بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة وضعت هذا الكتاب استجابة لرغبة كريمة... فقد طلب إلى مسئول كبير أن أؤلف كتابا جامعا لتعاليم الإسلام، يضم حقائقه كلها، ويخلو من المصطلحات البعيدة عن الأذهان، ويوائم أسلوب العصر فى العرض والإقناع...!! قال: وأريد الإيجاز، والوضوح، والاستيعاب... بحيث لو قرأ كتابك هذا رجل لا يعرف عن الإسلام شيئا وجد فيه صورة كاملة له، ولو ترجم إلى لغة أخرى عرف بنوها كل ما ينبغى أن يعرف عن هذا الدين... * * * واستقبلت هذا التكليف وأنا أفكر فى طريقة إنفاذه!.. إننى عالجت موضوعات إسلامية كثيرة، ولى تآليف مأنوسة لدى جماهير القارئين. فهل أجمل هنا ما فصلت فيها ؟ إن ذاك شىء يضيق به الكاتب! ولكن إخراج كتاب جامع لشُعب الإيمان، وشرائع الدين عمل نافع، واقتراح يستحق الحفاوة...
ص _006(1/1)
وقررت الانطلاق مع نداء هذا الواجب... وعندما تناولت القلم ؛ لأخط هذه السطور كنت حريصا على أمرين: 1- أن أثبت خلاصات واضحة ومليئة لما سبق أن تناولته من حقائق الإسلام، مع إضافة دلائل جديدة تزيد هذه الحقائق وثاقة وإحكاما . 2- وأن أضم أبوابا أخرى من البحث والدراسة تعين على تحقيق الرغبة التى انتهت إليّ، وتجعل- بعون الله- من هذه الصحائف القليلة صورة وسيمة الملامح، وضيئة التقاسيم لهذا الدين العظيم... ولعلى أكون قد حظيت بتوفيق الله، ورضاه عن هذا الجهد الصغير. * * * والإسلام قضية عادلة، بيد أنها- للأسف- وقعت بين أيدى محامين فاشلين..!! وكثير ما أستمع لمتحدثين عن الإسلام، فأتمنى لو أنهم سكتوا، فلم ينبسوا بحرف. أغلبهم لا يفهم الدين كما تنزل من عند الله، والنزر اليسير الذى يفهمه لا يحسن الإبانة عنه بأسلوب مقبول..!! وذاك كله فى أيام تتزين فيها المبادئ التافهة، وتعرض نفسها على الناس فى تزاويق ماكرة، كما تتوارى الشمطاء وراء حجب من الأصباغ والملابس والحلى والدلال...!! والناس بطبيعتهم أعداء ما جهلوا... فانظر أى تقصير خطير يرتكبه المسلمون إذا لم يشرحوا دينهم شرحا دقيقا منصفا، لا تزيد فيه ولا انتقاص ؟ شرحا يعتمد على تجلية الحق وحده...؟ وللحق- إذا اتضح- سناؤه الذى يجتذب الأنظار والألباب... إن الأجيال فقيرة إلى معرفة الإسلام بلغة طيعة ودلالة قريبة . ربما كانت الكتب القديمة مفيدة فى العصور التى ظهرت فيها . ص _007(1/2)
وربما كانت المشكلات التى تناولتها مما يعنى أناسا مضوا، ومضت معهم أزماتهم الروحية والمادية... لكن أبناءنا وإخواننا فى هذه الأيام بحاجة ملحة إلى أن يعرفوا دينهم معرفة تملأ الفراغ النفسى الملحوظ، وتدحض الشبهات التى اختلقها سماسرة الإلحاد والتحلل، بعد زحف الاستعمار الأخير على بلادنا... وإذا كان المسلمون فى أخريات القرن الرابع للهجرة قد احتاجوا إلى من يضع لهم كتابا يسميه " إحياء علوم الدين " فلنأخذ من ذلك عبرة، أن المعارف الدينية قد تذوى مع مرور الزمن وغلبة الأهواء وشيوع الهزل، حتى لتحتاج إلى من يرد لها الحياة بعد ما عراها من ذبول... !! ومن حق الإسلام على رجاله أن يواجهوا الدنيا بما لديهم من تراث خالد... نعم، فلدينا كتاب لا تبلى جدته ولا تفنى ثروته.. ولدينا نبوة مُلهمة السيرة ، نقية السنن .. فكيف نزيغ مع هذه الأشعة ؟ أو نستوحش فى هذا العالم الموار ؟ آفة التعليم الدينى بصيرة كليلة لا تسبر غور الحقيقة ؛ لأنها تعجز بقصورها عن ذلك ، كما يعجز المزكوم عن استكناه الروائح الجميلة فى حدائق فواحة الزهور...!! ونحن هنا لم نصنع شيئا أكثر من أننا رفعنا الغشاوة عن الأعين، كى نتمكن من رؤية الواقع كما هو...!! إننا لم نأت بشيء من عند أنفسنا، بل ذكرنا كلام الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- فى إطار، وظيفته الأولى والأخيرة إبراز الحقيقة المجردة. والله ولى التوفيق . محمد الغزالى ص _009
العقائد ص _011(1/3)
ما هو الإسلام ؟ إن هذا الاسم الجديد الذى تسامع الناس به منذ أربعة عشر قرنا عنوان لحقيقة قديمة بدأت مع الخليقة، وسايرت حياة البشر، وتسلسلت مع جميع الرسالات التى وصلت الناس بربهم الأعلى، وعرفتهم ما يريده الله منهم . وهذا كلام يحتاج إلى إيضاح ! ما معنى أنه حقيقة قديمة ؟ والجواب: أنه جوهر العلاقة بين الله والناس كما صورتها كل الديانات، وكما بلغها رسل الله أجمعون .. أولئك الرسل الذين ظهروا فى أعصار سابقة، وآمنت بهم أجناس شتى . فلا خلاف أبدا بين ما قال الله لموسى، أو لعيسى، أو لمحمد... ولا خلاف أبدا بين ما عرفه هؤلاء لأتباعهم، وبين ما عرفه الأنبياء الآخرون الذين حفظنا أسماء بعضهم، وجهلنا أسماء بعضهم الآخر.. الدين واحد فى أركانه وأهدافه عند هؤلاء جميعا. وهذه الوحدة الدينية الشاملة أكدها القرآن الكريم فى مواضع عديدة، وبنى عليها أن الأنبياء إخوة فى عمل مشترك، وأنه لا يجوز التفرق فى اتباعهم، ولا التفريق بين واحد وآخر منهم (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ..) ص _012(1/4)
(قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) . * * * وعماد هذه الوحدة الشائعة على اختلاف الأزمنة والأمكنة هى الفطرة. أجل.. إن الفطرة السليمة هى دين الله. والفطرة ليست شيئا جديدا فى الإنسان، إنها قلب سليم، وفكر سليم.. وحسب. وصلاحية المرء للحياة الحاضرة، أو للحياة الأبدية لا تتم إلا بهذه السلامة . وربما وجدت ناسا ينتسبون إلى الدين، وتظهر عليهم مراسمه وشاراته، لكن أفئدتهم معتلة، وأفكارهم مختلة، فثق أن هؤلاء بعيدون عن الدين بمقدار ما فى أفئدتهم وأفكارهم من علل وخلل.. فالبيت لا يقال عنه: إنه سليم، إذا كان طلاؤه حسنا وجدرانه منهارة!! والمرء لا يوصف بالتدين إذا كانت طبيعته القلبية والعقلية قد أفسدتها الأهواء والخرافات. التدين الحقيقى أساسه الأول صحة هذه الأجهزة المعنوية وبراءتها من كل تشويه وافتعال قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * * * والتعاليم التى جاء بها الإسلام تستهدف حماية الفطرة من الجراثيم الغريبة التى لا تفتأ تهاجمها، كما يتناول الإنسان الأغذية والأدوية لا لتصنع له جسما جديدا، أو تحوله مخلوقا آخر، بل ليظل كيانه الأصيل باقيا ناميا، كما ذرأه الله . ولذلك أتبع الله جل شأنه آية الفطرة السابقة بجملة من الوسائل التى تصونها وتحفظها : ص _013(1/5)
(منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) . إن التعاليم الدينية بالنسبة إلى الفطرة، كعلوم الكون والحياة بالنسبة إلى العقل. فكما أن الفكر الإنسانى تتسع آفاقه، وتصدق أحكامه بهذه العلوم، فكذلك الفطرة تصفو وتتألق، وتعرف طريق الرشد، بتعاليم الدين . ولذلك لابد من القيام بالتكاليف التى شرعها الله لضمان هذه السلامة الإنسانية المنشودة . قال تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور) . وقال : (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا) أرأيت ؟؟ .. إن القرآن الكريم يرد أصل الفطرة فى التدين إلى النبوات الأولى . ولذلك قلنا : إن الإسلام عنوان جديد لحقيقة قديمة . إن محمدا- صلى الله عليه وسلم- جاء بانيا لا هادما.. جاء مؤكدا، أو مصدقا لمن قبله، لا حربا عليهم ولا خصما لهم... ودينه الإسلام هو الطبيعة البشرية الوضيئة التى يجب أن تتسامى بها، وأن تلتقى عليها... ص _014(1/6)
الوجُود الأعلى الإسلام يقوم- بداهة- على التصديق بوجود الله، ويعد الإيمان به محور شرائعه. وفى القرآن الكريم عشرات الأدلة التى ترسخ فى العقل والضمير هذه الحقيقة، وتجعل المسلم يحيا فى نطاق من الشعور التام بها. ولأحد العلماء كلام لطيف فى حصر الفروض الخاصة بهذا الموضوع، نوجزها هنا. قال : إنه احتمال واحد من أربعة احتمالات لا خامس لها... * الأول: أن يكون الوجود كله وهما، سواء فى ذلك عالمنا المحسوس، أو ما وراءه مما يغيب عنا.. أى أن الأرض التى نمشى فوقها والقاطرات التى نركبها مثلا خيال فى خيال. وهذا الاحتمال قال به فلاسفة قدامى ومحدثون!! وهو احتمال سخيف ينبغى أن نصرف النظر عنه . * الثانى: أن يكون العالم حقيقة وجدت من تلقاء نفسها بعد عدم محض، فكانت بعد أن لم تكن دون أى مؤثر خارجى!! وهو احتمال لا يقل سخفا عن سابقه . والقول به إلغاء لقانون الأسباب والمسببات، وهدم لجميع القواعد التى يقوم. عليها العلم، وتسير بها الحياة... * الثالث: أن يكون العالم مادة قديمة (القول بقدم العالم ظن لم تتوافر له الأدلة، والثابت أن المادة تتلاشى وتتحول إلى طاقة)، ليس لوجودها أول ولا انتهاء ، تنشأ عنها ص _015(1/7)
صنوف الخلق بأساليب طويلة المراحل معقدة الشرح..!! وهذا الاحتمال يجعل الكون فاعلا ومنفعلا فى وقت واحد!! أو هو ينظر مثلا إلى القصر المشيد، ثم يخلع على جدرانه جميع صفات العبقرية والدقة والمهارة التى ينبغى أن تنسب إلى المهندس، لا إلى الرمل والطين والسقوف والنوافذ !!! هذا الاحتمال يتصور الكمال غير المتناهى، المتضمن للقدم الأزلى والبقاء الأبدى، والحكمة العالية، والعلم الشامل، ثم ينسب هذه الأوصاف مثلا للتراب الذى ندوسه، أو الهواء الذى نستنشقه، بوصفهما يخلقان ويعدمان !!! والعقل الإنسانى إذا أيقن بأن إنبات الزرع- على الصورة التى نراها- يحتاج إلى توافر صفات معينة، فإن هذه الصفات من قدرة ومشيئة، لا يجوز أن تنسب إلى الطين والماء. بل البداهة الأولى توجه هذه النسبة إلى كائن غيرهما... فلم يبق إلا الافتراض الرابع. وهو وجود الله جل شأنه. إن هذا الاحتمال العقلى هو التفسير الوحيد الصحيح لقصة الخليقة . أو هو- كما عبر بعضهم- أجدر هذه الاحتمالات بالقبول والاحترام . ومن السخف بمكان أن تحاول إقناعى بأن الجنين فى بطن أمه يتكون تحت إشراف هذه الأم، أو بمساعدة الأب، أو بأعمال متعددة مقصودة من الأجهزة المستكنة بين البطن والصدر، تولى بعضها صناعة العين والآخر صناعة الأذن، وهكذا...!!! لا، لا، لا، (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) . (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) . والقرآن الكريم مشحون بالأدلة التى تقود الناس إلى الله وتعرفهم به . ص _016(1/8)
وهى أدلة رقيقة لطيفة تتعاون كلها على إيقاظ الفكر الإنسانى ؛ ليبصر ما حوله، ويتدبر معالمه.. وهو بهذا البصر، وذاك التدبر، سوف يؤمن بالله حتما . (وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون) قيل: إن كسرى أنو شروان ملك الفرس اضطجع ذات ليلة، ثم سرح طرفه فى الآفاق البعيدة، وأرسل هذه الكلمات النابضة: أيها الفلك، إن بناء أنت سقفه لعظيم، وإن بيتا أنت غطاؤه لعظيم، وإن شيئا أنت تظله لكبير، وإن فيك لعجبا للمتعجبين... فليت شعرى، أعلى عُمُد من تحتك تستمسك؟ أم بمعاليق من فوقك ؟ ولعمرى إن ملكا أمسكتك قدرته لملك عظيم قدير ؛ وإنه- فى استدارتك بتقديره- لحكيم خبير، وإن من غفل عن التفكير فى هذه العظمة لغر صغير. وليت شعرى أيتها الأفلاك: بم طلوعك حين تطلعين؟ وبم مسيرك حين تسيرين؟ وأفولك حين تأفلين؟ وعلام سقوطك حين تغيبين؟ ليت شعرى: أساكنة أنت، أم تتحركين؟ أم كيف صفتك التى بها تتصفين؟ ولونك الذى به تتسمين؟ ومن سماك بأسمائك التى بها تعرفين؟ فسبحان من لأمره تنادين، وبمشيئته تجرين، وبصنعته استقامتك حين تستقيمين، ورجوعك حين ترجعين . ص _017(1/9)
التوحيد قديما وحديثا أولع الناس بتعدد الآلهة . وتعدد الآلهة خرافة نبذها الإسلام بقوة، وحمل عليها بإلحاح، وتتبع أوهام الناس فيها وهما وهما ليكشف ظلمته ويدحض شبهته..! ولا عجب، فالتوحيد المطلق شعار الإسلام الأول فى ميدان الاعتقاد والعمل. به عرف ومن أجله حورب..!! وعليه دار جدل طويل أحصاه القرآن إحصاء، وأفاض فيه إفاضة واسعة. (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون) . (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون) . (إن إلهكم لواحد ، رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق) . (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) . هذا الإله الواحد هو ولى الناس، فلا يجوز أن يتعلقوا بولاية غيره، ولا أن ترتبط قلوبهم إلا به وحده . ص _018(1/10)
(أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير) . (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون) . وهو أيضا شفيع الناس ، ومقيل عثراتهم ، وملجؤهم فى شدائدهم لا يشركه فى ذلك غيره . (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض) . ودعائم هذا التوحيد- كما بينها الإسلام- تظهر على النحو الآتى: هل هذا العالم مخلوق كله لواحد هو الذى أوجده، وهو الذى يشرف عليه أم لا ؟ والجواب: إن الأفلاك التى نراها عن بعد، والأرض التى نعرفها عن قرب، ومجموعات الأحياء من نبات وحيوان، وكتل الجمادات من مياه وتراب.. إلخ. هذه جميعا ينتظمها طابع واحد، ويحكمها قانون واحد . ومن ثم لا يمكن القول بأن هناك آلهاً خلق بعض القارات، وآخر خلق بقيتها، أو أن آلهاً خلق الأرض وآخر خلق القمر . هذا الزعم ساقط من تلقاء نفسه !! (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار) . (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم) . إن وضع الأرض على هذه المسافة المقدرة أمام الشمس، هو الذى يسمح بوجود الأحياء ص _019(1/11)
وبقائهم ؛ لأن نشاط أبدانهم، وعمل حواسهم، ونماء الزروع التى يقتاتونها، ولطافة الجو الذى يتنفسون فيه. كل ذلك مرتبط بهذا الوضع، ومعتمد عليه .. ومعنى ذلك أن الأرض فى دورانها حول نفسها، أو فى دورانها حول الشمس، وأن الشمس حين سبحها الرائع فى الفضاء الكبير، وأن مجموعات الكواكب الدوارة وفق ما وضع لها من نظام، تتبع خطة مرسومة، وتشرف عليها إرادة واحدة، وتبرز من خلال تنسيقها وترتيبها حكمة واحدة !! أى أن ربها كلها واحد لا شريك له ..!! ثم هل هناك من ادعى أنه آله مع الله، اشترك معه فى شئون الخلق، والرزق، والإيجاد، والإعدام، وتدبير أمر الحياة فى جنبات الكون الرحيب..؟؟ إن أحدا لم يجرؤ على هذه الفرية..!! كل ما هنالك من شرك أن نفرا من الجهال قدس بعض الحجارة، أو قدس بعض الرجال الطيبين، ونسب إليهم هذه الصفات التى لا يعرفونها فى أنفسهم، ويستحيل أن يقروا أحدا على نسبتها إليهم... أى أن الإشراك بالله ظن فى رءوس بعض الحمقى، لا صلة له بالواقع الملموس المأنوس. كما يتصور بعضهم مثلا أن فى الولايات المتحدة منصبين لرئيسى جمهورية يصدران المراسيم ويسوسان الدولة، أو أن فى إنجلترا عرشين لملكين يحكمان الناس.. ولما كان المشركون يحسون شيئا من حقيقة التوحيد، ويحسون أن شركاءهم الذين اختلقوهم أقل من أن يكونوا شيئا يذكر، فقد عقدوا صلة قرابة بين هذه الآلهة المزعومة، وبين الله الكبير المتعال . لعل هذه الصلة تمنح آلهتهم شيئا من الوجاهة، فماذا صنعوا ؟ جعلوهم أولادا لله !! ص _020(1/12)
وقد كذبهم القرآن الكريم فى هذه الفرية (ألا إنهم من إفكهم ليقولون ، ولد الله وإنهم لكاذبون) . (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) . (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون ، قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) . وإزهاقا لهذه الترهات أوضح الإسلام أن الله لا يمكن أن ينبثق عن إله سابق، ولا أن ينبثق عنه إله لاحق . وأنه ليس له والد ولا ولد، وأنه لا مكان عنده لأم ولا صاحبة، وأن ما عداه إنما هو خلق له فقير إليه (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ، ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل) . وقد يكرم الله من أحب من عبيده بألوان من الإعزاز والاصطفاء . لكن الله إذا نسب شخصا صالحا، أو جماعة إليه، فليست هذه النسبة بنوة حقيقية، فذاك مستحيل (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار) . (قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد و لم يولد ، و لم يكن له كفوا أحد) . وتوحيد الاعتقاد يتبعه توحيد العمل، فيجب على المسلم أن يحب ربه، وأن يخلص له، وأن يعول عليه . ص _021(1/13)
وأن تكون مشاعر قلبه وخلجات ضميره متجهة إليه لا تعدوه إلى كائن ما.. المسلم لا يدعو إلا الله، ولا يعبد سواه، ولا يطيع إلا أمره، ولا ينفذ إلا حكمه، وهو يحل ما أحل، ويحرم ما حرم، ويقف عند ما حد، ويتحرك وفق ما طلب. المسلم منتصب القامة أمام كل حى، فلا يحنى ظهره إلا لله . ومعرفته لعظمة الخالق الأحد، ولهيمنته التامة على الكون والناس تجعل مشاعر الرغبة والرهبة مستقيمة فى نفسه، فلا تنحرف ولا تضطرب . ومن أجل ذلك كان امتلاء القلب بعقيدة التوحيد أساسا لجملة من خلال القوة والعزة لا ينفك عنها مؤمن صادق الإيمان . ص _022
القضاء والقدر القضاء والقدر كلمتان مبهمتان- أو مرهقتان- عند كثير من الناس. على أنك بعد التأمل سترى أنهما يرمزان إلى معنى شائق رقيق، يثلج الصدر، ويطمئن الفكر!! أيخالجك شك فى أن الله يعلم كل شيء ؟؟ أإذا استيقنت بعد الأدلة المقنعة أنه خالق هذه العوالم تتردد فى أنه خبير بكل ذرة فيها، محيط بمبتداها ومنتهاها، مدرك لمستقرها ومستودعها ؟ (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) . إن الحكم بأن رب العالمين يعرف كل شىء فى العالمين أمر بديهى . وكلما ازدادت بصيرة الإنسان فى دراسة هذه العوالم ازداد يقينه أن العلم الإلهى من السعة والشمول بحيث لا يمكن أن يند عنه شيء فيما مضى بين أيدينا، أو فيما يجيء به الغد القريب أو البعيد . (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) . لكن ما هو هذا الكتاب المبين ؟؟ إنه سجل العلم الإلهى الذى مرت بك صفته، سجل واع مستغرق للوجود كله، ولما كان، أو يكون فيه ! ص _023(1/14)
