هذه هي زوجتي
تأليف
أبو أحمد
رحمه الله
تقديم
فضيلة الشيخ
أبو بكر جابر الجزائري
غفر الله له ولوالديه ولسائر المسلمين
كلمة تقريظ لكتاب
(هذه هي زوجتي)
حمدًا لله وصلاة وسلامًا على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
وبعد... لقد وفقني الله عز وجل لقراءة كتاب "هذه هي زوجتي" لمؤلفه المحب/ عصام بن محمد الشريف حفظه الله تعالى وبارك فيه ونفع بدعوته، فوجدت الكتاب بغية كل مؤمن ومؤمنة، وإني لا أبالغ ـ ويعلم الله ـ إن قلت إنه خير ما ألف في هذه الأيام.
وإني أدعو كل مؤمن ومؤمنة إلى قراءته والعمل بما فيه، إنه حاجة كل زوج من ذكر وأنثى من بني الإسلام اليوم، وأدعو أهل البر والإحسان إلى نشر هذا الكتاب في ديار الإسلام كافة لأنه علاج أمراض قد استعصى علاجها، وقصرت بالأمة عن طلب كمالها وسعادتها.
وكتبها
أبو بكر جابر الجزائري
المدرس بالمسجد النبوي الشريف
مقدمة
الحمد لله أن خلق من الماء بشرًا، فجعله نسبًا وصهرًا. وعظَّم أمر الأنساب، وجعل لها قدرًا، فحرم بسببها السفاح، وبالغ في تقبيحه ردعًا وزجرًا، وجعل اقتحامه جريمة فاحشة، وأمرًا إمرًا، وندب إلى النكاح وحث عليه استحبابًا وأمرًا.
فسبحان من كتب الموت على عباده فأذلهم به هدمًا وكسرًا، ثم بث بذور النطف في أراضي الأرحام وأنشأ منها خَلْقًا، وجعله لكسر الموت جبرًا، تنبيهًا على أن بحار المقادير فياضة على العالمين نفعًا وضرًا، وخيرًا وشرًا، وعسرًا ويسرًا، وطيًا ونشرًا.
والصلاة والسلام على محمد المبعوث بالإنذار والبشرى، وعلى آله وأصحابه، صلاةً لا يستطيع لها الحساب عدًا ولا حصرًا، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:(1/1)
فإن النكاح معينٌ على الدين، ومهينٌ للشياطين، وحصنٌ دون عدو الله حصين، وسببٌ للتكثير الذي به مباهاة سيد المرسلين لسائر النبيين، فما أحراه بأن تُتحرى أسبابه، وتُحفظ سننه وآدابه، وتُشرح مقاصده وآرابه، وتُفصل فصوله وأبوابه، والتي من أهمها الحديث عن الصفات الحقيقية للزوجة المسلمة.
ومما لا ريب فيه أن المرأة هي عماد الأسرة ومحورها الذي تدور في فلكه، وإليها يرجع نجاح الأسرة وتماسكها، وعليها تقع مسئولية انهيارها وتفككها، فهي الرائد والقدوة، وهي التي تربي الأبناء وتوجههم وتلازمهم فترة طويلة، ومما لا شك فيه أن الأبناء يتعلمون من القدوة أضعاف ما يتعلمون بالتلقين والإلقاء، لذا كان لابد من رسمٍ حقيقي واقعي لصورة الزوجة المسلمة بلا إفراط أو تفريط.
وقد كتب أحدهم عن أوصاف الزوجة المثالية فقال:(1/2)
"هي الناظرة في عيبها، المفكرة في دينها، المقبلة على ربها، الخفي صوتها، الكثير صمتها، اللينة الجناح، العفيفة اللسان، الظاهرة الحياء، الورعة عن الخنا(1)، الواسعة الصدر، العظيمة الصبر، القليلة المكر، الكثيرة الشكر، النقية الجيب(2)، الطاهرة من العيب، الحبيبة، الكريمة، الرضية، الزكية، الرزينة، النجيبة، السهلة الخُلُق، الرقيقة، البريئة من الكذب، النقية من العُجب، التاركة للقذى، الزاهدة في الدنيا، الساكنة، الستيرة، لا متفاكهة، ولا متهتكة، قليلة الحيل، وثيقة العمل، رحيمة القلب، خليصة الوَد، إن زُجرت انزجرت، وإن أُمرت ائتمرت، تشنأ الصلف(3)، وتبغض السرف، وتكره المكروه، وتمقت الفخر، وتتفقد نفسها بطيب النساء والكحل والماء، قنوعة بالكفاف، ومستترة بالعفاف، لها رحمة بالأهل، ورفق بالبعل، تضع له خدها، وتخلص له ودها، وتملكه نفسها، ولا تملأ منه طرفها، وتترك لأمره أمرها، وتخرج لآرائه عن رأيها، وتوكله عن نفسها، وتأمنه على سرها، وتصفيه غاية الحب، وتؤثره على الأم والأب، لا تلفظ بعيبه، ولا تخبر بسره، تحسن أمره، وتتبع سروره، ولا تجفوه في عسر ولا فقر، بل تزيده في الفقر ودًا وعلى الافتقار حبًا، تَلْقى غضبه بحلم وصبر، تترضاه في غضبه، وتتوقاه في سخطه، وتستوحش لغيبته، وتستأنس لرؤيته، قد فهمت عن الله ذكره وعلمه، فقامت فيه بحق فضله، فعظم بذلك فاقتها إليه، ولم يجعل لها مُعولاً إلا عليه، فهو لها سمع ولُب، وهي له بصر وقلب".
وعندما أتحدث في هذا الكتاب عن الصفات الحقيقية للزوجة الصالحة، فإني أنبه إلى عدة نقاط:
__________
(1) الخنا: الفحش في القول.
(2) كناية عن العفة.
(3) من معانيه قلة الخير.(1/3)
أولاً: ليس معنى أن أي امرأة ليس فيها كل هذه الشروط العشرين مجتمعة، أنها ليست بصالحة، وإنما أعني بكل هذه الشروط صفة الكمال للزوجة الصالحة ـ وهي في قدر استطاعتها إن شاء الله ـ فلابد أن تتوافر فيها هذه الشروط كلها ما وسعها ذلك ولو أنها تضرب بسهم في كل صفة، إلا الصفات الواجبة كطاعة الزوج في غير معصية، فإنها من الصفات التي لا يسع المسلمة تركها، أو التقصير فيها.
ثانيًا: لا يحتج أحدٌ بعدم وجود مثل هذه الزوجة الصالحة بكل هذه الصفات؛ لأنها من وجهة نظره صفات مستحيلة أو صعبة، وإنما موجودة بنسب، وكلٌ على قدر اجتهاده وعطائه.
ثالثًا: وحتى لا يحتج الزوج على زوجته كل وقت، بأن يقول لها عليك كذا، ويجب عليك كذا، وأين أنت من الصفة كذا، فقد آثرت أن أكتب في النهاية صفات الزوج الصالح، حتى لا تبقى المرأة وحدها في الميدان، لا تجد من يدافع عنها، أو يأخذ بيدها إلى طريق الأمان والهدى والصلاح، وحتى تكون الصورة متكاملة، والحقوق متساوية إلى أن ييسر الله عز وجل كتابته إن شاء.
وقد قسمت الكتاب إلى أربعة أبواب:
الباب الأول: تحدثت فيه عن صفات الزوجة الصالحة، بكتابة متن في أعلى الصفحة ثم قمت بشرحه تحته. وقد اجتهدت في جمع عشرين صفة معتمدًا في ذلك ـ بعد الله تعالى ـ على الآيات والأحاديث الصحيحة، ثم أقوال أهل العلم من السلف والخلف، ولم أنس أن يكون الأسلوب سهلاً في متناول كل من يقرأه، وأن يلمس واقع الناس، مع ذكر الأمثلة ما وسعني ذلك.
الباب الثاني: خصصته للحديث عن قضية تعدد الزوجات، والتي أصبحت من القضايا غير المستساغة في كثير من المجتمعات المسلمة للأسف؛ لذا ذكرت حكمة مشروعية التعدد في الإسلام والأدلة على ذلك، ثم ذكرت أشهر الشبهات المثارة حول هذه القضية والرد عليها، ثم ختمت الحديث عنها بذكر مسائل فقهية هامة متعلقة بالتعدد، وتساءلت في النهاية: من للأرامل والمطلقات بعد الله تعالى؟(1/4)
ونبهت على أن التعدد ليس فيه منقصة وعيب، واجتهدت في جمع أقوال أهل العلم حول هذه القضية، حتى يكون الكلام منضبطًا من الناحية العلمية، وحتى لا تقرأ المرأة هذا الباب فتقول: ومن الذي كتب ذلك؟ إنما هو رجل!!
الباب الثالث: ذكرت فيه صفات الزوج الصالح تحت عنوان: "هذا هو زوجي" على غرار ما كتبت للرجال "هذه هي زوجتي".
الباب الرابع: ذكرت فيه أهم مشاكل المرأة مع زوجها في صورة فتاوى لبعض أهل العلم، أو إجابات لي لمشاكل الأخوات في المسجد، حتى تتضح الصورة الصحيحة، والأسلوب المتزن للمرأة في علاجها لمشاكلها مع زوجها، فتكتمل بذلك الصورة الحقيقية للزوجة الصالحة، وحتى تسير على الضوابط الشرعية في حَلّ ما يَعِنُّ لها من مشاكل وصعوبات داخل البيت.
والله أسأل أن أكون بذلك، قد قدمت جهدًا ولو متواضعًا لنساء المسلمين؛ يسرن عليه ويأخذن به، إن هن اتقين الله تعالى، وتطلعت أنفسهن إلى جوار الله تعالى في الجنة.
تفكرتُ في حشري ويوم قيامتي
فريدًا وحيدًا بعد عِزٍ ومِنْعَةٍ
تفكرت في طول الحساب وعرْضه
ولكن رجائي فيك ربي وخالق
إصباح خَدّي في المقابر ثاويَا
رهينًا بجُرمي والتراب وَسادِيَا
وذُلِّ مقامي حين أُعطى كتابيا
بأنك تعفو يا إلهي خطائِيا
?
والمسئول هو الله ـ عز وجل ـ أن يتقبل منا أعمالنا على ما فيها من نقص وعيب، وأن يتفضل علينا بأعظم الأجر والثواب، وأن ينفع به النفع العميم، في الدنيا ويوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد النبي وعلى آله وصحبه وسلم
أبو أحمد/ عصام بن محمد الشريف
- - -
الباب الأول
صفات الزوجة الصالحة
الصفة الأولى
ذات دين، فهي مستقيمة على دين الله ظاهرًا وباطنًا، بلا توان أو تردد أو تكاسل أو تسويف أو هوى، ليس بينها وبين زوجها مشاكل حول طاعة الله تعالى وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، مؤتمرة بأوامر الشرع، مجتنبة لنواهيه، وعلاوة على ذلك فهي يقظة الالتزام.(1/5)
ذات دين: لأن هذا هو الاختيار الصحيح، الذي تفرضه شريعة الله، ويؤيده العقل الصحيح والنفس المؤمنة، وتتجه إليه الفطرة السليمة.
وقد حض الإسلام الرجل على حسن اختياره لزوجته على الدين، حتى ينعم بصلاحها هو وأولاده وبيته.
قال - صلى الله عليه وسلم -: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"(1).
فذات الدين هي الزوجة الصالحة التي يجب على الرجل أن يتزوج بها، انطلاقًا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة"(2)، وذلك للأسباب الآتية:
(1) خير متاع الدنيا كما في الحديث السابق.
(2) تعين الرجل على شطر دينه:
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني"(3).
وعن أنس بنحوه بلفظ: "من تزوج فقد استكمل نصف الإيمان فليتق الله في النصف الباقي"(4).
(3) خير ما يتخذه المرء بعد تقوى الله تعالى:
فعن ثوبان رضي الله عنه قال: لما نزلت: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [التوبة: 34]، كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فقال بعض أصحابه: أنزلت في الذهب والفضة، لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تُعينه على إيمانه"(5).
(4) تعينه على طاعة الله وأمور الآخرة:
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه الحاكم وصححه، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (5610).
(4) رواه الطبراني وهو حديث حسن. صحيح الجامع برقم (6024).
(5) أخرجه الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه.(1/6)
وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء"(1).
فالله أكبر على هذه الزوجة المؤمنة الصالحة، الحريصة على أداء النوافل، بل وعونها لزوجها على أدائها، فكيف بالفرائض؟!
(5) تنجب له الولد الصالح الذي ينفعه في الدنيا والآخرة:
وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ علم يُنتفع به، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له"(2).
ولحديث: "إن الرجل لترفع درجته في الجنة، فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك"(3).
لذا فإنه يستحب عند الجماع أن ينوي كل من الرجل والمرأة طلب الولد الصالح، قال تعالى: { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [البقرة: 187]، (أي لا تباشروهن لقضاء الشهوة وحدها، ولكن لابتغاء ما وضع الله في النكاح من التناسل)(4).
(6) هي وحدها التي تحقق للرجل أهم عناصر السعادة الزوجية:
وذلك لأن منطلقاتها وغايتها في الحياة تختلف اختلافًا كبيرًا عن منطلقات وغاية المرأة العادية.
قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي النساء خير؟ قال: "التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره"(5).
وصدق من قال:
وخير النساء من سَرَّت الزوج منظرًا
قصيرةُ ألفاظٍ، قصيرة بيتها
عليك بذات الدين تظفر بالمن
من حفظته في مغيب ومشهد
قصيرةُ طرف العين عن كل أبعد
الودود الولود الأصلِ ذات التَعبد
?
__________
(1) حديث صحيح. صحيح الجامع برقم (3494).
(2) رواه مسلم رقم (1631) وغيره.
(3) صحيح، صحيح الجامع برقم (1617).
(4) الكشاف للزمخشري (1/257).
(5) رواه النسائي والحاكم وغيرهما، وحسنه الألباني في الصحيحة برقم (1838).(1/7)
إذن فاختيار المرأة الصالحة ذات الدين زوجة للرجل، هو الاختيار الصائب والضروري.
فهي مستقيمة على دين الله ظاهرًا وباطنًا، بلا توان أو تردد أو تكاسل أو تسويف أو هوى:
فالاستقامة على الدين عندها، ليست استقامة القشور والمظاهر، وإنما استقامة حقيقية يحبها الله تعالى، وهي موافقة العمل للأحكام الشرعية وإخلاصه لله عز وجل، هي استقامة استواء الظاهر والباطن وتناسقهما، بحيث لا تفعل فعلاً يخالف القول، أو تقول قولاً يخالف الفعل، فهي تعيش بالإسلام واقعًا حقيقيًا صادقًا ملموسًا، فنجد عملها يوافق قولها، ومخبرها يوافق مظهرها؛ لأنها تعمل ألف حساب لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف: 2، 3].
لذا فإن استقامتها على الدين يحملها على طاعة مطلقة لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - بلا تردد أو تكاسل، ثم تنطلق بكل خضوع وحب لله طالبة رضا الله والدار الآخرة.
ليس بينها وبين زوجها مشاكل حول طاعة الله تعالى وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، مؤتمرة بأوامر الشرع، مجتنبة لنواهيه:
الإيمان قد اختمر في قلبها، والخوف من الله أصبح قائدها، والجنة غايتها؛ لذا فهي تقف على قاعدة السمع والطاعة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبالتالي لا توجد مشاكل بينها وبين زوجها في ذلك الجانب.
وهذا بخلاف من زوجها يحضها على طاعة الله وهي معرضة، ومن زوجها يحبب إليها الإيمان والعمل الصالح وهي نافرة متبعة لهواها، فتنشأ مشاكل خطيرة بينهما، تجعل الحياة الزوجية بينهما دائمًا في قلق واضطراب.
وإن عبودية المرأة لربها تدفعها إلى كل طاعة تُقربها من الله تعالى، فهلاَّ قامت المرأة بالوظيفة التي خُلقت من أجلها، ألا وهي عبادة الله تعالى وحده.(1/8)
وعلاوة على ذلك فهي يقظة الالتزام: وأعني بذلك أنها لا يفوتها فرصة تستطيع أن تعلم أولادها من خلالها سُنّة مثلاً، أو توجه زوجها إلى طاعة غفل أو كسل عنها، إلا ونبهت وأرشدت.
فإذا عطس ولدها مثلاً، لا تترك الأمر يمر بدون تعليم أو توجيه فتعلمه أن يقول: الحمد لله، فإذا تعلمها لا تنسى أو تتكاسل أن ترد عليه فتقول: يرحمك الله، ثم يرد عليها الولد: يهديكم الله ويصلح بالكم.
وهذا مثال يوضح ما أعنيه بيقظة الالتزام عندها، وهذا ناشئ بالطبع من انشغالها الدائم بدينها، لدرجة أنها لا تُفوِّت فرصة تستطيع أن تعلم من خلالها أدبًا أو خلقًا إسلاميًا إلا وقامت به.
وكذلك تعلم ابنها أذكار الاستيقاظ من النوم، وأذكار الصباح والمساء، وتسأل زوجها لِمَ لَمْ تصل الفجر اليوم... وهكذا.
(فكرة مغلوطة)
يُلبِّس إبليس على بعض الشباب فكرة مغلوطة، وهي أن يرى أحدهم فتاة جميلة ليست ذات دين، ولكن جمالها يجذبه إليها، فيريد أن يتقدم للزواج منها مُدعيًا أنه سيأخذ بيديها إلى طريق الالتزام والاستقامة، وأنَّ فيها خيرًا كثيرًا، إلى غير ذلك من الأفكار الواهية في الغالب، وهذه الفكرة غير مأمونة ولا مضمونة، فما أدراك أن تفسد هي عليك دينك، وتُبعدك عنه، وماذا تفعل لو فشلت أنت فيما كنت تريد أن تصل إليه؟ في الوقت الذي نرى فيه في واقعنا أمثالاً من ذلك ونماذج، ولم يجدوا في النهاية إلا أن يَعَضوا الأنامل من الفشل، فإما أن يصبروا ويتحملوا خسارات جسيمة، أو ينتهي الأمر بالانفصال.
تحت يدي مشاكل كثيرة من هذا الصنف:
فهذه بعد أن وعدته بالالتزام بالنقاب وحضور مجالس العلم، أصبحت مشغولة بالزيارات والزينة، ثم بعد ذلك بالأولاد.
وهذه بعد الزواج، ضعفت همتها، وأصبحت امرأة عادية لا تبحث إلا عن مقومات الحياة فقط.
وأخرى توارت عن الأعين، وأصبحت في عداد المنسيات.(1/9)
إلى آخر هذه الصور، التي يتعجل أصحابها في الزواج، فمهلاً مهلاً أيها الشباب، ودققوا في الاختيار، فأمر الزواج ليس بالشيء الهين.
- - -
الصفة الثانية
حسنة الخلق، هادئة الطبع، هينة لينة، طيبة الكلام، معتدلة المزاج، مستقيمة السلوك، ليس عندها ضغينة أو حب انتقام، أو تنغيص الحياة على زوجها بعناد أو كبر أو غير ذلك.
ما من شك أن كل هذه الصور المضيئة للزوجة الصالحة، إنما هي مظهر عملي وحقيقي لحسن خلقها، وقد فاز وأفلح من تزوج بامرأة حسنة الخلق. وقد حثنا الإسلام على التحلي بحسن الخلق وأعلى من شأنه ورغب في الكلام الطيب؛ فعن أسامة بن شريك رضي الله عنه مرفوعًا: "أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقًا"(1).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني في الآخرة مجالس أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقًا: الثرثارون، المتفيهقون، المتشدقون"(2).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة"(3).
وعن أنس قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: علِّمني عملاً يدخلني الجنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أطعم الطعام، وأفشِ السلام، وأطب الكلام، وصل بالليل والناس نيام"(4).
__________
(1) رواه الطبراني وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة برقم 433).
(2) أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب من هذا الوجه، وله شواهد كما في الترغيب والترهيب (3/261).
(3) أخرجه الترمذي وأبو داود والبزار بإسناد جيد (الترغيب والترهيب 3/256).
(4) رواه البيهقي وابن حبان.(1/10)
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الجنة غُرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها" فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائمًا والناس نيام"(1).
(وربما قالت بعض الزوجات: وماذا يريد الزوج مني؟ ألا يجد طعامه مطهيًا، وثوبه مكويًا، وبيته نظيفًا، وأولاده لابسين آكلين، وحاجاته مهيأة.
إنه لا يطلب مني طلبًا إلا حققته، ولا يريد حاجة إلا سارعت في تنفيذها، ماذا يريد الزوج مني أكثر من ذلك؟
كلا يا سيدتي:
إنه بحاجة إلى العاطفة التي أنت مصدرها... إنه بحاجة إلى الابتسامة المشرقة من فِيك التي تبدد ظلمات الكآبة التي تعترضه في الحياة.
إنه يريد أن يرى الإنسانة التي تُعنى به وتظهر له الاهتمام الكبير، وتشعره أنه ـ بالنسبة إليها ـ قطب الرحى، وأساس السعادة.
إنه يريد أن يسمع باللحن المريح كلمة الشوق والشكر والحب والرغبة في الأنس به واللقاء.
إن ذلك كله مفتاح باب السعادة التي يحويها معنى الزواج.
إن كلمة شكر وامتنان من الزوجة مع ابتسامة عذبة تسديها إلى الزوج بمناسبة شرائه متاعًا إلى البيت، أو ثوبًا لها، تدخل عليه من السرور الشيء الكثير، قولي له الكلمة الطيبة ولو كان نصيب المجاملة فيها كبيرًا، لتجدي منه الود والرحمة والتفاهم، مما يحقق لك الجو المنعش الجميل.
رددي بين الفينة والفينة عبارات الإعجاب بمزاياه، واذكري له اعتزازك بالزواج منه وأنك ذات حظ عظيم، فإن ذلك يُرضي رجولته ويزيد تعلقه بك، قابليه ساعة دخوله بالكلمة الحلوة العذبة، وتناولي منه ما يحمل بيديه وأنت تلهجين بذكره وانتظارك إياه.
فذلك كله من الكلمة الطيبة التي تأتي بالسعادة، ولا تكلفك شيئًا، وتعود عليك بالنفع العظيم)(2).
__________
(1) أخرجه أحمد والحاكم وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي.
(2) نظرات في الأسرة المسلمة للدكتور محمد الصباغ حفظه الله.(1/11)
فصل: من أهم صور حُسن خُلق المرأة مع زوجها:
(1) احتمال سوء الخلق والأذى والصبر على ذلك.
(2) ألا تفرح إذا رأته حزينًا، ولا تحزن إذا رأته فرحًا.
(3) لا يخرج من لسانها إلا القول الطيب انطلاقًا من قوله تعالى: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً } [البقرة: 83]، وهو أحب الناس إلى قلبها.
(4) ألا تقابل الإساءة بمثلها، بل بالإحسان؛ لأنها ترجو ما عند الله وهو خير وأبقى.
(5) ضبط الانفعالات، وعدم إساءة الظن.
(6) المبادرة إلى طلب رضا الزوج، وإذا ما غضب لا تنتظر أن يبدأ هو بالسلام، انطلاقًا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ونساؤكم من أهل الجنة الودود الولود العئود على زوجها، التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها وتقول: لا أذوق غُمضًا حتى ترضى"(1).
فما أجمل المرأة حسنة الخلق، والتي تزن به الدنيا وما عليها.
وما أجمل المرأة الهينة اللينة السهلة القانتة لربها ولزوجها.
وما أجمل المرأة المتواضعة، والتي لا يعرف الكبر ولا العجب ولا الغلُّ طريقًا إلى قلبها.
وما أجمل المرأة المتواضعة، صاحبة الصوت الهادئ.
وما أجمل المرأة حسنة الظن بزوجها.
وما أجمل المرأة حين تشعر بكل قول وفعل، يرقى بها إلى درجة الخوف من الله.
- - -
الصفة الثالثة
طالبة علم شرعي، تعرف للعلم قدره وفضله وأهميته؛ ولذلك تحرص على طلبه، لها منهج علمي تحرص عليه وتأخذ به، كلٌ على حسب طاقته وقدره، لها في أمهات المؤمنين ونساء سلف هذه الأمة القدوة الحسنة في طلب العلم والعمل به.
طلبها للعلم الشرعي ليس وقتيًان أو لظروف معينة ينتهي بانتهائها، ولكن انطلاقًا من معرفتها بأنه عبادة تتقرب به إلى الله تعالى، فضلاً عن ضرورته الشرعية.
فصل: أسباب كون العلم ضرورة شرعية:
(1) لأن حاجتنا إليه لا تقل عن حاجتنا إلى المأكل والمشرب والملبس والدواء؛ إذ به قوام الدين والدنيا.
__________
(1) للحديث شواهد يتقوى بها، السلسلة الصحيحة للألباني 287.(1/12)
(2) لأن المستعمرين ـ بل المحتلين الحاقدين ـ إنما احتلوا بلاد المسلمين لأسباب كثيرة، بَيْدَ أن من أهمها جهل المسلمين.
(3) انتشار المذاهب الهدامة، والنِّحل الباطلة، وما حدث ذلك إلا لأنها وجدت قلوبًا خالية، فتمكنت منها، فإن القلوب التي لا تتحصن بالعلم الشرعي، تكون عرضة للانخداع بالضلالات، والوقوع في الانحرافات.
(4) إنَّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب(1).
وزوجتي تحذر آفات العلم، وتتأدب بآدابه، تأخذ من العلم ما استطاعت منه، تقرأ في الكتب، وتستمع إلى الأشرطة الإسلامية التي تحض على العلم النافع والعمل الصالح.
تهتم بمكتبتها داخل البيت، وتعرف ما في كتبها من فهارس ومراجع، وتسأل أهل العلم، وتتحاور مع زوجها ومع أخواتها لمعرفة دينها، ومعرفة الحلال والحرام.
فصل: نصوص في فضل العلم وأهله:
قال تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9]، وقال أيضًا: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة: 11].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالِم ليستغفر له مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض حتى الحيتانَ في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يُوّرثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورِّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر"(2).
__________
(1) العلم ضرورة شرعية للدكتور ناصر بن سليمان العمر.
(2) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/33).(1/13)
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يُعلِّمه كان له كأجر حاج تامًا حجته"(1).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم. وقال: ما تُقرب إلى الله بشيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.
وهذه أمثلة لما كانت عليه نساء سلف هذه الأمة من طلبهن للعلم وحرصهن عليه:
كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المرْوزية، كانت من راويات صحيح البخاري المعتبرة عند المحدثين، ورحل إليها أفاضل العلماء.
