يقدر الرزق فيوسع فيه أو يضيق فالأمر كله إليه في الأولى والآخرة على السواء . ولو ابتغوا الآخرة ما حرمهم الله متاع الأرض ، وهو الذي أعطاهم إياه:
الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع . .
إن هناك علاقة وثيقة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض وبين ذلك العمى عن الحق الذي جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والصلاح والخير . فالذين لا يستجيبون لعهد الله على الفطرة ، ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عنده ويعلمون أنه وحده الحق . .
هم الذين يفسدون في الأرض ؛ كما أن الذين يعلمون أنه الحق ويستجيبون له هم الذين يصلحون في الأرض ، وتزكو بهم الحياة:
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ؟ إنما يتذكر أولو الألباب . الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق . والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم ، ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ، وأقاموا الصلاة ، وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ، ويدرأون بالحسنة السيئة ، أولئك لهم عقبى الدار . . . . .
والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض ، أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار . .(1/270)
إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] هو الحق . ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة ، وبعهد الله على آدم وذريته ، أن يعبدوه وحده ، فيدينوا له وحده ، ولا يتلقوا عن غيره ، ولا يتبعوا إلا أمره ونهيه . ومن ثم يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه ؛ ويخافون سوء الحساب ، فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل خالجة وكل حركة ؛ ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ذاك بكل تكاليف الاستقامة ؛ ويقيمون الصلاة ؛ وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية ؛ ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان . .
إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة ؛ التي تسير على هدى الله وحده ؛ والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه . . إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء ، التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد [ صلى الله عليه وسلم ] هو الحق وحده ؛ والتي تتبع - من ثم - مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه للصالحين من عباده . .
إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية ، كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية ! . .
إنها كلها من مناهج العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد [ صلى الله عليه وسلم ] هو وحده الحق ، الذي لا يجوز العدول عنه ، ولا التعديل فيه . . إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية ! فكلها سواء في كونها من مناهج العمي ، الذين يقيمون من أنفسهم أربابا من دون الله ، تضع هي مناهج الحكم ومناهج الحياة ، وتشرع للناس ما لم يأذن به الله ؛ وتعبدهم لما تشرع ، فتجعل دينونتهم لغير الله . .(1/271)
وآية هذا الذي نقوله - استمدادا من النص القرآني - هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين . وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها . .
سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية ، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية ! . .
وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية ! . .
إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق . .
لأنها كلها سواء من صنع العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده ؛ ولا تلتزم - من ثم - بعهد الله وشرعه ؛ ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه .
إن المسلم يرفض - بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق - كل منهج للحياة غير منهج الله ؛ وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي ؛ وكل وضع كذلك سياسي ، غير المنهج الوحيد ، والمذهب الوحيد ، والشرع الوحيد ، الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده .
ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله ، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله ، فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه .
إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي ، فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض . . فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العمي ! . .
ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله ؛ وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العمي ، الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون . فلم تسعد قط ؛ ولم ترتفع "إنسانيتها" قط ، ولم تكن في مستوى الخلافة عن الله في الأرض قط ، إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم .(1/272)
4. الغرور والفخر :
قال تعالى في سورة التوبة { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْتُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ {25} ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ {26}
يقول السيد رحمه الله :
والظهور . مجردا من المباهاة ، والفخر والخيلاء . مجردا من إحساس أهل الأرض به وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه . وإلا فلا أجر عليه ولا ثواب . .
قل:إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها ، وتجارة تخشون كسادها ، ومساكن ترضونها ، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله . . فتربصوا حتى يأتي الله بأمره . . .
ألا إنها لشاقة . ألا وإنها لكبيرة . ولكنها هي ذاك . . وإلا:
فتربصوا حتى يأتي الله بأمره . وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين:
والله لا يهدي القوم الفاسقين . .
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده ، إنما تطالب به الجماعة المسلمة ، والدولة المسلمة . فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله .(1/273)
وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف ، إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه - فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها - وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال ؛ وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها . . لذة الشعور بالاتصال بالله ، ولذة الرجاء في رضوان الله ، ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط ، والخلاص من ثقلة اللحم والدم ، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء . فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك .
ثم لمسة للمشاعر بالذكرى ، وباستعراض صفحة من الواقع الذي عاشه المسلمون إذ ذاك منذ قريب . .
المواطن التي نصرهم الله فيها ، ولم تكن لهم قوة ولا عدة . ويوم حنين الذي هزموا فيه بكثرتهم ثم نصرهم الله بقوته . يوم أن انضم إلى جيش الفتح ألفان فقط من الطلقاء !
يوم أن غفلت قلوب المسلمين لحظات عن الله مأخوذة بالكثرة في العدد والعتاد . ليعلم المؤمنون أن التجرد لله ، وتوثيق الصلة به هي عدة النصر التي لا تخذلهم حين تخذلهم الكثرة في العدد والعتاد ؛ وحين يخذلهم المال والإخوان والأولاد:
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، ثم وليتم مدبرين ؛ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، وبذلك جزاء الكافرين . ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ، والله غفور رحيم .(1/274)
ولقد كان نصر الله لهم في المواطن الكثيرة قريبا من ذاكرتهم لا يحتاج إلى أكثر من الإشارة . فأما وقعة حنين فكانت بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة . وذلك لما فرغ [ صلى الله عليه وسلم ] من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه ، وأن أميرهم مالك بن عوف النضري ، ومعه ثقيف بكمالها ، وبنو جشم ، وبنو سعد ابن بكر ، وأوزاع من بني هلال - وهم قليل - وناس من بني عمرو بن عامر وعوف بن عامر ؛ وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم ؛ وجاءوا بقضهم وقضيضهم . فخرج إليهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة ، وهم الطلقاء ، في ألفين ؛ فسار بهم إلى العدو ؛ فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له "حنين" فكانت فيه الواقعة في أول النهار في غلس الصبح . انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فلما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم . فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين - كما قال الله عز وجل - وثبت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يومئذ وهو راكب بغلته الشهباء ، يسوقها إلى نحر العدو ، والعباس آخذ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر ، يثقلانها لئلا تسرع السير ، وهو ينوه باسمه - عليه الصلاة والسلام - ويدعو المسلمين إلى الرجعة ، ويقول: إلي يا عباد الله . إلي أنا رسول الله ويقول في تلك الحال: أنا النبي لا كذب .(1/275)
أنا ابن عبد المطلب وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، ومنهم من قال ثمانون ؛ فمنهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - والعباس وعلي والفضل بن عباس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، وأسامة بن زيد ، وغيرهم - رضي الله عنهم - ثم أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته:يا أصحاب الشجرة - يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على ألا يفروا عنه - فجعل ينادي بهم:يا أصحاب السمرة ، ويقول تارة:يا أصحاب سورة البقرة . فجعلوا يقولون:يا لبيك ، يا لبيك . وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول - الله [ صلى الله عليه وسلم ] - حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله ، ورجع بنفسه إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يصدقوا الحملة . . .
وانهزم المشركون فأتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .
هذه هي المعركة التي اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش عدته اثنا عشر ألفا فأعجبتهم كثرتهم ، وغفلوا بها عن سبب النصر الأول ، فردهم الله بالهزيمة في أول المعركة إليه ؛ ثم نصرهم بالقلة المؤمنة التي ثبتت مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والتصقت به .
والنص يعيد عرض المعركة بمشاهدها المادية ، وبانفعالاتها الشعورية:
إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين
فمن إنفعال الإعجاب بالكثرة ، إلى زلزلة الهزيمة الروحية ، إلى انفعال الضيق والحرج حتى لكأن الأرض كلها تضيق بهم وتشد عليهم . إلى حركة الهزيمة الحسية ، وتولية الأدبار والنكوص على الأعقاب . .(1/276)
ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين . .
وكأنما السكينة رداء ينزل فيثبت القلوب الطائرة ويهدئ الانفعالات الثائرة .
وأنزل جنودا لم تروها . .
فلا نعلم ماهيتها وطبيعتها . . وما يعلم جنود ربك إلا هو . .
وعذب الذين كفروا . بالقتل والأسر والسلب والهزيمة:
وذلك جزاء الكافرين . .
ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ، والله غفور رحيم . .
فباب المغفرة دائما مفتوح لمن يخطئ ثم يتوب .
إن معركة حنين التي يذكرها السياق هنا ليعرض نتائج الانشغال عن الله ، والإعتماد على قوة غير قوته ، لتكشف لنا عن حقيقة أخرى ضمنية . حقيقة القوى التي تعتمد عليها كل عقيدة . إن الكثرة العددية ليست بشئ ، إنما هي القلة العارفة المتصلة الثابتة المتجردة للعقيدة . وإن الكثرة لتكون أحيانا سببا في الهزيمة ، لأن بعض الداخلين فيها ، التائهين في غمارها ، ممن لم يدركوا حقيقة العقيدة التي ينساقون في تيارها ، تتزلزل أقدامهم وترتجف في ساعة الشدة ؛ فيشيعون الاضطراب والهزيمة في الصفوف ، فوق ما تخدع الكثرة أصحابها فتجعلهم يتهاونون في ثوثيق صلتهم بالله ، انشغالا بهذه الكثرة الظاهرة عن اليقظة لسر النصر في الحياة .
لقد قامت كل عقيدة بالصفوة المختارة ، لا بالزبد الذي يذهب جفاء ، ولا بالهشيم الذي تذروه الرياح !
5. كراهية الموت في سبيل الله :(1/277)
قال تعالى في سورة النساء { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً {77} أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا {78} مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا {79}
يقول السيد رحمه الله :
إن السياق يمضي - بعد هذا - إلى التعجيب من أمر طائفة أو أكثر من المسلمين - قيل إن بعضهم من المهاجرين ، الذين كانت تشتد بهم الحماسة - وهم في مكة يلقون الأذى والاضطهاد - ليؤذن لهم في قتال المشركين . حيث لم يكن مأذونا لهم - بعد في قتال ، للحكمة التي يعلمها الله ؛ والتي قد نصيب طرفا من معرفتها فيما سنذكره بعد . .
فلما كتب عليهم القتال ، بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة ، وعلم الله أن في هذا الإذن خيرا لهم وللبشرية . .(1/278)
إذا هم - كما يصورهم القرآن - "يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ! وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ! لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! " ممن إذا أصابهم الحسنة قالوا :هذه من عند الله . وإن أصابتهم السيئة قالوا للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : هذه من عندك . وممن يقولون:طاعة حتى إذا خرجوا من عند الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بيت طائفة منهم غير الذي تقول . وممن إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . . .
يمضي السياق ليعجب من شأن هؤلاء ، في الأسلوب القرآني ؛ الذي يصور حالة النفس ، كما لو كانت مشهدا يرى ويحس ! ويصحح لهم - ولغيرهم - سوء التصور والإدراك لحقائق الموت والحياة ، والأجل والقدر ، والخير والشر ، والنفع والضرر ، والكسب والخسارة ، والموازين والقيم ؛ ويبين لهم حقائقها في أسلوب يصور الحقائق في صورتها الموحية المؤثرة:
ألم تر إلى الذين قيل لهم:كفوا أيديكم ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ؟ قل:متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت . ولو كنتم في بروج مشيدة . وإن تصبهم حسنة يقولوا:هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . قل:كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟
ما أصابك من حسنة فمن الله . وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وأرسلناك للناس رسولا ، وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله ؛ من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا .
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) [النساء/81](1/279)
يعجب الله - سبحانه - من أمر هؤلاء الناس ؛ الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة ، يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين . حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله . فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدرة الله ؛ وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال - في سبيل الله - إذا فريق منهم شديد الجزع ، شديد الفزع ، حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم - وهم ناس من البشر - كخشية الله ؛ القهار الجبار ، الذي لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد . .
أو أشد خشية !!
وإذا هم يقولون - في حسرة وخوف وجزع - ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ . . وهو سؤال غريب من مؤمن . وهو دلالة على عدم وضوح تصوره لتكاليف هذا الدين ؛ ولوظيفة هذا الدين أيضا . .
ويتبعون ذلك التساؤل ، بأمنية حسيرة مسكينة !
لولا أخرتنا إلى أجل قريب !
وأمهلتنا بعض الوقت ، قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف !
إن أشد الناس حماسة واندفاعا وتهورا ، قد يكونون هم أشد الناس جزعا وانهيارا وهزيمة عندما يجد الجد ، وتقع الواقعة . .
بل إن هذه قد تكون القاعدة ! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف . لا عن شجاعة واحتمال وإصرار . كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال . قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة ؛ فتدفعهم قلة الاحتمال ، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل . دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار . .
حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا ، وأشق مما تصوروا . فكانوا أول الصف جزعا ونكولا وانهيارا . .(1/280)
على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم ، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ؛ ويعدون للأمر عدته ، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة ، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف . فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته . . والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذا ذاك ضعافا ، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور !
وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا ؛ وأي الفريقين أبعد نظرا كذلك !
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف ، الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه ؛ ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة . فيندفع يطلب من الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يأذن له بدفع الأذى ، أو حفظ الكرامة . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار ، والتربية والإعداد ، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب . فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة ؛ ولم يعد هناك أذى ولا إذلال ، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص ؛ لم يعد يرى للقتال مبررا ؛ أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة !
فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ، وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! .(1/281)
وقد يكون هذا الفريق مؤمنا فعلا . بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى ! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا . فالإيمان الذي لم ينضج بعد ؛ والتصور الذي لم تتضح معالمه ؛ ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض - وأنها أكبر من حماية الأشخاص ، وحماية الأقوام ، وحماية الأوطان ، إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض ، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم ؛ وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان ، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله ؛ ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض ؛ ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة - ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو - وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه . .
وإذن فلم يكن الأمن في المدينة - حتى على فرض وجوده كاملا غير مهدد - لينهي مهمة المسلمين هناك ؛ وينهى عن الجهاد !
الإيمان الذي لم ينضج بعد ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر ؛ والاستماع فقط إلى أمر الله واعتباره هو العلة والمعلول ، والسبب والمسبب ، والكلمة الأخيرة - سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له - والتصور الذي لم تتضح معالمه بعد ليعرف المؤمن مهمة هذا الدين في الأرض ؛ ومهمته هو - المؤمن - بوصفه قدرا من قدر الله ، ينفذ به الله ما يشاؤه في هذه الحياة . . لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف ، الذي يصوره السياق القرآني هذا التصوير ؛ ويعجب منه هذا التعجيب !
وينفر منه هذا التنفير .
فأما لماذا لم يأذن الله للمسلمين - في مكة - بالانتصار من الظلم ؛ والرد على العدوان ؛ ودفع الأذى بالقوة . . وكثيرون منهم كان يملك هذا ؛ فلم يكن ضعيفا ولا مستضعفا ولم يكن عاجزا عن رد الصاع صاعين . . مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلة . .(1/282)
أما حكمة هذا ، والأمر بالكف عن القتال ، وأقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والصبر والاحتمال . .
حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب ما لا يطاق ، وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته ؛ فيفتن عن دينه . وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيموت تحت وطأته . .
أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها . لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة ؛ ونفرض على أوامره أسبابا وعللا ، قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية . أو قد تكون ، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها ، ويعلم - سبحانه - أن فيها الخير والمصلحة . . وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف . أو أي حكم في شريعة الله - لم يبين الله سببه محددا جازما حاسما - فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف ؛ أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف ، مما يدركه عقله ويحسن فيه . .
فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال . ولا يجزم - مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله - بأن ما رآه هو حكمة ؛ هو الحكمة التي أرادها الله . . نصا . . وليس وراءها شيء ، وليس من دونها شيء ! فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله . ومقتضى ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف في الطبيعة والحقيقة .
وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة . . نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب . . على أنه مجرد احتمال . . وندع ما وراءه لله . لا نفرض على أمره أسبابا وعللا ، لا يعلمها إلا هو . . ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح !
إنها أسباب . . اجتهادية . .
تخطى ء وتصيب . وتنقص وتزيد . ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله . وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:(1/283)
"أ" ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ؛ في بيئة معينة ، لقوم معينين ، وسط ظروف معينة . ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات ، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به . ليخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته ، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به ، محورا لحياة في نظره ، ودافع الحركة في حياته . .
وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ؛ فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج . ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته . . وتربيته على أن يتبع مجتمعا منظما له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ؛ ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره - مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي ، لإنشاء "المجتمع المسلم" الخاضع لقيادة موجهة ؛ المترقي المتحضر ، غير الهمجي أو القبلي .
"ب" وربما كان ذلك أيضا ، لأن الدعوة السلمية أشد أثرا وأنفذ ، في مثل بيئة قريش ؛ ذات العنجهية والشرف ؛ والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه الفترة - إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة ، كثارات العرب المعروفة ، التي أثارت حرب داحس والغبراء ، وحرب البسوس - أعواما طويلة ، تفانت فيها قبائل برمتها - وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام . فلا تهدأ بعد ذلك أبدا . ويتحول الإسلام من دعوة ، إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية ، وهو في مبدئه ، فلا تذكر أبدا !(1/284)
"ج" وربما كان ذلك أيضا ، اجتنابا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت . فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة ، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم . إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد ، يعذبونه هم ويفتنونه و"يؤدبونه" ! ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت . . ثم يقال:هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في الموسم ، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة:إن محمدا يفرق بين الوالد وولده ؛ فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي . . في كل بيت وكل محلة ؟
"د" وربما كان ذلك أيضا ، لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ، ويعذبونهم ويؤذونهم ؛ هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص ، بل من قادته . . ألم يكن عمر ابن الخطاب من بين هؤلاء ؟!
"ه" وربما كان ذلك ، أيضا ، لأن النخوة العربية ، في بيئة قبلية ، من عادتها أن تثور للمظلوم ، الذي يحتمل الأذى ، ولا يتراجع ! وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم . . وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة ، ورأى في ذلك عارا على العرب ! وعرض عليه جواره وحمايته . . .(1/285)
وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبى طالب ، بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة . . بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل ، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة ؛ وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي ! "و" وربما كان ذلك أيضا ، لقلة عدد المسلمين حينذاك ، وانحصارهم في مكة . حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة . أو بلغت أخبارها متناثرة ؛ حيث كانت القبائل تقف على الحياد ، من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها ، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف . . ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة ، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك ، وتنمحي الجماعة المسلمة . ولم يقم في الأرض للإسلام نظام ، ولا وجد له كيان واقعي . . وهو دين جاء ليكون منهج حياة ، وليكون نظاما واقعيا عمليا للحياة .
"ز" في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة ، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها ، والأمر بالقتال ودفع الأذى . لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائما - وقتها - ومحققا . . هذا الأمر الأساسي هو "وجود الدعوة " . . وجودها في شخص الداعية [ صلى الله عليه وسلم ] وشخصه في حماية سيوف بني هاشم ، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع ! والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم ، إذا هي امتدت يدها إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فكان شخص الداعية من ثم محميا حماية كافية . . وكان الداعية يبلغ دعوته -إذن - في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي ، ولا يكتمها ، ولا يخفيها ، ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها ، في ندوات قريش في الكعبة ، ومن فوق جبل الصفا ؛ وفي اجتماعات عامة . .(1/286)
ولا يجرؤ أحد على سد فمه ؛ ولا يجرؤ أحد على خطفة وسجنه أو قتله ! ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاما بعينه يقوله ؛ يعلن فيه بعض حقيقة دينه ؛ ويسكت عن بعضها . وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف . وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت . وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا . أي أن يجاملهم فيجاملوه ؛ بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته ، لم يدهن . . وعلى الجملة كان للدعوة "وجودها" الكامل ، في شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] محروسا بسيوف بني هاشم - وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة . . ومن ثم لم تكن هنالك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة ، والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها ، مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئة .
هذه الاعتبارات - كلها - فيما نحسب - كانت بعض ما اقتضت حكمة الله - معه - أن يأمر المسلمين بكف أيديهم . وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة . . لتتم تربيتهم وإعدادهم ، ولينتفع بكل إمكانيات الخطة في هذه البيئة ؛ وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة ، في الوقت المناسب . وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها ، فلا يكون لذواتهم فيها حظ . لتكون خالصة لله . وفي سبيل الله . . والدعوة لها "وجودها" وهي قائمة ومؤداة ومحمية ومحروسة . . .
وأيا ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة ، فقد كان هناك المتحمسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال:
فلما كتب عليهم القتال ، إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! .(1/287)
وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشىء فيه حالة من الخلخلة وينشى ء فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع ، وبين الرجال المؤمنين ، ذوي القلوب الثابتة المطمئنة ؛ المستقبلة لتكاليف الجهاد - على كل ما فيها من مشقة - بالطمأنينة والثقة والعزم والحماسة أيضا . ولكن في موضعها المناسب . فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقية . أما الحماسة قبل الأمر ، فقد تكون مجرد اندفاع وتهور ؛ يتبخر عند مواجهة الخطر !
وكان القرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الرباني:
قل:متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت ، ولو كنتم في بروج مشيدة . .
إنهم يخشون الموت ، ويريدون الحياة . ويتمنون في حسرة مسكينة ! لو كان الله قد أمهلهم بعض الوقت ؛ ومد لهم - شيئا - في المتاع بالحياة !
والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها ؛ ويجلو غبش التصور لحقيقة الموت والأجل . .
قل متاع الدنيا قليل . .
متاع الدنيا كله . والدنيا كلها . فما بال أيام ، أو أسابيع ، أو شهور ، أو سنين ؟ ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير . إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا ؟!
ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام ، أو أسابيع ، أو شهور ، أو سنين . ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل ! ؟
والآخرة خير لمن اتقى . .
فالدنيا - أولا - ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة . . إنها مرحلة . . ووراءها الآخرة والمتاع فيها هو المتاع - فضلا على أن المتاع فيها طويل كثير - فهي خير . .
خير لمن اتقى . .
وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها . التقوى لله . فهو الذي يتقى ، وهو الذي يخشى . وليس الناس . .
الناس الذين سبق أن قال:إنهم يخشونهم كخشية الله - أو أشد خشية ! - والذي يتقي الله لا يتقي الناس . والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحدا . فماذا يملك له إذا كان الله لا يريد ؟(1/288)
ولا تظلمون فتيلا . .
فلا غبن ولا ضير ولا بخس ؛ إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا . فهناك الآخرة . وهناك الجزاء الأوفى ؛ الذي لا يبقى معه ظلم ولا بخس في الحساب الختامي للدنيا والآخرة جميعا !
ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه - مع هذا كله - إلى أيام تطول به في هذه الأرض ! حتى وهو يؤمن بالآخرة ، وهو ينتظر جزاءها الخير . . وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانية التي كانت فيها هذه الطائفة !
هنا تجيء اللمسة الأخرى . اللمسة التي تصحح التصور عن حقيقة الموت والحياة ، والأجل والقدر ؛ وعلاقة هذا كله بتكليف القتال ، الذي جزعوا له هذا الجزع ، وخشوا الناس فيه هذه الخشية !
أينما تكونوا يدرككم الموت ، ولو كنتم في بروج مشيدة . .
فالموت حتم في موعده المقدر . ولا علاقة له بالحرب والسلم . ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته . ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذن ؛ ولا هذا التكليف والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعده . .
هذا أمر وذاك أمر ؛ ولا علاقة بينهما . .
إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل . بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد . .
وليست هنالك علاقة أخرى . .
ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال . ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال !
وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآني كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر ؛ وكل ما ينشئه التصور المضطرب من خوف ومن ذعر . . إنه ليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبه ووقاية . .
فقد سبق أن أمرهم الله بأخذ الحذر . وفي مواضع أخرى أمرهم بالاحتياط في صلاة الخوف . وفي سور أخرى أمرهم باستكمال العدة والأهبة . .
ولكن هذا كله شيء ، وتعليق الموت والأجل به شيء آخر . .
إن أخذ الحذر واستكمال العدة أمر يجب أن يطاع ، وله حكمته الظاهرة والخفية ، ووراءه تدبير الله . .(1/289)
وإن التصور الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب - رغم كل استعداد واحتياط - أمر آخر يجب أن يطاع ؛ وله حكمته الظاهرة والخفية ، ووراءه تدبير الله . .
توازن واعتدال . وإلمام بجميع الأطراف . وتناسق بين جميع الأطراف . .
هذا هو الإسلام . وهذا هو منهج التربية الإسلامي ، للأفراد والجماعات . .
و عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ». أخرجه أبو داود
6. عدم التضحية بالمال والنفس في سبيل الله :
قال تعالى في سورة البقرة { وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {195}
يقول السيد رحمه الله :
والجهاد كما يحتاج للرجال يحتاج للمال . ولقد كان المجاهد المسلم يجهز نفسه بعدة القتال ، ومركب القتال ، وزاد القتال . .
لم تكن هناك رواتب يتناولها القادة والجند . إنما كان هناك تطوع بالنفس وتطوع بالمال . وهذا ما تصنعه العقيدة حين تقوم عليها النظم . إنها لا تحتاج حينئذ أن تنفق لتحمي نفسها من أهلها أو من أعدائها ، إنما يتقدم الجند ويتقدم القادة متطوعين ينفقون هم عليها !(1/290)
ولكن كثيرا من فقراء المسلمين الراغبين في الجهاد ، والذود عن منهج الله وراية العقيدة ، لم يكونوا يجدون ما يزودون به أنفسهم ، ولا ما يتجهزون به من عدة الحرب ومركب الحرب . وكانوا يجيئون إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يطلبون أن يحملهم إلى ميدان المعركة البعيد ، الذي لا يبلغ على الأقدام . فإذا لم يجد ما يحملهم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون . .
كما حكى عنهم القرآن الكريم .
من أجل هذا كثرت التوجيهات القرآنية والنبوية إلى الإنفاق في سبيل الله . الإنفاق لتجهيز الغزاة . وصاحبت الدعوة إلى الجهاد دعوة إلى الإنفاق في معظم المواضع . .
وهنا يعد عدم الإنفاق تهلكة ينهى عنها المسلمون:
وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين . .
والإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تهلكة للنفس بالشح ، وتهلكة للجماعة بالعجز والضعف . وبخاصة في نظام يقوم على التطوع ، كما كان يقوم الإسلام .
ثم يرتقي بهم من مرتبة الجهاد والإنفاق إلى مرتبة الإحسان:
وأحسنوا إن الله يحب المحسنين . .
ومرتبه الإحسان هي عليا المراتب في الإسلام . وهي كما قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] :
أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة ، فإنها تفعل الطاعات كلها ، وتنتهي عن المعاصي كلها ، وتراقب الله في الصغيرة والكبيرة ، وفي السر والعلن على السواء .
وهذا هو التعقيب الذي ينهي آيات القتال والإنفاق ، فيكل النفس في أمر الجهاد إلى الإحسان . أعلى مراتب الإيمان . .
7. إيثار الفاني على الباقي :(1/291)
قال تعالى في سورة التوبة { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {24}
يقول السيد رحمه الله :
ألا إنها لشاقة . ألا وإنها لكبيرة . ولكنها هي ذاك . . وإلا:
فتربصوا حتى يأتي الله بأمره . وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين:
والله لا يهدي القوم الفاسقين . .
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده ، إنما تطالب به الجماعة المسلمة ، والدولة المسلمة . فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله .
وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف ، إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه - فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها - وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال ؛ وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها . .
لذة الشعور بالاتصال بالله ، ولذة الرجاء في رضوان الله ، ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط ، والخلاص من ثقلة اللحم والدم ، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء . فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك .
8. الركون إلى الأرض والتثاقل :(1/292)
قال تعالى في سورة التوبة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ {38} إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {39}
يقول السيد رحمه الله :
إنها ثقلة الأرض ، ومطامع الأرض ، وتصورات الأرض . .
ثقلة الخوف على الحياة ، والخوف على المال ، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع . . ثقلة الدعة والراحة والاستقرار . .
ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب . . .
ثقلة اللحم والدم والتراب . .
والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه:
اثاقلتم . وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل ، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل !
ويلقيها بمعنى ألفاظه: اثاقلتم إلى الأرض . .
وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق .
إن النفرة للجهاد في سبيل اللّه انطلاق من قيد الأرض ، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم ؛ وتحقيق للمعنى العلوى في الإنسان ، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة ؛ وتطلع إلى الخلود الممتد ، وخلاص من الفناء المحدود:
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .(1/293)
وما يحجم ذو عقيدة في اللّه عن النفرة للجهاد في سبيله ، إلا وفي هذه العقيدة دخل ، وفي إيمان صاحبها بها وهن . لذلك يقول الرسول - [ صلى الله عليه وسلم ] - من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق . فالنفاق - وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل اللّه خشية الموت أو الفقر ، والآجال بيد اللّه ، والرزق من عند اللّه . وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .
ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد: إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ، ولا تضروه شيئاً ، واللّه على كل شيء قدير . .
والخطاب لقوم معينين في موقف معين . ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في اللّه . والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده ، فهو كذلك عذاب الدنيا . عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح ، والغلبة عليهم للأعداء ، والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين ؛ وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد ؛ ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء . وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب اللّه عليها الذل ، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء . .
ويستبدل قوماً غيركم . .
يقومون على العقيدة ، ويؤدون ثمن العزة ، ويستعلون على أعداء اللّه:
ولا تضروه شيئاً . .
ولا يقام لكم وزن ، ولا تقدمون أو تؤخرون في الحساب !
واللّه على كل شيء قدير . .
لا يعجزه أن يذهب بكم ، ويستبدل قوماً غيركم ، ويغفلكم من التقدير والحساب !(1/294)
إن الاستعلاء على ثقلة الأرض وعلى ضعف النفس ، إثبات للوجود الإنساني الكريم . فهو حياة بالمعنى العلوي للحياة:وإن التثاقل إلى الأرض والاستسلام للخوف إعدام للوجود الإنساني الكريم . فهو فناء في ميزان اللّه وفي حساب الروح المميزة للإنسان .
9- كفر النعم :
يقول العلامة أبو قتادة) : عندما تكفر القرى ( بقلم الشيخ /
قال الله تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}, النحل: 112.
إنّ جريان السنن الإلهية أمرٌ لا مفرّ منه, وهي تقع بوقوع أسبابها, وليس هناك من شيء يقع سواء كان في الدنيا أو الآخرة إلا بسبب, وهذا تمام حكمة الربّ جلّ في علاه وتقدّست أسماؤه .
والناس يحاولون إتقان أبنيتهم حتّى لا يعتريها الدمار, فيؤسّسون القواعد, ويرفعون الأركان, ويحسبون الأمور بدقّة ومهارة, وهذا أمرٌ قد فُطروا عليه, وينسى الإنسان في لحظته إتقاناً آخر لا بدّ من مراعاته والاهتمام به, هو أمر ارتباط عالم الغيب المخفيّ عنّا بعالم الشهادة الذي نراه ونحسب حسابه.
أثر السنن الكونيّة في الأفراد والجماعات هذه قرية من القرى, حدَّثنا القرآن عنها على أنّها كائن واحد, له قانونه, وللجماعات والقرى قوانين خاصّة بها, كما أنّ للأفراد قوانين وسنناً خاصّة بهم, ومن الخطأ الذي يقع به البعض هو الظنّ أن سنّة الجماعات هي عبارة عن مجموع سنن الأفراد, نعم بينهما اشتراك في بعض الأمور ولكن بينهما الكثير من المغايرة, ومعرفة ذلك يتمّ من خلال شيئين:(1/295)
أوّلهما:- دراسة السنن الواردة في الكتاب والسنّة, فقد امتلأ المصدر المعصوم بذكر السنن التي خلقها الله تعالى في الجماعات والأفراد, وقد نبّه الأئمّة على الكثير منها, ومن ذلك كتاب الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي), فهو من أجلّ الكتب في هذا الباب, وخاصّة حديثه عن أثر الذنوب والمعاصي في حياة الأمم والأفراد والشعوب. . .
ثانيهما:- النظر في التاريخ, لأن التاريخ هو جريان سنن الله تعالى, قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ منْ قَبْلكمْ سنَنٌ فَسيروا في الأَرْض فَانْظروا كَيْفَ كَانَ عَاقبَة الْمكَذّبِينَ} ,آل عمران: 137, فدراسة أمّة من الأمم وظاهرة من الظواهر في قوم مضوا تكشف لنا بعض السنن التي تهدينا إلى التعامل معها.
وقبل الخوض في سنّة القرية الكافرة بنعمة الله, لا بدّ من التنبيه على أمر وقع فيه أولئك الذين اهتمّوا بدراسة السنن القدرية بعيدا عن الإحاطة والمعرفة بالسنن الشرعيّة, إذ أوقعهم هذا في احتقار الشرع وعدم الاهتمام به وخاصّة ما يتعلّق بالسنن النبويّة, فأصابهم هوسُ تعظيم الكافرين وتقليدهم, وخاصّة في هذا الوقت الذي جهل أهل الإسلام دينهم وباءت محاولاتهم لإعادة الدين إلى الحياة بالفشل.(1/296)
ثمّ بدراسات هشة سريعة غير متأنيّة زعموا أنّهم خرجوا بنتائج واجبة التطبيق والاحترام, ولعلّ مدرسة مذهب ابن آدم الأوّل ) بقيادة جودت سعيد هي التي فتحت فتوح الشرّ في هذا الباب, ولم ينظروا إلى ما قاله الأئمة الهداة في الارتباط بين ما هو شرعيّ وما هو قَدَريّ, فإنّ عدم الفهم لهذه العلاقة تؤدّي إلى الزندقة التي نطق بها بعض أتباع هذه المدرسة, ثمّ غفلوا عن معنى النتيجة الحسنة في دين الله تعالى, وغلب على أذهانهم أنّ النتائج الحسنة هي نفس المعنى في نفوس الأغيار من الكافرين, فالموت في سبيل الله تعالى هو نتيجة حسنة في دين الله تعالى, أمّا الموت عند الأغيار على أي معنى هوَ نتيجة قبيحة ولا شك, ثمّ غفلوا عن معنى الابتلاء, وسقط من أذهانهم ولم يقيموا له شأنا, وكلّ هذا الذي وقع منهم لغفلتهم عن سنن الشرع أوّلا, ثمّ لوقوعهم في طرق الغير في دراسة سنن الكون والقدر.
الأمن والاطمئنان في هذه الآية ذكر قرية كانت على حال من الأمن والاطمئنان ورَغَد العيش, وهذه منتهى طلب النفوس وغاية ما يسعى إليه الناس فرادى وجماعات.
أمّا الأمن فهو سعادة الظاهر بعدم وجود الأعداء على وجه حقيقي, فليس هناك من يطرقهم بعذاب, أو يهدّدهم بقارعة, ثمّ ليس هناك ما يعكّر في داخلهم هذا الأمن, بل هم يحسّون به في نفوسهم, فهم في اطمئنان داخليّ, وهكذا توافق الظاهر والباطن, أمن خارجي واطمئنان باطنيّ, ثمّ رَغَد في العيش, وذلك بسهولة تحصيله وكثرته, فالنعم تجبى لهم, لا يبذلون الكثير في حصولها, بل هي آتية لهم من كلّ مكان تنبت أو تصنع فيه.
واعلم أنّ تحصيل هذه النعم ليس بالأمر السهل الهيّن بل هو من أشقّ الأمور, ذلك حين ينزع الله تعالى من قلوب الناس بغض قريتك فلا يقصدونها بسوء ولا يبيّتون لها شرّا, بل يقذف الله في قلوبهم محبّة الخير لها وذلك بجلب الرزق لها, فأي سهولة في هذا؟ بل هو والله غاية النعم للنفس الإنسانيّة, وهي شديدة وشاقّة.(1/297)
ثمّ الكفر والنكران {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُم الله} ذَكَر بعض أهل التفسير أنّ المقصود بالقرية هي مكّة, والنعمة التي كفرها أهل مكّة هي رسالة محمّد (, وهذا التفسير هو من نوع تفسير الشيء ببعض صوره وأنواعه, وإلا فهذا مثَلٌ لكلّ قرية أسبغ الله عليها نعمه وكفرت بها, والكفران هو ستر الحقّ وعدم الانقياد له, فالتوحيد حقّ وكفره هو الإعراض عنه ومعاندته والشرك به, والرسالة حقّ وكفرها هو عدم تصديق الرسول وترك متابعته والانقياد له, والنعم الماليّة حقّ وكفرها هو أخذها من غير طريقها الحلال وصرفها في غير طريقها الصحيح وعدم أداء حقّ الله تعالى فيها, والنعم البَدَنيّة حقّ وكفرها هو إفساد البدن بأكل وشرب ما حرّم الله, وإتعابه في غير طاعة الله تعالى.
وما من نعمة من هذه النعم كفرت بها قرية من القرى إلا وسلبها الله هذه النعمة وأبدلها ضدَّها, قال تعالى: {وَكَذَلكَ أَخْذ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقرَى وَهيَ ظَالمَة إِنَّ أَخْذَه أَليم شَديد}, هود: 102.
وقال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا منْ قَرْيَة كَانَتْ ظَالمَة وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرينَ فَلَمَّا أَحَسّوا بَأْسَنَا إِذَا همْ منْهَا يَرْكضونَ لا تَرْكضوا وَارْجعُوا إِلَى مَا أتْرفْتمْ فيه وَمَسَاكنكمْ لَعَلَّكمْ تسْأَلونَ}, الأنبياء: 11-13.
وكيفيّة حصول الكفران له سنّة, فإنّه ما من قرية إلا ولها كبراء يعظّمهم أهلها, وقد جرت سنّة الله تعالى أن يبدأ الكفران والمعاصي في أهل الترف قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نهْلكَ قَرْيَة أَمَرْنَا متْرَفيهَا فَفَسَقوا فيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْل فَدَمَّرْنَاهَا تَدْميرا}, الإسراء: 16.(1/298)
وقانون كفر النعمة يقع على الكفر المطلق كما هو شأن مكذّبي الرسل والأنبياء, ويقع على المسلمين عندما يكثر فيهم كفران النعيم, فهذا قانون وسنّة تضّطرد ولا تتخلّف, وهي لا تقع إلا إذا شاعت الفاحشة وكثر أهلها, وأعرض الصالحون فيها عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ولذلك حضّ الصالحون على هجران أرض المعاصي وقالوا: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقرّ فيها. فالجوع والخوف {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وهكذا لمّا أعرضت القرية عن أمر الله تعالى وسترت الحقّ وعاندت أهله وأعرضت عن اتّباعه, بدّلها الله بدل الأمن والاطمئنان خوفا, وهو خوف حقيقيّ له وجود في الواقع وأحدث أثره في نفوسهم, فأذهب الأمن وأزال الطمأنينة, وأبدلها الله تعالى بدل رغد العيش جوعاً
وقد جاء اللفظ القرآني بقوله: { فأذاقها الله لباس}, واللباس يستر الخارج, والذوق يكون في ذات الشيء, وهكذا وقع فيهم ألم في الظاهر وألم في الباطن, وهذا الألم لم يخصّ طبقة دون طبقة, وجماعة من القرية دون جماعة, بل لبسهم جميعاً, وتسربلوا فيه كلّهم وذلك كما قال تعالى: {وَاتَّقوا فتْنَة لا تصيبَنَّ الَّذينَ ظَلَموا منْكمْ خَاصَّة}, الأنفال: 25.
وقوله سبحانه وتعالى: {بما كانوا يصنعون} هو تفسير لقوله تعالى: {فكفرت بأنعم الله} فإنّما عملوا كفراً, وصنعوا كفراً.(1/299)
إزالة المنكر ضمان للأمن والاطمئنان وههنا نقطة لا ينبغي لها الفوات:- وهو ما نراه اليوم من حرص بعض الشيوخ والعلماء على عدم إنكار المنكر بما أوجب الله تعالى, وذلك بالضرب على أيدي العصاة, أو بمقاتلة من ارتدّوا عن شريعة الرحمن, ويبرّرون هذا بأنّ إزالة المنكر باليد ومقاتلة المرتدّين بالسلاح سيورث البلاء والفوضى والاضطراب, وهم يسبغون على بلادهم وصف الأمن والاطمئنان ورغد العيش, وينسون قوله في عقوبة الأمة حين تترك الضرب على يد العاصي بقوله: يوشك الله أن يعمّهم بعقاب من عنده ) . وهكذا يقلب هؤلاء الشيوخ أسماء الأشياء فيسمّون الطاعة فتنة واضطرابا, ويسمّون العيش تحت سلطة المرتدّين وانتشار الرذيلة أمنا واطمئنانا, ووالله ما هي إلا أيّام وسيرى الناس في هذه القرى ما تشيب لهولها الولدان, وما يذهل الأم عن وليدها والأخ عن أخيه, وقد رأوا بعض ذلك, ولكن أنّى للقلوب الخاوية من الإيمان العظة والعبرة, قال تعالى {وَلكلّ أمَّة أَجل فَإِذَا جاءَ أَجلهمْ لا يَسْتَأْخرونَ سَاعَة وَلا يَسْتَقْدمونَ}, الأعراف: 34.(1/300)
ومما يجب أن نعلمه أنّ من هلاك القرى ودمارها حين تكفر وتُعرض عن أمر الله تعالى هو ما يصيبها من إذلال أهلها وذهاب شوكتهم, فتغنم أموالهم وتنهب ثرواتهم وتؤول إلى أيدي غيرهم, كما حصل مع يهود المدينة (بني قريظة وبني النضير) ومع يهود خيبر, فإنّهم لما رفضوا أمر الله تعالى واستكبروا عن متابعة الرسول ( ضربهم الله تعالى بسوط عذابه, فأخربوا بيوتهم بأيديهم, وآلت ثرواتهم من بساتين وثمار وذهب ومتاع إلى أيدي أصحاب رسول الله وكذلك يوقع الله عقابه على أهل الإسلام إن كفروا بنعمة الله تعالى كما حصل مع أهل فلسطين, فإنّهم كانت نساؤهم في مدن الساحل يلبسن الذهب في أرجلهنّ, وكانت بساتين أرضها خيراً ونعيماً, ثمّ لمّا كثرت المعاصي والذنوب ورضي الناس بالحياة الدنيا بعث الله أذلّ الخلق وأحقر الشعوب على أهلها فآلت كلّها إلى أيدي اليهود ينعمون فيها ويأكلون خيراتها, فسبحان مغيّر الأحوال ومقلّب الملك والنعم.
ثمّ انظر إلى أهل سوريا الشام كيف سلّط الله تعالى عليهم إخوان اليهود في الذلّة والدناءة - النصيريين- وهم الذين كانوا من ذلّتهم يبيعون نساءهم لأهل السنّة هناك, فتبدّل الحال وصار العزيز ذليلاً والذليل عزيزاً, وكيف صار سيّد القوم من كبار الملاّك هناك لا يملكون شروى بعير كما يُقال, بل انظر إلى تشريد أهلها, ثمّ انظر إلى العراق كذلك, وإلى مصر وإلى ليبيا وإلى كلّ بلاد المسلمين ترَ عمل هذه الآية ماثلاً بين عينيك, أما أمر أهل الجزيرة فوالله لا يعجز عن رؤيته إلاّ أعمى البصر والبصيرة .(1/301)
إذا تفكّرت بهذا أدركت تزوير وبهتان الذين يخدّرون الأمّة ويدعونها إلى الرضا بواقعها, ويسلّطون نقمتهم على الشباب الرافض لهذا الواقع القبيح, هؤلاء الشباب يحاولون تبديل الكفر إلى إيمان, وتغيير المعاصي إلى طاعات, فهؤلاء الشباب يعلمون أنّ إقامة حدّ من حدود الله تعالى في الأرض خير من أن تُمطر السماء أربعين يوماً, ويعلمون أنّ قوام القرى لا يكون إلاّ بالعدل, ولا يكون العدل إلاّ بسلطان مسلم يقيم شرع الله تعالى, هؤلاء المؤمنون هم قدرُ الله تعالى الذي به يغيّر الله نعمته على أمّة محمّد ( إلى رضا ورضوان, وهم قدر الله تعالى الذي به يرحم الله القرى فيرفع عنها الذلّ والخزي والدمار والعذاب. {وما كان ربّك ليُهلِك القُرى بظُلمٍ وأهلُها مُصْلِحُون}.