من الحمق أن تحسب الله لا يدرى ما تصنعه الخلائق، إنه يدرى ذلك من أجيال سحيقة، وإلا ما كان خالقا رازقا ديانا يجزى على الخير والشر، (وكل شيء فعلوه في الزبر ، وكل صغير وكبير مستطر) . نعم، كل شىء مسطور فى سجلات العلم الإلهى الدقيق المحيط . وطالما أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ إن ذلك على الله يسير) . وهنا نتساءل: ما شأننا وهذا العلم ؟ هل صدقه الذى لاشك فيه مؤثر فى إرادتنا وأعمالنا حتى تجيء مطابقة له ؟ والجواب لا.. ومن قال: إن علم الله يضغط على الناس ؛ ليفعلوا، أو ليتركوا فهو كاذب . إن العلم الإلهى فيما نفعل نحن طوعا، أو فيما يفعل بنا كرها ليست وظيفته التسبب والتوجيه . إن وظيفة العلم نظرية لا تعدو الانكشاف والإدراك، وهى من شئون الكمال! الإلهى فحسب . واعترافنا بذلك إنما هو اعتراف بما ينبغى لله جل جلاله من علاء وعظمة . * * * قد تقول : ليكن أنه لا علاقة للعلم بقسر الناس على خير، أو شر . وأن الكتاب الأزلى إنما هو سجل لا يعنينا أمره، وإن آمنا به . لكن المشيئة الإلهية النافذة، إذا انضمت إلى هذا العلم المحيط فمعنى ذلك أن الله له كل شىء . ص _024(1/15)
إن الله خلق العالم كما أراد. ورتب عناصره كما أراد، ونسق مراتب الخلق كما أراد، وهو تعالى فعال لما يريد !! ومقتضى هذا الكلام أن البشر بين أصابع الإرادة والقدرة، مع العلم السابق، لا كيان لهم، ولا تماسك..!! نقول: هذا فهم صبيانى للإرادة الإلهية، وهو فهم سيطر على بعض العقول المريضة فأخرجها من النور إلى الظلمات . إنهم يظنون أن الله إذا أراد شيئا قال: كن... ثم بين هذين الحرفين، وفى لمح البصر يتحول الجدب خصبا، والفقر غنى، والعقيم ولودا، والمهزوم منصورا... وهذا- كما قلنا- فهم صبيانى . إن الإرادة الإلهية هى سنن الله التى بثها فى الكائنات، وانتظمت بها أحوال الأرض والسموات . إذا أراد الله أن يخلق رجلا، فلا يقول للعدم كن رجلا، فينشق المجهول نطفة ثم جنينا، ثم وليدا، ثم صبيا، ثم غلاما.. إلخ . وإذا أراد الله أن يخلق فاكهة، أخذت هذه الإرادة مجراها المعتاد فوضعت البذور، واستجلبت المياه، وتتابعت الفصول، وتداولها الحر والبرد، وما تزال الأيدى الراعية تتعهدها بعد بدرها حتى تنضج . والإنسان كائن ميزه الله بخواص أدبية ومادية هى مناط تكليفه، ومبعث اتجاهه.. وحريته التى يستمتع بها دون ريب، هى إرادة الله له، ولو شاء جعله غير ذلك . إنه- جل شأنه- خلق الملائكة لا تحسن إلا اتجاها واحدا، مع ما وهب لها من إدراك . ص _025(1/16)
وخلق الإنسان بطبيعة متشعبة الهوى والوجهة، خلقه قادرا على أن يذهب يمنة ويسرة كيف شاء . وتلك هى إرادة الله له، فلا جبر، ولا إكراه . إن بعض الأغرار يفهمون الإرادة الإلهية على نحو يشينه الجهل والقصور . إنهم يحسبونها شيئا كخبط العشواء، أو هى الصدف العمياء، أو هى ما يتم دون مقدمات، أو هى المقدمات التى تجتمع ولا تنتج.. وهكذا . وهم يضعون- لمجموعة هذه التصورات المضطربة- عنوان القضاء والقدر والإسلام برىء من هذا الخلط .. إن الله لا يكرهه أحد على أمر بداهة، فإرادته منفردة بالعلو المطلق فى هذا الوجود! وأين هو الذى يعترض مشيئته والكل يستمد وجوده منه ؟ لكن أولى الألباب يجب أن يدرسوا معنى هذه الإرادة! فإن خصائص الأشياء، وطبائع القوى، وميزات الخلائق، هى المظهر الثابت الحكيم لهذه الإرادة الجليلة. إرادة الله أن يكون الحيوان أعجم، معناها أن وظيفته فى الحياة محكومة بجملة الصفات المادية الميسرة له . وإرادة الله أن يكون الإنسان عاقلا مكلفا، معناها أن رسالة الإنسان فى الحياة محكومة بما أضفى الله عليه من مواهب، وما خصه به من طاقة وحرية . فالإنسان الذى ينسلخ من إرادته وقدرته، ويزعم أنه كالحيوان الأعجم، أو كالنبات المحدود إنسان كاذب على ربه وعلى وجوده . إن هناك أقواما يتماوتون ويقولون: لا قدرة لنا ولا إرادة، ويتسكعون فى الحياة ويقولون: لم العمل ؟ كل شىء مكتوب، وما شاء الله كان . ص _026(1/17)
وهذا الكلام كله افتراء على الإسلام، وتصوير سمج لصفات الله، ولرسالة الإنسان فى هذه الحياة... قال القاضى أبو بكر بن العربى: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان فإن الله تعالى خلقه حيا، قادرا، متكلما، سميعا، بصيرا، مدبرا، حكيما . وهذه هى صفات الرب- جل وعلا- وعنها وقع البيان بقوله عليه الصلاة والسلام: " إن الله تعالى خلق آدم على صورته " يعنى- بالصورة- الصفات التى تقدمت لا ملامح الجسم . * * * فانظر كيف سبقت مشيئة الله أن يوجد الإنسان على هذا الطراز الرائع: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ، إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) . ومع ذلك وجد من الناس من يجحد وظيفته وينكر حقيقته . وينخلع من قواه باسم أن القوة لله، أو ينخلع من إرادته باسم أن إرادة الله هى كل شىء . هذا ارتكاس فى التفكير وغباء فى الإدراك . وليس للقضاء والقدر وجود فى الإسلام بهذا المعنى . إنما القضاء والقدر أن تعرف صفات الله كلها على ما ينبغى لها من كمال مطلق ؛ وأن تطبع سلوكك بآثار هذه المعرفة . فلا يجوز- اعتذارا عن تكليف، أو فرارا من واجب- أن تتحدث عن حول الله وطوله وقوته ومشيئته . إنما يحلو الكلام عن القضاء والقدر، وعن سلطان الله المطلق، عند مطالعة النتائج لا عند مباشرة الأسباب .. ص _027(1/18)
ذلك أنك عند مباشرتك للأسباب تؤدى رسالتك المتاحة لك، والتى خلقت لها. فإذا جاءت النتائج كما تحب سررت بما أديت، وحمدت الله الذى أعان ووفق، وقد كان قديرا على التعويق والمنع . وإذا تخلفت النتائج عما قدرت لأسباب خارجه عن طوقك- استكنت لمشيئة الله، وسلمت له ما أراد، ولم تجزع لهزيمة، أو حرمان . القضاء والقدر عقيدة تقر التوازن بين ما يجب لله وما يجب على الناس، فإن الإنسان قد يطغى وينسى . يطغى، يحسب نفسه كل شىء فى هذا الوجود، وينسى أنه- برغم خصائصه الرفيعة- مقهور بأمور تُعجز إرادته وتشل قدرته، وتجعله يذكر- طوعا، أو كرها- أن الأكوان مازالت يحكمها مكونها الأول، وأن قيادها بيده، وأنه غالب على أمره- ولو أنك تدبرت فى أناة ورشد ما حولك وما قبلك، وما بعدك، وما يقع لك، ولغيرك، لما ارتبت فى أن الإشراف الأعلى على أحوال الناس كلهم محكم ودقيق.. وأن الناس يدورون داخل نطاق صاغ حدوده مقلب الليل والنهار، الذى يحيى ويميت ويقبض ويبسط... أنت حر الإرادة والتفكير والعمل... أنت مؤاخذ بالإساءة مكافأ بالإحسان، عن عدالة وحكمة. وأنت تؤمر وتنهى، لأن فى خلقك صلاحية استقبال الأمر والنهى ؛ وصلاحية الفعل والترك . وأنت مع هذا كله، جزء من خطة عامة، يعرفها الذى بيده الملك، وهو على كل شىء قدير . وكونك جزءا من هذه الخطة العامة يجعلك محكوما بأمور شتى من بأساء الحياة وضرائها، أو من نعمائها وسرائها، لن تؤاخذ بما يقهرك منها . ص _028(1/19)
فإن الله لا يؤاخذ الناس بما لم يكسبوا: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما) . وفى القرآن الكريم آيات يفيد ظاهرها الجبر، وأخرى يفيد ظاهرها الاختيار . ولا تناقض بين هذه وتلك، فلكل منهما مجال تعمل فيه . هذه تمثل جزءا من الحقيقة، وتلك تمثل الجزء الآخر (فى كتاب "عقيدة المسلم" نماذج لهذه الآيات، وتفسير يجمع بعضها وبعضها الآخر) . فأما آيات الاختيار، فهى تتعرض لما يكلف به الناس من أعمال، وما يلزمهم فى هذه الحياة من تصرفات وتبعات . وقصة الخليقة، والرسالات، والثواب، والعقاب، والعدالة الإلهية تقوم على هذا الجانب المسلم به عقلا ونقلا . والطعن فى هذه البديهية هو زعم بأن الحياة رواية هزلية، ومأساة سماوية . وأن الله يفعل ثم يعاقب الآخرين، أو يثيبهم .. ويأمر وينهى، وهو يعلم أنه لا موضع لأمره ولا مكان لنهيه . وهذا الكلام تخليط مجانين، أو اتهام جاحدين، تعالى الله عما يقولون . وأما آيات الجبر، فهى تتعرض للخطة العامة التى رسمها الله للحياة الإنسانية.. وهى خطة لا دخل لنا فيها، وإن تناولتنا من كل نواحينا . فالله وحده هو الذى حدد وقت ومكان مجيئنا هذه الدنيا، ووقت ومكان انسحابنا منها .. وهو كذلك الذى حدد القوى المادية والأدبية التى أتيحت، أو تتاح لنا فى كفاحنا إبان هذا العمر الموقوت . ثم إن جانب الاختيار الممنوح لنا محوط بطبيعة هذه القوى كما وكيفا . ص _029
فإن الإنسان- وإن كان قادرا- فليس خالقا . وهو- وإن كان مدبرا- فليس إلها يفعل ما يريد . وكم من عزيمة صحت، ثم أعجزتها وسائل الظهور ؛ لأنها لا تملكها . والخلاصة أن الإنسان حر فى نطاق مسئوليته، عبد فى نطاق الكون الكبير المسخر لباريه . ص _030(1/20)
الجزاء الأخير تمر بنا الجنائز فى طريقها إلى مثواها الأخير، فنلقى عليها النظرات عابرة..!! وربما طاف بنا طائف من الكآبة، لكن سرعان ما تغلبنا نشوة الحياة فننسى ما رأينا، ثم نذهل عن التفكير فيه، وفيما وراءه ! وأغلب الناس يظن أن الموت نهاية الحياة الإنسانية، وختام ما حفلت به من حس وعقل، وما أسلفته من خير وشر..!! والماديون منهم يرون أن الموت يسدل الستار على قصة الحياة، فلا يبقى من المرء إلا خبر يُروى حينا، ثم يدفن هو الآخر فى تراب النسيان بعد قليل، أو كثير...!!! وهذا كله فى نظر الإسلام ضلال عن الحق، وبعد عن الصواب ! فالموت طور جديد فى سلسلة الحياة الإنسانية... والمرء- بالموت- يولد فى عالم آخر فيه حسابه على ما قدمت يداه ... وما أشبه عقاب القبر بما يحدث للمجرمين فى دنيانا هذه . يُقبض على أحدهم، ثم يقتاد إلى قسم الشرطة- فيجرى معه تحقيق ابتدائى... ثم يرمى به فى سجن احتياطى ريثما يتم التحقيق معه فى محاكمة أكبر وأخطر..!! وما أشبه ثواب القبر بما يقع لمن تقررت له جائزة سنية . ص _031(1/21)
إنه يطلب برفق، ويستقبل بحفاوة، ويجلس فى بهو كريم تكتنفه البشاشة والإيناس حتى ينال مكافأته المرتقبة... وذلك بداهة- فى عالم الروح . لابد إذن من جزاء حسن للأخيار، ولابد من عقاب شديد للأشرار.. والقرآن الكريم عرض صورا ونماذج كثيرة للنعيم المرتقب، وللجحيم المتوقع ؛ كى يزجر الناس عن الاسترسال مع خُدع العيش، ومفاتن الدنيا... وذلك، إلى جانب النداءات الواعية المتكررة التى تدفع إلى فعل الخير لما فى الخير من نبل وشرف . وتحذر من ارتكاب الشر لما فى الشر من جحود وخسة ... والناس فى حياتهم لا يستغنون عن المكافآت والعقوبات المادية؟ لأنهم ليسوا أرواحا مجردة . إن تكوينهم المادى لا يمكن تجاهله . ومادامت هناك أجساد وغرائز يمتاز بها هذا الكيان الإنسانى عن الملائكة مثلا، فلا معنى للاستخفاف بالجزاء المادى، ولا للغض من قيمته... وذاك هو السر فى حديث القرآن الطويل عن الجنة التى أعدت للمتقين، والنار التى أعدت للكافرين ... إن هذا الحديث مرتبط بأن الإنسان سوف يخلد فى الدار الآخرة بكيان روحى مادى معا.. وأن خصائصه البشرية التى ينفرد بها عن الخلائق الأخرى لن تزول، وإن أخذت أوضاعا وأحوالا أخرى ... ص _032
فلنؤمن بالله واليوم الآخر ... ولنثق بأن حياتنا ممتدة بعد مغادرة هذه الأرض ..!! ولنعلم علم اليقين أن العبث والفسوق فى هذه الدار الأولى يعقبان الويل والثبور فى الدار الأخرى، مهما لقى العابث فى الدنيا من راحة وإغفال..!! وأن الجد والصلاح يثمران أجمل العواقب مهما لقى الجاد من غمط وإهمال... (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين) . ص _033
هذه الحياة
ص _035(1/22)
الفكرة التى شاعت إلى زمن قريب، أن الأديان- على العموم- خصم للحياة... وأن الحياة لم تبلغ مستواها العلمى والعمرانى العالى إلا بعد ما تخلصت من إيحاءات الدين، واهتمامه الملح بما بعد الحياة، لا بالحياة نفسها..!! ونحن موقنون بأن هذا الكلام غلط شنيع بالنسبة إلى الإسلام . فأدنى تأمل لتعاليمه يؤكد أن هناك علاقات وثيقة بين تمام الإيمان، وحسن النظر، والعمل فى الكون والحياة . إن القرآن يحدث الإنسان عن العالم كما تحدث أى امريء غنى عن أملاكه الواسعة وقدراته المتاحة . ولا غرو، فالإنسان فى نظر الإسلام ملك هذا الكون، وسيده المدلل المخدوم..! وماذا بعد أن يقال للبشر: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) . إن الشمس تطلع وتغرب من أجلنا... والدراري اللامعة فى الآفاق زينة لأعيننا، وهداية لسيرنا... وانظر إلى التمتيع الذى تنوه به هذه الآيات: (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ، رفع سمكها فسواها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ، والأرض بعد ذلك دحاها ، أخرج منها ماءها ومرعاها ، والجبال أرساها ، متاعا لكم ولأنعامكم). إن الأرض حفلت بالحقول التى تغذينا، والحدائق التى تسرنا، لأن الله يجمع للناس ص _036(1/23)
بين الضرورات والمرفهات، ولا يطلب منهم بعد ذلك إلا أن يعرفوه وحده، ولذلك سأل : (أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون) . وبناء الإيمان الصحيح إنما يتم من عناصر تؤخذ من التفكير فى الكون . وبقدر ما يستجمعه النظر الصائب من هذه العناصر يكون الإيمان جليلا أو قليلا . . وقد يحتبس بعض الناس فى أماكنهم فلا يحسنون الفكرة ولا العبرة . وهؤلاء المسجونون المحجوبون يهيب القرآن بهم أن يرحلوا وينتقلوا لعل فى ارتحالهم وانتقالهم ما يحرك عقولهم الجامدة، ويصلهم بالحقائق العظيمة . (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها). إن القرآن الكريم كتاب فذ فى ربط الناس بالكون، ولفت أنظارهم إلى كوامنه وظواهره... لقد جعل حياتهم المادية مربوطة بحسن العمل فيه، وجعل حياتهم المعنوية مربوطة بحسن التفكير فيه.. فأى توجيه أفضل من هذا التوجيه فى تعليق الناس بالحياة الصحيحة ؟ نعم، بُليت الأديان من قديم بمن أساء فهمها، وخاصم الحياة باسمها، وأوهى صلات الناس بها، وأراد أن يجعل منها سجنا كبيرا ومحنة ثقيلة . . وقد جبه القرآن الكريم هؤلاء أشد التجبيه، وأنكر عليهم أشد الإنكار (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) . ص _037
ذلك . . كما رفض الإسلام طبعا غباء هؤلاء الذين يحسبون الحياة نهبا لا صاحب له، وأنهم ولدوا فيها بطريق المصادفة كما تخلقت لهم بطريق المصادفة، ولذلك فهم يفعلون فيها ما يريدون، ويتصرفون كما يشتهون . كلا كلا.. إن الله وهب لنا هذا العمر، وأسكننا فى هذا الكون لنعرفه لا لننكره، ولنشكره لا لنكفره . . والدين بهذا المنطق لا يعادى الحياة ولا يحجر على الأحياء . ص _038(1/24)
حرية العقل لا حرية الشهوة أمر الله عباده أن يتأملوا فى ملكوته، وأن يرسلوا أفكارهم هنا وهناك تتدبر آيات الكون، وتقرأ بين ثناياها سطور الحكمة العالية . . (فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب) . (فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا و قضبا) . (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج) . (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) . (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) . وهذا الأمر المتكرر بالنظر يقوم على ناحيتين مهمتين : أولاهما: أن العالم الرحب الذى نعيش فيه لم تبن جنباته كيفما اتفق، ولم تركم مواده بعضها فوق بعض على طريق الجزاف... كلا كلا.. إن الله جل شأنه أحسن كل شىء خلقه، وأنشأ ما نرى وما لا نرى، وفق نظم رتيبة وقوانين دقيقة، وجعل حركات الكون وسكناته منضبطة داخل نطاق لا يتطرق إليه عبث أو خلل . ص _039(1/25)
فما تُطير الريح ورقة فى الجو إلا كان ارتفاعها وانخفاضها بقانون . وما يلقى جسم فى الماء إلا كان غوصه وسبحه بقانون . وما ينبثق من الأرض نبات إلا كان طعمه ولونه وثمره بميزان . وفى هذا يقول الله جل شأنه (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون) . ويقول: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) . ويقول: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) . ثم يكشف لنا فى كتابه العزيز أنه ما من شىء فى الأرض والسماء إلا خلق مقرونا بالحق ملتبسا بمعناه فلا مكان فى خلقه للعبث، أو للفوضى، أو للتفاوت، أو للمجازفة. ويسمع الناس هذا مصارحة فى قوله: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ، ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) . فعلى الناس أن يتصفحوا كتاب الكون المفتوح، ليعرفوا من حقائقه ما يزيدهم بخالقه إعجابا وإيمانا، وما يزيدهم فى هذا العالم رسوخا وإتقانا . وهنا تجيء الناحية الأخرى للأمر بالنظر... تلك أن أبناء آدم لا يولدون علماء، ولا ينساب العلم فى أنفسهم كما ينساب الماء، أو الهواء فى إناء فارغ . إن تحصيل المعرفة يحتاج إلى جهد منظم، وعمل دائب. وسعى لاغب . سعى تشترك فيه حواس الإنسان الظاهرة والباطنه، وخصائصه المادية والأدبية. قال جل شأنه : (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) . ص _040(1/26)