أم زينب فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح بن محمد البغدادية، العالمة المفتية الفقيهة. كانت تصعد المنبر، وتعظ النساء، وانتفع بتربيتها والتخرج عليها خلق كثير، وكانت عالمة موفورة العلم في الفقه والأصول.
زوجة الحافظ الهيثمي، كانت تساعد زوجها في مراجعة كتب الحديث.
أم الخير الحجازية، تصدرت حلقات وعظ وإرشاد المسلمات بجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه في القرن الرابع الهجري.
أم الدرداء الصغرى، اشتهرت بالعلم والعمل والزهد، وكانت عالمة فقيهة، وكان الرجال يقرءون عليها، وكان عبد الملك بن مروان وهو خليفة يجلس في حلقتها مع المتفقهة.
فصل: وجوب اقتران العلم بالعمل:
فالذي يتعلم العلم لذاته فهو مخطئ، ومن يتعلم العلم ليقال عالم فهو على شفا جُرف هار ينهار به في نار جهنم بسبب ريائه، وإنما مقصود العلم العمل، والعلم بدون عمل كجسم بدون روح. والمرأة المسلمة التي تحرص على طلب العلم، وحضور دروس العلم بالمساجد، ومطالعة الكتب، وسماع الأشرطة، إنما تكون قدوة لغيرها؛ لذا فإنه يجب عليها أن تحذر من كل قول أو فعل ينافي طلبها للعلم وحرصها عليه، وإلا كانت دعاية سيئة لما تدعو إليه غيرها وللإسلام.
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/38).(1/14)
إن العمل هو المقصود الأعظم من العلم، وبدونه لا قيمة للعلم، ولا فائدة من ورائه، ومن هنا جاءت النصوص من الكتاب والسنة تؤكد وجوب ربط العلم بالعمل، وتحذر من الفصل بينهما.
قال تعالى: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [الفاتحة: 7]، قال العلماء: المغضوب عليهم: هم الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون: هم الذين يعملون على جهل وضلال، وقال تعالى أيضًا: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة:44]، وقال عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف: 2، 3].
وعند الترمذي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أبع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟"(1).
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيقال: أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقال: كنت آمركم بالمعروف ولا أفعله، وأنهاكم عن المنكر وآتيه".
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: مَثَلُ علم لا يُعمل به كمثل كنز لا يُنفق منه في سبيل الله عز وجل.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يَغرركم من قرأ القرآن ولكن انظروا من يعمل به.
فصل: تنبيهات هامة:
الأول: هل معنى كلامنا عن العلوم الشرعية أننا نغفل التخصصات التجريبية، ونتجه إلى التخصصات الشرعية؟
__________
(1) صحيح الترغيب والترهيب للألباني (1/126).(1/15)
بالطبع لا، بل إن التخصصات التجريبية هي من فروض الكفاية التي تأثم الأمة بتركها (ولكَمْ عانينا المآسي من فقد الأطباء المسلمين الصالحين، وفقد المهندسين وغيرهم، حيث جاءنا أعداؤنا باسم الطب، وباسم الهندسة، وباسم الفيزياء ونحوها، فدخلوا بلاد المسلمين، فأدخلوا تلك العلوم، وأدخلوا معها ضلالهم وفسادهم.
ولكن المطلوب من طالب العلم أن يحيط من العلم الشرعي بفرض العين الذي لا يُعْذَرُ مسلم بجهله، فإذا تحقق ذلك، وجب علينا تحقيق التوازن بين التخصصات، فيكون هناك متخصصون في الشريعة، ومتخصصون في الطب، ومتخصصون في الهندسة، ومتخصصون في الاقتصاد، وفي غير ذلك من العلوم.
مع أن على المتخصصين في العلوم التجريبية أن يستثمروا ما يستطيعون من الوقت في الاستزادة من علوم الشريعة)(1).
وإذا أجزنا خروج المرأة لطلب العلم التجريبي، فلابد أن يكون وفق الضوابط الشرعية من الستر الكامل بالحجاب، وعدم الاختلاط بالرجال، وأن يكون العلم نفسه من العلوم الجائزة شرعًا.
الثاني: حماس وهمة المرأة في طلبها للعلم قبل الزواج، ثم ما تلبث أن يتغير الحال ويفتر الحماس وتخور الهمة بعد الزواج، بانشغال المرأة بأمورها الحياتية، وأوضاعها العائلية، وحياتها الجديدة، أمرٌ جديرٌ بالوقوف أمامه ومناقشته.
فكم سمعنا عن نساء مجتهدات في طلب العلم، فما أن دقَّ الزواج باب بيتها حتى تغيرت الصورة، وتبدلت الهمة، وهامت المرأة وراء متطلبات الزوج والدنيا.
وربما كان ذلك ناتجًا عن حماس شديد غير منضبط في البداية حتى فتر، أو طلبًا للسمعة والشهرة والرياء، أو ابتعاد المرأة نفسها عن ميدان أخواتها المسلمات بسبب انشغالاتها الجديدة، فلم تجد الناصحة والمذكِّرة والموجهة.
وحتى تتجنب المسلمة الوقوع في هذه الفتنة، فعليها بسلوك طريق العلاج وهو:
(1) تجريد النية في كل عمل لله تعالى وحده.
(2) معرفة أهمية العلم وفضله، ومكانة أهله عند الله.
__________
(1) العلم ضرورة شرعية، ص69.(1/16)
(3) قراءة سير النساء المجتهدات في طلب العلم، لاسيما بين الحين والآخر، حتى تظل همتها عالية.
(4) مراجعة العلم مع قريناتها، كمن تحفظ القرآن مع غيرها، أو الحديث أو الفقه وغير ذلك.
(5) حضور مجالس العلم، وتقديمها على كل شيء ما لم تُفوِّت واجبًا.
(6) طلب النصيحة من أهل العلم والصلاح.
(7) معالجة أي قصور أو فتور بمجرد ظهوره، وقبل أن يستفحل.
(8) التيقن بأن الدعوة إلى الله بلا علم، وبال على الداعي والمدعو.
الثالث: لماذا تهتم المرأة المسلمة بتنظيف بيتها وأثاثه وترتيبه، في الوقت الذي لا نجد هذا الاهتمام بمكتبة منزلها المقروءة والمسموعة؟!!
أتعجب حقيقة من هذه المرأة التي تهتم بأثاث بيتها وفرشه، بتنظيفه وترتيبه وربما بتغييره، في الوقت الذي لا نجد فيه هذا الاهتمام أو نصفه بمكتبة بيتها سواء كانت المقروءة أو المسموعة.
المشكلة عند الكثير من النساء سوء تنظيم أوقاتهن، ولو أن المرأة عملت جدولاً شهريًا أو أسبوعيًا بما يجب عمله كل شهر أو كل أسبوع، غير عملها اليومي؛ لأعانها ذلك على إتمام كل شيء وعدم الإهمال أو النسيان.
مكتبة بيتك تحوي بين طياتها كتب العلم بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - ودينه، أليس ذلك دافعًا لك على ترتيبها وتنظيمها؟!! أليس ترتيبك وتنظيمك لمكتبة بيتك، إنما هو في حقيقة الأمر محافظة على العلم النافع لك ولأولادك ولمن ينتفع به بعدكم؟! وربما كانت هذه المكتبة صدقة جارية؟!
اهتمام الكثير من النساء ببيت الدنيا أنساهن بيت الآخرة، فمهلاً يا نساء المسلمين ـ والملتزمات منكن خاصة ـ فدنياكن قاربت على الانتهاء.
إن المرأة الصالحة التي تحافظ على مكتبة بيتها المقروءة والمسموعة بالترتيب والتنظيف، إنما هو من رفعها لشأن العلم وأهله، ولهو دليلٌ أيضًا على صلاحها وتقواها بحبها كتب العلم الشرعي.(1/17)
إن المرأة التي تحافظ على مكتبة بيتها، إنما هي المرأة التي لها حظ وافرٌ من العلم؛ لأنها تستعملها، أما التي لا تستعمل هذه المكتبة، فإنها هي الجاهلة، أو على قدر من الجهل.
المنهج العلمي لنساء المسلمين:
وهو منهج علمي مقترح، تأخذ به كل طالبة علم، ترجو الله والدار الآخرة، لكي تتفقه في دينها، وتربي أولادها على منهج الإسلام الحقيقي.
منهج المرحلة الأولى(1):
أولاً: القرآن:
(1) حفظ جزء "عمّ" تجويدًا وتفسيرًا (تفسير ابن كثير).
(2) روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي الصابوني (من المحاضرة 1: 20) الجزء الأول(2).
ثانيًا: الأذكار:
صحيح الكلم الطيب للألباني.
ثالثًا: الحديث:
من (1: 13) من كتاب قواعد وفوائد من الأربعين النووية لناظم سلطان أو كتاب إيضاح المعاني الخفية في الأربعين النووية لمحمد تاتاي.
رابعًا: الفقه:
من أول كتاب "فقه السنة" للشيخ سيد سابق وحتى نهاية صلاة العيدين.
خامسًا: السيرة:
وقفات تربوية مع السيرة النبوية للشيخ أحمد فريد حفظه الله (من أول الكتاب حتى صفحة 134).
سادسًا: العقيدة:
(1) رسالة "تطهير الجنان والأركان عن دَرَن الشرك والكفران" للشيخ ابن حجر آل بوطامي.
(2) الإيمان للدكتور محمد نعيم ياسين.
(3) دعوة التوحيد للشيخ محمد خليل هراس.
سابعًا: الرقائق:
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم رحمه الله (حتى نهاية الكلام عن فوائد غض البصر).
ثامنًا: الفكر والدعوة:
(1) هل نحن مسلمون لمحمد قطب.
__________
(1) على ألا يستغرق مذاكرته أكثر من عام، وقد راعينا في ذلك الأخوات المتزوجات والطالبات حيث إن المسئولية وراءهن تأخذ من الوقت ما يضيق به مذاكرة هذا المنهج ولذا آثرنا أن يكون في خلال عام حتى يسع ذلك كل الأخوات إن شاء الله ومن استطاعت الانتهاء منه قبل ذلك فهذا خير عظيم.
(2) مع ملاحظة الاهتمام بمعرفة الأحكام الشرعية وحفظها.(1/18)
(2) أصول الدعوة لعبد الكريم زيدان (حتى نهاية المبحث الرابع).
تاسعًا: كتب خاصة بالمرأة:
(1) فتاوى المرأة للشيخ ابن عثيمين.
(2) الكلمات النافعات للأخوات المسلمات للمؤلف.
(3) عودة الحجاب لمحمد بن أحمد بن إسماعيل (جـ1).
(4) الزيارة بين النساء لخولة درويش.
(5) رسالة "فتياتنا بين التغريب والعفاف" لناصر العمر.
(6) المتبرجات للزهراء فاطمة بنت عبد الله.
منهج المرحلة الثانية:
أولاً: القرآن:
(1) حفظ وتفسير جزء "قد سمع"، وجزء "تبارك".
(2) روائع البيان للصابوني جـ1 (من المحاضرة 21: 40).
(3) دراسة كتاب "التجويد الميسر" لعبد العزيز القارئ.
ثانيًا: الأذكار:
"مختصر النصيحة في الأذكار والأدعية الصحيحة" لمحمد بن أحمد بن إسماعيل.
ثالثًا: الحديث:
من الحديث (14: 27) من كتاب قواعد وفوائد من الأربعين النووية لناظم سلطان أو كتاب إيضاح المعاني الخفية في الأربعين النووية لمحمد تاتاي.
رابعًا: الفقه:
الزكاة والصيام من "فقه السنة".
خامسًا: السيرة:
وقفات تربوية مع السيرة النبوية (من ص135 إلى ص263).
سادسًا: العقيدة:
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن آل الشيخ.
سابعًا: الرقائق والأخلاق:
(1) الباب الثاني من كتاب "منهاج المسلم" للجزائري غفر الله له.
(2) البحر الرائق في الزهد والرقائق لأحمد فريد.
ثامنًا: الفكر والدعوة:
(1) قبسات من الرسول لمحمد قطب.
(2) أصول الدعوة من (ص193 حتى ص355، نهاية الكلام عن أخلاق الداعية).
تاسعًا: السنن والبدع:
(1) الإبداع في مضار الابتداع من أول الكتاب حتى ص184.
عاشرًا: كتب عامة وأخرى خاصة للمرأة:
(1) عودة الحجاب (جـ2).
(2) منهج التربية النبوية للطفل لمحمد نور بن عبد الحفيظ سويد من ص1: ص205.
(3) صورة البيت المسلم للمؤلف.
منهج المرحلة الثالثة:
أولاً: القرآن:
(1) حفظ وتفسير جزء "26"، وجزء "27".
(2) روائع البيان (جـ2).
(3) التبيان في علوم القرآن للصابوني.
ثانيًا: الحديث:(1/19)
من الحديث (28: 40) من كتاب قواعد وفوائد من الأربعين النووية لناظم سلطان، أو كتاب إيضاح المعاني الخفية في الأربعين النووية لمحمد تاتاي.
ثالثًا: الفقه:
الجنائز والحج من كتاب "فقه السنة".
رابعًا: السيرة:
وقفات تربوية مع السيرة النبوية (من ص265 إلى آخر الكتاب).
خامسًا: العقيدة:
(1) 200 سؤال وجواب في العقيدة الإسلامية لحافظ حكمي.
(2) عقيدة المؤمن لأبي بكر الجزائري.
سادسًا: الرقائق والأخلاق:
مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي.
سابعًا: الفكر والدعوة:
(1) الاتجاهات الفكرية المعاصرة للدكتور علي جريشة.
(2) أصول الدعوة من صفحة 358 لآخر الكتاب.
ثامنًا: السنن والبدع:
الإبداع من ص185 لآخر الكتاب.
تاسعًا: الكتب العامة:
(1) عودة الحجاب (جـ3)(1).
(2) منهج التربية النبوية للطفل من ص207 إلى آخر الكتاب.
ولمن أرادت المزيد من التخصص.
(1)
حفظ وتفسير أجزاء 1، 2، 3.
تلخيص كتاب الإيمان من فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني.
ضوابط للدراسات الفقهية للشيخ سلمان العودة.
حتى لا تغرق السفينة للشيخ سلمان العودة.
أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ ابن قعود.
النساء أكثر أهل النار، الأسباب وطرق النجاة للمؤلف.
(2)
حفظ وتفسير أجزاء 4، 5، 6.
تلخيص كتاب العلم من فتح الباري.
العوائق لمحمد أحمد الراشد.
وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق للشيخ جمال بن أحمد بن بشيريادي.
معارج القبول للشيخ أحمد حافظ حكمي، أو ملخصه لأبي عاصم هشام بن عبد القادر عقدة.
جامع أحكام النساء للشيخ مصطفى العدوي.
- - -
الصفة الرابعة
تعرف لزوجها قدره الذي عظَّمه الإسلام، وهي تقوم بحقوقه على أكمل وجه من باب أن هذه الحقوق عبادة تتقرب بها إلى الله تعالى، لا أنها حقوق مجردة.
__________
(1) يُكتفى بحفظ خمسة أدلة من الكتاب وأخرى من السنة على وجوب ارتداء المرأة النقاب، وحفظ كل الشبهات والرد عليها دون تفصيل.(1/20)
من أهم أسباب المودة والسعادة بين الزوجين، معرفة الزوجة عظم قدر زوجها في الإسلام، والذي على أساسه تكون نظرتها إليه، ومعاملتها معه.
فعن حُصين بن محصن قال: حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أي هذه، أذات بعل؟" قلت: نعم، قال: "كيف أنت منه؟" قالت: ما آلوه(1) إلا ما عجزت عنه. قال: "فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك"(2).
وعند النسائي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ونساؤكم من أهل الجنة الودود الولود العئود على زوجها، التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها وتقول: لا أذوق غُمضًا حتى ترضى"(3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو كان أحد ينبغي له أن يسجد لأحد لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها لما عظم الله من حقه"(4).
وفي رواية: "والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها كله، حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه"(5).
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من مقدمه إلى مَفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد ثم استقبلته تلحسه ما أدت حقه"(6).
__________
(1) أي لا أقصر في خدمته وطاعته.
(2) رواه أحمد والنسائي، وقال الألباني: إسناده صحيح. آداب الزفاف ص285.
(3) قال الألباني: للحديث شواهد يتقوى بها. السلسلة الصحيحة برقم 287.
(4) رواه ابن حبان، وحسنه الألباني في إرواء الغليل برقم 1998.
(5) رواه أحمد وابن ماجه، وحسنه الألباني. صحيح الجامع 6915.
(6) نيل الأوطار للشوكاني (6/223) ط. الحلبي، قال المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد. انظر: إرواء الغليل (7/55).(1/21)
وقالت عاشة رضي الله عنها: يا معشر النساء! لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بخد وجهها.
وقالت أم حُميد: كن نساء المدينة إذا أردن أن نبنين بامرأة على زوجها بدأن بعائشة فأدخلنها عليها، فتضع يدها في رأسها تدعو لها وتأمرها بتقوى الله وحق الزوج.
فإذا ما فقهت المرأة معنى هذه الأحاديث وقامت بها، فإنها إذن لن تنظر إلى حقوق زوجها عليها على أنها حقوق مجردة أو منفصلة عن حقوق الله، إذا أعطاها حقوقها أعطته، وإن لم يعطها لم تعطه، لا بل تقوم بحقوق زوجها عليها من باب أنها قُربى تتقرب بها إلى الله عز وجل، فتُحسِّنها وتجتهد في القيام بها على أكمل وجه، حتى وإن قصر الزوج نفسه في بعض حقوقها؛ لأنها ترجو الفضل والثواب من الله وحده.
فصل: كلمة لابد منها:
جاءتني أكثر من مشكلة بين الزوجين، وكانت هذه المشاكل تبدأ أو تنتهي عند الجماع، ويشتد الأمر غرابة عندي وألمًا عندما أجد هذه المشكلة بين الملتزمين والمستقيمين على دين الله.
فهذه تمتنع عن زوجها لأنها مشغولة بعمل البيت، وأخرى لأنه ليس لها الآن رغبة، وثالثة لأنها استيقظت من نومها حالاً، إلى آخر الأسباب الواهية التافهة التي تجعل المرء أمامها يقف متعجبًا تارة، وحائرًا تارة أخرى؛ لذا لابد من هذه الكلمة، وتلك النصيحة؛ إذ إنه لا حياء في الدين، والدين النصيحة.
ما من شك أن من مقاصد الزواج الرئيسية إحصان الفرج، وهذا لا يتم إلا بجماع الرجل أهله كلما طلب؛ ولذا فإنه لا يجوز لأحدهما أن يمتنع عن الآخر، أو يغمطه صاحبه مع القدرة عليه. فالمرأة يجب عليها أن تلبي زوجها كلما أرادها على ذلك، وإن لم يكن لديها ميل لذلك، إلا من عذر شرعي، ولخطورة هذا الأمر فقد جاءت أحاديث نبوية تحذر المرأة من امتناعها عن فراش زوجها منها:(1/22)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، فبات غضبان، لعنتها الملائكة حتى تصبح".
وفي رواية: "والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها".
وفي رواية أخرى: "إذا باتت المرأة مُهاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح"، وفي رواية: "حتى ترجع"(1).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فبات غضبان عليها"، به يتجه وقوع اللعن؛ لأنها حينئذ يتحقق ثبوت معصيتها، بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك فإنه يكون: إما لأنه عذرها، وإما لأنه ترك حقه من ذلك. واعلم أنه لا يتجه عليها اللوم إلا إذا بدأت هي بالهجر، فغضب هو لذلك، أو هجرها وهي ظالمة، فلم تستنصل من ذنبها وهجرته، أما لو بدأ هو بهجرها ظالمًا لها فلا)(2).
وفي هذه الأحاديث السابقة (الإرشاد إلى مساعدة الزوج وطلب مرضاته، وأن صبر الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة، وأن أقوى التشويشات على الرجل داعية النكاح، ولذلك حض الشارع النساء على مساعدة الرجال في ذلك، أو السبب فيه الحض على التناسل، وفيه إشارة إلى ملازمة طاعة الله والصبر على عبادته، جزاءً على مراعاته لعبده؛ حيث لم يترك شيئًا من حقوقه إلا جعل له من يقوم به، حتى يجعل ملائكته تلعن من أغضب عبده بمنع شهوة من شهواته.
فعلى العبد أن يوفي حقوق ربه التي طلبها منه، وإلا فما أقبح الجفاء من الفقير المحتاج إلى الغني الكثير الإحسان)(3).
وعن طلق بن علي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا الرجل دعا زوجته لحاجته، فلتأته وإن كانت على التنور"(4).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والدارمي والإمام أحمد.
(2) فتح الباري (9/294).
(3) المصدر السابق (9/295).
(4) أخرجه الترمذي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1202).(1/23)
أي (فلتجب دعوته وإن كانت تخبز على التنور، مع أنه شغل شاغل لا يتفرغ منه إلى غيره إلا بعد انقضائه)(1).
وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قَتَب(2)، لم تمنعه نفسها"(3).
وعن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا، إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل(4)، يوشك أن يفارقك إلينا"(5).
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون"(6).
وإن كان لا يجوز للمرأة أن تمتنع عن زوجها إن طلبها لحاجته، فكذلك يحرم على الرجل أن يتعمد هجر زوجته، فهو مأمور بأداء حقها بقدر حاجتها وقدره... (فإن الشريعة السمحة لم تقتصر على مطالبة المرأة بأن تستجيب لزوجها، بل طالبت الرجل أيضًا أن يؤدي إليها حقها، ويعفها، ويغنيها، وذلك لقوله تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } [النساء: 129].
__________
(1) مرقاة المفاتيح (3/467).
(2) أي: رَحْل.
(3) رواه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما. الصحيحة 1203.
(4) الدخيل: الضيف والنزيل.
(5) رواه الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد, وصححه الألباني. الصحيحة برقم 173.
(6) رواه الترمذي، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح 1122.(1/24)
قال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله: ويدل عليه أن عليه وطأها لقوله تعالى: { فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } يعني: لا فارغة فتتزوج، ولا ذات زوج إذا لم يوفها حقها من الوطء(1)(2).
ولا يخفى على أحد ما يحدث من الاضطراب النفسي والجسدي بسبب امتناع أحد الزوجين عن الآخر، وما يحدث من المشاكل التي تبدو من أول وهلة أنها صغيرة، ثم تتعاظم وذلك بسبب امتناع المرأة عن فراش زوجها خاصة. ألا فليتق الله النساء والرجال وليؤدِ كلُ واحد منهما حق الآخر.
- - -
الصفة الخامسة
عندها حساسية طلب الرضا من الزوج، عاطفتها قوية ومشاعرها جياشة، عندها من طلاقة الوجه والبشاشة ما يزيد في وعاء السعادة الزوجية في بيتها.
إن الزوجة الصالحة تحاول بكل جهدها أن تعمل كل ما يُرضي الزوج، فتأخذ بكل الأسباب التي من شأنها تصل إلى رضاه، وأعلى من ذلك أن يكون عندها حساسية طلب رضاه، وأعني بهذه الحساسية أي أنها يقظة دائمًا، تفكر في تحقيق رضاه عنها وسعادته في كل وقت، وتأخذ بكل سبب يوصلها إلى ذلك، ولا تقدم عليه أي شيء آخر، حتى يكون ذلك دَيْدنها وهمُّها الذي تريد أن تصل إليه في النهاية ألا وهو حسن تبعلها لزوجها، وهو مرتبة الجهاد العليا للمرأة.
عاطفتها قوية ومشاعرها جياشة:
فهي تعيش مشاعر زوجها، تشعر بأحاسيسه، وتشاركه الحب والمودة، مما ينتج عنه توافق قلبي يثمر سعادة زوجية حقة، ترفرف في كل أرجاء البيت، وينعم بذلك أولادهما، فإذا كان زوجها فرحًا فلا تحاول أن تكدر عليه صفوه، وإن كان حزينًا، لا تفرح أمامه ولا تضحك، ولا ترفع صوتها بالحديث وكأن أمره لا يهمها، بل تحاول أن تزيل عنه همومه وغمومه بأي وسيلة من الوسائل ما وسعها ذلك.
تعرف ألفاظ الحب والتودد إلى زوجها، فيسمع منها هذا الكلام الطيب الحلو الذي يزيده سعادة وهناء.
__________
(1) أحكام القرآن (1/274).
(2) عودة الحجاب للشيخ محمد إسماعيل (2/278).(1/25)
عندها من طلاقة الوجه والبشاشة ما يزيد في وعاء السعادة الزوجية في بيتها:
نعم، فهي تعرف ما لطلاقة الوجه وبشاشته من تأثير على قلب زوجها، فإذا عاد من عناء عمله يجد منها الكلمة الطيبة، والابتسامة المشرقة، والملبس النظيف، والرائحة الطيبة، والوجه البشوش، والنظرة الحانية، فكم من مشكلة تحدث في البيوت بسبب افتقاد الرجل لوجه باش طلق، أُبدل بوجه عبوس نكد.
وكم تكون قاسية وجافة هذه المرأة عابسة الوجه، جافة المشاعر، صعبة الأحاسيس.
مثال رائع... سُعدى تتفقد زوجها:
دخلت سعدى على زوجها طلحة بن عبيد الله، فرأت على محياه سحابة هم لم تعرف سببها، وخشيت أن تكون قد قصرت في حق أو فرطت في واجب، فبادرت قائلة: "ما لك!! لعلك رابك منا شيء فنعتبك"(1). قال: "لا، وَلَنِعْمَ حليلة المرء المسلم أنتِ. ولكن اجتمع عندي مال ولا أدري كيف أصنع به؟"، قالت: "وما يغمك منه؟ ادع قومك فاقسمه بينهم".
قال: "يا غلام عليَّ بقومي، فقسّم أربعمائة ألف".
وهذه الصورة المضيئة التي تظهر لنا في بيت سُعدى وزوجها طلحة لتبرز لنا بعض أهم الأسس المفتقدة في كثير من البيوت الآن في العشرة بين الزوجين:
أولاً: سُعدى تتفقد زوجها في مشاعره وأحاسيسه، فهي تشعر بمعاناته، وتعيش همومه وغمومه، فتفرح لفرحه وتحزن لحزنه، ليس هذا فحسب، بل إنها قد ارتابت في نفسها أن تكون هي سبب همه وغمه. كذلك هي مستعدة للرجوع عن الخطأ والإساءة من أجل أن تُرجع لذلك المحيا ابتسامته وسروره.