واعلم أن من الإصلاح الذي يحبه الله تعالى هو قتال وقتل أئمة الكفر:
قال تعالى {وقاتِلوا أئمَّةَ الكُفرِ إنّهم لا أًيْمان لهم لعلّهُم ينتهون}, لأنّ تكنيس الأرض من هؤلاء ورميهم على مزابل الناس هو عين الإصلاح الذي يحبّه الله تعالى ويرضاه, ومن زعم من الناس أنّ هذا الأمر, وهو قتل وإزالة رؤوس الكفر, هو فتنة, فليعلم أنّه يردّ على الله أمره, وأنّه بقوله هذا هو الذي ينشر الفتنة بين الناس. نعم لقد كثر الخبث ولا بدّ من شدّ الرنّة كلٌّ بما يستطيع لإخراج الناس من غفلتهم, هذه الغفلة التي طالت عليهم, وبسبب طولها استمرأها الناس وظنّوها أمراً صحيحاً ولا مفرّ منه ولا سبيل للخروج عنه, ولذلك على الدعاة إلى الله أن ينذروا قومهم ويخوّفوهم من موت القلوب الذي أصابهم حين رضوا حكم المرتدّين, ورضوا لقيمات الذلّ والعار التي يتصدّق بها هؤلاء المرتدون عليهم, وعليهم أن يكشفوا زيف سحرة هؤلاء الحكّام الذين زوّروا على الناس دينهم وواقعهم.(1/302)
وإن قيل لك: إنّك من دعاة الفتنة, فقل لهم: والله إنّ الفتنة هي التي تعيشون, وإنّ العذاب هو الذي تحيون ولكن لا تشعرون, وها هي القوارع تضرب الناس يوماً بعد يوم, وها هي النذر تصرخ في الآذان والقلوب, فهل من مدّكر؟
**************************
الباب الخامس- بعض النتائج الهامة
? البقاء للأقوى عندما يكون الصراع بين باطلين فيكلهم الله تعالى إلى أنفسهم إلى حين
? الحروب تولد التحدي والإبداع وتسخير طاقات الكون وتظهر حقيقة المتحاربين
قال تعالى في سورة البقرة { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {216}
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله :
إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة . ولكنها فريضة واجبة الأداء . واجبة الأداء لأن فيها خيرا كثيرا للفرد المسلم ، وللجماعة المسلمة ، وللبشرية كلها . وللحق والخير والصلاح .
والإسلام يحسب حساب الفطرة ؛ فلا ينكر مشقة هذه الفريضة ، ولا يهون من أمرها . ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها . فالإسلام لا يماري في الفطرة ، ولا يصادمها ، ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل . .
ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر ، ويسلط عليه نورا جديدا إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق ؛ ولكن وراءه حكمة تهون مشقته ، وتسيغ مرارته ، وتحقق به خيرا مخبوءا قد لا يراه النظر الإنساني القصير . . عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر ؛ ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها . نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور . .(1/303)
إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرا . ووراء المحبوب شرا . إن العليم بالغايات البعيدة ، المطلع على العواقب المستورة ، هو الذي يعلم وحده . حيث لا يعلم الناس شيئا من الحقيقة .
وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة ، وتتفتح منافذ الرجاء ، ويستروح القلب في الهاجرة ، ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء .
هكذا يواجه الإسلام الفطرة ، لا منكرا عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية ، ولا مريدا لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف . ولكن مربيا لها على الطاعة ، ومفسحا لها في الرجاء . لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير ؛ ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة ، ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها ، ويعترف بمشقة ما كتب عليها ، ويعذرها ويقدرها ؛ ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء . وهكذا يربي الإسلام الفطرة ، فلا تمل التكليف ، ولا تجزع عند الصدمة الأولى ، ولا تخور عند المشقة البادية ، ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة . ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها . وتصمم على المضي في وجه المحنة ، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر ، واليسر بعد العسر ، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء . ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ . فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة ! وقد يكون المكروه مختبئا خلف المحبوب . وقد يكون الهلاك متربصا وراء المطمع البراق .
إنه منهج في التربية عجيب . منهج عميق بسيط . منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة . بالحق وبالصدق . لا بالإيحاء الكاذب ، والتمويه الخادع . .
فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمرا ويكون فيه الخير كل الخير . وهو حق كذلك أن تحب النفس أمرا وتتهالك عليه . وفيه الشر كل الشر . وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون !(1/304)
وماذا يعلم الناس من أمر العواقب ؟ وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل ؟ وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور ؟!
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالما آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه . وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون ، وتقلب الأمور ، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه . وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعا في يد القدر ، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف ، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل ، وهو راض قرير . . إنه الدخول في السلم من بابه الواسع .
فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله . وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان ! إن الإذعان الواثق والرجاء الهاديء والسعي المطمئن . .
هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة . .
وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط . في يسر وفي هوادة وفي رخاء . يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال . فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال .
وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني ، لا يقف عند حد القتال ، فالقتال ليس إلا مثلا لما تكرهه النفس ، ويكون من ورائه الخير . .
إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها . ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها . .
إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر . .
لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها ، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة . لا فئة الحامية المقاتلة من قريش . ولكن الله جعل القافلة تفلت ، ولقاهم المقاتلة من قريش !
وكان النصر الذي دوى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام . فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين !(1/305)
وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم ؟ والله يعلم والناس لا يعلمون !
ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما - وهو الحوت - فتسرب في البحر عند الصخرة . فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال:أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . .
قال:ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا . فوجدا عبدا من عبادنا . . . . . وكان هذا هو الذي خرج له موسى . ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا . ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها !
وكل إنسان - في تجاربه الخاصة - يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم . ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم . وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته ؛ ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذا من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه . وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطع لفظاعتها . ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل .
إن الإنسان لا يعلم . والله وحده يعلم . فماذا على الإنسان لو يستسلم
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية . لتؤمن وتسلم وتستلم في أمر الغيب المخبوء ، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف . .
**************(1/306)
ولذلك نجد أن أمريكا قد غزت العراق وهي مصرة على ذلك متحدية عامة دول العالم بحجة تحرير العراق والحقيقة إنما تريد تدمير العراق بدليل أنها قد ضربت ودمرت جميع البنى التحتية التي يقوم عليها المجتمع المدني وكانت الخسائر فادحة جدا لا تقدر بثمن ، ومع هذا لا نستطيع أن نجزم بأن هذه الحرب التي فرضت على العراق شر محض فقد يتولد عنها خير دون أن يقصده أصحابها ومنظروها ، حيث يشعر العراقيون في الداخل أن أحلامهم بالتحرير قد تبخرت والعملاء يشعرون أنه لا وجود لهم فقد أدوا الدور المقرر وانتهى أمرهم وهنا تبدأ فكرة المقاومة للغازي المحتل وبقوة فيجتمع الناس تحت هذه الراية ويحدث الصدام بين الطرفين وهنا يتحول الصراع إلى صراع بين حق وباطل بشكل لا لبس فيه ولا غموض فينتصر الحق (( بعد تقديم التضحيات الجسام )) على الباطل ولو بعد حين بإذن الله تعالى ، فلو بقي ذلك الطاغية جاشما على صدورهم لن يستطيعوا مقاومته لأنهم ركنوا إليه من قبل
ويضرب الله تعالى لنا مثلا في سورة النور في حادثة الإفك فيقول { إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ {11}
يقول السيد رحمه الله :
خير . فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته . وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله ؛ ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . فهي عندئذ لا تقف عند حد . إنما تمضي صعدا إلى أشرف المقامات ، وتتطاول إلى أعلى الهامات ، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء .(1/307)
وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة - بهذه المناسبة - عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم .
أما الآلام التي عاناها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته ، والجماعة المسلمة كلها ، فهي ثمن التجربة وضريبة الابتلاء ، الواجبة الأداء
وكذلك كثير من أمور الحياة تجري علينا ولا نحبها وهي في الحقيقة خير لنا في ديننا ودنيانا وعاقبة أمرنا
? نظرتان مختلفتان ضرب القرآن الكريم لنا مثلا عن أصحاب تلك النظرتين الذين تكلمت عنهم آنفا :
ففي قصة قارون كما سورة القصص { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {79} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ {80} فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ {81} وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ {82} تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {83}
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله :
ذلك كان المشهد الأول من مشاهد القصة ، يتجلى فيه البغي والتطاول ، والإعراض عن النصح ، والتعالي على العظة ، والإصرار على الفساد ، والاغترار بالمال ، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران(1/308)
ثم يجيء المشهد الثاني حين يخرج قارون بزينته على قومه ، فتطير لها قلوب فريق منهم ، وتتهاوى لها نفوسهم ، ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون ، ويحسون أنه أوتي حظا عظيما يتشهاه المحرومون . ذلك على حين يستيقظ الإيمان في قلوب فريق منهم فيعتزون به على فتنة المال وزينة قارون ، ويذكرون إخوانهم المبهورين المأخوذين ، في ثقة وفي يقين:
فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا:يا ليت لنا مثلما أوتي قارون . إنه لذو حظ عظيم . وقال الذين أوتوا العلم:ويلكم ! ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ، ولا يلقاها إلا الصابرون
وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت ، ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان ، والرجاء فيما عند الله ، والاعتزاز بثواب الله . والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان:
قال الذين يريدون الحياة الدنيا:ياليت لنا مثل ما أوتي قارون . إنه لذو حظ عظيم . .
وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب ، وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا ، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم مها ؛ فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته ؟ ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة ؟ من مال أو منصب أو جاه . ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى ، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع ، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه ، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه ، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها .(1/309)
فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة ، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع . وهم أعلى نفسا ، وأكبر قلبا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا . ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد . وهؤلاء هم الذين أوتوا العلم . العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم:
وقال الذين أوتوا العلم:ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ، ولا يلقاها إلا الصابرون .
ثواب الله خير من هذه الزينة ، وما عند الله خير مما عند قارون . والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلى الصابرون . . الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم . الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها . الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون . وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة . درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض ، والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان .
وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها ، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى ، تتدخل يد القدرة لتضع حدا للفتنة ، وترحم الناس الضعاف من إغرائها ، وتحطم الغرور والكبرياء تحطما . ويجيء المشهد الثالث حاسما فاصلا:
فخسفنا به وبداره الأرض ، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وما كان من المنتصرين . .
هكذا في جملة قصيرة ، وفي لمحة خاطفة: فخسفنا به وبداره الأرض فابتلعته وابتعلت داره ، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا . وذهب ضعيفا عاجزا ، لا ينصره أحد ، ولا ينتصر بجاه أو مال .
وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس ؛ وردتهم الضربة القاضية إلى الله ؛ وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال . وكان هذا المشهد الأخير:
وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون:وي ! كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر . لولا أن من الله علينا لخسف بنا . وي ! كأنه لا يفلح الكافرون . .(1/310)
وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس ، ولم يؤتهم ما آتى قارون . وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة . وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله . فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب . ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف . إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء . وعلموا أن الكافرين لا يفلحون . وقارون لم يجهر بكلمة الكفر ولكن اغتراره بالمال ، ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين ، ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين .
ويسدل الستار على هذا المشهد . وقد انتصرت القلوب المؤمنة بتدخل القدرة السافرة ، وقد رجحت قيمة الإيمان في كفة الميزان .
00000000000000000000
وفي غزوة الأحزاب نجد موقفين متناقضين موقف المؤمنين الصادقين وموقف المنافقين(1/311)
قال تعالى { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا {12} وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا {13} وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا {14} وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا {15} قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا {16} قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا {17} قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا {18} أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا {19} يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا {20} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي(1/312)
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً {21} وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا {22} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا {23} لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا {24}
يقول السيد رحمه الله :
فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل ، والشدة الآخذة بالخناق فرصة للكشف عن خبيئة نفوسهم وهم آمنون من أن يلومهم أحد ؛ وفرصة للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله ، وهم مطمئنون أن يأخذهم أحد بما يقولون . فالواقع بظاهره يصدقهم في التوهين والتشكيك . وهم مع هذا منطقيون مع أنفسهم ومشاعرهم ؛ فالهول قد أزاح عنهم ذلك الستار الرقيق من التجمل ، وروع نفوسهم ترويعا لا يثبت له إيمانهم المهلهل ! فجهروا بحقيقة ما يشعرون غير مبقين ولا متجملين !
ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل جماعة ؛ وموقفهم في الشدة هو موقف إخوانهم هؤلاء . فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان !
وإذ قالت طائفة منهم:يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا . .
فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف ، والعودة إلى بيوتهم ، بحجة أن إقامتهم أمام الخندق مرابطين هكذا ، لا موضع لها ولا محل ، وبيوتهم معرضة للخطر من ورائهم . .
وهي دعوة خبيثة تأتي النفوس من الثغرة الضعيفة فيها ، ثغرة الخوف على النساء والذراري . والخطر محدق والهول جامح ، والظنون لا تثبت ولا تستقر !(1/313)
ويستأذن فريق منهم النبي ، يقولون:إن بيوتنا عورة . .
يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو . متروكة بلا حماية .
وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة ، ويجردهم من العذر والحجة:
وما هي بعورة . .
ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار:
إن يريدون إلا فرارا . .
وقد روي أن بني حارثة بعثت بأوس بن قيظي إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقولون: إن بيوتنا عورة ، وليس دار من دور الأنصار مثل دورنا . ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا ، فأذن لنا فلنرجع إلى دورنا ، فنمنع ذرارينا ونساءنا . فأذن لهم صلى الله عليه وسلم فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال:يا رسول الله لا تأذن لهم . إنا والله ما اصابنا وإياهم شدة إلا صنعوا هكذا . . فردهم
فهكذا كان أولئك الذين يجبههم القرآن بأنهم: إن يريدون إلا فرارا . .
ويقف السياق عند هذه اللقطة الفنية المصورة لموقف البلبلة والفزع والمراوغة . يقف ليرسم صورة نفسية لهؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض . صورة نفسية داخلية لوهن العقيدة ، وخور القلب ، والاستعداد للانسلاخ من الصف بمجرد مصادفة غير مبقين على شيء ، ولا متجملين لشيء:
ولو دخلت عليهم من أقطارها ، ثم سئلوا الفتنة لآتوها ، وما تلبثوا بها إلا يسيرا . .
ذلك كان شأنهم والأعداء بعد خارج المدينة ؛ ولم تقتحم عليهم بعد . ومهما يكن الكرب والفزع ، فالخطر المتوقع غير الخطر الواقع ، فأما لو وقع واقتحمت عليهم المدينة من أطرافها . .
ثم سئلوا الفتنة وطلبت إليهم الردة عن دينهم لآتوها سراعا غير متلبثين ، ولا مترددين إلا قليلا من الوقت ، أو إلا قليلا منهم يتلبثون شيئا ما قبل أن يستجيبوا ويستسلموا ويرتدوا كفارا !
فهي عقيدة واهنة لا تثبت ؛ وهو جبن غامر لا يملكون معه مقاومة !
هكذا يكشفهم القرآن ؛ ويقف نفوسهم عارية من كل ستار . .(1/314)
ثم يصمهم بعد هذا بنقض العهد وخلف الوعد . ومع من ؟ مع الله الذي عاهدوه من قبل على غير هذا ؛ ثم لم يرعوا مع الله عهدا:
ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار . وكان عهد الله مسؤولا .
قال ابن هشام من رواية ابن إسحاق في السيرة:هم بنو حارثة ، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة حين همتا بالفشل يومها . ثم عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها أبدا . فذكر لهم الذي أعطوا من أنفسهم .
فأما يوم أحد فقد تداركهم الله برحمته ورعايته ، وثبتهم ، وعصمهم من عواقب الفشل . وكان ذلك درسا من دروس التربية في أوائل العهد بالجهاد . فأما اليوم ، وبعد الزمن الطويل ، والتجربة الكافية ، فالقرآن يواجههم هذه المواجهة العنيفة .
وعند هذا المقطع - وهم أمام العهد المنقوض ابتغاء النجاة من الخطر والأمان من الفزع - يقرر القرآن إحدى القيم الباقية التي يقررها في أوانها ؛ ويصحح التصور الذي يدعوهم إلى نقض العهد والفرار:
قل: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ؛ وإذن لا تمتعون إلا قليلا . قل:من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ؛ ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا . .
إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر ، يدفعها في الطريق المرسوم ، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة . والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه ، في موعده ، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر . ولن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم عن فار . فإذا فروا فإنهم ملاقون حتفهم المكتوب ، في موعده القريب . وكل موعد في الدنيا قريب ، وكل متاع فيها قليل . ولا عاصم من الله ولا من يحول دون نفاذ مشيئته . سواء أراد بهم سوءا أم أراد بهم رحمة ، ولا مولى لهم ولا نصير ، من دون الله ، يحميهم ويمنعهم من قدر الله .(1/315)
فالاستسلام الاستسلام . والطاعة الطاعة . والوفاء الوفاء بالعهد مع الله ، في السراء والضراء . ورجع الأمر إليه ، والتوكل الكامل عليه . ثم يفعل الله ما يشاء .
ثم يستطرد إلى تقرير علم الله بالمعوقين ، الذين يقعدون عن الجهاد ويدعون غيرهم إلى القعود . ويقولون لهم: لا مقام لكم فارجعوا . . ويرسم لهم صورة نفسية مبدعة . وهي - على صدقها - تثير الضحك والسخرية من هذا النموذج المكرور في الناس . صورة للجبن والانزواء ، والفزع والهلع . في ساعة الشدة . والانتفاش وسلاطة اللسان عند الرخاء . والشح على الخير والضن ببذل أي جهد فيه . والجزع والاضطراب عند توهم الخطر من بعيد . . والتعبير القرآني يرسم هذه الصورة في لمسات فنية مبدعة لا سبيل إلى استبدالها أو ترجمتها في غير سياقها المعجز:
قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم:هلم إلينا ، ولا يأتون البأس إلا قليلا . أشحة عليكم . فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت . فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد . أشحة على الخير . أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا . يحسبون الأحزاب لم يذهبوا . وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم . ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا . .
ويبدأ هذا النص بتقرير علم الله المؤكد بالمعوقين الذين يسعون بالتخذيل في صفوف الجماعة المسلمة . الذين يدعون إخوانهم إلى القعود ولا يأتون البأس إلا قليلا ولا يشهدون الجهاد إلا لماما . فهم مكشوفون لعلم الله ، ومكرهم مكشوف .
ثم تأخذ الريشة المعجزة في رسم سمات هذا النموذج:
أشحة عليكم ففي نفوسهم كزازة على المسلمين . كزازة بالجهد وكزازة بالمال ، وكزازة في العواطف والمشاعر على السواء .(1/316)
فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت . . وهي صورة شاخصة ، واضحة الملامح ، متحركة الجوارح ، وهي في الوقت ذاته مضحكة ، تثير السخرية من هذا الصنف الجبان ، الذين تنطق أوصاله وجوارحه في لحظة الخوف بالجبن المرتعش الخوار !
وأشد إثارة للسخرية صورتهم بعد أن يذهب الخوف ويجيء الأمن:
فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد . .
فخرجوا من الجحور ، وارتفعت أصواتهم بعد الارتعاش ، وانتفخت أوداجهم بالعظمة ، ونفشوا بعد الانزواء ، وادعوا في غير حياء ، ما شاء لهم الادعاء ، من البلاء في القتال والفضل في الأعمال ، والشجاعة والاستبسال . .
ثم هم: أشحة على الخير . .
فلا يبذلون للخير شيئا من طاقتهم وجهدهم وأموالهم وأنفسهم ؛ مع كل ذلك الادعاد العريض وكل ذلك التبجح وطول اللسان !
وهذا النموذج من الناس لا ينقطع في جيل ولا في قبيل . فهو موجود دائما . وهو شجاع فصيح بارز حيثما كان هناك أمن ورخاء . وهو جبان صامت منزو حيثما كان هناك شدة وخوف . وهو شحيح بخيل على الخير وأهل الخير ، لا ينالهم منهم إلا سلاطة اللسان !
أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم . .
فهذه هي العلة الأولى . العلة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشة الإيمان ، ولم تهتد بنوره ، ولم تسلك منهجه . فأحبط الله أعمالهم . . ولم ينجحوا لأن عنصر النجاح الأصيل ليس هناك .
وكان ذلك على الله يسيرا . .
وليس هنالك عسير على الله ، وكان أمر الله مفعولا . .
فأما يوم الأحزاب فيمضي النص في تصويرهم صورة مضحكة زرية:
يحسبون الأحزاب لم يذهبوا . .
فهم ما يزالون يرتعشون ، ويتخاذلون ، ويخذلون !
ويأبون أن يصدقوا أن الأحزاب قد ذهبت ، وأنه قد ذهب الخوف ، وجاء الأمان !
وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم . .
يا للسخرية ! ويا للتصوير الزري !(1/317)
ويا للصورة المضحكة ! وإن يأت الأحزاب يود هؤلاء الجبناء لو أنهم لم يكونوا من أهل المدينة يوما من الأيام . ويتمنون أن لو كانوا من أعراب البادية ، لا يشاركون أهل المدينة في حياة ولا في مصير . ولا يعلمون - حتى - ما يجري عند أهلها . إنما هم يجهلونه ، ويسألون عنه سؤال الغريب عن الغريب ! مبالغة في البعد والانفصال ، والنجاة من الأهوال !
يتمنون هذه الأمنيات المضحكة ، مع أنهم قاعدون ، بعيدون عن المعركة ، لا يتعرضون لها مباشرة ؛ إنما هو الخوف من بعيد ! والفزع والهلع من بعيد ! ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا . .
وبهذا الخط ينتهي رسم الصورة . صورة ذلك النموذج الذي كان عائشا في الجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة ؛ والذي ما يزال يتكرر في كل جيل وكل قبيل . بنفس الملامح ، وذات السمات . .
ينتهي رسم الصورة وقد تركت في النفوس الاحتقار لهذا النموذج ، والسخرية منه ، والابتعاد عنه ، وهو انه على الله وعلى الناس .
ذلك كان حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في الصفوف ، وتلك كانت صورتهم الرديئة . ولكن الهول والكرب والشدة والضيق لم تحول الناس جميعا إلى هذه الصورة الرديئة . .
كانت هنالك صورة وضيئة في وسط الظلام ، مطمئنة في وسط الزلزال ، واثقة بالله ، راضية بقضاء الله ، مستيقنة من نصر الله ، بعد كل ما كان من خوف وبلبلة واضطراب .
ويبدأ السياق هذه الصورة الوضيئة برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، وذكر الله كثيرا .(1/318)
وقد كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد ، مثابة الأمان للمسلمين ، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان . وإن دراسة موقفه [ صلى الله عليه وسلم ] في هذا الحادث الضخم لمما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم ؛ وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ؛ وتطلب نفسه القدوة الطيبة ؛ ويذكر الله ولا ينساه . ويحسن أن نلم بلمحات من هذا الموقف على سبيل المثال . إذ كنا لا نملك هنا أن نتناوله بالتفصيل .
خرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يعمل في الخندق مع المسلمين يضرب بالفأس ، يجرف التراب بالمسحاة ، ويحمل التراب في المكتل . ويرفع صوته مع المرتجزين ، وهم يرفعون أصواتهم بالرجز في أثناء العمل ، فيشاركهم الترجيع ! وقد كانوا يتغنون بأغان ساذجة من وحي الحوادث الجارية:كان هناك رجل من المسلمين اسمه جعيل ، فكره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] اسمه ، وسماه عمرا . فراح العاملون في الخندق يغنون جماعة بهذا الرجز الساذج:
سماه من بعد جعيل عمرا وكان للبائس يوما ظهرا
فإذا مروا في ترجيعهم بكلمة "عمرو" ، قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : عمرا . وإذا مروا بكملة "ظهر" قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ظهرا .
ولنا أن نتصور هذا الجو الذي يعمل فيه المسلمون ، والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بينهم ، يضرب بالفأس ، ويجرف بالمسحاة ، ويحمل في المكتل ، ويرجع معهم هذا الغناء . ولنا أن نتصور أية طاقة يطلقها هذا الجو في أرواحهم ؛ وأي ينبوع يتفجر في كيانهم بالرضى والحماسة والثقة والاعتزاز .(1/319)
وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] أما إنه نعم الغلام ! وغلبته عيناه فنام في الخندق . وكان القر شديدا . فأخذ عمارة بن حزم سلاحه ، وهو لا يشعر . فلما قام فزع . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : يا أبا رقاد ! نمت حتى ذهب سلاحك ! ثم قال: من له علم بسلاح هذا الغلام ؟ فقال عمارة:يا رسول الله هو عندي . فقال: فرده عليه . ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعبا !
وهو حادث كذلك يصور يقظة العين والقلب ، لكل من في الصف ، صغيرا أو كبيرا . كما يصور روح الدعابة الحلوة الحانية الكريمة: يا أبا رقاد ! نمت حتى ذهب سلاحك ! ويصور في النهاية ذلك الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه في كنف نبيهم ، في أحرج الظروف . .
ثم كانت روحه [ صلى الله عليه وسلم ] تستشرف النصر من بعيد ، وتراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول ؛ فيحدث بها المسلمين ، ويبث فيهم الثقة واليقين .
قال ابن إسحاق: وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق ، فغلظت علي صخرة ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قريب مني . فلما رآني أضرب ، ورأى شدة المكان علي ، نزل فأخذ المعول من يدي ، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة . قال:ثم ضرب به ضربة أخرى ، فلمعت تحته برقة أخرى . قال:ثم ضرب به الثالثة ، فلمعت تحته برقة أخرى قال:قلت:بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! ما هذا الذي رأيت ، لمع المعول وأنت تضرب ؟ قال: أو قد رأيت ذلك يا سلمان ؟ قال:قلت . نعم:قال: أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن . وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب . وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق
وجاء في "إمتاع الاسماع للمقريزي" أن هذا الحادث وقع لعمر بن الخطاب بحضور سلمان . رضي الله عنهما .
ولنا أن نتصور اليوم كيف يقع مثل هذا القول في القلوب ، والخطر محدق بها محيط .(1/320)
ولنا أن نضيف إلى تلك الصور الوضيئة صورة حذيفة عائدا من استطلاع خبر الأحزاب وقد أخذه القر الشديد ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قائم يصلي في ثوب لإحدى أزواجه . فإذا هو في صلاته واتصاله بربه ، لا يترك حذيفة يرتعش حتى ينتهي من صلاته بل يأخذه - صلوات الله وسلامه عليه - بين رجليه ، ويلقي عليه طرف الثوب ليدفئه في حنو . ويمضي في صلاته . حتى ينتهي ، فينبئه حذيفة النبأ ، ويلقي إليه بالبشرى التي عرفها قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] فبعث حذيفة يبصر أخبارها !
أما أخبار شجاعته [ صلى الله عليه وسلم ] في الهول ، وثباته ويقينه ، فهي بارزة في القصة كلها ، ولا حاجة بنا إلى نقلها ، فهي مستفيضة معروفة .
وصدق الله العظيم: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، وذكر الله كثيرا . .
ثم تأتي صورة الإيمان الواثق المطمئن ؛ وصورة المؤمنين المشرقة الوضيئة ، في مواجهة الهول ، وفي لقاء الخطر . الخطر الذي يزلزل القلوب المؤمنة ، فتتخذ من هذا الزلزال مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين:
ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا:هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله . وما زادهم إلا إيمانا وتسليما . .
لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة ؛ وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة ؛ وكان الفزع الذي لقوه من العنف ، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا ، كما قال عنهم أصدق القائلين: هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا . .
لقد كانوا ناسا من البشر . وللبشر طاقة . لا يكلفهم الله ما فوقها . وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية ؛ وبشارة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لهم ، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق . . على الرغم من هذا كله ، فإن الهول الذي كان حاضرا يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم .(1/321)
ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يحس حالة أصحابه ، ويرى نفوسهم من داخلها ، فيقول: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع . يشرط له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الرجعة . أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة . . ومع هذا الشرط بالرجعة ، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله في الجنة ، فإن أحدا لا يلبي النداء . فإذا عين بالاسم حذيفة قال:فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني ! . . ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة . .
ولكن كان إلى جانب الزلزلة ، وزوغان الأبصار ، وكرب الأنفاس . . كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله ؛ والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله ؛ والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن ؛ وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها . ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر . ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه:متى نصر الله ؟ ألا إن نصر الله قريب . . وها هم أولاء يزلزلون . فنصر الله إذن منهم قريب ! ومن ثم قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله . . وما زادهم إلا إيمانا وتسليما . .
هذا ما وعدنا الله ورسوله . . هذا الهول ، وهذا الكرب ، وهذه الزلزلة ، وهذا الضيق . وعدنا عليه النصر . . فلا بد أن يجيء النصر: وصدق الله ورسوله . . صدق الله ورسوله في الإمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها . . ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله: وما زادهم إلا إيمانا وتسليما . .(1/322)
لقد كانوا ناسا من البشر ، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر ، وضعف البشر . وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ؛ ولا أن يخرجوا من إطار هذا الجنس ؛ ويفقدوا خصائصه ومميزاته . فلهذا خلقهم الله . خلقهم ليبقوا بشرا ، ولا يتحولوا جنسا آخر . لا ملائكة ولا شياطين ، ولا بهيمة ولا حجرا . . كانوا ناسا من البشر يفزعون ، ويضيقون بالشدة ، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة . ولكنهم كانوا - مع هذا - مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله ؛ و تمنعهم من السقوط ؛ وتجدد فيهم الأمل ، وتحرسهم من القنوط . . وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير .
وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور . علينا أن ندرك أنهم كانوا بشرا ، لم يتخلوا عن طبيعة البشر ، بما فيها من قوة و ضعف . وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان ، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء .
وحين نرانا ضعفنا مرة ، أو زلزلنا مرة ، أو فزعنا مرة ، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق . . فعلينا ألا نيأس من أنفسنا ، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا ؛ أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدا ! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية ! ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا ! هنالك العروة الوثقى . عروة السماء . وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة ، ونسترد الثقة والطمأنينة ، ونتخذ من الزلزال بشيرا بالنصر . فنثبت ونستقر ، ونقوى ونطمئن ، ونسير في الطريق . .
وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام . النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده ، وثباته على عهده مع الله ، فمنهم من لقيه ، ومنهم من ينتظر أن يلقاه:(1/323)
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر . وما بدلوا تبديلا . .
هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه . نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار . ثم ولم يوفوا بعهد الله: وكان عهد الله مسؤولا . .
روى الإمام أحمد - بإسناده - عن ثابت قال:" عمي أنس بن النضر - رضي الله عنه - سميت به - لم يشهد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم بدر ، فشق عليه ، وقال:أول مشهد شهده رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] غبت عنه ! لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] ليرين الله عز وجل ما أصنع . قال:فهاب أن يقول غيرها . فشهد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم أحد . فاستقبل سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال له أنس - رضي الله عنه - يا أبا عمرو . أين واها لريح الجنة ! إني أجده دون أحد . قال:فقاتلهم حتى قتل - رضي الله عنه - قال:فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية . فقالت أخته - عمتي الربيع ابنة النضر -:فما عرفت أخي إلا ببنانه . قال:فنزلت هذه الآية: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . . . الخ قال:فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضي الله عنهم . [ ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة ] .
وهذه الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين تذكر هنا تكملة لصورة الإيمان ، في مقابل صورة النفاق والضعف ونقض العهد من ذلك الفريق . لتتم المقابلة في معرض التربية بالأحداث وبالقرآن .
ويعقب عليها ببيان حكمة الابتلاء ، وعاقبة النقض والوفاء ؛ وتفويض الأمر في هذا كله لمشيئة الله:
ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين - إن شاء - أو يتوب عليهم . إن الله كان غفورا رحيما . .(1/324)
ومثل هذا التعقيب يتخلل تصوير الحوادث والمشاهد - ليرد الأمر كله إلى الله ، ويكشف عن حكمة الأحداث والوقائع . فليس شيء منها عبثا ولا مصادفة . إنما تقع وفق حكمة مقدرة ، وتدبير قاصد . وتنتهي إلى ما شاء الله من العواقب . وفيها تتجلى رحمة الله بعباده . ورحمته ومغفرته أقرب وأكبر: إن الله كان غفورا رحيما . .
ويختم الحديث عن الحدث الضخم بعاقبته التي تصدق ظن المؤمنين بربهم ؛ وضلال المنافقين والمرجفين وخطأ تصوراتهم ؛ وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية:
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا . .
وقد بدأت المعركة ، وسارت في طريقها ، وانتهت إلى نهايتها ، وزمامها في يد الله ، يصرفها كيف يشاء . وأثبت النص القرآني هذه الحقيقة بطريقة تعبيره . فأسند إلى الله تعالى إسنادا مباشرا كل ما تم من الأحداث والعواقب ، تقريرا لهذه الحقيقة ، وتثبيتا لها في القلوب ؛ وإيضاحا للتصور الإسلامي الصحيح .
? الله تعالى الفعال لما يريد :
لا بد أن يوقن المسلم بأن الفعال لما يريد في هذا الكون هو الله وحده دون سواه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
قال تعالى في سورة آل عمران { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ {137} هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ {138} وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139} إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ {141}
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله :(1/325)
وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين ، ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة ، إنما هو حادث عابر ، وراءه حكمة خاصة . . ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان . فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها . وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها:حكمة تمييز الصفوف ، وتمحيص القلوب ، واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم ؛ ووقف المسلمين أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه ، ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي !
ثم في النهاية محق الكافرين ، بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين . .
وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة .
قد خلت من قبلكم سنن ، فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين . .
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون - إن كنتم مؤمنين - إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء ، والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ؟ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ، فقد رأيتموه وأنتم تنظرون .
لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة ، وأصابهم القتل والهزيمة . أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير . قتل منهم سبعون صحابيا ، وكسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم وشج وجهه ، وأرهقه المشركون ، وأثخن أصحابه بالجراح . . وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس ، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر ، حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم: أنى هذا ؟ وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون ؟!(1/326)
والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض . يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور . فهم ليسوا بدعا في الحياة ؛ فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف ، والأمور لا تمضي جزافا ، إنما هي تتبع هذه النواميس ، فإذا هم درسوها ، وأدركوا مغازيها ، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث ، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع ، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث ، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام . واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق . ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين ، لينالوا النصر والتمكين ؛ بدون الأخذ بأسباب النصر ، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول .
والسنن التي يشير إليها السياق هنا ، ويوجه أبصارهم إليها هي:
عاقبة المكذبين على مدار التاريخ . ومداولة الأيام بين الناس . والابتلاء لتمحيص السرائر ، وامتحان قوة الصبر على الشدائد ، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين .
وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال ، والمواساة في الشدة ، والتأسية على القرح ، الذي لم يصبهم وحدهم ، إنما أصاب أعداءهم كذلك ، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا ، وأهدى منهم طريقا ومنهجا ، والعاقبة بعد لهم ، والدائرة على الكافرين .
قد خلت من قبلكم سنن ، فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين . .
إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها ، وحاضرها بماضيها ، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها . وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ، ولم تكن معارفهم ، ولم تكن تجاربهم - قبل الإسلام - لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة . لولا هذا الإسلام - وكتابه القرآن - الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى ، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا . .(1/327)
إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وماجريات حياتهم ؛ فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها ، فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا . . وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان ! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة . بل حملتهم إليها ! وارتقت بهم إلى مستواها ، في ربع قرن من الزمان . على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ؛ ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية ، إلا بعد أجيال وأجيال . . فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية ، وأنه إلى الله تصير الأمور . . فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله ، واتسع له تصورها ، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة ، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة !
قد خلت من قبلكم سنن . .
وهي هي التي تحكم الحياة . وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة . فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله - بمشيئة الله - في زمانكم ، وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم .
فسيروا في الأرض . .
فالأرض كلها وحدة . والأرض كلها مسرح للحياة البشرية . والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر .
فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . .
وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض ، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك . .
ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة . بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه . وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل . .(1/328)
وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة:إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا . ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة . وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى . وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير . وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير .
وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان:
هذا بيان للناس ، وهدى وموعظة للمتقين . .
هذا بيان للناس كافة . فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي . ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى ، وتجد فيه الموعظة ، وتنتفع به وتصل على هداه . .
طائفة "المتقين" . .
إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى . والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها . .
والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل ، وبالهدى والضلال . .
إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل . إنما تنقص الناس الرغبة في الحق ، والقدرة على اختيار طريقه . .
والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان ، ولا يحفظهما إلا التقوى . .
ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات . تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق ، ومن هدى ، ومن نور ، ومن موعظة ، ومن عبرة . . . إنما هي للمؤمنين وللمتقين . فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة . وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة . .
واحتمال مشقات الطريق . .
وهذا هو الأمر ، وهذا هو لب المسألة . .
لا مجرد العلم والمعرفة . .
فكم ممن يعلمون ويعرفون ، وهم في حمأة الباطل يتمرغون . إما خضوعا لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة ، وإما خوفا من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة !(1/329)
وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون . إن كنتم مؤمنين . .
لا تهنوا - من الوهن والضعف - ولا تحزنوا - لما أصابكم ولما فاتكم - وأنتم الأعلون . .
عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده ، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه !
ومنهجكم أعلى . فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله ، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ! ودوركم أعلى . فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها ، الهداة لهذه البشرية كلها ، وهم شاردون عن النهج ، ضالون عن الطريق . ومكانكم في الأرض أعلى ، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها ، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون . .
فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون . وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا . فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا ، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص:
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . .
وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله ، قد يكون إشارة إلى غزوة بدر . وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون . وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد . وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر . حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون ، وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد . حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها . .(1/330)
ثم كانت الدولة للمشركين ، حينما خرج الرماة على أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واختلفوا فيما بينهم . فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة . جزاء وفاقا لهذا الاختلاف وذلك الخروج ، وتحقيقا لسنة من سنن الله التي لا تتخلف ، إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة . والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله ، لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد . وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض ، وهي مداولة الأيام بين الناس - وفقا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم - فتكون لهؤلاء يوما ولأولئك يوما . ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون . كما تتكشف الأخطاء . وينجلي الغبش .
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . . وليعلم الله الذين آمنوا
إن الشدة بعد الرخاء ، والرخاء بعد الشدة ، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس ، وطبائع القلوب ، ودرجة الغبش فيها والصفاء ، ودرجة الهلع فيها والصبر ، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح !
عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن:مؤمنين ومنافقين ، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم ، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم . ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده ، وهم مختلطون مبهمون !
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين . والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور . ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء ، وتجعله واقعا في حياة الناس ، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر ، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء . فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم .(1/331)
ومداولة الأيام ، وتعاقب الشدة والرخاء ، محك لا يخطىء ، وميزان لا يظلم . والرخاء في هذا كالشدة . وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل . والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء ، وتتجه إلى الله في الحالين ، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله .
وقد كان الله يربي هذه الجماعة - وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية - فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء ، والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب - وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة . لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة . ولتزيد طاعة لله ، وتوكلا عليه ، والتصاقا بركنه . ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين .
ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة ، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس ، وفيما بعد تمييز الصفوف ، وعلم الله للمؤمنين:
ويتخذ منكم شهداء . .
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون . يختارهم الله من بين المجاهدين ، ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد . إنما هو اختيار وانتقاء ، وتكريم واختصاص . .
إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ، ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه .(1/332)
ثم هم شهداء يتخذهم الله ، ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس . يستشهدهم فيؤدون الشهادة . يؤدونها أداء لا شبهة فيه ، ولا مطعن عليه ، ولا جدال حوله . يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق ، وتقريره في دنيا الناس . يطلب الله - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة ، على أن ما جاءهم من عنده الحق ؛ وعلى أنهم آمنوا به ، وتجردوا له ، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ؛ وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ؛ وعلى أنهم هم استيقنوا هذا ، فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس ، وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس . .
يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون . وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت . وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال !
وكل من ينطق بالشهادتين:شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لا يقال له أنه شهد ، إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها . ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها . ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله . فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد ؛ وأخص خصائص العبودية التلقي من الله . . ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله . ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر . .
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض ، كما بلغها محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس ، والذي بلغه عنه محمد [ صلى الله عليه وسلم ] هو المنهج السائد والغالب والمطاع ، وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثاء .
فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله ، فهو إذن شهيد . أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها . واتخذه الله شهيدا . . ورزقه هذا المقام .
هذا فقه ذلك التعبير العجيب:
ويتخذ منكم شهداء . . . .(1/333)
وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ومقتضاه . . لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع !
والله لا يحب الظالمين . .
والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك . بوصفه أظلم الظلم وأقبحه . وفي القرآن: إن الشرك لظلم عظيم . .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود:أنه قال:قلت:يا رسول الله . أي الذنب أعظم ؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك . . . . .
وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين ؛ فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين . فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله . والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين ، يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين . وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد ، لها مناسبتها الحاضرة . فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه . وهذا هو مقام الاستشهاد ، وفي هذا تكون الشهادة ؛ ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء . .
ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث ، في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى ، ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين ، وستارا لقدرته في هلاك المكذبين:
وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . .
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز . التمحيص عملية تتم في داخل النفس ، وفي مكنون الضمير . . إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية ، وتسليط الضوء على هذه المكنونات . تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب ، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق ، بلا غبش ولا ضباب . .
وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه ، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها . وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها ، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب ، لا تظهر إلا بمثير !(1/334)
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله - سبحانه - بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء ، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير:محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية .
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص . .
ثم إذا هو يكشف - على ضوء التجربة العملية ، وفي مواجهة الأحداث الواقعية - إن في نفسه عقابيل لم تمحص . وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط ! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه ، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد ، على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة ، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة !
والله - سبحانه - كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية ، وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض . فمحصها هذا التمحيص ، الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد ، لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها ، وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها:
ويمحق الكافرين . .
تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق ، وخلص من الشوائب بالتمحيص . .
وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات ، وفي النصر والهزيمة ، وفي العمل والجزاء . ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره ، وزاده الصبر على مشاق الطريق ، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين . ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون . .
إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور:تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان:أسلمت وأنا على استعداد للموت . فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان ، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان !(1/335)
إنما هي التجربة الواقعية ، والامتحان العملي . وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء ، ثم الصبر على تكاليف الجهاد ، وعلى معاناة البلاء .
وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى:
ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم . .
ويعلم الصابرين . .
فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون . إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا . التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان . فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر ، ويختبر بها الإيمان . إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي:معاناة الاستقامة على أفق الإيمان . والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك ، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني:
في النفس وفي الغير ، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية . والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر !
والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات . والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال . .
والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها ، في الطريق المحفوف بالمكاره . طريق الجنة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان !
? المستقبل لهذا الدين (حتما) فدين الله منصور لا محالة :
قال تعالى في سورة الأنبياء { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ {105} إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ {106} وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ {107}(1/336)
وقال تعالى في سورة النور { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {55}
وقال تعالى في سورة الفتح { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا {28}
وقال تعالى في سورة الصف { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {9}
يقول السيد رحمه الله :
فلقد ظهر دين الحق ، لا في الجزيرة وحدها ، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان . ظهر في امبراطورية كسرى كلها ، وفي قسم كبير من امبراطورية قيصر ، وظهر في الهند وفي الصين ، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها ، وفي جزر الهند الشرقية "أندونيسيا" . .
وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي . وما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله - حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها ، وبخاصة في أوربا وجزر البحر الأبيض . وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان .(1/337)
أجل ما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله ، من حيث هو دين . فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله ! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ومع نواميس الوجود الأصلية ؛ ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح ، وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة ، من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب !
وما من صاحب دين غير الإسلام ، ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة ، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة . .
وكفى بالله شهيدا . .
فوعد الله قد تحقق في الصورة السياسية الظاهرة قبل مضي قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية . ووعد الله ما يزال متحققا في الصورة الموضوعية الثابتة ؛ وما يزال هذا الدين ظاهرا على الدين كله في حقيقته . بل إنه هو الدين الوحيد الباقي قادرا على العمل ، والقيادة ، في جميع الأحوال .
ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم الذين لا يدركون هذه الحقيقة اليوم !
فغير أهله يدركونها ويخشونها ، ويحسبون لها في سياساتهم كل حساب !
-----------------
وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - قَالَ - فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لَنَا. فَيَقُولُ لاَ. إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ. تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الأُمَّةَ ». أخرجه مسلم(1/338)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ هَانِئٍ حَدَّثَهُ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ ».أخرجه مسلم
و عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ». أخرجه أبو داود وهو حديث متواتر
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِىُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِىٌّ وَرَائِى فَاقْتُلْهُ ». أخرجه البخاري
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَيُؤْمِنَ النَّاسُ أَجْمَعُونَ فَيَوْمَئِذٍ (لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْراً ) وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ فَيَفِرَّ الْيَهُودِىُّ وَرَاءَ الْحَجَرِ فَيَقُولَ الْحَجَرُ يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِىٌّ وَرَائِى وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْماً نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ ». أخرجه أحمد(1/339)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِىُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِىٌّ خَلْفِى فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ. إِلاَّ الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ ». أخرجه مسلم
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ كُنَّا قُعُوداً فِى الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلاً يَكُفُّ حَدِيثَهُ فَجَاءَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىُّ فَقَالَ يَا بَشِيرُ بْنَ سَعْدٍ أَتَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الأُمَرَاءِ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَنَا أَحْفَظُ خُطْبَتَهُ. فَجَلَسَ أَبُو ثَعْلَبَةَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً جَبْرِيَّةً فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ ». أخرجه أحمد
فهذه النصوص القاطعة تبين بشكل يقيني عودة هذا الدين إلى الحياة وقيادته للبشرية مرة أخرى
ويقول العلامة محمد قطب حفظه الله في كتابه هلم نخرج من التيه :
الغد المأمول(1/340)
ليس الطريق إلى الغد المأمول مفروشا بالأزهار والورد .. بل هو مفروش بالأشواك والآلام والدماء .. دماء الشهداء الذين سيسقطون في الطريق ..