فنحن نولد لا نعلم شيئا، وبتلك الوسائل وحدها من سمع، وبصر، وفكر تبدأ مراحل التعليم، وهى وسائل نحاسب عليها بدقة بالغة، فلا يجوز إرخاص قيمتها ولا إضاعة ثمرتها . (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) . هذه الملكات الإنسانية خلقت ؛ لتتجاوب مع حقائق الكون : خلقت ؛ لتكون مفاتح خزائنه، وكواشف أسراره . خلقت ؛ لتعانق الحق وتقطع طريق الحياة على أشعته، لا لتصحب الباطل وتدور معه فى كل منعرج . والحضارة الإسلامية الأولى قامت على تسخير العقل والبصر فى مجال الحقيقة النافعة، فأفادت لنفسها الخير الكثير، وَوَرَّثت العالم الخير الكثير . وهل نهض العلم فى معاهده إبان العصور الأخيرة إلا بما اقتبس عن العرب الأولين من أساليب الفكر والنظر..؟ * * * وفى الوقت الذى أطلق فيه الإسلام حرية الفكر قيد حرية الشهوة، ووضع حولها الضوابط، وراقب سير الغرائز الدنيا بحذر وأقام أمامها شتى السدود . ولا عجب، فإن طاقة الإنسان محدودة، فإذا استنفدت فى اللهو والمجون لم يبق ما يدفعها فى طريق الجد والخير، ولم يجن منها العالم إلا الشرود عن الجادة . إن العالم إذا كان قد أصابه خير فمن حرية العقل والنظر . وإذا كان قد مسه ضر فمن حرية الهوى والعبث . ولا يجوز أبدا أن نخلط بين الحريتين . إن أبناء آدم بالعلم يستوون مع الملائكة، ولذلك يقول الله فى التنويه بمن يعرفونه معرفة ص _041(1/27)
اليقين (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط) . فانظر كيف قرنهم بذاته وملائكته ؟ أما بالشهوات والضلالات فيهبطون إلى مستوى الحيوان (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) . الإسلام يحرك العقل ويرحب بكل ما يثيره، ويخلق الجو الذى ينعشه . وفى سبيل هذه الحركة الذهنية المتحررة نزل: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا) . وفى الوقت نفسه يحجز أهواء النفس أن تتحرك كيف شاءت، ويحذر من عواقب هذا الانطلاق والشرود (فأما من طغى ، وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى) . فعلى دعاة الحرية آن يفرقوا بين الأمرين، وأن يميزوا بين المنهجين.. ص _042
مادة وروح الإسلام يمزج مزجا تاما بين مصالح الإنسان فى دنياه وفى أخراه، كما يمزج مزجا تاما بين مصالح الإنسان البدنية والروحية . ذلك أن الإنسان فى نظر الإسلام كل لا يتجزأ . وأن كماله المنشود يتحقق فى ارتقائه ماديا ومعنويا . وأن حياته الصحيحة على ظهر هذه الأرض أساس لخلوده الكريم فيما بعد، فإذا انهار الأساس تصدع البناء كله . (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا) . ليس فى الإسلام خصام بين الروح والجسد، بل إن هذا التقسيم مفتعل للنيل من حقيقة الإنسان الواحدة . وليس فى الإسلام خصام بين المعاش والمعاد، بل إن هذا التقسيم وضعه القاصرون فى فهم الدين . وكل كلام في معاداة الجسد بالرهبانية، أو معاداة الحياة بالزهادة فهو كذب على الله ورسوله، والإسلام منه برىء . * * * جسد الإنسان هو وسيلته لبلوغ غاياته، فإذا وهن هذا الجسد أو اعتل، قصر المرء فى تحقيق ما يريد، فما استطاع تعلما، ولا جهادا، ولا سعيا لنفع نفسه أو نفع أمته . ص _043(1/28)
وأذكر أنى قرأت لأحد الأئمة كلمة أعجبتنى، خلاصتها: أنه انخدع يوما بتعاليم قوم يحقرون الجسد، ويروضونه على الشظف، فقلل من طعامه ؛ ليزكى روحه وينور قلبه… قال: فإذا أنا بعد هذه المحاولة أعجز عن تلاوة ما كنت أتلوه من قرآن، وأقصر عما كنت أنهض به من واجبات . فعدت إلى رشدى، وقلت: لقيمات أتركها، فأحرم على نفسى ما أحل الله، ثم أضعف عن أداء كثير من أعمال الخير، إن ذلك من اتباع الشيطان !!! أجل، إن الجسد القوي السوي عون أي عون على جلائل الأعمال. وما يسعى إلى المرض أو الحرمان عاقل، وما ينسب ذلك إلى الإسلام إلا مخبول . نعم هناك من يتشبعون من أنواع الطعام. ومن يربون الأجسام إعجابا بالعضلات فحسب !! وهؤلاء يجب أن تعالج أفكارهم الخاطئة، فيعرفون أن البطنة مرض مخوف العقبى، وأن كمال الأجسام لا يشرف ضعاف الأخلاق ولا قاصرى العقول . . أما الزعم بأن الدين حرب على الجسد، فهذا مالا أصل له قط فى تعاليم الإسلام . وأى دارس لسيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبه يدرك هذه الحقيقة . إن فى تعاليم الإسلام ثروة طائلة من النصوص تقوم على تنظيف الجسد، وحمايته، والسمو به، وإشباع نهمته، وتوفير راحته . . وتجاهل هذه الجمل من النصوص عدوان على الإسلام، وجور عن الطريق. * * * أما الحياة الدنيا فإن التوفيق فيها هو الطريق الوحيد لنيل الآخرة ! والتوفيق فيها ليس معناه الفشل فى نيلها، أو الإفلاس فى سوقها أو الانهزام فى ميدانها، كلا . . !!! ص _044(1/29)
إن التوفيق فيها معناه: القدرة عليها، وامتلاك ناصيتها، ثم تسخيرها للحق والخير.. لقد رأينا بعض الثعالب من البشر يعجزون عن إدراك بغيتهم من الحياة فيعزون أنفسهم بالطعن فى الدنيا والتهوين من قيمتها ... وهؤلاء حقروا المال والجمال والسعة والعافية، بل حقروا العلم والكشف والقوة والطموح ... وكانوا بلاء على الأمة الإسلامية منذ ظهروا، وشاعت مقالاتهم السيئة ... الإسلام دين أساسه العلم بالعالم- كما رأيت آنفا- واستثمار كنوزه واستثارة خيره الجم... ثم استخدام ذلك كله فى خدمة الحقيقة ورفع لوائها . فكيف يتصور فيه اعتزال الحياة وإيثار العوز، والترحيب بالضعف وتطليق الكفاح ؟ !! نعم، هناك ناس يطلبون الحياة للحياة، ولا يبالون فى مطالبتهم هذه أن يلتهموا الخبيث من العيش، وأن يغتالوا الضعيف من الأفراد والجماعات، وأن ينتشوا من كل ما وقع بأيديهم دون مبالاة . . فهل لعن هؤلاء المفتونين بأموالهم وأولادهم وسلطانهم، معناه لعن الحياة كلها والتجهم للياليها وأيامها ..؟! إن هذا حمق مبين . . إن القرآن الكريم قد يذم الطيش والغرور والفتنة، أى: يذم السكر بالدنيا والغيبوبة فى ملذاتها فيقول: (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا) . فهل معنى هذا تحريم الزينة والتجمل واليسار ؟ ص _0 ص(1/30)
كلا. فهو يقول فى آية أخرى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) . وربما نوه بأن المال والبنين زينة الحياة الدنيا . فهل معنى هذا أنهما لا يكونان عدة الحياة الأخرى ؟ كلا، فما تطلب الحياة الأخرى إلا بالمال ينفق فى سبيل الله، والأنفس والأولاد تجند لنصرة الحق ...!!! وهل يعقل جهاد من غير رجال وأموال ؟ : وهل يرتقب نصر مع جهل بالحياة وعجز عن تسييرها فى موكب الحق ؟ إن المنكمشين فى هذه الحياة، الغرباء على شئونها، ليسوا فى الحقيقة إلا "طابورا خامسا" لعبيد الدنيا الذين يكرهون قضايا الإيمان والعدل . فإن هؤلاء العبيد الناقمين على الدين لا تمتد ظلالهم فى الحياة إلا لخلو ميادين الحياة أمامهم من حراس الحق ورجالاته . وأيا ما كان الأمر فالإسلام دين روحى مادى معا . يكفل للإنسان حياة معتدلة لا شطط فيها ولا قصور . ويرسم له مستوى عاليا من نعمة الدنيا والآخرة . ويرفض بقوة أى زهادة تشل نماء الحياة، كما يرفض أى رهبانية تصادر غرائز الأبدان ... ص _046(1/31)
حُقوق المساواة أولى ثمرات الإسلام الحق انتفاء العبودية لغير الله، وشعور الإنسان بامتداد شخصيته أمام سائر الخلق، وبأنه ليس لأحد ما أن يزعم لنفسه منزلة يستعلى بها على الآخرين . وذلك أن الإسلام جعل الناس جميعا- فى الواجبات والحقوق العامة- متماثلين تماثلا مطلقا . فهم أولا عبيد لله لا يستثنى من هذه العبودية بشر (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا) . ثم هم أسرة واحدة، يجمعهم على اختلاف الأجناس أب واحد وأم واحدة . (اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) . فلا مجال لتفريق عنصرى، أو امتياز إقليمى . والاختلاف الواقع فى أحوال الناس، وملكاتهم، ولغاتهم، مظهر لإبداع الخالق الأعلى، بل هو من دلائل قدرته التى لفتنا إليها . (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) . والمقصود من هذا الاختلاف أن نتآلف ونتعارف، لا أن نتقاطع ونتناحر (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) . ص _047(1/32)
والواجبات الموزعة على الأسرة الإنسانية لا يشذ عنها فرد قادر، وذلك واضح فيما فرض الإسلام من عقائد وعبادات وأخلاق . فالمسجد يصطف فيه الخاصة والعامة دون شارة مميزة . وتنحنى أصلابهم أمام الله قدما بقدم ورأسا برأس . كما أن الحقوق العامة مكفولة على سواء، لا فرق فى القصاص بين دم ودم، ولا فى الحدود بين شخص وشخص، ولا يفلت من القانون السائد أى إنسان . * * * لقد طلع الإسلام على الناس بهذه المساواة كما تطلع الشمس فى أعقاب ليل بارد طويل لم يكن الناس يعرفونها بهذا الشمول قبله . ولم يصلوا إلى مقرراته فيها بعده . وما يعرف بديهيا فى حقائق الإسلام من زمان بعيد، يعتبر أمانى كثيرين ممن يعيشون فى ظلال النظم الأخرى حتى عصرنا هذا . . جاء الإسلام، والحكام يزعمون أنفسهم من طينة أخرى، ويرجعون ولايتهم على الجماهير إلى نظرية الحق الإلهى . فكذب الإسلام هذا الزعم، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس : (إنما أنا بشر مثلكم) . وجاء خلفاؤه من بعده نتيجة بيعة تجلى فيها الاختيار الحر . . وكان المبدأ الذى نوه به الحاكم " لقد وليت عليكم ولست بخيركم " " إن رأيتم خيرا فأعينونى وإن رأيتم شرا فقومونى " . وبهذا الكلام المبين الصادق سقطت كهانة الملوك الأولين، وتبخرت نظريات الحق الإلهى فى اتخاذ الشعوب ملكا لفرد مُسلط مغرور . ص _048(1/33)
وقد تضطرب المجتمعات الإنسانية، ويختل ميزانها وتنقسم إلى أشراف وسوقة، أو سادة ورقيق . والإسلام طبعا عدو لهذه القسمة الجائرة . وقد بلي فى مكة باختبار لموقفه من هذه الحال ، وكان ذلك لأول عهده بالحياة ووطأة الهاجمين عليه من أصحاب الحول والطول . . إن دخول المستضعفين فى هذا الدين أزعجهم، وخافوا مغبته، فأرسلوا لمحمد صلى الله عليه وسلم يقولون: اطرد هؤلاء عنك ونحن لا نرى بأسا من اعتناق دينك، فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العرض . فبعثوا إليه مرة أخرى يقولون له: إن لم يكن من بقائهم بد ، فليكونوا فى مؤخرة الصفوف ونتولى نحن الصدارة . ففكر الرسول صلى الله عليه وسلم فى هذا العرض الجديد . إن الصدارة إنما يظفر بها أهل الكفاية، وأصحاب السبق فى الإيمان والعمل . أيمكن أن نكل المؤمنين إلى إيمانهم، ونتألف هؤلاء الأقوياء بإجلاسهم فى مكان الصدارة، حتى إذا تشربت أفئدتهم الإيمان كاملا تركوا هذه العنجهية من تلقاء أنفسهم..؟؟. وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه المقابلة نزل الوحى يحسم القضية كلها (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ، وكذلك فتنا بعضهم ببعض) . وهكذا ألقت السماء كلمتها، إن المبادئ لا يضحى بها- ولو من ناحية الشكل- ومن ص _049(1/34)
دخل فى دين الله فليخلع عن نفسه أردية الجاهلية كلها، ولا يشعر بأنه أرجح من غيره لامتيازات مبهمة مدعاة . * * * والإسلام يكرم الإنسانية فى أبناء آدم قاطبة . لقد شيع صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رفات امرأة نصرانية . وروى أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام لجنازة يهودى مرت به، فلما كلم فى ذلك قال: أليست نفسا ؟ * * * ومما يتصل بمعنى المساواة أن نشرح موقف الإسلام من المرأة.. وهل صحيح أن الدين جعلها أقل رتبة وأنزل مكانة من الرجل ؟؟ إن الذين يذهبون إلى هذا الزعم يستشهدون عليه بأن الإسلام جعل نصيب الرجل فى الميراث ضعف نصيب المرأة، كما جعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل . والحق أن فى هذا الاستشهاد مغالطة، فإن الإسلام لو لم يجعل نصيب المرأة فى الميراث نصف نصيب الرجل لاختل ميزان المساواة ولأصبحت كفة المرأة المادية أرجح ..!! ذلك أن الرجل مكلف فى الإسلام بالإنفاق على المرأة، ويسوق المهر لها إن أراد الزواج. ومعنى هذا أن ماله سوف يستهلك فى الواجبات التى كلف بها على حين يجمد مال المرأة فلا ينقص . . !! فلا أقل من استدراك هذه الحال بزيادة نصيبه فى الإرث . فهذه الزيادة ليست تفضيلا أدبيا، وإنما هى تعويض مادى بحت ..!! أما مسائل الشهادات، فإن شهادة المرأة تعتبر نصابا كاملا فيما هو من شئون النساء . أما فى الأمور الاجتماعية وشئون المعاملات العامة فالذى لاشك فيه أن الإسلام يجعل وظيفة المرأة أكثرها فى البيت وأقلها فى ميدان الحياة الصاخبة .. ص _050
ومن ثم فهو بهذا الإجراء يريد صرفها إلى ما خلقت له، وإلى ما يناسب خصائصها العتيدة، من أمومة وتربية ورعاية لجانب خطير فى المجتمع الإنسانى، جانب لا يصلح غيرها له.. !! * * * أما المرأة والرجل بعد ذلك فهما صنوان: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) . ص _051(1/35)
سياج الحُقوق التظالم بين الناس قديم قدم الخليقة نفسها . ما إن يشعر بعضهم بمزيد من القوة بين يديه حتى يحاول تسخير الآخرين لمشيئته أو شهوته . ويظهر أن البطر يتملك الإنسان إذا أحس تفوقا ماديا، أو أدبيا، ولم تكن ثم حصانة من الخلق وسداد الرأى . وفى وصف كبرياء الثروة، ونزوات " الإقطاع " و " رأس المال" تسمع قوله تعالى: ( إن الإنسان ليطغى ، أن رآه استغنى ، إن إلى ربك الرجعى) . وفى وصف ما يفيض به المجتمع المترف من تحقير للآخرين وتتبع لمثالبهم نقرأ قوله تعالى: (ويل لكل همزة لمزة ، الذي جمع مالا وعدده ، يحسب أن ماله أخلده) . وكبرياء السلطة تشبه كبرياء الثروة، وغايتها التحكم فى إرادة الآخرين وتصريفها وفق مشيئة القوى المتغلب لا وفق اتجاه أصحابه . (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم) . ونشوة هذا السلطان هى التى جعلت الشاعر العربى يقول : ص _052(1/36)
ترى الناس إن سرنا يسيرون حولنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا لم هذه السيطرة ؟ وبم يملك إنسان زمام الآخرين على هذا النحو ؟ إن تحرير الإرادة الإنسانية من هذه الأغلال ركن خطير فى كل صلاح . وهو من الناحية الأدبية يتمم الكرامة المادية التى تنشأ عن كسر كبرياء الثروة، وتوفير الضرورات لعباد الله على سواء . * * * وفى تاريخ البشر صورة بشعة لمظالم محزنة أوقعها الواجدون الفاسدون حتى إن التشاؤم جعل أبا الطيب يقول : والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلةٍ لا يظلم . . وسواء كان من شيم النفوس، أو عارضا لها من سوء توزيع الثروة، وضعف الرقابة العامة على ذوى السلطة، فإن الظلم قبيح. وقد جاهدت الإنسانية جهادا طويلا ؛ لتنجو من قبضته، وتسلم من وطأته، والإسلام حارب الظلم بوسيلتين . الأولى: تحريم الاستكانة له، وشحذ الهمم لمقاومته، ورفض الاستسلام لقيوده، أو الركون لأصحابه . والثانية: إرهاب الظالمين ابتداء حتى لا يقع منهم هذا الشر الذى تسود له وجه الحياة وتضيق به أفئدة الناس . وأساس ما قلناه، أن الإسلام يعتبر الظلم وصفا لشخصين : من يجور على غيره . ص _053(1/37)
ومن يقبل الضيم فى نفسه . نعم من يقبل الدنية فى دينه ودنياه ظالم، وفى هذا يقول القرآن الكريم : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض) . (وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين) . (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) . فى هذه الآيات تحريض على دفع العدوان، واعتبار الرضى به ظلما . ومن ثم لا يجوز السكوت على ظلم، ولا ممالأة أصحابه فى قليل أو كثير، وإلا فالذليل شخص ظالم . أما الوصف الآخر فيبوء به من يوقع العدوان، ويستمرئ الطغيان . . وفى هؤلاء يقول الله جل شأنه: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) . (وإن الظالمين لهم عذاب أليم) . (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) . ص _054(1/38)
حرية القول أفاد العالم فى صراعه مع المستبدين تجارب كثيرة . وهى تجارب لا تبرح ذاكرته ولا يجيء من الحوادث إلا ما يثبتها . من ذلك حرية الكلام! فإن الطغاة لا يستريح بالهم إلا إذا كمموا الأفواه، ومضوا فى طريقهم لا يسمعون همسا . وحرية الكلام التى يكرهها الحكام الظالمون، ليست حرية اللغو والتسلية ؛ ولا حرية الهذر والغناء..!! فإن هذا اللون من الكلام قد يعجبهم، لأن مآسيهم تنطلق فى مجراها دون عائق منه . ولكن حرية الكلام التى ينشدها المصلحون، ويكرهها الطاغون، هى حرية النقد البناء، وحرية النصح والتقويم، وحرية مقاومة الحجة بالحجة لا بالعصا، أو السيف . والإسلام دين شديد الوضوح نما تفاصيله لهذه الحرية، وفى تحديد موقفه منها، فهو ينظر إلى حرية النقد والنصح، لا على أنها حق مباح لكل إنسان يأخذه إذا أحب ويتركه إذا أحب " لا " الأمر فى نظر الإسلام أجل . إن الكلام- والحالة هذه- واجب لا مباح ... وفرض حتم على المسلم ألا يدع الخطأ يمر وهو صامت، لابد من تعقبه بما يبقى على الصواب حرمته، وعلى الحقيقة كرامتها . نقد الخطأ واجب، وإسداء النصح للمخطئين واجب . ص _055(1/39)
وعلى المجتمع كله أن ينهض بهذا الواجب لا لشىء إلا لأن الحق ينبغى أن يحيا ويبقى، وأن الصواب ينبغى أن يظهر ويشتهر . قال تعالى: (والعصر ، إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة" (البخارى) . وقاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تقوم على هذا الأساس المكين، وهى الشارة التى ميزت الأمة الإسلامية، وبها استحقت أن تكون خير أمة أخرجت للناس. وكلمة الحق تنبثق مع نبع اليقين . فإذا كان اليقين فى قلب المسلم زخارا فوارا جاش بالقول الواجب في كل مجال، فأمر ونهى ونصح ونقد . وكلما وهى هذا اليقين ضعف الصوت وخفتت النبرة حتى تستحيل جمجمة مبهمة.. على أن الحمية للحق لا تموت فى قلب مسلم . ربما سكت أو أسكت فى ظروف تمر به، لكن قلبه يظل مستودعا للحقيقة التى احتبست دون الظهور . ومن ثم يحدد موقفه بقلبه إذا عجز عن تحديده بمشاعره الأخرى . وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " (البخارى) . وحق القول ـ كما أوضحنا ـ يكشف عن حكم الإسلام فى جانب من حرية الكلام والتعبير . أما الجانب الآخر من هذه الحرية- وهو حق كل امرئ أن يتحدث، أو يكتب ما يعن له - فإن الإسلام له فيه بيان شاف . . ص _056(1/40)