__________
(1) أي: لعلي قصرت في حقك فأعتذر عن تقصيري وأعود عن إساءتي.(1/26)
ثانيًا: تكشف سُعدى عن خلة أخرى في نفسها، حيث حثت زوجها على الصدقة والإنفاق، فهي الزاهدة الصالحة، التي تجاوزت حظوظ نفسها، وتخطت لذائد ذاتها في فستان جديد أو حُلي جميل، أو سفر مع الزوج أو غير ذلك من متاع الدنيا مما تفكر فيه الكثيرات من النساء اليوم، إنها حملت همَّ أصحاب البطون الخاوية والأقدام الحافية، والثياب البالية، فقالت دون تلجلج: "ادع قومك فاقسمه بينهم".
ثالثًا: لا يمكن أن نغض الطرف عن ذلك الزوج الصالح الذي امتدح زوجته فقال: "وَلَنِعْمَ حليلة المرء المسلم أنتِ"، ويا له من أسلوب آسر لقلب الزوجة حين تسمع مثل هذا الكلام الطيب من أعز الناس عليها.
- - -
الصفة السادسة
معطاءة ومضحية، تنكر ذاتها وتنسى نفسها، وتؤثر زوجها على نفسها، تقدم رضاه على رضاها، وهواه على هواها، وما يحب على ما تحب. طاعته في غير معصية أصلٌ أصيلٌ عندها، إذا فقدته فكأنما فقدت الهواء الذي تتنفسه.
الزوجة الصالحة لا تقول أنا وأنا، وإنما عملها هو الذي يُضفي عليها نورًا من نكران الذات والتضحية والعطاء، حتى تؤثر زوجها دائمًا على نفسها، فهي تتحمل حتى لا يتألم، وتصبر حتى لا تؤذيه.
قال ابن الجوزي رحمه الله: "وينبغي للمرأة العاقلة إذا وجدت زوجًا صالحًا يلائمها، أن تجتهد في مرضاته، وتتجنب ما يؤذيه، فإنها متى آذته أو تعرضت لما يكره، أوجب ذلك ملالته، وبقي ذلك في نفسه، فربما وجد فرصته فتركها أو آثر غيرها"(1).
ومعرفة الزوجة لما يحبه زوجها ويكرهه من الأقوال والأعمال فتقوم به، إنما هو من أركان سعادتها داخل بيتها.
لما تزوج شُريح القاضي بامرأة من بني تميم، وكان يوم بنائه بها، يقول: (قمت أتوضأ فتوضأت معي، وصليت فصلت معي، فلما انتهيت من الصلاة دعوت بأن تكون ناصية مباركة وأن يعطيني الله من خيرها ويكفيني شرّها.
__________
(1) أحكام النساء.(1/27)
قال: فحمدت الله وأثنت عليه، ثم قالت: إنني امرأة غريبة عليك، فماذا يعجبك فآتيه، وماذا تكره فأجتنبه. قال: فقلت: إني أحبُّ كذا، وأكره كذا.
فقالت: هل تحب أن يزورك أهلي؟ فقلت: إنني رجلٌ قاض، وأخاف أن أملَّهم. فقالت: من تحب أن يزورك من جيرانك؟ فأخبرتها بذلك.
قال شريح: فجلست مع هذه المرأة في أرغد عيش وأهنئه حتى حال الحول، إذ دخلتُ البيت فإذا بعجوز تأمر وتنهي، فسألت من هذه؟ فقالت: إنها أمي. فسألته الأم: كيف أنت وزوجتك؟ فقال لها: خير زوجة. فقالت: ما حوت البيوت شرًا من المدللة، فإذا رابك منها ريب فعليك بالسوط.
قال شريح: فكانت تأتينا مرة كل سنة، تنصح ابنتها وتوصيها، ومكثت مع زوجتي عشرين عامًا لم أغضبْ إلا مرة واحدة، وكنت لها ظالمًا).
فهذا مثال حي يُظهر صفات جمة لهذه الزوجة الصالحة التي تقدم رضا زوجها على رضاها، وهواه على هواها، وما يحب على ما تحب.
طاعته في غير معصية أصلٌ أصيلٌ عندها، إذا فقدته فقدت الهواء الذي تتنفسه.
من أعظم الأسباب التي تسبب الشقاق بين الزوجين وربما وصل الأمر إلى الطلاق، هو عصيان المرأة لزوجها، ومن أهم أسباب السعادة بينهما حسن طاعة المرأة لزوجها.
ولا شك أن طاعة المرأة لزوجها يحفظ كيان الأسرة من التصدع والانهيار، وتحمل الزوج على محبته لزوجته، وتُعمق رابطة التآلف والمودة بينهما، فالزوج هو باب للمرأة إما إلى الجنة إن أطاعته في غير معصية ورضي عنها، أو إلى النار إن هي عصته وسخط عليها.(1/28)
(إن المرأة المسلمة حين تطيع زوجها تكون في طاعة الله، وهي بذلك مأجورة، ولا سيما عندما تكون الطاعة فيما لا توافق عليه، بل إن الطاعة تتجلى في طاعته فيما تكره، أكثر مما تتجلى في طاعته فيما تحب، إن طاعته في قبول الجواهر النفيسة ليس كطاعته في تنفيذ أمر لا تريده، وكمال الطاعة يتحقق في أن تؤدي الأمر بكل سرور ورضا، أما إذا أدّته متبرمة متأففة، يعلو وجهها العبوس وأمارات الكراهية والضيق، فإن هذه الطاعة كعدمها.
إن إظهارها الرضا والسرور، وإشعار نفسها وزوجها بالقناعة مما يخفف عليها تنفيذ ما تكره)(1).
وقد جاءت أحاديث كثيرة تحث المرأة على طاعة زوجها، وأخرى تبين للمرأة عظم مكانة الزوج، وأنه أولى الناس بها لا يبلغها أحدٌ من أقاربها أبدًا.
منها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي النساء خير؟ قال: "التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره"(2).
ومنها: ما رواه حُصين بن مُحصِن قال: حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الحاجة، فقال: "أي هذه! أذات بعل؟" قلت: نعم، قال: "كيف أنت منه؟" قالت: ما آلوه(3) إلا إذا عجزتُ عنه، قال: "فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك"(4).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصّنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت"(5).
__________
(1) نظرات في الأسرة المسلمة للدكتور محمد الصباغ ص96.
(2) رواه النسائي والحاكم وغيرهما، وحسَّنه الألباني في الصحيحة برقم 1838.
(3) أي لا أقصر في طاعته وخدمته.
(4) قال المنذري: رواه أحمد والنسائي بإسنادين جيدين.
(5) رواه ابن حبان وأحمد وغيرهما، وقال الألباني: حديث حسن أو صحيح، له طرق (آداب الزفاف).(1/29)
فلتنظر المرأة كيف دخلت طاعة الزوج مع أركان عظيمة من أركان الإسلام.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حق الزوج على زوجته أن لو كانت به قُرحة، فلحستها ما أدت حقه"(1).
وعن معاذ رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو تعلم المرأة حق الزوج، لم تقعُد ما حضر غداءه وعشاؤه، حتى يفرغ منه"(2).
قال الدكتور محمد بن لطفي الصباغ ـ حفظه الله ـ معلقًا على مبدأ طاعة الزوج فيما لا معصية فيه: (وهذا أمر طبيعي، فإن كان الزواج شركة، وكان الرجل هو صاحب القوامة، فلابد من طاعته فيما يأمر وينهى في حدود الشرع؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق... قد شاعت بين عدد من المثقفات فكرة خاطئة، وهي أن مساواة الرجل بالمرأة(3) تقتضي تحررها نهائيًا من طاعته، وهي غلط في مقدمتها ونتيجتها، فمساواة المرأة بالرجل خديعة أطلقها ناس وهم لا يصدقونها؛ لأن الواقع لا يصدقها، ولو كان ذلك صحيحًا، فليس من الضروري أن يترتب عليها عدم الطاعة؛ لأن طاعة الرئيس لا تعني عدم المساواة بينه وبين مرءوسيه، وهذه الفكرة هي السبب في هدم بنيان كثير من الأسر اليوم.
إن الحياة المشتركة ينبغي أن تكون مبنية على التفاهم والتحاور والتشاور، ولكن القوامة ينبغي أن تكون للرجل كما قال ربنا تبارك وتعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } [النساء: 34].
__________
(1) رواه الحاكم، صحيح الجامع رقم 3148.
(2) رواه الطبراني وصححه الألباني. صحيح الجامع برقم 5259.
(3) من حكمة الله أن جعل الرجل يختلف عن المرأة في الجسم والعقل والنفس وبعض الأحكام الشرعية ونحوه، فلا مساواة بين الرجل والمرأة لأن المساواة إنما تكون بين الأمثال، والصواب أن نقول: (العدل بين الرجل والمرأة) كما اختاره العلامة ابن عثيمين رحمه الله. (الناشر).(1/30)
وهناك حقيقة لابد أن تعلمها المرأة المثقفة، وأن تتذكرها دائمًا، وهي أن الرجل السويّ لا يحب المرأة المسترجلة التي ترفع صوتها على صوته، والتي تشاجره في كل أمر، وتخالفه في كل رغبة، وتسارع إلى ردِّ رأيه أو ما يقول، إن هذا الرجل ـ إن لم يطلقها ـ عاش معها كئيبًا عابسًا كارهًا، فتكون بذلك قد حرمت نفسها رؤية البهجة المرحة في وجه زوجها ومعاملته، وحرمت بيتها التمتع بالحنان الدافئ، وهي الخاسرة سواء شُرِّد أولادها بالطلاق، وتحطمت نفسيتها بالترمُّل، أم بقيت في بيت تعلوه سحب المصادمات اليومية، والحرائق النزاعية.
إن الزوجة الزكية هي التي لا تتخلى عن طبيعتها الرقيقة الهادئة الطيبة، إنها كما صورها الحديث الشريف راعية في بيت زوجها، تصونه، وترعاه، إذا نظر إليها زوجها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله)(1).
- - -
الصفة السابعة
زوجة مقتصدة غير مسرفة، لا تتباهى بمال زوجها إن كان غنيًا، ولا تشكو من قلته إن كان فقيرًا، تعرف متى تنفق، كريمة غير بخيلة، مدبرة غير مسرفة، راضية بقسمة الله لها في كل شيء، قنوعة بما رزقها الله تعالى.
المرأة في بيت زوجها أمينة على ماله، وراعية وحافظة لكل ما يودعه في البيت من متاع أو مال أو غير ذلك، ولا يجوز لها التصرف في ذلك إلا بإذنه، ففي الحديث الصحيح: "... والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها"(2).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ النساء خير؟ قال: "التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره"(3).
__________
(1) نظرات في الأسرة المسلمة ص71، 72.
(2) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(3) رواه النسائي وغيره، وقال الألباني: إسناده حسن. تحقيق المشكاة (2/276).(1/31)
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته عام حجة الوداع: "لا تنفق امرأة شيئًا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها" قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟ قال: "ذاك أفضل أموالنا"(1).
والزوجة الصالحة تكون مدبرة في غير بخل، منفقة في غير إسراف، قنوعة وراضية برزق الله تعالى لها ولزوجها ولأسرتها، وهذا ناشئ عندها من عدة منطلقات:
أولها: ذم الله المسرفين، كما في قوله تعالى: { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } [الإسراء: 27].
ثانيها: مدح الله وثناؤه للمقتصدين، كما في قوله: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان:67].
ثالثها: معرفتها بآثار السرف الذميمة، كالغفلة عن الله والدار الآخرة، والتكبر، وطول الأمل، وحب الدنيا، والعجب، والغرور.
رابعها: زهدها في الدنيا، ونفسها القنوعة التي لا تحملها على البذخ والسرف.
لذلك فإن هذه الأسباب تحملها على ألا تتباهى بمال زوجها إن كان غنيًا، أو أن تسرف في الإنفاق لاسيما أمام الناس، وأمام النساء خاصة، فهي تعلم أن المال عارية زائلة، وقد جعلها الله تعالى خليفة عليه ومسئولة عنه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟"(2)، فضلاً عن علمها أنها عمَّا قريب راحلة عن هذه الدنيا الزائلة، مُخلفة وراءها المال والمتاع.
كذلك قناعتها تحملها على ألا تشكو زوجها إن كان فقيرًا، ولا أعني بهذه القناعة البخل وقبض اليد عن الإنفاق، بل أعني الاقتصاد والتدبير والإنفاق في غير سرف ولا مخيلة.
__________
(1) أخرجه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وحسنه الألباني. صحيح ابن ماجه (2/31).
(2) رواه الترمذي عن أبي برزة. قال الألباني: حديث صحيح. الصحيحة 946.(1/32)
ومن مظاهر قناعة الزوجة الصالحة، ورضاها بما قسمه الله تعالى لها ولزوجها من الرزق أنها تُقدر طاقته المالية (وتقتصد في ماله، فلا تهدره بطرًا وبغير حق، ولا ترهقه بطلباتها غير الضرورية من متاع الدنيا خصوصًا إذا فاقت إمكاناته، فذلك يزعجه ويؤلمه؛ لأنه لا يستطيع تحقيق هذه المطالب، ويعز عليه أن يظهر أمام زوجته بمظهر العاجز الذي لا يملك تنفيذ ما تطلب.
وعليها أن تصحب زوجها بالقناعة، فلا تتطلع إلى ما عند الغير، ولا تحاكي أترابها من نساء الأقارب والجيران والمعارف في اقتناء الكماليات، بل عليها أن توجه مال الله للبذل في سبيل الله عز وجل ليكون لهما رصيدًا يوم القيامة)(1).
ألا فلتتق الله تعالى النساء في أزواجهن، ولا ترهقهم من أمرهم عسرًا، ويعشن مع أزواجهن بالقناعة والرضا، فإن القناعة سبب السعادة.
قال بعض الصالحين: يا ابن آدم إذا سلكت سبيل القناعة، فأقل شيء يكفيك، وإلا فإن الدنيا وما فيها لا تكفيك.
إن الزوجة العاقلة هي التي تنظر إلى من هي أقل منها عيشًا، وأضيق رزقًا، فيحملها ذلك على شكر الله تعالى، والرضا بما قسمه لها، والقناعة بكل شيء انطلاقًا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم"(2).
فصل: قصقصي طيرك:
يقول الشيخ عبد المتعال الجابري رحمه الله:
(في المثل المصري: "قصقصي طيرك لا يلوف بغيرك"، أي قصي أجنحة طائرك حتى يظل عاجزًا عن الطيران بعيدًا عنك، وهو كناية عن تعجيز المرأة رجلها عن الزواج بأخرى، وذلك بجعله لا يملك المال الذي يتزوج به، إما عن طريق إرهاقه بالمطلوب للبيت من الكماليات، وإما ببذل أمواله وتبديدها على أهلها وأصدقائها.
__________
(1) عودة الحجاب (2/491).
(2) رواه مسلم بلفظ آخر في الزهد رقم (2963)، والبخاري في الرقاق.(1/33)
وهي سياسة خاطئة؛ إذ إنها تجعل الرجل يشقى كثيرًا، ويعمل ليل نهار حتى يجهده العمل فيكره الحياة ويعيش في نكد، يظهر أثره في حديثه مع زوجته، وفي شجاره المستمر الذي ينتهي إلى ما خشيت منه الزوجة، وهو طلاقها وزواجه بغيرها.
وكان من الخير أن تحتبس طيرها بالطريق الطبيعي، الحب وإظهار حسن تدبيرها لاقتصاديات منزلها، فإنما يسقط الطير حيث يرى الحَبَّ.
فَبَالحُبِّ تحسن المعاشرة، وتطيب الإقامة مع المحبوب.
وبحسن التدبير يسترح الرجل من العناء، ويتوفر له الوقت الذي يجلس فيه مع أولاده، يسهم في تربيتهم بتجاربه وأقاصيصه)(1).
وأخيرًا أيتها الزوجة المسلمة (تعتبر القناعة والرضا من أجمل صفات المرأة الصالحة؛ لأنها بقناعتها تكون قد توجت إيمانها برضاها ـ بقضاء الله وقدره فيها ـ فعاشت راضية مرضية، مما يجعلها هانئة البال، سعيدة النفس، لا عقد تعاني منها، ولا حسد يأكل صدرها، غير ناقمة على ذوات الحظوظ من حولها، وهي تتمتع بكامل صحتها النفسية السوية، التي تشع سعادة ورضا على من حولها، بذلك تقنع بالحلال ولو كان قليلاً، ولا تكلف زوجها فوق طاقته، ولا تجرح مشاعره، بل على النقيض من ذلك تحترمه وتصون كرامته، وتشاركه مشاعره، وتنسيه متاعب الدنيا)(2).
- - -
الصفة الثامنة
لا تلهث وراء الدنيا كمثيلاتها من النساء، فتبحث عن كثرة الملبس أو المطعم أو المشرب أو المتاع أو الذهب أو غير ذلك، بل هي عاقلة زاهدة، تبحث عن زينة بيتها في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح، وفي الآخرة بالقبول عند ربها.
زوجتي زاهدة عاقلة، يهمها بيت الآخرة قبل بيت الدنيا؛ لذلك فهي مشغولة بإعداده بالإيمان والعمل الصالح عن متاع زائل في بيت الدنيا.
__________
(1) المرأة في التصور الإسلامي ص101.
(2) وصايا ونصائح للنساء لماجد سليمان دودين ص65.(1/34)
لا تحرِّم ما أحل الله لها من الطيبات والرزق، ولا تَحْرم نفسها من التمتع بمتاع الدنيا وزينتها، ولكن دون سرف ولا مخيلة، ودون همة لذلك وعزم، ولكن منهجها الوسطية والاعتدال؛ لذلك فهي ليست ككثير من النساء اللائي يلهثن وراء الدنيا، هَمهن تغيير أثاث المنزل، وتجديده، والانشغال بتوافه الأمور من المتاع، بل تتمثل قول امرأة فرعون: { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ } [التحريم: 11]، فبيت الآخرة شَغلها عن بيت الدنيا؛ لذلك فهي زاهدة، ليس عندها تطلعات دنيوية تافهة؛ لأنها تعلم علم اليقين مدى فتنة الدنيا ومدى إغوائها للنساء خاصة، فهي على حذر شديد منها.
قال تعالى: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [القصص:77].
قال ابن كثير رحمه الله: أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح؛ فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزورك عليك حقًا، فآت كل ذي حق حقه(1).
وقال تعالى أيضًا: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [فاطر: 5، 6].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"(2).
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/399).
(2) رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/35)
وقال أيضًا: "الدنيا حلوة خضرة، وإن الله عز وجل مستخلفكم فيها، لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"(1).
ولذلك فإن شعارها دائمًا: { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [الأعلى:17].
وما أجمل الزوجة الصالحة حين تسدد وتقارب وتوازن، وما أعظمها حين تجعل الدنيا مطية الآخرة، وما أكرمها حين تعطي في الدنيا كل ذي حق حقه، فتعطي حق الله في التوحيد والعبودية والولاء، وحق الإسلام في الالتزام الحقيقي به والدعوة إليه، وتعطي حق الزوج والأولاد في الطاعة والتربية والرعاية، وتعطي حق نفسها بتمتعها من الطيبات ومتاع الدنيا دون عبودية لها، وهكذا سائر الحقوق تؤديها بصدق وإخلاص وعزم وقناعة وزهد.
قال بعض الصالحين: يا ابن آدم إذا سلكت سبيل القناعة، فأقل شيء يكفيك، وإلا فإن الدنيا وما فيها لا تكفيك.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ليس الزهد ألا تملك شيئًا، ولكن الزهد ألا يملكك شيء.
وعن وكيع قال: قال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا: قصر الأمل ليس بالأكل الغليظ ولا لبس العباء.
وصدق الشاعر وهو يحذرنا الدنيا:
إياك والدنيا الدنيَّة إنها
متاعُ غرور لا يدوم سرورها
فمن أكرمتْ يومًا أهانتْ له غدًا
ومن تُسقه كأسًا من الشهد غُدوةً
ومن تكْسُ تاج المُلك تَنْزعُهُ عاجلاً
ألا إنها للمرء من أكبر العِدَا
فلذاتُها مسمومة ووعودُها
وكم في كتاب الله من ذكر ذمِّها
فدونك في آيات الكتاب تَجد
ي السِّحْر في تخييله وافترائه
وأضغاثُ حُلْم خادع بهبَائه
ومن أضحكتْ قد آذنت ببكائه
تُجّرعُه كأس الرَّدى في مسائه
بأيدي المنايا أو بأيدي عدائه
ويحسبُها المغرور من أصدقائه
سرابٌ فما الظَّامي رَوَى من عنائه
وكم ذمَّها الأخيار من أصفيائه
من العلم ما يجْلو الصَّدا بجلائه
?
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند، وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم. الصحيحة 911.(1/36)
وهذه جملة من أحوال نساء سلف هذه الأمة الزاهدات، عسى أن تجد الزوجة الصالحة منهن القدوة والمثل:
عن ثوبان قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فاطمة وأنا معه، وقد أخذت من عنقها سلسلة من ذهب، فقالت: هذه أهداها لي أبو الحسن. فقال: "يا فاطمة أيسرك أن يقول الناس: هذه فاطمة بنت محمد وفي يدها سلسلة من نار" ثم خرج. فاشترت بالسلسلة غلامًا فأعتقته، وهذا يبين لنا زهدها في متاع الدنيا.
وعن عطاء أن معاوية بعث إلى عائشة رضي الله عنها بقلادة مائة ألف فقسمتها بين أمهات المؤمنين.
وعن عروة رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها، أنها تصدقت بسبعين ألفًا، وإنها لتُرقع جانب درعها.
وذكر سفيان الثوري لعبد الله بن المبارك، أن امرأة بالكوفة يقال لها أم حسان كانت ذات اجتهاد وعبادة. قال: فدخلنا بيتها فلم نر فيه شيئًا غير قطعة حصير خَلْق. فقال لها الثوري: لو كتبتِ رقعة إلى بعض بني أعمامك لغيَّروا من سوء حالك. فقالت: يا سفيان، قد كنت في عيني أعظم، وفي قلبي أكبر منذ ساعتك هذه! إني ما أسأل الدنيا مَنْ يقدر عليها ويملكها ويحكم فيها، فكيف أسأل من لا يقدر عليها ولا يقضي ولا يحكم فيها؟!
يا سفيان، والله ما أحبُّ أن يأتي عليَّ وقت وأنا متشاغلة فيه عن الله تعالى بغير الله. فأبكت سفيان.
عابدة من الكوفة، كانت لا تنام من الليل إلا يسيرًا، فعوتبت في ذلك فقالت: كفى بالموت وطول الرقدة في القبور للمؤمنين رقادًا.
وروى أبو بكر بن عبيد قائلاً: وكانت تصوم في شدة الحرِّ حتى يتغير وجهها، فيقال لها في ذلك فتقول: إنما أضر على طول الريّ والشِّبع في الآخرة.(1/37)
وروى أحمد بن سهل الأزدي عن زجلة العابدة مولاة معاوية: عندما طلب منها الرفق بنفسها فقالت: ما لي وللرفق بها؟ فإنما هي أيام مبادرة، فمن فاته اليوم شيءٌ لم يدركه غدًا. والله يا إخوتاه لأصلِّيَنَّ ما أقلَّتني جوارحي، ولأصومنَّ له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي. ثم قالت: أيكم يأمر عبده بأمر فيحب أن يقصِّر فيه؟
وتنتبه عمرة امرأةُ حبيب العجمي ليلة وهو نائم، فتنبهه وتقول له: قم يا رجل فقد ذهب الليل وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا.
ذكر نوح الأسود أن امرأة كانت تأتي مجلس أبي عبد الله البراثي، فتجلس تسمع كلامه، ولا تكاد تتكلم ولا تسأل عن شيء، فقال لها أحدهم ذات يوم: لا أراك يرحمك الله تتكلمين ولا تسألين عن شيء؟ فقالت: قليلُ الكلام خيرٌ من كثيره إلا ما كان من ذكر الله، والمنصتُ أفهم للموعظة، ولن ينصحك امرؤ لا ينصح نفسه. وجملة الأمر يا أخي: إن أردت الله بطاعة أرادك الله برحمة، وإن سلكت سُبل المعرضين فلا تلم إلا نفسك إذا صرت غدًا في زمرة الخاسرين.
وكانت ردة الصريمية إذا قيل لها: كيف أصبحتِ؟ تقول: أصبحنا أضيافًا منتجعين بأرض غربة ننتظر إجابة الداعي.
ويسأل ذو النون المصري إحدى عابدات جبال الشام: حدثيني ما الغنى؟ قالت: الزهد في الدنيا.
وروى أبو بكر الهذلي قال: كانت عجوز من بني عبد القيس متعبدة، فكانت تقول: عاملوا الله على قدر نعمه عليكم وإحسانه إليكم، فإن لم تطيقوا فعلى قدر ستره، فإن لم تطيقوا فعلى الحياء منه، فإن لم تطيقوا فعلى الرجاء لثوابه، فإن لم تطيقوا فعلى خوف عقابه.(1/38)
وتقول: إن القلب القاسي إذا جفا لم يلِّينه إلا رسومُ البلى، وكأني أنظر إلى أهل القبور وقد خرجوا من بين أطباقها، وإلى تلك الوجوه المتعفرة، وإلى تلك الأجسام المتغيرة، فيا له من منظر كربة لو أشرَبَه العباد قلوبهم، ما أثكل مرارته للأنفس، وأشَّد إتلافه للأبدان(1).
فيا من خلت قلوبهن إلا من ذكر الله ودعائه والانشغال بعبادته.
يا من رأين الذنوب الصغيرة جبالاً تكاد تقع عليهن، لأنكن أدركتن جلال الله وعظمته.
يا من ملأ الإيمان قلوبهن وأفاض على جوارحهن، فأردن صحبة أخوات لهن ممن مضى أثرهن.
يا من تسألن عن أخبار نساء مؤمنات زاهدات، فتتبعن سيرتهن لتلتقطن دُرَرَ أقوالهن، وتستشعرن في قلوبكن جمال سيرتهن، وترين في ذلك مواساة، بل قوة لكن في المضي في استقامتهن وعبادتهن.
هذه كانت بعض أخبار صفوة النساء من العابدات الزاهدات، أفليس فيهن القدوة لَكُنَّ؟ أليس منهن المثل الأعلى؟ إذن فتدبرن حالكن يا إماء الله.
- - -
الصفة التاسعة
تهتم بزينتها ورائحتها ونظافاتها وطهارتها.