إن العالم كله اليوم مصرّ على محاولة محو الإسلام من الأرض .
وليست هذه هي المرة الأولى التي يصرّ فيها الأعداء على هذه المحاولة ، منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى اليوم ، فقد جاء في كتاب الله الذي أنزل من نيّف وأربعة عشر قرنا قوله تعالى :
( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1).
( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(2).
والضمير في الآيتين يعود إلى ذات الأعداء الذين يريدون اليوم أن يطفئوا نور الله : اليهود والنصارى والمشركين ، وعملائهم من المنافقين :
( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) (3).
( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ) (4).
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (5).
ولكن ربما كان الفرق بين المحاولة الحاضرة والمحاولات السابقة أنه في المحاولات السابقة كان بعض الأعداء يهاجمون أجزاء من العالم الإسلامي في الوقت الواحد . أما في هذه المرة فالهجوم واقع من جميع الأعداء ، وعلى العالم الإسلامي كله في وقت واحد .
__________
(1) سورة الصف : 8.
(2) سورة التوبة : 32.
(3) سورة البقرة : 120.
(4) سورة البقرة : 217.
(5) سورة المجادلة : 14.(1/341)
وثمت فارق آخر ، ربما كان هو السبب في الحقيقة في وجود الفارق الأول : هو أن العالم الإسلامي – في مجموعه – لم يكن في وقت من الأوقات أضعف منه الآن ..
وقد تبدو الهجمة الشرسة مستغربة مع ضعف العالم الإسلامي ، واستسلامه لما يراد به عسكريا وسياسيا واقتصاديا وفكريا ، وعجزه عن رد اللطمات المتلاحقة الموجهة إليه عن يمين وشمال .
ولكن ربما يزول العجب إذا عرفت الأسباب ..
وهناك سببان اثنان على الأقل لهذه الهجمة الشرسة التي يتكاتف على توجيهها كل أعداء الإسلام ، حتى الذين بين بعضهم وبعض عداوات حادة كالتي بين الصرب والكروات ، تمنع التقاءهم على أي شيء .. إلا محاربة الإسلام !
السبب الاول أن أعداء الإسلام الذين تآمروا ضده خلال القرنين الماضيين ، وخططوا وأحكموا التخطيط ، ونفذوا بدقة كل مخططاتهم ، كانوا قد ظنوا أن تخطيطهم سيقضي على الإسلام القضاء الأخير ، وأنهم سيرتاحون إلى الأبد من ذلك العدو الذي دوخهم خلال التاريخ . وكان القضاء على الدولة العثمانية بالذات ، وتفتيت تركة " الرجل المريض " إلى دويلات هزيلة ضعيفة فقيرة وفوق ذلك متعادية متنابزة ، أكبر نصر انتصروه على الإسلام في التاريخ كله ، ففركوا أيديهم سرورا بنجاحهم ، وجلسوا يقطفون الثمار ..
وفجأة برزت الصحوة !
ولك يكن إمكان حدوث اليقظة غائبا عن أذهانهم ، بل كان له مكانه الواضح في تخطيطهم ..(1/342)
في عام 1907م ظهر تقرير لورد كامبل . وهو أحد اللوردات البريطانيين ، كانت بريطانيا ( العظمى يومئذ ! ) قد عهدت إليه بدراسة ما كان قد بدأ يقلق الدول الاستعمارية من بوادر اليقظة في المنطقة العربية من العالم الإسلامي . فقام بالمهمة ودرس الأمر ، وخرج بتقريره الموجه إلى الدول الإستعمارية كلها في الحقيقة ، وإلى بريطانيا وفرنسا بصفة خاصة ، بوصفهما المهيمنتين الرئيسيتين على القسم العربي من العالم الإسلامي ، فقال " هناك شعب واحد يسكن من الخليج إلى المحيط ، لغته واحدة ، ودينه واحد ، وأرضه متصلة ، وتاريخه مشترك . وهو الآن في قبضة أيدينا ، ولكنه أخذ يتململ ، فماذا يحدث لنا غدا إذا استيقظ العملاق ؟ " . ثم أجاب على السؤال بما يطمئن " أصحاب الشأن " فقال : " يجب أن نقطع اتصال هذا الشعب بإيجاد دولة دخيلة ، تكون صديقة لنا وعدوة لأهل المنطقة ، وتكون بمثابة الشوكة ، تخز العملاق كلما أراد أن ينهض !! " (1).
تلك هي إسرائيل .. مؤامرة صليبية صهيونية واضحة ضد الإسلام ..
ولكن " أصحاب الشأن " لم يكتفوا بذلك في مواجهة الصحوة المتوقعة التي عبر عنها " كامبل " بأن العملاق قد " أخذ يتململ " . فقد ربوا " زعامات " و" قيادات " تستوعب الغضبة إذا حدثت في نهاية الأمر على الرغم من كل الاحتياطات ، وتحولها إلى زَبَدٍ ، ينتشر على السطح ، ثم ينفثئ بعد فترة دون أن يخلف شيئا على السطح ! زعامات " سياسية " وقيادات " شعبية " تملأ الجو عجيجا ، ثم لا تمس في النهاية " مصالح " أصحاب الشأن ، بل قد تزيدها رسوخا ، والشعوب لاهية تصفق للقادة " الأبطال " وهو يُسْلِمُون بلادهم للدمار !
__________
(1) راجع تقرير لورد كامبل في منشورات الجامعة العربية بالقاهرة .(1/343)
وهذا بجانب السينما والمسرح والإذاعة ( ولم يكن التليفزيون قد ظهر بعد ) والصحافة ومناهج التعليم .. وتحرير المرأة (1)!
ومع ذلك كله قامت الصحوة !
فماذا تتوقع من الذين كانوا قد خططوا ، وظنوا أن تخطيطهم قد قضى على الإسلام بغير رجعة ؟!
أما السبب الثاني – المتصل بالصحوة كذلك – فهو ما ألمحنا إليه من قبل ، من معرفتهم بحقيقة هذا الدين ، وبأن هذه الصحوة إن استقرت في القلوب فلا سبيل إلى وقفها حتى تأخذ مداها ..
من هذين السببين معاً : الحنق من فشل مخططات قرنين من الزمان أو أكثر ، والفزع على " المصالح " التي تهددها الصحوة الإسلامية إذا استمرت في الامتداد ، نستطيع أن ندرك السعار المحموم الذي يجري في الأرض كلها لضرب الحركة الإسلامية .
ولو كانت هذه " المصالح " مشروعة ، أو معقولة ، فما كان لها أن تخشى من الإسلام من شيء ، والإسلام هو الذي أمَرَ بالعدل مع أهل الكتاب ، فوجه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : (.. وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ(2) وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ..) (3).
ولكن " مصالحهم " التي يعلنونها أحيانا ويسرونها أحيانا هي ألا يكون إسلام في الأرض .. ودون ذلك تقف مشيئة الله .
(.. وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (4) .
* * *
إذا فهمنا سر الهجمة الشرسة ، وأدركنا الإصرار المحموم على ضرب الحركات الإسلامية لإبادتها ، فما الذي نتوقع من أمرها في الغد القريب أو الغد البعيد ؟
نتوقع كل الخير .. !
__________
(1) تحدثت عن هذا الأمر بشيء من التفصيل في كتاب " واقعنا المعاصر " ص 215- ص 263 .
(2) ومنها الكتب المنزلة إليكم .
(3) سورة الشورى : 15.
(4) سورة التوبة : 32.(1/344)
ولا نقول هذا من باب تصديق الأمانيّ ! إنما نقوله على ثقة بوعد الله ، وعلى ضوءٍ من السنن الربانية التي يجريها الله ويُجْري بها أمور البشر في الأرض .
فأما الغرب الصليبي الصهيوني وعملاؤه فإنهم يعملون بحماقة شديدة ضد " مصالحهم " !
إنهم بهذا السعار المحموم الذي يمارسونه في محاولة إبادة الحركات الإسلامية ، يربون الجيل الذي لن يقدروا عليه ! ويتم ذلك في غفلة منهم ، بتدبير رباني ، كأنما قدر الله يسوقهم سوقا لإخراج ذلك الجيل على أيديهم !
إن الانفجار يحدث دائما حين يستوي الموت والحياة عند الناس ، أو حينما يكون الموت أيسر على الناس من الحياة !
وكل الانفجارات التي حدثت في التاريخ سبقها سعار محموم لإبادة تيار متصاعد ، ظن الطغاة أنهم يستطيعون القضاء عليه بالقهر والتعذيب !
والذي يجري في الأرض كلها اليوم من محاولات لإبادة المسلمين ، سواء في البوسنة والهرسك ، أو كشمير ، أو فلسطين ، أو بورما ، أو طاجستان ، أو داخل سجون التعذيب .. لن تكون نتيجته إلا إخراج أجيال أصلب عودا ، وأكثر عنادا ، أطول نفسا ، وأكثر وعيا بحقيقة المعركة التي تدور في الأرض بين دين الله وأعداء الله .
وتلك النتيجة هي – بيقين – ضد " مصالح " أصحاب الشأن !
ولو تعقلوا ما فعلوا ذلك .. ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) (1).
إن الإسلام قادم ، من أيّ طريقيه جاء ، كما قلنا في كتاب " دروس من محنة البوسنة والهرسك " ، إما بتيار هادئ يعمل في رزانة وتؤدة ، ليصل على مهل إلى أهدافه ، وإما بتيار غاضب صاخب ، يلجأ إلى العنف ويستعجل الطريق !
ونحن – كما قلنا في ذلك الكتاب – نفضل ألف مرة التيار الهادئ ، الذي يعمل في رزانة وتؤدة ، ولو استغرق عمله بضعة أجيال ! ولكن ما حيلتنا في حماقات الغرب ، وحماقات إسرائيل ؟!
* * *
إذا كان هذا حال الأعداء .. فما حال الصحوة ؟
__________
(1) سورة الأنعام : 112.(1/345)
إذا راجعنا مسار الصحوة – كما ينبغي لنا أن نفعل – فسنجد – كما ألمحنا من قبل – أنها قامت بجهد كبير ، تبدو آثاره واضحة على الساحة . ولكنها تعجلت كثيرا في بعض الخطوات ، وأبطأت كثيرا في بعض المجالات ، وتركت بعض المجالات فلم تبذل فيها الجهد المطلوب ..
وليس هنا مجال التفصيل في ذلك كله (1) . ولكن لا بد من إشارات سريعة توضح ما نقول .
قامت الصحوة بجهد " إعلامي " كبير ، على الرغم من حرمانها المتعمد من معظم وسائل الإعلام !
والوعي الإسلامي القائم عند الجماهير اليوم ، مرده – بعد فضل الله – إلى الصحوة المباركة ، وإلى الجهد الدائب الذي بذلته خلال أكثر من نصف قرن في تعريف الناس بالإسلام .
وذلك جهد لا بد أن يذكر ..
فلو أننا راجعنا حال المسلمين في القرن الماضي ، ومدى الغربة التي لفّت الإسلام في طياتها ، حتى أصبح غريبا على أهله ، وأصبح ما يتمسكون به على أنه الإسلام كأنه دين آخر غير دين الله المنزل .. إذا راجعنا تلك الحال ، وقارناها بالحاضر الذي تمور به الساحة مورا ، أدركنا على الفور مدى الجهد الذي بذلته الدعوة في هذا المجال .
ولقد كان أبرز ما قامت به الصحوة في هذا المجال هو العمل لإزالة آثار الفكر الإرجائي والفكر الصوفي والتفلت من التكاليف ، أو في القليل تخفيف آثارها .. وقد كانت هذه الثلاثة من أشد ما أصاب الأمة الإسلامية بالضعف والخذلان .
__________
(1) أرجو أن يوفقني الله إلى كتابة بحث بعنوان " كيف ندعو الناس ".(1/346)
وكان من أبرز ما قامت به كذلك التركيز على معنى لا إله إلا الله ، وأنها ليست مجرد الكلمة المنطوقة باللسان ، وأن الإيمان ليس قولا معزولا عن العمل ، إنما هو – كما قال السلف – قول وعمل .. عمل بمقتضيات لا إله إلا الله في الواقع المشهود .. وقد كان حصر الإيمان في نطق لا إله إلا الله ، أثرا من أثار الفكر الإرجائي من ناحية ، والرغبة في التفلت من التكاليف من ناحية ، والتضليل الذي قامت به أجهزة الغزو الصليبي الصهيوني من جهة ثالثة ، لتخدير المسلمين عن حقيقة لا إله إلا الله ، وصرفهم عن أي محاولة جادة لترجمتها واقعا حيا متحركا كما هي حقيقتها التي نزلت بها من عند الله .
كذلك كان من آثار الصحوة إزالة الانبهار بما عند الغرب ، أو – في القليل – التقليل من آثاره على أرواح الناس .. وقد كان هذا الانبهار من أشد عوامل عبودية الناس للغرب المستعمر ، وتخذيلهم عن مجرد التفكير في مقاومته حتى داخل أفكارهم ومشاعرهم ، فضلا عن مقاومته في الواقع المحسوس .
ومن ميزات الصحوة هنا أنها لم تناد بإغلاق الأبواب على كل ما يجيء من عند الغرب ، ولم تدع إلى العزلة عن ركب الحياة الحيّ ، إنما نادت بضرورة الانتقاء – على بصيرة – مما عند الغرب ، وأخذ ما لا بد من أخذه ، وترك ما لا بد من تركه ، والاستفادة بما أخذ بتطويعه للمنهج الإسلامي ، وليس بتطويع الإسلام لمناهج الغرب ..(1/347)
ويحسب للصحوة كذلك عملها الضخم في ميدان المرأة .. وقد كان ميدان المرأة من أكبر المجالات التي عمل فيها الغزو الفكري ، لإخراج المجتمع كله من الإسلام .. فالأم هي التي تبذر في أطفالها في سنيهم الأولى مبادئ العقيدة ومبادئ الفضيلة ومبادئ الأخلاق ، فإذا أفسدت الأم وهي بعد فتاة ، فنزعت حجابها ، وأهملت عبادتها ، وشُغِلَتْ عن ربها وآخرتها بالجري وراء " المودة " وأدوات الزينة والخروج من البيت ابتغاء الفتنة والتبرج ، فلن تربي أبناءها حين تصبح أُماًّ على شيء من العقيدة ولا الفضيلة ولا الأخلاق ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه . وقد بذل الغزو الصليبي الصهيوني جهدا جبارا في هذا المضمار ، بحيث يصبح من المتعذر على المرأة المسلمة الملتزمة المتحجبة أن تعيش في المجتمع السافر المتفسخ المتسيب الذي يعج بألوان الفساد .. لذلك ينظر دعاة الغزو الفكري اليوم في ذهول بالغ وحنق محموم إلى ظاهرة الحجاب ، التي لم تشمل فتيات الجامعة فحسب ، بل وصلت إلى " الفنانات " ، آخر من يتصور أن يعدن إلى الله !
كل ذلك يحسب – من بعد فضل الله ومَنِّه – لجهود الدعوة في أكثر من نصف قرن .
ولكن الدعوة تعجلت في أمور ، ظناً منها أنها أصبحت كفئاً لتلك الأمور ..
تعجلت في الصدام مع السلطة ، وتعجلت في طلب الوصول إلى الحكم .
إن الصدام بين السلطة والدعوة – في فترة الاستضعاف – لا يجوز أن يجيء من جانب الدعوة ، إنما هو يأتي دائما من جانب السلطة . وحين تضرب السلطة الدعوة الإسلامية وهي لا تصنع شيئا إلا أن تبيّن للناس حقيقة لا إله إلا الله ، فسيعرف الناس – بشهادة الواقع – مكان تلك السلطة من الإسلام ، وموقفها من دعوة لا إله إلا الله .(1/348)
أما حين تجد الفرصة لاستدراج الحركات الإسلامية إلى معركة غير متكافئة ، فهي تنجح في تلبيس الأمر على " الجماهير " فتوهمها أنها لا تحارب الإسلام ، وإنما تحارب " التطرف " .. فيتأخر بذلك وعي الجماهير بالقضية ، وهو عنصر مهم في الحركة لا غنى عنه.
كذلك التعجل في طلب الوصول إلى الحكم .. إنه قائم على الانخداع بحماسة الجماهير .. والحماسة الوجدانية شيء ، وتجنيد الناس أنفسهم لقضية لا إله إلا الله شيء آخر مختلف .. شيء تصنعه التربية ولا تصنعه الخطب الحماسية ولا الكتب ولا المحاضرات !
والتربية هي الجانب الذي نقول إن الصحوة قد أبطأت فيه ، مع أنها هي العصب الحيّ للدعوة ، الذي يضمن – بعد فضل الله – ثبات القلوب على الحق ، واستقامتها على الطريق ، سواء في مرحلة الدعوة أو في مرحلة التمكين حين يمنّ الله بالتمكين .
إن الحماسة للإسلام جميلة .. ويحسب للصحوة بلا شك تغييرها الصورة العامة للمجتمع – وللشباب خاصة – من الصورة اللاهية العابثة ، المتفلتة المتسيبة ، اللاهثة وراء الغرب ، الغارقة في دنس التصورات ودنس السلوك ، إلى صورة فيها التزام وتعبد ، وانشغال عن اللهو وتوجه إلى الله ، وحماسة للدعوة .
ولكن هذه هي البداية في حين ظن كثير من الدعاة أنها الغاية ..
ما بين الحماسة الملتهبة للإسلام وبين تحقيق متطلبات الإسلام في النفس والواقع وتجنيد الناس أنفسهم له بوعي وبصيرة ، مسافة طويلة تغطيها التربية البطيئة الهادئة الهادفة المستنيرة ..(1/349)
ولا يمكن بطبيعة الحال أن تُرَبّي أمة بكاملها دفعة واحدة ، ولا يمكن – مهما كان جهد التربية – أن يتربى كل فرد في الأمة على النمط المطلوب . فإن هذا لم يحدث في أي مجتمع من مجتمعات التاريخ ، ولا حتى في المجتمع الذي أنشأ أعظم مرب في تاريخ البشرية ، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد كان في ذلك المجتمع منافقون ، ومُبَطِّئون ، ومثّاقلون ، وقوم ضعاف الإيمان ، وقوم خفاف الأحلام تستطيرهم الشاردة والواردة كما جاء وصفهم جميعا في كتاب الله :
( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (1).
( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ) (2) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيل ٌ) (3) .
(
__________
(1) سورة المنافقون : 1 .
(2) سورة النساء : 72 – 73 .
(3) سورة التوبة : 38 .(1/350)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) (1).
( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً ) (2) .
نعم .. ولكن القاعدة التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه خلال ثلاثة عشر عاما في مكة وعشر سنوات في المدينة كانت من القوة والصلابة ورسوخ الإيمان بحيث حملت هؤلاء جميعا وتحركت بهم لتحقيق الأهداف التي أخرج الله هذه الأمة من أجلها :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (3) .
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(4) .
وبناء القاعدة الصلبة ينبغي أن يكون هو الشاغل الأول والأكبر للحركة الإسلامية قبل أن تتحرك في أي اتجاه .. وهذه القاعدة – بعد إنشائها بالمواصفات المطلوبة – ستكون هي القيادة التي تقود الأمة للخروج من التيه ..
* * *
__________
(1) سورة النساء : 77 .
(2) سورة النساء : 83 .
(3) سورة آل عمران : 110 .
(4) سورة البقرة : 143 .(1/351)
ذا كان هذا هو حاضر الدعوة ، وحاضر العالم المتكتل اليوم في سعار محموم للقضاء على الإسلام .. فما المتوقع في الغد ؟
المتوقع – من خلال هذا الاضطهاد العالمي للإسلام – أن تنضج الدعوة !
وتلك سنة ربانية يجريها الله من خلال حماقات الطغاة في كل التاريخ :
( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) (1) .
ستتعلم الحركات الإسلامية من خلال الواقع أن الأعداء لا يحاربون جماعة بعينها ، لأسباب كامنة في تلك الجماعة ، إنما يحاربون الإسلام كله ، في أي صورة من صوره ، والمتوقع – من فضل الله – أن يقرب هذا الأمر بين الجماعات المتباعدة ، ويزيل بالتدريج ما بينها من خلافات ، حين تجد نفسها كلها في خندق واحد ، يحيط به الأعداء من كل جانب ..
وستتعلم الحركات الإسلامية من خلال الواقع أن " معرفة " مقتضيات لا إله إلا الله شيء والقيام بتحقيقها في داخل النفس ثم في واقع المجتمع أمر آخر مختلف ، ومن ثم فإن تعريف الناس بمقتضيات لا إله إلا الله – على كل ضرورته وأهميته – لا يكفي وحده ! إنما المطلوب تحقيق هذه المقتضيات في النفس وفي الواقع ، وتلك مهمة التربية التي لا غنى عنها ، وأنه بغير هذه التربية – في القاعدة على الأقل – تظل الحركة شعارات بغير واقع ، فلا تستحق عند الله التمكين ، ولا تقنع الناس بإمكان التغيير !
__________
(1) سورة آل عمران : 139 – 142 .(1/352)
وستتعلم الحركات الإسلامية من خلال الواقع أنه لا بد لها من وعي سياسي ، يمنع عنها الانخداع بكل مدّعٍ يدعي أنه تاب وأناب ، وأصبح قائدا للمسلمين ! أو يتظاهر بأنه واقف ضد أمريكا أو إسرائيل وهو على رأس العملاء المتآمرين ! ووعي حركي يمنع عنها الوقوع في المنزلقات التي يستدرجها إليها الأعداء ، ويضبط إيقاع حركتها مع مقتضيات الأحداث ..
وحين تنضج الحركة فكريا ، وأخلاقيا ، وحركيا ، فإنها ستكون أصلب من أن يؤثر فيها كيد الأعداء ، لأنها ستكون على الشرط الذي اشترطه الله :
( إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) (1) .
* * *
أما الأعداء فلهم شأن آخر ..
إنهم اليوم – في كل الأرض – طغاة متجبرون يكيدون للإسلام بكل ما يملكون من وسائل الكيد .. والقوة السياسية والعسكرية والإقتصادية والعلمية والتكنولوجية في أيديهم ..
وقد علمتنا وقائع التاريخ – التي هي تحقيق السنن الربانية في واقع الأرض – أن هذا كله بغير " قيم " لا يعيش ! وأن هذه الوسائل كلها تمكّن للباطل فترة من الوقت – بحسب سنة ربانية – ثم ينهار الباطل في النهاية :
( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (2).
وقد انهار الباطل في نصف الأرض ، وانهياره في بقية الأرض قاب قوسين ..
__________
(1) سورة آل عمران : 120.
(2) سورة الأنعام : 44- 45 .(1/353)
والبديل الذي يحمل القيم هو الإسلام .. والقيمة العظمى فيه هي الإيمان بالله على بصيرة ، وضبط الحياة بالضوابط الربانية ، وتحقيق المنهج الرباني الخيّر المبارك في واقع الحياة ..
ولكن لا بد من جهد يبذله البشر لتحقيق ذلك كله . فبغير جهد وجهاد لا يتحقق شيء في واقع الأرض ..
وفي الغد المأمول يقوم بهذا الجهد فريقان من البشر ، أحدهما تمثله الصحوة القائمة اليوم في العالم الإسلامي ، التي تزداد قوة ونضجا بما يقع عليها من المذابح والاضطهاد .. حسب سنة الله . والفريق الآخر الذي لا يحسب حسابه كثيرا اليوم ، وهو قدر من أقدار الله ، يجيء في وقته المقدور عند الله ، هو المسلمون من عالم الغرب ذاته ، الذي يتزايد عددهم باستمرار ، وهم من مثقفي الغرب النشيطين في حقل الدعوة ، والنساء منهم خاصة ، اللواتي يتحدين بواقعهن كل مفتريات الغرب عن ظلم الإسلام للمرأة ، ويعلنّ – بواقعهن – أن أعظم تكريم للمرأة هو الذي يقدمه الإسلام .
وفي الوقت المقدورعند الله تقع المعركة الفاصلة التي تتزايد اليوم إرهاصاتها .
( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً ) (1).
( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ) (2).
" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ، فيقتلهم المسلمون ، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر ، فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم ، يا عبد الله ! هذا يهودي خلفي ، فتعال فاقتله .. " (3).
__________
(1) سورة الإسراء : 7.
(2) سورة الإسراء : 104
(3) أخرجه مسلم .(1/354)
وعندئذ يتغير التاريخ .. ويدخل الناس في دين الله أفواجا كما دخلوا أول مرة ـ ويقدر الله جولة أخرى ممكّنة للإسلام في الأرض . ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (1) .
**************
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في كتابه النفيس المستقبل لهذا الدين :
المستَقبل لهذا الدّين
وحين يتقرر أن الإسلام هو - وحده - القادر على إنقاذ البشرية مما يحدق بها من أخطار ماحقة، تدلف إليها مقودة بسلاسل الحضارة المادية البراقة. وهو - وحده - القادر على منحها المنهج الملائم لفطرتها ولاحتياجاتها الحقيقية. وهو - وحده - الذي ينسق بين خطاها في الإبداع المادي وخطاها في الاستشراف الروحي. وهو - وحده - الذي يملك أن يقيم لها نظاماً واقعياً للحياة يتم فيه هذا التناسق الذي لم تعرفه البشرية قط إلا في النظام الإسلامي - وحده - على مدى التاريخ 00
حين يتقرر هذا كله تتضح معه شناعة الجريمة التي يرتكبها - في حق البشرية كلها - أولئك الذين يوجهون الضربات الوحشية لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان - وفي أولهم مستر دالاس الذي يصرح ويستصرخ في طلب مثل هذا المنهج - والذين يجندون قواهم كلها، لطمس معالم المنهج الإسلامي، ومواراته عن أعين البشرية المتطلعة إلى منقذ، المتلفتة على (مخلص)، وتنفيرها منه بشتى الخدع والتمويهات والأكاذيب!
إنها جريمة بشعة - في حق البشرية كلها - البشرية المسكينة المنكوبة بهذه الحضارة المناقضة لفطرتها ولاحتياجاتها الحقيقة - كما يقرر العالم الغربي الكبير- المهددة بغلبة الفلسفة المادية عليها - كما ينذر مستر دالاس – البشرية التي تدلف إلى الهاوية، مقودة بسلاسل هذه الحضارة المادية البراقة، وهي في كل لحظة تقترب من الهوة الرعيبة، ولا منقذ لها إلا هذا الدين، الذي يحاربه أعداء البشرية، في كل مكان على وجه الأرض، بشتى الخطط والمؤامرات والأساليب!
__________
(1) سورة يوسف : 21.(1/355)
إلا أن هذه الحرب المشبوبة على الإسلام لا تفقدنا الثقة المطلقة في أن (المستقبل لهذا الدين).
لقد صمد الإسلام في حياته المديدة، لما هو أعنف وأقسى من هذه الضربات الوحشية، التي توجه اليوم إلى طلائع البعث الإسلامي في كل مكان. وكافح - وهو مجرد من كل قوة غير قوته الذاتية- وانتصر، وبقى، وأبقى على شخصية الجماعات والأوطان، التي كان يحميها، وهو مجرد من السلاح!
إن الإسلام هو الذي حمى الوطن الإٍسلامي في الشرق من هجمات التتار؛ كما حماه من هجمات الصليبيين على السواء 00
ولو انتصر الصليبيون في الشرق كما انتصروا في الأندلس قديماً، أو كما انتصر الصهيونيون في فلسطين حديثاً، ما بقيت قومية عربية، ولا جنس عربي ولا وطن عربي 00
والأندلس قديماً وفلسطين حديثاً كلاهما شاهد على أنه حين يطرد الإسلام من أرض، فإنه لا تبقى فيها لغة ولا قومية، بعد اقتلاع الجذر الأصيل!
والمماليك الذين حموا هذه البقعة من التتار، لم يكونوا من جنس العرب إنما كانوا من جنس التتار! ولكنهم صمدوا في وجه بني جنسهم المهاجمين، حمية للإسلام، لأنهم كانوا مسلمين! صمدوا بإيحاء من العقيدة الإسلامية، وبقيادة روحية إسلامية من الإمام المسلم (ابن تيمية) الذي قاد التعبئة الروحية، وقاتل في مقدمة الصفوف!
ولقد حمى صلاح الدين هذه البقعة من اندثار العروبة منها والعرب واللغة العربية 00 وهو كردي لا عربي 00
ولكنه حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين. وكان الإسلام في ضميره هو الذين كافح الصليبيين. كما كان الإسلام في ضمير الظاهر بيبرس، والمظفر قطز، والملك الناصر 00
هو الذي كافح التتار المتبربرين!(1/356)
والإسلام هو الذي كافح في الجزائر مئة وخمسين عاماً. وهو الذي استبقى أرومة العروبة فيها. حتى بعد أن تحطمت مقوماتها الممثلة في اللغة والثقافة، حينما اعتبرت فرنسا اللغة العربية –في الجزائر- لغة أجنبية محظوراً تعليمها! هنالك قام الإسلام - وحده - في الضمير، يكافح الغزاة، ويستعلي عليهم، ولا يحنى رأسه لهم لأنهم أعداؤه (الصليبيون)! وبهذا - وحده - بقيت روح المقاومة في الجزائر، حتى أزكتها من جديد الحركة الإسلامية التي قام بها عبد الحميد بن باديس، فأضاءت شعلتها من جديد 00 وهذه الحقيقة التي حاول أن يطمسها المغفلون والمضلِّلون، يعرفها الفرنسيون والصليبيون جيداً لأنهم (صليبيون)!
إنهم على يقين أن (الإسلام)، باستعلاء روحه على أعدائه، هو الذي يقف في طريقهم في الجزائر. ومن ثم يعلنونها حرباً على (المسلمين) 00
لا على (العرب) ولا على (الجزائريين)!
والإسلام هو الذي هب في السودان في ثورة المهدي الكبير على الاحتلال البريطاني للقسم الشمالي من الوادي (مصر) ثم القسم الجنوبي (السودان) ومراجعة إعلانات (المهدي) الكبير ، ورسائل (عثمان دقنة) لكتشنر وكرومر وتوفيق، تشهد بحيوية هذا الباعث الأصيل.
والإسلام هو الذي كافح في برقة وطرابلس ضد الغزو الطلياني
00 وفي أربطة السنوسية وزواياها نمت بذرة المقاومة. ومنها انبثق جهاد عمر المختار الباسل النبيل..
وأول انتفاضة في مراكش، كانت منبثقة من الروح الإسلامي. وكان (الظهير البربري) الذي سنه الفرنسيون سنة 1931 وأرادوا به رد قبائل البربر هناك إلى الوثنية، وفصلهم عن الشريعة الإسلامية 00
هو الشرارة التي ألهبت كفاح مراكش ضد الفرنسيين.
لقد كافح الإٍسلام - وهو أعزل - لأن عنصر القوة كامن في طبيعته. كامن في بساطته ووضوحه وشموله، وملاءمته للفطرة البشرية، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية 00(1/357)
كامن في الاستعلاء عن العبودية للعباد بالعبودية لله رب العباد؛ وفي رفض التلقي إلا منه، ورفض الخضوع إلا له من دون العالمين ..
كامن كذلك في الاستعلاء بأهله على الملابسات العارضة كالوقوع تحت سلطان المتسلطين. فهذا السلطان يظل خارج نطاق الضمير مهما اشتدت وطأته ..
ومن ثم لا تقع الهزيمة الروحية طالما عمر الإسلام القلب والضمير، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين.
ومن أجل هذه الخصائص في الإسلام يحاربه أعداؤه هذه الحرب المنكرة، لأنه يقف لهم في الطريق، يعوقهم عن أهدافهم الاستعمارية الاستغلالية، كما يعوقهم عن الطغيان والتأله في الأرض كما يريدون!
ومن أجل هذه الخصائص يطلقون عليه حملات القمع والإبادة، كما يطلقون عليه حملات التشويه والخداع والتضليل!
ومن أجل هذا يريدون أن يستبدلوا به قيماً أخرى، وتصورات أخرى، لا تمت بسبب إلى هذا المناضل العنيد؛ لتستريح الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، والاستعمار العالمي من هذا المناضل العنيد!
إن خصائص الإسلام الذاتية هي التي تحنق عليه أعداءه الطامعين في أسلاب الوطن الإسلامي 00
هذه هي حقيقة المعركة؛ وهذا هو دافعها الأصيل..
* * *
ولكن الذي لا شك فيه - على الرغم من ذلك كله - هو أن (المستقبل لهذا الدين)..
( فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين؛ ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين. وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى - كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه. وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني طويلاً عنه ) 00
كما قلنا في صدر هذا الكتاب00
ولا حاجة بنا إلى المضي في توكيد هذه الحقيقة على هذا النحو. فنكتفي في هذا الموضع بعرض عبرة عن الواقع التاريخي للإسلام، لعلها أنسب العبر في هذا المقام:(1/358)
بينما كان (سراقة بن مالك) يطارد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه - وهما مهاجران خفية عن أعين قريش 00 وبينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما هم أن يتابع الرسول وصاحبه، طمعاً في جائزة قريش المغرية التي رصدتها لمن يأتيها بمحمد وصاحبه أو يخبر عنهما 00
وبينما هو يهم بالرجوع –وقد عاهد النبي- صلى الله لعيه وسلم- أن يكفيهما من وراءه 00
في هذه اللحظة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا سراقة. كيف بك وسوارى كسرى؟ ) 00 يعده سوارى كسرى شاهنشاه الفرس! (ملك الملوك!).
والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة؛ حول هذا العرض العجيب؛ من ذلك المطارد الوحيد 00
إلا من صاحبه الذي لا يغني شيئاً عنه، والمهاجر - سرّا ً- معه!
ولكن كالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عارفاً بالحق الذي معه، معرفته بالباطل الذي عليه الجاهلية في الأرض كلها يومذاك 00
وكان واثقاً من أن هذا الحق لابد أن ينتصر على هذا الباطل. وأنه لا يمكن أن يوجد (الحق) في صورته هذه، وأن يوجد (الباطل) في صورته هذه، ثم لا يكون ما يكون!
كانت الشجرة القديمة قد تآكلت جذورها كلها، بحيث لا يصلها ري ولا سماد 00 كانت قد خبثت بحيث يتحتم أن تجتث 00
وكانت البذرة الطيبة في يده هي المعبأة للغرس والنماء 00 وكان واثقاً من هذا كله ثقة اليقين 00
* * *
نحن اليوم في مثل هذا الموقف بكل ملابساته، وكل سماته. مع الجاهلية كلها من حولنا 00
فلا يجوز - من ثم - أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة. العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا. على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا!
إن حاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج، ليست بأقل من حاجتها يومذاك 00
وإن وزن هذا المنهج اليوم - بالقياس إلى كل ما لدى البشرية من مناهج - لا يقل عنه يومذاك 00(1/359)
ومن ثم ينبغي ألا يخالجنا الشك في أن ما وقع مرة في مثل هذه الظروف لابد أن يقع. ولا يجوز أن يتطرق إلى قلوبنا الشك، بسبب ما نراه من حولنا، من الضربات الوحشية التي تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان، ولا بسبب ما نراه كذلك من ضخامة الأسس التي تقوم عليها الحضارة المادية00
إن الذي يفصل في الأمر ليس هو ضخامة الباطل، وليس هو قوة الضربات التي تكال للإسلام. إنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ومدى الصمود للضربات!
إننا لسنا وحدنا 00
إن رصيد الفطرة معنا 00
فطرة الكون وفطرة الإنسان 00
وهو رصيد هائل ضخم 00
أضخم من كل ما يطرأ على الفطرة من أثقال الحضارة 00
ومتى تعارضت الفطرة مع الحضارة، فلا بد أن يكتب النصر للفطرة 00 قصر الصراع أم طال(1)[19]).
* * *
أمر واحد يجب أن يكون في حسابنا 00
إن أمامنا كفاحاً مريراً شاقاً طويلاً. لاستنقاذ الفطرة من الركام. ثم لتغليب الفطرة على هذا الركام.
كفاحاً مريراً يجب أن نستعد له استعداداً طويلاً 00
يجب أن نستعد بأن نرتفع إلى مستوى هذا الدين 00
نرتفع إلى مستواه في حقيقة إيماننا بالله. وفي حقيقة معرفتنا بالله فإننا لن نؤمن به حق الإيمان حتى نعرفه حق المعرفة 00
ونرتفع إلى مستواه في عبادتنا لله. فإننا لن نعرف الله حق المعرفة إلا إذا عبدناه حق العبادة.
ونرتفع إلى مستواه في وعينا بما حولنا، ومعرفتنا لأساليب عصرنا 00 ورحم الله رجلاً عرف زمانه واستقامت طريقته.
ونرتفع إلى مستواه في إحاطتنا لثقافة عصرنا وحضارته؛ وممارسة هذه الثقافة وهذه الحضارة ممارسة اختبار واختيار 00
فإننا لا نملك الحكم على ما ينبغي أن نأخذ منها وما ينبغي أن ندع، إلا إذا سيطرنا عليها بالمعرفة والخبرة. فمن المعرفة والخبرة نستمد سلطان الاختيار 00
__________
(1) 19]) راجع فصل "رصيد الفطرة" في كتاب: "هذا الدين".(1/360)
ونرتفع إلى مستواه في إدراكنا لطبيعة الحياة البشرية وحاجاتها الحقيقية المتجددة، فنرفض ما نرفض من هذه الحضارة، ونستبقي ما نستبقي عن خبرة بالحياة ذاتها تعادل خبرتنا بهذه الحضارة كذلك!
وهذا كفاح مرير 00
وكفاح طويل 00
ولكنه كفاح بصير وفاح أصيل..
والله معنا
00 "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" 00
وصدق الله العظيم.
-------------
حقيقة الأنتصار
فضيلة الشيخ د. ناصر ابن سليمان العُمر
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نحمد الله جل وعلا ونثني عليه الخير كله أن وفقنا لهذا اللقاء الذي أسأل الله جل وعلا أن يجعله لقاء طيبا مباركا.
موضوعنا لهذا اليوم عن حقيقة الانتصار.
وأحب أن أبين في البداية شرحا موجزا للعنوان، فقد يتبادر إلى أذهان البعض أنني سأتحدث عن لانتصار بمعناه الشامل، الذي هو انتصار وظهور الدين.
وليس هذا هو موضوع حديثي مع أهمية هذا الموضوع، وقد تحدث فيه كثير من العلماء وطلاب العلم، وكتب فيه بعض الكتاب من الإسلاميين.(1/361)
ولهذا فإن الموضوع الذي عنيته هو حقيقة انتصار الداعية، وهناك فرق بين مفهوم انتصار الدين وظهوره وبين ومفهوم انتصار الداعية، مع أن بينهما عموم وخصوص كما سيتضح بأذن الله من خلال هذا الدرس.
لهذا آمل أن ينتبه الأخوة الكرام إلى هذه القضية وأن الحديث سيدور حول موضع واحد وهو حقيقة انتصار الداعية، أما ما يتعلق بانتصار الدين وظهوره فلن أتعرض له إلا بمقدار صلته بالموضوع الأساسي.
أما سبب الحديث عن الموضوع، فهناك سبب جوهري نشأت عنه آثار أخرى:
وهو أنني رأيت خلطا بين مفهوم انتصار الداعية وبين مفهوم انتصار الدين وظهوره، بل إن كثير من الدعاة ومن طلاب العلم، وكثير من الناس جعلوا هناك تلازما بينا وظاهرا بين ظهور الدين وتمامه وبين انتصار الداعية، فإذا لم تتحقق الأهداف التي جاء الداعية من أجلها حكموا على الداعية بالفشل، إن تحققت هذه الأهداف أو تحقق بعضها اعتبروا هذا هو المقياس الحقيقي لانتصار الداعية.
ونتيجة الخلط في هذا المفهوم نشأت عنه أمور عدة أذكر أبرزها:
الأمر الأول:
وهو ما أشرت إليه قبل قليل أن كثير من الناس يتصور أن هذا الداعية لم ينجح في دعوته لأن الأهداف التي جاء من أجلها وأعلنها لم تتحقق في صعيد الواقع، فيحكمون على الداعية بالفشل، لماذا ؟
لأنه لم يتمكن من تحقيق أهدافه أو بعضها وهي المتعلقة بظهور الدين وتمامه.
ولذلك رأينا من يقول لبعض الدعاة:
ماذا استفدت من دعوتك؟ هل اهتدى الناس ؟ هل تغيرت المنكرات التي جئت لإزالتها ؟
وهم ينطلقون من هذا المفهوم أن هذا الداعية قد فشل،فلماذا يستمر في دعوته ؟
وهذا ناشئ من الوهم ومن الخلط بين حقيقة انتصار الداعية وبين ظهور الدين وتحقق الأهداف التي يدعو إليها الداعية.
الأمر الثاني:
الذي نشئ من هذا الخلط ومن الجهل في هذا المفهوم هو الاستعجال، وقد رأينا بعض الدعاة يستعجلون النتائج لأنهم وضعوا تلازما بين حقيقة ما أمروا به وبين الأهداف التي جاءوا من أجلها.(1/362)
فإذا عمل أحدهم بضع سنوات وأحيانا بضعة أشهر ولم يرى أن النتائج قد تحققت تعجل، وقد يتصرف بعض التصرفات التي لا ترضي الله جل وعلا.
ولذا رأينا كثيرا من الجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي كانت تسير بخطى وئيدة ولكن سرعان ما رأينا هناك تعجلا من بعض الدعاة أو من بعض الأفراد مما جر على الأمة الكوارث والمصائب بسبب تعجل المتعجلين.
حينما دعا موسى عليه السلام على فرعون وأمن هارون:
(وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
قال الله تعالى بعد هذا الآية مباشرة:
(قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ). قال الإمام الطبري، وابن كثير قال ابن جريج أجيبت الدعوة بعد أربعين سنة، وقيل غير ذلك..
أربعين سنة مع أن الله قال (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا).
إن التعجل أيها الأحبة في هذه القضية جر على الأمة مصائب وويلات، وإن منشئ هذا التعجل أسباب كثيرة من أهمها أن الداعية يتصور أن انتصاره الحقيقي هو تحقق النتائج التي جاء من أجلها.
قد يدرك المتأني بعض حاجته....... وقد يكون مع المستعجل الزلل
اصبر قليلا وكن بالله معتصما........ لا تعجلن فإن العجز بالعجل
الصبر مثل اسمه في كل نائبة ...... لكن عواقبه أحلى من العسل
اصبر قليا فبعد العسر تيسير..... وكل وقت له أمر وتدبير
وللمهيمن في حالاتنا قدر.............. وفوق تدبيرنا لله تدبير
إن التعجل مظهر أو ملحظ نلحظه عند بعض الدعاة وله آثاره السلبية كما بينت.
الأمر الثالث:(1/363)
هو أنه قد يحدث بسبب الخلط في مفهوم حقيقة الانتصار انحراف عن المنهج، فقد يسير بعض الدعاة على منهج سليم، ولكن عندما تتأخر النتائج وعندما يرون أنهم لم يتمكنوا من تحقيق بعض ما جاءوا به من الحق يبدأ الانحراف.
ومن مظاهر الانحراف التنازل وتقديم التنازلات تلو التنازلات وعندما تأتي لهؤلاء يقولون نحن نريد أن تتحقق بعض النتائج لمصلحة الأمة أو لمصلحة الدعوة وهم يرتكبون خللا في هذا الأمر.
نحن نتمنى أن يتحقق أي أمر من أمور الدعوة، بل إن تأخير الفساد بحد ذاته مطلب من المطالب، ولكن إذا كان لا يمكن أن يتم تأخير الفساد أو تحقيق بعض الأهداف إلا بالتنازل الذي هو انحراف عن المنهج فهذا لا يجوز.
ولذلك رأينا مثلا في بعض الدول الإسلامية أن بعض اللذين يدخلون البرلمانات أو لمجلس النواب أو لمجلس الأمة سموه ما سموه أنهم يقدمون تنازلات، أي يعترفوا للباطل بباطله.
فهم يؤدون اليمين والقسم والعهد ولاعتراف بهذا النظام الذي يحكم هذا البلد وتجد نظاما كافرا، فكيف يجوز للمؤمن أن يعترف ويقر مثل هذا النظام.
وتجد المداهنة وتجد أنهم يقبلون أيضا بمبدأ خطير وهو أنهم يوافقون على عرض شريعة الله ودين الله لتصويت البشر.
فيعرض في هذا البرلمان مثلا قضية تطبيق الشريعة، إن مجرد القبول بهذا المبدأ خلل خطير في المنهج، أننتظر من الناس أن يصوتوا هل تطبق شريعة الله أو لا تطبق، مجرد القبول بمبدأ تصويت البشر هل يمنع الخمر أم لا يمنع قضية خطيرة.
أقول لو استطعنا أن نمنع أي منكر من المنكرات في بلد من البلدان فهذا مطلوب، ولكن بدون تنازل.
لو استطعنا أن نمنع الدخان مثلا هذا مكسب كبير، ولكن بدون تنازل.
أما أن نأتي لنطرح هذه القضية لتصويت البشر ليقرروا هل تطبق شريعة الله أو لا تطبق فهذا خلل.