إنه يكره الثرثرة الفارغة، التى قد تخلو- ظاهرا- من ضرر ملحوظ . يكفى أنها شغلت صاحبها وشغلت الناس معه عن الجد والمصلحة: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) . فإذا كان الكلام ينطوى على إساءات ومطاعن، فهو محرم، وليس صاحبه حرا فى التفوه به (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى) . (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) . والمحزن أن مفهوم حرية التعبير شاع مقلوبا فى أذهان عدد كثيف من حملة الأقلام فظنه لا يعدو إرسال الكلام على عواهنه، وتسويد الصفحات بضروب من الهذر تضر ولا تنفع . . وكأن الشيطان ركب رءوس هؤلاء القوم ووجد فى أقلامهم متنفسه، فلا ترى فيها إلا كل ما حظره الإيمان من الوقيعة والنميمة، والغيبة والتجسس والشماتة . وهذا إلى جانب صرف النفوس عن الجادة وإغرائها بالمتالف والمزالق، وصدها عن الحق والفضيلة والشرف . ولا يمكن عد هذا المسلك من حرية الكلام والتعبير بل هو من حرية الفسوق والتدمير، وعلى الأمم كلها أن تحذر عقباه، وأن تخشى جزاه . ص _057(1/41)
حرية الاعتقاد وهى حرية تعب العالم كثيرا فى تقريرها، ولم نشعر نحن المسلمين بضراوة الصراع الذى دار من أجلها . لأننا توارثناها جيلا عن جيل، وتلقيناها فى تعاليم ديننا وتقاليد أسلافنا حقيقة لا تحتمل لغطا، أو جدلا . يرفض الإسلام رفضا حاسما إكراه أحد على الدخول فيه . وخطته الفذة أن يشرح منهجه، وأن يتلو كتابه، وأن يدع الناس بعد هذا البيان أتم ما يكونون حرية فى أخذه، أو تركه . (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا * وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا * قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) . نعم، آمنوا إذا شئتم . أو ابقوا على إنكاركم له وكفركم به إذا شئتم . لن يجبركم أحد على اعتناق ما تكرهون . . إن الوسيلة الوحيدة للإيمان المنشود هى المعرفة الحرة والاقتناع المجرد والخشوع بعد ذلك عن عاطفة جياشة بالصدق والإخلاص . ولذلك يقول مباشرة بعد (آمنوا به أو لا تؤمنوا…) : (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) . ص _058(1/42)
أفهمت أيها القارئ ؟ الإسلام ما قام يوما، ولن يقوم أبدا على إكراه . لأنه واثق من شىء واحد... من نفاسة تعاليمه وجودة شرائعه . كل ما يبتغى من الناس أن يجد مكانا فى السوق العامة يعرض فيه ما لديه على العيون المتطلعة، والبصائر الناقدة . فإذا لم تكن جودة الشىء هى التى تغرى بالإقبال عليه وقبوله فلا كان قبول ولا كان إقبال..! وهذا سر قانونه الوثيق: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) . وفى عراك الأحياء على ظهر هذه الأرض لشتى الأسباب قد يُجر الإسلام جرا لقتال لم يشعل ناره . أتظنه إذا انتصر فى هذا القتال، وأمكنته الفرص من وضع الأغلال فى أعناق عبدة الأصنام أتظنه يفعل ذلك، ويلزمهم بترك شركهم واعتناق عقيدة التوحيد؟؟ لا.. يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) . إنه لم يقل له: فإذا سمع كلام الله فمره فليترك دينه الخرافى وليتبع دينك الحق.. لا.. أطلق سراحه، ورده آمنا إلى وطنه . فإذا أحب أن يدخل فى الإسلام بعدُ جاءت به قدماه إليك طائعا لا كارها . ص _059(1/43)
ولم ذلك الإرجاء والترك ؟ (ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) فيجب إذا أن يطاولُوا حتى يعلموا، فإذا علموا الدين، فسوف يدخلونه ... وعندما كانت الحروب الدينية تفتك بأرجاء العالم. وتعتبر إرادات الناس صفرا، وتعتبر إدخال الناس فى دين ما بالعنف والقسر كسبا . فى هذه الأوقات العصبية كان الناس يقرءون من آيات الحرية فى كتب الفقه الإسلامى ما يستثير الدهشة . قال الدكتور محمد يوسف موسى: " وكذلك نرى من عناية الإسلام بالحرية، وقدرها حق قدرها أن الفقهاء يقولون: إذا وجد صبى غير معروف نسبه مع مسلم وكافر، فقال الكافر: هو ابنى. وقال المسلم: هو عبدى، يحكم بحريته وبنوته للكافر " (الإسلام وحاجة الإنسانية إليه) . وذلك لأنه بهذا الحكم ينال الحرية حالا. وسوف ينال الإسلام فيما بعد حين يكبر ويفهم الدلائل على وجود الله، وعلى بعثة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بخير الأديان وأكملها . تلك هى أحكام الفقه الإسلامى فى الكتب "الصفراء" التى ورثناها نحن عن القرون الوسطى . فماذا يفعل رواد المدنية الحديثة ؟ وما هى الأساليب المتبعة فى سرقة عقائد المرضى والمعوزين واللقطاء والسذج . . ؟ إذا كان الإسلام يعاب بشىء فهى المثالية الغريبة فى تقرير حرية الاعتقاد إذ إنه يتشبث بهذه الحرية المطلقة فى عالم مشحون بأنواع الفتن والاضطهاد . وقد أصيب أتباعه بضر شديد من حدة هذا التعصب . ومع ذلك فإن مبدأ المعاملة بالمثل لم يدخل فى سياسته العامة، ولم ينتقص أطراف الحرية الواسعة التى رسمها للدخول فيه . . ص _060(1/44)
وقد حاول السلطان العثمانى سليم الأول أن يوحد الدين فى مصر، وأن يكره الآخرين على الدخول فى الإسلام . ولعل ذلك كان ردا سياسيا على توحيد الدين فى إسبانيا (الأندلس) واستئصال شأفة الإسلام من أرضها . لكن شيخ الإسلام رفض هذا العمل، وأبى إلا أن تكون حرية الاعتقاد على منهجها الإسلامى السمح مهما صنع الآخرون . وكل ما نرجو ألا يصاب المسلمون بالشر من احترامهم البالغ لحرية الاعتقاد، ومن وفائهم الظاهر لتعاليم دينهم فى هذا الميدان المعقد . ص _061
التحرر من العوز هذا حق للإنسان، وصل إلى تقريره على ضوء ما وعته ذاكرته من مآسى الحاجة، ومتاعب الفقر ! وللإنسان أن يحيط نفسه بالضمانات التى تقيه ما يحذر من شرور، وأن يتعلم من ماضيه ما يصون حاضره ومستقبله ! وليته يتزود من ألوان المعرفة ما يبلغ به اليقين فى شئونه جميعا . والإسلام يحرر الإنسان من الفقر البغيض بطرائق شتى . أولها: تمكينه من العمل الذى يسره الله له، فهذا أس حياته، ومصدر منافعه، ومجلى خلافته فى الأرض !! إن الله بين للناس أنه خلق هذه الأرض لهم ؛ كى يستثيروها ويستخرجوا الخيرات الوفيرة منها، ثم يستمتعوا بها !! (والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا) . (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) . (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله) . (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش) . ص _062(1/45)
والقرآن الكريم مشحون بالآيات التى تشرح للإنسان أطراف سلطانه الواسع، ومصادر ثرائه العظيم، فمن الذى يحول بينه وبين الغنى؟ أول أسباب الغنى، وأول مفاتح القوة، وأول عناصر الغلب، أن يضع الناس أيديهم على ما هيأته الأقدار لهم من أرزاق وبركات مبثوثة بين أيديهم ومن خلفهم . وسيكون العوز نصيبا حتما لمن عمى عن هذه الكنوز، أو عجز عن الإفادة منها . طريق الثروة يبدأ من إيجاد الصلة بين خصائص الإنسان وطبيعة هذا الكون، فإذا تمهدت تلك الصلة انفتحت أبواب الخير . وعلى الأفراد والجماعات أن يتعاونوا على إيجاد تلك الصلة التى لابد منها . ولا يقبل من أحد أن يرى نفسه فقيرا، وأن يمد يده سائلا، وهو يستطيع أن يجد أى عمل، أو يستغل أى شىء . وإذا كان من المستغرب أن يتسول رجل قوى فى بيئة تتطلب العاملين، فأشد غرابة أن توجد فى الشرق أمم بأسرها تطلب الإعانات من الآخرين وتحت أقدامها من ينابيع الثروة ما يمحو المتربة، ويحقق الرخاء . ولكن فقر الهمم وأزمة الخلق يجران الفقر والأزمة فى الأموال والأحوال كلها . إن الإسلام يعتبر هذا الفقر- فقر الكسل والغباء- رذيلة، ويعتبر التسول الذى ينشأ عنه جريمة . وتأمل فى هذه الأحاديث المروية عن رسول الل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لتستيقن ما قلنا : " اليد العليا خير من اليد السفلى ؛ العليا هى المنفقة والسفلى هى السائلة " (البخارى) . " الأيدى ثلاثة فيد الله العليا، ويد المعطى التى تليها، ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة، فاستعف عن السؤال، وعن المسألة ما استطعت " (الحاكم) . " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس فى وجهه مُزعة لحم " (البخارى) . ص _063(1/46)
" من سأل مسألة وهو عنها غنى كانت شيئا فى وجهه يوم القيامة "(أحمد). وانظر فى القصة الآتية: روى أنس بن مالك أن رجلا من الأنصار أتى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسأله صدقة. فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أما فى بيتك شىء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه، وقعب نشرب فيه الماء ! قال: ائتنى بهما، فأخذهما الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده، وقال: من يشترى هذين؟- قال رجل: أنا آخذهما بدرهم ! قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من يزيد على درهم؟ وكررها مرتين أو ثلاثا.. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين . فأعطاهما الأنصارى، وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فائتنى به . فأتاه به، فشد فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عودا بيده، ثم قال: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما . . ثم قال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هذا خير من أن تجيء المسألة نكتة فى وجهك يوم القيامة !! إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث: " لذى فقر مدقع، أو لذى غرم مفظع، أو لذى دم موجع " (أبو داود) . هذا رجل لا يملك فى بيته إلا أثاثا تافها زريا، ومع ذلك فقد أمر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببيعه فى مزايدة سافرة ! وجعل من ثمنه رأس مال لعامل يشتغل بفأسه ويكسب من ذلك رزقه ورزق أهله، وحرم عليه السؤال . فما يكون حكم هذا النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى أمم تسكن أرضا عامرة بالدفائن والنفائس، ومع ذلك فهى تنتعل التراب فوقها، وتمد يدها هنا، أو هناك تنشد المعونات ..؟؟ ص _064(1/47)
إن التحرر من العوز يقوم قبل كل شىء على ربط الجهد الإنسانى بموارد الطبيعة الميسرة والمعسرة . ومهما تطلب هذا الربط من عناء، فهو رسالة الفرد والدولة جميعا، ولابد من فتق وجوه الحيلة لإقراره . واكتساب المال من وجوه الأعمال المختلفة، يحفر آثارا بعيدة الغور فى أخلاق الناس، وعلاقاتهم العامة، وأواصرهم الاجتماعية، وأحوالهم السياسية .. ولا يمكن بتة تجاهل ما للظروف الاقتصادية من نتائج نفسية مهمة .. والإسلام دين يتغلغل فى شئون الحياة ؛ لأنه يتصل بالإنسان فى صميمه . فكيف يغفل عن أمس القضايا به، وألصقها بضرورات بدنه، وأغوار روحه..؟؟ لذلك تضمن الإسلام طائفة من القواعد والنصوص التى توضح سياسته الاقتصادية، وترسم الدائرة التى ينبغى أن يعيش البشر داخل أقطارها. ويمكن- بإجمال- وصف الاقتصاد الإسلامى بأنه موجه لخدمة المثل العليا التى حفل بها، وحدا العالم كله إليها.. ومعنى هذا أن للمال وظيفة اجتماعية رفيعة لا يجوز أن ينفك عنها أبدا، ولا يسمح لطبائع الأثرة أن تمسخ هذه الوظيفة، أو تحجب نفعها العام.. وللدولة أن تقيم الأوضاع على هدى المبادئ والأفكار التالية : ( أ ) حق الله فى المال أسبق من حق الفرد الذى اكتسبه، والهيئة الاجتماعية هى التى تمثل التصرف فى هذا الحق الأعلى . وأساس هذا قول الله جل شأنه : (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) . (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) . ص _065(1/48)
(ب) تكدس المال فى ناحية من المجتمع لا يجوز، لأن هذا يحدث خللا فى الميزان الاجتماعى والخلقى . وينبغى المحافظة على بقاء التوازن العام . وهذا مبدأ "إدالة الثروة" المأخوذ من قوله تعالى: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) . (جـ) الإخاء نظام اجتماعى، فلا يسمح بظهور فوارق شديدة تجعل الأمة الواحدة طبقات شتى يكون الإخاء بينها صورة مزعومة لا حقيقة قائمة، ويمنع كل تفاوت مالى يؤدى إلى ذلك . (د) العمل أساس الكسب والتقدم، وإذا كانت هناك ظروف محدودة يأكل فيها امرؤ من غير جهد ظاهر- كبعض الورثة مثلا- فلا يجوز أن يشيع هذا الشذوذ فى المجتمع حتى لا تستقر البطالة فى بعض الطوائف . (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون) . " من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه " (مسلم) . (هـ) الكسب الحلال وحده هو الذى يحترم ويبقى، أما غيره فيصادر لحساب أصحابه الأصلاء، أو لحساب الجماعة إن وجد لظروف غير طبيعية . (و) الربا ممنوع، والاحتكار ممنوع، والاستغلال المريب ممنوع. (ز) الأساس فى الأرض التى تزرع أنها لا تملك إلا من وجه مشروع، وأنها تبقى فى يد من يفلحها لا من يهملها، ففى الحديث عن عائشة رضى الله عنها: "العباد عباد الله، والبلاد بلاد الله " (أبو داود) : وقال تعالى : (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) . ص _066(1/49)
وتوريث الأرض- يعنى تمليكها- إنما يكون لمن يستطيع عمارتها وزراعتها ونفع الأمة بثمراتها، فهو أولى بها من المتبطلين والقاعدين . (ح) الإسلام طلب فضائل معينة، وحظر رذائل معينة، فكل ما يعين على إحراز هذه الفضائل، وترك هذه الرذائل من وسائل مادية فيجب على الدولة أن تمهده، والجماعة مسئولة وجوبا عن تيسيره . (ط) للإسلام رسالة عالمية محددة الغايات وأداؤها يتطلب كذلك أن تشرف الدولة على الأداة الاقتصادية العامة، أو على القليل تتدخل فى إنتاجها، أو نتائجها، بما يكفل لها أداء هذه الرسالة . ولعل هذه المبادئ تكشف عن الخطوط الأساسية التى يرسمها الإسلام لأوضاع أمته المالية ... رأيت أولا: كيف حض الإسلام على الاكتساب وطلب الرزق. ثم كيف وضع النشاط الإنسانى فى ميدان الاقتصاد تحت رقابته ليصون الحق ويبطل الجور. ومع هذين الأمرين قد يتعرض طوائف من الناس لمتاعب العيلة، وطوارئ العجز . وليس يوجد فى الدنيا نظام آلى يمنع البأساء والضراء من إصابة القليل أو الكثير من الخلق فى أيام الحرب أو أيام السلم على السواء . وهنا نجد الإسلام سد الثغرات التى تتوقع، فأمر القادرين أن يحملوا العاجزين فورا، وأن يبلغوا فى النفقة الحد الأدنى الذى يشفى العلة، ويحسم الألم . . (…ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ، في الدنيا والآخرة) . ص _067(1/50)
والعفو ما هو؟ قيل: ما يفضل عن النفقة الخاصة للرجل وأسرته، وقيل: هو أحل المال وأطيبه . والمراد على الحالين: إسعاف المحتاجين بما يصلح أحوالهم من المال الطيب لا من النفايات وسقط المتاع . وفى الحديث أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: " من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له " (مسلم) . قال راوى الحديث، فسلم عن أبى سعيد: فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لاحق لأحد منا فى الفضل، يعنى: ما زاد عن الحاجة . وآيات الإنفاق فى القرآن الكريم تربو على السبعين مما يجعل مشاعر البذل والسماحة لا تغيض ولا تنفد . والإسلام مع ما يرتبه على هذا الإنفاق من رحمة بالمحتاج وبر بالضعيف يذكر المنفقين بأن ثمرة هذا العطاء الموصول عائدة عليهم (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) . (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) . وهذا الجزاء فى الدنيا قبل الآخرة . ذلك أن انتفاء الأحقاد والعداوات من المجتمع المتكافل المتراحم خير عاجل يستريح فى ظله الأغنياء قبل الفقراء . ولا بأس أن نذكر هنا فتوى ابن حزم منقولة عن كتابه "المحلى" ونحن نسوقها هدية لمن يقولون: إن الدين مخدر للشعوب . قال ابن حزم: إن المسلم المحتاج يقاتل لسد حاجته، ولا يباح له أكل الميتة مادام هناك فضل طعام عند مسلم، أو ذمى . ص _068
قال : فإن قتل فعلى قاتله القود والقصاص. وإن قتل المانع فإلى لعنة الله، لأنه منع حقا، وهو طائفة باغية (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) . ومانع الحق باغ على أخيه الذى له الحق ... هل هناك ضمانات للتحرر من العوز أوثق وأقوى مما قدم الإسلام ؟ ص _069(1/51)
التحرر من الخوف تطلع الإنسان إلى هذا الحق وطالب به فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم أصبح- بعدُ - أحد الأسس التى قامت عليها هيئة الأمم المتحدة، ومجلسها الشهير، مجلس الأمن ؟ والفكرة نبيلة... لماذا لا تسود الطمأنينة أرجاء الأرض ؟ ولماذا لا يختفى الإرهاب والترويع والاعتداء من العلاقات الدولية ؟ وإذا كان أحدنا يجوب شوارع المدينة نهارا، ثم يأوى إلى بيته ليلا، وهو فى تطوافه وهجوعه لا يحمل سلاحا ولا يخشى هجوما ؟ لأن يقظة الدولة وسيطرة القانون يبثان الأمان فى كل مكان، فلماذا لا تكون أقطار العالم على هذا النحو ؟ لا تخاف أمة عدوان أمة، ولا توجل دولة صغرى من دولة كبرى، ولا يخشى جنس ملون من جنس أبيض البشرة ؟؟ إن هذا حلم جميل ! وحبذا لو تعاونت الأسرة الإنسانية على تحقيقه، وعاشت قريرة العين فى ظلاله . والإسلام يود لو امتلأ وجه الأرض بهذا الأمان المبذول والاستقرار المكفول. ولكن هل تنكسر حدة الغرائز الشرسة، ويستحيي ألوف الناس من التعاون على الإثم والعدوان ؟؟ أيا ما كان الأمر فالتحرر من الخوف هدف إسلامى أصيل . إن الجو العامر بالثقة والتفاهم هو الجو الذى يستطيع أن يحيا فيه هذا الدين وينتعش . ص _070(1/52)