زوجتي تعلم أن للزينة في قلب زوجها أثرًا عظيمًا يحببها إليه أكثر وأكثر، لذا فهي حريصة على ذلك حرصًا شديدًا، في ملابسها، في رائحتها، في نظافتها، وهي تعرف أيضًا أن للزينة دورًا فعالاً في إعفاف زوجها وقناعته بها والرغبة فيها، وكذلك في دوام العشرة معها بالمعروف، ومتانة سياج المودة والمحبة والألفة.
__________
(1) راجع: صفة الصفوة لابن الجوزي، ونساء زاهدات لمحمد خير يوسف.(1/39)
ولعل من أهم أسباب نفرة الرجل من زوجته، وحدوث مشاكل بينهما، ما يقع منها من إهمال زينتها أمامه، وهو صاحب الحق بالزينة، بل قد تمر بالواحدة الأيام والليالي لم تَبدُ خلالها بمظهر حسن لبعلها، بل يتعداه إلى أن الزوج الذي بماله تشتري الملابس الجميلة والعطور وأدوات الزينة يُحْرم منها لِتعْرضها أمام مثيلاتها من النساء في المناسبات والأعياد والزيجات، حتى حدا هذا العمل ببعضهم أن ينتظر بفارغ الصبر قدوم مناسبة يمتع ناظريه فيها بزوجته بأبهى حُلة وأحسن مظهر، ووصل الأمر بآخرين إلى افتعال المناسبة واختلاق موعدها ليحظى بتجمل زوجته له.
وهذا لا شك ظلم من الزوجة لزوجها، وتقصير في حقه، مضر لسعادتها معه، يحمل الزوج على الانصراف عنها والزهادة فيها، لينظر إلى غيرها من النساء فيقع في الإثم، أو ليتطلع بالزواج بأخرى تروي عاطفته، وتُشبع غريزته، وتملأ عينه.
وقد تزوج أحدهم بامرأة أخرى لهذا السبب، فما كان من الأولى إلا أن تزينت وتجملت، فلما دخل الزوج عليها ظنَّها امرأة أجنبية من عظم الفوارق بين حالتيها، ودهش حينما رآها بهذا التألق الذي ظنَّ أنها تفتقده، وأخبرها أنه ما كان ليتزوج لو كانت معه على تلك الحال قبل ذلك، ولكن على نفسها جنت براقش(1).
ويقول الشيخ أحمد القطان حفظه الله:
أدعو في ظهر الغيب لكل زوجة تتزين لزوجها المسلم، لتحفظه من الخطيئة.
والتزين عبادة ووسيلة صالحة تحبها الفطرة السليمة، فالزوجة الذكية هي التي تعرف كيف تكسب قلب زوجها، وأن تكون دائمًا زوجة جديدة في حياته.
فالكلمة الحلوة زينة، والبسمة المشرقة جمال، والرائحة الطيبة بهجة، والفستان الأنيق، واللمسات اللطيفة للشعر، والاختيار الموفق لبعض الحلي البسيط المنسجم مع لون البشرة والثوب، والنظافة المستمرة، طهارة وعبادة. فأنت حورية الدنيا وسيدة القصور في جنات النعيم بإذن الله.
__________
(1) راجع مقومات السعادة الزوجية للدكتور ناصر العمر.(1/40)
تعلمي أيتها الزوجة من القرآن أخلاق الحور، وتسابقي معهن إلى قلب زوجك، واجعلي دنياه جنة. البسي له الحرير، وضعي له العطور، وغني له كما تغني الحور:
لزوجة مطيعة
وطفلة صغيرة
وغرفة نظيفة
ولقمة لذيذة
خيرٌ من الساعات
تعقبها عقوب
ينك عنها راضية
محفوفة بالعافية
نفسك فيها هانية
من يد أغلى طاهية
في ظل القصور العالية
يصلى بنار حامية(1)
?
وعجبًا لبعض الزوجات اللائي لا يهتممن بأنفسهن وقت الحيض، فلا تتنظف الزوجة لزوجها أثناء الحيض، ولا تتزين عنده، وتظن أن الحيض معناه خصام وانفصال بين الزوجين.
أين زينة المرأة في وجهها وشعرها وثوبها ورائحتها؟!
وهل هناك تعارض بين ذلك وبين الحيض؟!
لا، بل كان يجب عليها أن تضاعف الاهتمام بزوجها وبجمالها وزينتها ورائحتها لتعوض الزوج حاجته.
أين أناقة الحائض، وطيب ريحها، وحسن مظهرها يا إماء الله!
قال أبو الفرج في كتابه النساء ما معناه:
عن المرأة تحظى عند زوجها بعد تمام خَلْقها وكمال حسنها، بأن تكون مواظبة على الزينة والنظافة، عاملة بما يزيد في حسنها من أنواع الحلي واختلاف الملبس، ووجوه التزين بما يوافق الرجل، ويستحسنه منها في ذلك، ولتحذر كل الحذر أن يقع بصر الرجل على شيء يكرهه من وسخ، أو رائحة مستكرهة، أو تغير مستنكر.
وقال البرقوقي:
جمال المرأة وتجملها، مدرجة ميل الرجل وافتنانه بها، وقوام الزينة النظافة، ولتحذر المرأة كل الحذر أن يقع بصر الرجل منها ـ أعني زوجها ـ على شيء يشمئز منه وينفر، من وسخ أو شعث أو رائحة مستكرهة، أو شيء من هذا.
وقد أوصت امرأة ابنتها فقالت: يا بنيتي، لا تنسي نظافة بدنك، فإن نظافة بدنك تحبب زوجك إليك، ونظافة بيتك تشرح صدرك، وتصلح مزاجك، وتنير وجهك، وتجعلك جميلة ومحبوبة ومكرمة عند زوجك، ومشكورة من أهلك، ومن ذويك وأترابك وزائريك، وكل من يراك نظيفة الجسم، والبيت تطيب نفسه ويسر خاطره.
__________
(1) سري وللنساء فقط.(1/41)
ومن الأسف أن نرى كثيرًا من النساء يُهملن الزينة والتجمل بعد فترة من الزواج، ربما اعتقادًا من المرأة أن بارتفاع الكلفة بينهما، أصبح الأمر لا داعي له بالدرجة؛ لأنه من الرسميات مثلاً، أو أنها قد كبرت وهذا الأمر كان أيام الشباب، وهذا تقصير فاحش ولا شك، وفهمٌ أعوج.
إن التزين للتزوج والتجمل له، واجبٌ على المرأة، وحقٌ له، لا يسقط وإن مضى الشطر الأعظم من الحياة، وكم من رجل تزوج وهو في الخمسين ويزيد بسبب إهمال زوجته لمظهرها وهيئتها ورائحتها وزينتها.
ولعل من صور نظافة المرأة: نظافة البدن والبشرة، والعناية بنظافة الأسنان ورائحة الفم، وبتنقية العين وتكحيلها، وبتقليم الأظافر وتسويتها، وكذلك نتف الإبط وشعر العانة.
فهيَّا يا نساء المسلمين تجملن لأزواجكن، وتطيبن، واعلمن أن ذلك خير رائد لقلب الزوج، ومن أفضل الطرق السهلة لطلب رضاه، بل لحل المشاكل بينكما.
- - -
الصفة العاشرة
شاكرة لزوجها على الدوام على ما يكد فيه من العمل ويتعب، ليكفيها وأولادها مؤونة العيش، وتشكره أيضًا على ما يجلب لها من طعام وشراب ونحوهما، وتدعو له دائمًا بالعِوَض والإخلاف، ولا تكفر نعمته عليها.
وذلك انطلاقًا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها، وهي لا تستغني عنه"(1).
(إن مجرد تناسي الزوجة فضل زوجها وجحوده، قد سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفرًا وجعله الله سببًا لدخول فاعلته نار جهنم.
__________
(1) رواه النسائي والبزار وغيرهما، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (289).(1/42)
فعن أسماء ابنة زيد الأنصارية رضي الله عنها قالت: مرَّ بي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في جوار أتراب لي، فسلم علينا وقال: "إياكن وكفر المنعَّمين"، فقلت: يا رسول الله وما كفر المنعَّمين؟ قال: "لعل إحداكن تطول أيِّمتُها من أبويها، ثم يرزقها الله زوجًا، ويرزقها منه ولدًا، فتغضب الغضبة فتكفر، فتقول: ما رأيت منك خيرًا قط"(1).
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للنساء: "يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن وتكفرن العشير..." الحديث(2))(3).
فما أسوأ هذا النوع من النساء، التي لا تشكر لزوجها باللسان وبالجوارح في كل وقت وفي كل مكان، على ما يقوم به من الجهد والمشقة والتعب، في سبيل كفاية زوجته وأولاده مؤونة العيش.
أين كلمة "جزاك الله خيرًا"، "لا حرمنا الله منك"، "بارك الله لنا فيك"، "أطال الله عمرك في طاعته"، وغيرها من الكلمات التي تدل على شكر الزوجة لزوجها بلسانها، وهي لا تكلفها شيئًا.
وأين الشكر بالجوارح، بقيامها بكل حقوقه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، بطاعته وخدمته وطلب رضاه.
يقول الشيخ عبد المتعال الجابري رحمه الله: كل إنسان يحب أن يرى تقدير إحسانه، وما أجمل كلمة "شاكرة" أو "جزاك الله خيرًا"؛ إنها تُغري بالمزيد من التفضل والإحسان، والإحسان بريد المودة ورباط القلوب.
وشكر المرأة زوجها، والثناء عليه في غيابه، يزيده إعزازًا لامرأته؛ إذ إنها بثنائها عليه في غيبته عند أهلها وأصدقاء الأسرة، تغلق الباب على الشيطان.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وقال الألباني: إسناده جيد. السلسلة الصحيحة رقم (823).
(2) رواه البخاري وغيره. والعشير: هو الزوج المعاشر.
(3) عودة الحجاب (2/489).(1/43)
وأثنت امرأة لأمها على كرم زوجها فقالت: يا أماه، من نشر ثوب الثناء، فقد أدى واجب الجزاء، وفي كتمان الشكر جحود لما أُوجب منه، ودخولٌ في كفر النعم.
إن الأولاد حين ينشأون يسمعون كلمة "أشكرك" عند تقديم كلمة طيبة، أو أي مساعدة، فإنهم يعتادونها خارج البيت.
وعندما يسمعون كلمة "آسفة" و"أعتذر" عندما تسقط من المرأة خطيئة، فإنهم كذلك يعتادون هذا الخُلُق، ويتكون لديهم ميزان سليم، وحس مرهف، يقدرون به المواقف المختلفة(1).
- - -
الصفة الحادية عشر
تبر أهل زوجها من والدين وأخوات، وتصل الرحم، لتُدخل على زوجها الفرح والسرور، وتتقرب إلى الله تعالى بهذه العبادة.
(إن من أدب الإسلام أن تؤثر الزوجة رضا زوجها على رضا نفسها، وأن تكرم قرابته خصوصًا والديه، ويتأكد هذا إذا كانت تقيم معهما، وفي إكرامهم إكرام لزوجها، ووفاء له، وإحسان إليه؛ لأنه مما يفرحه، ويؤنسه، ويقوي رابطة الزوجية، وآصرة الرحمة والمودة بينهما)(2).
وذلك انطلاقًا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أبر البر أن يحفظ الرجل أهل ودِّ أبيه"(3).
كما أنه من حسن خلق المرأة المسلمة إكرامها لهما لاسيما وهما في سن والديهما لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منَّا من لم يُجلَّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه"(4).
يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله:
(إن على الزوجة الفاضلة أن لا تنسى منذ البداية، أن هذه المرأة التي قد تشعر أنها منافسة لها في زوجها، هي أم هذا الزوج، وأنه لا يستطيع مهما تبلَّد فيه إحساس البر، أن يقبل إهانة توجه إليها؛ فإنها أمه التي حملته في بطنها تسعة أشهر، وأمدته بالغذاء من لبنها، ووقفت على الاهتمام به حياتها حتى أصبح رجلاً سويًا.
__________
(1) المرأة في التصور الإسلامي ص121 بتصرف واختصار.…
(2) عودة الحجاب (2/506).
(3) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
(4) رواه أحمد والحاكم، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (96).(1/44)
واعلمي أيتها الزوجة أن زوجك يحب أهله أكثر من أهلك، كما أنك أيضًا تحبين أهلك أكثر من أهله، فاحذري أن تطعنيه بازدراء أهله أو انتقاصهم أو أذيته فيهم، فإن ذلك يدعوه إلى النفرة منك.
إن تفريط الزوجة في احترام أهل زوجها تفريط في احترامه، وإن لم يقابل الزوج ذلك بادئ الأمر بشيء، فلن يسلم حبه إياها من الخدش والنقص والتكدير.
إن الرجل الذي يحب أهله، ويبر والديه، إنسان صالح فاضل، جدير بأن تحترمه زوجته، وترجو فيه الخير)(1).
والزوجة التي تعتقد أنها بإيقاعها بين زوجها وبين أهله، ليتفرغ لها وحدها، ويكون لأولاده وحدهم، امرأة ساذجة، تدفن رأسها في الرمال، غير صالحة ولا تقية، فيكفيها بهذا العمل معصية الله تعالى، وعونها زوجها على عقوق أهله لا على برهم، فبئست هذه الزوجة.
(إن عقوق الرجل والديه دمار عليه وعلى زوجته وأولاده؛ لأن العقوق من المعاصي التي تُعجل عقوبتها في الدنيا:
فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اثنان يُعجلهما الله في الدنيا: البغي، وعقوق الوالدين"(2))(3).
إن الزوجة الصالحة التي تخاف الله تعالى، الزوجة الطيبة الخيِّرة، هي التي تكون عونًا لزوجها على كل خير، فتنصحه وتدُّله على كل خير، وتوصيه بالتزام حكم الله في كل شيء، وتحرضه على بره لوالديه وإكرامهما والإحسان إليهما.
وهي بهذا الخلق العالي والسلوك القويم ستجد ثماره في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى، ببر أولادها لها لاسيما عندما تهرم وتكبر، وفي الآخرة بالأجر العظيم عند الواحد القهار.
__________
(1) نظرات في الأسرة المسلمة.
(2) رواه البخاري في التاريخ، والطبراني في الكبير، وصححه الألباني. صحيح الجامع (1/99).
(3) نظرات في الأسرة المسلمة.(1/45)
(حكى الإمام أبو الفرج ابن الجوزي عن عابدة كانت تصلي بالليل لا تستريح، وكانت تقول لزوجها: قم ويحك إلى متى تنام؟ قم يا غافل، قم يا بطَّال، إلى متى أنت في غفلتك؟ أقسمت عليك ألا تكسب معيشتك إلا من حلال، أقسمت عليك أن لا تدخل النار من أجلي، بِرَّ أمك، صل رحمك، لا تقطعهم، فيقطع الله بك)(1).
- - -
الصفة الثانية عشرة
امرأة عاقلة وحكيمة، لا تشكو زوجها لأحد حتى لوالديها، لا تُخرج مشاكل البيت عن حدود البيت، وإذا استفحلت مشكلة كان الحكمان من أهل العلم والتقوى والصلاح وفي أضيق الحدود, لا تفشي أسرار بيتها، ناصحة لزوجها بأدب جم وتواضع وحب وحسن خلق.
زوجتي تحسب لكل كلمة ألف حساب، ولكل عمل ألف حساب، ولكل موقف ألف حساب، ولذلك فلا تتكلم بأي كلمة، ولا تعمل أي عمل، ولا تقف أي موقف، بل عاقلة حكيمة، متزنة غير منفعلة ولا متهورة، ناصحة مؤدبة.
ومن ثمار ذلك أنها لا تجعل مشاكل بيتها في بيوت الآخرين، ولو حتى بين يدي والديها؛ لأنها ـ إن شاء الله ـ أقدر على حلها واستيعابها وسترها من الآخرين. "والمرأة المجنونة" هي التي تقدم منشورًا يوميًا لوالدتها أو أختها أو غيرهما بما حدث داخل بيتها من الأفراح أو الأحزان.
وكم من مشكلة قامت بين الزوجين بسبب هذا التصرف الأرعن من الزوجة، وكم من زوج يشتكي زوجته بسبب هتكها لستر البيت، حتى انتهى الأمر بينهما بالطلاق.
وإذا استفحلت أي مشكلة، كان اللجوء بعد الله تعالى لأهل العلم والتقوى والصلاح ـ في أضيق الحدود ـ حتى لا تخرج أسرار البيوت إلى الناس، والناس يزيدون في الكلام وينقلون الأحداث من وجهة نظرهم، حتى يصبح هذا البيت مرتعًا خصبًا لكل منافق وصاحب مصلحة.
__________
(1) صفة الصفوة (4/437).(1/46)
(إن نقل المشكلات خارج نطاق البيت يعني بقاءها، وازدياد اشتعال نارها، وخصوصًا إذا نقلت إلى أهل أحد الزوجين؛ لأنهم لا يدركون أبعاد المشكلة وأسبابها، وغالبًا ما يسمعون القضية من طرف واحد، هو خصم، والخصم لا يُسمع كلامه إلا بحضور خصمه، فيحكمون حكمًا جائرًا أعور، وقد تأخذهم الحمية لإنقاذ ابنهم أو ابنتهم، فيُضرمون نار العداوة والبغضاء بين الزوجين إضرامًا يُذهب بالبقية الباقية من أواصر المحبة بينهما.
وغالبًا ما يحدث من منازعات بين الزوجين، إنما هي أمور طفيفة لأسباب تافهة، تقوم لسوء مزاج أحدهما في وقت معين أو نحو ذلك، ثم تُصور للآخرين بألفاظ أضخم من حقيقة المشكلة، فيظن السامع لها الذي لم يعايشها أنها كبيرة ومستعصية، فتأتي على إثر ذلك حلول شوهاء، يذهب ضحيتها الزوجان.
ولذلك كان من المستحسن أن يتواصى الزوجان، ويتعاهدا على عدم نقل مُشاكلاتهما خارج عش الزوجية، وأن يحرصا كل الحرص على ألا تبيت المشكلة معهما ليلة واحدة)(1).
فصل: تفسير قوله تعالى: { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }
[النساء: 128]
أي أن المرأة إذا علمت من زوجها نشوزًا، يعني استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها أثرةً عليها وارتفاعًا عنها، إما لبغضه، وإما لكراهة منه بعض أسبابها:
إما دمامتها وإما سنِّها وكبرها أو غير ذلك من أمورها، أو انصرافًا عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه، وهو معنى الإعراض فلا حرج على المرأة أن تترك له يومها إن كان متزوجًا بأخرى ـ أو تضع عنه بعض الواجب لها من حق عليه ـ تستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح.
ويقول الإمام القرطبي رحمه الله:
__________
(1) مقومات السعادة الزوجية للدكتور ناصر العمر.(1/47)
ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة، روى الترمذي عن ابن عباس قال: خشيت سَوْدة أن يطلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: لا تطلقني وأمسكني، واجعل يومي منك لعائشة ففعل، فنزلت الآية(1).
وما من شك أن المرأة المسلمة العاقلة إذا أحبت أن تستميل قلب زوجها خشية من فراقه لها وطلاقها، أن تُحسن من خُلقها، وتعدل عن سوء تصرفها، وتبتعد عن كل ما من شأنه أن يساعد على جفوته لها، وعليها كذلك أن تحاول تقويمه بأدب جم، وسلوك متزن، وما أجمل الكلمة الحلوة التي تخرج من فم الزوجة بحب وعاطفة فائرة، تَهدُّ من جبال الهم والغم والضيق عند الرجل.
فصل: كيف تتغلب المرأة على مشكلات بيتها؟
(1) التروي والحكمة:
(إن من أعظم ما يجب الاستمساك به عند اندلاع نار الفتنة في بيت الزوجية هو أن يطفئ المرء نارها بماء الأناة والحكمة، وإلا فإن النار قد تزداد اشتغالاً فتُهْلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)(2).
فإذا ما دبت مشكلة داخل البيت، فإن الزوجة العاقلة لا تنفعل ـ ما وسعها ذلك ـ بل تتروى، وتحاول أن تُهدِئ من ثورة زوجها وغضبه، أو أن تؤجل الحديث والعتاب لوقت آخر، حتى تهدأ النفوس، فيكون العتاب عتاب تغافر وحب ومودة.
(2) التماس العذر وحسن الظن بالآخر:
وهذه من أقوى الأسباب المعينة بفضل الله تعالى على حل المشاكل بين الزوجين، فحسن الظن وحمل القول أو العمل على محامل الخير، وقبول العذر، يساعد على استمرار المناخ الطيب بين الزوجين.
__________
(1) راجع: جامع البيان لابن جرير جـ9، وأحكام القرآن للقرطبي جـ2.
(2) معلومات السعادة الزوجية للدكتور ناصر العمر.(1/48)
إن كلا الزوجين قد عاش في بيئة تختلف عن بيئة الآخر، وترى بأسلوب مغاير الآخر، فاختلفت الطبائع والأذواق والأمزجة، ويستحيل حدوث التوافق الكامل بين الزوجين في خلال أيام أو أسابيع قليلة، لذا ينبغي للزوجين حسن الظن بالآخر، والتماس العذر له، فكم من مشكلة قامت في البيت، بل ربما انتهت بالطلاق بسبب خلو البيت من هذا الخلق الرفيع.
(3) ضبط اللسان:
فما من مشكلة إلا وكان اللسان قائدها، ولو أن كلاً من الزوجين اتقى الله تعالى في لسانه، ما كثرت المشاكل ولا استعظمت ولا وصلت إلى درجة الانفعال بينهما.
إن الزوجة الصالحة لو كان لسانها ينشغل دائمًا بذكر الله تعالى وقول الخير، ما استطاع الشيطان أن يجد له طريقًا، يفسد به العلاقة الزوجية.
إن تذكر المرأة قول الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق:18]، عند كل قول يخرج من لسانها، لهو من أكبر الأسباب المزيلة لسوء العلاقة بين الرجل وزوجته.
وصدق من قال:
احفظ لسانك أيها الإنسان
كم في المقابر من قتيل لسان
ا يلدغنك إنه ثعبانُ
كانت تهاب لقاءَه الشجعانُ
?
(4) حفظ الأسرار:
ينبغي للمرأة الصالحة أن تتعاهد مع زوجها على حفظ أسرار البيت، وعدم الشكوى لغير الله ـ إلا لحاجة ـ وأن يحرصا حرصًا شديدًا على ألا تبيت المشكلة معهما طويلاً.
(5) استشارة أهل الذكر وأهل الاختصاص:
عند استفحال المشاكل، فإن الرأي الصائب يضيع، والتفكير السليم يتوه، فيحتاج الأمر إلى الاستناد إلى رأي الصالحين وأهل الخير من الناس، وكم من مشكلة حُلَّت بذلك، ولكن بشرط الاختيار الصحيح لمن يستشار.
(6) الرضا بالقضاء والقدر:
فقد تبتلى الزوجة برجل غير قادر على الإنجاب، أو سيئ الطبع والمزاج، أو فقير أو غير ذلك، فواجب عليها أن تصبر وترضى، وليكن شعارها دائمًا { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } [الطلاق: 7].
- - -
الصفة الثالثة عشرة
تتخذ من وصية أم إياس منهج عمل لها:(1/49)
فقد أوصت أم إياس ابنتها حين زُفت إلى زوجها فقالت: (أي بنية! إن الوصية لو كانت تترك لفضل أدب، أو لتقدم حسب، لزويت ذلك عنك، ولأبعدته منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل.
أي بنية: لو أن امرأة استغنت عن زوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها، كنت أغنى الناس عن ذلك، ولكن النساء للرجال خُلقن، ولهن خُلق الرجال.
أي بنية: إنك قد فارقت الحِمَى الذي منه خرجت، وخلَّفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك مليكًا، فكوني له أمة يكن لك عبدًا وشيكًا، واحفظي له خصالاً عشرًا، تكن لك ذخرًا.
أما الأولى والثانية: فالصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، فإن في القناعة راحة القلب، وفي حسن المعاشرة مرضاة للرب.
وأما الثالثة والرابعة: فالمعاهدة لموضع عينيه، والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عيناه على قبيح، ولا يشمّ منك إلا أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتعاهد لوقت طعامه، والتفقد لحين منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
أما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشين له سرًا، ولا تعصين له أمرًا، فإنك إن أفشيت سرَّه لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره.
واتقي مع ذلك كله الفرح إذا كان ترحًا، والاكتئاب إذا كان فرحًا، فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير.
وأشد ما تكونين له إعظامًا أشدَّ ما يكون لك إكرامًا، وأشدَّ ما تكونين له موافقة أطول ما يكون لك مرافقة.
واعلمي يا بنية أنك لا تقدرين على ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاك، وتقدمي هواه على هواك فيما أحببتِ أو كرهت، والله يضع لك الخير وأستودعك الله.(1/50)
ما من شك أن هذه وصية امرأة عاقلة حكيمة، قلَّما تجد مثلها في أيامنا هذه، ولست بصدد شرحها ـ فهي واضحة وسهلة إن شاء الله ـ ولكني أحذر المرأة أن تتخذ من هذه الوصية منهجًا نظريًا، لا منهجًا عمليًا. ما أسهل الكلام المنمق، والعبارات البرَّاقة، والألفاظ المعسولة، وما أصعب العمل، وهو الذي أنا بصدد التنبيه عليه.
إن صورة الإيمان ومظهره عند الكثير منا تعلو حقيقة الإيمان، ومظاهر التقوى عند الكثير أيضًا أهم من حقيقة التقوى، وهذه هي الطامة التي وقع فيها الكثير.
إن الإيمان الحقيقي هو الذي تظهر آثاره على جوارح وسلوك المسلم، وإن تقوى الله تعالى هي التي نلمسها واقعًا عمليًا في معاملاتنا مع الناس.
فالزوجة الصالحة التقية هي التي تتخذ من وصية أم إياس منهجًا عمليًا، وسلوكًا حقيقيًا مع زوجها، فهي لا تكتفي بالمظهر والكلام الطيب، بل يتعدى ذلك إلى أن يكون واقعًا حيًا يلمسه الزوج ويسعد به كل أهل البيت.
(إن سلوك الداعية هو الصورة الحية العملية لدعوته، يراها الناس في سكونه وحركته، ووقوفه ومشيته، وبكائه وضحكه.
إن القدوة العملية تصيب من قلوب الناس أكثر مما تصيب الكلمة، مهما كانت طيبة وجيدة ومؤثرة)(1).
إن الزوجة المسلمة الملتزمة بأحكام الشرع، والمستقيمة عليها، لابد أن تكون سبَّاقة للخير إذا ما دعت الناس للخير، فمطالبة الناس بتطبيق أحكام الشريعة ـ افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا ـ تستوجب أن تكون المسلمة آخذه نفسها بذلك، وكذلك نهي الناس عن الشر والفساد، يحتم أن تكون المسلمة ملتزمة بذلك النهي، فلا تبيح لنفسها ما حرمته على غيرها.