وإن من أسباب القبول بهذا المبدأ هو الربط بين انتصار الداعية وبين تحقق الدين وظهوره.
الأمر الرابع:(1/364)
الذي ينشئ من الخلط في هذا المفهوم هو اليأس والقنوط ثم الاعتزال.
بعض الدعاة يسيرون زمنا في دعوتهم، ثم تفاجأ أن هؤلاء قد اعتزلوا الساحة، وتسأل ما هو السر في ذلك ؟ فتجد أن الإجابة القولية أو الفعلية أنهم يأسوا، فيقولون حاولنا وفعلنا ولكن لم نرى تأثرا، لم نرى تقدما، لم نرى استجابة، فيأسوا ثم اعتزلوا.
وهذا أيضا خلل نشئ من أمور من أبرزها الربط بين انتصار الداعية وبين انتصار الدين وظهوره.
أذكر أن أحد الزملاء بعد تخرجه من الجامعة زار أستاذا له كان قد درسه في المرحلة الثانوية.
وكان هذا الأستاذ حريصا في ما مضى على الدعوة، وممن له تأثير على هذا الزميل في تربيته وتوجيهه إلى الدعوة، وقد ترك هذا الأستاذ التدريس والدعوة وانخرط في وظيفة وانشغل بالدنيا، فذهب هذا الطالب لزيارته وبعد الحديث سأله قائلا:
يا أستاذي لقد كان لك الفضل بعد الله جل وعلا في توجيهنا إلى الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فقال الأستاذ يا أخي لو رأيت سيلا قادما وأنت في واد من الأودية فهل تقف أمامه أم تهرب منه؟
فقال له هذا الأخ يا أستاذي أنا أسألك سؤلا:
لو رأيت سيلا قادما ووجدت أناسا يسكنون الوادي وتستطيع أن تنقذ هؤلاء أتهرب وتتركهم أو تحاول أن تنقذهم قبل أن يغرقوا، فأصبح التلميذ أستاذا.
هذه القضايا الأربع:
أن الناس يحكمون على الداعية من خلال تحقق النتائج.
والاستعجال من بعض الدعاة والجماعات.
والانحراف في المنهج.
واليأس والقنوط ثم الاعتزال.
إن من العوامل المؤثرة في نشأتها هو الخلط بين هذين المفهومين مفهوم انتصار الداعية ومفهوم تحقق وظهور الدين.
لهذا سنقف هذه الليلة مع مفهوم حقيقة انتصار الداعية حتى نكون على بينة من أمرنا، وحتى لا نستعجل ولا ننحرف ولا نيأس، بل نمضي إلى الله بجد وعزيمة وصبر وثبات.
أيها الأحباب ما هو مفهوم النصر وحقيقته ؟
يقول سبحانه وتعالى:
((1/365)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ). هذه الآيات فيها نص على نصر الداعية، وهنا يأتي السؤال الذي أثاره الإمام الطبري، وأثاره عدد من العلماء من بعده، ويرد إلى أذهاننا نحن عندما نقرأ هذه الآيات ونتأمل في الواقع فنجد ما يلي:
وجدنا أن بعض الأنبياء قد قتله قومه كيحيا وزكريا عليهما السلام.
نجد أن بعض الأنبياء قد طرده قومه كإبراهيم عليه السلام عندما خرج من الشام، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) خرج من مكة.
ونجد من الأنبياء من لم يستجب له من قومه إلا قلة كنوح ولوط وشعيب وصالح وهود عليهم السلام.
ونجد من الأنبياء من حاول قومه قتله وإحراقه بل ألقوه في النار كإبراهيم عليه السلام.
ونجد أن عيسى عليه السلام قد أراد قومه قتله ثم صلبه فرفعه الله جل وعلا.
وهنا يأتي السؤال الذي يفرض نفسه، ألم يقل الله تعالى:
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ). ألم يقل سبحانه:
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). فأين النصر الذي وعد الله تعالى به في الحياة الدنيا؟
والجواب أيها الأحباب:
أن منشأ السؤال حدث لأننا نقصر النصر على نوع من أنواع النصر فقط، ففسرنا النصر بجزئية واحدة من جزئياته لا بالمعنى الكلي للانتصار.
لأننا تصورنا أن الانتصار هو ظهور الدين وتمامه وتحقق إيمان القوم لهذا النبي فقلنا أين الانتصار ؟(1/366)
لكن الانتصار أيها الأحبة له صور عدة ولا يقتصر على صورة واحدة، سأذكر لكم في هذه العجالة أهم هذه الصور، حتى نعلم ونوقن إيمانا حقيقيا -ونحن كذلك إن شاء الله- أن وعد الله لا يتخلف أبدا، ونصر الله متحقق للأنبياء ولعباده المؤمنين الصادقين في الحياة الدنيا أيضا.
إذا ما هو النصر الحقيقي ؟
النصر الحقيقي لا نقصره على صورة واحدة، وإنما هو صور متعددة، فقد يتحقق النصر لهذا النبي بصورة، ولذلك النبي بصورة أخرى، وللنبي الأخر بصورة ثالثة وهكذا، وكذلك لعباد الله الصادقين من الدعاة.
الصورة الأولى من صور النصر:
أن النصر قد يكون بالغلبة المباشرة والقهر للأعداء على يد هؤلاء الأنبياء والرسل والدعاة، وهو ظهور الدين وتمام الدين وقيام دولة الإسلام، كما حدث مثلا لداود وسليمان عليهما السلام وآتاه الله الملك،، وكما حدث لموسى عليه السلام بعد إغراق فرعون وقومه، وكما حدث بصورة ظاهرة بينة متكاملة لنبينا (صلى الله عليه وسلم) وبخاصة بعد فتح مكة: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً). هذه الصورة التي تتبادر إلى أذهاننا ولكنها صورة واحدة من صور النصر، وليست هي على سبيل الحصر.
الصورة الثانية من صور النصر:
وهي التي وعد الله بها وتتحقق أن النصر قد يكون بإهلاك هؤلاء المكذبين، ونجاة الأنبياء والمرسلين ومن آمن معهم، كما حدث لنوح عليه السلام، ولموسى وقومه، وكما حدث لصالح وهود ولوط مع أقوامهم.
والدليل على أن هذا نوع من أنواع النصر أن نوح عندما يأس من قومه ماذا قال ؟ قال:
(فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)، ثم ماذا ؟
((1/367)
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) إذا فإهلاك الأمم المكذبة هو نوع من أنواع النصر، مع أن الله لم يذكر لنا، ولم نجد في القرآن ماذا حدث لأولئك الأنبياء عليهم السلام بعد ذلك.، إذا هذا نوع من أنواع الانتصار.
النوع الثالث من أنواع النصر:
أن النصر قد يكون بانتقام الله من أعدائهم ومكذبيهم بعد وفات هؤلاء الأنبياء والرسل، كما حدث مع من قتل يحيا عليه السلام، فقد انتصر الله له بعد حين بتسليط بختنصر على قومه فسامهم سوء العذاب، وهذا انتصار من الله جل وعلا ليحي عليه السلام في الحياة الدنيا.
وكما حدث للذين حاولوا قتل وصلب عيسى عليه السلام، فبعد أن رفعه الله انتقم من أعدائه بتسليط الروم عليهم فساموهم سوء العذاب. هذا نوع من أنواع النصر، ووعد الله لا يتخلف.
النوع الرابع من أنواع النصر:
وآمل أن تقفوا معي وقفة مهمة في هذا النوع لأننا بأمس الحاجة في هذا العصر إلى الفقه فيه، وإلى الوقوف عنده وهو أن ما قد يتصوره الناس هزيمة قد يكون هو النصر الحقيقي.
فكم من شهيد كانت الشهادة هي الانتصار له ولدعوته، ومثل ذلك الإيقاف والسجن والطرد والأذى، فقد يتصور الناس أن الداعية قد انتهى بقتله، أو انتهى بإيقافه أو انتهى بسجنه، أو انتهى بالنيل من عرضه، وتكون هذه هي نقطة الانطلاق والانتصار لهذا الداعية، وهذا أمر يدل عليه الكتاب والسنة والواقع المشاهد، ماذا قال الله عز وجل عن نبينا (صلى الله عليه وسلم):
)إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)، متى ؟ في فتح مكة! في بدر! أبداً
( إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ)، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخرج من مكة يخرج منتصرا (صلى الله عليه وسلم).(1/368)
شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أوقف وسجن ومات في سجنه، هل نقول انه انتصر؟ نعم إنه انتصر كما سأقف مع السبب الذي بعده.
كذلك إيقاف كثير من الدعاة، وقد رأينا أنه قد زاد انتصارهم واستجاب الناس لهم بعد ما تم إيقافهم، وقد رأينا أن من الدعاة من أوذي في عرضه، وتصور كثير من الناس أن هذا الداعية قد انتهى وهو حقيقة قد انطلق بعد هذه الوقفة، وهنا تحقق انتصاره:
(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ). هذه حقيقة نشاهدها ونراها، وهنا يأتي واجب الدعاة، وواجب طلاب العلم، وواجب الأتباع الذين يتبعون الحق أنه في مثل هذه المواقف فالنصر للداعية ولمنهجه.
هذه حقيقة يجب أن تكون بين أعيننا جلية واضحة.
وأذكر لكم هنا قصة وإن كانت لا ترتبط بموضوعنا ارتباطا مباشرا، ولكن لعله يتبين من خلاله أن تصور الناس أحيانا يكون في غير محله.
أثناء دويلات الطوائف قتل أحد الأمراء وهو عضد الدولة خصما له من الوزراء، ثم صلبه، وبعد أن قتله وصلبه ترسخ في أذهان الناس أن هذا المقتول قد انتهى وأن هذه هزيمة نكراء له.
جاء شاعر من الشعراء، كان يحب هذا المقتول، ويعرف عنه أنه كان كريما ومعطاء فماذا حدث ؟
قال قصيدة تمنى القاتل حين سمعها أنه المقتول وأن القصيدة قيلت فيه.
واستمعوا إلى بعض أبياتها وهي تصور هذا المقتول وهو مصلوبا والناس حوله يحيطون به، والنار توقد حوله في الليل، والحرس يحيط به خوفا من أن يأخذه أتباعه، فماذا قال الشاعر:
علو في الحياة وفي الممات................. لحق تلك إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا..............وفود نداك أيام الصلات
كأنك قائم فيهم خطيبا..................وكلهمُ قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء................ كمدهما إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ............... يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا......... عن الأكفان ثوب السافيات(1/369)
لقدرك في النفوس تبيت تُرعى....... بحراس وحفاظ ثقاة
وتوقد حولك النيران ليلا................. كذلك كنت أيام الحياة
ولم أرى قبل جذعك قط جذعا............ تمكن من عناق المكرمات
عليك تحية الرحمان تترى............... برحمات غواد رائحات
طبعا نحن لا نوافق على كل ما ورد في هذه الأبيات، ولكن أريد أن أبين لكم أن التصور قد لا يكون في محله أحيانا، المهم أن الذي قتله قال، كنت أتمنى لو كنت المصلوب وأن هذه القصيدة قيلت في.
نعم هذا الأمر قد لا يرتبط مباشرة بشخص المقتول، ولكن عندما يسجن أو يوقف الداعية فهذا انتصار له وليس هزيمة.
ثقوا أن اللحظة التي يقتل أو يوقف أو يسجن أو يطرد فيها الداعية، لا يتم هذا الأمر إلا أن يكون عدوه قد ذاق المر من الغيظ والحنق والألم، وهذا هو أشد أنواع العذاب، يتقلب على جمر الغظى ألما حتى وصل إلى ما وصل إليه، ولذلك يقول الله جل وعلا:
(وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً). وهذا واقع محسوس ومشاهد، والحجاج عندما قتل سعيد أبن جبير رحمه الله، هل حصلت السعادة للحجاج؟
أبدا، كان يقول: مالي ولسعيد، وكان يقوم من الليل فزعا حتى مات.
إذا من هو المعذب ؟ ومن هو المنهزم ؟
ولذلك قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) أي بالسعادة.
نعم الداعية وهو يقتل أين ذاهب؟ إلى الله، بخ بخٍ ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني أحد هؤلاء.
وهو يسجن وهو يطرد وهو يوقف يعبر عن ذلك شيخ الإسلام أبن تيمية:
(ماذا ينقم من أعدائي، أنا جنتي في صدري، سجني خلوة، وتسفيري سياحة، وقتلي شهادة).
ولهذا يقول أحد السلف:
((1/370)
والله أننا لنعيش لذة ونعيما لو يعلمه الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف).
هذه حقيقة يجب أن نفهمها ونحن نناقش هذا الموضوع، ونعيش معه.
النوع الخامس من أنواع الانتصار:
أن ثبات الداعية على مبدئه هو انتصار باهر، ثبوته رغم الشهوات والشبهات والعقبات، ولا يتحقق الانتصار الظاهر إلا بعد تحقق هذا الانتصار:
فإبراهيم عليه السلام وهو يقذف في النار في قمة انتصاره.
والإمام أحمد وهو توضع رجلاه في الحديد في قمة انتصاره، في محنة الدنيا والدين كان في قمة انتصاره.
بلال رضي الله عنه وهو يعذب ويردد أحدُ أحد كان والله في قمة انتصاره.
آل ياسر وهم يعذبون كانوا في قمة انتصارهم.
وهذا نلمسه من حديث خباب وسنذكره بعد قليل.
النوع السادس من أنواع الانتصار:
أن النصر قد يكون بقوة الحجة كما قال الطبري والسدي في قوله تعالى:
(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
فقوة الحجة رفع للدرجة وهو انتصار، وفي سورة البقرة في قصة الذي كفر لما حاج إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى في آخر الآيات:
( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
من الذي انتصر ؟ هو إبراهيم عليه السلام.
النوع السابع من أنواع الانتصار:
أن الداعية قد لا ينتصر الانتصار الظاهر في زمن، ثم ينتصر بعد ذلك انتصارا عظيما بعد سنوات، فشيخ الإسلام ابن تيمية مات وهو في السجن، وأتباعه أقل من معارضيه، أما الآن وبعد مئات السنين فانظروا كم الذين أخذوا ونهلوا واستفادوا من المنهج الذي رسمه وبينه شيخ الإسلام أبن تيمية وفق كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ؟
نقول ذلك لأننا أحيانا قد نقصر الانتصار على فترة محددة في الزمان والمكان وهذا خطأ.(1/371)
أيضا قد لا يستجيب الناس لداعية في بلد، ويستجاب له في بلد آخر، وهذا كثير جدا، فيجب أن لا نقصر الانتصار على زمن محدد أو بلد محدد.
النوع الأخير من أنواع الانتصار:
أن الانتصار قد يكون أحيانا بمعنى المنع، يقول تعالى:
( وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).
أي يمنعون، فالنصر قد يكون بمعنى المنع من الأعداء وهذا انتصار للداعية في الحياة الدنيا.
هذه بعض صور الانتصار.
ولهذا إذا رأينا أي داعية لم يتحقق له النصر الظاهر فلا يعني هذا أنه لم ينتصر.
الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، لو وقفنا مع حياة أي واحد منهم لوجدنا أنه قد تحقق له نوع من النصر، بل أحيانا أكثر من نوع من أنواع النصر في الحياة الدنيا.
فلا نقصر النصر على نوع واحد ولا على مفهوم واحد، فمفهوم النصر أوسع وأشمل وأعمق.
بعد هذا البيان أنتقل إلى نقطة أخرى وهي ما هي مهمتنا ؟
ما هي المهمة التي كلفنا فيها والتي أمرنا بها شرعا؟
هل نحن مكلفون أنه لابد أن يتحقق ويظهر الدين في حياتنا ؟
إذا قام أحد منا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هل نحكم على هذا الداعية بالفشل لأن المنكرات تزداد ، أو لأن الناس لم يستجيبوا له؟
لو قام الداعية بالنصح للمسئولين ولولاة أمور المسلمين ولم يجد جوابا، هل نقول أنه فشل؟
إذا ما هي مهمتنا؟
مهمتنا – أيها الأحباب – هي مهمة الأنبياء والرسل، استمعوا إلى قول الله تعالى :
(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).
والآيات كثير في هذا الباب فارجعوا إليها في كتاب الله.
مهمتنا هي البلاغ، أم الانتصار فهو أثر قد يتحقق في حياتنا، وقد يتحقق بعد وفاتنا، وقد يتحقق على أيدي غيرنا، أما مهمتنا ومهمة كل داعية فهي البلاغ كونها مهمة الرسل، ولذل جاءت آيات أخرى كثيرة توضح هذا المفهوم أقف مع بعضها:
يقول الله جل وعلا:
((1/372)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).
( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً). (فلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).
ثم استمعوا إلى هذه الآية في سورة الأنعام تبين أن الحرص على هداية الناس مطلوب، والسعي إلى هداية الناس مطلوب، ولكن على أن لا يخرجنا عن المنهج، لا بتعجل ولا بتنازل ولا بيأس أو قنوط.
استمعوا إلى هذه الآية والمخاطب فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما لم تؤمن قريش بدعوة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتأثر عليه الصلاة والسلام بذلك قال الله جل وعلا قال له الله تعالى:
)وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ). بماذا ختم الله هذه الآية؟
(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، الله أكبر، لا تربط دعوتك باستجابتهم، لا أنت عليك البلاغ:
(مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ)، أما هدايتهم فلو شاء الله جل وعلا لهداهم، ولكن هذا ليس لنا.
إذا هذه مهمتنا وهذه حقيقتنا:
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ* وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
ونقف الآن مع هذه الأمثلة من كتاب الله جل وعلا تبين لنا هذه الحقيقة:(1/373)
المثل الأول نوح عليه السلام:
كم لبث في قومه ؟ تسعمائة وخمسين سنة.
وماذا كانت النتيجة، كم آمن مع نوح ؟ الآلاف، مئات الآلاف!
( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ).
وعند قوله تعالى (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن ْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ)، أقرب الناس للإنسان بالسبب هي الزوجة، وأقرب الناس للإنسان بالنسب هو الولد، ونوح عليه السلام لم يؤمن أبنه ولم تؤمن زوجته.
هل نقول أن نوح عليه السلام بعد دعوة تسعمائة وخمسين سنة لم ينتصر لأن ابنه لم يؤمن ولأن زوجته لم تؤمن ولأن قومه لم يؤمن منهم إلا قليل.
(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
سفينة، ولنفترض أنها عابرة للقارات، وليت كل الذين فيها بشر:
(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)، فيها الدواب والحيوانات، فكم يبقى فيها مكان للإنسان؟
ومع ذلك فنوح عليه السلام من أولي العزم من الرسل، وقد انتصر انتصارا عظيما باهرا عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
المثل الثاني أنبياء الله هود ولوط وصالح وشعيب عليهم الصلاة والسلام .
فقد انتصروا مع أن قومهم إهلكوا.
عندما أضرب لكم هذه الأمثلة لأن الواحد منا أحيانا وبسبب تحسره على عدم استجابة الناس وتأخر النصر قد يستعجل أو ييأس.
وفي قصة عبد الله الغلام ومن آمن معه، هو قتل والذين أمنوا معه قتلوا بل حرقوا بالنار، هل نقول أنهم لم ينتصروا! بل إنهم انتصروا أعظم الانتصار.
أيضا أصحاب القرية، تصوروا قرية صغيرة، كم يرسل الله جل وعلا لها من الرسل؟
داعية! لا، بل ثلاثة من الرسل:
(إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ).(1/374)
ومع ذلك قرية واحدة كذبت الرسل الثلاثة فجاءهم رجل:
(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).
فماذا فعلوا به؟ قتلوه أيضا، فماذا كانت النتيجة؟
(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)..
قرية واحدة يرسل لها ثلاثة من الرسل وداعية رابع ولم يستجيبوا، فهل نقول أنهم لم ينتصروا! كلا وحاشا.
إذا هذه بعض الأمثلة من كتاب الله، أما الأحاديث فأقف معكم مع بعض هذه الأحاديث.
الحديث الذي كلنا يحفظه وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عرضت علي الأمم فأخذ النبي يمر معه الأمة والنبي يمر ومعه العشرة، والنبي يمر ومعه الخمسة والنبي يمر وحده.
وفي رواية: قال عرضت علي الأمم فجعل النبي يمر ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والنبي ومعه الرهط والنبي وليس معه أحد.
وفي رواية: عرضت علي الأمم فجعل النبي يمر ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجلان والنبي وليس معه أحد.
أرأيتم هذا النبي الذي معه رجل والنبي الذي معه عشرة والنبي الذي معه خمسة والنبي الذي ليس معه أحد، فهل نقول أنه لم ينتصر! كلا وحاشا.
إذا نحتاج إلى وقفة مع هذا الحديث، أذكر أن أحد طلاب العلم هداه الله أقنعه عدد من زملائه وإخوانه ببدء درس في مسجد من المساجد، وبدأ الدرس وبعد عدة أشهر فوجئنا أن الدرس قد توقف.
فذهبت لزيارته وقلت له: يا شيخ يا أخي الكريم لماذا أوقفت الدرس؟
قال: ما يأتي أحد، قلت: ما يأتي حد؟ قال: ما يأتي إلا عشرة.
قلت: يا أخي الكريم النبي يأتي يوم القيامة وما معه إلا واحد بل والنبي وما معه أحد.
إن عددا من علمائنا ظلوا سنوات ليس عندهم إلا طالب واحد أو طالبين أو ثلاثة، سنوات طويلة.(1/375)
بل ذكر لي أحد الأخوة أنه يجلس أحيانا ولا يأتي أحد إلى الدرس، وأستمر في درسه، ويحضر الآن درسه بضعة آلاف، نعم والقضية ليست بالعدد، النبي ليس معه إلا واحد أو اثنين أو ثلاثة أو ليس معه أحد ونحن نريد أن يكون معنا الآلاف وإلا نعتبر أننا قد فشلنا ولم ننتصر.
والحديث الآخر الذي وعدتكم قبل قليل وهو حديث خباب، قال:
شكونا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا أو تدعو لنا. فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يرده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الذئب والله على غنمه ولكنكم تستعجلون.
هذا الحديث حديث عظيم، الرسول (صلى الله عليه وسلم) نقال خباب حين قال ألا تستنصر لنا، نقله من نوع من أنواع النصر إلى نوع آخر حتى لا يبقى خباب رضي الله عنه أو غيره يتصورون أن النصر هو ظهور الدين وارتفاع العذاب عنهم، نقلهم إلى أن النصر الحقيقي هو ثبات الداعية، نعم كما أن النصر هو ظهور الدين فكذلك من أعظم أنواع النصر ثبات الداعية. هذه مسألة.
ومسألة أخرى، نقل الرسول (صلى الله عليه وسلم) خباب إلى أن النصر قد لا يتحقق في حياة الداعية، قد يتحقق بعد سنوات، فعندما سار الراكب من صنعاء إلى حضرموت هل حدث هذا في حيلة خباب؟
لا حضر هذا بعد سنوات، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) ولكنكم قوم تستعجلون.
نعم نحن نستعجل.
حديث آخر وهو الحديث القدسي الذي كلنا يحفظه:
(من عادا لي وليا فقد آذنته بالحرب).
هل يجوز لمؤمن يؤمن بالله ورسوله، يعلم أن الله معه إذا عاداه الأعداء ويتصور أنه قد ينهزم.
هذا خلل في الإيمان، والذي يتصور هذا التصور لا يستحق النصر.(1/376)
المؤمن الصادق يعلم أن الله معه، فإذا كان الله معنا فهل يمكن أن يغلبنا أحد، ولكن قد لا يتحقق النصر الذي نتصور نحن، قد يتحقق نوع آخر من أنواع الانتصار نغفل عنه أحيانا، وإلا فوعد الله جل وعلا لا يتخلف أبدا.
ونجد أن من الأدلة على مفهوم النصر أيها الأحباب سورة كلنا يحفظها، بل الأطفال في الأولى الابتدائي يحفظونها وهي سورة العصر، وهي سورة كما قال الإمام الشافعي:
لو ما أنزل الله على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم.
ما علاقة هذه السورة بموضوعنا ؟
الله جل وعلا قال:
(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
إذا كل إنسان في خسر إلا المستثنون هنا فهم فائزون ورابحون ومنتصرون، كل إنسان خاسر، والذي لم يخسر فهو منتصر أو رابح، ولو قلنا خسر هؤلاء القوم إلا فلان، فمعناه أنه ربح، لو قلنا انهزم الناس إلا فلان فمعناه أنه انتصر.
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
هل من هذه الشروط الأربعة أنه لابد أن يتحقق النصر الظاهر للداعية وإلا فلا ينتصر ويصبح من الخاسرين؟ أبدا.
ليس من هذه الشروط الأربعة، فالمطلوب منا هو الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
ووقفت مع الشرطين الأخيرين وهو:
أن التواصي بالحق يقتضي الالتزام بالمنهج، أو منهج أهل السنة والجماعة.
والتواصي بالصبر عاصم بأذن الله عن شيئين، عاصم ومانع من الاستعجال، ومانع من اليأس أيضا.
فإذا هذا هو النصر الحقيقي أو نصر حقيقي للداعية إلى الله.
أيها الأحباب، كلنا يتمنى وكلنا يجب أن يسعى لانتصار هذا الدين وظهوره، لا شك في ذلك،، والذي لا يسعى لذلك ولا يفرح لانتصار الدين فقد تخلف منه وعنه مقوم من مقومات النصر وسبب من أسباب النصر.
((1/377)
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
إي والله نحب النصر، ونتمنى أن لا نخرج من هذا المسجد إلا ونرى جميع المنكرات قد زالت من بلادنا.
وقد سادت شريعة الله في أرضه، نفرح فرحا عظيما لو تحقق أمر واحد مما يرضي الله جل وعلا.
قرأت منذ أيام إحصائية في مجلة اليمامة صدمت والله وذهلت منها تقول:
أن قيمة ما تستورده المملكة من الدخان أكثر من قيمة ما تستورده من السيارات، مع أننا مترفون في استيراد السيارات، وذكرتها المجلة بالأرقام بل زادت قيمة الدخان المستورد عن قيمة الدخان بقرابة أربعين مليون ريال.
تأملت و تألمت فقط لزيادته فكيف لا نفرح بزو اله.
كيف لا نفرح لو زالت المنكرات العظيمة، لو زال الربا.
لو وجدنا المستشفيات الخاصة بالنساء.
لو استقام الإعلام.
لو زالت المنكرات الظاهرة والباطنة، والله نفرح.
ولكن نتسأل دائما لماذا يتأخر النصر الظاهر؟
له أسباب عدة أذكر بعضها أو أهمها محافظة على الوقت، من أسباب تخلف النصر الظاهر وهو الظفر والغلبة وتحقق الأهداف ما يلي:
1- تخلف بعض أسباب النصر المشروعة.
فقد تتخلف بعض أسباب النصر المشروع وهي كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.
2- حدوث ما يمنع النصر من مخالفة ونحوها.
وتخلف الأسباب غير حدوث الموانع، ففي أحد والرسول (صلى الله عليه وسلم) بين أظهرهم انهزموا لماذا ؟ حل الهزيمة لمخالفة أمر من أوامر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومن فئة قليلة من المسلمين:
( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ).
لماذا حلت الهزيمة؟ لأن البعض قال لن نغلب اليوم من قلة، بسبب هذا الشعور وأن الكثرة هي التي ستنصرهم انهزموا، فهذه من موانع النصر.
3- الانحراف عن المنهج والخلل فيه.(1/378)
هذا من السباب كما ذكرت قبل قليل ولي معه وقفة أخرى إن شاء الله.
4- عدم التجرد لله.
فقد يشوب الدعوة حمية أو طلب مغنم أو جاه.
5- عدم نضوج الأمة وضعف استعدادها.
وهذا من أسباب عدم النصر الظاهر، ولو جاء النصر لما وجدت الأمة قادرة على المحافظة عليه لعدم اكتمال بنيتها وربما فرطت فيه بسهولة.
6- أن الباطل الذي تحاربه الأمة ويحاربه الدعاة لم ينكشف زيفه للناس تماما.
وهذا سبب مهم جدا، فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه ممن هم ليسوا على هذا الباطل ولا يقرونه، ولكنهم لم ينكشف لهم زيف هذا الباطل ولله في ذلك حكمة، وقد حدث مثل ذلك مع المنافقين.
7- عجز الأمة عن القيام بتكاليف النصر إن تحقق.
فقد يكون في علم الله جل وعلا أن هؤلاء لو انتصروا فلن يقوموا بتكاليف الانتصار، من إقامة حكم الله والأمر المعروف والنهي عن المنكر، وهذا يفهم من قول الله تعالى:
( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
8- توافر أسباب النصر للداعية وليس للمدعوين.
فقد تتوافر أسباب النصر للداعية، ولكن هناك موانع يعلمها الله تتعلق بالمدعوين كعدم تقدير الله هدايتهم وهذا يفهم من قوله سبحانه:
(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً).
والسبب هنا ليس تقصير الداعية، ولكن لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى.
وأيضا قد يكون انتصار الداعية بعد وفاته أعظم من انتصاره في حياته، لأن المراد انتصار الدعوة وانتصار المنهج، أما الأشخاص فكما قال صاحب القرية : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ).
9- من الأسباب أن تأخر النصر فيه ابتلاء وتمحيص وامتحان للدعاة.
((1/379)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ). نعم الابتلاء والامتحان: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).
إذا هذه بعض الأسباب التي قد تمنع أو تأخر النصر الظاهر، فلا نيأس ولا نقنط...
إذا ونحن نتحدث عن مفهوم الانتصار، ذكرت لكم أن من الآثار التي تحدث عند الخلط في مفهوم حقيقة الانتصار هو الانحراف عن المنهج ومن ذلك التنازل.
ولأهمية هذه القضية سأقف معها بضع دقائق، رأينا عددا من الدعاة لا نشك في إخلاصهم ولا في صدقهم ولا في حماسهم ولا في غيرتهم في أنحاء العالم الإسلامي، وحرصا منهم على تحقق النتائج وعلى ظهور دين الله، وعندما استبطئوا النصر، وعندما استبطئوا تحقق هذه النتائج بدئوا يقدمون التنازلات تلو التنازلات ويتصورن أن هذا من المنهج الذي قد طولبوا به.
فرأينا مثلا من يميع قضية العقيدة، ويقول: لو أنني طرحت عقيدة أهل السنة والجماعة فقد يتفرق الأتباع، فحرصا على وحدة الأتباع تميع قضية العقيدة.
نعم والواحدة مطلوب شرعي ولكن على أسس شرعية.
فتجد أن لديهم حساسية مفرطة أو موانع من طرح قضية عقيدة أهل السنة والجماعة، وأذكر لكم مثالين:
المثل الأول أو القصة الأولى:
يحدثنا بها منذ أيام أحد الأخوة ممن نحسبه والله حسيبه حريصا بل ومتخصصا في العقيدة، يقول أنه جاءه شاب من الشباب يسأله: قال يا شيخ هل العقيدة مهمة؟
فيقول ذهلت من السؤال، هل العقيدة مهمة، ماذا يبقى إذا لم تكن العقيدة مهمة.(1/380)
فيقول الشاب أنه يرى من لا يهتم بالعقيدة ممن يوجهنا ويدعونا، وآخر ما يفكرون فيه هو موضوع العقيدة، ومنهج أهل السنة والجماعة، وأراكم أنتم تركزون على العقيدة وعلى منهج أهل السنة والجماعة.
المثل الثاني:
وهو عندما قامت دولة الرافضة، سارع كثير من الدعاة -هداهم الله- في أنحاء العالم الإسلامي إلى تأييدها وأنها دولة إسلامية، فجاء بعض المخلصين الصادقين من الدعاة وقالوا لهم اتقوا الله.
وأذكر ن أحد الأحباب ناقش رجلا من هؤلاء وقال له:
يا أخي كيف تؤيدون هذه الدولة الرافضية ؟
قال: دولة رفعت الإسلام علينا أن نؤيدها وهذه أسقطت الشاه، وبدا يعدد مزاياها.
فقال له الأخ: هذه دولة رافضية وتعرف منهج الرافضة وأصول الرافضة.
قال: يا أخي اتركنا من العقيدة الآن.
إذا إذ تركنا العقيدة الآن فمتى تكون؟
الدخول في البرلمانات، ولا أريد التفصيل فيها ولكن أقول إذا كان الدخول في البرلمان يقتضي التنازل عن المنهج، يقتضي إقرار الظالمين على ظلمهم والاعتراف بحكم الجاهلية فلا يجوز أبدا.
إذا كانت المسألة تقبل المسومة في دين الله فهذا لا يجوز أبدا.
أحبتي في الله، مصلحة الدعوة حمّلت أكثر مما تحتمل.
سورة الكهف أرجعوا إلى تفسيرها، وكما ذكر العلماء في سبب النزول أن كبار المشركين جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقالوا نحن نريد أن نستمع منك ونجلس معك، لكن لنا شرط واحد، ما هو شرطكم؟ قالوا: شرطنا أن إذا جئنا إليك وجلسنا معك أن لا يجلس معنا هؤلاء الضعفاء أمثال صهيب وبلال وأمثالهم.
إذا مادام أن مصلحة الدعوة تقتضي ذلك، فيا صهيب ويا بلال حرصا على الإسلام ودعوة هؤلاء إذا جاءوا قوموا. هذا في نظرة الذين يحمّلون مصلحة الدعوة أكثر مما تحتمل.
فبماذا تتنزل الآيات:
((1/381)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً).
(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ).
إذا القضية ليست قضية تنازلات، والذين يحتجون بصلح الحديبة يستدلون به في غير موضعه، وهذا يحتاج إلى تفصيل وبيان.
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ). فأوجه نصيحتي إلى هؤلاء الدعاة الذين يتصورون أن المطلوب منهم أن يحققوا بعض النصر ولو حساب دين الله وعقيدة المسلمين، ولو على حساب المنهج، أقول هذا خلل.
إذا نصل إلى أن حقيقة انتصار الداعية تتمثل في ما يلي:
1- سلامة المنهج، وهو المنهج الذي عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
يقول تعالى: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، فسلامة المنهج أو مقوم من مقومات انتصار الداعية.
2- التجرد لله جل وعلا والإخلاص.
(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). 3- الالتزام التام بالمنهج، وعدم الحيدة عنه.
((1/382)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). ويقول (صلى الله عليه وسلم):
(تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتب الله وسنتي).
4- الصدع بالحق.
وقفوا مع هذه المسألة، فمن علامات انتصار الداعية الصدع بالحق:
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ). (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً). (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
ولهذا أقول للأخوة كلمة احفظوها وهي:
إن الأصل في الدعوة العلنية، والسرية تؤخذ بقدرها زمانا ومكانا وموضعا، والذين يتصورون أن الأصل في الإسلام هو السرية، وأن الجهر وإعلان الدعوة مرحلة طارئة هم مخطئون وواهمون، فالصدع بالحق من علامات انتصار الداعية، بل ومن مقومات انتصار الداعية.
5- الثبات على الطريق والصبر علية وعدم اليأس.
(قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
(وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
أخيرا وقفات مهمة قبل أن أودعكم:
الوقفة الأولى:(1/383)
أنه لا يعني ما ذكرته عن مفهوم انتصار الداعية وحقيقة انتصار الداعية أن يتساهل الداعية في السعي لهداية الناس، ويقول مادمت ليس مطلوب مني ن يهتدي الناس أو أن تزول هذه المنكرات فيخمل ويكسل.
لا، فأنت مطالب أن تسعى إلى تغيير المنكرات، وأن تسعى إلى هداية الناس، وأن تبلغ رسالة الله بجد واجتهاد وحرص ودأب وعدم يأس.
ولكن النتيجة - وذلك ومن رحمة الله بنا وفضله علينا- أنه لم يربطها بالنتائج التي تتحقق، وإلا كم خسر من الدعاة.
من فضل الله علينا أنه يثيبنا على قدر عملنا لا على قدر عمل الناس، فلهذا إياكم أن يفهم أحد هذا المفهوم فيخمل ويتكاسل، بل ما ذكرت هذا الدرس وهذا المفهوم إلا من أجل أن نثبت على دين الله وأن نستمر في دعوة الناس استجابوا أم لم يستجيبوا، أقبلوا أو أدبروا رضوا أو غضبوا، هذا هو المطلوب منا:
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ).
الوقفة الثانية:
أن بعض الدعاة قد يحدد لنفسه منهجا جيدا ويرسم أهدافا يسعى لتحقيقها وفق المنهج الشرعي، ولكن إذا لم تتحقق هذه الأهداف يميل إلى اليأس والسأم والتعب، ثم يترك الدعوة، وهذا خلل كما قلت فيجب أن ننتبه لذلك، وكم رأينا من الذين تركوا الدعوة بعد أن ساروا فيها زمنا طويلا لأنهم يأسوا.
يونس عليه السلام وهو نبي ورسول:
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
نعم، (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي مذنب، وبعد ذلك بعد أن نجاه الله ورجع إلى قومه:
(وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ).(1/384)
فعاقب الله جل وعلا يونس عليه السلام وهو نبي رسول لأنه يأس من قومه ولم ينتظر إذن الله جل وعلا له فترك قومه بع أن حذرهم وأنذرهم فعاقبه الله جل وعلا بالإغراق وابتلاع الحوت له. ولولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه عقابا له إلى يوم يبعثون.
هذا وهو نبي رسول، فكيف بنا أيها الأحباب، الواحد منا يدعو سنتين أو أقل أو أكثر ثم يحيل نفسه على التقاعد، ويقول عجزت وتعبت.
كم أتمنى وأقولها بحسرة أن أجد عند بعض الدعاة صبر النملة ومحاولات النملة.
تيمورلنك عندما هُزم في معركة من المعارك وتفرق جيشه ذهب إلى أحد المغارات، وهو جالس بعد هزيمة نكراء وجد نملة تحاول الصعود ثم تسقط، وتحاول ثم تسقط حتى عادت الكرة عشرات المرات ثم نجحت، فقام وخرج وجمع جيشه وحرب حتى انتصر، فالحذر من اليأس والقنوط..
الوقفة الثالثة:
الداعية الصادق ماذا يريد؟ يريد النصر لدينه والنجاة لنفسه.
أما النجاة لنفسه فقد تضمن الله بها إن كان صادقا مخلصا في دعوته.
وأما النصر للدين فليس لك بل هو لله جل وعلا، ليس لنا:
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
ولله في ذلك حكمة كما بينت قبل قليل، قد يكون في حكمة الله أن لا ينتصر هذا الداعية في حياته، وأن يكون انتصار منهجه بعد وفاته أعظم وأكبر.
الوقفة الرابعة والأخيرة:
أن من أعظم أنواع الانتصار هو الانتصار على النفس، الانتصار على شهوات النفس وعلى رغباتها، وعلى تخاذلها، بل إنه شرط ولازم من لوازم الانتصار الحقيقي، والذي لا ينتصر على نفسه لا يمكن أن ينتصر على غيره.
فإذا انتصرنا على شهواتنا وعلى رغباتنا وعلى وساوس الشيطان في صدورنا وانتصرنا على العقبات التي تقف أمامنا فثقوا بنصر الله:
(وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
((1/385)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).
أيها الأحباب:
هذا هو مفهوم انتصار الداعية، وهذه هي الحقيقة، فلذلك علينا أن نجد ونجتهد مهما حاول الظالمون ومهما حاول عداء الله لكبت هذا الدين:
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ). محاولات الأعداء مستمرة، وهم مجتهدون ولا ييأسون ويحاولون ويكررون المحاولات وهم على باطل، ونحن على الحق ومع ذلك فمنا اليأس ومنا المستعجل، ومنا من قد يتنازل عن منهجه – وإن شاء الله لا يكون منا، ولكن أتكلم بالجملة-، والقليل القليل من يثبت على منهج الله، وعلى ما كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام، وهذا هو طريق النصر بل هذا هو النصر الحقيقي.
فيا أحبابنا ويا إخواننا تفاءلوا، الأعمى يقول لأبنه: يا بني كيف نحن من الليل؟
فإذا قال له: قد اسود الليل، قال: قد قرب الفجر:
اشتدي أزمة تنفرجي.............. قد آذن ليلك بالبلج
فصبرا أيها الأحباب، وثبات على المنهج وتواصيا بالحق وتواصيا بالصبر، وثقوا أن وعد الله لا يتخلف أبدا.
هذا ما أوجه به نفسي أولا، وأوجه به إخوتي الكرام ثانيا، وأسأل الله جل وعلا أن يثبتني وإياكم على الحق، وأن يجعلنا من المنتصرين في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
? لا بد من العودة الصادقة الكاملة إلى دين الله دون ترقيع أو تمييع أو كذب أو تجزيء:(1/386)
وذلك لأن الله تعالى قد أكمله وأتمه قال تعالى :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (3) سورة المائدة
إله واحد . وخالق واحد . ومالك واحد . .
وإذن فحاكم واحد . ومشرع واحد . ومتصرف واحد . .
وإذن فشريعة واحدة , ومنهج واحد , وقانون واحد . . وإذن فطاعة واتباع وحكم بما أنزل الله , فهو إيمان وإسلام . أو معصية وخروج وحكم بغير ما أنزل الله , فهو كفر وظلم وفسوق . .
وهذا هو الدين كما أخذ الله ميثاق العباد جميعا عليه , وكما جاء به كل الرسل من عنده . .
أمة محمد والأمم قبلها على السواء . .
ولم يكن بد أن يكون "دين الله" هو الحكم بما أنزل الله دون سواه . فهذا هو مظهر سلطان الله . مظهر حاكمية الله . مظهر أن لا إله إلا الله .(1/387)
وهذه الحتمية: حتمية هذا التلازم بين "دين الله" و"الحكم بما أنزل الله" لا تنشأ فحسب من أن ما أنزل الله خير مما يصنع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع . فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية . وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي . إنما السبب الأول والرئيسي , والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله , ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه . وهذا هو "الإسلام" بمعناه اللغوي:"الاستسلام" وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان . .
الإسلام لله . .
والتجرد عن ادعاء الألوهية معه ; وادعاء أخص خصائص الألوهية , وهي السلطان والحاكمية , وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون .
ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر لأنفسهم شرائع تشابه شريعة الله . أو حتى شريعة الله نفسها بنصها , إذا هم نسبوها إلى أنفسهم , ووضعوا عليها شاراتهم ; ولم يردوها لله ; ولم يطبقوها باسم الله , إذعانا لسلطانه , واعترافا بألوهيته ; وبتفرده بهذه الألوهية . التفرد الذي يجرد العباد من حق السلطان والحاكمية , إلا تطبيقالشريعة الله , وتقريرا لسلطانه في الأرض .
ومن هذه الحتمية ينشأ الحكم الذي تقرره الآيات في سياق السورة: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) . . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) . . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) . .(1/388)
ذلك أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله يعلنون رفضهم لألوهية الله - سبحانه - ورفضهم لإفراد الله - سبحانه - بهذه الألوهية . يعلنون هذا الرفض بعملهم وواقعهم ; ولو لم يعلنوه بأفواههم وألسنتهم . ولغة العمل والواقع أقوى وأكبر من لغة الفم واللسان . ومن ثم يصمهم القرآن بالكفر والظلم والفسق , أخذا من رفضهم لألوهية الله - حين يرفضون حاكميته المطلقة ; وحين يجعلون لأنفسهم خاصة الألوهية الأولى فيشرعون للناس من عند أنفسهم ما لم يأذن به الله .
فإن قول الله سبحانه لهذه الأمة:
(اليوم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) . .
يتضمن توحيد المصدر الذي تتلقى منه هذه الأمة منهج حياتها ونظام مجتمعها , وشرائع ارتباطاتها ومصالحها إلى يوم القيامة , كما يتضمن استقرار هذا الدين بكل جزئياته الاعتقادية والتعبدية والتشريعية ; فلا تعديل فيها ولا تغيير ; فقد اكتمل هذا الدين وتم وانتهى أمره . وتعديل شيء فيه كإنكاره كله ; لأنه إنكار لما قرره الله من تمامه وكماله ; وهذا الإنكار هو الكفر الذي لا جدال فيه . . أما العدول عنه كله إلى منهج آخر , ونظام آخر , وشريعة أخرى ; فلا يحتاج منا إلى وصف , فقد وصفه الله - سبحانه - في السورة . ولا زيادة بعد وصف الله - سبحانه - لمستزيد . .
إن هذه الآية تقرر - بما لا مجال للجدال فيه - أنه دين خالد , وشريعة خالدة . وأن هذه الصورة التي رضيها الله للمسلمين دينا هي الصورة الأخيرة . . إنها شريعة ذلك الزمان وشريعة كل زمان ; وليس لكل زمان شريعة , ولا لكل عصر دين . .
إنما هي الرسالة الأخيرة للبشر , قد اكتملت وتمت , ورضيها الله للناس دينا . فمن شاء أن يبدل , أو يحور , أو يغير أو يطور !
إلى آخر هذه التعبيرات التي تلاك في هذا الزمان , فليبتغ غير الإسلام دينا . .
(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) .(1/389)
إن هذا المنهج الإلهي المشتمل على التصور الاعتقادي , والشعائر التعبدية , والشرائع المنظمة لنشاط الحياة كله ; يحكم ويصرف ويهيمن على نشاط الحياة كله ; وهو يسمح للحياة بأن تنمو في إطاره وترتقي وتتطور ; دون خروج على أصل فيه ولا فرع , لأنه لهذا جاء , ولهذا كان آخر رسالة للبشر أجمعين . .