وهو الجو الذى يريد أن يوفره للآخرين مهما اختلف معهم على مبدأ، أو ابتعد عنهم فى تفكير...!! الإسلام فى امتداده يرفض الضغط على العقل، أو الضغط على الإرادة، فأما رفضه الضغط على العقل، فلأنه يبنى الإيمان على الحرية الفكرية المطلقة ولا يلجأ إلى الخوارق التى تقهر قوى العقل ؛ لتثبت اليقين فى رأس إنسان . وعندما طلب عبدة الأصنام معجزة خارقة على وجود الله وصدق الرسالة نزل قوله تعالى: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ، ……أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ، إن في ذلك لآية …) . من آيات النظر فى الكون يتكون الإيمان الحق . وما ينبغى لمن يحترم عقله أن يؤمن بسياط الخوارق القاهرة . إن احترام المسلمين للإيمان العقلى جعلهم يتناقشون: هل لإيمان المقلدين قيمة؟ وهل يغنى عن أصحابه يوم الجزاء ؟ وكما رفض الإسلام الضغط على الفكر ؛ ليؤمن، رفض الضغط على الإرادة؛ لتذعن.. فنية الخير وحدها موضع الاعتبار، وقد شرحنا هذا المعنى آنفا فى حرية الاعتقاد . ونخلص من هذا التقديم لنقول: إن الإسلام لا يعرف الحروب الدينية، ولا يشن هجوما ألبتة لنشر مبادئه، وإدخال الناس فى تعاليمه . إن منطقه الأول والأخير هو الإقناع، والاقتناع فى جو تسود أكنافه الطمأنينة المطلقة !!! والإسلام يقاتل فى حالتين : * أن يرد عدوان المتحرشين به بغية اجتياحه، وبعثرة أهله وإذلالهم . ص _071(1/53)
* وأن يسعف الإنسانية المصابة فى بلد ما نتيجه الطغيان والظلم . وهو لا يقبل إذا انتصر- فى كلتا الحالتين- أن يفرض نفسه على شخصين، أو على بلد . إنه يكتفى بكسر المعتدين، ثم يتركهم وعقائدهم التى يؤثرونها . * * * هل تعتبر متعنتا إذا سالمت من يسالمك، وحاربت من يحاربك ؟؟ هل تعتبر متجنيا إذا ابتسمت لمن يكف يده عنك، وتجهمت وانقبضت عمن يؤذيك ؟؟ القرآن يقول: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ……إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم) . أجل فمن حقى أن أقاطع من يزعجنى، كما أن من حقى أن أصادق من لا يرى إساءتى.. فأى نكر فى هذه المبادئ ؟ * * * مع بعد الشقة بين الإسلام والوثنية، فإن الإسلام لم يحارب هذه الديانة المخرفة بل قال لأهلها: (لكم دينكم و لي دين) . ثم قاتل- بعدُ- لا ليسحق هذه الوثنية، بل ليكسر طغيانها الذى طال وزاد !! ولم يحارب الإسلام اليهودية، بل قاتل عصاباتها التى هاجمته . فلما انكسرت شوكتها، وجردت من أسلحتها عاش اليهود أفرادا آمنين وافرين. ومات نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند تاجر منهم لا يخشى على نفسه، ولا على ماله، ولا على جاهه شيئا . هذه الطبيعة الإسلامية متغلغلة إلى يوم الناس هذا فى دمائنا . ص _072(1/54)
فمع البلاء العنيف الذى أوقعه اليهود بغرب فلسطين، لم نفكر نحن فى محاربة اليهودية، ولا أعلنا الهجوم على هذه العقيدة فى أى بلد إسلامى! بل فصلنا بين النحلة وأصحابها . وقلنا: إننا نحارب الصهيونيين الذين يبرأ منهم موسى عليه الصلاة والسلام، وتبرأ منهم التوراة..!! نعم، فموسى عليه الصلاة والسلام فى نظرنا أخ لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو صاحب كتاب نزل من السماء، نؤمن به، ونقرأ فى قرآننا الثناء عليه: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) . والغريب أننا لم نحد عن هذه الخطة برغم الاستفزاز المتكرر الذى يثير الحفائظ، ففرنسا فى الجزائر تصر على إشعال حرب يكتنفها التعصب من كل ناحية، ولم يشعر الجنرال ديجول بأي حرج وهو يتحدث عن ضرورة المضى فى مقاتلة تسعة "ملايين" مسلم فى الجزائر...!!! (كان هذا قبل أن تنال الجزائر استقلالها عام 1962 م) . . إن الأحقاد القديمة لم تبرد حدتها فى دمه على مر العصور... ورفضنا نحن إلا اعتبارها حربا من المستعمرين الفرنسيين ضدنا. وباعدنا كل صلة بين تعاليم النصرانية وبينها. لأن الحرب الدينية ليست مما نألف. لا فى طبائعنا، ولا فى مواريثنا، ولا فى مستقبلنا على سواء ... ومن أسمج ما روته الأنباء أن يتحدث رئيس حكومة جنوب إفريقيا عن الاضطهاد العنصرى فى بلاده فيزعم أن حكومته نصرانية، وأنه يتبع سياسة التفرقة ؛ ليغلق الأبواب- مستقبلا- فى وجه البربرية والإسلام !!! ص _073(1/55)
أترى هذا الشر المضاعف ؟؟ هب أن قوة ما أمكنها أن تذهب إلى هذه البلاد، وأن تحرر السود المضطهدين فيها، أتسمى هذه القوة الزاحفة معتدية على النصرانية، أم أن الوصف الحقيقى لها، أنها أنقذت الإنسانية والنصرانية معا من سفاهة بعض الناس؟ الحق أن المسلمين الأقدمين لما حاربوا الدولة الرومانية ما كانوا يحاربون النصرانية نفسها، ويوم انتصروا على هذه الدولة ما مسوا حرية الاعتقاد قط . لقد اكتفوا أن يهزموا القوة الجائرة، وأن يفكوا قيودها عن الجماهير المغلوبة ولا يجوز أن نسأل لماذا انطلق العرب من جزيرتهم إلى شمال أفريقية فاتحين؟ دون أن تسأل ولماذا جاء الرومان من قبل إلى هذه الأقطار مستعمرين غاصبين؟؟ إن أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يفعلوا بالرومان أكثر مما تفعله رجال الشرطة بناشرى الفوضى بين الناس . وليت مجلس الأمن فى هذه الأيام العجاف يظفر بنفر من هذا الطراز العالى للعرب الأولين . إن حق التحرر من الخوف تمتلكه للفور ألوف مؤلفة من المستضعفين والمستباحين فى شتى أنحاء الأرض . * * * ثم ما الذى يمنع أن ننسى الماضى كله ؟ إن الأديان جميعا لم تنج من أناس أساءوا إلى روحها العالى، وسخروها لأهوائهم الخاصة . ولا ثمرة ترجى من التلاوم على ما فات، فما الذى يمنع من بناء العالم على أسس جديدة تنشر الطمأنينة فى شرقه وغربه ..؟ ص _074
إننا نحب السلام، ونرغب فى تأمين غد وديع رقيق لأبنائنا وبناتنا . لكن هل يمكن توطيد السلام مع بقاء الاستعمار ؟ ومع تجاهل حقوق الإنسان ؟ ومع رفض تقرير المصير ؟ ومع تكريس جهود هائلة عابثة لمحو رسالة الإسلام، والضن على أهله بحق الحياة ؟ إننا شديدو الحرص على توطيد التحرر من الخوف . ونريد من غيرنا أن يتعاون معنا فى هذه الطريق . ص _075
الإيمان ميلاد جديد لحياة الإنسان ص _077(1/56)
الإيمان شىء فوق ما يتصور كثير من الناس ... إنه ليس رأيا فى شخص من الأشخاص، أو حكما فى قضية من القضايا، أو اعتناقا نظريا لفلسفة من الفلسفات، أو اصطباغا نفسيا بلون من ألوان الفن ... إنه تعامل حاد خطير بين طرفين أحدهما الحى القيوم، وعلاقة تشد المرء من أخفى أغواره، وأبرز أحواله إلى من نشأه من عدم ورباه من ضياع . . وكما يلتحق العاطل بوظيفة جديدة تستغرق أوقاته، وتصون حاضره ومستقبله يلتحق الإنسان بركب الإيمان ؛ فيصبح ويمسى وهو مشغول بواجبات وضعه الجديد، ووسائل قيامه به ونجاحه فيه . وقد بين الكتاب العزيز أن الناس قبل دعوة الله أشباه موتى، وأن انقيادهم للمرسلين مشرق فجر جديد فى أنفسهم وأفكارهم وأخلاقهم ومسالكهم ... قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) . إن الحياة الحقيقية ليست صورة اللحم والدم، ولا اكتناز العضلات وقوة الحركات كلا، فتلك حياة يشترك فيها البشر والسباع والدواب والزواحف، بل لعل حظوظ الأنعام منها أوفر . الحياة الحقيقية هى هذه الصلة التى تنشأ مع الله بعد معرفته . هى هذا الانتظام الجديد مع أوامر الله ونواهيه بعد أن أعلن اللسان هذه البداية بقوله : (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا . .) . ص _078(1/57)
أجل مع هذا الإقرار السمح، لا يبطئ المؤمن فى الانتقال إلى عالمه الجديد، حيث يسلم وجهه لله وحده، ويتحرك فوق ظهر هذه الأرض وفق ما يطلب منه مولاه . فهو محكوم فى امتداده وانكماشه وحبه وبغضه وسلمه وحربه بحدود الحلال والحرام والثواب والعقاب. وطلب الزلفى من ربه، والوجل من طرده ... هذا الإيمان ينشئ حياة جديدة كل الجدة ..! إننا نعد الزنجى التائه فى مجاهل أفريقية إنسانا متأخرا جدا بالنسبة إلى زميله عالم الذرة فى أرقى البيئات . ففكرة أحدهما عن الكون والحياة تغاير كل المغايرة فكرة الآخر، ولا شك أن مسافة التخلف بين هذا وذاك بعيدة . إن هذا البعد يساوى كذلك مسافة التخلف بين امرئ يعرف الله وآخر يجهله . . إن ذلك المرء الغافل عن ربه- مهما ارتقى وضعه المادى- حيوان ضائع ... ربما كان حيوانا ذكيا فى بعض الأمور، بيد أن جهله بالله هوى به إلى أسفل سافلين، فهو ليس متأخرا فقط، إنه ميت ولو حلق فى أجواء الفضاء . . إن الجهل بالله ظلمة كالحة السواد شديدة الوحشة ولذلك يقول الله : (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) . والفارق بين المؤمن والكافر يتضح من هذا الوصف الذى قررته الآية فللمؤمن نوره الذى يمشى به بين الناس . . ترى ما هذا النور النابع من حياة الإيمان ؟ إنه نور الضمير المشع فى حناياه يعرف به الخير من الشر، ويميز المعروف من المنكر . . وهل يرجح الإيمان ويستحق التكريم إلا بهذه الميزة ؟ ص _079(1/58)
المقطوعون عن الله لا تلفتهم إلا الحياة الدنيا ومآربهم منها، وما يتورعون عن قتل ولا ختل، ولا إفك ولا غش ، أما الموصولون بالله فهم طلاب كمال وعدل، وعفاف وتقوى . وما تنتشر البركة فى الأرض والطمأنينة فى المجتمع إلا فى ظلال هذا الإيمان، الذى يشق طريقه فى ضمان السماء . (وما يستوي الأعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، وما يستوي الأحياء ولا الأموات) . أجل إن الإيمان حياة، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم عمل الإيمان فى الأنفس بعمل المطر فى الأرض: " مثل ما بعثنى الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير... إلخ " . وهل سمى الوحى روحا إلا لأنه يحيى القلوب الميتة، ويبصر الضمائر الضريرة ؟. إن فيصل التفرقة بين الإيمان الصحيح والإيمان المزيف، أن الأول يولد به المرء ولادة جديدة، ويحيا به حياة رشيدة، أما الآخر فلا يصنع شيئا . ... الأول يتحول قوة دافعة إلى فعل الخير ونصرة الحق كما يتحول الوقود فى الآلة إلى حركة دوارة، أما الآخر فصفر . ... الأول يعيد تشكيل الكيان الإنسانى على نحو يجعل المرء تابعا لله فى هذه الدنيا، فهو باسمه يصول، وباسمه ينطلق، أما الآخر، فالإنسان تابع هواه وحسب..!! وإذا كانت الدول تكافح تزييف النقد المتداول بين الناس ضبطا لقيم الأشياء، وحربا على البطالين والسراق، فما أحرانا بمطاردة الإيمان المزيف حتى تبقى لليقين الصحيح قيمته وآثاره ومنافعه المادية والأدبية … ص _080(1/59)
ولو عقلنا لعرفنا أن الحفاظ على صحة الإيمان أهم من الحفاظ على سلامة الذهب والفضة وما يمثلهما من أوراق … ولنسرد من كتاب الله الكريم بعض الدلائل التى تشرح ما نقول : فى الحياة التى ينشئها الإيمان لا مكان للشك وللريبة مهما أظلم الجو واربد الأفق.. بل يجب على أهل الإيمان أن يتماسكوا ويصبروا : (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) . ومواقف الإيمان ليست محصورة ولا محدودة فى مسلك واحد، فما تملى به أعباء الحق يجب الانقياد إليه مهما تغايرت الظروف . فبعض الناس قد يكلف بالانتقال هنا، أو هناك وبعضهم الآخر قد يكلف بالثبات فى مكانه والبذل من ماله : (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم) . ويستحيل فى ظل حياة يقيمها الإيمان أن يسير الخطأ دون نكير يلاحقه، أو يبقى العوج دون نصيح يطارده، وإن طال المدى وفدحت التكاليف . فشيمة المؤمنين- كى يتجنبوا الخسارة- التواصى بالحق والتواصى بالصبر . وقد يفرع بعض الناس من بطش الجبابرة فيستكينون، أو تغريهم طراوة العيش فيستلينون، بيد أن الإيمان الصحيح ينشد رضيً واحدا، ويقلق من غضب واحد: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) . وهناك من يشغله توطيد مكانته الخاصة عن أى أمر آخر، فهو يريد أن يستبى القلوب بكل ما أوتى من مواهب . ص _081(1/60)
وفى عصرنا هذا شاعت عبادة الفرد للجماهير وعبادة الجماهير للفرد . . أما أن يبصر الإنسان وجه الله فيما يعمل ويترك، ويتحرى ذاته فيما ينفق ويمسك فلا مكان لذلك فى نفسه . وهذا هو الرياء الذى يحبط الأعمال، ويكشف عن خراب القلوب من معنى الخير . قال الجنيد: لو أن عبدا أتى بافتقار آدم، وزهد عيسى، وجهد أيوب، وطاعة يحيى، واستقامة إدريس، وود الخليل، وخلق الحبيب، وكان فى قلبه ذرة لغير الله، فليس لله فيه حاجة ... والحق أن لصوق الرياء بقلب واستبداده به مهلكة للإيمان، وممحقة للمثوبة... إن الغيث ينزل بالأرض الخصبة، فيكشف عن صلاحيتها للنماء والخير، وينزل بالصخر فيكشف عن جفاف طبيعته وقسوتها وإقفارها.. وكذلك ضرب الله المثل للمرائى: (فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين) . إن الحياة التى ينشئها الإيمان تتسم بالإخلاص العميق والتجرد التام لله رب العالمين … ولنتجاوز هذه النماذج المتناثرة فى وصف الحياة التى ينشئها الإيمان ؛ لنقول : إن الإيمان عمل حاسم فى تحويل الغرائز والعواطف الإنسانية من وجهة إلى وجهة . . الإنسان العارى من أى صبغة دينية، أو مذهبية يجوع ويشبع، ويفرح ويحزن، ويغضب ويحلم، ويتكبر ويتواضع، ويحنو ويقسو، وييأس ويرجو.. إلى آخر ما يعترى الطبيعة البشرية البحتة من عوارض لا تخلو عنها أبدا . والإيمان المعزول عن هذه العوارض لا يثيرها ولا يسكنها إيمان مغشوش… ص _082(1/61)
وقد تحدث علماء التربية قديما عن ضرورة خوف الإنسان من الله ورجائه فيه وإنابته إليه واعتماده عليه.. إلى غير ذلك من أحوال نفسية فاضلة . وهذا حسن، لكنه تصوير جزئى للحقيقة المنشودة، أو تصوير جانبى للحياة التى ينصب الإيمان سرادقها الرحب . والقصور فى ذلك جاء نتيجة أفهام الناس، وما أحسبه مرادا لهؤلاء العلماء الكبار. إننا جميعا متفقون على أن الإيمان صبر وشكر، وخوف ورجاء. بيد أن بعضهم فهم أن هذه المشاعر يدخل بها الإيمان على النفس مع بقاء هذه النفس على طبيعتها العامة تخاف الله حينا وتخاف غيره حينا، وترجو الله حينا وترجو غيره حينا وهكذا . وليس ذلك هو المراد ولا هو تمام الإيمان وخلوصه من الشوائب . فالمؤمن فى تعامله مع الله وتوحيده له وإدراكه لأسمائه الحسنى وصفاته المحيطة، يبنى سلوكه فى الحياة على التفرغ الكامل لمولاه والارتباط المطلق به وحده والتجاهل لما عداه. وليس التوحيد أن نكفر بأصنام الحجارة ثم نجعل من المال صنما، أو الجاه صنما، أو المرأة صنما، أو الحاكم صنما، ثم نتوجه ببعض مشاعرنا أو كلها إلى هذه الأصنام الجديدة . فإذا أغلب النشاط الظاهر والباطن لها، وإذا أقله لله الصمد !! إننا بالملاحظة العابرة نحس أن كثيرا من الناس يبخسون الخالق من أحر عواطفهم، على حين يتجهون بهذه العواطف المشبوبة إلى غيره، فأى إيمان هذا؟؟ وهذا هو السر فى أن بعضهم يزعم أنه يرجو الله مثلا، فإذا فتشت فى سلوكه لم تجد لذلك الرجاء أثرا . ما بال دينك ترضى أن تدنسه وإن ثوبك مغسول من الدنس ! ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجرى على اليبس ص _083(1/62)
لقد انهارت حضارات دينية كثيرة ؛ لأن العنوان الذى عرفت به يغاير الحقيقة التى تحيا بها . ويوم يفلت زمام النفس الإنسانية من قيادة الإيمان الصاحى، ويقع فى يد الهوى الطائش فهيهات أن يغنى عنوان، أو تجوز خدعة.. إن المعصية تولد قوية غالبا ؛ لأن وراءها انفعالات عنيفة، فهل يراد أن يولد الإيمان ضعيفا ؛ لأنه واهى الصلة بالمشاعر الجياشة فى النفس الإنسانية ؟ إذا لم يكن الإيمان حياة عميقة الجذور فى أغوار الإنسان فهو إيمان معلول يحتاج إلى الطبيب كى يصح ويستقيم . فالتوكل على الله مثلا يجب أن يكون فى نفس المؤمن أرسخ من الاعتماد على السلطة فى نفس الجائر المستعلى . وإيثار الآخرة يجب أن يكون أقوى فى نفس المؤمن من اشتهاء العجلين للدنيا . وعلى ضوء هذا نفهم قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) . أما أن ترى الملحد أيقظ عقلا من المؤمن، وأرهف حسا، وأعلى همة، فهذا هو الإيمان المكذوب . إن المواهب الأدبية تتفتق بالإيمان كما تتفتق الأكمام عن أزهارها، وإن الإيمان ليخلق من الموت حياة حافلة بالقوة والنماء جديرة بالبقاء والاحترام … فى عصرنا الحاضر يظن كثير من الناس أن الدين علاقة خاصة بين الإنسان وربه، أو علاقة ما بين البشر وقوى الغيب التى لا تدركها الحواس . وتتمثل هذه العلاقة غالبا فى مراسم العبادة التى يقوم بها الفرد، ويصطبغ بها ضميره . ص _084(1/63)
لكن هذا الظن إن صح على إطلاقه فى بعض الديانات فهو غير صحيح بتة بالنسبة إلى الإسلام . فإن ديننا متسع الدائرة، متشعب التعاليم، وهو يتناول العلاقة بين الإنسان والله، وبين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والحياة كلها . أو تستطيع أن تقول: إن العلاقة بين الإنسان وربه، كما يشرحها الإسلام تتعدى الحياة الداخلية للنفس الإنسانية ؛ لتؤثر فى صلة المرء بغيره من الأشياء، فهو يتعامل مع هذه وتلك على هدى من ارتباطه بالله وولائه له واستمساكه بوصاياه وإخضاعه حركاته وسكناته لأمره ونهيه . والوحى الإلهى الذى يقوم عليه هذا الدين تعرض لشتى الشئون التى تلقى الإنسان من المهد إلى اللحد، وأوضح السلوك المناسب بإزائها . وبيانا لاتساع الدائرة التى يتحرك الإيمان داخل أقطارها، يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " الإيمان بضع وستون شعبة، أو بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " . وقد قرأت رسالة أحصت هذه الشعب واحدة واحدة وبلغت بها تسعا وسبعين شعبة جمعت معاقد الشريعة وأصول الأخلاق وأركان الدين، وما ينضم إليها من آداب ونوافل يبلغ الإسلام بها تمامه . والذى أرجحه أن العدد غير مقصود، وأن الشارع الحكيم إنما يريد إيقاظنا إلى أن طبيعة الإيمان الهيمنة على النفس والمجتمع والدولة.. أى: توجيه الحياة الخاصة والعامة على سواء وتسييرها باسم الله وفق مراده، بحيث يكون أمر الله ملحوظا فى البيت والشارع، بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والناس أجمعين، فلا تفلت وجهة للمسلم من قصد ص _085(1/64)