إن مطابقة الصورة الحقيقية، ومطابقة العلم للعمل، من أهم ما يجب على الزوجة المسلمة الصالحة عدم الغفلة عنها، حتى لا نسمع كلامًا يسيء للإسلام في صورة المسلمة الملتزمة مثل:
لِمَ فعلتِ كذا، وأنتِ الملتزمة المنقبة؟!
__________
(1) أسس الدعوة وآداب الدعاة للدكتور محمد السيد الوكيل بتصرف.(1/51)
كيف تقولين كذا، وأنت المحجبة قارئة القرآن؟!
إلى غير ذلك مما نعرفه ونسمعه أحيانًا.
إن الزوجة الصالحة الملتزمة، هي داعية في نفسها، وإن لم تدعُ الناس، فحجابها دعوة، وإيصاؤها الناس بتقوى الله دعوة، وتنبيه الناس على الحلال والحرام دعوة وهكذا؛ لذا فإنها مرآة دعوتها والنموذج المعبر عنها؛ لذا وجب عليها الانتباه لذلك وعدم التقصير، وعدم مخالفة عملها لقولها، وقولها لعملها.
وعندما تكون المسلمة بعيدة عن الالتزام بواجبات الإسلام وتكاليفه، فإنها تكون فتنة للناس، تصرفهم بسلوكها عن دين الله، وتقطع الطريق على الناس.
فالتي تدعو الناس إلى مكارم الأخلاق، وأخلاقها سيئة، لن تكون دعوتها مستجابة، ولن تلقى إلا الصدَّ والإعراض، والتي تحض الناس على الخير والبذر والتضحية والعطاء، وهي شحيحة، لن تلقى أذنًا صاغية في الناس أجمعين.
والتي تدعو الناس إلى التواضع وهي مختالة فخورة، وإلى الإيثار وهي صاحبة أثرة، وإلى الصدق وهي كذابة، وإلى الأمانة وهي خائنة، وإلى الاستقامة وهي منحرفة، وإلى الطاعة وهي عاصية، إن إنسانة كهذه قد تتمكن من خداع الناس حينًا، ولكنها لن تتمكن من خداعهم في كل حين، بل إن الخسارة الفادحة التي ستجنيها بردة الناس عن طريق الله تعالى، تتحمل منها النصيب الأعظم من الإثم، إن لم يكن كله، فضلاً عن سخرية العباد، وسخط رب العباد.
إن على المسلمة الحقة أن تترسم خطى الإسلام في كل شأن من شئونها، في أقوالها وأفعالها، في حياتها الخاصة والعامة، في نفسها وفي بيتها. (فالدعاة ينبغي أن يكونوا قدوة حسنة للمجتمع الذي يعيشون فيه، تبدو في حياتهم آثار الرسالة التي يدعون الناس إليها، وترتسم في خطاهم ملامح المبادئ التي يحملونها، وبذلك يحس كل من حولهم ويشعر بالوجود الحركي لهذا الدين، وبالتحرك العضوي له، وفي هذا ما فيه من أثر بالغ في مجالات الدعوة والتبليغ.(1/52)
ولقد صفع القرآن الكريم أولئك الذين يعظون الناس ولا يتعظون، وينهونهم ولا ينتهون، فقال تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة:44]، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف: 2، 3](1).
- - -
الصفة الرابعة عشرة
قارَّة في بيتها، وإذا خرجت خرجت لحاجة، لا للهو ولا لإضاعة الأوقات، إذا خرجت طلبت الإذن من زوجها، وخرجت في لباسها الساتر، غير متعطرة، تمشي متواضعة في أدب وحياء وسكينة، لا تسمع لها صوتًا في الطريق، ولا تتخذ خلاخل ولا حذاء مما يضرب في الأرض.
من فساد أخلاق المرأة، كثرة خروجها من بيتها، واختلاطها بالرجال، وعدم تأدبها بالآداب الشرعية عند الخروج.
والمرأة المسلمة المستقيمة على شرع الله إذا خرجت:
(1) خرجت لحاجة، لا للهو ولا لإضاعة الأوقات، انطلاقًا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أذن لكن في الخروج لحاجتكن"(2).
(2) وتستأذن زوجها أو وليها قبل الخروج، أما المرأة التي تدخل بيتها وتخرج في أي وقت دون مبالاة بأمر الزوج، فهي امرأة شقية تجلب لنفسها المشاكل والخراب.
(3) وتستتر بحجابها الشرعي الكامل، فلا تكون من الكاسيات العاريات، اللائي يرتدين من الملابس الشفاف أو الضيق أو المزركش، ولا تتعطر عند خروجها، أو تلبس ملابس الرجال، فالمرأة الصالحة المتدينة في منأى عن هذه الصورة السيئة.
(4) تغض من نظرها في سيرها فلا تنظر هنا أو هناك لغير حاجة، فضلاً عن النظر للرجل الأجنبي لغير حاجة، وإذا احتاجت إلى محادثته، تتحدث إليه بما تحتاجه فقط، ولا تلين بصوتها ولا تخضع به لئلا يطمع فيها من في قلبه مرض.
__________
(1) مشكلات الدعوة والداعية للأستاذ فتحي يكن ص66.
(2) جزء من حديث أخرجه البخاري.(1/53)
(5) تمشي متواضعة في أدب وحياء وسكينة، ولا تتخذ خلاخل ولا حذاء يضرب على الأرض بقوة، فيُسمع قرع حذائها فربما وقعت الفتنة، وقد قال الله تعالى: { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } [النور: 31].
(6) ولا تسافر سفر يوم وليلة إلا مع ذي محرم لها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها"(1).
والمرأة القارَّة في بيتها، التي لا تخرج إلا للحاجة، فيظن الناس أنها لا تخرج أبدًا هي المرأة الصالحة التي تتجنب مواطن الشُبه والفتن.
فصل: في تفسير قوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [الأحزاب:33]:
قال ابن كثير رحمه الله:
وقوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [الأحزاب: 33]، أي الزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن وهن تفلات"، وفي رواية: "وبيوتهن خيرٌ لهن".
وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: "إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها".
وقال أيضًا: "صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها"(2).
قال القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: {وقرن}، قرأ الجمهور {وقِرن}، وقرأ عاصم ونافع بفتحها. فأما القراءة الأولى فتحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من الوقار، تقول: وقَرَ يَقر وقارًا أي سكن، والأمر قِرْ، وللنساء قِرْن(3).
والوجه الثاني: أن يكون من القرار.
__________
(1) متفق عليه. راجع: الزواج وفوائده وآثاره النافعة لعبد الله الجار الله.
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/482).
(3) يقول الشيخ المودودي رحمه الله: فمعنى الآية إذًا: عشن في بيوتكن بالسكينة والوقار. الحجاب ص307.(1/54)
ثم قال رحمه الله: معنى هذه الآية، الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة. فأمر الله تعالى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفًا لهن، ونهاهن عن التبرج.
ثم قال رحمه الله أيضًا: ذكر الثعلبي وغيره عن عائشة رضي الله عنها، كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها.
وذكر أن سودة قيل لها: لم لا تحجين وتعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقر في بيتي. قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها، حتى أخرجت جنازتها، رضوان الله عليها.
ثم قال رحمه الله: ليس المراد بحكم { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } ، أن لا تتخطى النساء عتبة بيتهن أبدًا، بل الأمر أن قد أُذن لهن أن يخرجن لحوائجهن.
ولكن هذا الإذن ليس بمطلق غير محدود، ولا هو غير مقيد بشروط، فليس جائزًا للنساء أن يطفن خارج بيوتهن كما شئن، ويخالطن الرجال بحرية في المجالس والنوادي، وإنما مراد الشرع بالحوائج: هو الحاجات الحقيقية التي لابد معها للنساء من أن يخرجن من البيوت ويعملن خارجها.
ومن الظاهر أنه لا يمكن استيعاب جميع الصور الممكنة لخروج النساء وعدم خروجهن، في جميع الأزمان، ولا من الممكن وضع الضوابط والحدود لكل مناسبة من تلك المناسبات، غير أن المرء يستطيع أن يتفطن لروح القانون الإسلامي ورجحانه، إذا نظر فيما قرره النبي - صلى الله عليه وسلم -، من الضوابط لخروج المرأة من البيت في عامة أحوال الحياة، وما تناول به حدود الحجاب من الزيادة والنقص بين آونة وأخرى، وأن يستخرج بنفسه حدود الحجاب للأحوال الفردية والشئون الجزئية، وقواعد الزيادة فيها والنقص منها تبعًا للحالات والملابسات(1).
__________
(1) المصدر السابق ص309.(1/55)
ومن ذلك، الإذن في حضور المساجد وحدوده، وخروج النساء في الحج والجمعة والعيدين، وكذلك في زيارة القبور واتباع الجنائز، وكذلك شهودهن الحرب، ففي كل ذلك ضوابط وحدود، وفي أخرى موانع.
ومما يستدل به على جواز خروج النساء لحاجتهن، ما رواه مسلم عن عائشة قالت: خرجت سودة بعدما ضُرب الحجاب ـ لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تَخفى على من يعرفُها ـ فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين. قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عَرْقٌ، فَدَخلت، فقالت: يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه ثم رُفع عنه وإنَّ العَرْقَ في يده ما وضَعه فقال: "إنه قد أُذن لكن أن تخرجن لحاجتكن"(1).
ويقول الشيخ مصطفى العدوي حفظه الله: أما بالنسبة لحكم مسألة الباب: فاعلم أنه يكره خروج المرأة من بيتها لغير حاجة، لقول الله عز وجل: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } [الأحزاب: 33]، والخطاب وإن كان موجهًا لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنساء المؤمنين تبعٌ لهن في ذلك، ولكن محل خروج النساء عند أمن الفتنة وامتناع الفساد، وينبغي أن تكون حالة المرأة وهي خارجة على وفق ما يقتضيه الشرع، وما يلزم به من العفة والتستر الذي ينافي التبرج والسفور، وينبغي لها عند خروجها أن تمتنع من الطيب عند خروجها، وتترك مزاحمة الرجال، وتمشي على حافة الطريق، ولا تضرب بأرجلها ليُعلم ما يُخفى من زينتها، وتلزم الحياء في مشيتها، وبصفة عامة تتبع ما أمر به الله ورسوله عند خروجها(2).
__________
(1) رواه مسلم 02170)، وعند البخاري، الفتح (1/249).
(2) جامع أحكام النساء، كتاب الأدب ص120 باختصار.(1/56)
قال ابن العربي: لقد دخلت نيفًا على ألف قرية، فما رأيت نساء أصون عيالاً، ولا أعف نساء من نساء نابلس، التي رُمي الخليل - صلى الله عليه وسلم - بالنار فها، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارًا إلا يوم الجمعة، فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلا الجمعة الأخرى(1).
ويقول الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله: ويقول التابعي والمفسر الشهير قتادة بن دعامة: إن مقامة المرأة ومستقرها في البيت، وما وضعت عنهن واجبات خارج البيت إلا ليلازمن البيوت بالسكينة والوقار، ويقمن بواجبات الحياة العائلية، أما إن كان بهن حاجة على الخروج، فيجوز لهن أن يخرجن من البيت، بشرط أن يراعين جانب العفة والحياء، فلا يكون في لباسهن بريق أو زخرفة أو جاذبية، تجذب إليهن الأنظار، ولا في نفوسهن من حرص على إظهار زينتهن، فيكشفن تارة عن وجوههن، وأخرى عن أيديهن، ولا في مشيتهن شيء يستهوي القلوب، ولا يلبسن كذلك من الحلي ما يحلو وسواسه في المسامع، ولا يرفعن أصواتهن بقصد أن يسمعها الناس. نعم، يجوز لهن التكلم في حاجتهن، ولكنه يجب أن لا يكون في كلامهن لين وخضوع، ولا في لهجتهن عذوبة وتشويق.
كل هذه الضوابط والحدود إن راعتها النساء، جاز لهن أن يخرجن لحوائجهن(2).
- - -
الصفة الخامسة عشرة
تهتم بتربية أولادها التربية الإسلامية الصحيحة الكاملة، لا يكفيها القشور ولا المظاهر، وإنما هدفها إعداد جيل صالح مجاهد يحمل لواء الدعوة إلى الله.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/5450)، ط. دار الغد العربي.
(2) الحجاب ص308.(1/57)
فانطلاقًا من مسئوليتها كراعية في بيت زوجها، وكأم رؤوم صالحة واعية تفهم دينها فهمًا سليمًا، فإنها تقوم بتربية أولادها تربية إسلامية صحيحة، تربية حقيقية، لها أصول واضحة، ووسائل شرعية، وأهداف سامية، فتربيهم على العقيدة الإسلامية الصحيحة وعلى حسن الخُلُق واستقامة السلوك.
فأما العقيدة الإسلامية: فهي تربي أولادها على أصول الإيمان، وأركان الإسلام الخمسة، باقتدار وعزيمة صادقة، فيتربى الأولاد على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وسائر المغيبات.
ويتربى الأولاد على تعظيم شعائر الله، فيتربون على الصلاة إذا بلغوا سبع سنين، وعلى الارتباط بكتاب الله تعالى، والذهاب إلى المسجد حيث أهل الخير والرفقة الصالحة.
وكذا يتربون على إحياء سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة مغازيه، حتى يأخذ الأولاد منها العبر والعظات التي تُكوِّن شخصيتهم الإسلامية، وبها يستقيم سلوكهم.
أما حسن الخلق واستقامة السلوك: فيتربى الأولاد على المنهج الصحيح لذلك، وتظهر أهم ملامحه في:
(1) التحذير من التشبه والتقليد الأعمى.
(2) عدم الاستغراق في التنعم.
(3) الابتعاد عن اللهو الباطل من الغناء والموسيقى.
(4) عدم التخنث والتشبه بالنساء.
(5) عدم السفور والتبرج والاختلاط والنظر إلى المحرمات.
(6) عدم ارتياد أي مكان فيه منكر أو لهو باطل أو مضيع للأوقات.
وكذلك تقوم الأم ببيان أهمية حسن الخُلُق عند الأولاد، ومكانة من حَسُنت أخلاقهم واستقامت جوارحهم عند الله يوم القيامة.
وعليها أن تربي أولادها على الطهارة والنظافة والعفة والشجاعة والزهد في سفاسف الأشياء، وملاهي الحياة، وكذا تربيهم على التعاون والاحترام للكبير، والأدب مع الناس والعطف على الفقير والمسكين والمريض، كي ينشأوا مسلمين يعيشون للإسلام وبالإسلام.
فصل:(1/58)
(من آداب المرأة المسلمة أن تحسن القيام على أولاد زوجها من امرأة أخرى، كأنهم أولادها؛ فإن الزوجة الصالحة عون لزوجها على مصاعب الحياة، وأعباء المعيشة.
وتأمل ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: تزوجت امرأة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا جابر، تزوجت؟" قلت: نعم. قال: "بكرًا أم ثيبًا؟" قلت: ثَيِّبًا، قال: "فهلا بكرًا تلاعبها؟" قال: قلت: يا رسول الله، إن لي أخوات، فخشيت أن تُدْخل بيني وبينهن. وفي رواية: إن أبي قتل يوم أحد، وترك تسع بنات، كُنَّ لي تسع أخوات فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، لكن امرأة تُمْشُطُهن وتقوم عليهن. فقال: "ذاك إذًا، إن المرأة تُنكح على دينها ومالها وجمالها، فعليك بذات الدين تربت يداك"(1).
فتأمل كيف أقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جابرًا رضي الله عنه على نظرته التربوية في اختياره زوجة تنجز بعض المهام التربوية لأخواته الصغار، أليس بالأحرى أن تعين زوجها على بر والديه، والإحسان إلى أبنائه من غيرها)(2).
وحرص الزوجة المسلمة على حسن تربية أولاد زوجها من امرأة أخرى، إنما هو من صلاحها وتقواها لله عز جل، والتفريط في ذلك، إنما هو من ضعف إيمانها وقلة تقواها لله تعالى.
إن الزوجة الصالحة الواعية التي تحسن تربيتهم، كما تحسن تربية أبنائها، إنما تفعل ذلك لأنها تريد إنشاء جيل صالح من الأولاد، تريد زيادة الفئة المؤمنة المستقيمة على دين الله، وما أقلها الآن، تريد الأجر والثواب من الله، تعلم أنها لو ضيَّعت هؤلاء الأولاد، فإنما تضيع لبنة من لبنات إنشاء المجتمع المسلم الصالح.
وهذا منهج مبسط مقترح لكل أم رؤوم يعينها ـ بعد فضل الله تعالى ـ على تعليم أولادها الدين: عقيدة وآدابًا وسلوكًا ومعاملات...
المستوى الأول:
__________
(1) رواه مسلم رقم (715)، والرواية الأخرى للبخاري (12219).
(2) عودة الحجاب (2/522).(1/59)
أولاً: القرآن: حفظ جزء "عمّ".
ثانيًا: الحديث: حفظ العشرة أحاديث الأولى من كتاب "الأربعون النووية"(1).
ثالثًا: الأذكار: حفظ الأذكار داخل الصلاة، وبعد الصلاة، وبعضًا من أذكار الصباح والمساء.
رابعًا: السيرة: كتاب "السيرة النبوية للأطفال" لعبد اللطيف عاشور(2).
المستوى الثاني:
أولاً: القرآن: الحفظ من جزء تبارك من أول سورة "الملك" إلى آخر سورة "الجن".
ثانيًا: التفسير: تفسير جزء عمَّ(3).
ثالثًا: الأذكار: "مختصر النصيحة في الأذكار والأدعية الصحيحة" لمحمد بن أحمد بن إسماعيل(4).
رابعًا: الحديث: كتاب "الأربعون النووية" من الحديث (11) إلى الحديث (25).
خامسًا: الفقه: رسالة "وأقيموا الصلاة" لمحمد عبد الفتاح.
سادسًا: العقيدة: "تطهير الجنان والأركان" للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي.
سابعًا: "قصص القرآن للأطفال" لمحمد علي قطب.
المستوى الثالث:
أولاً: القرآن: الانتهاء من حفظ جزء تبارك، مع بداية مبسطة لتعلم أحكام التجويد.
ثانيًا: التفسير: تفسير جزء تبارك.
ثالثًا: الأذكار: "مختصر النصيحة في الأذكار والأدعية الصحيحة".
رابعًا: الحديث: من كتاب "الأربعون النووية" من الحديث (26) إلى الحديث (40).
خامسًا: العقيدة: "الأصول الثلاثة وأدلتها" للشيخ محمد بن عبد الوهاب. "أركان الإسلام والإيمان" لمحمد جميل زينو.
سادسًا: "صور من حياة الصحابة" لعبد الرحمن رأفت الباشا.
كتب أخرى في مكتبة الطفل:
"سيرة خاتم النبيين" للأطفال، لأبي الحسن الندوي.
"أطفالنا في رحاب القرآن الكريم ـ آيات وقصة" للدكتور سعد شلبي.
__________
(1) أو ما يتراءى للمربي من الأحاديث التي يشعر بأهميتها لمن يريد أن يربيهم.
(2) أو غيره من الكتب الخاصة بالأطفال، حيث إن المكتبات تزخر يوميًا بالكتب الجديدة.
(3) على أن يكون مبسطًا بذكر المعنى الإجمالي للسورة، مع شرح معاني الكلمات الصعبة.
(4) أو غيره من كتب الأذكار المبسطة، مع مراعاة تحفيظ الطفل ذِكرًا ذِكرًا.(1/60)
"سلسلة الآداب والأخلاق الإسلامية".
"سلسلة تأديب الصغار بآداب الكبار".
"سلسلة العقائد المبسطة".
"سلسلة الفقه المبسطة".
"سلسلة الأحاديث المبسطة"، وكلها من نشر دار الصحابة للتراث بطنطا.
"صور من حياة التابعين" للباشا.
- - -
الصفة السادسة عشرة
تحرص حرصًا شديدًا على وقتها، وتعرف في أي شيء توظفه. ليس لها مجالس غيبة أو دنيا أو لهو، وإنما مجالسها هي مجالس ذكر وإصلاح بين الناس، وأمر بمعروف ونهي عن منكر.
وذلك انطلاقًا من قوله تعالى: { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } [الزمر: 54، 55]. وقوله تعالى: { اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ } [الشورى:47].
وانطلاقًا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قل هَرَمك، وصحتك قبل سِقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"(1).
وكذلك انطلاقًا من الأقوال السلفية والعظات النورانية:
قال الحسن البصري: يا ابن آدم، إنما أنت أيام مجموعة، كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك.
وقال أيضًا: أدركت أقوامًا كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه.
وقال عمر بن عبد العزيز: إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما.
ويقول بعض العارفين: أوقات العبد أربعة لا خامس لها: النعمة والبلية والطاعة والمعصية، ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية.
فمن كان وقته الطاعة فسبيله شهود المنة من الله عليه، أن هداه لها، ووفقه للقيام بها.
__________
(1) رواه أحمد والحاكم وغيرهما وهو صحيح، صحيح الجامع (1/243) برقم (1077).(1/61)
ومن كان وقته النعمة فسبيله الشكر، وهو فرح القلب بالله.
ومن كان وقته المعصية فسبيله التوبة والاستغفار.
ومن كان وقته البلية فسبيله الرضا والصبر، والرضا رضا النفس عن الله، والصبر ثبات القلب بين يدي الرب.
من أجل ذلك كله فهي تحافظ على وقتها أشد المحافظة، ولا تنفقه هباءً منثورًا، ودائمًا تقدم الأهم على المهم، والأعلى على الأدنى، وتنظم وقتها بين الواجبات والأعمال المختلفة دينية كانت أو دنيوية، حتى لا يطغى بعضها على بعض.
فمما جاء في صحف إبراهيم: "ينبغي للعاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن يكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر في صنع الله عز وجل، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب".
والزوجة الصالحة كيِّسة فطنة، تحرص على استباق الخيرات بتحريها الأوقات التي ميزها الله بخصائص روحية معينة، فضلها بها على غيرها، كتفضيل بعض الأمكنة على بعض، وتفضيل بعض الساعات على بعض، وتفضيل بعض الأيام على بعض، وتفضيل بعض الشهور على بعض.
وهي مع ذلك أيضًا تحذر آفات قتل الوقت من طول الأمل في الدنيا، والاغترار بالعمل، وحسن الظن بالنفس، وقرينات السوء، والغفلة والتسويف؛ لذلك فإن مجالسها مجالس علم شرعي أو ذكر لله تعالى أو نصح في الله، أو إصلاح بين الناس، أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
فصل: تذكرة:
عباد الله! لا شيء أغلى عليكم من أعماركم وأنتم تُضيعونها فيما لا فائدة فيه، ولا عدوَّ أعدى لكم من إبليس وأنتم تطيعونه، ولا أضرَّ عليكم من موافقة النفس الأمارة بالسوء وأنتم تصادقونها، لقد مضى من أعماركم الأطايب، فما بقي بعد شيب الذوائب.
يا حاضر الجسم القلبُ غائب، اجتماع العْيب مع الشيب من أعظم المصائب، يمضي زمن الصبا في لعب وسهو وغفلة، يا لها من مصائب.(1/62)
يا غافلاً فاته الأرباح وأفضلُ المناقب، أين البكاء والحزن والقلق لخوف العظيم الطالب، أين الزمان الذي فرَّطت فيه ولم تخش العواقب.
كم في يوم الحسرة والندامة من دمع ساكب، على ذنوب قد حواها كتاب الكاتب، من لك يوم ينكشف عنك غطاؤك في موقف المحاسب، إذا قيل لك ما صنعت في كل واجب.
كيف ترجو النجاة وأنت تلهو وتلعب، لقد ضيَّعتك الأماني بالظن الكاذب، أما علمت أن الموت صعبٌ شديدُ المشارب، يُلْقي شرَّه بكأس صدور الكتائب، وأنه لا مفرَّ منه لهارب.
فانظر لنفسك واتق الله أن تبقى سليمًا من النوائب، فقد بنيْت كنسج العنكبوت بيتًا.
أين الذين عَلَواْ فوق السفن والمراكب، أين الذين عَلَواْ على متون النجائب، هجمت عليهم المنايا فأصبحوا تحت النصائب، وأنت في أَثَرِهم عن قريب عاطب، فانظر وتفكر واعتبر وتدبر قبل هجوم من لا يمنعُ عنه حرس ولا باب ولا يفوته هَرَبُ هارب.
وكيف قرَّت لأهل العلم أعينُهُم
والموتُ ينذرهم جهرًا علانية
والنار ضاحية لابد موردهم
قد أمست الطير والأنعام آمنةً
والآدمي بهذا الكسب مرتهن
حتى يُرى فيه يوم الجمع منفردًا
وإذا يقومون والأشهاد قائمةٌ
وطارت الصحف في الأيدي مُنشرةً
فكيف بالناس والأنباء واقعةٌ
أفي الجنان وفوز لا انقطاع له
تهوي بسكانها طَوْرًا وترفعهم
طال البكاء فلم ينفع تَضرعُه
و استلذوا لذيذ النوم أو هجعوا
لو كان للقوم أسماعٌ لقد سمعوا
وليس يدرون من ينجو ومن يقعُ
والنونُ في البحر لا يُخشى لها فزعُ
له رقيب على الأسرار يطَّلعُ
وخَصْمُهُ الجلد والأبصار والسمعُ
والجنُّ والإنس والأملاك قد خشعوا
فيها السرائر والأخبار تُطَّلع
عمَّا قيل وما تدري بما تَقعُ
أم في الجحيم فلا تُبقي ولا تَدَعُ
إذا رَجَوْا مخرجًا من غمِّها قُمعوا
هيهات لا رقةٌ تُغني ولا جزعُ(1)
?
- - -
الصفة السابعة عشرة
__________
(1) موارد الظمآن (1/578)، ط10.(1/63)
عابدة لله، كثيرة الذكر، متهجدة بالليل، متصدقة، صوَّامة خاشعة، عليها لباس الوقار والسكينة، همتها عالية كلما أدت عبادة طلبت ما بعدها، لا تمل ولا تكسل، قدوتها أمهات المؤمنين ونساء السلف العابدات الصالحات.
عن عروة قال: كنت إذا عزمت أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها، فأسلم عليها فغدوت يومًا، فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ رضي الله عنها: { وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [الطور: 27]، وتدعو وتبكي وترددها، فقمتُ حتى مللتُ القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت، فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي.