إن تطور الحياة في ظل هذا المنهج لا يعني مجافاتها أو إهمالها لأصل فيه ولا فرع ; ولكن يعني أن طبيعة المنهج تحتوى كل الإمكانيات التي تسع ذلك التطور ; بلا خروج على أصل أو فرع . ويعني أن كل تطور في الحياة كان محسوبا حسابه في ذلك المنهج ; لأن الله - سبحانه - لم يكن يخفي عليه - وهو يضع هذا المنهج في صورته الأخيرة , ويعلن إكماله وارتضاءه للناس دينا - أن هناك تطورات ستقع , وأن هناك حاجات ستبرز , وأن هناك مقتضيات ستتطلبها هذه التطورات والحاجات . فلا بد إذن أن يكون هذا المنهج قد احتوى هذه المقتضيات جميعا . .
وما قدر الله حق قدره من يظن غير هذا في أمر من هذه الأمور . . ( الظلال)
000000000000000
لكل نظام من النظم فلسفته و فكرته العامة عن الحياة، ولكل نظام مشكلاته التي تنشأ من تطبيقه، و قضاياه التي تناسب طبيعته وآثاره في عالم الواقع ولكل نظام كذلك حلوله التي يواجه بها المشكلات والقضايا الناشئة من طبيعته وطريقته.
و ليس من المنطق – كما أنه ليس من الإنصاف – أن تطلب من نظام معين حلولاً لمشكلات لم ينشئها هو، و إنما أنشأها نظام آخر مختلف في طبيعته وطريقته عن ذلك النظام.
و المنطق المعقول ينادي بأن من أراد أن يستفتي نظاماً معيناً في حل مشكلات الحياة، فليطبق أولاً هذا النظام في الواقع، ثم لينظر إن كانت هذه المشكلات ستبرز أو تختفي، أو تتغير طبيعتها ومقوماتها عندئذ فقط يمكن استفتاء هذا النظام في مشكلاته التي تقع في أثناء تطبيقه.(1/390)
و الإسلام نظام اجتماعي متكامل، تترابط جوانبه وتتساند، وهو نظام يختلف في طبيعته وفكرته عن الحياة، و وسائله في تصريفها، يختلف في هذا كله عن النظم الغربية، وعن النظم المطبقة اليوم عندنا، يختلف اختلافاً كلياً أصيلاً عن هذه النظم و من المؤكد أنه لم يشترك في خلق المشكلات القائمة في المجتمع اليوم. إنما نشأت هذه المشكلات من طبيعة النظم المطبقة في المجتمع، و من إبعاد الإسلام عن مجال الحياة.
و لكن العجيب بعد هذا أن يكثر استفتاء الإسلام في تلك المشكلات، وأن تُطلب لها عنده حلول، و أن يؤخذ رأيه في قضايا لم ينشئها هو، ولم يشترك في إنشائها، العجب أن يُستفتى الإسلام في بلاد لا تطبق نظام الإسلام في قضايا من نوع ( المرأة والبرلمان ) و ( المرأة و العمل ) و ( المرأة والإختلاط )
و( مشكلات الشاب الجنسية ) و ما إليها. و أن يستفتيه في هذا و في أمثاله ناس لا يرضون للإسلام أن يحكم، بل إنه ليزعجهم أن يتصوروا يوم يجيء حكم الإسلام!
و الأعجب من أسئلة هؤلاء، أجوبة رجال الدين ودخولهم مع هؤلاء السائلين في جدل حول رأي الإسلام و حكم الإسلام في مثل هذه الجزئيات، وفي مثل هذه القضايا، في دولة لا تحكم بالإسلام و لا تطبق نظام الإسلام.
ما للإسلام اليوم و ان تدخل المرأة البرلمان أو لا تدخل؟ ماله و أن يختلط الجنسان أو لا يختلطان؟ ماله و أن تعمل المرأة أو لا تعمل؟ وماله لأية مشكلة من مشكلات النظم المطبقة في هذا المجتمع الذي لا يدين للإسلام، و لا يرضى حكم الإسلام؟ و ما بال هذه الجزئيات وأمثالها هي التي يُطلب أن تكون وفق نظام الإسلام؟ ونظام الإسلام كله مطرود من الحكم، مطرود من النظام الإجتماعي، مطرود من قوانين الدولة، مطرود من حياة الشعب!.
إن الإسلام كل لا يتجزأ فإما أن يوخذ جملة و إما أن يترك جملة.(1/391)
أما أن يُستفتى الإسلام في صغار الشؤون، وأن يهمل في الأسس العامة التي تقوم عليها الحياة والمجتمع، فهذا هو الصغار الذي لا يجور للمسلم – فضلاً عن عالم الدين – أن يقبله للإسلام.
إن جواب أي استفتاء عن مشكلة جزئية من مشكلات المجتمعات التي لا تدين بالإسلام، ولا تعترف بشريعته أن يقال: حكّموا الإسلام الإسلام أولا في الحياة كلها ثم اطلبوا بعد ذلك رأيه في مشكلات الحياة التي ينشئها هو، لا التي أنشأها نظام آخر مناقض للإسلام.
إن الإسلام يربي الناس تربية خاصة، ويحكمهم وفق شريعة خاصة، و ينظم شؤونهم على أسس خاصة، ويخلق مقومات اجتماعية واقتصادية وشعورية خاصة. فأولاً طبقوا الإسلام جملة في نظام الحكم، وفي أسس التشريع، وفي قواعد التربية. ثم انظروا هل تبقى هذ المشكلات التي تسألون عنها، أم تزول من تلقاء نفسها
أما قبل هذا فما للإسلام و ما لهذه القضايا التي لا يعرفها المجتمع الإسلامي الصحيح؟!.
أوجدوا المجتمع الإسلامي، الذي تحكمه شريعة الإسلام و مبادىء الإسلام وربوا النساء و الرجال تربية في البيت والمدرسة و المجتمع،وأوجدوا ضمانات الحياة التي يكفلها الإسلام للمجتمع، وحققوا عدالة الإسلام التي يفرضها للجميع، ثم اسألوا بعد هذا : أتريد هي أن تدخل البرلمان أم أنها لا تجد ضرورة لهذه المحاولة مع تلك الضمانات؟ و اسألوها: هل تريد أن تعمل في الدوائر العامة؟ أم أنها لا ترغب في العمل لأن مقتضيات حياتها لا تستدعيه. واسألوها هل تريد أن تختلط بالرجال و أن تتزين و تتبرج أم أن تربيتها إذن ستعصمها من نزوات الحيوان وشهوات الحيوان، ومشاعرها ستدعوها إلى العصمة حياء من الله؟ لذلك يسأل بعض الأحيان أناس : ترى سنقطع أيدي ألوف من السارقين في كل عام تنفيذاً لشريعة الإسلام؟! و هؤلاء يرتكبون نفس الغلطة، و الذين يجيبونهم برأي الإسلام الفقهي يرتكبون غلطتين...(1/392)
إن هؤلاء الألوف من السارقين في كل عام ليسوا من نتاج المجتمع الإسلامي، ولا النظام الإسلامي. إنما هم نتاج مجتمع آخر يطرد الإسلام من حياته، ويطبق نظاماً اجتماعياً آخر لا يعرفه الإسلام. إنهم نتاج مجتمع يسمح بوجود الجائعين و المحتاجين دون ان يقدم لمشكلتهم علاجاً، مجتمع لا يضمن للملايين القوت ولا يربي النفس الإنسانية، و لا يربط الحياة الدنيا كلها بإله ولا بشريعة الإله.
أما المجتمع الإسلامي فهو مجتمع آخر؛ مجتمع كل فرد فيه مضمون الرزق عاملاً ومتعطلاً، قادراً أو عاجزاً، صحيحاً أو مريضاً و يأخذ ما متوسطه نصف العيش كل عام لا من رؤوس الأموال ومن أرباحها لبيت المال ثم يأخذ بعد ذلك – بلا قيد و لا شرط - من المال كل ما تحتاجه الدولة لحماية المجتمع من الآفات.
طبقوا هذا النظام أولاً، ثم انظروا كم محتاجاً يبقى بعد هذا؟ وكم سارقاً سيقدم على السرقة و بطنه مملوء بالطعام، و قلبه عامر بالإيمان؟!
كذلك يسأل بعضهم عن ( مشكلات الشاب الجنسية ) إذا اتبعوا هم تعاليم الإسلام.
و هؤلاء يرون الشباب الذي يعيش مجتمع غير إسلامي كل ما فيه يهيج غرائزهم، وكل ما فيه يثير نزواتهم...ثم يطلبون رأي الإسلام في مشكلات هذا الشاب.
إن المجتمع الإسلامي لن تكون فيه فتيات كاسيات عاريات مائلات مميلات في كل مكان، ينشرن الفتنة لحساب الشيطان. المجتمع الإسلامي لن تكون فيه أفلام قذرة، ولا أغان مريضة كأفلام وأغاني عبد الوهاب وشركاه.
المجتمع الإسلامي لن تكون فيه صحافة تنشر الصور العارية، والكلمات العارية، والنكت العارية، وتقوم مقام المواخير المتنقلة في كل مكان. المجتمع الإسلامي لن تكون فيه خمور تُزين للناس الفجور، وتحرمهم الإرادة و التفكير، و أخيراً فالمجتمع الإسلامي سيهيء للشباب زواجاً مبكراً، لأن بيت المال ملزم أن يُعين من يريد الإحصان.(1/393)
فإذا شئتم رأي الإسلام في مشكلات الشاب الجنسية، فأولاً طبقوا النظام الإسلامي كله ثم انظروا بعد ذلك – لا قبله – إن كانت هنالك مشكلات الشباب!
انني أعتبر كل استفتاء للإسلام في قضية لم تنشأ من تطبيق النظام الإسلامي كله مطرود من الحياة، إنني أعتبر كل استفتاء من هذا النوع سخرية من الإسلام، كما أعتبر الرد على هذا الإستفتاء مشاركة في هذه السخرية من أهل الإفتاء.
والذين يصرخون اليوم طالبين منع المرأة من الإنتخابات باسم الإسلام، أو منعها من العمل باسم الإسلام، أو إطالة أكمامها و ذيلها باسم الإسلام! ... ليسمحوا لي – مع تقديري لبواعثهم النبيلة – أن أقول لهم : إنهم يحيلون الإسلام هزأة وسخرية لأنهم يحصرون المشكلة كلها في مثل هذه الجزئيات.
إن طاقاتهم كلها يجب أن تنصرف إلى تطبيق النظام الإسلامي و الشريعة الإسلامية في كل جوانب الحياة . يجب أن يطالبوا بأن يسيطر على نظام المجتمع و قوانين الدولة و للتربية الإسلامية بأن تسيطر على المدرسة و البيت والحياة جملة. فهذا هو الأليق للإسلام. وكرامة دعاة الإسلام.
هذا إذا كانوا جادين في الأمر، مخلصين في الدعوة. أما إذا كان الغرض هو الضجيج الذي يلفت النظر، و هو في ذات الوقت مأمون لا خطر فيه! فذلك شأن آخر أحب أن أنزه عنه على الأقل بعض الهيئات والجماعات. (( مجتزأ من كتاب دراسات إسلامية للشهيد سيد قطب رحمه الله ))
************************
? ما هو المخرج مما نحن فيه اليوم ؟
عودة صادقة إلى الله تعالى شاملة :
هنالك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان . وأن يقفوا أمامها طويلاً . ذلك أنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها .(1/394)
لقد خرَّجت هذه الدعوة جيلا من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلاً مميزًا في تاريخ الإسلام كله وفى تاريخ البشرية جميعه . ثم لم - تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى . نعم وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ . ولكن لم يحدث قط أن تجمَّع مثل ذلك العدد الضخم ، في مكان واحد ، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة .
هذه ظاهرة واضحة واقعة ، ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه ، طويلاً لعلنا نهتدي إلى سرِّه .
إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا ، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه العملي ، وسيرته الكريمة ، كلها بين أبدينا كذلك ، كما كانت بين أبدي ذلك الجبل الأول ، الذي لم يتكرر في التاريخ ..
ولم يغب إلا شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل هذا هو السر ؟
لو كان وجود شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتميًّا لقيام هذه الدعوة ، وإيتائها ثمراتها ، ما جعلها الله دعوة للناس كافة ، وما جعلها آخر رسالة ، وما وكّل إليها أمر الناس في هذه الأرض ، إلى آخر الزمان .
ولكن الله - سبحانه - تكفل بحفظ الذكر ، و علم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبمكن أن تؤتي ثمارها . فاختاره إلى جواره بعد ثلاثة وعشرين عامًا من الرسالة ، وأبقى هذا الذين من بعده إلى آخر الزمان . . وإذن فإن غيبة شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها .
فلنبحث إذن وراء سبب آخر. لننظر في النبع الذي كان يستقي منه هذا الجيل الأول ، فلعل شيئا قد تغير فيه . ولننظر في المنهج الذي تخرجوا عليه ، فلعل شيئا قد تغير فيه كذلك .(1/395)
كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو القرآن . القرآن وحده . فما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه إلا أثرًا من آثار ذلك النبع . فعندما سُئلت عائشة رضي الله عنها - عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : (( كان خُلقه القرآن )) أخرجه النسائي .
كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ، ويتكيفون به ، ويتخرجون عليه ، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة ، ولا ثقافة ، ولا علم ، ولا مؤلفات ، ولا دراسات . .
كلا !
فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه ، أو على امتداده . وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها ، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم . وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك . وحضارات أخرى قاصية ودانية : حضارة الهند وحضارة الصين إلخ . وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها ، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة. . فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده .. في فترة تكونه ..
وإنما كان ذلك عن (( تصميم )) مرسوم ، ونهج مقصود . يدل على هذا القصد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى في يد عمر بن الخطاب - رض الله عنه - صحيفة من التوراة . وقوله : (( إنه والله لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني )) رواه الحافظ أبو يعلى عن حماد عن الشعبي جابر .
وإذن فقد كان هناك قصد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل ..
في فترة التكون الأولى . .
على كتاب الله وحده ، لتخلص نفوسهم له وحده . ويستقيم عودهم على منهجه وحده . ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب - رض الله عنه -يستقي من نبع آخر.(1/396)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد صنع جيل خالص القلب . خالص العقل . خالص التصور . خالص الشعور . خالص التكوين من أى مؤثر آخر غير المنهج الإلهي ، الذي يتضمنه القرآن الكريم .
ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده . فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد .. ثم ما الذي حدث ، اختلطت الينابيع .!
صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم ، وأساطير الفرس وتصوراتهم . وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى ، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات . واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكرم ، وعلم الكلام ، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا . وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل ، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدًا .
وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملاً أساسيا من عوامل ذلك الاختلاف البيِّن بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد.
هناك عامل أساسي آخر غير اختلاف طبيعة النبع . ذلك هو اختلاف منهج التلقي عما كان عليه في ذلك الجيل الفريد ..
إنهم - في الجيل الأول - لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع ، ولا بقصد التشوق والمتاع . لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته . إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها ، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته ، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه ، كما يتلقى الجندي في الميدان (( الأمر اليومي )) لا ليعمل به فور تلقيه ! ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة ، لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه ( ) .
هذا الشعور . .
شعور التلقي للتنفيذ ..(1/397)
كان يفتح لهم من القرآن آفاقًا من المتاع وآفاقًا من المعرفة ، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع ، وكان ييسر لهم العمل ، ويخفف عنهم ثقل التكاليف ، ويخلط القرآن بذواتهم ، ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي ، وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف ، إنّما تتحول آثارًا وأحداثًا تحوِّل خط سير الحياة .
إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن بُقبل عليه بهذه الروح : روح المعرفة المنشئة للعمل . إنه لم يجئ ليكون كتاب متاع عقلي ،ولا كتاب أدب وفن . ولا كتاب قصة وتاريخ - وإن كان هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهاح حياة . منهاجًا إلهيًّا خالصًا . وكان الله سبحانه يأخذهم بهذا المنهج مفرقًا . يتلو بعضه بعضًا :
{ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء :106]
لم ينزل هذا القرآن جملة ، إنما نزل وفق الحاجات المتجددة ، ووفق النمو المطَّرِد في الأفكار والتصورات ، والنمو المُطَّرِد في المجتمع والحياة ، ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية - وكانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة والحادثة المعينة تحدث الناس عما في نفوسهم ، وتصور لهم ما هم فيه من الأمر ، وترسم لهم منهج العمل في الموقف ، وتصحح لهم أخطاء الشعور والسلوك ، وتربطهم في هذا كله بالله ربهم ، وتعرِّفُه لهم بصفاته المؤثرة في الكون ، فيحسون حينئذ أنهم يعيشون مع الملأ الأعلى ، تحت عين الله ، في رحاب القدرة . ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم ، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم .(1/398)
إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول . ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرَّج الأجيال التي تليه . وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملاً أساسيًا كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد .
هناك عامل ثالث جدير بالانتباه والتسجيل .
لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية . كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ هذا جديدًا ، منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية . وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف ، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام !
وبهذا الإحساس كان يتلقى هدي الإسلام الجديد ، فإذا غلبته نفسه مرة ، وإذا اجتذبته عاداته مرة ، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة . .
شعر في الحال بالإثم والخطيئة ، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه ، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهدي القرآني .
كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماض المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية ، فهو قد انفصل نهائيًا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيا ببيئته الإسلامية . حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي ، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر .
وكان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية ، وعُرْفُها وتصورها وعاداتها وروابطها ، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود . وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد ، بقيادته الجديدة ، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته بل تبعيته .(1/399)
وكان هذا مفرق الطريق ، وكان بدء السير في الطريق الجديد ، السير الطليق مع التخفف من كل ضغط للتقاليد التي يتواضع عليها المجتمع الجاهلي ، ومن كل التصورات والقيم السائدة فيه . ولم يكن هناك إلا ما يلقاه المسلم من أذى وفتنة ، ولكنه هو في ذات نفسه قد عزم وانتهى الجاهلي عليه ولم يعد لضغط ا لتصور الجاهلي ، ولا لتقاليد المجتمع من سبيل .
نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم . كل ما حولنا جاهلية . .
تصورات الناس وعقائدهم ، عاداتهم وتقاليدهم ، موارد ثقافتهم ، فنونهم وآدابهم ، شرائعهم وقوانينهم . حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ، ومراجع إسلامية ، وفلسفة إسلامية ، وتفكيرا إسلاميًا . .
هو كذلك من صنع هذه الجاهلية !!
لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا ، ولا يتضح في عقولنا ، ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة .
فلا بد إذن - في منهج الحركة الإسلامية - أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها . لا بد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال ، النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشبه شائبة . نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق ، وجود الله سبحانه ..
ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة ، وقيمنا وأخلاقنا ، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة .
ولا بد أن نرجع إليه - حين نرجع - بشعور التلقي للتنفيذ والعمل لا بشعور الدراسة والمتاع . نرجع إليه لنعرف ماذا يطلب منا أن نكون ، لنكون . وفي الطريق سنلتقي بالجمال الفني في القرآن وبالقصص وبمشاهد القيامة في القرآن .. وبالمنطق الوجداني في القرآن ..
وبسائر ما يطلبه أصحاب الدراسة والمتاع .(1/400)
ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن يكون هو هدفنا الأول . إن هدفنا الأول أن نعرف : ماذا يريد منا القرآن أن نعمل ؟ ما هو التصور الكلي الذي يريد منا أن نتصور ؟ كيف يريد القرآن أن يكون شعورنا بالله ؟ كيف يريد أن تكون أخلاقنا وأوضاعنا ونظامنا الواقعي في الحياة ؟
ثم لا بد لا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية . .
في خاصة نفوسنا . .
ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له ، فهو بهذه الصفة ..
صفة الجاهلية . .
غير قابل لأن نصطلح معه . إن مهمتنا أن نغير من أنفسنا أولاً لنغير هذا المجتمع أخيرًا .
إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع . مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه . هذا الواقع الذي يصطدم اصطدامًا أساسيًا بالمنهج الإسلامي ، وبالتصور الإسلامي ، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش . إن أولى الخطوات إلى طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته ، وألا نعدِّل في قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق .كلا !
إننا وإياه على مفرق الطريق ، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق !
وسنلقى في هذا عنتًا ومشقة ، وستفرض علينا تضحيات باهظة ، ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي ، ونصره على منهج الجاهلية .
وإنه لمن الخير أن ندرك دائمًا طبيعة منهجنا ، وطبيعة موقفنا ، وطبيعة الطريق الذي لا بد أن نسلكه للخروج من الجاهلية كما خرج ذلك الجيل المميز الفريد . .
طبيعة المنهج القرآني(*)(1/401)
ظل القران المكي ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عاماً كاملة، يحدَثه فيها عن قضية واحدة. قضية واحدة لا تتغير، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر. ذلك الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة، حتى لكأنما يطرقها للمرة الأولى.
لقد كان يعالج القضية الأولى، والقضية الكبرى، والقضية الأساسية، في هذا الدين الجديد..
قضية العقيدة..
ممثلة في قاعدتها الرئيسية..
الألوهية والعبودية، وما بينهما من علاقة.
لقد كان بخاطب بهذه الحقيقة (الإنسان)..
الإنسان بما انه إنسان.. وفي هذا المجال يستوي الإنسان العربي في ذلك الزمان والإنسان العربي في كل زمان، كما يستوي الإنسان العربي وكل إنسان. في ذلك الزمان وفي كل زمان!
إنها قضية (الإنسان) التي لا تتغير. لأنها قضية وجود في هذا الكون وقضية مصيره. قضية علاقته بهذا الكون وبهؤلاء الأحياء. وقضية علاقته بخالق هذا الكون وخالق هذه الأحياء. وهي قضية لا تتغير ، لأنها قضية الوجود والإنسان.
لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله.. كان يقول له: من هو؟ ومن أين جاء؟ ولماذا جاء؟ والى أين يذهب في نهاية المطاف؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول؟ ومن ذا الذي يذهب به؟ وما مصيره هناك؟ وكان يقول له: ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه، والذي يحس أن وراءه غيباً يستشرفه ولا يراه؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار؟ من ذا يدبره؟ ومن ذا يحوره؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه؟.. وكان يقول له كذلك: كيف يتعامل مع خالق هذا الكون، ومع الكون أيضاً، كما يبين له: كيف يتعامل العباد مع العباد؟
وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود (الإنسان). وستظل هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده على توالي الأزمان.(1/402)
وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاماً كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى، القضية التي ليس وراءها شيء في حياة الإنسان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات.
ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة، إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان، وأنها استقرت استقراراً مكيناً ثابتاً في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان، التي قدر الله أن يقوم هذا الدين عليها، وان تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين.
وأصحاب الدعوة إلى دين الله، والى إقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة، خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة، ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاماً لتقرير هذه العقيدة، ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها.
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى لها الدعوة منذ اليوم الأول للرسالة، وان يبدأ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أولى خطواته في الدعوة بدعوة الناس أن يشهدوا: أن لا اله إلا الله، وان يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق، ويعبدهم له دون سواه.
ولم تكن هذه -في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب- هي ايسر السبل إلى قلوب العرب!
فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى (إله) ومعنى:
(لا إله إلا الله).كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا..(1/403)
وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وأفراد الله-سبحانه- بها، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، وردَه كله إلى الله.. السلطان على الضمائر، والسلطان على الشعائر، والسلطان على واقعيات الحياة، والسلطان في المال ، والسلطان في القضاء،والسلطان في الأرواح والأبدان.. كانوا يعلمون أن(لا اله إلا الله) ثورة على السلطان الأرضي الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب، وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله..
ولم يكن يغيب عن العرب-وهم يعرفون لغتهم جيداً ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة-(لا اله إلا الله)- ماذا تعني هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم، ومن استقبلوا هذه الدعوة-او هذه الثورة- ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها هذه الحرب التي يعرفها الخاص والعام..
فَلِمَ كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة؟ ولم اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل هذا العناء؟
لقد بُعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بهذا الدين،واخصب بلاد العرب وأغناها ليست في يد العرب، إنما هي في أيدي غيرهم من الأجناس!
بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم،يحكمها أمراء عرب من قبل الروم، وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس، يحكمها أمراء عرب من قبل الفرس، وليست في أيدي العرب إلا الحجاز تهامة ونجد، وما إليها من الصحاري القاحلة التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك!(1/404)
وربما قيل انه في كان استطاعة محمد -صلى الله عليه وسلم-وهو الصادق الأمين الذي حكَمه أشراف قريش من قبل في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه،منذ خمسة عشر عاماً قبل الرسالة، والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسباً.. انه كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب التي أكلتها الثارات ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة..
الرومان في الشمال والفرس في الجنوب..
وإعلاء راية العربية والعروبة، وإنشاء وحدة قومية في كل أرجاء الجزيرة.
وربما قيل:انه لو دعا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة، بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاماً في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة!
وربما قيل: أن محمداً-صلى الله عليه وسلم- كان خليقاً- بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة، وبعد أن يولَوه فيهم القيادة والسيادة، وبعد استجماع السلطان في يديه، والمجد فوق مفرقيه-أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعث بها، في تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبَدهم لسلطانه البشرى!
ولكن الله-سبحانه- وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله- صلى الله عليه وسلم- هذا التوجيه! إنما وجهه إلى أن يصدع بـ (لا اله إلا الله) ، وان يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء !(1/405)
لماذا ؟ أن الله-سبحانه- لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه. إنما هو-سبحانه- يعلم أن هذا ليس هو الطريق،ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني او طاغوت فارسي، إلى يد طاغوت عربي. فالطاغوت كله طاغوت! إن الأرض لله، ويجب أن تخلص لله. ولا تخلص لله إلا أن ترفع كلمة (لا اله إلا الله). وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني او فارسي، إلى طاغوت عربي. فالطاغوت كله طاغوت! أن الناس عبيد لله وحده، ولا يكونون عبيداً لله إلا أن ترتفع راية(لا اله إلا الله)-لا اله إلا الله كما يدركها العربي العارف بمدلولات لغته،: لا حاكمية إلا الله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على احد، لان السلطان كله لله، ولان( الجنسية) التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله.
وهذا هو الطريق..
وبعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بهذا الدين، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا ًللثروة والعدالة. قلة قليلة تملك المال والتجارة، وتتعامل بالربا فتتضاعف تجارتها ومالها. وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع. والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة، وجماهير كثيرة ضائعة من المال والمجد جميعاً!
وربما قيل: أنه كان في استطاعة محمد-صلى الله عليه وسلم- أن يرفعها راية اجتماعية، وان يثيرها حرباً على طبقة الأشراف، وان يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع، ورد أموال الأغنياء على الفقراء!
وربما قيل: انه لو دعا يومها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-هذه الدعوة، لانقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة مع الدعوة الجديدة في وجه طغيان المال والشرف والجاه، والقلة القليلة مع هذه الموروثات ، بدلا من أن يقف المجتمع كله صفاً في وجه (لا اله إلا الله) التي لم يرتفع إلى افقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس!(1/406)
وربما قيل: أن محمداً-صلى الله عليه وسلم-كان خليقاً بعد أن تستجيب له الكثرة، وتوليه قيادها، فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها، ان يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبَدهم لسلطانه البشرى!
لكن الله-سبحانه- وهو العليم الحكيم، لم يوجهه هذا التوجيه..
لقد كان الله-سبحانه- يعلم أن هذا ليس هو الطريق..
كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لابد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل، يرد الأمر كله لله، ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة التوزيع، ومن تكافل الجميع، ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه سواء انه ينفذ نظاماً شرعه الله، ويرجوا على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء. فلا تمتلئ قلوب بالطمع ولا تمتلئ قلوب بالحقد، ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح، كما يقع في الأوضاع التي تقوم على غير(لا اله إلا الله).
وبُعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى- إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية.
كان التظالم فاشيا في المجتمع، تعبر عنه حكمة الشاعر(زهير بن أبي سلمى):
و من لم يذد عن حوضه بسلاحه ??? يهدَّم، ومن لا يظلم الناس يُظلمِ
ويعبر عن القول المتعارف في الجاهلية:(انصر أخاك ظالماً او مظلوماً).
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية، ومن مفاخره كذلك يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته.. كالذي يقول طرفة بن العبد:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ????? وجدَك لم احفل متى قام عوَّدي
فمنهن سبقى العاذلات بشربة ??? كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وما زال تشاربي الخمور ولذتي وبذلي وإنفاقي طريقي وتالدي
إلى أن تحامتنى العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبًّد(1/407)
وكانت الدعارة- في صور شتى- من معالم هذا المجتمع- شأنه شأن كل مجتمع جاهلي قديم او حديث- كالتي روته عائشة رضي الله عنها :
(أن النكاح في الجاهلية كان على أربع أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم.. يخطب الرجل إلى الرجل وليَته او ابنته، فيصدقها ثم ينكحها.. والنكاح الأخر كان الرجل يقول لامرأته- إذا طهرت من طمثها- : أرسلي إلى فلان فاستبعضي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها ابدً حتى يتبين حملها من ذلك الذي تستضع منه، فإذا تبين حملها أصابها الرجل إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.. ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها. فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل.. والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع من جاءها .. وهن البغايا.. كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم الحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه، ودعى ابنه لا يمتنع عن ذلك)( ).
وربما قيل: انه كان قي استطاعة محمد-صلى الله عليه وسلم- أن يعلنها دعوة إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس.
وربما قيل: انه-صلى الله عليه وسلم- كان واجداً وقتها- كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة- نفوساً طيبة يؤذيها هذا الدنس.
وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير.(1/408)
وربما قال قائل: انه لو صنع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذلك لاستجابت له- في أول الأمر- جمهرة صالحة، تتطهر أخلاقها، وتزكوا أرواحها، فتصبح اقرب إلى قبول العقيدة وحملها، بدلاً من أن تثير دعوة(لا اله إلا الله) المعارضة القوية منذ أول الطريق. ولكن الله- سبحانه- كان يعلم أن ليس هذا هو الطريق!
كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم على أساس من عقيدة، تضع الموازين، وتقرر القيم، كما تقرر السلطة التي تستند إليها هذه الموازين والقيم، والجزاء الذي تملكه هذه السلطة، وتوقعه على الملتزمين والمخالفين. وانه قبل تقرير هذه العقيدة، وتحديد هذه السلطة تظل القيم كلها متأرجحة وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك، بلا ضابط، وبلا سلطان، وبلا جزاء!
فلما تقررت العقيدة-بعد الشاق- وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة.. لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده.. لما تحرر الناس من سلطان العبيد ومن سلطان الشهوات سواء.. لما تقررت في القلوب(لا اله إلا الله).. صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون.. تطهرت الأرض من(الرومان والفرس).. لا ليتقرر فيها سلطان(العرب). ولكن ليتقرر فيها سلطان(الله).. لقد تطهرت من سلطان(الطاغوت) كله.. رومانياً، وفارسياً، وعربياً، على السواء.
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته. وقام(النظام الإسلامي)، يعدل بعدل الله، ويزن بميزان الله، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده، ويسميها راية (الإسلام). لا يقرن إليها اسماً أخر، ويكتب عليها : (لا اله إلا الله)!
وتطهرت النفوس والأخلاق، وزكت القلوب والأرواح، دون أن يحتاج الأمر حتى للحدود والتعازير التي شرعها الله- إلا في الندرة النادرة- لان الرقابة قامت هناك في الضمائر، ولان الطمع في رضا الله وثوابه، والحياة والخوف من غضبه وعقابه، قد قاما مقام الرقابة ومكان العقوبات.(1/409)
وارتفعت البشرية في نظامها، وفي اخلاقها، وفي حياتها كلها، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط، والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام.
ولقد تم هذا كله لان الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وإحكام، كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك. وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعداً واحداً، لا يدخل فيه الغلب والسلطان.. ولا حتى بهذا الدين على أيديهم.. وعداً واحداً لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا.. وعداً واحداً هو الجنة. هذا كل وعدوه على الجهاد المضني، والابتلاء الشاق، والمضي في الدعوة، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان في كل زمان وفي كل مكان، وهو: ( لا إله إلا الله)!
فلما أن ابتلاهم الله فصبروا، ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم، ولما أن علم الله منهم انهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض- كائناً ما كان هذا الجزاء، ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم- ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجد ولا قوم، ولا اعتزاز بوطن ولا ارض، ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت.. لما أن علم الله منهم ذلك كله، علم انهم قد اصبحوا- إذن- أمناء على هذه الأمانة الكبرى.. أمناء على العقيدة، التي يتفرد فيها الله- سبحانه- بالحاكمية في القلوب والضمائر، وفي السلوك والشعائر، وفي الأرواح والأموال، وفي الأوضاع والأحوال.. وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها، وعلى عدل الله يقيمونه، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لانفسهم، ولا لعشيرتهم، ولا لقومهم، ولا لجنسهم. إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله، ولدينه وشريعته، لأنهم يعلمون انه من الله، هو الذي آتاهم إياه.(1/410)
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء. وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها.. راية لا اله إلا الله.. ولا ترفع معها سواها. وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره، المبارك الميسر في حقيقته.
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية، او دعوة اجتماعية، او دعوة أخلاقية.. او رفعت أي شعار جانب شعارها الواحد: (لا اله إلا الله). ذلك شأن القرآن المكي كله في تقرير: (لا اله إلا الله) في القلوب والعقول، واختيار هذا الطريق-على مشقته في الظاهر- وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى، والإصرار على هذا الطريق.
فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها، دون التطرق الى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والشرائع التي تنظم المعاملات فيها، فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمام أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية.
إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بها..
فهو دين يقوم كله على القاعدة الألوهية الواحدة..
كل تعظيماته وكل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير..
وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة، الوارفة المديدة الظلال، المتشابكة الأغصان، الضاربة في الهواء..
لابد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة، وفي مساحات واسعة، تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء.. فكذلك هذا الدين..
إن نظامه يتناول الحياة كلها، ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها ، وينظم حياة الإنسان- لا في الحياة الدنيا وحدها كذلك في الدار الآخرة، ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها، ولا في المعاملات المادية الظاهرة وحدها ولكن كذلك في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا- فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية، ولابد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضاً..(1/411)
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته، يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده، ويجعل بناء العقيدة وتمكينها، وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعب النفس كلها.. ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة، وضماناً من ضمانات الاحتمال، والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء والضارب من جذورها في الأعماق.
ومتى استقرت عقيدة: (لا إله إلا الله) في أعماقها الغائرة البعيدة، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه (لا إله إلا الله)، وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة، واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام، حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته. فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان.. وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس- فيما بعد- تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها، ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له..وهكذا أبطلت الخمر، وابطل الربا، وابطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهلية كلها.. أبطلت بآيات من القرآن، او كلمات من الرسول-صلى الله عليه وسلم- بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها، ونظمها وأوضاعها، وجندها وسلطاتها، ودعايتها واعلامها، فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات، بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات( ) !
وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم. إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد..
جاء ليحكم الحياة في واقعها، ويواجه هذا الواقع ليقضى فيه بأمره.. يقره، او يعدله، او يغيره من أساسه.. ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلاً، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده..
انه ليس(نظرية) تتعامل مع(الفروض) !..(1/412)
انه(منهج)، يتعامل مع (الواقع) !.. فلابد اولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة: أن لا اله إلا الله، وان الحاكمية ليست إلا لله ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون الله، ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة..
وحين يقوم هذا المجتمع فعلاً، تكون له حياة واقعية، تحتاج إلى تنظيم والى تشريع.. وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع لقوم مستسلمين أصلاً للنظم والشرائع، رافضين أصلاً لغيرها من النظم والشرائع..
ولابد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من سلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع حتى يكون للنظام هيبته، ويكون للشريعة جديتها.. فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من واقعية تقتضي الأنظمة والشرائع من فورها..
والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم. وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة الله.. ومن ثم لم ينزل الله في هذه الفترة تنظيمات وشرائع، وإنما نزَل لهم عقيدة، وخلقاً منبثقاً من هذه العقيدة بعد استقرارها في الأعماق البعيدة..
فلما أن صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان، تنزلت عليهم الشرائع، وتقرر لهم النظام الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية، والذي تكفل له الدولة بسلطاتها الجدية النفاذ.
ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة، ليختزنوها جاهزة حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة! أن هذه ليست طبيعة هذا الدين!.. انه اشد واقعية من هذا واكثر جدية!.. انه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولاً.. إنما يواجه الواقع حين يكون واقع مجتمع مسلم مستسلم لشريعة الله رافض لشريعة سواه بحجمه وشكله وملابساته وظروفه، ليشرع له، وفق حجمه وشكله وملابساته وظروفه.(1/413)
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ نظريات وان يصوغ قوالب نظام، وان يصوغ تشريعات للحياة.. بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلاً تحكيم شريعة الله وحدها، ورفض كل شريعة سواها، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه.. الذين يريدون من الإسلام هذا، لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة.. كما يريد له الله..
انهم يريدون منه ان يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه نظريات بشرية، ومناهج بشرية، ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم، رغبات إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة.. يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب نظريات وفروض، تواجه مستقبلاً غير موجود.. والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده.. عقيدة تملأ القلب، وتفرض سلطانها على الضمير، عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلا لله، وألا يتلقوا الشرائع إلا منه دون سواه.. وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم، ويصبح لهم السلطان الفعلي في مجتمعهم، تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية، وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك.
هذا ما يريده الله لهذا الدين.. ولن يكون إلا ما يريده الله، مهما كانت رغبات الناس!
كذلك ينبغي ان يكون مفهوماً لأصحاب الدعوة الإسلامية انهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة- حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون!- يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو(أولا) إقرار عقيدة(لا اله إلا الله)- بعدلها الحقيقي، وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم، إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم..(1/414)
ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام، كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة.. هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاماً كاملة .. فإذا دخل في هذا الدين - بمفهومه هذا الأصيل-عصبة من الناس .. فهذه العصبة هي التي يطلق عليها اسم (المجتمع المسلم) .. المجتمع الذي يصلح لمزاولة النظام الإسلامي في حياته الاجتماعية، لأنه قرر بينه وبين نفسه أن تقوم حياته كلها على هذا الأساس، وألا يحكم في حياته كلها إلا الله.
وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه، كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية، في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي .. فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي .. فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي الواقعي العملي الجاد.
ولقد يخيل لبعض المخلصين المتعجلين، ممن لا يتدبرون طبيعة هذا الدين، وطبيعة منهجه الرباني القويم، المؤسس على حكمة العليم الحكيم وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة .. نقول: لقد يخيل لبعض هؤلاء أن عرض أسس النظام الإسلامي - بل التشريعات الإسلامية كذلك- على الناس، مما ييسر لهم طريق الدعوة، ويحبب الناس في هذا الدين!
وهذا وَهْمٌ تنشئه العجلة! وَهْمٌ كالذي كان يمكن أن يقترحه المقترحون: أن تقوم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولها تحت راية قومية، أو راية اجتماعية، أو راية أخلاقية، تيسيراً للطريق!
إن القلوب يجب أن تخلص أولاً لله، وتعلن عبوديتها له وحده، بقبول شرعه وحده، ورفض كل شرع آخر غيره.. من ناحية المبدأ .. قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه!
إن الرغبة يجب أن تنبثق من إخلاص العبودية لله، والتحرر من سلطان سواه، لا من أن النظام المعروض عليها .. في ذاته .. خير مما لديها من الأنظمة في كذا وكذا على وجه التفصيل.(1/415)
إن نظام الله خير في ذاته، لأنه من شرع الله .. ولن يكون شرع العبيد يوماً كشرع الله .. ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة. إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع الله وحده أيَّاً كان، هو ذاته الإسلام، وليس للإسلام مدلول سواه، فمن رغب في الإسلام ابتداء فقد فصل في القضية، ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته .. فهذه إحدى بديهيات الإيمان!
وبعد، فلا بد أن نقول كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عاماً .. إنه لم يعرضها في صورة (نظرية) ولا في صورة (لاهوت)! ولم يعرضها في سورة جدل كلامي كالذي زاوله ما يسمى (علم التوحيد)!
كلا! لقد كان القرآن الكريم يخاطب فطرة (الإنسان) بما في وجوده هو وبما في الوجود حوله من دلائل وإيحاءات .. كان يستنقذ فطرته من الركام، ويخلص أجهزة الاستقبال الفطرية مما ران عليها وعطل وظائفها، ويفتح منافذ الفطرة، لتتلقى الموحيات المؤثرة وتستجيب لها.
هذا بصفة عامة 00
وبصفة خاصة كان القرآن يخوض بهذه العقيدة معركة حية واقعية .. كان يخوض بها معركة مع الركام المعطل للفطرة في نفوس آدمية حاضرة واقعة .. ومن ثم لم يكن شكل (النظرية) هو الشكل الذي يناسب هذا الواقع الخاص. إنما هو شكل المواجهة الحية للعقابيل والسدود والحواجز والمعوِّقات النفسية والواقعية في النفوس الحاضرة الحية .. ولم يكن الجدل الذهني - القائم على المنطق الشكلي- الذي سار عليه في العصور المتأخرة علم التوحيد، هو الشكل المناسب كذلك .. فلقد كان القرآن يواجه (واقعاً) بشريّاً كاملاً بكل ملابساته الحية، ويخاطب الكينونة البشرية بجملتها في خضم هذا الواقع.. وكذلك لم يكن (اللاهوت) هو الشكل المناسب. فإن العقيدة الإسلامية، ولو أنها عقيدة، إلا أنها تمثل منهج حياة واقعية للتطبيق العملي، ولا تقبع في الزاوية الضيقة التي تقبع فيها الأبحاث اللاهوتية النظرية!(1/416)
كان القرآن، وهو يبني العقيدة في ضمائر الجماعة المسلمة، يخوض بهذه الجماعة المسلمة معركة ضخمة مع الجاهلية من حولها، كما يخوض بها معركة ضخمة مع رواسب الجاهلية في ضميرها هي وأخلاقها وواقعها 00 ومن هذه الملابسات ظهر بناء العقيدة لا في صورة (نظرية) وفي صورة (لاهوت)، ولا في صورة (جدل كلامي) .. ولكن في صورة تجمع عضوي حيوي وتكوين تنظيمي مباشر للحياة، ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها، وكان نمو الجماعة المسلمة في تصورها الاعتقادي، وفي سلوكها الواقعي وفق هذا التصور، وفي دربتها على مواجهة الجاهلية كمنظمة محاربة لها.. كان هذا النمو ذاته ممثلاً تماماً لنمو البناء العقيدي، وترجمة حية له .. وهذا هو منهج الإسلام الذي يمثل طبيعته كذلك.
وإنه لمن الضروري لأصحاب الدعوة الإسلامية أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في الحركة على هذا النحو الذي بيّنّاه. ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالبت في العهد المكي على هذا النحو، لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركة الإسلامية، والبناء الواقعي للجماعة المسلمة. لم تكن مرحلة تلقِّي (النظرية) ودراستها! ولكنها كانت مرحلة البناء القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معاً .. وهكذا ينبغي أن تكون كلما أريد إعادة هذا البناء مرة أخرى.
هكذا ينبغي أن تطول مرحلة بناء العقيدة، وأن تتم خطوات البناء على مهل، وفي عمق وتثبت .. ثم هكذا ينبغي ألا تكون مرحلة دراسة نظرية للعقيدة، ولكن مرحلة ترجمة لهذه العقيدة -أولاً بأول- في صورة حية، متمثلة في ضمائر متكيفة بهذه العقيدة ومتمثلة في بناء جماعي وتجمع حركي، يعبر نموه من داخله ومن خارجه عن نمو العقيدة ذاتها، ومتمثلة في حركة واقعية تواجه الجاهلية، وتخوض معها المعركة في الضمير وفي الواقع كذلك، لتتمثل العقيدة حية، وتنمو نمواً حياً في خضم المعركة.(1/417)
وخطأ أي خطأ - بالقياس إلى الإسلام- أن تتبلور العقيدة في صورة (نظرية) مجردة للدراسة الذهنية.. المعرفية الثقافية .. بل خطر أي خطر كذلك.
إن القرآن لم يقض ثلاثة عشر عاماً كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الأولى .. كلا! فلو أراد الله لأنزل هذا القرآن جملة واحدة، ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشرة عاماً، أو أكثر أو أقل، حتى يستوعبوا (النظرية الإسلامية).
ولكن الله -سبحانه- كان يريد أمراً آخر، كان يريد منهجاً معيناً متفرداً، كان يريد بناء جماعة وبناء حركة وبناء عقيدة في وقت واحد.. كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة، وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة .. كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الحركي الفعلي، وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو الصورة المجسمة للعقيدة.. وكان الله -سبحانه- يعلم أن بناء النفوس والجماعات لا يتم بين يوم وليلة، فلم يكن هنالك بد أن يستغرق بناء العقيدة المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة.. حتى إذا نضج التكوين العقيدي كانت الجماعة هي المظهر الواقعي لهذا النضوج.