الله وإعلاء كلمته، ولا يفلت ميدان للحياة من الانطباع بصبغة الدين والاتساق مع مبادئه وأهدافه . ولا يهمنا أن تكون شعب الإيمان عددا لا مفهوم له، أو عددا له مفهومه، إنما الذى أوده أن نحسن ترتيب التعاليم الإسلامية ترتيبا تنازليا يشبه ترتيب الجهاز الوظائفى فى الدولة وتسلسل القيادات التى تلقى الأوامر وتتلقاها وتنهض بالواجبات والأعباء التى توكل إليها . إن الإيمان يشبه الكائن الحى، وهذا الكائن الحى تتماسك الحياة فيه مقرونة بأجهزة معينة . . فإذا أصيب المرء إصابة قاتلة فى دماغه، أو رئتيه، أو أمعائه، أو عموده الفقرى هلك ... وقد يصاب المرء فى أطرافه أو حواسه فلا يفقد أصل الحياة وإنما يعيش مشوه البدن، أو ناقص الأعضاء . . كذلك الإيمان فى كماله ونقصانه، وفى وجوده وفقدانه . . الإيمان الصحيح لابد أن يستوعب من العناصر ما يسيطر به سيطرة تامة ... * أولا: على النفس فى بواعثها وغاياتها . * ثانيا: على المجتمع فى معاملاته ونظمه . * ثالثا: على الحياة فى نشاطها العمرانى والاقتصادى فيوجه لخدمة الدين، وتمكين أصوله وفروعه وحياطة جوهره ومظهره . وأركان الإسلام تنتظم من الحقائق ما يملأ هذه الأرجاء جميعا . فالصلاة والصيام مثلا ركنان من الإيمان الشخصى.. والفرد مسئول بنفسه عن القيام بهما . ص _086(1/65)
وهما يوفران للنفس الإنسانية جوا رائعا من الصفاء والإخلاص والعفة والاستعلاء . . وإلى جانب هذين الركنين لابد من امتداد الإيمان إلى المجتمع ؛ ليصوغه فى قوالبه ويشكل البيئة العامة وفق مطالبه . وقد تكفل بهذا على سبيل المثال ركنان آخران هما: الجهاد فى سبيل الله، والحكم بما أنزل الله . وإنما وصفنا هذين الركنين بأنهما من الدعائم الاجتماعية للإسلام، لأن الفرد- وإن كان حامل التكليف بهما- إلا أنهما من وظائف المجتمع الأولى، فهو الذى ينظم عدة الجهاد ويرسم ميادينه، وهو أيضا الذى ينظم القضاء ويختار رجاله وينفذ أحكامه . وإذا كان الإسلام يعمر الفؤاد باليقين الباعث على العمل، والخلق العاصم من السقوط، وإذا كان يلف الحياة العامة بروابطه ويمسك زمامها بشرائعه، فهو مع هذين يفرض سلطانه على مصادر الثروة فى البر والبحر والخصب والجدب، ويجعل من الطاقة المادية للأمة وقودا يحركها لرسالتها الكبرى ومثلها العليا. وليس فى الدنيا نظام يستغنى عن هذه المصادر، أو يفرط فى استغلالها، إلا إذا كان يريد التلاشى والانتحار . وشعب الإيمان يمكن توزيعها على الأقسام التى بيناها سواء أكانت محصورة، أو غير محصورة. ونحب أن نذكر طائفة منها كما أحصاها الحافظ البيهقى فى كتابه الموسوم ب "شعب الإيمان" شارحين لها على ضوء ما ذكرنا : للحق حرمته التى تجعل المرء يغالى به ويدفع عنه ويستمسك به إلى آخر رمق . . والتعصب للحق أثر للإيمان الصحيح به . وهذه الشعبة من شعب الإيمان يضعها البيهقى تحت عنوان "شح المرء بدينه حتى يكون القذف فى النار أحب إليه من الكفر" ثم يسوق فى الاستشهاد لها حديث أنس بن مالك أن ص _087(1/66)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله . . وأن يلقى فى النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه.. ". وكذلك ما رواه مسلم: أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنما بين جبلين.. فأتى قومه فقال: أسلموا، فوالله إن محمدا ليعطى عطاء رجل لا يخاف الفاقة...!! لكن هل تألف القلوب بالعطاء سر دخولها فى الإيمان ؟ لا… ويجيب على ذلك الإمام المحدث: " وإن كان الرجل يجيء إلى النبى صلى الله عليه وسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يمسى حتى يكون دينه أحب إليه وأعز من الدنيا وما فيها " . ومن التعصب للحق أن يصادق المرء من يصادق، ويخاصم من يخاصم للمبدأ الذى يعتنقه لا رغبة، أو رهبة . إنما هى محبة الناس لله، أو كرههم لله . . والشهادة لهم، أو عليهم إحقاقا للحق وإبطالا للباطل لا لغرض آخر . . وهذه الشعبة من شعب الإيمان تتصل بأدب النفس، وتسلك مع العبادات الفردية وإن كان أثرها الاجتماعى بينا حاسما. وقد عد البيهقى الكسب الطيب شعبة من شعب الإيمان وذكر فى ذلك الحديث الصحيح : " يأيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) . (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا) . وقال : (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) . ص _088(1/67)
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يارب، يارب، ومطعمه حرام وملبسه حرام ومشربه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب له "؟ وهذا وصف لبعض الكادحين الذين يقبلون على الدنيا بنهمة الوحش الجاثم على فريسته . يطول عناؤهم وراء عرضها، ولكن لا يدركون حظا من رحمة الله لشرههم وأكلهم السحت . وأغلب الناس فى طلب القوت يرون أن الغاية تسوغ الوسيلة، ومن ثم فهم يوفرونه بكل حيلة غير مبالين بحل أو حرمة . وما يفعله الصغار لإدرار الرزق من أى منبع يفعل مثله الكبار فى طلب المناصب التى توسع الجاه والثراء، وأهل الإيمان براء من هذا كله . وقد روى البيهقى بضع طرائف لترسيخ العقاب فى النفس وكسب الدنيا من الحلال وحده، فعن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- شرب لبنا فأعجبه، فقال للذى سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد على ماء- قد سماه- فإذا نعم من نعم الصدقة وهم يسقون فحلبوا من ألبانها فجعلته فى سقائى وهو هذا … فأدخل عمر يده فى فمه فاستقاءه . . وعن بشر بن الحارث قال يوسف بن أسباط: إذا تعبد الشاب يقول إبليس: انظروا من أين مطعمه؟! فإن كان مطعمه مطعم سوء قال: دعوه لا تشتغلوا به! دعوه يجتهد ويتعب فقد كفاكم نفسه . وسئل سفيان الثورى عن فضل الصف الأول فقال: انظر كسرتك التى تأكل من أين تأكلها وصل فى الصف الأخير. وهذا من سفيان إرشاد للفرض قبل النفل . ص _089(1/68)
فإن بعضهم قد يظن فضل المبادرة إلى الصف الأولى مكفرا التهجم على المكاسب من أى طريق آخر، وهذا خطأ. والغريب أن من المصلين من يصطاد رزقه كيفما اتفق ثم يحرص على القرب من المحراب كأن هذا يغطى ذاك . ويروى عن حذيفة المرعشى أنه نظر إلى الناس يتبادرون إلى الصف الأول، فقال: ينبغى أن يتبادروا إلى أكل خبز الحلال !! وإذا كان المباح مرفوضا بالوسائل المريبة فكيف بالمحرم . عن الحكم بن هشام أنه قال لابن له: يا بنى، إياك والنبيذ فإنه قيء فى شدقك، وسلح على عقلك، وحد فى ظهرك، وتكون ضحكة للصبيان وأسيرا للديان . وأنشد الحسين بن عبد الرحمن : أرى كل قوم يحفظون حريمهم وليس لأصحاب النبيذ حريم إذا جئتهم حيوك ألفا ورحبوا وإن غبت عنهم ساعة فذميم أخوهم إذا ما دارت الكأس بينهم وكلهم رث الوصال سئوم فهذا رثائى لم أقل بجهالة ولكن بحال الفاسقين عليم وصدق الشاعر، فليس للسكارى أعراض، ولعل انحلال عرا الشرف فى الغرب والشرق يعود إلى شيوع الخمر وإغفاء الفكر واستيقاظ الشهوة، نسأل الله العافية. وعلاقة الإيمان بالدنيا ليس فقط ضمان كسبها من وجه شريف، فإن التلطف فى استنباط الخير من خزائن الأرض كسب هائل لدين الله، وأبواب ذلك فوق الحصر . . إن التمكين فى الأرض، واستثارة خيراتها، وإجادة أنواع الحرف، والفقه فى قوى الكون وأسرار الوجود خصائص عامة استحق بها بنو آدم الاستخلاف فى الأرض . ص _090(1/69)
وهم يتفاوتون قوة وضعفا، وغنى وفقرا على قدر حظوظهم من هذه الخصائص وإفادتهم منها.. والسباق بين المبادئ الحقة والباطلة على تسلم أزمة الحياة يعتمد فيما يعتمد على التفوق فى هذا الجانب . من أجل ذلك نحن نعد من أبواب الجهاد إجادة فنون الحياة، وحسن استخدامها لنصرة الحق. وكل سبق فى هذا المضمار فهو تحصيل لشعبة من شعب الإيمان مادام وجه الله مرادا فيه، ويجب أن ييأس المؤمنون من إحراز فوز لعقائدهم إذا كان سهمهم فى هذا المجال ضئيلا . إن الإيمان الحق يسيطر على المجتمع وعلى البيئة ويسوقها نحو غايته، كما يجرف التيار فى مده كل شىء إلى وجهته . . ومن الشعب التى تسمو بها الإنسانية، وينضر بها وجه الإسلام: حسن الخلق.. وللبيهقى كلام فى هذا الموضوع يجمل أن نذكره بعد ذكر النصوص التى تتصل بالمقام . " حسن الخلق، ويدخل فيه كظم الغيظ، ولين الجانب، والتواضع لقوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) . (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) . ولـ حديث عبد الله بن عمرو فى الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشا ولا متفحشا. وقال: إن من خياركم أحسنكم أخلاقا . وفى رواية: إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقا . ولحديث عائشة- رضى الله عنها- فى الصحيحين أيضا أنها قالت: ما خير رسول ص _091(1/70)
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها . ثم قال البيهقى: "ومعنى حسن الخلق استقامة النفس نحو الأرفق والأحمد من الأفعال. وقد يكون ذلك فى ذات الله تعالى وقد يكون فيما بين الناس . وهو فى ذات الله عز وجل أن يكون العبد منشرح الصدر بأوامر الله تعالى ونواهيه، يفعل ما فرض عليه طيب النفس به، وينتهى عما حرم عليه راضيا غير متضجر . ويرغب فى نوافل الخير ويترك كثير من المباح لوجهه تعالى وتقدس، إذا رأى أن تركه أقرب إلى العبودية من فعله، مستبشرا لذلك غير ضجر منه ولا متعسر به . وهو فى المعاملات بين الناس أن يكون سمحا بحقوقه لا يطالب غيره بها ولا يغاضب الآخرين عليها . فإن مرض ولم يُعد، أو قدم من سفر فلم يُزر، أو سلم فلم يُرد عليه، أو ضاف فلم يكرم، أو شفع فلم يُجب، أو أحسن فلم يشكر، أو دخل على قوم فلم يُمكن، أو تكلم فلم يُنصت إليه، أو استأذن على صديق فلم يُؤذن له، أو خطب فلم يُزوج، أو استمهل الدائن فلم يُمهل، أو استنقص منه فلم يُنقص وما أشبه ذلك، لم يغضب، ولم يتفكر فى سوء حاله، ولم يستشعر فى نفسه أنه قد جُفى وأوحش، وأنه لا يقابل كل ذلك إذا وجد السبيل إليه بمثله، بل إنه لا يعتد بشىء من ذلك، ويقابل كل مسيء بما هو أحسن وأفضل وأقرب إلى البر والتقوى، وأشبه بما يحمد ويرضى، ثم يكون فى إيفاء ما يكون عليه كهو فى حفظ ما يكون، فإذا مرض أخوه المسلم عاده، وإن جاء فى شفاعة شفعه، وإن استمهله فى قضاء دين أمهله، وإن احتاج منه إلى معونته أعانه، وإن استسمحه فى بيع سمح له، ولا ينظر إلى ما يعامله الآن كيف كانت معاملته إياه فيما خلا، إنما يتخذ الأحسن إماما لنفسه فينحو نحوه ولا يخالفه " . ص _093
العبادات ص _095(1/71)
العبادة خضوع مُشرب بحب . . وليست استسلام المغلوب الذليل للظافر، أو إذعان الضائق الخانع للقيد . إنها طاعة المحب لمن يهاب ويُجل، وتفانيه فيمن يُقدس ويُعز . . وهى حالة لا تليق بإنسان إلا مع ربه وحده . . ولذلك يخطئ من يصفون شخصا ما بأنه معبود الجماهير ..!! فإن العبادة بما تنطوى عليه من إعجاب ورغبة، وإعظام ورهبة، قد انفرد بها رب العالمين، فلا يجوز استعمال هذا اللفظ إلا فى ذلك المجال . . ويبدو أن بعض المستشرقين لم يفهم معنى العبادة، وحسب أنها تعنى انكسار النفس وذوبان معالمها أمام قوة تمثل الجبروت المطلق، أو الإرهاب الهابط من السماء إلى الأرض .. !! ثم بعد هذا الفهم السقيم شرع يطعن فى الإسلام، ويقول: إنه دين يبنى العلاقة بين الناس وخالقهم على الخوف والذل، لا على الود والعطف . . وهذا كلام عجيب . . . فالإسلام دين وصاف للحقائق فحسب، يُعرف الخلق ببارئهم الأعلى تعريفا لا تزيد فيه ولا نقص . . وهذا التعريف ينبنى عليه ما لا بد منه من مشاعر، فإذا ذكر للناس أن الله ولى نعمتهم، فبديهى أن يترتب على هذا شكر ولى النعمة ..!! وإذا ذكر أنه مدبر الأمر كله، فبديهى أن يُقصد فى تصريف الأمور وحده..!! ص _096(1/72)
وإذا عرف أن المرجع إليه حتما، فلابد من حساب هذه العودة، وما يتبعها من مثوبة، أو عقوبة..!! وإذا استجمع من صفات الكمال والمجد ما يستحق به المدح، فكيف لا يمدح ويوقر ؟ وإذا كان شديد العقاب، فكيف لا يهاب ؟ * * * إن العبادة لا تعنى إلا هذا الموقف المعقول من ذى الجلال والإكرام . وعندما نتأمل نداءات القرآن الكريم لا نجد إلا هذه الحقيقة . . (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) . (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا) . (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) . (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) . إن تلقى هذه النداءات بالوعى والقبول هو معنى العبادة؟ فما الذى ينكره أولئك المستشرقون؟!! يجب إذن أن نعبد الله وحده، وأن نثنى عليه بما هو أهله، وألا تطيش بنا فى معاملته رغبة، أو رهبة. (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) . ربما عق الولد الكنود أباه، ربما تطاول عليه بما لا يجوز، ربما أنكر انتسابه إليه فما الوصف الحقيقى لهذا الفساد ؟ وماذا يكون علاجه ؟ ص _097(1/73)
هذا المسلك ظلم للحق وجور عن الطريق.. والواجب رد الأمور إلى أوضاعها الطبيعية لتستقيم على وجهها الصحيح . كذلك قد ينكر بعض الناس ربهم، ويتمردون على ما شرع لهم، وهذا المسلك فيه من الجهالة بقدر ما فيه من الدناءة . والعبادة أن نعرف الله معرفة اليقين ؛ لأن هذا هو الواقع، وأن نتبع ما شرع لنا، لأن ذلك أجدى علينا، فضلا عن أنه حق الله الكبير المتعال . لا غرابة فى استعانة الضعيف بالقدير، ولا فى استضاءة الجاهل بالعالم، فأى غرابة فى اتباع المخلوق للخالق، والمرزوق للرازق ؟ هذه هى العبادة، وذاك معناها فى الإسلام . هى تقرير للواقع، وبيان الوظيفة الطبيعية للخلق، والحق البديهى لله . (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) . * * * والعبادة علاقة مباشرة بين الإنسان وبين ربه لا دخل فيها لأحد آخر . والإسلام واضح فى شرح هذه العلاقة شرحا يطرد من حظيرتها الوسطاء والشفعاء … إذا أردت الصلاة لله فلا يستطيع أن يحجبك عنه ملك ولا بشر . ومن حقك أن تقف بباب سيدك توا دون استصحاب كبير، أو صغير . وإذا ارتكبت ذنبا فلا يستطيع أن يصدك أحد عن اللجوء إلى الله لتقديم الاعتذار الواجب . ومن حقك أن تستغفره دون استصحاب كبير، أو صغير . . ص _098(1/74)
العبادة صلة بين الناس وربهم وحده . وبقدر امتدادها فى أقطار النفس تكون قيمتها وتكون منزلة صاحبها . فالنفس الوضيعة لا يرفعها أن يتحدث عنها نبى، أو ولى، أو راهب، أو بابا، إنما ينفعها أن تتخلص من وضاعتها . فإذا تطهرت هى بجهدها الخاص نجت ونجحت... وإلا فلا غناء لأحد عنها. والنفس الرفيعة لا يردها عن مكانتها كائن ما فى السموات والأرض . وتستطيع بتكملها وارتقائها أن تبلغ الأوج ولو تنكر لها كل شىء . (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) . (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى) . * * * والمؤسف أن نفرا من الأدعياء حاول إقحام نفسه فى طريق هذه الصلة بين الله وعباده، زاعما أنه وسيط يحمل القربات ؛ لتقبل منه هو بدلا ممن تقدم بها. ويحمل أيضا التوبة والاستغفار إلى الله بدلا من أن يحملها صاحبهما الأصيل. وهؤلاء الأدعياء زعموا- ليجعلوا لأنفسهم مكانا- أن العبادة لا تقبل إلا عن طريقهم . ولكن القرآن الكريم كان حاسما فى تكذيب هؤلاء جميعا… (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون * وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) . ص _099(1/75)
(والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله) . (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما) . (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) . (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ، قل لله الشفاعة جميعا …) . وبهذه الآيات يستبين للناس ألا سبيل أمامهم إلا التبتل إلى الله وحده والإياس المطلق من غيره، والشعور بأن كل امرئ مسئول عن نفسه، وأن عمله هو الذى يقدمه، أو يؤخره، ويعظمه، أو يحقره . وبهذه الآيات اختفت طبقة الكهان من المجتمع الإسلامى، وعرف كل إنسان أن زمام أمره بيده لا بيد مخلوق مثله . * * * ص _100(1/76)
ضُروبُ العبَادة وصُوَرُها تطلق العبادة على نوعين من الأعمال : * أحدهما: أنشأ الشارع حقيقته وصورته، فليس يعرف إلا عن طريقه، كالصلاة والصيام وغيرهما . * والآخر: أنواع النشاط الإنسانى كلها، إذا وقعت بين ضابطين من حسن القصد، وشرف الغاية . وهذا النوع يتشابك فيه الدين مع بعض الفلسفات الخلقية، والاجتماعية التى تتعرض لأحوال الإنسان وشئون الحياة . والفرق بين سلوك المسلم وسلوك غيره، أن المسلم يَسمُ ما يقع تحت يده بالطابع الإلهي، فأعماله العامة وتصرفه المعتاد يصطبغان دائما بنية معينة، وهدف محدد. وهذا النوع من العبادة يحتاج إلى شىء من البيان . فالتجارة مثلا عمل عادى يباشره الناس من كل نحلة، ويبنون عليه جانبا مُهما من حياتهم ومكاسبهم!! لكن هذا العمل العادى يتحول من تلقاء نفسه إلى عبادة إذا ما اشتغل المسلم به ناويا إعفاف نفسه وتربية ولده وإعزاز قومه . وقد اعتبره النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذه الحالة جهادا، وعده القرآن الكريم مساويا للجهاد فى إعفاء صاحبه من قيام الليل، والإكثار من تلاوة القرآن. (والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرءان علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه) . ص _101(1/77)