وعنه قال: كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئًا مما جاءها من رزق الله تعالى إلا وتصدقت به.
وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: "ما هذا الحبل؟" قالوا: حبلٌ لزينب، فإذا فترت تعلقت به. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا, حُلُّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد".
وقال عون بن عبد الله: كنا نأتي أم الدرداء (زوجة أبي الدرداء) فنذكر الله عندها.
وقال يونس بن ميسرة: كنا نحضر أم الدرداء، وتحضرها نساء عابدات، يقمن الليل كله، حتى إن أقدامهن قد انتفخت من طول القيام.
وهذه امرأة صالحة تسمى "عجردة" كانت تحيي الليل، وكانت مكفوفة البصر، فإذا كان السحر نادت بصوت لها محزون:
إليك قطع العابدون دجى الليالي، يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك، فبك يا إلهي أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أول زمرة السابقين، وأن ترفعني لديك في عليين في درجة المقربين، وأن تُلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أرحم الرحماء، وأعظم العظماء، وأكرم الكرماء، يا كريم، ثم تخر ساجدة فيُسمع لها وجبة (صوت)، ثم لا تزال تدعو وتبكي إلى الفجر.(1/64)
وعن عبد الله المكي أبي محمد قال: كانت "حبيبة العدوية" إذا صلَّت العتمة قامت على سطح لها، وشدَّت عليها درعها وخمارها، ثم قالت: إلهي قد غارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك.
ثم تقبل على صلاتها، فإذا طلع الفجر قالت: إلهي هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقَبِلْتَ مني ليلتي فأهنأ، أم رددتها عليّ فأعزى؟ وعزتك لهذا دأبي ودأبك ما أبقيتني، وعزتك لو انتهرتني عن بابك ما برحت، لما وقع في نفسي من جودك وكرمك.
وقال الهيثم بن جماز: كانت لي امرأة لا تنام الليل، وكنت لا أصبر معها على السهر، فكنت إذا نعستُ ترشُّ عليّ الماء في أثقل ما أكون من النوم، وتنبهني برجلها، وتقول: "أما تستحيي من الله؟ إلى كم هذا الغطيط؟ فوالله إن كنت لأستحيي مما تصنع".
وقال بعض الصالحين: خرجت يومًا إلى السوق ومعي جارية حبشية، فاحتبست في موضع بناحية السوق، وذهبت في بعض حوائجي، وقلت: لا تبرحي حتى أنصرف إليك، قال: فانصرفت، فلم أجدها في الموضع، فانصرفت إلى منزلي وأنا شديد الغضب عليها، فلما رأتني عرفت الغضب في وجهي، فقالت: يا مولاي لا تعجل عليّ، إنك أجلستني في موضع لم أر فيه ذاكرًا لله تعالى، فخفت أن يُخسف بذلك الموضع. فعجبت لقولها، وقلت لها: أنت حرة.
فقالت: ساء ما صنعت، كنت أخدمك فيكون لي أجران، وأما الآن فقد ذهب عني أحدهما(1).
إن الزوجة الصالحة العابدة، التي تسلك طريق العابدات الخاشعات، لهي القدوة الصالحة لأبنائها، وهي أم لجيل صالح عابد إن شاء الله تعالى.
__________
(1) راجع أحكام النساء لابن الجوزي، وصفة الصفوة لابن الجوزي أيضًا، وإحياء علوم الدين للغزالي، وسير أعلام النبلاء للذهبي، وعودة الحجاب لمحمد إسماعيل جـ2، وأخبار النساء في سير أعلام النبلاء لعبيد الشعبي، ونساء زاهدات لمحمد خير يوسف.(1/65)
إن خضوع المرأة لربها في محراب العبادة، معناه أنها عرفت الطريق، واستقامت عليه، وأنابت إلى دار الخلود، وتجافت عن دار الغرور.
إن كثيرًا من الزوجات اليوم كُتبن عند الله من المقصرات، إن لم يكن حالهن التفريط، وذلك بسبب غفلتهن وكثرة ذنوبهن وإقبالهن على الدنيا.
لقد شُغلت كثير من الزوجات بالعمل خارج المنزل، أو بالأمور الدنيوية، أو بالمشاكل العائلية، وجلسات اللغو والغيبة والنميمة وتضييع الأوقات، حتى لم يكن عندهن وقت للعبادة أو لتحسينها أو للاجتهاد في زيادتها، حتى كثرت ذنوبهن، وأصبحن أسيرات المعاصي.
أما النساء العابدات الصالحات المجتهدات في عبادة الله عز وجل، فلم يشغلهن شيء عن تحقيق العبودية الحقة لله عز وجل، رغم مشاغل الواحدة منهن في البيت، وحقوق زوجها وأولادها، وصلة رحمها، فهي توازن وتقدم الأهم فالمهم، فلا نجد عندها تقصير، وإن قصَّرت سارعت إلى التوبة والاستغفار.
قالت فاطمة النيسابورية رحمها الله تعالى:
من لم يكن الله عز وجل منه على بال، فإنه يتخطى في كل ميدان، ويتكلم بكل لسان، ومن كان الله منه على بال، أخرسه إلا عن الصدق، وألزمه الحياء منه والإخلاص.
وقالت معاذة العدوية رحمها الله تعالى لابنتها:
يا بنية، كوني من لقاء الله عز وجل على حذر ورجاء، فإني رأيت الراجي له محقوقًا يحسن الزلفى لديه يوم يلقاه، ورأيت الخائف له مؤملاً للأمام يوم يقوم الناس لرب العالمين.
فيا من صحيفتها من الطاعات خاوية، وبكبار الذنوب حاوية، هلمي في ركاب العابدات الصالحات سيري، وإلا فإن الهاوية مصير كل غاوية.
هيا جددي العهد مع ربك، فإن العمر قصير، والطريق إلى الآخرة طويل، ويهوِّن عليك الطويل إحسانك في القصير.
هلمي جددي العهد مع الصالحات العابدات، وابتعدي عن الطالحات الغافلات.
- - -
الصفة الثامنة عشرة
ذاكرة للموت، مستعدة للقبر، غير غافلة عن لقاء الله تعالى والدار الآخرة.(1/66)
لو أن كل امرأة كانت فيها هذه الصفات الطيبة والهامة، لرأينا نساءً صالحات قانتات عابدات مجاهدات مؤمنات صابرات داعيات.
لرأينا رياحين من النساء تشتاق إليها النفوس، وتسعد بها القلوب.
لرأينا جيلاً فريدًا من النساء اللواتي خلت قلوبهن إلا من ذكر الله ودعائه والانشغال بعبادته ولقائه؛ لأنهن أدركن جلال الله وعظمته.
لرأينا جيلاً صالحًا من النساء، ازداد خوفًا وخشية، واجتهدن في طاعته والانصياع لأوامره، رجاء فضله وسعة رحمته.
نعم زوجتي، ذاكرة للموت، مستعدة للقبر، غير غافلة عن لقاء الله تعالى والدار الآخرة، حتى تدخل جنة ربها بسلام، وحتى لا تكون ممن قال الله فيهم: { وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [الروم: 6، 7]، { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأنبياء: 1، 2]، { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } ق: 20ـ 22]، { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [مريم:39].
فصل: تذكرة:
فاتق الله يا أمة الله، وراقبيه، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل ، واعلمي أن الإنسان لا يزال يلهو ويلعب حتى يأتيه الموت فينتبه، ولذلك قيل: فالعيش نوم والردى يقظة... والمرء ما بينهما كالخيال.
كيف بك يا أمة الله، إذا بلغت الروح الحلقوم، والتفت الساق بالساق، وفارقْتِ الزوج والأهل والأبناء والأحباب.(1/67)
كيف بك إذا حُمِلْتِ على الأكتاف ووسِّدتِ التراب، فأصبحتِ في ظلمة الدجى وضيق اللحود. كيف بك إذا جاء منكر ونكير، فأجلساك وأقعداك وجدَّا في السؤال. كيف بك إذا خرجت من القبور، يوم البعث والنشور. كيف بك إذا تطايرت الصحف، ونُصب الصراط، ووضع الميزان.
الله الله يا أمة الله، هذا هو المآل وهذا هو المصير.
قالت صفية رضي الله عنها: عن امرأة اشتكت إلى عائشة قسوة قلبها، فقالت لها: أكثري ذكر الموت يَرقُّ قلبك، ففعلت فرقَّ قلبها فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها.
فيا أمة الله، تزودي للرحيل، فقد دنت الآجال. واجتهدي واستعدي للرحيل؛ فقد قرب الارتحال.
ومهدي لنفسك صالح الأعمال، فإن الدنيا قد آذنت بالفراق، وإن الآخرة قد أشرقت للتلاق. فتزودي من دار الانتقال إلى دار القرار، واستشعري التقوى في الأقوال والأفعال.
واحذري التفاخر والتكاثر في الدنيا بجمع الحطام واكتساب الآثام.
وإياك والاغترار بالآمال، فوراءك المقابر ذات الوحشة والغموم والهموم والكربات، وتضايق الأنفاس والأهوال المفظعات، فسوف ترين ما لم يكن لك في حساب، إذا نوديتي من الأجداث، ووقفتي بين يدي رب العباد، فإن لم تُعِدي لهذا اليوم عُدته، فإنما هو الهلاك والخسران.
هَوِّن عليك فما الدنيا بدائمة
ولو تصوَّر أهل الدهر صورت
إنما أنت مِثلُ الناس مغرورُ
لم يُمْس منهم لبيبٌ وهو مسرورُ
?
- - -
الصفة التاسعة عشرة
مؤمنة مجاهدة صابرة، إذا ابتليت بشيء في نفسها أو مالها أو ولدها أو زوجها، تصبر وتحتسب الأجر عند الله، ولا تسخط أو تدعو بدعوى الجاهلية، ولا يرى منها الله تعالى إلا ما يحب. الإيمان بالقضاء والقدر عندها عقيدة راسخة في قلبها.
زوجتي صبورة في النوازل، وقورة في الزلازل، إذا ما وضعها الله تعالى في اختبار وابتلاء، صبرت وأظهرت للواقع عقيدتها الحقة بالقضاء والقدر.(1/68)
صابرة محتسبة، ترجو ما عند الله لأنه خير وأبقى، تعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن رحمة الله غالبة لانتقامه وغضبه، وأن لله تعالى حكمة فيما ابتلاها به، فلم يقدره عليها عبثًا ولا سدى، ولذلك فهي تحمد الله تعالى ولا تسخط، حتى تظهر بمظهر العبودية أمام سيدها ومولاها.
وهي أيضًا إذا ما ابتلاها الله تعالى في نفسها أو ولدها أو زوجها بشيء، نظرت إلى حال نساء السلف اللاتي ابتلين من الله تعالى بأشد مما ابتليت، فصبرن واحتسبن الأجر عند الله، ولم يسخطن، بل رضين بقضاء الله وقدره، فمن هؤلاء النساء الصالحات من كانت تُلقى ويُحمل لها مكاوي الحديد، ثم توضع بين أعطاف جلدها، ومنهن من كانوا يسقونها العسل ويوثقونها بالأغلال ثم يلقونها بين الرمال، ولها حَرُّ يذيب اللحم ويصهر العظم حتى يقتلها الظمأ.
ومنهن من كانت تضرب بالسياط فلا تلين ولا تجزع.
ومنهن الخنساء التي قالت لما قُتل أولادها في الحرب: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة.
ومنهن من كانت تشارك بنفسها في الجهاد والمعارك فتستشهد في سبيل الله أو تقطع أيديها أو تضرب بالسيف وغيره.
كثير من الزوجات للأسف لا يعرفن: قدر الله وما شاء فعل، لا يعرفن: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا يعرفن: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وإنما الويل والثبور والجزع، وربما السخط على قدر الله تعالى عند وفاة عزيز عليها من زوج أو ولد أو غيرهم، وهذا يضادُّ عقيدة المؤمنة التي يجب أن تُسلم بقضاء الله وقدره، وتهدم بذلك ركنًا أصيلاً من أركان الإيمان.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:
إذا جرى على العبد مقدور يكرهه فله فيه ستة مشاهد:
أحدها: مشهد التوحيد، وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الثاني: مشهد العدل، وأنه ماض فيه حكمه، عدلٌ فيه قضاءه.(1/69)
الثالث: مشهد الرحمة، وأن رحمته في هذا المقدور غالبة لغضبه وانتقامه.
الرابع: مشهد الحكمة، وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك، لم يقدره سدى، ولا قضاه عبثًا.
الخامس: مشهد الحمد، وأنه له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه.
السادس: مشهد العبودية، وأنه عبدٌ محضٌ من كل وجه، تجري عليه أحكام سيده وأقضيته، بحكم كونه ملْكه وعبده، فيصرفه تحت أحكامه القدرية، كما يصرفه تحت أحكامه الدينية، فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه(1).
فهل فقهت المسلمة موقفها الإيماني الصحيح من قضاء الله وقدره.
فصل: أمور تعين على الصبر:
ما من شك أن الصبر ضرورة دنيوية وفريضة شرعية، ومع ذلك فهو مرُّ المذاق، صعب على النفس، ولذا فأنا أذكر هنا جملة من الأمور التي تعين على الصبر، دفعًا لوساوس الشيطان، وحتى لا يستولي على قلب المؤمنة.
أولاً: معرفة طبيعة الحياة الدنيا:
فعندما تتذكر المسلمة دائمًا أن الدنيا ليست بجنة نعيم، ولا بدار مُقامه، وإنما هي دار ابتلاء وتكليف، فإن ذلك يساعدها على الصبر الجميل، وعدم الاستغراب بكوارثها وأحزانها.
ولله در القائل:
إن لله عبادًا فُطَنًا
نظروا فيها فلما علموا
جعلوها لُجةً واتخذو
لقوا الدنيا وخافوا الفتنا
أنها ليست لحي وطنا
صالح الأعمال فيها سُفنا
?
ثانيًا: اليقين بحسن الجزاء عند الله:
فكلما استحضرت المسلمة ذلك الأجر العظيم الذي ينتظرها عند الله تعالى، إذا ما هي صبرت ورضيت بقضاء الله وقدره، فإنها لا شك ستصبر وترضى بما قدره الله عليها، بل ربما تشكره على ذلك.
قال تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10]، وقال أيضًا: { وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
[النحل: 96]
ثالثًا: اليقين بالفرج:
__________
(1) الفوائد ص47.(1/70)
فإن ذلك يبدد ظلمة القلق، وشبح اليأس، ويضيئ نفس المؤمن بنور الصبر الذي لا يخبو، قال تعالى: { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } [الطلاق: 7]، وقال أيضًا: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } [الشرح: 5، 6].
رابعًا: الاستعانة بالله:
فمن كان معه الله كان معه كل شيء، ومن فاته الله فاته كل شيء. قال تعالى: { اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا } [الأعراف: 128].
خامسًا: التأسي بأهل الصبر والعزائم:
فالتأمل في سير الصابرات، وما لاقينه من ألوان الشدائد، وما ذقنه من صنوف البلاء، يعين على الصبر، ويطفئ نار المصيبة ببرد التأسي.
قال تعالى: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ }
[الأحقاف: 35]
سادسًا: استصغار المصيبة:
فمهما كانت مصيبتك، فهناك من أصيبت بما هو أشدُّ منك.
قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها أعظم المصائب"(1).
- - -
الصفة العشرون
داعية إلى الله عز وجل، آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، تأخذ بأيدي الغافلات برفق إلى بر الأمان، غير مترخصة في دعوتها، ولا متهجمة لمجتمع الرجال. تتخلق بأخلاق الدعوة، ولا ترجو ثناءً أو أجرًا من هنا أو هناك، ولكن تُخلص العمل وتخفيه ما أمكنها ذلك.
زوجتي داعية إلى الله عز وجل، تعرف أهداف دعوتها، فتعمل لها ولا تكسل، ولا تتوانى، ولا تتأخر. حكيمة متزنة، متخلقة بأخلاق هذه الدعوة، فلا يخالف عملها قولها. الرفق واللين والحكمة أسلوبها في الدعوة، والاعتدال والوسطية منهجها في الدعوة.
__________
(1) حديث صحيح بشواهده. الصبر الجميل لسليم الهلالي.(1/71)
عندها فقه الدعوة القائم على الكتاب والسنة، لا على الأهواء والخيالات، ميزانها في الدعوة: لا إفراط ولا تفريط، لا تتبنى الأفكار الشاذة ولا المذاهب المبتدعة، لا تحاول شق الصف، بل تحاول جادة رأب الصدع، تؤلف ولا تفرق. حماسها للدعوة كحماسها لطفلها المريض، لا تقرُّ عينها إلا بسلامته عندها.
خروج روحها أهون عليها من خروجها من الدعوة، كالسمكة إذا خرجت من الماء تموت؛ وذلك لعلمها أن الدعاة إلى الله هم خير الناس، وأنهم في منزلة من أعلى المنازل، فيكفي أنهم وُرَّاث النبوة.
هي في دعوتها كالنحلة العاملة، هوايتها جمع الغبار قبل الدينار، لا تهدأ ولا يستقر لها حال، أو يقرُّ لها قرار، حتى تأخذ بأيدي الغافلات إلى بر الأمان.
ليست ممن يترخص في الدعوة على حساب الدين، وإنما فقهٌ قائمٌ على الكتاب والسنة.
لا تفرح بثناء الناس، ولا تحزن بكلامهم عليها، إنما هي تخلص العمل، وتسدد وتقارب وتوازن، وترجو في النهاية رضا الله تعالى وحده والجنة.
عندها من الوعي ما يدفعها إلى ممارسة حياة إسلامية طاهرة، فتظهر أمام بنات جنسها بصورة واقعية رائعة متميزة بهذه السمة، متزنة سوية، لا تحارب الفطرة الإنسانية التي خلقها الله سبحانه تعالى، ولا تعاني القلق الذي أشاعته المدنية(1).
وأخيرًا، وليس بآخر، تهتم في دعوتها، بأهل بيتها، ابتداءً بزوجها وأولادها ووالديها وأقاربها، ثم الأقرب فالأقرب انطلاقًا من قوله تعالى: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } [الشعراء:214].
فصل: مشكلة هامة تواجه الزوجة الداعية(2):
__________
(1) مستفاد من "الداعية الناجحة" للشيخ أحمد القطان، بتصرف.
(2) "هموم فتاة ملتزمة" للشيخ سلمان العودة، بتصرف واختصار.(1/72)
وهي: صعوبة التوفيق بين العمل والدعوة والشئون المنزلية، فكم من فتاة تشتعل في قلبها جذوة الحماس إلى الدعوة إلى الله تعالى، وتعيش في مخيلتها الكثير من الأحلام والأمنيات، فإذا تزوجت وواجهت الحياة العملية، تبخَّرت تلك الآمال، وذابت تلك المشاعر، ولم تعد تملك منها إلا الحسرات والأنات والآهات والزفرات والذكريات! حتى أصبح كثير من الفتيات الآن لا يملكن إلا أن يقلن: كنت أفعل كذا وكنت أفعل كذا، لكنهن لا يستطعن بحال أن يقلن: نحن نفعل الآن كذا وكذا.
حلول لهذه المشكلة:
أولاً: تقوى الله عز وجل:
قال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } [الطلاق: 2، 3].
فالتقوى هي أول حل، أن تتقي ربها جل وعلا في نفسها، وفي وقتها، وفي زوجها، وفي عملها، وفي مسئوليتها، ومن مظاهر هذه التقوى:
(1) أن تختصر الفتاة ثلاث ساعات تجلسها أمام المرآة وهي تعبث بالأصابع، وترسم وتمسح، وتزين شعرها، لتصبح مثلاً هذه الساعات الثلاث نصف أو ثلث ساعة، دون تفريط بجمالها لزوجها، الذي هو جزء من شخصيتها وجزء من فطرتها.
(2) اختصار المكالمات الهاتفية لاسيما إذا كانت الأحاديث لا جدوى من ورائها.
(3) اختصار الوقت المخصص لصناعة الحلوى مثلاً، والابتعاد عن التكلف.
(4) الاقتصاد في النوم، فالمؤمنة مطالبة بأن يكون قسطها من النوم مجرد استعداد لاستئناف حياة من البذل والجهد.
ثانيًا: تنظيم الوقت وترتيب الأولويات:
قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } [النحل: 90].
وقال - صلى الله عليه وسلم - ـ فيما رواه الشيخان ـ لابن عمرو بن العاص رضي الله عنه: "إن لنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقًا"(1).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(1/73)
فمن العدل ترتيب الأولويات والمهمات، فالفرض يقدم على النفل، والضرورات تقدم على الحاجات، والحاجات تقدم على الأمور التكميلية التحسينية.
فليس من العدل أن تهمل المرأة زوجها وبيتها وأولادها بحجة أنها مشغولة بالدعوة.
ثالثًا: مجالات الدعوة تشمل كل مناحي الحياة:
كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "كل معروف صدقة"، فالصدقات والمعروف كثير جدًا.
إن قيام الزوجة بتأمين الجبهة الداخلية لداعية جزء من مهمتها ومن دعوتها، فينطلق بدعوته ولا ينشغل بالبيت؛ لأن زوجته قد كفته ذلك.
وإن قيامها بتحويل زوجها من إنسان عادي همه الدنيا، إلى إنسان مستقيم على الدين، أو إلى إنسان داعية يشتعل في قلبه همّ الإسلام، جزء من دعوتها ومسئوليتها.
رابعًا: عمل الداعية في بيتها:
(1) توفر المرأة في بيتها مكتبة صغيرة للقراءة وأخرى صوتية مما يحتاجه أهل المنزل.
(2) عقد درس أسبوعي لأهل البيت، يتعلمون فيه أشياء يسيرة: آية محكمة، سنة من سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، تدريب على عبادة، تعليم عقيدة، تربية، قصة وما إلى ذلك.
(3) تحسين العلاقة مع كافة أفراد المنزل، تمهيدًا لدعوتهم إلى الله.
(4) مراعاة كبار السن بالتلطف مع النساء منهن، وبالهدية ككتاب صغير أو شريط إسلامي مؤثر، وبالصبر عليهم جميعًا، وحسن التصرف معهم.
- - -
الباب الثاني
تعدد الزوجات...نعمة أم نقمة
تعدد الزوجات... نعمة أم نقمة؟!(1)
__________
(1) مستفاد من "فقه السنة" للشيخ سيد سابق حفظه الله (جـ2)، "تعدد الزوجات في الإسلام" لإبراهيم الجمل، "فقه تعدد الزوجات" لمصطفى العدوي، "فضل تعدد الزوجات" لأبي عبد الرحمن، "نعم... تعدد الزوجات نعمة" لغالية الجحدري، "نداء للجنس اللطيف" لمحمد رشيد رضا.(1/74)
لقد كان لسوء التطبيق، وعدم الالتزام الحقيقي بتعاليم الدين الإسلامي حجة ناهضة لضعاف القلوب وأعداء الدين، أن ينالوا من الإسلام، أو أن يشككوا في منهجه القويم، أو يفهموه فهمًا خاطئًا يحملهم على عدم الأخذ ببعض شرائعه.
من ذلك قضية تعدد الزوجات، فنظرًا لسوء تطبيق هذا الأمر من البعض، أصبح في نظر الكثيرين جريمة ودناءة ونكران للجميل وخسة، إلى غير ذلك من التهم الباطلة.
لذا كان لابد من التطرق إلى هذه القضية من كل جوانبها ما أمكن، حتى تتضح الصورة الحقيقية الناصعة لتعدد الزوجات في الإسلام، ويفهمه الناس الفهم الصحيح.
ولا ننسى أن نذكر بعض إخواننا الأحباب ببعض الممارسات والأساليب غير السليمة مع زوجاتهم تجاه هذه القضية.
ففي أحد الأيام اتصلت بي هاتفيًا إحدى الأخوات وهي تبكي ولا تتمالك نفسها، وذلك بسبب أن زوجها يقرع سمعها ليل نهار: "سأتزوج بأخرى... سأتزوج بأخرى" حتى أصابها من ذلك الهمُّ والنكد، وهي تقول ما دام يريد أن يتزوج فليتزوج، فأنا لا أمانع، ولكن ما معنى مضايقتي بين الحين والآخر بهذا الكلام وكأنه تهديد لي على جريمة مثلاً ارتكبتها!!
لذا، فأنا أوصي هؤلاء الأخوة بتقوى الله تعالى، وأوصيهم بنسائهم خيرًا ومعاشرتهم بالمعروف، فلا داعي لأي كلمة من شأنها تعكر صفو البيت وتكدره، وتنشر فيه سحابات من الكآبة والحزن، وذلك بسبب كلام ظاهره عدم الانضباط والحكمة، فمن أراد أن يتزوج فليتزوج، ولا داعي لأن يهدد زوجته بين الحين والآخر بالزوجة الثانية، فيحملها على بغضها ـ إن تزوج ـ وعلى بغض هذا الأمر، حتى يكون هو سببًا ربما في تأثمها، أو أن يكون في نفسها شيء من قضية التعدد تلام عليه شرعًا.
أولاً: مشروعيته:(1/75)
قال تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا } [النساء:3].
روى البخاري وغيره عن عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } فقالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حجر وليِّها فتشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليُّها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فَنُهُوا أن ينكحوهن إلا أن يُقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سُنَّتهنَّ من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله عز وجل: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } [النساء:127]، قالت: والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب، الآية الأولى التي قال سبحانه فيها: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } ، قالت عائشة: وقول الله عز وجل في الآية الأخرى: { ... وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } هي رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره، حين تكون قليلة المال والجمال، فنُهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء، إلا بالقسط من أجل رغبتهم إن كن قليلات المال والجمال.(1/76)
يقول الشيخ سيد سابق حفظه الله: ويكون معنى الآية على هذا: أن الله سبحانه وتعالى يخاطب أولياء اليتامى فيقول: إذا كانت اليتيمة في حجر أحدكم تحت ولايته، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها فليعدل عنها إلى غيرها من النساء، فإنهن كثيرات، ولم يُضيق الله عليه فأحل له من واحدة إلى أربع.
فإن خاف أن يجور إذا تزوج أكثر من واحدة، فواجب عليه أن يقتصر على واحدة، أو ما ملكت يمينه من الإماء(1).
أخرج مالك في موطئه، والنسائي والدارقطني في سننهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشرة نسوة: "اختر أربعًا وفارق سائرهن".
وفي كتاب أبي داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اختر منهن أربعًا".
وروى الشافعي والبيهقي عن نوفل بن معاوية قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "فارق واحدة وأمسك أربعًا"(2).
وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه الذين كانوا يعددون في حياته، وما زادوا عن الأربعة، وفقًا لما نصت عليه الآية، ولم يثبت أن واحدًا منهم زاد على الأربعة، أو خالف ما عليه الإسلام. ولا شك أن إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمل الصحابة أصل من أصول الشريعة.
ثانيًا: الحكمة من تعدد الزوجات:
(1) قيام الحروب:
فكثيرًا ما تتعرض الدولة صاحبة الرسالة لأخطار الجهاد، فتفقد عددًا كبيرًا من الأفراد، ولابد من رعاية أرامل هؤلاء الذين استشهدوا، ولا سبيل إلى حسن رعايتهن إلا بتزويجهن.
ولقد كان من عادة المسلمين الأولين تكريم إخوانهم الذين استشهدوا في الحرب، ويتزوجون نساءهم، ويكرمون أولادهم، ويبعدونهم عن طريق الغواية، فيقومون بالإنفاق عليهن وعلى أولادهن.
(2) تحصين النفس:
__________
(1) فقه السنة (2/96).
(2) راجع: تفسير القرطبي (5/17).(1/77)
فقد يوجد عند بعض الرجال ـ بحكم طبيعتهم النفسية والبدنية ـ رغبة جنسية جامحة؛ إذ ربما لا تشبعه امرأة واحدة، ولاسيما في بعض المناطق الحارة، فبدلاً من أن يتخذ خليلة تفسد عليه أخلاقه، أُبيح له أن يشبع غريزته عن طريق حلال مشروع.
وهل الأفضل للرجل وللمجتمع أن يسلك الرجل طريق الزنا وإفساد المجتمع، أم أن يباح له ـ برحمة من الله ـ التعدد.
(3) كثرة الإناث على الذكور:
قد يكون عدد الإناث في شعب من الشعوب أكثر من عدد الذكور، كما يحدث عادة في أعقاب الحروب، بل تكاد تكون الزيادة في عدد الإناث مطردة في أكثر الأمم، حتى في أحوال السِلْم، نظرًا لما يعانيه الرجال غالبًا من الاضطلاع بالأعمال الشاقة التي تهبط بمستوى السن عند الرجال أكثر من الإناث.
وهذه الزيادة توجب التعدد، وتفرض الأخذ به لكفالة العدد الزائد وإحصانه، وإلا اضُطررن إلى الانحراف واقتراف الرذيلة، فيفسد المجتمع وتنحلُّ أخلاقه، أو إلى أن يقضين حياتهن في ألم وحرمان وشقاء العزوبة، فيفقدن أعصابهن، وتضيع ثروة بشرية كان يمكن أن تكون قوة للأمة، وثروة تضاف إلى مجموع ثرواتها.
(4) الحصول على الذرية:
قد تكون الزوجة عقيمة لا تلد، أو مريضة مرضًا لا يُرجى شفاؤها منه، وهي مع ذلك راغبة في استمرار الحياة الزوجية، والزوج راغب في إنجاب الأولاد، وفي الزوجة التي تدير شئون بيته.
فهل من الخير للزوج أن يرضى بهذا الواقع الأليم، فيصطحب هذه العقيم دون أن يولد له، وهذه المريضة دون أن يكون له من يدبر أمر منزله، فيحتمل هذا الغرم كله وحده؟!
أم الخير في أن يفارقها وهي راغبة في المعاشرة فيؤذيها بالفراق؟!
أم يُوفقِّ بين رغبتها ورغبته، فيتزوج بأخرى، ويُبقي عليها، فتلتقي مصلحته ومصلحتها معًا؟!
(5) اختلاف طبيعة الرجل عن المرأة:(1/78)
فالرجل أكثر طلبًا للأنثى في الغالب، ومستعد لأداء النسل طول حياته، إلا أن المرأة تكون مستعدة لذلك إلى سن الخمسين فقط، وبعدها ينقطع دم حيضها، وتنعدم بويضات التناسل.
فإذا كانت الزوجة في هذه الحالة عاجزة عن أداء الوظيفة الزوجية، من الإنجاب أو إشباع الرجل، فماذا يصنع؟!
وهل الأفضل له أن يضم إليه حليلة تعف نفسه وتحصن فرجه، أم يتخذ خليلة في الحرام.
(6) أسباب أخرى مثل:
أ ـ قد يكون التعدد تكريمًا لإحدى القريبات أو ذات رحم التي مات زوجها أو طلقها، وليس لها من يعولها غير شخص متزوج.
ب ـ ما ذنب الرجل الذي يُصاب بزوجة نكدة، تنكد عليه حياته ليل نهار، فإما أن يطلقها وتنهار الأسرة في وجود الأولاد، أو يتزوج عليها، وربما انصلح حالها بذلك؛ فكثيرًا من النساء تخاف من ضُرة لها، فتعدل سلوكها وتغير أسلوبها مع زوجها.
جـ ـ إطالة فترة الحيض والنفاس عند بعض النساء، ربما لا يطيقه بعض الرجال، فالتعدد وسيلة من وسائل العلاج، بدلاً من المشاكل داخل البيت.
هذه بعض الأسباب الخاصة والعامة التي لاحظها الإسلام، وهو يشرع لا لجيل خاص من الناس، ولا لزمن معين محدود، وإنما يشرع للناس جميعًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
والحرص على الأمة ـ بتكثير سوادها ليكونوا عدتها في الحرب والسلم ـ من أهم الأهداف التي يستهدفها المشرِّع.
فصل: آثار تحريم التعدد:
لقد كان لتعدد الزوجات في الإسلام فضل كبير في بقاء المجتمع الإسلامي نقيًا بعيدًا عن الرذائل الاجتماعية والنقائص الخلقية التي فشت في المجتمعات التي لا تؤمن بالتعدد ولا تعترف به مما ظهر آثاره فيها، ومنها:
(1) شيوع الفسق، وانتشار الفجور والزنا.
(2) كثرة المواليد من السفاح.
(3) انتشار الأمراض البدنية كالإيدز، والعقد النفسية، والاضطرابات العصبية.
(4) تسرب عوامل الضعف والانحلال إلى النفوس.(1/79)
(5) انحلال عرى الزوجية بين الرجل وزوجته، حتى اضطربت الحياة الزوجية، وانفكت روابط الأسرة حتى لم تعد شيئًا ذا قيمة.
(6) ضياع الأنساب واختلاطها.
ثالثًا: شبهات حول التعدد:
الشبهة الأولى:
استدل البعض بقوله تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [النساء: 129] على عدم جواز التعدد؛ لأن الآية بينت عدم الاستطاعة!
الرد على هذه الشبهة:
لابد أن يعلم أصحاب هذه الشبهة الواهية ابتداءً أن القرآن ليس متناقضًا حتى يجيز شيئًا في مكان، ويحرمه في مكان آخر.
ثم إن العدل المطلوب بين الزوجات إنما هو العدل في النفقة والمعاملة والمعاشرة وسائر الأعمال الظاهرة، بحيث لا تؤثر إحداهن على الأخرى بشيء ظاهر.
أما العدل الذي جاءت الآية بشأنه، وأنه لا يمكن حدوثه، فهو المشاعر القلبية، لقوله تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } [النساء:129].
يقول ابن كثير رحمه الله: أي لا تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه فإنه وإن وقع القسم الضروري ليلة وليلة، فلابد من تفاوت في المحبة والشهوة والجماع، كما قال ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وغيرهم(1).
فالذي يعتقد أن العدل يكون أيضًا في النظرة وفي الجماع وفي الضحك وفي الحب واهم ولا شك.
فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قالت عائشة: كان يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"(2). يعني القلب.
__________
(1) تفسير ابن كثير (1/562).
(2) رواه أبو داود، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.(1/80)
إذن فالعدل المطلوب هو العدل المادي وهو في مقدور الرجل، ولا يجب عليه كما يفهم العوام إذا اشترى لإحداهن حذاء، اشترى للأخرى أو للأخريات أحذية، بل يعطي كل واحدة ما تحتاجه.
الشبهة الثانية:
يستدلون بقصة الإمام علي رضي الله عنه، كما في الصحيحين حين خطب بنت أبي جهل في حياة فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استؤذن في ذلك قال: "فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما هي بضعة مني، يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها" على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمنع تعدد الزوجات!
الرد على هذه الشبهة:
أصحاب هذه الشبهة، وهم أصحاب هوى ولا شك، ولهم مآرب منحرفة، ونوايا خبيثة، لخصوا القصة تلخيصًا مخلاً يوافق أهواءهم وأغراضهم الفاسدة.
فهم لم يذكروا بقية حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو: "وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حرامًا، ولكنه والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكانًا واحدًا أبدًا". فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع تعدد الزوجات، وإنما استنكر أن تجتمع بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت عدو الله في عصمة رجل واحد، وهو مَنْ، رسول الله المبلغ عن الله، والذي كلمته الفصل في بيان الحلال والحرام.
الشبهة الثالثة:
يقولون: أن الزواج من امرأتين يجعل العداوة بينهما قائمة على قدم وساق، وكذلك تنتشر بين أولاده.
الرد على هذه الشبهة:
إن البغض الذي قد يحصل بين الضرائر شيء طبيعي، ناشئ عن الغيرة الطبيعية لدى المرأة، وعلاج ذلك يتوقف على مدى حزم الزوج وقدرته على إدارة شئون أسرته، وعدالته بين زوجاته، ومراقبته لله عز وجل، لا على منع ما أباحه الله تعالى للرجل.
وكم رأينا من الإخوة الأشقاء وهم يقتتلون، وقد صارت حياتهم جحيمًا لا يطاق، وإخوة لأب عاشوا بصفاء وهناء، يحب أحدهم الآخر حبًا شديدًا.(1/81)
إذن ليس من الضروري نشأة عداوة بين هؤلاء الأولاد بسبب أن هؤلاء من أم، وهؤلاء من أم أخرى، ولكن بسبب جهل الناس بدين الله تعالى، وبعدم معرفتهم لحقوق الآخرين، وغفلتهم عن الآداب السامية للإسلام بين الكبير والصغير، والأخ وأخيه، والأخت وأختها وهكذا.
وأما من يقول لا داعي للمشاكل بسبب هذا التعدد، كمن يقول بإلغاء التعامل بين البشر تجنبًا للمشاكل التي يقوم بها بعضهم!
إذا كانت إساءة قسم من جهلة الناس قد تحققت في أمر تعدد الزوجات، فليس معنى هذا أن كل من يتزوج على زوجته يعيش في مشاكل خطيرة، ويترتب على زواجه أخطار لا نهاية لها، بل إن الواقع الذي نعيش فيه يدل على أن الرجل إن كان ملتزمًا بدين الله مستقيمًا على شرعته، وكذلك المرأة، فإن مثل هذه المشاكل التي يذكرها أصحاب الهوى غير موجودة، وإن وجدت فهي ضعيفة وسرعان ما تتلاشى بتقوى الله تعالى.
ثم إن هذه الإساءة التي يذكرها البعض ـ إن حدثت ـ لا تعد شيئًا يذكر إذا نظرنا إلى الفوائد الكبيرة والهامة المترتبة على التعدد كما مرَّ ذكره في الحديث عن فوائد التعدد وحكمة مشروعيته.
الشبهة الرابعة:
يقولون إن التعدد لابد أن يكون بسبب، كعيب في الأولى، أو كراهية لها، أو نحو ذلك.
الرد على هذه الشبهة:
هذه الشبهة مردودة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج عائشة وسودة بعد خديجة رضي الله عنها، وكان يحب عائشة حبًا جمًا، ومع ذلك فقد تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد عائشة رضي الله عنها سبع نسوة، ثم إنه ليس هناك دليل صريح على أن تعدد الزوجات لا يجوز إلا بسبب.
رابعًا: مسائل فقهية هامة(1):
وهي تهم كل من تزوج بأكثر من امرأة، وليعلم الجاهل مدى دقة التشريع في جعل التعدد يسير في طريقه الصحيح والمرجو منه.
(1) لا يجوز لامرأة أن تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها:
__________
(1) مستفاد من فقه تعدد الزوجات لمصطفى العدوي.(1/82)
وذلك لما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسأل المرأةُ طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح؛ فإن لها ما قُدرّ لها".
قال النووي رحمه الله: ومعنى هذا الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تسأل الزوج طلاق زوجته، وأن ينكحها ويصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ونحوها ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك باكتفاء ما في الصحفة مجازًا(1).
قال الحافظ في الفتح: وحمل ابن عبد البر الأخت هنا على الضرة فقال: فيه من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به(2).
(2) يجوز تفاوت مهور الزوجات، بل ووليمة الواحدة عن الأخرى.
(3) هل يجوز للرجل أن يجمع أكثر من زوجة في بيت واحد؟
قال ابن قدامة رحمه الله: وليس للرجل أن يجمع بين امرأتين في مسكن واحد بغير رضاهما صغيرًا كان أو كبيرًا؛ لأن عليهما ضررًا، لما بينهما من العداوة والغيرة واجتماعهما يثير الخصومة والمقاتلة، وتسمع كل واحدة منهما حسَّه إذا أتى إلى الأخرى، أو ترى ذلك، فإن رضيتا بذلك جاز؛ لأن الحق لهما، فلهما المسامحة بتركه، وكذلك إن رضيتا بنومه بينهما في لحاف واحد(3).
(4) من أخلاق النبوة:
روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: أولم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بنى بزينب بنت جحش، فأشبع الناس خبزًا ولحمًا، ثم خرج إلى حُجر أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه، فيسلم عليهن ويدعو لهن ويسلمن عليه ويدعون له.
هكذا كانت أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخلاق نسائه عند البناء بزوجة جديدة، فهل من متأس.
__________
(1) شرح مسلم (3/565).
(2) فتح الباري (9/127).
(3) المغني (7/26)، وكذا قال النووي في المجموع شرح المهذب (16/415).(1/83)
(5) قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الزوج إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، ثم يقسم لكل امرأة منهن ليلتها، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا ثم قَسَم(1).
(6) ما حكم حب الرجل بعض نسائه أكثر من بعض؟
وهل تجب التسوية بين النساء في الجماع؟
ما من شك في أن المراد بعدم الاستطاعة في قوله تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } ، إنما هو عدم الاستطاعة في المحبة والجماع والشهوة.
قال الخرقي رحمه الله: ولو وطئ زوجته ولم يطأ الأخرى فليس بعاص.
وقال ابن قدامة رحمه الله: لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أنه لا يجب التسوية بين النساء في الجماع وهو مذهب مالك والشافعي؛ وذلك لأن الجماع طريقه الشهوة والميل، ولا سبيل إلى التسوية بينهن في ذلك فإن قلبه قد يميل إلى إحداهما دون الأخرى.
وقال الشوكاني رحمه الله: ولا يجب على الزوج التسوية بين الزوجات فيما لا يملكه كالمحبة ونحوها.
(7) هل تجب التسوية بين الزوجات في النفقة؟
خلاف بين أهل العلم، والظاهر الوجوب.
قال ابن تيمية رحمه الله: وأما العدل في النفقة والكسوة فهو السنة أيضًا اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان يعدل بين أزواجه في النفقة، كما كان يعدل في القسمة، مع تنازع الناس في القسم: هل كان واجبًا عليه أو مستحبًا له؟ وتنازعوا في العدل في النفقة هل هو واجب أو مستحب؟ ووجوبه أقوى وأشبه بالكتاب والسنة(2).
فصل: من للأرامل والمطلقات بعد الله تعالى؟
ما من شك أننا بنظرة منصفة ومتجردة، نجد أن تعدد الزوجات هو الحل العملي المباشر لمشكلة الأرامل والمطلقات. فمن يريد أن يتزوج في أول حياته بأرملة أو مطلقة ـ ويترك البكر الشابة ـ إلا لسبب خاص.
__________
(1) راجع: زاد المعاد لابن القيم (5/151)، شرح مسلم للنووي (5/644).
(2) مجموع الفتاوى (32/270).(1/84)
لذا كان تعدد الزوجات هو سفينة النجاة التي شرعها الإسلام لحل مشكلة هؤلاء النساء.
وإعراض بعض النساء الأرامل أو المطلقات عن الزواج مرة أخرى، هو جناية على نفسها وعلى أولادها وعلى مجتمعها في بعض الأحيان.
فماذا تفعل المرأة المطلقة أو الأرملة وهي لا تزال في عز شبابها، ومعلوم أن الزواج يصونها عن الزنا، وعن كثير من الأمراض الاجتماعية.
وماذا تفعل هذه المرأة عندما تكون عالة ـ في الغالب ـ على أبيها أو أخيها، في السكن والنفقة، وكان بالإمكان لو تصرفت تصرفًا حكيمًا بقبولها الزواج، لما حصل ذلك.
ولماذا يعتقد الناس، وبعض النساء خاصة، أن الزواج الثاني بعد الأول هو تنكر لزوجها الأول وعدم رد الجميل له. ونحن لا نعلم من أين جاءوا جميعًا بهذا الفهم المعكوس المنكوس!! ألم يتزوج - صلى الله عليه وسلم - بعض نسائه اللاتي تُوفي أزواجهن عنهن، أم أنهن ناكرات للجميل، وإن كن كذلك فلماذا يعينهن النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك؟!!
إن المرأة العاقلة هي التي تبادر إلى الزواج بعد زوجها، وذلك لكي تغض بصرها عما حرمه الله، وتحفظ فرجها عن الحرام.
ولماذا تعتقد بعض النساء المطلقات أو الأرامل، أن الزواج الثاني قد لا يكون سعيدًا، ويكفي ما حصل من الأول ويصيبها شيء من الإحباط واليأس، وهذا ما لا يُقبل ولا يُعول عليها شرعًا ولا عقلاً، وهل اطلعن على الغيب؟!، وإلا لماذا لم تظهر هذه الشبهة الواهية عند الزواج الأول أيضًا؟!
فصل: ليس في التعدد منقصة:
إن النظرة الخاطئة والجائرة لتعدد الزوجات في الإسلام، حمل الناس على القول بأن التعدد منقصة للمرأة، ودناءة من الرجال، ونكران للجميل والعشرة، ولا شك أن هذا من مظاهر جهل الكثير والكثيرات بدين الله تعالى.
وهذه جملة من بعض أقوال النساء المؤيدات لقضية التعدد، وهن للعجب من الإفرنج، فماذا قلن؟(1/85)
تقول إحداهن: لقد كثرت الشاردات من بناتنا، وعم البلاء،وقل الباحثون عن أسباب ذلك؛ وإذ كنت امرأة أراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع عليهن شفقة وحزنًا، وماذا عسى أن يفيدهن بثي وحزني وتفجعي، وإن شاركني فيه الناس جميعًا؟
لا فائدة إلا في العمل بما يمنع هذه الحالة الرجس، ولله در العالم (تومس) فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكامل وهو: (أن يباح للرجل التزوج بأكثر من واحدة)، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة، وتصبح بناتنا ربات بيوت. فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة. فهذا التحديد هو الذي جعل بناتنا شوارد وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولابد من تفاقم الشر إذا لم يُبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة.
وتقول أخرى: أيُّ ظَنٍّ وخرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين، أصبحوا كلاً وعالة وعارًا على المجتمع الإنساني؟ فلو كان تعدد الزوجات مباحًا لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من العذاب الهون، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن.
وماذا يقول علماء الغرب ومفكروه أيضًا عن قضية تعدد الزوجات؛ حتى يستحيي ـ ولو قليلاً ـ من يهاجم هذه القضية من المسلمين؟
يقول الدكتور "غوستاف لوبون": إن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب، يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطًا ويمنح المرأة تقديرًا وسعادة لا تراها في أوروبا"(1).
ويقول الفيلسوف الألماني "شوبنهور" في رسالته "كلمة عن النساء": إن قوانين الزواج في أوروبا فاسدة المبنى بمساواتها المرأة بالرجل، فقد جعلتنا نقتصر على زوجة واحدة، فأفقدتنا نصف حقوقنا، وضاعفت علينا واجباتنا، على أنها ما دامت أباحت للمرأة حقوقًا مثل الرجل، كان من اللازم أن تمنحها أيضًا عقلاً مثل عقله!... إلى أن يقول:
__________
(1) المرأة بين الفقه والقانون، مصطفى السباعي ص78.(1/86)
ولا تعدم امرأة من الأمم التي تجيز تعدد الزوجات ـ زوجًا يتكفل بشئونها، والمتزوجات عندنا نفرٌ قليل، وغيرهن لا يُحصين عددًا، تراهن بغير كفيل، بين بكر من الطبقات العليا قد شاخت وهي هائمة متحسرة، ومخلوقات ضعيفة من الطبقات السفلى، يتجشمن الصعاب، ويتحملن شاق الأعمال، وربما ابتذلن فيعشن تعيسات متلبسات بالخزي والعار، ففي مدينة لندن وحدها ثمانون ألف بنت عمومية ـ هذا على عهد "شوبنهور" ـ سُفك دم شرفهن على مذبحة الزواج، ضحية الاقتصار على زوجة واحدة، ونتيجة تعنت الزوجة الأوربية وما تدعيه لنفسها من الأباطيل. أما آن لنا أن نعدَّ بعد ذلك تعدد الزوجات حقيقة لنوع النساء بأسره؟
إذا رجعنا إلى أصول الأشياء لا نجد ثمة سببًا يمنع الرجل من التزوج بثانية إذا أصيبت امرأته بمرض مزمن تألم منه، أو كانت عقيمًا، أو على توالي السنين أصبحت عجوزًا. ولم تنجح المورمون ـ فرقة من البروتستانت تبيح تعدد الزوجات وتمارسه فعلاً ولها كنائسها المنتشرة في أوروبا وأمريكا ـ في مقاصدها إلا بإبطال هذه الطريقة الفظيعة، طريقة الاقتصار على زوجة واحدة(1).
ويقول الكاتب الإنجليزي "برتر اندرسل": إن نظام الزواج بامرأة واحدة فقط، وتطبيقه تطبيقًا صارمًا قائم على افتراض أن عدد أعضاء الجنسين متساوٍ تقريبًا، وما دامت الحالة ليست كذلك فإن في بقائه قسوة بالغة لأولئك اللائي تضطرهن الظروف إلى البقاء عانسات(2).
__________
(1) المصدر السابق ص76، 77.
(2) الإسلام وتعدد الزوجات، إبراهيم النعمة ص34.(1/87)
ويقول الفيلسوف الإنجليزي "سبنسر" في كتابه "أصول علم الاجتماع": إن التعدد ضرورة للأمة التي يفنى رجالها في الحروب، ولم يكن لكل رجل من الباقين إلا زوجة واحدة؛ فإذا طرأت على الأمة حال اجتاحت رجالها الحروب، وبقي نساء عديدات بلا أزواج، فإنه ينتج عن ذلك نقص في المواليد لا محالة. فإذا تقاتلت أمتان، إحداهما لا تستفيد من جميع نسائها بالاستيلاد، فإنها لا تستطيع أن تقاوم خصيمتها التي يستولد رجالها جميع نسائها بمقتضى التعدد للزوجات، وتكون النتيجة أن الأمة الموحدة للزوجة تفنى أمام الأمة المعددة للزوجات(1).
ويقول الدكتور "بون": إن ممارسة تعدد الزوجات ضرورة للحفاظ على الجنس(2).
(فهذه صيحات عقلاء الغرب لما رأوا الحقيقة، وما وصلت إليه مجتمعاتهم من دمار وانحطاط أخلاقي وسلوكي وتفكك شامل في الحياة الأسرية، كل ذلك بسبب القوانين البشرية التي تخالف ـ قلبًا وقالبًا ـ ما عليه فطرة الإنسان وجبلته، قال تعالى: { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
[النحل: 33]
فهل ينتبه الغافلون من مثقفي الأمة الإسلامية المبهورون بالحضارة الغربية بكل ما فيها من مساوئ وأخطاء، ويرجعون إلى ما عندهم من أحكام الإسلام ومبادئه الإلهية، التي هي مصدر فخرهم واعتزازهم إلى يوم القيامة! وصدق الله حيث يقول: { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج: 46](3).
فالله الله يا مسلم ويا مسلمة في دينكم، واتقوا الله تعالى، واعدلوا في أقوالكم وأعمالكم، يهدكم صراطه المستقيم.
- - -
الباب الثالث
هذا هو زوجي
هذا هو زوجي
__________
(1) حكم إباحة تعدد الزوجات، أحمد بن زيد آل محمود ص18، 19.
(2) لماذا الهجوم على تعدد الزوجات، أحمد بن عبد العزيز الحصين ص31.
(3) فضل تعدد الزوجات، خالد بن عبد الرحمن.(1/88)
(1) مستقيم على طاعة الله تعالى، استقامة جادة، يهتم فيها بالمظهر والمخبر، لا كمن يهتم بأحدهما عن الآخر. لا مساومة عنده على طاعة الله، شعاره لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
(2) حسن الخلق، هين لين قريب سهل، حديثه عذب، كلامه حلو، لا يعرف السب ولا الشتم ولا الألفاظ النابية ولا الوجه المكفهر.
(3) مجتهد في طلب العلم الشرعي، يعلمني ويأخذ بيديّ، ويُحببني فيه، يود لو أن الملائكة تُصلي عليَّ وعليه.
(4) قدوة حسنة، قوله يوافق عمله، وعمله يوافق قوله، يضرب بأسهم كثيرة في كل أنواع العبادات ما وسعه ذلك.
(5) يعرف كيف يعامل زوجته، وكيف يكسبها، ويؤدي حقوقي كلها باقتدار ومودة وحب.
(6) ليس من رواد الدنيا؛ لأن الآخرة تشغله عنها ليل نهار، وهو في نفس الوقت لا ينسى نصيبه في الدنيا مما أحله الله له من متاعها، شعاره دائمًا: ورزق ربك خير وأبقى، قل ما عند الله خير وأبقى.
(7) يعرف لمنهج تربية أولاده الطريق والتطبيق، ويعلمني كيف أربي أولادي، ويعطيهم جزءًا من وقته لذلك ولا ينساهم.
(8) يذكرني دائمًا بالرحيل عن الدنيا حتى لا أفرح بها أو أركن إليها، ويذكرني بالقبر حتى أعدَّ له عدته. تقي نقي، زاهد بعلم، غير غافل عن ربه، لسانه رطب دائمًا بذكر الله تعالى.
(9) يعرف قيمة الوقت وأهميته.
(10) رجل المشاعر والمودة والرحمة، ليس جافًا في أسلوبه أو حديثه، وإنما ألفاظ الحب والمودة تعرف طريق لسانه، فأسمع منه دائمًا ما يسرني ويحببه لي من الكلام الطيب الجميل.