هذه هي طبيعة هذا الدين -كما تستخلص من منهج القرآن المكي- ولا بد أن نعرف طبيعته هذه، وألا نحاول تغييرها تلبية لرغبات معجلة مهزومة أمام أشكال النظريات البشرية! فهو بهذه الطبيعة صنع الأمة المسلمة أول مرة، وبها يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد فيها أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود كما أخرجها الله أول مرة.
يجب أن ندرك خطأ المحاولة وخطرها معاً، في تحويل العقيدة الإسلامية الحية التي تحب أن تتمثل في واقع نَامٍ حي متحرك، وفي تجمع عضوي حركي .. تحويلها عن طبيعتها هذه إلى (نظرية) للدراسة والمعرفة الثقافية، لمجرد أننا نريد أن نواجه النظريات البشرية الهزيلة بـ (نظرية إسلامية).(1/418)
إن العقيدة الإسلامية تحب أن تتمثل في نفوس حية، وفي تنظيم واقعي، وفي تجمع عضوي، وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها، كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس أصحابها - بوصفهم كانوا من أهل الجاهلية قبل أن تدخل العقيدة في نفوسهم، وتنتزعها من الوسط الجاهلي-وهي في صورتها هذه تشغل من القلوب والعقول -ومن الحياة أيضاً- مساحة أضخم وأوسع وأشمل مما تشغله (النظرية). وتشمل -فيما تشمل- مساحة النظرية ومادتها، ولكنها لا تقتصر عليها.
إن التصور الإٍسلامي للألوهية، وللوجود الكوني، وللحياة، وللإنسان .. تصور شامل كامل. ولكنه كذلك تصور واقعي إيجابي. وهو يكره -بطبيعته- أن يتمثل في مجرد تصور ذهني معرفي، لأن هذا يخالف طبيعته وغايته. ويجب أن يتمثل في أناسى، وفي تنظيم حي، وفي حركة واقعية ..
وطريقته في التكوين أن ينمو من خلال الأناسى والتنظيم الحي والحركة الواقعية، حتى يكتمل نظرياً في نفس الوقت الذي يكتمل فيه واقعياً- ولا ينفصل في صورة (النظرية) بل يظل ممثلاً في صورة (الواقع) الحركي..
وكل نمو نظري يسبق النمو الحركي الواقعي، ولا يتمثل من خلاله، هو خطأ وخطر كذلك، بالقياس إلى طبيعة هذا الدين وغايته، وطريقة تركيبه الذاتي. والله -سبحانه- يقول:
{وقرآناً فَرَقناه لتقراه على الناس على مُكْثٍ ونزلناه تنزيلاً} .. [الإسراء: 106]
فالفرق مقصود. والمكث مقصود كذلك، ليتم البناء التكويني، المؤلف من عقيدة في صورة (منظمة حية) لا في صورة (نظرية)!
يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيّداً أنه -كما إنه في ذاته دين رباني- فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك. متواف مع طبيعته، وإنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل.(1/419)
ويجب أن يعرفوا كذلك أن هذا الدين -كما إنه جاء ليغير التصور الاعتقادي، ومن ثم يغير الواقع الحيوي- فكذلك هو قد جاء ليغير المنهج الذي يبنى به التصور الاعتقادي، ويغير به الواقع الحيوي .. جاء ليبني عقيدة وهو يبني أمة .. ثم لينشئ منهج تفكير خاصاً به، بنفس الدرجة التي ينشئ بها تصوراً اعتقادياً وواقعاً حيوياً. ولا انفصال بين منهج تفكيره الخاص، وتصوره الاعتقادي الخاص، وبنائه الحيوي الخاص.. فكلها حزمة واحدة..
فإذا نحن عرفنا منهجه في العمل على النحو الذي بيناه، فلنعرف أن هذا المنهج أصيل، وليس منهج مرحلة ولا بيئة ولا ظروف خاصة بنشأة الجماعة المسلمة الأولى، إنما هو المنهج الذي لا يقوم بناء هذا الدين -في أي وقت- إلا به.
إنه لم تكن وظيفة الإسلام أن يغير عقيدة الناس وواقعهم فحسب، ولكن كانت وظيفته كذلك أن يغير منهج تفكيرهم، وتناولهم للتصور وللواقع، ذلك أنه منهج رباني مخالف في طبيعته كلها لمناهج البشر القاصرة الهزيلة.
ونحن لا نملك أن نصل إلى التصور الرباني وإلى الحياة الربانية، إلا عن طريق منهج تفكير رباني كذلك، المنهج الذي أراد الله أن يقيم منهج تفكير الناس على أساسه، ليصح تصورهم الاعتقادي وتكوينهم الحيوي.
00000
نحن، حين نريد من الإسلام أن يجعل من نفسه (نظرية) للدراسة، نخرج به عن طبيعة منهج التكوين الرباني، وعن طبيعة منهج التفكير الرباني كذلك، ونخضع الإسٍلام لمناهج التفكير البشرية! وكأنما نريد لنرتقي بمنهج الله في التصور والحركة ليوازي مناهج العبيد!
والأمر من هذه الناحية يكون خطيراً، والهزيمة تكون قاتلة.(1/420)
إن وظيفة المنهج الرباني أن يعطينا -نحن أصحاب الدعوة الإسلامية- منهجاً خاصاً للتفكير، نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهلية السائدة في الأرض، والتي تضغط على عقولنا، وتترسب في ثقافتنا . فإذا نحن أردنا أن نتناول هذا لدين بمنهج تفكير غريب عن طبيعته، من مناهج التفكير الجاهلية الغالبة، كنا قد أبطلنا وظيفته التي جاء ليؤديها للبشرية، وحرمنا أنفسنا فرصة الخلاص من ضغط المنهج الجاهلي السائد في عصرنا، وفرصة الخلاص من رواسبه في عقولنا وتكويننا.
والأمر من هذه الناحية يكون خطيراً كذلك، والخسارة تكون قاتلة.
إن منهج التفكير والحركة في بناء الإسلام، لا يقل قيمة ولا ضرورة عن منهج التصور الاعتقادي والنظام الحيوي، ولا ينفصل عنه كذلك. ومهما يخطر لنا أن نقدم هذا التصور وهذا النظام في صورة تعبيرية، فيجب ألا يغيب عن بالنا أن هذا لا ينشئ (الإٍسلام) في الأرض في صورة حركة واقعية، بل يجب ألا يغيب عن بالنا أنه لن يفيد من تقديمنا الإسلام في هذه الصورة إلا المشتغلون فعلاً بحركة إسلامية واقعية، وأن قصارى ما يفيده هؤلاء أنفسهم من تقديم الإسلام لهم في هذه الصورة هو أن يتفاعلوا معها بالقدر الذي وصلوا هم إليه فعلاً في أثناء الحركة.
ومرة أخرى أكرر أن التصور الاعتقادي يجب أن يتمثل من فوره في تجمع حركي، وأن يكون التجمع الحركي في الوقت ذاته تمثيلاً صحيحاً وترجمة حقيقة للتصور الاعتقادي.
ومرة أخرى أكرر كذلك أن هذا هو المنهج الطبيعي للإسلام الرباني، وأنه منهج أعلى وأقوم، وأشد فاعلية، وأكثر انطباقاً على الفطرة البشرية من منهج صياغة النظريات كاملة مستقلة وتقديمها في الصورة الذهنية الباردة للناس، قبل أني كون هؤلاء الناس مشتغلين فعلاً بحركة واقعية، وقبل أن يكونوا هم أنفسهم ترجمة حية، تنمو خطوة خطوة لتمثيل ذلك المفهوم النظري.
00000(1/421)
وإذا صح هذا في الأصل النظري فهو أصح بطبيعة الحال فيما يختص بتقديم أسس النظام الذي يتمثل فيه التصور الإسلامي، أو تقديم التشريعات المفصلة لهذا النظام.
إن الجاهلية التي حولنا -كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية، فتجعلهم يتعجلون خطوات المنهج الإسلامي -هي كذلك تتعمد أحياناً أن تحرجهم. فتسألهم: أين تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ودراسات ومن فقه مقنن على الأصول الحديثة! كأن الذي ينقص الناس في هذا الزمان لإقامة شريعة الإسلام في الأرض هو مجرد الأحكام الفقهية والبحوث الفقهية الإسلامية. وكأنما هم مستسلمون لحاكمية الله راضون بأن تحكمهم شريعته، ولكنهم فقط لا يجدون من (المجتهدين) فقهاً مقنناً بالطريقة الحديثة! .. وهي سخرية هازلة يجب أن يرتفع عليها كل ذي قلب يحس لهذا الدين بحرمة !
إن الجاهلية لا تريد بهذا الإحراج إلا أن تجد لنفسها تعلة في نبذ شريعة الله، واستبقاء عبودية البشر للبشر.. وإلاَّ أن تصرف العصبة المسلمة عن منهجها الرباني، فتجعلنا تتجاوز مرحلة بناء العقيدة في صورة حركية، وأن تحول منهج أصحاب الدعوة الإسلامية عن طبيعته التي تتبلور فيها النظرية من خلال الحركة، وتتحدد ملامح النظام من خلال الممارسة، وتسن فيها التشريعات في مواجهة الحياة الإسلامية الواقعية بمشكلاتها الحقيقية.
ومن واجب أصحاب الدعوة الإسلامية ألا يستجيبوا للمناورة! من واجبهم أن يرفضوا إملاء منهج غريب على حركتهم وعلى دينهم! من واجبهم ألا يستخفهم الذين لا يوقنون!
ومن واجبهم أن يكشفوا مناورة الإحراج، وأن يستعلوا عليها، وأن يرفضوا السخرية الهازلة في ما يسمى (تطوير الفقه الإسلامي) في مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله ورفضه لكل شريعة سواها. من واجبهم أن يرفضوا هذه التلهية عن العمل الجاد .. التلهية باستنبات البذور في الهواء .. وأن يرفضوا هذه الخدعة الخبيثة!(1/422)
ومن واجبهم أن يتحركوا وفق منهج هذا الدين في الحركة. فهذا من أسرار قوته. وهذا هو مصدر قوتهم كذلك.
إن (المنهج) في الإسلام يساوي (الحقيقة). ولا انفصام بينهما. وكل منهج غريب لا يمكن أن يحقق الإسلام في النهاية. والمناهج الغريبة يمكن أن تحقق أنظمتها البشرية. ولكنها لا يمكن أن تحقق منهجنا. فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كل حركة إسلامية..
------------------
التربية الجهادية(1/423)
لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في " زاد المعاد " في الفصل الذي عقده باسم " فصل في ترتيب هديه مع الكفار والمنافقين من حين عث إلى حين لقي الله عز وجل " : ( أول ما أوحى به تبارك وتعالى ، أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، فنبأه بقوله : { اقرأ } . وأرسله بـ : { يا أيها المدثر } . ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم انذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم انذر العالمين . فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية . ويؤمر بالكف والصبر والصفح . ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال . ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله . ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله . . ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة . . فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأمر أن يقاتل من نقض عهده . . ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها : فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد ، أو يدخلوا في الإسلام . وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم . . وجعل أهل العهد في ذلك أقسام : قسما أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم . وقسما لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم . وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر ، فإذا انسلخت قاتلهم . .(1/424)
فقتل الناقض لعهده ، وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية . . فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة . . ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا قسمين : محاربين وأهل ذمة . والمحاربون له خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ، وخائف محارب . . وأما سيرته مع المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ، ويكل سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهى أن يصلي عليهم ، وأن يقوم على قبورهم ، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم . . فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين ) . .
ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين ، جديرة بالوقوف أمامها طويلا ، ولكننا لا نملك هنا إلا أن نشير إليها إشارات مجملة :
السمة الأولى : هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين . .(1/425)
فهو حركة تواجه واقعا بشريا . . وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي . . إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية ، تقوم عليها أنظمة واقعية عملية ، تسندها سلطات ذات قوة مادية . . ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه . . تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات ، وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها ، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات ، وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل . . إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي ، كما إنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد . . وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من عبودية العباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيء .
والسمة الثانية : في منهج هذا الدين : هي الواقعية الحركية . .(1/426)
فهو حركة ذات مراحل ، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية ، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها . . فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة . كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة . . والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ، ولا يراعون هذه السمة فيه ، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج ، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها . . الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً ، ويحملون النصوص ما لا تحمله من المبادئ والقواعد النهائية . ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً ، يمثل القواعد النهائية في هذا الدين ، ويقولون - وهم مهزومون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - : أن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع ! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً ، وتعبيد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته ، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة . . بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة ، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة ، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها .
والسمة الثالثة : هي أن هذه الحركة الدائبة ، والوسائل المتجددة ، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة ، ولا عن أهدافه المرسومة ، فهو - منذ اليوم الأول - سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين ، أو يخاطب قريشاً ، أو يخاطب العرب أجمعين ، أو يخاطب العالمين ، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة ، ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد هو إخلاص العبودية لله ، والخروج من العبودية للعباد ، لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين . .(1/427)
ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد في خطة مرسومة ، ذات مراحل محددة ، لكل مرحلة وسائلها المتجددة ، على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة .
والسمة الرابعة : هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى - على النحو في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن " زاد المعاد " - وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه ، أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي ، أو قوة مادية ، وأن تخلي بينه وبين كل فرد ، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته ، ولكن لا يقاومه ولا يحاربه ! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه !
والمهزومون روحياً وعقلياً ممن يكتبون عن " الجهاد في الإسلام " ليدفعوا عن الإسلام هذا " الاتهام " يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة ، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه ، والتي تعبِّد الناس للناس ، وتمنعهم من العبودية لله .. وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما .. ومن أجل هذا التخليط ، وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة ! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم : " الحرب الدفاعية " .. والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم ، ولا بواعثها ، ولا تكييفها كذلك .. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة " الإسلام " ذاته ودوره في هذه الأرض ، وأهدافه العليا التي قررها الله ، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة ، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات .(1/428)
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعاليمن .. ! إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها : الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض ، الحكم فيه للبشر بصورة من الصور .. أو بتعبير آخر مرادف : الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور .. ذلك أن الحكم الذي مردّ الأمر فيه إلى البشر ، ومصدر السلطات فيه هم البشر ، هو تأليه للبشر ، يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله . إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله ، وطرد المغتصبين له ، الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم ، فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مكان العبيد .. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض ، أو بالتعبير القرآني الكريم :
{ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } [ الزخرف : 84 ] .
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [ يوسف : 40 ] .
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 64 ] .(1/429)
ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال الدين - كما كان الأمر في سلطان الكنيسة ، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة ، كما كان الحال فيما يعرف باسم " الثيوقراطية " أو الحكم الإلهي المقدس !! - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة ، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة .
وقيام مملكة الله في الأرض ، وإزالة مملكة البشر ، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده .. وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية .. كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان ، لأن المتسلطين على رقاب العباد ، والمغتصبين لسلطان الله في الأرض ، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان ، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض ! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال !
إن هذا الإعلان العام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله ، بإعلان إلوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ، لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً .. إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً إيجابياً .. إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله ، ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك .. ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل " الحركة " إلى جانب شكل " البيان " .. ذلك ليواجه " الواقع " البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه .(1/430)
والواقع الإنساني ، أمس واليوم وغداً ، يواجه هذا الدين - بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله - بعقبات اعتقادية تصورية ، وعقبات مادية واقعية .. وعقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية ، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة .. وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد .
وإذا كان " البيان " يواجه العقائد والتصورات ، فإن " الحركة " تواجه العقبات المادية الأخرى - وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة - .. وهما معاً - البيان والحركة - يواجهان " الواقع البشري " بجملته ، بوسائل مكافئة لكل مكوناته .. وهما معاً لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض .. " الإنسان " كله في " الأرض " كلها .. وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى !
إن هذا الدين ليس إعلاناً لتحرير الإنسان العربي ! وليس رسالة خاصة بالعرب ! .. إن موضوعه هو " الإنسان " .. نوع " الإنسان " .. ومجاله هو " الأرض " .. كل " الأرض " . إن الله - سبحانه - ليس رباً للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم .. إن الله هو " رب العالمين " .. وهذا الدين يريد أن يرد " العالمين " إلى ربهم ، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره . والعبودية الكبرى - في نظر الإسلام - هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر .. وهذه هي " العبادة " التي يقرر أنها لا تكون إلا لله ، وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين . ولقد نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن " الاتِّباع " في الشريعة والحكم هو " العبادة " التي صار بها اليهود والنصارى " مشركين " مخالفين لما أمروا به من " عبادة " الله وحده ..(1/431)
أخرج الترمذي - بإسناده - عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فر إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم منَّ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - على أخته فأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغَّبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقه - أي " عدي " صليب من فضة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية .. { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } (1) .. قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال : " بلى ! إنهم حرَّموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم " .
وتفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول الله سبحانه ، نص قاطع على أن الاتِّباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين ، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أرباباً لبعض .. الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه ، ويعلن تحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية لغير الله ..
ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في " الأرض " لإزالة " الواقع " المخالف لذلك الإعلان العام .. بالبيان وبالحركة مجتمعين .. وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبِّد الناس لغير الله .. - أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه - والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى " البيان " واعتناق " العقيدة " بحرية لا يتعرض لها السلطان . ثم لكي يقيم نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي - بعد إزالة القوة المسيطرة - سواء كانت سياسية بحتة ، أو متلبسة بالعنصرية ، أو الطبقية داخل العنصر الواحد !
__________
(1) التوبة : 31(1/432)
إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته .. ولكن الإسلام ليس مجرد " عقيدة " . إن الإسلام كما قلنا إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد . فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان .. ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحراراً - بالفعل - في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم - بعد رفع الضغط السياسي عنهم ، وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم - ولكن هذه التجربة ليس معناها أن يجعلوا إلاههم هواهم ، أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيداً للعباد ! وأن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله ! .. إن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده ، وذلك بتلقي الشرائع منه وحده . ثم ليعتنق كل فرد - في ظل هذا النظام العام - ما يعتنقه من عقيدة ! وبهذا يكون " الدين " كله لله . أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله .. إن مدلول " الدين " أشمل من مدلول " العقيدة " . إن الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة ، وهو في الإسلام يعتمد على العقيدة ، ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة .. وفي الإسلام يمكن أن تخضع جماعات متنوعة لمنهجه العام الذي يقوم على أساس العبودية لله وحده ولو لم يعتنق بعض هذه الجماعات عقيدة الإسلام .(1/433)
والذي يدرك طبيعة هذا الدين - على النحو المتقدم - يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف - إلى جانب الجهاد بالبيان - ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية - بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح " الحرب الدفاعية " كما يريد المهزومون - أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر - أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام - إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير " الإنسان " في " الأرض " .. بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري ، وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة .
وإذا لم يكن بد أن نسمي حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية ، فلا بد أن نغير مفهوم كلمة " دفاع " ، ونعتبره " دفاعاً عن الإنسان " ذاته ، ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره .. هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات ، كما تتمثل في الأنظمة السياسية ، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية ، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام ، والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان !
وبهذا التوسع في مفهوم كلمة " الدفاع " نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي في " الأرض " بالجهاد ، ونواجه طبيعة الإسلام ذاتها ، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، وتقرير ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ، وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض ، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان ..(1/434)
أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية ، ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على " الوطن الإسلامي " - وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب - فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين ، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض . كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر ، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي !
ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض ؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد ، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من أنظمة الدولة السياسية ، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية ، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية ، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك ؟!
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير " الإنسان " .. نوع الإنسان .. في " الأرض " .. كل الأرض .. ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان ! .. إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد ، تخاطبهم بحرية ، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات .. فهنا " لا إكراه في الدين " .. أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية ، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة ، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله ، وهو طليق من هذه الأغلال !(1/435)
إن الجهاد ضرورة للدعوة ، إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلاناً جاداً يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه ، ولا يكفي بالبيان الفلسفي النظري ! سواء كان الوطن الإسلامي - وبالتعبير الإسلامي الصحيح : دار الإسلام - آمناً أم مهدداً من جيرانه . فالإسلام حين يسعى إلى السلم ، لا يقصد تلك السلم الرخيصة ، وهي مجرد أن يؤمن الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية . إنما هو يريد السلم التي يكون فيها الدين كله لله . أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله ، والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله . والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام - بأمر من الله - لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأواسطها .. ولقد انتهت هذه المراحل كما يقول الإمام ابن القيم : " فاستقر أمر الكفار معه - بعد نزول براءة - على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة .. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام .. فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة . والمحاربون له خائفون منه .. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ( وهم أهل الذمة كما يفهم من الجملة السابقة ) وخائف محارب " ..
وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه ، لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام هجوم المستشرقين الماكر !(1/436)
ولقد كف الله المسلمين عن القتال في مكة ، وفي أول العهد بالهجرة إلى المدينة .. وقيل للمسلمين : { كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } (1) .. ثم أذن لهم فيه ، فقيل لهم : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (2).. ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقيل لهم : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } (3) .. ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة ، فقيل لهم : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } (4) .. وقيل لهم : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (5) . فكان القتال - كما يقول الإمام ابن القيم - " محرماً ، ثم مأذوناً به ، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال ، ثم مأموراً به لجميع المشركين " ..
__________
(1) النساء : 77
(2) الحج : 39-41
(3) البقرة : 190
(4) التوبة : 36
(5) التوبة : 29(1/437)
إن جدِّية النصوص القرآنية الواردة في الجهاد ، وجدية الأحاديث النبوية التي تحض عليه ، وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام ، وعلى مدى طويل من تاريخه .. إن هذه الجدية الواضحة تمنع أن يجول في النفس ذلك التفسير الذي يحاوله المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي !
ومن ذا الذي يسمع قول الله سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي ، ثم يظنه شأناً عارضاً مقيداً بملابسات تذهب وتجيء ، ويقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود ؟!
لقد بين الله للمؤمنين في أول ما نزل من الآيات التي أذن لهم فيها بالقتال أن الشأن الدائم الأصيل في طبيعة هذه الحياة الدنيا أن يدفع الناس بعضهم ببعض ، لدفع الفساد عن الأرض :
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً } .. [ الحج : 39 - 40 ]
وإذن فهو الشأن الدائم لا الحالة العارضة . الشأن الدائم أن لا يتعايش الحق والباطل في هذه الأرض . وأنه متى قام الإسلام بإعلانه العام لإقامة ربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، رماه المغتصبون لسلطان الله في الأرض ولم يسالموه قط ، وانطلق هو كذلك يدمر عليهم ليخرج الناس من سلطانهم ويدفع عن " الإنسان " في " الأرض " ذلك السلطان الغاصب .. حال دائمة لا يقف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله لله .(1/438)
إن الكف عن القتال في مكة لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة . كذلك كان الأمر أول العهد بالهجرة . والذي بعث الجماعة المسلمة في المدينة بعد الفترة الأولى للانطلاق لم يكن مجرد تأمين المدينة .. هذا هدف أولي لا بد منه ، ولكنه ليس الهدف الأخير .. إنه هدف يضمن وسيلة الانطلاق ، ويؤمن قاعدة الانطلاق .. الانطلاق لتحرير " الإنسان " ، ولإزالة العقبات التي تمنع " الإنسان " ذاته من الانطلاق !
وكف أيدي المسلمين في مكة عن الجهاد بالسيف مفهوم . لأنه كان مكفولاً للدعوة في مكة حرية البلاغ .. كان صاحبها - صلى الله عليه وسلم - يملك بحماية سيوف بني هاشم ، أن يصدع بالدعوة ، ويخاطب بها الآذان والعقول والقلوب ، ويواجه بها الأفراد .. لم تكن هناك سلطة سياسية منظمة تمنعه من إبلاغ الدعوة ، أو تمنع الأفراد من سماعه ! فلا ضرورة - في هذه المرحلة - لاستخدام القوة ، وذلك إلى أسباب أخرى لعلها كانت قائمة في هذه المرحلة . وقد لخصتها في ظلال القرآن عند تفسير قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ .. } [ الآية 77 من سورة النساء ] . ولا بأس في إثبات بعض هذا التلخيص هنا :(1/439)
" ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ، في بيئة معينة ، لقوم معينين ، وسط ظروف معينة . ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات ، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم على شخصه أو على من يلوذون به ، ليخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته ، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محور الحياة في نظره ودافع الحركة في حياته . وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ، فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج ، فيتم الاعتدال في طبيعته وحركته . وتربيته على أن يتبع مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره به - مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي ، لإنشاء " المجتمع المسلم " الخاضع لقيادة موجهة ، المترقي المتحضر ، غير الهمجي أو القبلي !
" وربما كان ذلك أيضاً . لأن الدعوة السلمية كانت أشد أثراً وأنفذ ، في مثل بيئة قريش . ذات العنجهية والشرف . والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه المرحلة - إلى زيادة العناد ، وإلى نشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة التي أثارت حرب داحس والغبراء ، وحرب البسوس ، أعواماً طويلة ، تفانت فيها قبائل برمتها . وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام ، فلا تهدأ بعد ذلك أبداً ، ويتحول الإسلام من دعوة ودين إلى ثارات وذحول تنسى معها وجهته الأساسية ، وهو في مبدئه ، فلا تذكر أبداً !(1/440)
" وربما كان ذلك أيضاً ، اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت . فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة ، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم ، إنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد يعذبونه ويفتنونه " ويؤدبونه ! " ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت .. ثم يقال : هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في الموسم . في أواسط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمداً يفرق بين الوالد وولده ، فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي .. في كل بيت وفي كل محلة ؟
" وربما كان ذلك أيضاً لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ، ويعذبونهم ويؤذونهم ، هم بأنفسهم سيكونون جند الإسلام المخلص ، بل من قادته .. ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء ؟!
" وربما كان ذلك أيضاً ، لأن النخوة العربية ، في بيئة قبلية ، من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ، ولا يتراجع ! وبخاصة إذا كان واقعاً على كرام الناس فيهم .. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة ، ورأى في ذلك عاراً على العرب ! وعرض عليه جواره وحمايته .. وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب ، بعد ما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة .. بينما في بيئة أخرى من بيئات " الحضارة " القديمة التي مردت على الذل ، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة ، وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي !(1/441)
" وربما كان ذلك ، أيضاً ، لقلة عدد المسلمين حينذاك . وانحصارهم في مكة ، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة أو بلغت أخبارها متناثرة ، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها ، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف . ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة ، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك ، وتنمحي الجماعة المسلمة ، ولم يقم في الأرض للإسلام نظام ، ولا وجد له كيان واقعي . وهو دين جاء ليكون منهاج حياة ، وليكون نظاماً واقعياً عملياً للحياة .
" ... إلخ " ...
فأما في المدينة - في أول العهد بالهجرة - فقد كانت المعاهدة التي عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود من أهلها ومن بقي على الشرك من العرب فيها وفيما حولها ، ملابسة تقتضيها طبيعة المرحلة كذلك ..
أولاً : لأن هناك مجالاً للتبليغ والبيان ، لا تقف له سلطة سياسية تمنعه وتحول بين الناس وبينه ، فقد اعترف الجميع بالدولة المسلمة الجديدة ، وبقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تصريف شؤونها السياسية . فنصت المعاهدة على ألا يعقد أحد منهم صلحاً ولا يثير حرباً ، ولا ينشئ علاقة خارجية إلا بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان واضحاً أن السلطة الحقيقة في المدينة في يد القيادة المسلمة . فالمجال أمام الدعوة مفتوح ، والتخلية بين الناس وحرية الاعتقاد قائمة .
ثانياً : إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يريد التفرغ في ، هذه المرحلة - لقريش ، التي تقوم معارضتها لهذا الدين حجر عثرة في وجه القبائل الأخرى الواقعة في حالة انتظار لما ينتهي إليه الأمر بين قريش وبعض بنيها ! لذلك بادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإرسال " السرايا " وكان أول لواء عقده لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة .(1/442)
ثم توالت هذه السرايا ، على رأس تسعة أشهر . ثم على رأس ثلاثة عشر شهراً . ثم على رأس ستة عشر شهراً . ثم كانت سرية عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً ، وهي أول غزاة وقع فيها قتل وقتال ، وكان ذلك في الشهر الحَرام ، والتي نزلت فيها آيات البقرة : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا .. } [ البقرة : 217 ] .
ثم كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان من هذه السنة .. وهي التي نزلت فيها سورة الأنفال .
ورؤية الموقف من خلال ملابسات الواقع ، لا تدع مجالاً للقول بأن " الدفاع " بمفهومه الضيق كان هو قاعدة الحركة الإسلامية ، كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر !
إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي ، إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقية ، في وقت لم يعد للمسلمين شوكة ، بل لم يعد للمسلمين إسلام ! - إلا من عصم الله ممن يصرون على تحقيق إعلان الإسلام العام بتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان إلا من سلطان الله ، ليكون الدين كله لله - فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام !
والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية :
{(1/443)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ، وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ، الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } .. [ النساء : 74 - 76 ]
{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [ الأنفال : 38 - 40 ]
{(1/444)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } ... [ التوبة : 29 - 32 ] .
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض ، وتحقيق منهجه في حياة الناس ، ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين ، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس ، والناس عبيد لله وحده ، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه ! وهذا يكفي .. مع تقرير مبدأ : " لا إكراه في الدين " .. أي لا إكراه على اعتناق العقيدة ، بعد الخروج من سلطان العبيد ، والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله ، أو أن الدين كله لله ، بهذا الاعتبار .(1/445)
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض . بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك .. وهذه وحدها تكفي .. لقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين ، فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول : خرجنا ندافع عن وطننا المهدد ! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين ! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة !
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر . وحذيفة بن محصن والمغيرة بن شعبة جميعاً لرستم قائد جيش الفرس في القادسية ، وهو يسألهم واحداً بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية ، قبل المعركة : ما الذي جاء بكم ؟ فيكون الجواب : " الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ومن ضيق الدنيا إلى سعتها . ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .. فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه ، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه ، وتركناه وأرضه . ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر " .
إن هناك مبرراً ذاتياً في طبيعة هذا الدين ذاته ، وفي إعلانه العام ، وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه ، في مراحل محددة ، بوسائل متجددة .. وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء - ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها - إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته ، وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية .. لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة ، وموقوتة !
وإنه ليكفي لأن يخرج المسلم مجاهداً بنفسه وماله .. " في سبيل الله " .. في سبيل هذه القيم التي لا يناله هو من ورائها مغنم ذاتي ، ولا يخرجه لها مغنم ذاتي ..(1/446)
إن المسلم قبل أن ينطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان .. مع هواه وشهواته .. مع مطامعه ورغباته .. مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه .. مع كل شارة غير شارة الإسلام .. ومع كل دافع إلا العبودية لله ، وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان الله ..
والذين يبحثون عن مبررات للجهاد الإسلامي في حماية " الوطن الإسلامي " يغضون من شأن " المنهج " ويعتبرونه أقل من " الموطن " وهذه ليست نظرة الإسلام إلى هذه الاعتبارات . إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس الإسلامي ، فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحس الإسلامي . أما الأرض - بذاتها - فلا اعتبار لها ولا وزن ! وكل قيمة للأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج الله وسلطانه فيها ، وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج و " دار الإسلام " ونقطة الانطلاق لتحرير " الإنسان " .
وحقيقة إن حماية " دار الإسلام " حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج . ولكنها ليست الهدف النهائي ، وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي ، إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها ، ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها وإلى النوع الإنساني بجملته . فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين والأرض هي مجاله الكبير !
وكما أسلفنا فإن الانطلاق بالمذهب الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة ، ونظام المجتمع ، وأوضاع البيئة .. وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة ، كي يخلو له وجه الأفراد من الناس ، يخاطب ضمائرهم وأفكارهم ، بعد أن يحررها من الأغلال المادية ، ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار .(1/447)
يجب ألا تخدعنا أو تفزعنا حملات المستشرقين على مبدأ " الجهاد " وألا يثقل على عاتقنا ضغط الواقع وثقله في ميزان القوى العالمية ، فنروح نبحث للجهاد الإسلامي عن مبررات أدبية خارجة عن طبيعة هذا الدين ، في ملابسات دفاعية وقتية ، كان الجهاد سينطلق في طريقه سواء وجدت أم لم توجد !
ويجب ونحن نستعرض الواقع التاريخي ألا نغفل عن الاعتبارات الذاتية في طبيعة هذا الدين وإعلانه العام ومنهجه الواقعي ، وألا نخلط بينها وبين المقتضيات الدفاعية الوقتية ..
حقاً إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له ، لأن مجرد وجوده في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله ، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية ، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية ، لأن الحاكمية فيه لله وحده .. إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله - القائمة على قاعدة العبودية للعباد - أن تحاول سحقه ، دفاعاً عن وجودها ذاته ، ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه ..
هذه ملابسة لا بد منها ، تولد مع ميلاد الإسلام ذاته ، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضاً ، ولا خيار له في خوضها ، وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً .. .
هذا كله حق .. ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده ، ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضاً ..
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة .. إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء . لإنقاذ " الإنسان " في " الأرض " من العبودية لغير الله ، ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية ، ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية ، تاركاً " الإنسان " .. نوع الإنسان .. في " الأرض " .. كل الأرض .. للشر والفساد والعبودية لغير الله .(1/448)
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام ، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية ، ورضى أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام ! ولكن الإسلام لا يهادنها ، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية ، ضماناً لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها .
هذه طبيعة هذا الدين ، وهذه وظيفته ، بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين !
وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة ، وتصوره قابعاً داخل حدود إقليمية أو عنصرية ، لا يحركه إلا خوف الاعتداء ! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق !
إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية ، وليس منهج إنسان ، ولا مذهب شيعة من الناس ، ولا نظام جنس من الأجناس ! .. ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة .. حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد .. إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي !
والمسافة قد لا تبدو كبيرة عند مفرق الطريق ، بين تصور أن الإسلام كان مضطراً لخوض معركة لا اختيار له فيها ، بحكم وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الأخرى التي لا بد أن تهاجمه ، وتصور أنه هو بذاته لا بد أن يتحرك ابتداء ، فيدخل في هذه المعركة ..
المسافة عند مفرق الطريق قد لا تبدو كبيرة ، فهو في كلتا الحالتين سيدخل المعركة حتماً ، ولكنها في نهاية الطريق تبدو هائلة شاسعة ، تغير المشاعر والمفهومات الإسلامية تغييراً كبيراً .. خطيراً .(1/449)
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجاً إلهياً ، جاء ليقرر ألوهية الله في الأرض ، وعبودية البشر جميعاً لإله واحد ، ويصب هذا التقرير في قالب واقعي ، هو المجتمع الإنساني الذي يتحرر فيه الناس من العبودية للعباد ، بالعبودية لرب العباد ، فلا تحكمهم إلا شريعة الله ، التي يتمثل فيها سلطان الله ، أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته .. فمن حقه إذن أن يزيل العقبات كلها من طريقه ، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي ، أو أوضاع الناس الاجتماعية .. إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو ، واعتباره نظاماً محلياً في وطن بعينه فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية !
هذا تصور .. وذاك تصور .. ولو أن الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد .. ولكن التصور الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه ، يختلف اختلافاً بعيداً ، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخطة والاتجاه .
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء . فالإسلام ليس نحلة قوم ، ولا نظام وطن ، ولكنه منهج إله ، ونظام عالم .. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية " الإنسان " في الاختيار . وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته ، إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة ، المفسدة للفطرة ، المقيدة لحرية الاختيار .(1/450)
من حق الإسلام أن يُخرج " الناس "من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده .. ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعالمين ، وتحرير الناس أجمعين .. وعبادة الله وحده لا تتحقق - في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي - إلا في ظل النظام الإسلامي ، فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم ، حاكمهم ومحكومهم ، أسودهم وأبيضهم ، قاصيهم ودانيهم ، فقيرهم وغنيهم ، تشريعاً واحداً يخضع له الجميع على السواء .. أما في سائر الأنظمة ، فيعبد الناس العباد ، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد . وهو من خصائص الألوهية ، فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه ، فقد ادّعى الألوهية اختصاصاً وعملاً ، سواء ادَّعاها قولاً أم لم يعلن هذا الادعاء . وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية ، سواء سماها باسمها أم لم يسمها !
والإسلام ليس مجرد عقيدة ، حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان . إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس ، والتجمعات الأخرى لا تمكِّنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو ، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام ، وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله لله ، فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته . كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقم على عبودية العباد للعباد !(1/451)
إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر ، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة ، لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة . والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست هي الحقيقة ، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة .. ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام ، بنفي هذا الاتهام ، فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية ! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته ، وحقه في " تحرير الإنسان " ابتداء .
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة " الدين " .. وإنه مجرد " عقيدة " في الضمير ، لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة . ومن ثم يكون الجهاد للدين ، جهاداً لفرض العقيدة على الضمير !
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام ، فالإسلام منهج الله للحياة البشرية ، وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية ! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام . أما العقيدة فأمر موكول إلى حرية الاقتناع ، في ظل النظام العام ، بعد رفع جميع المؤثرات .. ومن ثم يختلف الأمر من أساسه ، وتصبح له صورة جديدة كاملة .
وحيثما وجد التجمع الإسلامي ، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي ، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام ، مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان ، فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد ، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ ، مسألة مقتضيات الحركة لا مسألة عقيدة .. وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة ، في المراحل التاريخية المتجددة ، ولا نخلط بين دلالتها المرحلية ، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل .
?
نقلةٌ بعيدة(1/452)
هناك حقيقة أولية، ينبغي أن تكون واضحة في نفوسنا تماماً ونحن نقدم الإسلام للناس: الذين يؤمنون به والذين لا يؤمنون به على السواء .. هذه الحقيقة تنبثق من طبيعة الإٍسلام ذاته، وتنبع من تاريخه.
إن الإسلام تصور مستقل للوجود والحياة، تصور كامل ذو خصائص متميزة، ومن ثَمَّ ينبثق منه منهج ذاتي مستقل للحياة كلها، بكل مقوماتها وارتباطاتها، ويقوم عليه نظام ذو خصائص معينة.
هذا التصور يخالف مخالفة أساسية سائر التصورات الجاهلية قديماً وحديثاً. وقد يلتقي مع هذه التصورات في جزئيات عرضية جانبية، ولكن الأصول التي تنبثق منها هذه الجزئيات مختلفة عن سائر ما عرفته البشرية من نظائرها.
ووظيفة الإسلام الأولى هي أن ينشئ حياة إنسانية توافق هذا التصور، وتمثله في صورة واقعية، وأن يقيم في الأرض نظاماً يتبع المنهج الرباني الذي اختاره الله، وهو يخرج هذه الأمة المسلمة لتمثله وتقوم عليه، وهو -سبحانه- يقول:
{ كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }... [آل عمران: 110]
ويقول في صفة هذه الأمة:
{ الذين إن مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر }... [الحج: 41]
وليست وظيفة الإسلام إذن أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض، ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان .. لم تكن هذه وظيفته يوم جاء، ولن تكون هذه وظيفته اليوم ولا في المستقبل.. فالجاهلية هي الجاهلية هي الانحراف عن العبودية لله وحده وعن المنهج الإلهي في الحياة، واستنباط النظم والشرائع والقوانين والعادات والتقاليد والقيم والموازين من مصدر آخر غير المصدر الإلهي .. الإسلام وهو الإسلام، ووظيفته هي نقل الناس من الجاهلية إلى الإسلام!
الجاهلية هي عبودية الناس للناس:
بتشريع بعض الناس للناس ما لم يأذن به الله، كائنة ما كانت الصورة التي يتم بها هذا التشريع ... !(1/453)
والإسلام هو عبودية الناس لله وحده بتلقيهم منه وحده تصوراتهم وعقائدهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم والتحرر من عبودية العبيد!
هذه الحقيقة المنبثقة من طبيعة الإسلام، وطبيعة دوره في الأرض، هي التي يجب أن نقدم بها الإسلام للناس: الذين يؤمنون به والذين لا يؤمنون به على السواء!
إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية. لا من ناحية التصور، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور ..
فإما إسلام وإما جاهلية. وليس هنالك وضع آخر نصفه إسلام ونصفه جاهلية، يقبله الإسلام ويرضاه .. فنظرة الإسلام واضحة في الحق واحد لا يتعدد، وأن ما عدا هذا الحق فهو الضلال. وهما غير قابلين للتلبس والامتزاج. وأنه إما حكم الله وإما حكم الجاهلية، وإما شريعة الله، وإما الهوى..
والآيات القرآنية في هذا المعنى متواترة كثيرة:
{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك }.. [المائدة: 49]
{ فلذلك فادع، واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم }. [الشورى: 15]
{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتَّبعون أهواءهم. ومن أضل ممن ابتع هواه بغير هُدى من الله؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمي }.. [القصص: 50]
{ ثم جعلنا على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، إنه لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين }.. [الجاثية: 18-19]
{ أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون }.. [المائدة: 50]
فهما أمران لا ثالث لهما. إما الاستجابة لله والرسول، وإما اتباع الهوى. إما حكم الجاهلية. إما الحكم بما أنزل الله كله وإما الفتنة عما أنزل الله.. وليس بعد هذا التوكيد الصريح الجازم من الله سبحانه مجال للجدال أو للمحال ..(1/454)
وظيفة الإسلام إذن هي إقصاء الجاهلية من قيادة البشرية، وتولى هذه القيادة على منهجه الخاص، المستقل الملامح، الأًيل الخصائص.. يريد بهذه القيادة الرشيدة الخير للبشرية واليسر. الخير الذي ينشأ من رد البشرية إلى خالقها، واليسر الذي ينشأ من التنسيق بين حركة البشرية، وتولى هذه القيادة منهجه الخاص، المستقل، ترتفع إلى المستوى الكريم الذي أراده الله لها، وتخلص من حكم الهوى. أو كما قال ربعي بن عام حين سأله رستم قائد الفرس: ما الذي جاء بكم؟ فكان جوابه: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
لم يجئ الإسلام إذن ليربت على شهوات الناس الممثلة في تصوراتهم وأنظمتهم وأوضاعهم وعاداتهم وتقاليدهم 000
سواء منها ما عصر مجيء الإسلام، أو ما تخوض البشرية فيه الآن، في الشرق أو في الغرب سواء 00 إنما جاء هذا كله إلغاءً، وينسخه نسخاً، ويقيم الحياة البشرية على أسسه الخاصة. جاء لينشئ الحياة إنشاءً. لينشئ حياة تنبثق منه انبثاقاً، وترتبط بمحوره ارتباطاً. وقد تشابه جزئيات منه جزئيات في الحياة التي يعيشها الناس في الجاهلية. ولكنها ليست هي، وليست منها. إنما هي مجرد مصادفة هذا التشابه الظاهري الجانبي في الفروع. أما أصل الشجرة فهو مختلف تماماً. تلك شجرة تطلعها حكمة الله، وهذه شجرة تطلعها أهواء البشر:
{ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً }.. [الأعراف: 58]
وهذه الجاهلية خبثت قديماً وخبثت حديثاً ..(1/455)
يختلف خبثها في مظهره وشكله، ولكنه واحد في مغرسه وأصله.. إنه هوى البشر الجهال المغرضين، الذين لا يملكون التخلص من جهلهم وغرضهم، ومصلحة أفراد منهم أو طبقات أو أمم أو أجناس يغلبونها على العدل والحق والخير. حتى تجئ شريعة الله فتنسخ هذا كله، وتشرِّع للناس جميعاً تشريعاً لا يشوبه جهل البشر، ولا يلِّوثه هواهم، ولا تميل به مصلحة فريق منهم.
ولأن هذا هو الفارق الأًيل بين طبيعة منهج الله ومناهج الناس، فإنه يستحيل الالتقاء بينهما في نظام واحد، ويستحيل التوفيق بينهما في وضع واحد. ويستحيل تلفيق منهج نصفه من هنا ونصفه من هناك. وكما أن الله لا يغفر أن يشرك به. فكذلك هو لا يقبل منهجاً مع منهجه ..
هذه كتلك سواء بسواء. لأن هذه هي تلك على وجه اليقين.