على أن التجارة إنما تكون عبادة بتلك الإرادة السامية التى تقارنها، وبشىء آخر لابد منه، وهو: بعدها عن مساوئ الأخلاق التى نفر منها الإسلام: كالغش والختل والكذب والقسوة والربا... إلخ . وما يقال فى التجارة، يقال فى الزراعة، فهى عمل من أعمال الناس العامة يحسن القيام به من له دين ومن لا دين له . لكن الإسلام يعد هذا العمل عبادة، إذا اكتنفته المقاصد والأهداف التى شرحناها آنفا. قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من نصب شجرة فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر كان له فى كل شىء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل" (أحمد). وبقدر ما يعمُ النفع تكون المثوبة عند الله مطردة نامية . روى أنس بن مالك أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " سبع يجرى للعبد أجرهن وهو فى قبره بعد موته، من علم علما، أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته " (البزار) . * * * واعتبار الأعمال المعتادة عبادة متى استجمعت شرف القصد، ونبل الغرض، حكم مقرر فى الإسلام لا نطيل بالتمثيل له، فالشواهد عليه فوق الحصر . وأكثر عبادات المؤمن من هذا القبيل ؛ لأن دائرة هذا النوع من الأعمال تشمل الحياة كلها، ولا يتم الدين، أو يستقيم أمره إلا بها . والذى تلفت النظر إليه، أن الإسلام ليس أفعالا تعد على الأصابع دون زيادة، أو نقص، كلا، إنه صلاحية الإنسان للمسير فى الحياة وهو يؤدى رسالة محددة . ص _102(1/78)
فالمهندس الذى يصنع آلة ما لا يعنيه كم تنتج من السلع والأدوات، وإنما يعنيه أن تكون أجهزتها مستعدة على الدوام لإنجاز ما تكلف به . . فصلاحية الطيارة للانطلاق، وصلاحية المدفع للقذف، وصلاحية القلم للكتابة.. هذه الصلاحيات هى مناط الحكم على قيمة الشىء . إذا اطمأننا إلى وجودها، قبلناها ورجونا ثمرتها . . كذلك الإنسان ! إن الإسلام يريد أن تستقيم أجهزته النفسية أولا، فإذا توافرت لها صلاحيتها المنشودة بصدق اليقين وسلامة الوجهة، فكل عمل تتعرض له فى الحياة، يتحول من تلقاء نفسه إلى طاعة لله . إن آلة "سك النقود" يدخلها المعدن الغفل، فيخرج منها عملة مالية غالية الثمن، تحمل من الألوان والأختام والشارات، ما يجعلها شيئا آخر، كذلك المسلم يعالج ما يعالج من شئون الدنيا، فيضفى عليه من طبيعة إيمانه، وسناء وجهته ما يجعل أى عمل يقبل عليه يتحول فى يده إلى عبادة غالية القدر . . وبهذه الصلاحية النفسية رفض الله جل شأنه دعوى أصحاب الدعاوى الذين اغتروا : (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ، بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . فى شئون الحياة ليس للأعمال الصالحة حصر تنتهى عنده، ولا رسم تخرج فيه . إنما هو إسلام الوجه لله تعالى، وإصلاح العمل، والبلوغ به حد الكمال المطلوب . * * * ص _103(1/79)
أما العبادات التى أنشأها الإسلام إنشاء، وصاغ قوالبها وبواطنها، أو جعل لها معالم ومواقيت... فهى كثيرة؟ لكنها على كثرتها محددة . وقد كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يقدم نماذج لها فى أحاديثه، حسب أحوال من يخاطبهم . ومن أشهر ما يدور على الألسنة حديث النبى صلى الله عليه وسلم : " بُنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا " (البخارى) . والحديث صحيح لا ريب فيه.. ولكن أقرب منه إلى تصوير الإسلام وشموله حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسهم الإسلام ثمانية وقد خاب من لا سهم له: الإيمان سهم، والصلاة سهم، والصيام سهم، والزكاة سهم، والحج سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهى عن المنكر سهم.. " (المنذرى) . إن السنة مليئة بالخير، حافلة بالنصح، ونحن نختار منها الأدوية لما نواجه من علل . وأسلوب القرآن فى إحصاء العبادات يقوم على جمع عدد متوازن من ضوابط السلوك الإنسانى فى صعيد واحد، اقرأ مثلا . (كل نفس بما كسبت رهينة ، إلا أصحاب اليمين ، في جنات يتساءلون ، عن المجرمين ، ما سلككم في سقر ، قالوا لم نك من المصلين ، ولم نك نطعم المسكين ، وكنا نخوض مع الخائضين ، وكنا نكذب بيوم الدين ، حتى أتانا اليقين) . فى الآيات السابقة، وفى آيات أخرى مشابهة لها أحصت جمل العبادات نلاحظ أمرين: 1ـ أن العبادات التى أمر الإسلام بها كثيرة، ولكنها ليست كثرة الإرهاق التى تعجز القدرة وتثبط العزم، بل هى أشبه بكثرة الأغذية التى تقيم البدن وتحفظ الصحة . إن طريق الحياة طويل، ومخاطره جمة، والسائر فى القاهرة مثلا بين ميدان العتبة ص _104(1/80)
الخضراء وميدان التحرير- وهى مسافة قصيرة- تستوقفه إشارات مرور عديدة . إن الإكثار من هذه العلامات المنصوبة على مراحل الطريق تأمر وتنهى بأضوائها الحمراء والخضراء، ليس لتعويق السير، أو تعطيل الناس، بل هو لضمان السلامة، وضبط الحركة، وتنظيم الوجهة..!! والله عز وجل لم يدع عباده ينطلقون فى الحياة وفق أهوائهم، فإن هذا- لو وقع- لن يملأ. الدنيا إلا فسادا وعطلا وأذى (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم). لذلك ترفق الله بخلقه، وأنزل عليهم وحيه ؛ ليعلمهم من جهل، وينقذهم من حيرة. فلا يجوز أن نضيق بكثرة الدروس، وترادف الإرشاد، فهو لنا لا علينا . 2ـ يلاحظ فى هذه العبادات أنها منوعة، فليست طعاما روحيا واحدا، بل عدة ألوان من التثقيف والتهذيب يمزج القرآن بينها مزجا يتفق مع واقع الطبيعة الإنسانية . أى: أن القرآن الكريم لا يتضمن فصلا خاضا بالخلق، وثانيا للعقيدة، وثالثا للمجتمع، ورابعا للمحظورات... إلخ . لا، إنه ينظر للإنسان وهو يتقلب فى هذه الحياة، ويواجه شئونها، ثم يسوق له الأوامر جامعة بين هذه وتلك غير موزعة على أقسام فنية مدرسية. ويطول بنا التمثيل لو سردنا نبذا من الآيات التى تشرح ما ذكرنا . ونكتفى هنا بإثبات هذه العظات من سورة الفرقان . إنها عظات تنوه بالخلق العظيم، والسيرة الاجتماعية اللطيفة . ثم بالاستغراق فى السجود الخاشع والقيام الطويل . ثم بدعاء الله أن يهب لنا النجاة من النار، ثم.. ثم.. إلخ . أى: إن الآيات تمزج بين الخلق، والعبادة، والمعاملة، والاعتقاد على ما سترى. ص _105(1/81)
قال عز وجل: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ، والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ، إنها ساءت مستقرا ومقاما) . فى هذه الآيات ذكر للأوصاف التى ترشح أصحابها ؛ ليكونوا عبادا للرحمن، فإن النسبة إلى الرحمن مكانة لا يدركها كل إنسان، وإنما يبلغها من أعد لها عدتها وسعى لها سعيها . وترى الحديث فى هذه الآيات تناول أطرافا من الأخلاق والعبادات والعقائد، ففى الآية الأولى إشارة لفضيلة مزدوجة تضم إلى التواضع للناس الترفع عن السفهاء. وهى توصى المسلم أن يكون هينا لينا، مسالما وإن استفزه الجاهلون واستثاروه للخصام . وفى الآية الثانية حديث عن الليالى البيضاء، ليالى الأنس بالله، وتلاوة وحيه، وإظهار الخضوع له، والليل بطبيعته سكن للخلائق، بيد أن الإسلام يستحب استقباله بعبادة، والنهوض منه إلى عبادة . وفى الحديث عن عثمان بن عفان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى العشاء فى جماعة كان كقيام نصف الليل، ومن صلى الفجر فى جماعة كان كقيام الليل كله " (مالك) . وصفاء الروح بالصلاة السابقة والصلاة اللاحقة، وبما يرغب فيه المرء من تهجد، يعين عليه شىء آخر، أن يستقبل المرء نومه وهو نظيف طاهر . فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " طهروا هذه الأجساد طهركم الله، فإنه ليس من عبد يبيت طاهرا إلا بات فى شعاره ملك لا ينقلب ساعة من الليل إلا قال اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهرا " (الطبرانى) . والآيتان الأخيرتان فيهما إشارة إلى خوف المسلم من عذاب جهنم، وهو عذاب يجب أن يحذر ويحتاط منه . والواقع أن العقوبات المعجلة، أو المؤجلة سياط لابد منها لقمع الغرائز الشرسة فى الحياة الإنسانية . ص _106(1/82)
إن الإجرام الفردى والدولى لا تغنى فى رده الخطب والنصائح بل لابد من حسم الشر بالشر، ولابد من التخويف بالأذى القريب، أو البعيد لفطام الناس عن شتى الأهواء الخبيثة . ودعاء الله بصرف العذاب الأخروى لا يكون باللسان وحده، وإنما يكون بالسلوك الذى يبعد عنه على نحو ما ورد فى الآيات الأخرى (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ، وأمرت لأن أكون أول المسلمين ، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) . وتستتلى الآيات فى سرد الصفات الواجبة لعباد الرحمن: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) . وهذا توجيه اقتصادى سليم، فإن الاعتدال فى النفقة خير للفرد والمجتمع : (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ، ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) . *… توحيد الله فى الاعتقاد والعمل والوجهة ؛ أى: فى النية والسلوك والغاية. *… وصيانة الدم الإنسانى أى تقديس حق الحياة . . *… وإقامة العلاقات بين الجنسين على العفاف المطلق . . وهذه العبادات الثلاث من أركان المجتمع المسلم، ويجب أن تقوم الحياة العامة على صيانتها وإشاعتها . . فإذا ألم امرؤ بخطيئة وهبط مستواه لاقترافها، فالقدرة على التسامى متاحة له، لا يحتاج فيها لأكثر من حركة الإرادة وتجديد التوبة . ص _107(1/83)
إن القلب المنيب لا تغلق أمامه أبواب السماء . . وفرص الخلاص من الإثم ميسرة لكل من يبتغى وجه الله، ويرجو أن يكون من عباد الرحمن : (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما) . شهادة الزور فى القضايا الخاصة والعامة من أشنع المناكر . والناس يألمون لشهادة باطلة تضيع بها أموال ودماء فيما بينهم من معاملات ومخاصمات ؛ ولكن يجب أن يكون ألمهم أشد عندما تنتج شهادة الزور آثارها السيئة فى الأمور العامة ! وهل ترشيح التافهين للمناصب الخطيرة وتزكيتهم- وهم ليسوا أهلها- هل ذلك إلا ضرب من التزوير تضحى فيه مصلحة الأمة . . ما أكثر شهادات الزور فى الانتخابات التى كانت تجرى حينا بعد حين كى تنتفع الأمة بالنابهين، ومع ذلك تحرم من جمهرتهم . * . . وعباد الرحمن لا يتورطون فى هذه الخطايا، ويرى بعض العلماء أن الزور يشمل الباطل كله من عبث ولهو ومجون، وأن أصحاب الهمم لا يليق أن يحضروا هذه المشاهد، كما أن من طباعهم التجاوز عن اللغو وأصحابه . * . . وعباد الرحمن أصحاب مرونة نفسية يقبلون بها التوجيه، ويفيدون بها من النصائح ، فمن الناس من تهيب به طويلا وهو لا يعى كثيرا ولا قليلا . إنه من النوع الذى يقول الله فيه: (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون). (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون). ص _108(1/84)
وما كذلك أصحاب البصر والفطنة، إنهم إذا ذكروا انتبهوا (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) . * . . وعباد الرحمن يحبون أن يسعدوا فى دنياهم بمتعة الأسرة المستقرة ويسألون الله أن يهب لهم الزوجة التى تبهج أعينهم وأفئدتهم، والأولاد الذين يملئون أنفسهم رضا وسرورا. وفى الوقت نفسه هم يتسابقون إلى مراكز الصدارة فى الآخرة ويحبون أن يتفوقوا فى كل ما يرضى الله . (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ، أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما ، خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما) . * * * هذه الأوصاف- كما رأيت- تجمع بين العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، وهذا هو أسلوب القرآن الكريم فى التربية، كما تكرر فى سُور شتى . . * فالوصايا فى سورة الأنعام الآيات من 151: 152 * والوصايا فى سورة الرعد الآيات من 19: 25 * والوصايا فى سورة الإسراء الآيات من 23: 38 * والوصايا فى سورة المؤمنين الآيات من 1: 11 * والوصايا فى سورة الشورى الآيات من 36: 43 ... هذه الآيات التى تضمنت أطيب النصح وأقوم القيل، كانت تجمع ما يهدى السلوك فى شتى المجالات، لأن الإنسان فى سيرته الخاصة والعامة بحاجة إلى هذا التوجيه المتكامل ... أما فى حلقات الدراسة فيمكن أن يظل بضع سنين يدرس فرعا واحدا من علوم شتى . ص _109(1/85)
ويخطئ بعض المسلمين أحيانا حين ينقلون بعض الأحاديث النبوية من ميدان التعليم إلى ميدان التربية . إذ إنهم يُخيلون إلى قصار الفهم أن الدين كله هو هذا الحديث وحسب- وذلك كما وقع حديث "بنى الإسلام على خمس . . . " . وذلك ما جعلنا نضع مكانه حديثا آخر، ونكثر من الشواهد التى نقلناها عن الكتاب الكريم . والحديث صحيح، ولكنه يصور جانبا من الإسلام لا جوانبه كلها . * * * ومع إتيان المسلم بالواجبات التى أمر الله بها، فإن هناك محظورات نهى عن ارتكابها وخوف من مواقعتها، وبين أن الإلمام بها يمحق الحسنات، ويذهب بالصالحات . . نعم يجب ترك هذه السيئات فى السر والعلن، والبعد عنها مهابة لله الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور . . (وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون). إن من أبغض الناس إلى الله امرءا يظهر بين الخلق بالصلاح والخشوع فإذا أمكنته رذيلة- وهو منفرد- لم يتورع عن الإيغال فيها . عن ثوبان رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لأعلمن أقواما من أمتى يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال تهامة، بيضاء، فيجعلها الله هباء منثورا.. " . قال ثوبان: يا رسول الله، صفهم لنا، جلهم لنا.. لا نكون منهم ونحن لا نعلم . قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " أما هم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها " . ص _110(1/86)
الكبائر والمعاصى: والمعاصى التى كرهها الله جل شأنه للناس متفاوتة الضرر والخطر. منها الطفيف الذى ترجى منه السلامة. ومنها الجسيم الذى قد يقطع الصلة بالله، ويجتاح أصل الإيمان، ويعرض فاعله للهلاك. ولا عجب ففى حياتنا المألوفة قد يرتكب المرء مخالفات يدفع فيها قدرا من المال، أو يحجز فيها جزءا من الزمن . وقد يجترح جرائم تجر عليه الويلات، وتذهب فيها حياته وكرامته . ثم إن الجراءة على المخالفة اليسيرة ربما تدرجت بالنفس إلى التمرد، واستسهال المخوف . إن الأمور صغيرها مما يهيج له العظيم والإسلام يخوف من الذنوب، ويربى فى الضمير ملكة المحاسبة، ويجعل المسلم حذرا من مقاربة أى فعل يغضب الله.. وإذا كانت النفس الإنسانية لا تسلم من الإلمام بالصغائر غالبا، فقد كرس الإسلام اهتمامه فى محاربة الكبائر وتنظيف الأمة من أدرانها . (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) . ص _111(1/87)
الكبائر والصغائر والكبائر التى شدد الإسلام فى اقترافها كثيرة. وعلامة الكبيرة أن تجىء على لسان الشارع مقترنة بوعيد شديد فى الآخرة، أو عقاب كبير فى الدنيا، وهاك أمثلة لها من السنة النبوية : عن أبى بكرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ثلاثا " قلنا: بلى . . قال: " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس " . وكان عليه الصلاة والسلام متكئا فجلس، فقال: " ألا وقول الزور، وشهادة الزور .. " . ". فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت وعن عبيد بن عمير عن أبيه- رضى الله عنه-: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- وقد سأله رجل عن الكبائر: هن تسع: الشرك، والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات، وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا " (أبو داود) . وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر " (مسلم) . * * * ص _112(1/88)
وتعرض للمعاصى ظروف تجعل إثمها أغلظ، ونكرها أشد، سواء ممن وقعت منه، أم ممن وقعت عليه... فالعدوان على الأعراض فاحشة، فإذا أصابت هذه الفاحشة امرأة الجار أو امرأة الجندى الذى غاب عن بيته فى الميدان كانت الكبيرة أشد فحشا وأوخم عند الله عقبى . عن المقداد بن الأسود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " ما تقولون فى الزنا؟ قالوا: حرام، حرمه الله ورسوله. فهو حرام إلى يوم القيامة " . قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " لأن يزنى الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزنى بامرأة جاره ". وروى عن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الزانى بحليلة جاره لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، ويقول له: ادخل النار مع الداخلين ". وعن أبى قتادة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من قعد على فراش مُغيبة قيض الله له ثعبانا يوم القيامة ". وعن بريدة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم "..!! (ما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين فى أهله فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من حسناته حتى يرضى...) . ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: (فما ظنكم؟) . وفى رواية أنه قال فيه: " إلا نصب له يوم القيامة فقيل: هذا خلفك فى أهلك فخذ من حسناته ما شئت " . وزاد: " أترون يدع له من حسناته شيئا ؟! " (النسائى) . ص _113(1/89)