(11) يهتم بمظهره ونظافته ورائحته الطيبة مقتديًا في ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(12) لا ينسى أن يشكر زوجته دائمًا على ما تقوم به من الخدمة، وتربية الأولاد، وأعمال البيت، فيعطيها نشاطًا مجددًا لا تكسل معه ولا تمل.
(13) يصل رحمه، لاسيما أهل زوجته، فيدخل السرور على زوجته.(1/89)
(14) عاقل حكيم، هادئ متزن غير متهور ولا مندفع ولا منفعل، قادر على حل مشاكل بيته بنفسه، فإن صعب عليه لجأ لأهل الإصلاح والصلاح والتقوى.
(15) عابد لله، كثير الذكر، صوَّام، قَوَّام، عليه لباس الوقار والسكينة، يطمع دائمًا في المزيد من طاعة الله والنوافل.
(16) مؤمن مجاهد صابر، راضٍ بقضاء الله وقدره غير ساخط، قانع برزق الله تعالى، لا يطمع إلا فيما عند الله من النعيم الدائم في الجنة.
(17) رجل الدعوة المتزن، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بلا إفراط أو تفريط. يقوم بالدعوة منهجًا صحيحًا وسلوكًا متزنًا، وعملاً لا يخالف الشرع فيه، دعوته قائمة عل الكتاب والسنة، لا على الأهواء أو الحزبية أو التعصب.
- - -
الباب الرابع
النساء يشتكين
النساء يشتكين
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً } [النساء: 128]
ماذا تفعل الزوجة الصالحة إن خافت من زوجها نشوزًا أو إعراضًا عنها؟
ماذا تفعل الزوجة الصالحة إذا حدث بينها وبين زوجها خلاف أو مشكلة؟
ماذا تفعل الزوجة الصالحة إذا رأت من زوجها ما لا تحب؟
ماذا تفعل الزوجة الصالحة إذا دخل الشيطان بينها وبين زوجها؟
ما هو الموقف الشرعي السليم للزوجة الصالحة، إذا ظهرت مشاكل داخل البيت وخلافات من جهة زوجها؟
هذه مجموعة من الأسئلة التي تعرضها النساء على أهل العلم، فبم أجابوها؟
السؤال الأول: زوجي تارك للصلاة ويسب الدين ويسيء التصرف معي، فماذا أفعل معه؟
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله:
(إذا كان الواقع من زوجها هو ما ذكرته في السؤال من تركه الصلاة وسب الدين، فإنه بذلك كافر، ولا يحل لك المقام عنده، ولا البقاء معه في البيت، بل يجب عليك الخروج إلى أهلك، أو إلى مكان تأمنين فيه لقول الله سبحانه في شأن المؤمنات لدى الكفار: { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [الممتحنة: 10].(1/90)
ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر".
ولأن سب الدين كفر أكبر بإجماع المسلمين، فالواجب عليك بغضه في الله، ومقاومته، وعدم تمكينه من نفسك، والله سبحانه يقول: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2، 3].
يسرَّ الله أمرك وخلصك من شره ـ إن كنت صادقة ـ وهداه الله للحق ومنَّ عليه بالتوبة، إنه سبحانه جواد كريم).
السؤال الثاني: زوجي ـ سامحه الله ـ رغم ما يلتزم به من الأخلاق الفاضلة والخشية من الله، لا يهتم بي إطلاقًا في البيت، ويكون دائمًا عابس الوجه، ضيق الصدر ـ قد تقول أنني السبب ـ ولكن الله يعلم أنني ـ ولله الحمد ـ قائمة بحقه، وأحاول أن أقدم له الراحة والاطمئنان وأبعد عنه كل ما يسوءه وأصبر على تصرفاته تجاهي.
وكلما سألته عن شيء أو كلمته في أي أمر غضب وثار، وقال: إنه كلام تافه وسخيف، مع العلم أنه يكون بشوشًا مع أصحابه وزملائه، أما أنا فلا أرى فيه إلا التوبيخ والمعاملة السيئة، وقد آلمني ذلك منه وعذبني كثيرًا، وترددت مرات في ترك البيت.
وأنا ـ ولله الحمد ـ امرأة تعليمي متوسط، وقائمة بما أوجب الله عليَّ. فيا سماحة الشيخ: هل إذا تركت البيت وقمت أنا بتربية أولادي، وأتحمل مشاق الحياة أكون آثمة؟ أم هل أبقى معه على هذه الحال وأصوم عن الكلام والمشاركة والإحساس بمشاكله؟
أفيدوني ماذا أعمل؟ جزاكم الله خيرًا...
أجاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز:
(لا ريب أن الواجب على الزوجين المعاشرة بالمعروف، وتبادل وجوه المحبة والأخلاق الفاضلة مع حسن الخلق وطيب البشر؛ لقول الله عز وجل: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء: 19]، وقوله سبحانه: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } [البقرة: 228].(1/91)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البر حسن الخلق".
وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلق أخاك بوجه طلق" خرجهما مسلم في صحيحه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم خياركم لنسائهم وأنا خياركم لأهلي" إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الدالة على الترغيب في حسن الخلق، وطيب اللقاء، وحسن المعاشرة بين المسلمين عمومًا، فكيف بالزوجين والأقارب؟!
ولقد أحسنت في صبرك وتحملك ما حصل من الجفاء وسوء الخلق من زوجك، وأوصيك بالمزيد من الصبر وعدم ترك البيت لما في ذلك ـ إن شاء الله ـ من الخير الكثير، والعاقبة الحميدة لقوله سبحانه: { وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال: 46]، وقوله عز وجل: { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 90]. وقوله سبحانه: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10]. وقوله سبحانه: { فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [هود: 49].
ولا مانع من مداعبته ومخاطبته بالألفاظ التي تُلين قلبه، وتسبب انبساطه إليك وشعوره بحقك، واتركي طلب الحاجات الدنيوية، ما دام قائمًا بالأمور المهمة الواجبة، حتى ينشرح قلبه، ويتسع صدره لمطالبك الوجيهة، وستحمدين العاقبة إن شاء الله، وفقك الله للمزيد من كل خير، وأصلح حال زوجك، وألهمه رشده، ومنحه حسن الخلق وطيب البشر، ورعاية الحقوق، إنه خير مسؤول وهو الهادي إلى سواء السبيل).
السؤال الثالث: زوجي أحسبه على خير، إلا أنه لا يرفق بي. دائمًا عالي الصوت، يثور لأتفه الأسباب، لا يقول أبدًا: "قدر الله وما شاء فعل"، هذا تقصير منك وإهمال و.... وتوبيخ إلى ما لا نهاية. ماذا أفعل؟(1/92)
وأخرى تشتكي وتقول: زوجي يضربني ويشتمني، بل ويسبني أحيانًا مما يؤذيني جدًا، وأحيانًا يتطور الأمر إلى الضرب المبرح بما فيه ضرب الوجه، متعللاً بعدم ضبط النفس عند الغضب.
قلت: عليك بالصبر وحسن الخلق، ومقابلة الإساءة بالإحسان، فلعل ذلك يؤثر فيه، وحاولي اغتنام الوقت المناسب لتتفاهمي معه على أوجه القصور عندك، حتى لا يضطره ذلك إلى ضربك أو شتمك أو غير ذلك، وكأنك أنت المخطئة، حتى يحمله ذلك على التواضع والاعتراف بالخطأ.
كذلك حاولي أن تقرأي معه أو تستمعي معه إلى مادة علمية في كتاب أو شريط عن حسن الخلق، وضوابط ضرب النساء، ونحو ذلك مما تجدين عنده تقصير فيه.
وأنا أخاطب الزوج هنا، وخاطبيه من بعدي: إن حسن الخلق أخي الحبيب، لهو من علامات صلاح العبد واستقامته على الدين، بل جعل الله عز وجل تتميم صالح الأخلاق أحد المقاصد الرئيسية لبعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق" وفي رواية "مكارم الأخلاق"(1). وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه مرفوعًا: "أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقًا"(2).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة"(3).
ولم يكتف الشرع بعموم النصوص التي تحض على حسن الخُلق مع الخَلق كافة، بل خص النساء بذلك، وجعل حسن الخلق معهن معيار الخيرية والفضل.
__________
(1) صحيح، رواه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم وغيرهما. السلسلة الصحيحة رقم (45).
(2) رواه الطبراني، وصححه الألباني في الصحيحة، رقم 433.
(3) رواه الترمذي وأبو داود، وهو صحيح. صحيح الجامع الصغير برقم 5726.(1/93)
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكمل المؤمنين إيمانًا: أحسنهم خلقًا، وخياركم: خياركم لنسائهم"(1).
أخي الحبيب: إن الزوجة أمانة ووديعة عندك، فحافظ عليها، واتق الله فيها، وأحسن صحبتها.
عن حجر بن قيس قال: خطب علي رضي الله عنه إلى رسول الله... فاطمة رضي الله عنها، فقال: "هي لك على أن تحسن صحبتها"(2).
وهل من حسن الصحبة شتمها وسبها ولعنها، بل وضربها ضربًا شديدًا وفي وجهها؟! ولو أنك أخي الزوج تذكرت يوم فراقك لها أو فراقها لك، لأعانك ذلك على حسن الصحبة، والصبر عليها، وكف الأذى عنها.
قال الحسن: ابدأ أهلك بمكارم الأخلاق، فإن الثواء "الإقامة" فيهم قليل.
فاتق الله تعالى في زوجك أخي المسلم، وأحسن صحبتها، وعاشرها بالمعروف، واحذر الألفاظ النابية، فإنها ليست من خُلق المسلم، وكذا احذر ضرب الوجه فهو محرم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تُقبح الوجه، ولا تضرب"(3) أي الوجه.
أما الضرب المبرِّح، فهو أيضًا محرم، والضرب المباح هو الضرب غير المبِّرح، وهو أيضًا مقيد بشروط:
منها: أن تصر زوجتك على عصيانك.
ومنها: أن يتناسب العقاب مع نوع التقصير، فلا تبادر إلى الضرب المباح وأنت لم تجرب معها الوعظ والإرشاد، أو الهجر في المضجع.
ومنها: أن يراعي أن المقصود من الضرب العلاج والتأديب، فيراعي التخفيف.
ومنها: تجنب المواضع المخوفة كالرأس والبطن، وكذا الوجه.
__________
(1) أخرجه الترمذي والإمام أحمد وغيرهما، وصححه الألباني. الصحيحة برقم 284.
(2) رواه الطبراني في الكبير (4/40)، وصححه الألباني في الصحيحة برقم 166.
(3) جزء من حديث رواه أبو داود وأحمد وغيرهما، وصححه الألباني. إرواء الغليل (7/98).(1/94)
واعلم أصلحك الله، أن الأولى والأفضل ترك الضرب مع بقاء الرخصة فيه بشرطه، فقد اتفق العلماء على أن ترك الضرب، والاكتفاء بالتهديد أفضل، وذلك لأحاديث وردت في ذلك منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تضربوا إماء الله"(1).
السؤال الرابع: زوجي يمكث وقتًا طويلاً خارج البيت، ولا يفكر في أن يجلس معي أو مع أولاده، فأين حقنا عليه؟
وأخرى تقول: زوجي يُضيع حقي في تعليمي أمور الشرع، ويتهرب مني، بل وأتحايل عليه ليشرح لي بعض أبواب العلم، أو مسألة فقهية تحتاج إلى جلوس معي فلا أجده، فأين الجلسات الأسبوعية التي يجب على الزوج الملتزم أن يجلسها مع أهل بيته، لاسيما إذا كان من أهل الدعوة والعلم والإرشاد؟!!
قلت: إن للمرأة من الأسلوب وحلو الكلام، ما يجعل الرجل يحب البيت، ويحب الجلوس مع زوجته وأولاده، فإذا ما هيأت المرأة لزوجها المناخ الهادئ الطيب داخل البيت النظيف الجميل، حمله ذلك على الجلوس فيه بقدر الحاجة. ثم عليك أن تبحثي عن الأسباب التي تجعل الزوج لا يجلس معك، فربما بسببك أنت أو بسبب أولادك، من سلوك خاطئ، أو مظهر غير طيب أو نحو ذلك، وعليك أن تسألي زوجك مباشرة ـ إن لم يكن عندك تقصير ـ ما هي الأسباب التي تحمله على عدم الجلوس معك وأولادك في البيت ليعلمكم مما علمه الله؟!
وأنا أخاطب الزوج هنا، وخاطبيه من بعدي:
أخي الحبيب: إذا كانت لقمة العيش، أو حتى شئون الدعوة إلى الله، تشغلك عن بيتك وأهلك بصورة تشكو منها الزوجة، فاعلم أن هذا الوضع غير طبيعي، بل إنك بعد مدة ستجد نفسك في واد، وزوجتك في واد آخر.
يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله:
__________
(1) أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما، وصححه الألباني. صحيح الجامع برقم 7360.(1/95)
(والشغل متنوع، وأكثره في الدنيا والكسب، غير أن هناك نوعًا غريبًا جدًا من أنواع الشغل، وهو ما يكون للدعوة وإصلاح الناس، وذلك خطأ في تصور الدعوة والعمل فيها، والمرء مطالب بأن يصلح أهله أشد المطالبة. يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6]، { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } [طه: 132].
وهذا الإهمال لأهله سيوقعهم في الانحراف والمخالفة، وعندئذ لا يقوى على الاستمرار في الدعوة؛ إذ سرعان ما تلوكه الألسنة، ويقال له: "إن كنت صادقًا فأصلح بيتك"، ويكون هذا الوضع الخاص مُضعفًا لتأثيره في الناس؛ لأن معنى القدوة يفوت بوجود مثل هذا الوضع، ويكون ذلك سببًا في أن يتعكر صفوه، وتتنغص عليه لذاته، وفي أن تتولد فيه عقد، وتواجهه مشكلات، قد تحول بينه وبين الاستمرار في الدعوة.
إن الانشغال عن الأهل تفريط في حق الرجل والأسرة، وظلمٌ بيِّن، إذ كيف يسوغ للإنسان أن يحبس زوجه وينطلق هو في عمله وزياراته وقراءاته وكتابته وعبادته، ويترك شريكة حياته نهبًا للوساوس والخطرات، والوحشة والأزمات، أو يتركها للانغماس في المجتمع الذي يسير في طريق آخر).
وقال فضيلته في موضع آخر:
(إن كثيرًا من الصالحين يشغلون عن أولادهم بأمور عامة تتصل بالدعوة، يحسبون أنهم بذلك يقومون بخدمة جليلة، وذلك لَعَمر الله تقصير كبير. إن أحق الناس بتوجيهك أولادك وزوجك الذين معهم تعيش، وبهم تعرف، وشرّهم وخيرهم مقرون بك، وقد تضطرك الأيام إلى أن تكون بحاجة برهم ورعايتهم، وقد يفيدك أن تحظى بدعوة من أحدهم تخفف عنك ما أنت فيه من الضيق والكرب بعد موتك، أو تزيدك من الخير في آخرتك)(1).
__________
(1) نظرات في الأسرة المسلمة، باختصار وتصرف.(1/96)
لذلك أخي الحبيب أنصحك بأن تتفق مع زوجك على عقد جلسة أسبوعية ثابتة ـ ما أمكن ـ تعلمها فيها الحلال والحرام، إما بالقراءة أو بسماع شريط، ومن هنا يكون الاتفاق على النهج الصحيح داخل البيت من تربية الأولاد والعلاقة بينكما وغير ذلك. ولا تنس أيضًا فلذات أكبادك، بالقصة الإسلامية الهادفة التي تجذبهم ويتعلمون منها، وكذا حفظ القرآن والترغيب فيه بجوائز مالية أو معنوية.
السؤال الخامس: أشكو من جفاف الناحية العاطفية عند زوجي:
قلت: الرجال صنفان: صنف جُبل في بيئته على الجدَّ وعدم الملاطفة واللهو المباح والابتسامة الجميلة، وصنف تربى على الحب والمودة والكلمة الحلوة والعاطفة الجياشة التي تظهر في سلوكه وعلى لسانه.
فالصنف الأول: مهما تكلف، فعطاؤه قليل، ولكن نقول له: هذا لا يمنع أن تسمع زوجك منك الكلمة الطيبة، والابتسامة الحانية، وترى منك طلاقة الوجه وبشاشة المُحيا.
وأنا أخاطبه من هنا، وخاطبيه من بعد:
أخي الحبيب، عن جابر بن سليم رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ولا تحقرن شيئًا من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه بوجهك، فإن ذلك من المعروف"(1).
ورواه مسلم عن أبي ذر بلفظ "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلق أخاك بوجه طلق".
ومَنْ أحق من زوجك بهذا المعروف، وبهذا الوجه البشوش، وبهذه الكلمة الحانية الطيبة.
(نعم... ما أجدرنا أن نعوّد ألسنتنا على الكلام الطيب في أول حياتنا الزوجية، ومما يتصل بالكلمة الطيبة طريقة إلقائها، فقد تزيد هذه الطريقة ـ إن كانت حلوة عذبة ـ من تأثيرها، وما أجدرنا أن نعوّد عضلات وجوهنا الابتسامة التي تبسط أكثر المسائل تركيبًا وتعقيدًا، وتمنحنا قوة في التغلب على كل المصاعب)(2).
__________
(1) أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان.
(2) نظرات في الأسرة المسلمة.(1/97)
لماذا لا تتذكر أخي الحبيب قوله تعالى: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً } [البقرة: 83]، وقوله تعالى: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الإسراء: 53].
لماذا لا تتذكر أخي الحبيب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها" فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائمًا والناس نيام"(1).
(كم تضيع علينا في حياتنا العائلية والاجتماعية فرص سعادة وغنى وأنس، كنا على مقربة منها لو قلنا كلمة حلوة، ولكنَّا أضعناها عندما لم نلق بالكلمة الطيبة. إن كلمة واحدة تستطيع أن تفعل شيئًا كبيرًا، فبسبب كلمة قامت حروب، وبسبب كلمة تآلفت قلوب.
إن الكلمة الطيبة أغلى عند الزوجة في كثير من الأحيان من الحلي الثمين، والثوب الفاخر الجديد؛ ذلك لأن العاطفة المحببة التي تبثها الكلمة الطيبة غذاء الروح، فكما أنه لا حياة للبدن بلا طعام، فكذلك لا حياة للروح بلا كلام حلو لطيف.
لماذا نهمل الكلمة الطيبة في نطاق الأسرة وهي لا تكلفنا شيئًا؟
إن السعادة كلها ربما كانت كامنة في كلمة فيها مجاملة ومؤانسة يقولها أحد الزوجين لصاحبه أو الوالد لابنه.
أجل... إن علينا أن تكون ألسنتنا رطبة بذكر الله، وبالكلام المعسول الجميل، لاسيما عندما نخاطب أزواجنا... إن المرأة الشرقية عاطفية إلى أبعد الحدود.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد والحاكم وغيرهما، وهو حديث حسن. صحيح الجامع برقم 2123.(1/98)
إن الخطأ الذي يقوم في حياتنا الزوجية، مبني على فهم خاطئ لفكرة رفع الكلفة، حتى إن كثيرًا من الناس ليقع في الأغلاط المدمرة لحياته الأسرية بحجة رفع الكلفة، يقول أحدهم: إن زوجتي ولدت ولدين أو ثلاثة أو أربعة فلم نعد عروسين نحتاج إلى الملاطفة والمجاملة أو الكلمة المأنوسة، قد مضى وقت ذلك. إن هذا خطأ فادح يجر ذيول التعاسة والشقاء على عش الزوجية، وقد يدمر بناء الأسرة ويقضي على نفسية الأولاد.
لماذا لا تكون الملاطفة مع من نعايش؟ لماذا لا تكون الكلمة الطيبة مع الأزواج والأولاد، ألسنا بشرًا سواء أكنا عرسانًا أم كنا قد تقدمت بنا الأيام والسنون، وسواء أأنجبنا أم لم ننجب؟ ولو أننا نظرنا إلى حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه، لرأينا أنها مثال الملاطفة والمؤانسة، فلقد كان يؤانسهن ويمازحهن ويُعمر نفوسهن بالكلمة الحلوة، والنظرة الحانية، والتصرف الودود، ويحتمل منهن أخطاءهن.
إن تجاهل حاجة الزوجة إلى العاطفة العذبة التي تفيض بها الكلمة الطيبة، يجعلها تحمل بين جوانبها حجرًا مكان القلب، مما يعكر على الزوج حياته؛ لأننا نعيش بالمعاني لا بالأجساد فقط، وليس في الحجارة من المعاني شيء.
إن رتبة كتف حانية من الزوج، مع ابتسامة مشرقة مقرونة بكلمة طيبة، تذيب تعب الزوجة، وتنعش فؤادها المشرئب للعطف والحنان، فهل لك يا أخي أن تنتبه إلى نفسك، وتتأسى بسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول الله تبارك وتعالى فيه: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ } [الأحزاب: 21].
اشكر زوجتك على صحن الطعام اللذيذ الذي قد أعدته لك بيديها... اشكرها بابتسامة ونظرة عطف وحنان.. أثن عليها، وتحدث عن محاسنها وجمالها، والنساء يعجبهن الثناء ويؤثر فيهن... وإذا كان الكذب محظورًا، فقد أباح لك الإسلام طرفًا منه في علاقتك الزوجية، عندما يكون ذلك سببًا لتعميق المودة وتحقيق التفاهم.(1/99)
اذكر لها يا أخي امتنانك لرعايتها، وخدمتها لك ولبيتك وأولادك، وإن كان هذا من اختصاصاتها، وإن كانت لا تقدم إلا ما تقدمه النساء عادة... لكنَّ ذلك من قبيل الكلمة الطيبة التي تؤكد أسباب المودة والرحمة...
قل لها الكلمة الطيبة ولو نقصتها شيئًا من الطعام والمال والكساء، إنها حينئذ ستسعد وستحس بدفء الحنان والعطف والمودة في أعماق قلبها... وإذا أصبح قلبها مترعًا بهذه المعاني، دفع دماءها حارة مغردة في عروقها... وستندفع في خدمتك، وتعيش معك العمر آمنة مطمئنة، وسوف ترى أنت بريقًا يتراقص في عينيها، وابتسامة مشرقة على شفتيها، وسينطلق لسانها بالحديث عنك وإليك بالكلمة الطيبة)(1).
السؤال السادس: أشكو زوجي حيث لا يريد أن ينفق عليَّ وأنا مريضة، مدعيًا بأن ذلك ليس بواجب عليه.
قلت: رائحة السؤال تنبئ عن مشاكل وخلافات بينكما، وإلا لو أراد أن يمتنع لامتنع عن أي نفقة أخرى عدا الإنفاق عليك وأنت مريضة.
لذا أنصحك أن تفتشي عن هذه الأسباب وتعالجيها، فربما التقصير من جهتك.
وإن كان التقصير من عنده فأنا أخاطبه من هنا وخاطبيه من بعدي:
أخي الحبيب: ألا تعلم أن من حقوق زوجتك عليك النفقة عليها وعلى أولادها في المطعم والمشرب والملبس والمسكن، وغير ذلك مما تحتاج إليه الزوجة لإقامة مهجتها، وقوام بدنها.
أما تعلم أن الرجل قد نال القوامة والفضل على المرأة بسبب إنفاقه عليها، فقال عزَّ من قائل: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [النساء: 34]، وقال تعالى أيضًا: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } [الطلاق:7].
__________
(1) المصدر السابق بتصرف.…(1/100)
وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تُقبح الوجه، ولا تضرب". وفي رواية للإمام أحمد بزيادة: "ولا تهجر إلا في البيت، كيف وقد أفضى بعضكم إلى بعض، إلا بما حل عليهن"(1).
إذن فالنفقة واجبة، ومن باب أولى ساعة المرض.
أليست المرأة محبوسة عليك بمقتضى عقد الزواج، ممنوعة من التصرف والاكتساب لتفرغها لحقك، فكان واجبًا عليك الإنفاق عليها، وإلا فماذا تفعل؟!
أخي الحبيب: تب إلى ربك، وعظم حرمات الله وشعائره، واتق الله في أهلك.
والآن أيها المسلم: هل عرفت صفات الزوجة الصالحة؟
وأنت أيتها المسلمة: هل عرفت الآن ما هي صفاتك الغالية، كي تكوني الزوجة الصالحة، والأم الرؤوم المربية لأجيال صالحة.
فعلى بركة الله، فبارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير. { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [الفرقان: 74].
اللهم امنن علينا بصلاح عيوبنا، واجعل التقوى زادنا، وفي دينك اجتهادنا، وعليك توكلنا واعتمادنا.
اللهم اجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك، وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك، وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، وصلّ اللهم على عبدك ونبيك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
- - -
فهرس المحتويات
الخميس لير
الموضوع الخميس
الصفحة ليرة الخميس
الخميس مقدمة
الباب الأول: صفات الزوجة الصالحة
الصفة الأولى
الصفة الثانية
الصفة الثالثة
المنهج العلمي لنساء المسلمين
الصفة الرابعة
كلمة لابد منها حول الجماع
الصفة الخامسة
الصفة السادسة
الصفة السابعة
الصفة الثامنة
الصفة التاسعة
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما، وصححه الألباني. الإرواء (7/98).(1/101)
الصفة العاشرة
الصفة الحادية عشرة
الصفة الثانية عشرة
كيف تتغلب المرأة على مشكلات بيتها
الصفة الثالثة عشرة
الصفة الرابعة عشرة
فصل: في تفسير قوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ }
الصفة الخامسة عشرة
منهج علمي مقترح للأطفال
الصفة السادسة عشرة
تذكرة
الصفة السابعة عشرة
الصفة الثامنة عشرة
تذكرة
الصفة التاسعة عشرة
فصل: أمور تعين على الصبر
الصفة العشرون
فصل: مشكلة هامة تواجه الزوجة الداعية
الباب الثاني: تعدد الزوجات... نعمة أم نقمة!!
أولاً: مشروعيته
ثانيًا: الحكمة من تعدد الزوجات
فصل: آثار تحريم التعدد
ثالثًا: شبهات حول التعدد
رابعًا: مسائل فقهية هامة
فصل: من للأرامل والمطلقات بعد الله تعالى
فصل: ليس في التعدد منقصة
الباب الثالث: هذا هو زوجي
الباب الرابع: النساء يشتكين
السؤال الأول
السؤال الثاني
السؤال الثالث
السؤال الرابع
السؤال الخامس
السؤال السادس
فهرس الكتاب ... 7
13
15
21
25
32
38
40
44
47
52
56
62
66
69
72
74
77
82
83
88
90
93
95
97
101
102
104
106
108
109
113
116
118
121
121
125
127
129
133
137
139
140
142
144
146
150
153
يرة الخميس
- - -(1/102)