هذه الحقيقة ينبغي أن تكون من القوة والوضوح في نفوسنا ونحن نقدم الإسلام للناس بحيث لا نتلجلج في الإدلاء بها ولا نتلعثم، ولا ندع الناس في شك منها، ولا نتركهم حتى يستيقنوا أن الإسلام حين يفيئون إليه سيدّل حياتهم تبديلاً .. سيبدل تصوراتهم عن الحياة كلها. كما سيبدل أوضاعهم كذلك. سيبدلها ليعطيهم خيراً منها بما لا يقاس. سيبدلها ليرفع تصوراتهم ويرفع أوضاعهم، ويجعلهم أقرب إلى المستوى الكريم اللائق بحياة الإنسان. ولن يبقى لهم شيئاً من أوضاع الجاهلية الهابطة التي هم فيها، اللهم إلا الجزيئات التي يتصادف أن يكون لها من جزئيات النظام الإسلامي شبيه. وحتى هذه لن تكون هي بعينها، لأنها ستكون مشدودة إلى أصل كبير يختلف اختلافاً بيناً عن الأصل الذي هم مشدودون إليه الآن: أصل الجاهلية النكد الخبيث! وهو في الوقت ذاته لن يسلبهم شيئاً من المعرفة "العلمية البحتة" بل سيدفعها قوية إلى الأمام..(1/456)
يجب ألاّ ندع الناس حتى يدركوا أن الإسلام ليس هو أي مذهب من المذاهب الاجتماعية الوضعية، كما أنه ليس أي نظام من أنظمة الحكم الوضعية .. بشتى أسمائها وشياتها وراياتها جميعاً .. وإنما هو الإسلام فقط! الإسلام بشخصيته المستقلة وتصوره المستقل، وأوضاعه المستقلة. الإسلام الذي يحقق للبشرية خيراً مما تحلم به كله من وراء هذه الأوضاع. الإٍسلام الرفيع النظيف المتناسق الجميل الصادر مباشرة من الله العلي الكبير.
وحين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام، في ثقة وقوة، وفي عطف كذلك ورحمة.. ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق وأن ما عليه الناس هو الباطل. وعطف الذي يرى شقوة البشر، وهو يعرف كيف يسعدهم. ورحمة الذي يرى ضلال الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى !
لن نتدسس إليهم بالإسلام تدسساً. ولن نربت على شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة.. سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة .. هذه الجاهلية التي أنتم فيها نجس والله يريد أن يطهركم .. هذه الأوضاع التي أنتم فهيا خبث، والله يريد أن يطيِّبكم .. هذه الحياة التي تحيونها دون، والله يريد أن يرفعكم .. هذا الذي أنتم فيه شقوة وبؤس ونكد، والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعدكم.. والإسلام سيغير تصوراتكم وأوضاعكم وقيمكم، وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكون معها هذه الحياة التي تعيشونها، وإلى أوضاع أخرى تحتقرون معها أوضاعكم في مشارق الأرض ومغاربها، وإلى قيم أخرى تشمئزون معها من قيمكم السائدة في الأرض جميعاً .. وإذا كنتم أنتم -لشقوتكم- لم تروا صورة واقعية للحياة الإسلامية، لأن أعداءكم -أعداء هذا الدين- يتكتلون للحيلولة دون قيام هذه الحياة، ودون تجسد هذه الصورة، فنحن قد رأيناها -والحمد لله ممثلة في ضمائرنا من خلال قرآننا وشريعتنا وتاريخنا وتصورنا المبدع للمستقبل الذي لا نشك في مجيئه!(1/457)
هكذا ينبغي أن نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام. لأن هذه هي الحقيقة، ولأن هذه هي الصورة التي خاطب الإسلام الناس بها أول مرة. سواء في الجزيرة العربية أم في فارس أم في الروم. أم في أي مكان خاطب الناس فيه.
نظر إليهم من عل، لأن هذه هي الحقيقة. وخاطبهم بلغة الحب والعطف لأنه حقيقة كذلك في طبيعته. وفاصلهم مفاصلة كاملة لا غموض فيها ولا تردد لأن هذه هي طريقته .. ولم يقل لهم أبداً: إنه لن يمس حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم وقيمهم إلا بتعديلات طفيفة! أو أنه يشبه نظمهم وأوضاعهم التي ألفوها .. كما يقول بعضنا اليوم للناس وهو يقدم إليهم الإسلام .. مرة تحت عنوان: "ديمقراطية الإسلام"! ومرة تحت عنوان "اشتراكية الإسلام"! ومرة بأن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والقانونية القائمة في عالمهم لا تحتاج من الإسلام إلا لتعديلات طفيفة !!! إلى آخر هذا التدسس الناعم والتربيت على الشهوات!
كلا. إن الأمر مختلف جداً. والانتقال من هذه الجاهلية التي تعم وجه الأرض إلى الإسلام نقلة واسعة بعدية، وصورة الحياة الإسلامية مغايرة تماماً لصور الحياة الجاهلية قديماً وحديثاً. وهذه الشقوة التي تعانيها البشرية لن يرفعها عنها تغييرات طفيفة في جزئيات النظم والأوضاع. ولن ينجى البشر منها إلا تلك النقلة الواسعة البعيدة، النقلة من مناهج الخلق إلى منهج الخالق، ومن نظم البشر إلى نظام رب البشر، ومن أحكام العبيد إلى حكم رب العبيد.
هذه حقيقة. وحقيقة مثلها أن نجهر بها ونصدع، وألا ندع الناس في شك منها ولا لبس.(1/458)
وقد يكره الناس هذا في أول الأمر، وقد يجفلون منه ويشفقون. ولكن الناس كذلك كرهوا مثل هذا وأشفقوا منه في أول العهد بالدعوة إلى الإسلام. أجفلوا وآذاهم أن يحقر محمد -صلى الله عليه وسلم- تصوراتهم، ويعيب آلهتهم، وينكر أوضاعهم، ويعتزل عاداتهم وتقاليدهم، ويتخذ لنفسه وللقلة المؤمنة معه أوضاعاً وقيماً وتقاليد غير أوضاع الجاهلية وقيمها وتقاليدها.
ثم ماذا؟ ثم فاؤوا إلى الحق الذي لم يعجبهم أول مرة، والذي أجفلوا منه:
{كأنهم حمر مستنفرة فرّت من قسورة}.. [المدثر: 50-51]
والذي حاربوه ودافعوه بكل ما يملكون من قوة وحيلة، والذي عذبوا أهله عذاباً شديداً وهم ضعاف في مكة، ثم قاتلوهم قتالاً عنيداً وهم أقوياء في المدينة..
ولم تكن الدعوة في أول عهدها في وضع أقوى ولا أفضل منها الآن .. كانت مجهولة مستنكرة من الجاهلية، وكانت محصورة في شعاب مكة، مطاردة من أصحاب الجاه والسلطان فيها، وكانت غريبة في زمانها في العالم كله. وكانت تحف بها امبراطوريات ضخمة عاتية تنكر كل مبادئها وأهدافها. ولكنهها مع هذا كله كانت قوية، كما هي اليوم قوية، وكما هي غداً قوية.. إن عناصر القوة الحقيقية كامنة في طبيعة هذه العقيدة ذاتها، ومن ثَمَّ فهي تملك أن تعمل في أسوأ الظروف وأشدها حرجاً. إنها تكمن في الحق البسيط الوضاح الذي نقوم عليه. وفي تناسقها مع الفطرة التي لا تملك أن تقاوم سلطانها طويلاً، وفي قدرتها على قيادة البشرية صعداً في طريق التقدم، في أية مرحلة كانت البشرية من التأخر أو التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والعقلي.. فلا تخرم حرفاً واحداً من أصولها، ولا تربت على شهوات الجاهلية، ولا تتدسس إليها تدسساً. إنما تصدع بالحق صدعاً مع إشعار الناس بأنها خير ورحمة وبركة..
والله الذي خلق البشر يعلم طبيعة تكوينهم ومداخل قلوبهم ويعلم كيف تستجيب حين تصدع بالحق صدعاً. في صراحة وقوة. بلا تلعثم ولا وصوصة!(1/459)
إن النفس البشرية فيها الاستعداد للانتقال الكامل من حياة إلى حياة. وذلك قد يكون أيسر عليها من التعديلات الجزئية في أحيان كثيرة..
والانتقال الكامل من نظام حياة إلى نظام آخر أعلى منه وأكمل وأنظف، انتقال له ما يبرره في منطق الننفس .. ولكن ما الذي يبرر الانتقال من نظام الجاهلية إلى نظام الإسلام، إذا كان النظام الإسلامي لا يزيد إلا تغييراً طفيفاً هنا، وتعديلاً طفيفاً هناك؟ إن البقاء على النظام المألوف أقرب إلى المنطق. لأنه على الأقل نظام قائم، قابل للإصلاح والتعديل، فلا ضرورة لطرحه، والانتقال إلى نظام غير قائم ولا مطبق، مادام أنه شبيه به في معظم خصائصه!
كذلك نجد بعض الذين يتحدثون عن الإسلام يقدمونه للناس كأنه منهم يحاولون هم دفع التهمة عنه! ومن بين ما يدفعون به أن الأنظمة الحاضرة تفعل كذا وكذا مما تعيب على الإسلام مثله، وأن الإسلام لم يصنع شيئاً -في هذه الأمور- إلا ما تصنعه "الحضارات" الحديثة بعد ألف وأربعمئة عام!
وهان ذلك دفاعاً! وساء ذلك دفاعاً!
إن الإسلام لا يتخذ المبررات له من النظم الجاهلية والتصرفات النكدة التي نبعث منها. وهذه "الحضارات" التي تبهر الكثيرين وتهزم أرواحهم ليست سوى نظم جاهلية في صميمها. وهي نظم معيبة مهلهلة هابطة حين تقاس إلى الإسلام ..
ولا عبرة بأن حال أهلها بخير من حال السكان في ما يسمى الوطن الإسلامي أو "العالم الإسلامي"! فهؤلاء صاروا إلى هذا البؤس بتركهم للإسلام لا لأنهم مسلمون ..
وحجة الإسلام التي يدلي بها للناس: إنه خير منها بما لا يقاس، وإنه جاء ليغيّرها لا ليقرّها، وليرفع البشرية عن وهدتها لا ليبارك تمرغها في هذا الوحل الذي يبدو في ثوب "الحضارة"..
فلا تبلغ بنا الهزيمة أن نتلمس للإسلام مشابهات في بعض الأنظمة القائمة، وفي بعض المذاهب القائمة، وفي بعض الأفكار القائمة. فنحن نرفض هذه الأنظمة في الشرق أو في الغرب سواء ..(1/460)
إننا نرفضها كلها لأنها منحطة ومتخلفة بالقياس إلى ما يريد الإسلام أن يبلغ بالبشرية إليه.
وحين نخاطب الناس بهذه الحقيقة، ونقدم لهم القاعدة العقيدة للتصور الإسلامي الشامل، يكون لديهم في أعماق فطرتهم ما يبرر الانتقال من تصور إلى تصور، ومن وضع إلى وضع. ولكننا لا نخاطبهم بحجة مقنعة حين نقول لهم: تعالوا من نظام قائم فعلاً إلى نظام آخر غير مطبق، لا يغير في نظامكم القائم إلا قليلاً. وحجته إليكم أنكم تفعلون في هذا الأمر وذاك مثلما يفعل هو، ولا يكلفكم إلا تغيير القليل من عاداتكم وأوضاعكم وشهواتكم، وسيبقى لكم كل ما تحرصون عليه منها ولا يمسه مساً خفيفاً !!
هذا الذي يبدو سهلاً في ظاهرة، ليس مغربياً في طبيعته، فضلاً على أنه ليس هو الحقيقة ..
فالحقيقة أن الإسلام يبدل التصورات والمشاعر، كما يبدل النظم والأوضاع، كما يبدل الشرائع والقوانين تبديلاً أساسياً لا يمت بصلة إلى قاعدة الحياة الجاهلية، التي تحياها البشرية .. ويكفي أن ينقلهم جملة وتفصيلاً من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ..
{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}..
{ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}..
والمسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان، مسألة شرك وتوحيد، مسألة جاهلية وإسلام. وهذا ما ينبغي أن يكون واضحاً ..
إن الناس ليسوا ملمين -كما يدّعون- وهم يحيون حياة الجاهلية. وإذا كان فيهم من يحب أن يخدع نفسه أو يخدع الآخرين، فيعتقد أن الإسلام يمكن أن يستقيم مع هذه الجاهلية فله ذلك. ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئاً .. ليس هذا إسلاماً، وليس هؤلاء مسلمين. والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهلين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد.(1/461)
ونحن لا ندعو الناس إلى الإسلام لننال منهم أجراً. ولا نريد علوّاً في الأرض ولا فساداً. ولا نريد شيئاً خاصاً لأنفسنا إطلاقاً، وحسابنا وأجرنا ليس على الناس. إنما نحن ندعو الناس إلى الإسلام لأننا نحبهم ونريد لهم الخير ..
مهما آذونا ..
لأن هذه هي طبيعة الداعية إلى الإسلام، وهذه هي دوافعه ..
ومن ثَمَّ يجب أن يعلموا منا حقيقة الإسلام، وحقيقة التكاليف التي سيطلبها إليهم، في مقابل الخير العميق الذي يحمله لهم. كما يجب أن يعرفوا رأينا في حقيقة ما هم عليه من الجاهلية ..
إنها الجاهلة وليست في شيء من الإسلام، إنها "الهوى" ما دام أنها ليست هي "الشريعة". إنها "الضلال" ما دام أنها ليست هي الحق.. فماذا بعد الحق إلا الضلال!
وليس في إسلامنا ما نخجل منه، وما نضطر للدفاع عنه، وليس فيه ما نتدسس به للناس تدسساً، أو ما نتلعثم في الجهر به على حقيقته ..
إن الهزيمة الروحية أمام الغرب وأمام الشرق وأمام أوضاع الجاهلية هنا وهناك هي التي تجعل بعض الناس .. "المسلمين" .. يتلمس للإسلام موافقات جزئية من النظم البشرية، أو يتلمس من أعمال "الحضارة" الجاهلية ما يسند به أعمال الإسلام وقضاءه في بعض الأمور..
إنه إذا كان هناك من يحتاج للدفاع والتبرير والاعتذار فليس هو الذي يقدم الإسلام للناس. وإنما هو ذاك الذي يحيا في هذه الجاهلية المهلهلة المليئة بالمتناقضات وبالنقائض والعيوب، ويريد أن يتلمس المبررات للجاهلية. وهؤلاء هم الذين يهاجمون الإسلام ويلجئون بعض محبيه الذين يجهلون حقيقته إلى الدفاع عنه، كأنه متهم مضطر للدفاع عن نفسه في قفص الاتهام!(1/462)
بعض هؤلاء كانوا يواجهوننا -نحن القلائل المنتسبين إلى الإسلام- في أمريكا في السنوات التي قضيتها هناك -وكان بعضنا يتخذ موقف الدفاع والتبرير .. وكنت على العكس أتخذ موقف المهاجم للجاهلية الغربية .. سواء في معتقداتها الدينية المهلهلة. أو في أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية المؤذية .. هذه التصورات عن الأقانيم وعن الخطيئة وعن الفداء، وهي لا تستقيم في عقل ولا ضمير .. وهذه الرأسمالية باحتكارها ورباها وما فهيا من بشاعة كالحة .. وهذه الفردية الآُثرة التي ينعدم معها التكافل إلا تحت مطارق القانون .. وهذا التصور المادي التافه الجاف للحياة .. وحرية البهائم التي يسمونها "حرية الاختلاط" .. وسوق الرقيق التي يسمونها "حرية المرأة" .. والسخف والحرج والتكلف المضاد لواقع الحياة في نظم الزواج والطلاق، والتفريق العنصري الحادّ الخبيث .. ثم .. ما في الإسلام من منطق وسمو وإنسانية وبشاشة، وتطلع إلى آفاق تطلع البشرية دونها ولا تبلغها. ومن مواجهة الواقع في الوقت ذاته ومعالجته معالجة تقوم على قواعد الفطرة الإنسانية السليمة.
وكانت هذه حقائق نواجهها في واقع الحياة الغربية .. وهي حقائق كانت تخجل أصاحبها حين تعرض في ضوء الإسلام.. ولكن ناساً -يدّعون الإسلام- ينهزمون أمام ذلك النتن الذي تعيش فيه الجاهلية، حتى ليتلمسون للإسلام مشابهات في هذا الركاب المضطرب البائس في الغرب. وفي تلك الشناعة المادية البشعة في الشرق أيضاً!
ولست في حاجة بعد هذا إلى أن أقول: إننا نحن الذين نقدم الإسلام للناس، ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شئ من أوضاعها، ولا في شئ من تقاليدها. مهما يشتد ضغطها علينا.
إن وظيفتنا الأولى هي إحلال التصورات الإسلامية والتقاليد الإسلامية في مكان هذه الجاهلية. ولن يتحقق هذا بمجاراة الجاهلية والسير معها خطوات في أول الطريق، كما قد يخيل إلى البعض منا ..(1/463)
إن هذا معناه إعلان الهزيمة منذ أول الطريق..
إن ضغط التصورات الاجتماعية السائدة، والتقاليد الاجتماعية الشائعة، ضغط ساحق عنيف، وبخاصة في دنيا المرأة.. ولكن لا بد مما ليس منه بد. لابد أن نثبت أولاً، ولابد أن نستعلي ثانياً، ولابد أن نُرى الجاهلية حقيقة الدرك الذي هي فيه بالقياس إلى الآفاق العليا المشرفة للحياة الإسلامية التي نريدها.
ولن يكون هذا بأن نجاري الجاهلية في بعض الخطوات، كما أنه لن يكون بأن نقاطع الآن وننزوي عنها وننعزل ..
كلا، إنما هي المخالطة مع التميز، والأخذ والعطاء مع الترفع، والصدع بالحق في مودة، والاستعلاء بالإيمان في تواضع. والامتلاء بعد هذا كله بالحقيقة الواقعة. وهي أننا نعيش في وسط جاهلية، وأننا أهدى طريقاً من هذه الجاهلية، وإنها نقلة بعيدة واسعة، هذه النقلة من الجاهلية إلى الإسلام، وإنها هوة فاصلة لا يقام فوقها معبر للالتقاء في منتصف الطريق، ولكن لينتقل عليه أهل الجاهلية إلى الإسلام، سواء كانوا ممن يعيشون فيما يسمى الوطن الإسلامي، ويزعمون أنهم مسلمون، أو كانوا يعيشون في غير الوطن "الإسلامي"، وليخرجوا من الظلمات إلى النور، ولينجوا من هذه الشقوة التي هم فيها، وينعموا بالخير الذي ذقناه نحن الذين عرفنا الإسلام وحاولنا أن نعيش به .. وإلا فلنقل ما أمر الله سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله:
{ لكم دينكم ولي دين } 000 [الكافرون: 6]
? استعلاء الإيمان
{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران : 6]
أول ما يتبادر إلى الذهن من هذا التوجيه أنه ينصب على حالة الجهاد الممثلة في القتال . . ولكن حقيقة هذا التوجيه ومداه أكبر وأبعد من هذه الحالة المفردة ، بكل ملابساتها الكثيرة .
إنه يمثل الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوره وتقديره للأشياء والأحداث والقيم والأشخاص سواء .(1/464)
إنه يمثل حالة الاستعلاء التي يجب أن تستقر عليها نفس المؤمن إزاء كل شيء ، وكل وضع ، وكل قيمة ، وكل أحد ، الاستعلاء بالإيمان وقيمه على جميع القيم المنبثقة من أصل غير أصل الإيمان .
الاستعلاء على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان . وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من أصل الإيمان .وعلى تقاليد الأرض التي لم يصغها الإيمان ، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان ، وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان .
الاستعلاء . . مع ضعف القوة ، وقلة العدد ، وفقر المال ، كالاستعلاء مع القوة والكثرة والغنى على السواء .
الاستعلاء الذي لا يتهاوى أمام قوة باغية ، ولا عرف اجتماعي ولا تشريع باطل ، ولا وضع مقبول عند الناس ولا سند له من الإيمان .
وليست حالة التماسك والثبات في الجهاد إلا حالة واحدة من حالات الاستعلاء التي يشملها هذا التوجيه الإلهي العظيم .
والاستعلاء بالإيمان ليس مجرد عزمة مفردة ، ولا نخوة دافعة ، ولا حماسة فائرة ، إنما هو الاستعلاء القائم على الحق الثابت المركوز في طبيعة الوجود . الحق الباقي وراء منطق القوة ، وتصور البيئة ، واصطلاح المجتمع ، وتعارف الناس ، لأنه موصول بالله الحي الذي لا يموت .
إن للمجتمع منطقه السائد وعرفه العام وضغطه الساحق ووزنه الثقيل . . على من ليس يحتمي منه بركن ركين ، وعلى من يواجهه بلا سند متين . . . وللتصورات السائدة والأفكار الشائعة إيحاؤهما الذي يصعب التخلص منه بغير الاستقرار على حقيقة تصغر في ظلها تلك التصورات والأفكار ، والاستمداد من مصدر أعلى وأكبر وأقوى .
والذي يقف في وجه المجتمع ، ومنطقه السائد ، وعرفه العام ، وقيمه واعتباراته ، وأفكاره وتصوراته ، وانحرافاته ونزواته . . يشعر بالغربة كما يشعر بالوهن ، ما لم يكن يستند إلى سند أقوى من الناس ، وأثبت من الأرض ، وأكرم من الحياة .(1/465)
والله لا يترك المؤمن وحيدا يواجه الضغط ، وينوء به الثقل ، ويهدها الوهن والحزن ، ومن ثم يجيء هذا التوجيه :
{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [ آل عمران : 139]
يجيء هذا التوجيه . ليواجه الوهن كما يواجه الحزن . هما الشعوران المباشران اللذان يساوران النفس في هذا المقام . . يواجههما بالاستعلاء لا بمجرد الصبر والثبات ، والاستعلاء الذي ينظر من عل إلى القوة الطاغية ، والقيم السائدة ، والتصورات الشائعة ، والاعتبارات والأوضاع والتقاليد والعادات ، والجماهير المتجمعة على الضلال .
إن المؤمن هو الأعلى . . الأعلى سندا ومصدرا . . فما تكون الأرض كلها ؟ وما يكون الناس ؟ وما تكون القيم السائدة في الأرض ؟ والاعتبارات الشائعة عند الناس ؟ وهو من الله يتلقى ، وإلى الله يرجع ، وعلى منهجه يسير ؟
وهو الأعلى إدراكا وتصورا لحقيقة الوجود . . فالإيمان بالله الواحد في هذه الصورة التي جاء بها الإسلام هو أكمل صورة للمعرفة بالحقيقة الكبرى . وحين تقاس هذه الصورة إلى ذلك الركام من التصورات والعقائد والمذاهب ، سواء ما جاءت به الفلسفات الكبرى قديما ، وما انتهت إليه العقائد الوثنية والكتابية المحرفة ، وما اعتفسته المذاهب المادية الكالحة . . حين تقاس هذه الصورة المشرقة الواضحة الجميلة المتناسقة ، إلى ذلك الركام وهذه التعسفات ، تتجلى عظمة العقيدة الإسلامية كما لم تتجلى قط . وما من شك ان الذين يعرفون هذه المعرفة هم الأعلون على كل من هناك ( ) .(1/466)
وهو الأعلى تصورا للقيم والموازين التي توزن بها الحياة والأحداث والأشياء والأشخاص . فالعقيدة المنبثقة عن المعرفة بالله ، بصفاته كما جاء بها الإسلام ، ومن المعرفة بحقائق القيم في الوجود الكبير لا في ميدان الأرض الصغير . هذه العقيدة من شانها أن تمنح المؤمن تصورا للقيم أعلى وأضبط من تلك الموازين المختلفة في أيدي البشر ، الذين لا يدركون إلا ما تحت أقدامهم . ولا يثبتون على ميزان واحد في الجيل الواحد . بل في الأمة الواحدة . بل في النفس الواحدة من حين إلى حين .
وهو الأعلى ضميرا وشعورا ، وخلقا وسلوكا . . فإن عقيدته في الله ذي الأسماء الحسنى والصفات المثلى ، هي بذاتها موحية بالرفعة والنظافة والطهارة والعفة والتقوى ، والعمل الصالح والخلافة الراشدة . فضلا على إيحاء العقيدة عن الجزاء في الآخرة . الجزاء الذي تهون أمامه متاعب الدنيا وآلامها جميعا .
ويطمئن إليه ضمير المؤمن . ولو خرج من الدنيا بغير نصيب .
وهو الأعلى شريعة ونظاما . وحين يراجع المؤمن كل ما عرفته البشرية قديما وحديثا ، ويقيسه إلى شريعته ونظامه ، فسيراه كله أشبه شيء بمحاولات الأطفال وخبط العميان ، إلى جانب الشريعة الناضجة والنظام الكامل . وسينظر إلى البشرية الضالة من عل في عطف وإشفاق على بؤسها وشقوتها ، ولا يجد في نفسه إلا الاستعلاء على الشقوة والضلال .
وهكذا كان المسلمون الأوائل يقفون أمام المظاهر الجوفاء ، والقوى المنتفخة ، والاعتبارات التي كانت تتعبد الناس في الجاهلية . .
والجاهلية ليست فترة من الزمان ، وإنما هي حالة من الحالات تتكرر كلما انحرف المجتمع عن نهج الإسلام ، في الماضي والحاضر والمستقبل على السواء . .
وهكذا وقف المغيرة ابن شعبة أمام صور الجاهلية وأوضاعها وقيمها وتصوراتها في معسكر رستم قائد الفرس المشهور :
(((1/467)
عن أبي عثمان النهدي قال : لما جاء المغيرة إلى القنطرة ، فعبرها إلى أهل فارس أجلسوه ، واستأذنوا رستم في إجازته ، ولم يغيروا من شارتهم تقوية لتهاونهم ، فأقبل المغيرة ابن شعبة والقوم في زيهم ، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب ، وبسطهم على غلوة - والغلوة مسافة رمية سهم وتقدر بثلاثمائة أو أربعمائة خطوة - لا يصل إلى صاحبهم حتى يمشي على غلوة ، وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى يجلس على سريره ووسادته ، فوثبوا عليه فترتروه وأنزاوه ومغثوه ( ) ، فقال : كانت تبلغنا عنكم الأحلام ، ولا أرى قوما اسفه منكم ، انا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضا ، إلا أن يكون محاربا لصاحبه ، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى . وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني ان بعضكم أرباب بعض ، وان هذا الأمر لا يستقيم فيكم ، فلا تصنعه ، ولم آتكم ولكن دعوتموني . اليوم علمت ان أمركم مضمحل ، وأنكم مغلوبون ، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول )) .
كذلك وقف ربعي بن عامر مع رستم هذا وحاشيته قبل وقعة القادسية :
(((1/468)
أرسل سعد بن أبي وقاص قبل القادسية ربعي بن عامر رسولا إلى رستم ، قائد الجيوش الفارسية وأميرهم ، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير وأظهر اليواقيت واللآلىء الثمينة العظيمة ، وعليه تاجه ، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب ، ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة . ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد . وأقبل وعليه سلاحه وبيضته على رأسه . فقالوا له : ضع سلاحك . فقال : اني لم آتكم ، وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت . فقال رستم : ائذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق لخرق عامتها . فقال رستم : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام )) .
وتتبدل الأحوال ويقف المسلم موقف المغلوب المجرد من القوة المادية ، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى . وينظر إلى غالبه من عل ما دام مؤمنا . ويستيقن أنها فترة وتمضي ، وإن للإيمان كرة لا مفر منها . وهبها كانت القاضية فإنه لا يحني لها رأسا . إن الناس كلهم يموتون أما هو فيستشهد . وهو يغادر هذه الأرض إلى الجنة ، وغالبه يغادرها إلى النار . وشتان شتان . وهو يسمع نداء ربه الكريم :
{ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد * لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار } ... [ آل عمران : 196-198](1/469)
وتسود المجتمع عقائد وتصورات وقيم وأوضاع كلها مغاير لعقيدته وتصوره وقيمه وموازينه ، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى ، وبأن هؤلاء كلهم في الموقف الدون . وينظر إليهم من عل في كرامة واعتزاز ، وفي رحمة كذلك وعطف ، ورغبة في هدايتهم إلى الخير الذي معه ، ورفعهم إلى الأفق الذي يعيش فيه .
ويضج الباطل ويصخب ، ويرفع صوته وينفش ريشه ، وتحيط به الهالات المصطنعة التي تغشي على الأبصار والبصائر ، فلا ترى ما وراء الهالات من قبح شائه دميم ، وفجر كالح لئيم . . وينظر المؤمن من عل إلى الباطل المنتفش ، وإلى الجموع المخدوعة ، فلا يهن ولا يحزن ، ولا ينقص إصراره على الحق الذي معه ، وثباته على المنهج الذي يتبعه ، ولا تضعف رغبته كذلك في هداية الضالين والمخدوعين .
ويغرق المجتمع في شهواته الهابطة ، ويمضي مع نزواته الخليعة ويلصق بالوحل والطين ، حاسبا انه يستمتع وينطلق من الأغلال والقيود . وتعز في مثل هذا المجتمع كل متعة بريئة وكل طيبة حلال ، ولا يبقى إلا المشروع الآسن ، وإلا الوحل والطين . . وينظر المؤمن من عل إلى الغارقين في الوحل اللاصقين بالطين . . وهو مفرد وحيد ، فلا يهن ولا يحزن ، ولا تراوده نفسه أن يخلع رداءه النظيف الطاهر ، وينغمس في الحمأة ، وهو الأعلى بمتعة الإيمان ولذة اليقين .
ويقف المؤمن قابضا على دينه كالقابض على الجمر في المجتمع الشارد عن الدين ، وعن الفضيلة ، وعن القيم العليا ، وعن الاهتمامات النبيلة ، وعن كل ما هو طاهر نظيف جميل . . ويقف الآخرون هازئين بوقفته ، ساخرين من تصوراته ، ضاحكين من قيمه . . فما يهن المؤمن وهو ينظر من عل إلى الساخرين والهازئين والضاحكين ، وهو يقول كما قال واحد من الرهط الكرام الذين سبقوه في موكب الإيمان العريق الوضئ ، في الطريق اللاحب الطويل . . نوح عليه السلام . .
{ إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } ... [ هود : 38](1/470)
وهو يرى نهاية الموكب الوضئ . ونهاية القافلة البائسة في قوله تعالى :
{ الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون . . وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . . وإذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين . . فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . . على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ! } ... [ المطففين : 29-36 ]
وقديما قص القرآن الكريم قول الكافرين للمؤمنين :
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا : أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ؟} .. [ مريم : 73]
أي الفريقين ؟ الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ أم الفقراء الذين يلتفون حوله ؟ أي الفريقين ؟ النضر بن الحارث وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة وأبو سفيان بن حرب ؟ أم بلال وعمار وصهيب وخباب ؟ أفلوا كان ما يدعو إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - خيرا أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر ، الذين لا سلطان لهم في قريش ولا خطر ، وهم يجتمعون في بيت متواضع كذار الأرقم ، ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب الندوة الفخمة الضخمة ، والمجد والجاه والسلطان ؟!
إنه منطق الأرض ، منطق المحجوبين عن الآفاق العليا في كل زمان ومكان . وإنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء عاطلة من عوامل الإغراء ، لا قربى من حاكم ، ولا اعتزاز بسلطان ، ولا هتاف بلذة ، ولا دغدغة لغريزة ، وإنما هو الجهد والمشقة والجهاد والاستشهاد . . ليقبل عليها من يقبل ، وهو على يقين من نفسه أنه يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس ، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات ، ولينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع ، ومن يشتهي الزينة والابهة ، ومن يطلب المال والمتاع ، ومن يقيم لاعتبارات الناس وزنا حين تخف في ميزان الله .(1/471)
إن المؤمن لا يستمد قيمه وتصوراته وموازينه من الناس حتى يأسى على تقدير الناس ، إنما يستمدها من رب الناس وهو حسبه وكافيه . .
إنه لا يستمدها من شهوات الخلق حتى يتأرجح مع شهوات الخلق ، وإنما يستمدها من ميزان الحق الثابت الذي لا يتأرجح ولا يميل . . إنه لا يتلقاها من هذا العالم الفاني المحدود ، وإنما تنبثق في ضميره من ينابيع الوجود . . فأنى يجد في نفسه وهنا أو يجد في قلبه حزنا . وهو موصول برب الناس وميزان الحق وينابيع الوجود ؟
إنه على الحق . . فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ وليكن للضلال سلطانه ، وليكن له هيله وهيلمانه ، ولتكن معه جموعه وجماهيره . . إن هذا لا يغير من الحق شيئا ، إنه على الحق وليس بعد الحق إلا الضلال ، ولن يختار مؤمن الضلال على الحق - وهو مؤمن - ولم يعدل بالحق الضلال كائنة ما كانت الملابسات والأحوال . .
{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب * ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد }. [ آل عمران : 8-9]
----------------
? هذا هو الطريق
قال تعالى : في سورة البروج
بسم الله الرحمن الرحيم(1/472)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) وفي صحيح مسلم 7703 - حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّى قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ.(1/473)
فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِى طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِى أَهْلِى. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِى السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَىْ بُنَىَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ . وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِى فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّى. قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِى قَالَ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ.(1/474)
فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فَجِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَىْ بُنَىَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ . فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِىءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِى قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ.(1/475)
فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِى حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِى عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِى ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ ارْمِنِى فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِى. فَجَمَعَ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِى صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِى صُدْغِهِ فِى مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ. فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِى أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصْبِرِى فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ ».(1/476)
إن قصة أصحاب الأخدود - كما وردت في سورة البروج - حقيقة بأن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل . فالقرآن بإيرادها في هذا الأسلوب مع مقدمتها والتعقيبات عليها ، والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها . . كان يخط بها خطوطاً عميقة في تصور طبيعة الدعوة إلى الله ، ودور البشر فيها ، واحتمالاتها المتوقعة في مجالها الواسع - وهو أوسع رقعة من الأرض ، وأبعد مدى من الحياة - وكان يرسم للمؤمنين معالم الطريق ، ويعدُّ نفوسهم لتلقي أي من هذه الاحتمالات التي يجري بها القدر المرسوم ، وفق الحكمة المكنونة في غيب الله المستور .
إنها قصة فئة آمنت بربها ، واستعلنت حقيقة إيمانها . ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق " الإنسان " في حرية الاعتقاد بالحق والإيمان بالله العزيز الحميد ، وبكرامة الإنسان عند الله عن أن يكون لعبة يتسلى بها الطغاة بآلام تعذيبها ، ويتلهون بمنظرها في أثناء التعذيب بالحريق .
وقد ارتفع الإيمان بهذه القلوب على الفتنة ، وانتصرت فيها العقيدة على الحياة ، فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة ، ولم تفتن عن دينها ، وهي تحرق بالنار حتى تموت .
لقد تحررت هذه القلوب من عبوديتها للحياة ، فلم يستذلها حب البقاء وهي تعاين الموت بهذه الطريقة البشعة ، وانطلقت من قيود الأرض وجواذبها جميعاً ، وارتفعت على ذواتها بانتصار العقيدة على الحياة فيها .
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخّيرة الرفيقة الكريمة هناك جبلات جاحدة شريرة مجرمة لئيمة ، وجلس أصحاب هذه الجبلات على النار ، يشهدون كيف يتعذب المؤمنون ويتألمون ، جلسوا يتلهون بمنظر الحياة تأكلها النار ، والأناسي الكرام يتحولون وقوداً وتراباً . وكلما ألقي فتى أو فتاة ، صبية أو عجوز ، طفل أو شيخ ، من المؤمنين الخيرين الكرام في النار ، ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوس الطغاة ، وعربد السعار المجنون بالدماء والأشلاء !(1/477)
هذا هو الحادث البشع الذي انتكست فيه جبلات الطغاة وارتكست في هذه الحمأة ، فراحت تلتذ مشهد التعذيب المروع العنيف ، بهذه الخساسة التي لم يرتكس فيها وحش قط ، فالوحش يفترس ليقتات ، لا ليلتذ آلام الفريسة في لؤم وخسة !
وهو ذاته الحادث الذي ارتفعت فيه أرواح المؤمنين وتحررت وانطلقت إلى ذلك الأوج السامي الرفيع ، الذي تشرف به البشرية في جميع الأجيال والعصور .
في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان ، وإن هذا الإيمان الذي بلغ الذروة العالية ، في نفوس الفئة الخيرة الكريمة الثابتة المستعلية . . لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان !
ولا تذكر الروايات التي وردت في هذا الحادث ، كما لا تذكر النصوص القرآنية ، أن الله قد أخذ أولئك الطغاة في الأرض بجريمتهم البشعة ، كما أخذ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط أو كما أخذ فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر .
ففي حساب الأرض تبدوا هذه الخاتمة اسيفة أليمة !
أفهكذا ينتهي الأمر ، وتذهب الفئة المؤمنة التي ارتفعت إلى ذروة الإيمان ؟ تذهب مع آلامها الفاجعة في الأخدود ؟ بينما تذهب الفئة الباغية ، التي ارتكست إلى هذه الحمأة ، ناجية ؟
حساب الأرض يحيك في الصدر شئ أمام هذه الخاتمة الأسيفة !
ولكن القرآن يعلَّم المؤمنين شيئاً آخر ، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى ، ويبصرهم بطبيعة القيم التي يزنون بها ، وبمجال المعركة التي يخوضونها .
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ، ومن متاع وحرمان . .
ليست هي الغاية القيمة الكبرى في الميزان . .
وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة ، والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة ، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة .(1/478)
إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة ، وإن السلعة الرائجة في سوق الله سلعة الإيمان ، وإن النصر في أرفع صورة هو انتصار الروح على المادة ، وانتصار العقيدة على الألم ، وانتصار الإيمان على الفتنة . . وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم ، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة ، وانتصرت على الفتنة انتصاراً يشرف الجنس البشري كله في جميع الأعصار . .
وهذا هو الانتصار ..
إن الناس جميعاً يموتون ، وتختلف الأسباب ، ولكن الناس جميعاً لا ينتصرون هذا الانتصار ، ولا يرتفعون هذا الارتفاع ، ولا يتحررون هذا التحرر ، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق . .
إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت ، وتنفرد دون الناس في المجد ، المجد في الملأ الأعلى ، وفي دنيا الناس أيضاً . إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال !
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم ، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم ؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر ؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير ، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد ؟
إنه معنى كريم جداً ، ومعنى كبير جداً ، هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض ، ربحوه هم يجدون مس النار ، فتحرق أجسادهم الفانية ، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار !
ثم إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها ، وليس الحياة الدنيا وحدها ، وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال . إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها ، ويزنها بميزان غير ميزان الأرض في جيل من أجيالها ، وغير ميزان الأرض في أجيالها جميعاً . والملأ الأعلى يضم من الأرواح الكريمة أضعاف أضعاف ما تضم الأرض من الناس . .(1/479)
وما من شك أن ثناء الملأ الأعلى وتكريمه أكبر وأرجح في أي ميزان من رأي أهل الأرض وتقديرهم على الإطلاق !
وبعد ذلك كله هناك الآخرة ، وهي المجال الأصيل الذي يلحق به مجال الأرض ، ولا ينفصل عنه ، لا في الحقيقة الواقعة ، ولا في حس المؤمن بهذه الحقيقة .
فالمعركة إذن لم تنته ، وخاتمتها الحقيقية لم تجيء بعد ، والحكم عليها بالجزء الذي عرض منها على الأرض حكم غير صحيح ، لأنه حكم على الشطر الصغير منها والشطر الزهيد .
النظرة الأولى : هي النظرة القصيرة الضيقة المجال التي تعنّ للإنسان العجول . والنظرة الثانية : الشاملة البعيدة المدى هي التي يروض القرآن المؤمنين عليها ، لأنها تمثل الحقيقة التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح .
ومن ثم وعد الله للمؤمنين جزاء على الإيمان والطاعة ، والصبر على الابتلاء ، والانتصار على فتن الحياة . . هو طمأنينة القلب :
{ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله * ألا بذكر الله تطمئن القلوب } ... [ الرعد : 28 ] .
وهو الرضوان والود من الرحمن :
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً } [ مريم : 96 ] .
وهو الذكر في الملأ الأعلى :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم . فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع . فيقول : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بين الحمد " . . . [ أخرجه الترمذي ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه . فإن اقترب إلى شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، وإن اقترب إليّ ذرعاً اقتربت منه باعاً ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " . [ أخرجه الشيخان ] .
وهو اشتغال الملأ الأعلى بأمر المؤمنين في الأرض :
{(1/480)
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم . . . } [ غافر : 7 ] .
وهو الحياة عند الله للشهداء :
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وان الله لا يضيع أجر المؤمنين . . . } [ آل عمران : 169 - 171 ] .
كما كان وعده المتكرر بأخذ المكذبين والطغاة والمجرمين في الآخرة والإملاء لهم في الأرض والإمهال إلى حين . . وان كان أحياناً قد أخذ بعضهم في الدنيا . . ولكن التركيز كله على الآخرة في الجزء الأخير : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . . . } [ آل عمران : 169 - 197 ] .
{ ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص في الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء . . } [ إبراهيم : 42 - 43 ] .
{ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون * يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون . . } [ المعارج : 42 - 43 ] وهكذا اتصلت حياة الناس بحياة الملأ الأعلى ، واتصلت الدنيا بالآخرة ، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر ، والحق والباطل ، والإيمان والطغيان . ولم تعد الحياة الدنيا هي خاتمة المطاف ، ولا موعد الفصل في هذا الصراع . . كما أن الحياة الدنيا وكل ما يتعلق بها من لذائد وآلام ومتاع وحرمان ، لم تعد هي القيمة العليا في الميزان .(1/481)
انفسح المجال في المكان ، وانفسح المجال في الزمان ، وانفسح المجال في القيم والموازين ، واتسعت آفاق النفس المؤمنة ، وكبرت اهتماماتها ، فصغرت الأرض وما عليها ، والحياة الدنيا وما يتعلق بها ، وكبر المؤمن بمقدار ما رأى وما عرف من الآفاق والحيوات ، وكانت قصة أصحاب الأخدود في القمة في إنشاء هذا التصور الإيماني الواسع الشامل الكبير الكريم .
هناك إشعاع آخر تطلقه قصة أصحاب الأخدود وسورة البروج حول طبيعة الدعوة إلى الله ، وموقف الداعية أمام كل احتمال .
لقد شهد تاريخ الدعوة إلى الله نماذج منوعة من نهايات في الأرض مختلفة للدعوات . .
شهد مصارع قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وقوم لوط ، ونجاة الفئة القلية العدد ، مجرد النجاة . ولم يذكر القرآن للناجين دوراً بعد ذلك في الأرض والحياة . وهذه النماذج تقرر أن الله سبحانه وتعالى يريد أحياناً أن يعجَّل للمكذبين الطغاة بقسط من العذاب في الدنيا ، أما الجزاء الأوفى فهو مرصود لهم هناك .
وشهد تاريخ الدعوة مصرع فرعون وجنوده ، ونجاة موسى وقومه ، مع التمكين للقوم في الأرض فترة كانوا فيها أصلح ما كانوا في تاريخهم ، وإن لم يرتقوا قط إلى الاستقامة الكاملة ، وإلى إقامة دين الله في الأرض منهجاً للحياة شاملاً . . وهذا نموذج غير النماذج الأولى .
وشهد تاريخ الدعوة كذلك مصرع المشركين الذين استعصوا على الهدى والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وانتصار المؤمنين انتصاراً كاملاً . مع انتصار العقيدة في نفوسهم انتصاراً عجيباً . وتم للمرة الوحيدة في تاريخ البشرية أن أقيم منهج الله مهيمناً على الحياة في صورة لم تعرفها البشرية قط ، من قبل ولا من بعد
وشهد - كما رأينا - نموذج أصحاب الأخدود . .
وشهد نماذج أخرى أقل ظهوراً في سجل التاريخ الإيماني في القديم والحديث . وما يزال يشهد نماذج تتراوح بين هذه النهايات التي حفظها على مدار القرون .(1/482)
ولم يكن بدّ من النموذج الذي يمثله حادث الأخدود ، إلى جانب النماذج الأخرى ، القريب منها والبعيد . .
لم يكن بد من هذا النموذج الذي لا ينجو فيه المؤمنون ، ولا يؤخذ الكافرون ! ذلك ليستقر في حس المؤمن - أصحاب دعوة الله - أنهم قد يدعون إلى النهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله ، وأن ليس لهم من الأمر شيء ، إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى الله !
إن عليهم أن يؤدوا واجبهم ، ثم يذهبوا ، وواجبهم أن يختاروا الله ، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة ، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة وأن يصدقوا الله في العمل والنية . ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم ، كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء . وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان ، أو إلى غيرها مما يعلمه هو ويراه .
إنهم أجراء عند الله ، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا عملوا وقبضوا الأجر المعلوم ! وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير !
وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينة في القلب ، ورفعة في الشعور ، وجمالاً في التصور ، وانطلاقاً من الأوهاق والجواذب ، وتحرراً من الخوف والقلق ، في كل حال من الأحوال .
وهم يقبضون الدفعة الثانية في الملأ الأعلى وذكراً وكرامة ، وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة .
ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حساباً يسيراً ونعيماً كبيراً .
ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعاً ، رضوان الله ، وانهم مختارون ليكونوا أداة لقدره وستاراً لقدرته ، يفعل بهم في الأرض ما يشاء .
وهكذا انتهت التربية القرآنية بالفئة المختارة من المسلمين في الصدر الأول إلى هذا التطور ، الذي أطلقهم من أمر ذواتهم وشخوصهم . فاخرجوا أنفسهم من الأمر البتة ، وعملوا أجراء عند صاحب الأمر ورضوا خيرة الله على أي وضع وعلى أي حال .(1/483)
وكانت التربية النبوية تتمشى مع التوجيهات القرآنية ، وتوجه القلوب والأنظار إلى الجنة ، وإلى الصبر على الدور المختار حتى يأذن الله بما يشاء في الدنيا والآخرة سواء .
كان - صلى الله عليه وسلم - يرى عماراً وأمه وأباه - رضي الله عنهم - يعذبون العذاب الشديد في مكة ، فما يزيد على أن يقول : " صيراً آل ياسر ، موعدكم الجنة " . .
وعن خباب بن الارتّ - رضي الله عنه - قال : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد برده في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لما ؟ أو تدعو لنا ؟ فقال : " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يبعده ذلك عن دينه ، والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت ، فلا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " . . [ أخرجه البخاري ] .
إن لله حكمة وراء كل وضع ووراء كل حال ، ومدبر هذا الكون كله ، المطلع على أوله وآخره ، المنسق لأحداثه وروابطه ، هو الذي يعرف الحكمة المكونة في غيبه المستور ، الحكمة التي تتفق مع مشيئته في خط السير الطويل .
وفي بعض الأحيان يكشف لنا - بعد أجيال وقرون - عن حكمة حادث لم يكن معاصروه يدركون حكمته ، ولعلهم كانوا يسألون لماذا ؟ لماذا يا رب يقع هذا ؟ وهذا السؤال نفسه هو الجهل الذي يتوقاه المؤمن ، لأنه يعرف ابتداء أن هناك حكمة وراء كل قدر ، ولأن سعة المجال في تصوره ، وبعد المدى في الزمان والمكان والقيم والموازين تغنيه عن التفكير ابتداء في مثل هذا السؤال ، فيسير مع دورة القدر في استسلام واطمئنان .(1/484)
لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة ، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء ، وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض ، ولا تنظر إلا إلى الآخرة ، ولا ترجو إلا رضوان الله ، قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية حتى الموت . بلا جزاء في هذه الأرض قريب ، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة ، وغلبة الإسلام وظهور المسلمين ، بل لو كانوا هذا الجزاء هو هلاك الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الأولين !
حتى إذا وجدت هذه القلوب ، التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطى بلا مقابل - أي مقابل - وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للفصل بين الحق والباطل . حتى إذا وجدت هذه القلوب ، وعلم الله منها صدق نيّتها على ما بايعت وعاهدت ، آتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه ، لا لنفسها ، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ، ولم تتطلع إلى شئ من الغنم في الأرض تعطاه ، وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه .
وكل الآيات التي ذكر فيها النصر ، وذكر فيها المغانم ، وذكر فيها أخذ المشركين في الأرض بأيدي المؤمنين نزلت في المدينة . . بعد ذلك . . وبعد أن أصبحت هذه الأمور خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه . وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية ، تقرره في صورة عملية محددة تراها الأجيال . . فلم يكن جزاء التعب والنصب والتضحية والآلام ، إنما كان قدراً من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !(1/485)
وهذه اللفتة جديرة بأن يتدبرها الدعاة إلى الله ، في كل أرض وفي كل جيل ، فهي كفيلة بأن تريهم معالم الطريق واضحة بلا غبش ، وأن تثبت خطى الذين يريدون أن يقطعوا الطريق إلى نهايته ، كيفما كانت هذه النهاية . ثم يكون قدر الله بدعوته وبهم ما يكون ، فلا يلتفتون في أثناء الطريق الدامي المفروش بالجماجم والأشلاء ، وبالعرق والدماء ، إلى نصر أو غلبة ، أو فصل بين الحق والباطل في هذه الأرض . . ولكن إذا كان الله يريد أن يصنع بهم شيئاً من هذا لدعوته ولدينه فسيتم ما يريده الله . . لا جزاء على الآلام والتضحيات . . لا ، فالأرض ليست دار جزاء . . وإنما تحقيقاً لقدر الله في أمر دعوته ومنهجه على أيدي ناس من عباده يختارهم ليمضي بهم من الأمر ما يشاء ، وحسبهم هذا الاختيار الكريم ، الذي تهون إلى جانبه وتصغر هذه الحياة ، وكل ما يقع في رحلة الأرض من سراء أو ضراء
هنالك حقيقة أخرى يشير إليها أحد التعقيبات القرآنية على قصة الأخدود في قوله تعالى :
{ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } . .
حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل .
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئاً آخر على الإطلاق . وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان ، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة . .
إنها ليست معركة سياسية ولا معركة اقتصادية ، ولا معركة عنصرية . . ولو كانت شيئاً من هذا لسهل وقفها ، وسهل حل إشكالها ، ولكنها في صميمها معركة عقيدة - إما كفر وإما إيمان . . إما جاهلية وإما إسلام !
ولقد كان كبار المشركين يعرضون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المال والحكم والمتاع في مقابل شيء واحد ؛ أن يدع معركة العقدية وأن يدهن في هذا الأمر ! ولو أجابهم - حاشاه - إلى شيء مما أراده ما بقيت بينهم وبينه معركة على الإطلاق !
إنها قضية عقيدة ومعركة عقيدة . .(1/486)
وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدواً لهم . فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة " إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد " ويخلصوا له وحده الطاعة والخضوع !
وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة ، راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية ، كي يموَّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة ، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة . فمن واجب المؤمنين ألا يُخدعوا ، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيت ، وأن الذي يغير راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها ، النصر في أية صورة من الصور ، سواء جاء في صورة الانطلاق الروحي كما وقع للمؤمنين في حادث الأخدود ، أو في صورة الهيمنة - الناشئة من الانطلاق الروحي - كما حدث للجيل الأول من المسلمين .
ونحن نشهد نموذجاً من تمويه الراية في محاولة الصليبية العالمية اليوم أن تخدعنا عن حقيقة المعركة ، وأن تزور التاريخ ، فتزعم لنا أن الحروب الصليبية كانت ستاراً للاستعمار . .
كلا . .
إنما كان الاستعمار الذي جاء متأخراً هو الستار للروح الصليبية التي لم تعد قادرة على السفور كما كانت في القرون الوسطى ! والتي تحطمت على صخرة العقيدة بقيادة مسلمين من شتى العناصر ، وفيهم صلاح الدين الكردي ، وتوران شاه المملوكي ، العناصر التي نسيت قوميتها وذكرت عقيدتها فانتصرت تحت راية العقيدة !
{ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } .
وصدق الله العظيم ، وكذب المموهون الخادعون !
***************
ويقول العلامة أبو قتادى حفظه الله في كتابه النفيس مقالات بين منهجين:
إنّ الدّولة الوحيدة التي تملك الشّرعيّة وتمثّل صورة الإسلام الصّحيح، وتنطوي على جوهره هي الدّولة التي تقوم عن طريق الجهاد (القتال).
فلو سأل سائل: لو أنّه قدّر لبعض التّجارب الدّيمقراطيّة أن توصّل الإسلام إلى سدّة الحكم، فهل يعني هذا أنّ الحكم لا يسمّى إسلامياً؟.(1/487)
وقبل الجواب على هذا التّساؤل فإنّه ينبغي أن يعلم أنّ دولة الإسلام الضّائعة لن تقوم بهذا الطّريق الشّركيّ، وعلى الإسلاميين الديمقراطيّين أن يكبحوا جماح أحلامهم في تحصيل الخير أو بعضه عن طريق البرلمان والدّيمقراطيّة، مع أنّ أصحاب هذا المنهج تختلف تصوّراتهم في توصيف أسباب دخولهم البرلمان: فلو أخذنا الدّيمقراطيين الإسلاميين من الإخوان المسلمين في الأردن وسألناهم عن سبب ولوجهم هذا الطّريق لرأينا العجب العجاب: فهذا الدكتور همّام سعيد يعلن: أننا لن نسعى إلى أن نكون الأغلبيّة في البرلمان الأردني. ا. هـ. وهذا شيء يضحك منه الديمقراطيّون في العالم أجمع، لأنّ كلّ كتلة برلمانيّة في العالم تسعى إلى تكوين الأغلبيّة للوصول إلى الحكم، أمّا تعليل الدّكتور همّام سعيد - وهو من "الإخوان المسلمين" - لعدم السّعي لتحصيل الأغلبيّة في البرلمان فيقول: حتّى لا نصبح مشرّعين، إذ أنّ التّشريع كفر، وإنّما نحن معارضة، نوصل كلمة الإسلام للبرلمان ولأصحاب الشّأن. ا. هـ.(1/488)
والصّحيح أنّ السّبب الحقيقيّ هو: أنّ الأغلبيّة في البرلمان الأردنيّ (مجلس النوّاب) لا قيمة لها، ولا أهميّة لها في الثّقل السّياسيّ الأردنيّ، لأنّ القانون الأردني لا يوجب على الدولة أن تقبل بالتّنازل عن السّلطة لشيء يسمّى الأغلبيّة البرلمانيّة، فلو فرضنا أنّ عدد الإخوان المسلمين بلغ في البرلمان الأردنيّ 80/80 أي أنّه يسيطر على جميع مقاعده، فلا يلزم أنّ للإخوان المسلمين الحقّ في تشكيل الحكومة الوزاريّة، بل هم سيبقون في عداد المعارضة، لأنّ الملك هو الحكومة وهو الذي له الحقّ في تشكيل الحكومة والوزارة، ثمّ لو افترضنا أنّ البرلمان كلّه حينئذٍ يمثّل المعارضة وأراد أن يحجب الثّقة عن وزارة الملك فإنّ البرلمان له الحقّ أن يسقط الوزارة الأولى بحجب الثّقة عنها، فإذا سقطت يقوم الملك بتعيين وزارة ثانية وتعرض على البرلمان لأخذ الثّقة، فإذا حجب البرلمان الثّقة عنها مرّة أخرى حينئذٍ يحقّ للملك أن يحجب البرلمان أي أن يلغيه ويطرده، أي له الحقّ أن يحلّ البرلمان، وكذلك رقبة البرلمانيين، هكذا يقول الدّستور. من أجل هذا المأزق الذي سيواجه الأغلبيّة في البرلمان فإنّ الإخوان المسلمين ليسوا على استعداد لهذه المواجهة، فالطّريقة المثلى لعدم حصول هذا التّصادم هو عدم تحصيل الأغلبيّة، هذا هو الواقع وليست المسألة عندهم مسألة تشريع أو غير تشريع لأنّها لو كانت كذلك عند الإخوان المسلمين في الأردن لما قبلوا أن يعيّنوا رجلاً إخوانيّاً على رأس مجلس التّشريع الشّركي، وهو الذي يوقّع على جميع قرارات المجلس ويرفعها إلى الدّولة بغضّ النّظر عن إسلاميّة القرار أو عدم إسلاميّته. ولو كانت المسألة كما قال الدّكتور همّام لما قبل الإخوان المسلمين أن يقدّموا رجلاً إخوانيّاً إلى وزارة الشّرك (العدل) فيكون قائماً على رأس هذه الوزارة اللعينة.(1/489)
وتصوُّر الدّكتور همّام ليس هو تصوُّر جميع الدّيمقراطيين هناك، فإنّ مراتب النّظر إلى البرلمان ودور حركة الإخوان المسلمين في البرلمان تتفاوت إلى درجة رهيبة تصل إلى أنّ بعضهم ينظر إليه من حيث أنّه من خلال البرلمان يستطيع أن يقضي حوائج عشيرته لما يمثّله البرلمان من ثقل وجاهيّ عشائريّ.
وفي لقاء بين إخوانيّ أردنيّ وإخوانيّ يمنيّ رأى النّاس فارقاً عجيباً بين نظرة كلّ واحد إلى البرلمان ودور الحركة الإسلاميّة فيه، فالبرلمانيّ الأردنيّ يرى كفر النّظام، وأنّ البرلمان هو طريق للتّغيير الشّموليّ، وأنّه سيساعد أو سيقوم بذاته في عمليّة التّغيير الانقلابيّ للدّولة. الإخواني البرلمانيّ اليمنيّ انتفض لهذه النّظرة، فهو يرى أنّ أعضاء الإخوان المسلمين في البرلمان اليمني هم جزء من تشكيلة الدولة الشّرعيّة في اليمن، فكيف سينقلب الرّجل على نفسه، فالإخوان جزء من الدّولة فكيف سيغيّروا أنفسهم، إذاً فالبرلمان جزء من الدّولة لترشيدها ولأداء دور داخل الكيان لا خارجه ولا لِقَلبِه.
جبهة الإنقاذ الجزائريّة كان لها رؤية أخرى للدخول في المسار الدّيمقراطيّ الشّركي (ونحن نصرّ ونؤكّد أنّ هذا المسار شركيّ كفريّ لأنّ البرلمان هو مالك السّيادة التّشريعيّة في النّظم العلمانيّة وهو عندنا في دين الله تعالى هو لله ربّ العالمين، ومن لم يفقه هذا لم يفقه شيئاً من الواقع أو الوحي)، وهي رؤية كانت بمجملها في لفظين "المطالبة وإلاّ المغالبة" أو حسب قول مسئول فيهم بقوله: إذا قالوا انتخاب انتخبنا وإلاّ قاتلنا.(1/490)
ومجمل قولهم أنّهم سيدخلون في اللعبة الدّيمقراطيّة لثقتهم أنّ الشّعب سينتخبهم فيبلغوا إلى درجة تخوّلهم أن يغيّروا الدّستور، ومع أنّ الجبهة هي كاسمها: خليط غير متجانس، كلّ حسب رؤيته ومفهومه، وفيها من عوامل الانهيار الذّاتي ممّا يجعلها غير قادرة على الخروج برؤية واضحة للأحداث والعقبات، ويدلّ على ذلك أمران: أولاهما: أزمة الخليج، وثانيهما: ضرب الدّولة وتشتّت الجبهة إلى ما هي عليه الآن، ولا أدري لم يجعل بعض النّاس ممّن يكفر بالدّيمقراطيّة جبهة الإنقاذ حالة خاصّة تخرج عن زمرة الدّيمقراطيين الإسلاميين، فهم يتكلّمون عن الإخوان وديمقراطيّتهم بكثير من الحماس النّاقد، فإذا اقتربوا من جبهة الإنقاذ كاعوا ورجفوا، وكأنّها ليست على النّسق والتّساوي مع الآخرين من الدّيمقراطيين، ولعلّ الخطاب الثّوري الذي كان يردّده علي بن حاج هو الذي جعل هؤلاء يخرجون الجبهة عن هذه الزّمرة، وهذا خطأ كبير لأنّ العلّة التي تلحق الجماعة بهذه الزّمرة متحقّقة في الجبهة كما هي متعلّقة بغيرها من النّهضة والإخوان والجماعة الإسلاميّة الباكستانيّة وغيرها من الجماعات السّالكة طريق الدّيمقراطيّة.
هذا التّغاير في الهدف، والتّغاير في التّوصيف للعمل الدّيمقراطيّ يجعل هؤلاء القوم من أبعد النّاس عن تحصيل الهدف، وذلك لعدم تصوّرهم له أو معرفتهم بحقيقة الأسلوب لا من الوجهة الشّرعيّة ولا من الوجهة الواقعيّة.
لكن لو افترضنا جدلاً أنّ فرقة من الفرق وصلت إلى سدّة الحكم عن طريق الديمقراطيّة وحكّمت الشّريعة فهل يكون الحكم إسلاميّاً بهذه الطّريقة؟ الجواب بكلّ وضوح: لا، فكلّ قانون وإن كان يلتقي مع الشّريعة الإسلاميّة في حدّه ووصفه وفرض عن طريق البرلمان وخيار الشّعب لن يكون إسلاميّاً، بل هو قانون طاغوتيّ كفري.
لماذا هذا؟.(1/491)
أيّ حكم حتّى يكون شرعيّاً إسلاميّاً لا بدّ من النّظر إلى أركانه وأهمّ أركانه هو النّظر إلى الحاكم ومن هو؟ فإن كان الحاكم (المشرّع) هو الله كان الحكم إسلاميّاً، وإن كان الحاكم (المشرّع) غير الله كان الحكم طاغوتياً كافراً. ومن هنا فإنّ الأخلاق الصّحيحة التي يدعو إليها الدّين النّصرانيّ لا تعتبر إسلاميّة، لأنّ الجهة الحاكمة (المشرّعة) لهذا الحكم ليست الجهة الحاكمة للحكم الشّرعيّ. فالحكم الشّرعيّ يكتسب قوّته لأنّه صادر ممّن له الحقّ في إصدار هذا الأمر وهو ربّ العالمين، وحتّى يكون شرعيّاً لا بدّ أن يكون تكييفه شرعيّاً وإلاّ لا. والحكم الصّادر عن البرلمان يكتسب قوّته من مالك السّيادة في النّظام الدّيمقراطيّ، فقد يكون الشّعب فقط وقد يكون الشّعب والملك معه أو الأمير وهكذا، فلو صدر قانون منع الخمر من البرلمان فهو قانون تكييفه الشّرعيّ هو قانون كفريّ طاغوتيّ، وإذا قال الحاكم نحن حرّمنا الخمر لأنّ الله أمرنا بهذا لكان قانوناً مسلماً. وللتّمثيل نقول : ما الفرق بين النّكاح والسّفاح من وجهة شرعيّة مع أنّهما يعبّران عن حقيقة واحدة؟ النّكاح جائز لأنّه بكلمة الله - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله)) وكلمة الله هنا معناها حُكمه وليس العقد كما يقول البعض -، والسّفاح تمّ بكلمة أخرى غير كلمة الله تعالى، فكان حراماً وإثماً.
فالقانون الصّادر من البرلمان مصدر بكلمة: باسم الشّعب، أو قرّر مندوبو البرلمان، فهو قانون طاغوتيّ اكتسب قوّته من إله باطل.
أمّا القانون الإسلاميّ فهو المصدر بكلمة باسم الله. فالذين يبحثون عن تحكيم الشّريعة الإسلاميّة عن طريق البرلمان عليهم أن يراجعوا أركان الحكم الشّرعيّ، وكيف يكون إسلاميّاً، وكيف يكون الحكم طاغوتيّاً كافراً؟.
**************************
? معركتنا مع اليهود :(1/492)
قال تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) } [المائدة/82](1/493)
ما تزال الأمة المسلمة تعاني من دسائس اليهود ومكرهم ما عاناه أسلافها من هذا المكر ومن تلك الدسائس غير أن الأمة المسلمة لا تنتفع - مع الأسف - بتلك التوجيهات القرآنية وبهذا الهدى الإلهي : (( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ؟ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ؟ )) ا تنتفع الأمة المسلمة بما انتفع به أسلافها فغلبوا كيد اليهود ومكرهم في المدينة والدين ناشئ ، والجماعة المسلمة وليدة . وما يزال اليهود - بلؤمهم ومكرهم - يضللون هذه الأمة عن دينها ويصرفونها عن قرآنها كي لا تأخذ منه أسلحتها الماضية ، وعدتها الوافية ، وهم آمنون ما انصرفت هذه الأمة عن موارد قوتها الحقيقية وينابيع معرفتها الصافية . وكل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء اليهود ، سواء عرف أم لم يعرف أراد أم لم يرد ، فسيظل اليهود في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد منها وجودها وقوتها وغلبتها - حقيقة العقيدة الإيمانية والمنهج الإيماني والشريعة الإيمانية ، فهذا هو الطرق . وهذه هي معالم الطريق . كان لليهود في المدينة مكانتهم وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية مع أهلها ، ولم يتبين عداؤهم سافرا .(1/494)
ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي الوطن وهي أصل التعامل والتعاقد ، وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع هذه العقيدة !! ومن ثم كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة ، وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به ، وكان هناك من يدافع عنهم ما يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم (( كما حدث في شفاعة عبد الله بن أبي من بني قينقاع ، وإغلاظه في هذا للرسول صلى الله عليه وسلم )) . إن أعداء الجماعة المسلمة لم يكونوا يحاربونها في الميدان بالسيف والرمح فحسب ولم يكونوا يؤلبون عليها الأعداء ليحاربونها بالسيف والرمح فحسب ، إنما كانوا يحاربونها أولا في عقيدتها !! كانوا يحاربونها بالدس والتشكيك ، ونثر الشبهات وتدبير المناورات !
كانوا يعمدون أولا إلى عقيدتها الإيمانية التي منها انبثق كيانها ومنها قام وجودها فيعملون فيها معاول الهدم والتوصية ذلك أنهم كانوا يدركون - كما يدركون اليوم تماما (1) - أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من هذا المدخل ولاتهن إلا إذا وهنت عقيدتها ولا تهزم إلا إذا هزمت روحها ، ولا يبلغ أعداؤها منها شيئا وهي ممسكة بعروة الإيمان مرتكزة إلى ركنه سائرة على نهجه حاملة لرايته ممثلة لحزبه منتسبة إليه ، معتزة بهذا النسب وحده .(1/495)
من هنا يبدو أن أعدى أعداء الأمة هو الذي يلهيها عن عقيدتها الإيمانية ، و يحيد بها عن منهج الله وطريقه ويخدعها عن حقيقة أعدائها وحقيقة أهدافهم البعيدة .إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كل شيء معركة هذه العقيدة وحتى حين يريد أعداؤها أن يغلبوها على الأرض والمحصولات والاقتصاد والخامات فإنهم يحاولون أولا أن يغلبوها على العقيدة لأنهم يعلمون بالتجارب الطويلة أنهم لا يبلغون مما يريدون شيئا والأمة المسلمة مستمسكة بعقيدتها ، ملتزمة بمنهجها ، مدركة لكيد أعدائها . . ومن ثم يبذل هؤلاء الأعداء وعملاؤهم جهد الجبارين من خداع هذه الأمة عن حقيقة المعركة ليفوزوا منها بعد ذلك بكل ما يريدون من استعمار واستغلال آمنون من عزمة هذه العقيدة في الصدور .وكلما ارتقت وسائل الكيد لهذه العقيدة والتشكيك فيها والتوهين من عراها استخدم أعداؤها هذه الوسائل المترقية الجديدة . ولكن لنفس الغاية القديمة : (( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم )) .لهذا كان القرآن يدفع هذا السلاح المسموم أولا . . . كان يأخذ الجماعة المسلكة بالتثبيت على الحق الذي هو عليه وينفي الشبهات والشكوك التي يلقيها أهل الكتاب ، ويجلو الحقيقة الكبيرة التي يتضمنها هذا الدين ويقنع الجماعة المسلمة بحقيقتها وقيمتها في هذه الأرض ودورها ودور العقيدة التي تحملها في تاريخ البشرية .وكان يأخذها بالتحذير من كيد الكائدين ويكشف لها نواياهم المستترة ووسائلهم القذرة وأهدافهم الخطرة وأحقادهم على الإسلام والمسلمين لاختصاصهم بهذا الفضل العظيم .وكان يأخذها بتقرير حقيقة القوى وموازينها في هذا الوجود فبين لها هزال أعدائها وهوانهم على الله ، وضلالهم وكفرهم بما أنزل الله إليهم من قبل وقتلهم الأنبياء ، كما يبين لها أن الله معها وهو مالك الملك المعز المذل وحده بلا شريك وأنه سيأخذ الكفار اليهود بالعذاب والنكال كما أخذ المشركين من قبل .(1/496)
وعانت أمتنا التلبيس والدس من يهود .(( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون )) وهذه خصلة أهل الكتاب يجب أن يبصرها المسلمون ويأخذوا حذرهم منها .خصلة التلبيس والدس .وهذا الذي ندد الله به - سبحانه - من أعمال أهل الكتاب حينذاك . هو الأمر الذين درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة . . . فهذا طريقهم على مدار التاريخ .
اليهود بدءوا منذ اللحظة الأولى . . ثم تبعهم الصليبيون .وفي خلال القرون المتطاولة دسوا - مع الأسف - في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون !! ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله - اللهم إلا هذا الكتاب الذي تكفل الله بحفظه أبد الآبدين والحمد لله على فضله العظيم .دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله ودسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود .ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني .وهناك دس جد خطير .لقد دسوا رجالا وزعامات للكيد لهذه الأمة . فالمئات والألوف كانوا دسيسة في العالم الإسلامي - وما يزالون في صورة مستشرقين وتلاميذ مستشرقين الذين يشغلون مناصب الحياة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها : أنهم مسلمون !!
والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة (( أبطال )) مصنوعين على عين الصهيونية (2) ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين .
وما يزال هذا الكيد قائما مطردا ، وما تزال (فرصة) الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ ، والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون . وتستمر حملة التشكيك من اليهود في هذه الأمة المسلمة :
(((1/497)
وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين أمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم )) وهي طريقة ماكرة لئيمة ، فإن إظهار هم الإسلام ثم الرجوع عنه يوقع بعض النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته . . يوقعهم في بلبلة واضطراب . . . فإذا رأوا اليهود يؤمنون ثم يرتدون حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص من هذا الدين وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال .وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم . في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل . ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة .إن لهذه القوى اليوم في العالم الإسلامي جيشا جرارا من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين - وأحيانا كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين - يحملون أسماء المسلمين لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة !! وبعضهم من (( علماء )) المسلمين !!هذا الجيش من العلماء موجه لخلخلة (3) العقيدة في النفوس بشتى الأساليب بصورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة . . وتوهين قواعدها من الأساس . . والتوهين من شأن العقيدة والشريعة سواء .وتأويلها وتحميلها ما لاتطيق والدق المتصل على (( رجعيتها )) ! والدعوة للتفلت منها وأبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها !! وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها . . وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية . . وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخرج من الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثرا .(1/498)
ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص !! وهم بعد مسلمون !! اليسوا يحملون أسماء إسلامية ؟ وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار !! وبهذه المحاولات يكفرون آخره !! (( ويؤدون بهذه وتلك دور اليهود القديم )) ولا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم !
تظاهروا بالإسلام - ومعكم دليل إسمي - أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم .(( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم )) .وعملاء الصهيوينة اليوم كذلك . . إنهم متفاهمون فيما ينهم على أمر . .
هو الإجهاز على العقيدة في الفرصة السانحة التي قد لا تعود . . وقد لا يكون هذا التفاهم في معاهدة أو مؤامرة ، ولكنه تفاهم العميل مع العميل على المهمة المطلوبة (4) .
ويأمن بعضهم لبعض فيفضي بعضهم إلى بعض . . ثم يتظاهرون - بعضهم على الأقل - بغير ما يريدون وما يبيتون . . والجو من حولهم مهيأ . . والأجهزة من حولهم معبأة . .(1/499)
والذين يدركون حقيقة هذا الدين في الأرض كلهم مغيبون أو مشردون !! لقد تحدث القرآن كثيراً عن يهوده وشرح نفسياتهم الشريرة وليس مصادفة أن يفصل القرآن هذا فإن تاريخ أمة من الأمم لم يشهد ما شهده تاريخ بني إسرائيل من قسوة وجحود وتنكر للهداة فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عدداً من أنبيائهم - وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق المخلصين - وقد كفروا أشنع كفر واعتدوا . . أشنع الاعتداء وعصوا أبشع معصية وكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست مثلها أفاعيل ! ! ومخاليق تقتل الأنبياء وتذبحهم وتنشرهم بالمناشير لا ينتظر منها إلا استباحة دماء البشر واستباحة كل وسيلة قذرة تنفس عن أحقادهم وفسقهم . والقرآن الكريم يقص علينا العجب من سلوك يهود العجيب : (( قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبه بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين . . من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين )) . في قصة هذا التحدي نطلع على سمة أخرى من سمات اليهود . . . سمة عجيبة حقاً . . لقد بلغ هؤلاء القوم من الحنق والغيظ من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده مبلغاً يتجاوز كل حد . . وقادهم هذا إلى تناقض لا يستقيم في عقل . . لقد سمعوا أن جبريل ينزل بالوصي من عند الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - ولما كان عداؤهم لمحمد قد بلغ مرتبة الحقد والحنق فقد لج بهم الضغن أن يخترعوا قصة واهية وحجة فارغة فيزعموا أن جبريل عدوهم لأنه ينزل بالهلاك والدمار والعذاب ، وأن هذا هو الذي يمنعهم من الإيمان بمحمد من جراء صاحبه جبريل ، ولو كان الذي ينزل بالوحي هو ميكائيل لآمنوا فميكائيل يتنزل بالرخاء والمطر والخصب . إنها الحماقة المضحكة . . .(1/500)
ولكن الغيظ والحقد يسوقانه إلى كل حماقة وإلا فخاب لهم يعادون جبريل ؟ وجبريل لم يكن بشراً يعمل معهم أو ضدهم ولم يكن يعمل بتصميم من عنده وتدبير ؟ إنما عبد الله يفعل بأمره ولا يعصي الله ما أمره ! ويمتد حقد اليهود الأسود من جبريل عليه السلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم . وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . . وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في اليهود هي الطبيعة الكنود . طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد ، وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو متقطع منها ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى التي تربط البشرية جمعاء .وهكذا عاش اليهود في عزلة .يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة ويتربصون بالبشرية الدوائر ويكنون للناس البغضاء ، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض ، وحروبا يثيرونها ليجروا من ورائها الغنائم ، ويروون بها أحقادهم التي لا تنطفء ، وهلاكا يسلطونه على الناس ، ويسلطه عليهم الناس . . . وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة : (( بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده )) .وحقد اليهود الأسود على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن وعلى الإسلام جعلهم يؤثرون الشرك - وهم أهل كتاب - على الإسلام .وهم اليوم يؤثرون الشيوعية ..(2/1)
أي صلة أخرى فاسدة على هذا الدين بل أنهم ينشئون هذه المذاهب الإلحادية (5) لمحاربة الإسلام !عن محمد بن إسحاق قال - بإسناده عن جماعة - : إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري ، وحيي بن أخطب النضري ، وكنانة بن أبي الحقيق النضري ، وهوذة بن قيس الوائلي ، وأبو عمار الوائلي ، في نفر من بني النضير ، ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرجوا حتى قدموا على قريش في مكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقالت قريش : يا معشر يهود . . إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، أفديننا خير أم دينه ؟؟ قالوا - اليهود- بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه !!!
فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم : (( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين أمنوا سبيلا )) إلى قوله تعالى : (( أم يحسدون الناس على ما أتاهم من فضله . . )) ؟ فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعدوا له . وصدق الله العظيم : (( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . . ))إن صيغة العبارة تحتمل أن تكون خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم وأن تكون كذلك خطابا عاما خرج مخرج العموم لأنه يتضمن أمرا ظاهرا مكشوفا يجده كل إنسان .فإذا تقرر هذا فإن الأمر الذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا في صدد أنهم أشد عداوة للذين آمنوا ، وإن شدة عداوتهم ظاهرة مكشوفة وأمر مقرر يراه كل من يرى ويجده كل من يتأمل !!نعم إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين أمرين ولا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا .(2/2)
ولكن تقديم اليهود هنا حيث يقوم الظن بأنهم أقل عداوة للذين آمنوا من المشركين - بما أنهم أهل كتاب - يجعل لهذا التقديم شأنا خاصا غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي !! إنه - على الأقل - يوجه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغير من الحقيقة الواقعة وهي أنهم كالذين أشركوا أشد عداوة للذين آمنوا !! ونقول : إن هذا (( على الأقل )) ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدة العداء على الذين أشركوا .وحين يستأنس الإنسان في هذا التقرير الرباني بالواقع التاريخي المشهود منذ مولد الإسلام حتى اللحظة الحاضرة فإنه لا يتردد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائما أشد وأقسى وأعمق إصرارا وأطول أمدا من عداء الذين أشركوا .لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة ، وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة ، وتضمن القرآن من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الآمة المسلمة في تاريخها الطويل والتي لم تخب لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا وما تزال حتى اللحظة (6) يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعا .لقد عقد الرسول صلى الله عليه وسلم أول مقدمه إلى المدينة ، معاهدة تعايش مع اليهود ، ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة ، ولكنهم لم يفوا بهذا العهد ، شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل حتى قال الله فيهم : (( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون * أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون * ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون )) .(2/3)
ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج ، ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تعد لليهود فرصة للتسلط .ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية وأفادتها منذ قرون السبي (( في بابل )) والعبودية في مصر . . والذل في الدولة الرومانية . . ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول .ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة وراحوا يجمعون القبائل المتفرقة لحرب الجماعة المسلمة : (( ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا )) ولما غلبهم الإسلام بقوة الحق استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه - لم يسلم إلا كتاب الله الذي تكفل الله بحفظه سبحانه - ويكيدون بالدس بين صفوف المسلمين . . وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار . . ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في أنحاء الأرض . . حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة . . وهم يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين . .ويشنوها حربا صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين !!وصدق الله العظيم : (( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والدين أشركوا )) إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة ، وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم وبين قريش من مكة وبين القبائل الأخرى في الجزيرة . . . يهودي .(2/4)
والذي ألب العوام ، وجمع الشراذم ، وأطلق لشائعات في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وما تلاها من النكبات . . . يهودي .والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الروايات والسير . . . يهودي .ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال (( الدستور )) بها في عهد السلطان عبد الحميد ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي (( البطل )) أتاتورك . . . يهودي .وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود !!ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية (( يهودي )) ووراء النزعة الحيوانية يهودي . . . ووراء هدم الأسرة والروابط المقدسة في المجتمع . . . يهودي (7) . .ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمد ، وأعرض مجالا من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون - على ضراوتها - قديما وحديثا ، إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها ، وكذلك المعركة مع فارس في العهد الأول . . . أما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية (( التي تعد ماركس مجرد فرع لها )) . إن لقصة بني إسرائيل التي فصلها القرآن أوسع تفصيل حكمة متشعبة الجوانب.. من جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها . فقد كانوا حربا على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأول ، وهم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة وأمدوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين جميعا . .
وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة . .(2/5)
كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة وحول القيادة . . وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة ، فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة لتعرف من هم أعداؤها ؟ وما طبيعتهم ؟ وما وسائلهم ، وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم ؟ ولقد علم الله سبحانه أنهم هم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله ، كما كانوا أعداء هدي الله في ماضيهم كله ، فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا. . ووسائلهم كلها مكشوفة. ومن جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة من التاريخ طويلة . . ووقعت الانحرافات في عقيدتهم ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف . . كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة - وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها - بتاريخ القوم . .وتقلبات التاريخ ، وتعرف مزالق الطريق وعواقبها ممثله في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم ، لتضم هذه التجربة - في حقل العقيدة والحياة - إلى حصيلة تجاربها وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون ولتتقي - بصفة خاصة - مزالق الطريق ومداخل الشيطان ، وبوادر الانحراف ، على هدي التجارب الأولى .. ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني إسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل ، وقد علم الله أن الأمة حين يطول عليها الأمد تقسو قلوبها وتنحرف أجيال منها ، وأن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة . . ستصادفها فترات تمثل فيها فترات من حياة بني إسرائيل ، فجعل الله أمام أئمة الأمة وقادتها ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة نماذج حية من العراقيل التي تلم بالأمم ، يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته . وبعد فإن المعركة بين الإسلام ويهود لا تزال دائرة وستظل كذلك لأن اليهود لا يرضون إلا بتدمير هذا الدين .(2/6)
كانوا - بعد أن غلبهم الإسلام - يحاربون هذا الدين بالمؤامرات والدسائس وتحريك عملائهم في الظلام .أما اليوم فقد ازدادت المعركة ضراوة وسفورا و تركيزا بعد أن جاءوا من كل فج وأعلنوا أنهم أقاموا إسرائيل .كانت أطماعهم ترف من بعيد إلى بيت المقدس ، أما اليوم فهم منه على بعد خطوات . . ولا يكف أطماعهم إلا أن يغلبهم الإسلام .. . فقد أفسد اليهود في الأرض المقدسة فبعث الله عليهم عبادا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولا .لكن على المسلمين - وهم يتأهبون للمعركة - أن يفهموا قرآنهم ، لقد كانت رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير ، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا ، وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير صلى الله عليه وسلم لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات ، وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ، وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تنكشف عنها للنظرة الأولى .وسوف ينازع بنو إسرائيل المسلمين في وراثة المسجد الأقصى .وسوف تدور المعركة .(( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليك عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولا )) .فهذه هي الأولى : يعلون في الأرض المقدسة ، ويصبح لهم فيها قوة وسلطان ، فيفسدون فيها فيبعث الله عليهم عبادا من عباده أولي بأس شديد ، وأولي بطش وقوة . . يستبيحون الديار . . ويروحون فيها ويغدون باستهتار . . ويطؤون ما فيها ومن فيها بلا تهيب . . (( وكان وعد الله مفعولا )) لا يخلف ولا يكذب .وتتكرر قصة الإفساد . . ويتكرر الإذلال والطرد .(2/7)
وكلما عاد بنو إسرائيل إلى الإفساد في الأرض فالجزاء من جنس حاضر والسنة ماضية (( وإن عدتم عدنا )) .ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة العربية كلها . . ثم عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم عبادا آخرين ، حتى كان العصر الحديث فسلط الله عليهم (( هتلر )) ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة (( إسرائيل )) التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، تصديقا لوعد الله القاطع (( وإن عدتم عدنا )) ووفاقا لسنته التي لا تختلف وإن غدا لناظره قريب !! ولا يهولن المسلم ما يراه من قوة وتهديد فانهم (( لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى )) . والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم وترى عصبيتهم بعضهم لبعض ، كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد . . ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم ، إنما هو مظهر خارجي خادع . وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع ، فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور . . وما صدق المؤمنون مرة وتجمعت قلوبهم على الله حقا إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات وهذا التضارب وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال . وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار . وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في (( تشخيص )) حالة الكافرين حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان زفي أي مكان بشكل واضح للعيان . ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين . .(2/8)
فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولو الأدبار كالجرذان حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء وسبحان العليم الخبير !! نقلا عن كتيب " معركتنا مع اليهود " طبع دار الشروق - لبنان – للسيد قطب عليه الرحمة
----------------
هوامش
(1) تأمل حملة التشكيك في العقيدة ، والتعبئة الإلحادية في جيش عربي ضد الإيمان بالله قبيل هزيمة 1967 بأسابيع !!! ثم الإصرار الطويل النفس على إبعاد الإسلام عن قضية فلسطين مثلا
(2) وفي المستقبل القريب سنجعل الرئيس شخصا مسئولا ويومئذ لن نكون حائرين في أن ننفذ بجسارة خططنا التي سيكون (( دميتنا )) مسئولا عنها ، لكي نصل إلى هذه النتائج سندبر انتخاب أمثال هؤلاء الرؤساء ممن تكون صحائفهم السابقة مسودة بفضيحة ما أو صفقة أخرى مريبة .. إن رئيسا من هذا النوع سيكون منفذا وافيا لأغراضنا لأنه سيخشى التشهير وسيبقى خاضعا لسلطان الخوف .... البروتوكول العاشر من بروتوكولات صهيون .
(3) لن نبيح قيام أي دين غير ديننا . ولهذا يجب علينا أن نحطم كل عقائد الإيمان وستكون النتيجة المؤقتة لهذا هي إثمار ملحدين .. البروتوكول الرابع عشر .
(4) ولا أحد من الأعضاء سيفشي بالسر للغير ، والسبب هو أنه لا أحد يؤذن له بالدخول في عالمنا ما لم يكن يحمل سمات بعض الأعمال المخزية في حياته .. البروتوكول الثالث عشر .
(5) لا تتصوروا أن تصريحاتنا جوفاء ، ولا حظوا هنا أن نجاح ماركس قد رتبناه من قبل . . . ونحن على الدوام نتبنى الشيوعية ونحتضنها متظاهرين بأننا نساعد العمال طوعا لمبدأ الأخوة والمصلحة الإنسانية . وهذا ما تبشر به الماسونية .. البروتوكول الثاني والثالث .
(6) صرخ جنود اليهود وهم يدخلون القدس في يونيو 1967 (( محمد مات ، وخلف بنات )) .
(7) هؤلاء بالترتيب هم ماركس .. فرويد .. دركايم .
0*********************
والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا
وكتبه
علي بن نايف الشحود
الباحث في القرآن والسنة(2/9)
في 13 جمادى الأولى 1425 هـ الموافق 1/7/2004 م
بعض المراجع والمصادر
---------------------
? القرآن الكريم
? كتب السنة
? في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب
? مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
? مقدمة ابن خلدون
? سيرة ابن هشام
? ماجد عرسان الكيلاني
? ناصر الأحمد
? أبو قتادة الفلسطيني
الفهرس العام
الباب الأول- اختلاف الإجابة على السؤال ... 14
الفصل الأول - لقد انقسم الناس في الإجابة على هذا السؤال إلى فريقين : ... 14
1. ... فريق يرى البقاء للأقوى ... 14
الفصل الثاني - سبب هلاك تلك الدول ... 39
1. ... الكفر والفسوق ... 39
2. ... الظلم بكل صوره وأشكاله : ... 41
3. ... الاستبداد بالرأي: ... 41
4. ... الترف : ... 43
{67} ... 43
5. ... الفساد الشامل : ... 45
6. ... عبادة الأشياء والأشخاص : ... 52
7. ... الكفر بنعم الله : ... 55
الفريق الثاني : البقاء للأصلح ... 60
يرى هؤلاء أن البقاء للأصلح وليس للأقوى وذلك استنادا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من خلال الشروط النقاط التالية : ... 60
1. ... اتباع منهج الله : ... 60
2. ... ما كتبه الله على نفسه في الزبور: ... 62
3. ... ما ينفع الناس يمكث في الأرض وما سواه زائل : ... 66
4. ... تلك الدول لن تسعد الإنسان ولكنها قد تشبع بعض رغباته المادية فيبقى في خواء روحي وقلق وهم وغم : ... 71
5. ... لا يمكن أن تتحقق العدالة والمساوة والرحمة بين الناس بالمعنى الصحيح والشامل بغير دين الله تعالى وانظر إلى واقع تلك المجتمعات التي تبدو قوية كأمريكا وأوروربا ... 95
الباب الثاني - متى يكون البقاء للأصلح ؟ ... 144
لا يكون البقاء للأصلح إلا في الحالات التالية : ... 144
1. ... عندما يكون هناك أناس يطبقون منهج الله بمعناه الشمولي ويضحون من أجله بكل غال ونفيس ويتحملون التبعات والأعباء فهؤلاء هم الذين يكتب الله على أيديهم النصر ويمكن لهم في الأرض : ... 144
2. ... وكذلك عندما يكون الصراع بين الحق الجلي والباطل الجلي : ... 147(2/10)
حتى لا يلتبس الأمر على الناس قال تعالى في سورة الأنبياء { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ {18} ... 147
3. ... عندما يكون الصراع بين القلة المؤمنة المستضعفة وبين الكثرة الكافرة كما كان بين الأنبياء ومن معهم من المؤمنين وبين الكفار فمن الذي انتصر ؟ ... 157
? ... لا بد من الصراع بين الحق والباطل: ... 163
? ... ليست العبرة بكثرة العدد والعدد (وإن كان ذلك مطلوبا شرعا)) : ... 175
الباب الثالث - أسباب النصر : ... 178
? ... الإيمان والعمل الصالح ... 178
? ... الثبات والإكثار من ذكر الله وطاعة الله ورسوله وعدم التنازع والصبر وعدم البطر والرياء والغرور ... 178
? ... إن تنصروا الله ينصركم : ... 189
? ... عدم الفرار ... 195
? ... عدم الاغترار : ... 196
? ... لكي ينتصر الإسلام : ... 199
? ... النصر له ثمن باهض : ... 212
? ... اليقين بأن دين الله وهو الغالب : ... 223
? ... عندما تكون الأهداف واضحة : ... 224
? ... الفرق بين أهداف المسلمين وأهداف الكفار : ... 228
? ... من معاني النصر : ... 237
الباب الرابع - متى ينتصر الباطل على الحق ؟ ... 247
ينتصر الباطل على الحق في الحالات التالية : ... 247
1. ... عدم تماسك المؤمنين التنازع والخصام والمعاصي: ... 247
2. ... الظلم بكل أنواعه وصوره : ... 247
3. ... الفساد العام فساد العقيدة والعبادة والنظم والحياة : ... 249
4. ... الغرور والفخر : ... 253
5. ... كراهية الموت في سبيل الله : ... 257
6. ... عدم التضحية بالمال والنفس في سبيل الله : ... 268
7. ... إيثار الفاني على الباقي : ... 270
8. ... الركون إلى الأرض والتثاقل : ... 271
9- كفر النعم : ... 273
الباب الخامس- بعض النتائج الهامة ... 280
? ... البقاء للأقوى عندما يكون الصراع بين باطلين فيكلهم الله تعالى إلى أنفسهم إلى حين ... 280
? ... الحروب تولد التحدي والإبداع وتسخير طاقات الكون وتظهر حقيقة المتحاربين ... 280
? ... نظرتان مختلفتان ضرب القرآن الكريم لنا مثلا عن أصحاب تلك النظرتين الذين تكلمت عنهم آنفا : ... 285(2/11)
? ... الله تعالى الفعال لما يريد : ... 301
? ... المستقبل لهذا الدين (حتما) فدين الله منصور لا محالة : ... 312
? ... لا بد من العودة الصادقة الكاملة إلى دين الله دون ترقيع أو تمييع أو كذب أو تجزيء: ... 364
? ... ما هو المخرج مما نحن فيه اليوم ؟ ... 372
عودة صادقة إلى الله تعالى شاملة : ... 372
طبيعة المنهج القرآني ... 379
التربية الجهادية ... 399
? ... نقلةٌ بعيدة ... 422
? ... استعلاء الإيمان ... 433
? ... هذا هو الطريق ... 440
? ... معركتنا مع اليهود : ... 457(2/12)