والخطيئة من المتعلم أسوأ من خطيئة الجهول، وهل الإجرام إلا أن يعلم امرؤ ويجحد، أو يؤتى الذكاء والإدراك فيسخرهما فى الهوى، والأثرة، والشر ؟؟ ومن ثم قال رسول الله: " اللهم إنى أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، وبطن لا يشبع، وطرف لا يدمع " (الترمذى) . * * * ومن أهم ما يضاعف الحسنات، ويكفر السيئات، ويوثق علائق الإنسان بالله، ويقيم أركان الجماعة الإسلامية، العبادات الآتية : ص _114
الصلاة بين الحين والحين يشق حجاب الصمت السائد فى القرى، أو يغالب دوى الضجيج السائد فى المدن، صوت جهير، رتيب، واضح الكلمات، حاد النبرات.. إنه ليس صوت ناقوس مبهم مجرد من المعنى، ولا صوت ناى رقيق يداعب العاطفة . . إنه صوت يناشد العقل والقلب معا . . إنه هتاف يعيد إلى الأذهان والمشاعر الوعى بأزكى ما فى الحياة من حقائق . . إنه يزيح الذهول المسيطر، واللغوب المكدر، ويقتحم على المرء أسوار المآرب الدنيا التى احتجب وراءها...!!! إنه صوت المؤذن يقول للناس أجمعين: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله.. إلخ . ورسالة الإسلام تقوم على التسامى بالإنسان، وإبقائه فى مستوى كريم من الرقى المادى والمعنوى . ومن هنا شرع الله الصلاة، وأوجب قبلها الطهارة . . إن الجسم الإنسانى يحتاج إلى رعاية متكررة كى يُقبل ويُؤلف، وإذا فقد هذه الرعاية علقت به الأدران الكريهة، وثارت منه الروائح المنفرة . . من أجل ذلك كان لابد من تغسيله وتنقيته. ص _115(1/90)
وتطهير البدن كله واجب أول، ثم هناك أغسال للأعضاء والأطراف التى تتطلب بين ساعة وأخرى تكرار النظافة . والإسلام إذ يجعل اليقين فى الله دعامة السمو الإنسانى جعل النظافة المادية نصف هذا اليقين . . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان " (أبو داود) . وقال صلى الله عليه وسلم " بُنى الدين على النظافة " (تيسير الوصول) . ولم تعرف الإنسانية منذ النشأة الأولى دينا شديد الحساسية فى تنظيف الإنسان، شديد التتبع لظاهره وباطنه ومداخله ومخارجه، يطلب له النقاوة والجمال مثل ما عرفت عن هذا الدين الكريم، وعن رسوله العظيم صلى الله عليه وسلم . والآثار التى نقلت عنه فى ذلك فوق الحصر. وحسبك أنه منذ دعا إلى الله كان يبشر بأن تنظيف الفم، والأنف، وغيرهما من الأعضاء مغفرة للذنوب، وأن المسلم الذى يقبل على الصلاة بعد هذا التطهير ينتهى منها وصفحته بيضاء مثل صفحة الطفل لأول عهده بالحياة . عن عمرو بن عنبسة السلمى- رضى الله عنه- قال: كنت وأنا فى الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شىء وهم يعبدون الأوثان ..!! فسمعت برجل فى مكة يخبر أخبارا . فقعدت على راحلتى، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم . . فذكر الحديث إلى أن قال . . فقلت: يا نبى الله، فالوضوء . . حدثنى عنه، فقال :ما منكم رجل يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق فيستنثر إلا خرت خطايا وجهه من فمه وخياشيمه . ص _116(1/91)
ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء . ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء . ثم يغسل رجليه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء . " فإن هو قام وصلى فحمد الله تعالى وأثنى عليه ومجده بالذى هو له أهل وفرغ قلبه لله تعالى إلا انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه ". * * * والصلاة فى الإسلام ليست إلا تعبيرا معقولا عن شعور العبد نحو ربه . فهى قيام يقرأ فيه المصلى ما تيسر من القرآن الكريم . وركوع وسجود ينطويان بالفعل وبالقول على تسبيح الله العظيم الأعلى . ثم قعود يُحيى فيه المصلى ربه، ثم ينصرف بعد إشعار من على يمينه ويساره بالسلام... والصلاة وإن كانت كتابا موقوتا يجتذب الإنسان إلى الله فى الصباح، والظهيرة، والأصيل، والمساء، إلا أنها لا تعدو سبع عشرة ركعة . ولا تستغرق أكثر من نصف ساعة فى هذه الأوقات كلها ..!! أكثير على امرئ ما أن تتورع هذه اليقظات الروحية والفكرية على أجزاء يومه وليلته..؟؟ هل ساءل نفسه، ماذا يصنع بالساعات الباقية له وهى ثلاث وعشرون ونصف؟ إن فى طبائع بعض الناس كنودا يعز على العلاج، لأنهم يستسهلون أخذ النعمة ويستثقلون تقديم الشكر..!! والذين يفرطون فى هذه الصلوات لا يستحقون- فى واقع الأمر- أن يلقوا احتراما لا من ص _117(1/92)
الخالق ولا من المخلوق، فليس أولى بالاستهجان ممن ينصرف عن ربه، ويتشاغل عن أداء حقه... !!! وهؤلاء المفرطون قسمان : * قسم كسول نائم الإيمان، سقيم الوجدان . وفيهم يساق هذا الحديث، عن عبادة بن الصامت- رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة " (مالك) . * وقسم جحود فارغ القلب من اليقين ومعرفة الحق . وفيهم يساق حديث عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما-، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال : " من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون، وهامان، وأبى بن خلف " (أحمد) . ص _118(1/93)
الصيام وهو عبادة قوامها أن يمتلك المرء نفسه، وأن يحكم هواه، وأن تكون لديه العزيمة التى يترك بها ما يشتهى، ويقدم بها على ما يكره..!! قوام الصيام تحرير الإرادة الإنسانية، وجعلها تبعا لأوامر الله لا لرغائب النفس..!! وتحرير الإرادة هو الفرق الهائل، لا أقول بين الحر والعبد، بل بين الإنسان والحيوان..!! إن الدابة تفعل ما تحب، وتدع ما يضايقها . والمسافة بين عزيمتها وشهوتها معدومة، بل لا عزيمة هنالك، ولا صراع بين شهوات وواجبات . أما الإنسان فيتطلع إلى أمور تردعه عنها حواجز شتى . . فإن غلب رشده كان عقله حاكما لرغائبه، وإلا فهو إلى الدواب أدنى . . . ذلك وليس الصيام عن الشهوات فارقا فقط بين الإنسان والحيوان، بل هو فارق بين الناجحين من الناس والفاشلين . . فالنجاح فى كل شىء قدرة على تحميل النفس الصعاب، وتصبيرها على الشدائد، وقدرة على منعها ما تستحلى، وفطامها عما تبغى . ومن قديم عرف طلاب العلا هذه الحقيقة، واستيقنوا من أن الراحة الكبرى لا تنال إلا ص _119(1/94)
على جسر من التعب، وأن من طلب عظيما خاطر بعظيمته، وأن ركوب المشقات هو الوسيلة الوحيدة لإدراك المجد . وقد شرع الإسلام الصيام للناس؛ كى يدربهم على قيادة شهواتهم، لا الانقياد لها. ومن هنا حرم على المؤمنين من مطلع الفجر إلى أول الليل أن يجيبوا أقوى رغائبهم، وأن يتمرنوا الحرمان الموقوت، وأن يتدربوا عمليا على فهم الحديث الجليل " حُفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات " (تيسير الوصول) . والصيام " امتناع " عن أمور.. والامتناع عنصر "سلبى" لا يراه الناس، عادة إنه سر باطن كالإخلاص، ما يعرفه إلا علام الغيوب . وذلك تفسير ما ورد فى الحديث القدسى: " الصوم لى ". إنه امتناع عن الطبائع المادية للبطن والفرج. وهو كذلك امتناع عن مطاوعة طبائع الغضب والاستفزاز، والصائم ساكن وقور، وذاك أعون له على ذكر الله، وصفاء النفس . وتجد ذلك كله فى الحديث المشهور . عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به ". " والصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد، أو قاتله فليقل: إنى صائم، إنى صائم . والذى نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك . " للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى ربه فرح بصومه". ص _120(1/95)
والمشقة التى يلقاها الناس ضروب تحتاج إلى تفصيل... فهناك مشقة من الجد الذى يقابل الهزل، أو العمل الذى يقابل العطل، أو الحق الذى يقابل الباطل، أو الجهاد الذى يقابل القعود... وهذا الضرب من المشقة لابد من تحمله، ومن ترويض النفس على أعبائه، ويصعب أو يستحيل تصور الإيمان بدونه ... وهناك مشقة النهوض للكمال الأعلى، والعكوف على مرضاة الله مهما حَمّلت صاحبها من مكابدة الناس وتحمل العنت . وقد بين الله لنبيه صلى الله عليه وسلم طرفا من هذه المشقة عندما استثاره لقيام الليل، ووجهه لهداية الناس، وصارحه بطبيعة الرسالة : (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) . .. إنه قول ثقيل حقا بما تضمنه من واجبات عظام، ولكنها طبيعة المناصب الجليلة لاتنفك أبدا عن هذه الأحمال الثقال..!! وهذا الضرب من المشقة مفروض على أصحاب النفوس الكبار.. وهو نهج من الحياة يصطفى الله له من يشاء، وتسترخص فيه مهج ونزوات، وآمال وملذات . وثم ضرب آخر وهو تحميل النفس ما لا قبل لها به، وما تعجز عن أدائه. وهذا لم يكلف الله به أحدا من خلقه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) . والصيام فريضة لابد منها لتدريب المسلم على المشقة الأولى، وتهيئته للثانية؛ فإذا عرضت المشقة الأخيرة سقط الصيام فلا يجب على أحد . * * * ويستبين من هذا أن الصوم ليس تعذيبا جسمانيا، وليس تعطيلا عن عمل، إلا إذا ص _121(1/96)
اعتبرنا الرياضة البدنية محاولات لهدم الجسم الإنسانى وتعجيزه عن أداء الواجبات..! الصوم رياضة لها هدف، وغراس ترجى منه ثمار . . الصوم مشقة محدودة لتدريب الناس على المعنويات العالية، وتعليمهم كيف يفعلون الخير ويتركون الشر، أو كيف يعشقون الحسن ويكرهون القبيح، أو كيف يسارعون إلى مرضاة الله ويفرون من مساخطه..؟ إنه ليس معركة مبهمة ضد الجسد، ولكنه خطة واضحة لتزكية القلب ودعم الإيمان، واحتساب التعب عند الله لا عند أحد من الناس . . وفى هذا الجو من ترشيح النفوس للتقوى، والعزوف بها عن الشهوات الدنيا، والتحليق بها إلى مصاف الملائكة، يُذكر أن القرآن نزل فى هذا الشهر، وأن على المؤمنين- بعد أن يقضوا سحابة النهار على ما وصفنا- أن يصفوا أقدامهم فى المحاريب، ويرطبوا ألسنتهم بتلاوة الكتاب العزيز . قال عليه الصلاة والسلام: " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " (البخارى) . وقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ، أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) . وقبل أن نذكر الآية التى تلت هذه الآيات، والتى يبدو للناظر السطحى أنها مقحمة ص _122(1/97)
وسط آيات تتحدث عن شريعة الصيام وأحكامه، نعود مرة أخرى إلى الجو الصافى المشرق الذى يحدثه الصيام فى النفوس .. إن هذه الفرصة تطهر أصحابها بالنهار ؛ كى تعدهم لاستقبال هدايات القرآن فى قيام الليل... وهذا النوع من التخلية ثم التحلية- كما يقول علماء القلوب- يجعل المسلم أقرب شىء إلى رضوان الله وغفرانه، وقد جاء فى الحديث : عن عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. يقول الصيام: أى رب؟ منعته الطعام والشهوة، فشفعنى فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعنى فيه!! قال: فيشفعان " (أحمد) . وفى رواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد "، قال: وسمعت عبد الله يقول عند فطره: "اللهم إنى أسألك برحمتك التى وسعت كل شىء أن تغفر لى " . وفى رواية " ثلاث حق على الله أن لا يرد لهم دعوة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع " (البزار) . وهذا كله يشرح لنا قوله تعالى بعد آيتى الصيام السابقتين: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) . ص _123(1/98)
الزكاة الزكاة أول حقوق الله فى المال، وآكد هذه الحقوق . وحقوق الله فى المال كثيرة، وقد أفضنا الكلام فى شرحها، ولا نريد إملال القراء بتكرارها... ويكفينا هنا أن نبرز بعض المعانى التى تحتاج إلى فضل إيضاح . أساس إخراج الزكاة التقرب إلى الله تعالى، وإنفاذ أمره وطلب ثوابه . فليست الزكاة ضريبة تؤخذ غصبا، ومن أخرج زكاة ماله مكرها، أو مرائيا، أو مكاثرا ممتنا، فلا عبادة له ولا قيمة لعمله . الزكاة فى الإسلام قربة تعتمد على حسن النية، ويطلب بها أولا وآخرا وجه الله وحده فهى قرينة الصلاة والتقوى والاستغفار، وهى جزء من الفضائل وركن من الإيمان . قال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) . وقال: (والله بصير بالعباد ، الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ، الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار). ص _124(1/99)
وقال: (الذين يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون ، أولئك هم المؤمنون حقا...) . فالزكاة تذكر فى الأخلاق مع الصدق، وفى العبادات مع الصلاة، ويقرن أداؤها مع استغفار الله فى السحر . إنها طاعة نفسية قبل أن تكون خطة اقتصادية، مهما ترتب على إيتائها من توسعة وبركة.. وتوكيدا لهذا المعنى نذكر ما رواه أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: أتى رجل من تميم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا رسول الله، إنى ذو مال كثير، وذو أهل ومال وحاضرة، فأخبرنى كيف أصنع ؟ وكيف أنفق ؟؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تخرج الزكاة من مالك، فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق المسكين والجار والسائل ". وعن أبى الدرداء- رضى الله عنه قال-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة : من حافظ على الصلوات الخمس، على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلا، وأعطى الزكاة طيبة بها نفسه، وأدى الأمانة. قيل: يا رسول الله، وما أداء الأمانة؟ قال: الغسل من الجنابة . " إن الله لم يأمن ابن آدم على شىء من دينه غيرها " (الطبرانى) . وعن عائشة- رضى الله عنها- أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " ثلاث أحلف عليهن، لا يجعل الله من له سهم فى الإسلام، كمن لا سهم له ؛ ص _125(1/100)
وأسهم الإسلام ثلاثة : الصلاة والصوم والزكاة، ولا يتولى الله عبدا فى الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة " (أحمد) . ثم إن الزكاة سداد لثغرات المجتمع، وتحصين له من العيلة والضياع . والمنتظر من حصيلتها أن تستر العوار، وأن تصون الوجوه من ذل الفقر وأيا ما كان الأمر، فالمسلم مكلف بالإنفاق على الحالين : إن كان موسرا . وإن اشتدت البأساء وكان لديه ما يعين على تفريج الكروب . . قال تعالى : (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، الذين ينفقون في السراء والضراء) . وإنفاق المرء فى سرائه واضح... وإنفاقه فى ضرائه إنما يكون إذا ساءت أحوال الآخرين، وبلغت حدا يقتضى المواساة، ولو بذل المرء من طعامه . . ولذلك كان من عناصر البر بجانب إخراج الزكاة، إيتاء المال على حبه (ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب) . ونحن نرى أن هذا تشريع السماء من عهد النبوات الأولى . فإلى جانب إخراج الزكاة الذى يجب على كل قادر نلحظ شيئا آخر كتبه الله على بنى إسرائيل : (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) . ص _126(1/101)
والسر فى تكليف القادرين بهذا الإنفاق المستمر يرجع إلى أمرين : * أولهما: إرضاء الله جل شأنه برعاية الضعفاء من خلقه، مهما اقتضت هذه الرعاية من نفقات، ومهما تطلبت من صدقات . * والآخر: تحصين المجتمع من سورات الضغينة والغضب التى تتبع الشح والكنز، وتجاهل آلام الآخرين . ولذلك يفهمنا الله جل شأنه أن عقبى هذا الإنفاق ضمان الدنيا مع ضمان الآخرة، وصيانة الثروات من ثورات الحانقين والمغتاظين . ترى لو أن أقطار الغرب وعت هذا الدرس أكانت تتعرض لرجات الهدم والتخريب التى اجتاحتها هنا وهناك ؟؟ أما أهل الإيمان فهم بمنجاة من هذا الترويع (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). ويقول قبل ذلك: (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) . ويقول أيضا: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء) . * * * ص _127
والزكاة التى فرضها الإسلام.. * العشر فى الأرض التى تزرع دون مئونة. * نصف العشر الأرض التى تزرع بالآلات. * ربع العشر فى رءوس الأموال، سواء أكانت نقودا، أم عروضا تجارية . ويلحق بما سبق ما يستجد من أموال تجب فيها الصدقات على اختلاف مقاديرها. ص _128(1/102)
الحج ما العلاقة بين الإسلام وبين هذا المسجد الحرام ؟ ولماذا يجب على كل قادر أن يقصد هذا البيت زائرا معظما ؟ الواقع أن هناك عدة روابط تجعل لحج البيت منزلة كبيرة، وترتب عليه آثارا جليلة . . فالمسجد الحرام هو أول مسجد على ظهر الأرض بنى لعبادة الله بعد هدم الأصنام وإسقاط مكانتها . وكان بناؤه على أنقاض الوثنية البائدة دلالة على انتصار التوحيد، وارتفاع رايته، والبانى رجلان من كرام الأنبياء . أحدهما: رمى فى النار عقوبة له على نبذ عبادة الأصنام، وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذى قال : (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان) . والآخر إسماعيل الذى أسلم عنقه للذبح... لما قال له أبوه: أمرت بذبحك (قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) . هذان الرجلان الخالصان لله وحده، المتفانيان فيه هما اللذان نهضا ببناء المسجد- المعروف بالكعبة- ليكون مثابة للمؤمنين يصلون فيه، والتنويه بمكانة المسجد هذا أساسه أمر واضح . . ثم إن الأمة الإسلامية هى نتيجة دعوة استجيبت فى أثناء هذا البناء . ص _129(1/103)
(وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) . وتلك ذكرى تستحق التكريم والإحياء . ولعل من شكر الله إعزاز مسجد اقترن بناؤه بتلك الدعوات للأخلاف الذين لم يوجدوا . من يدرى ؟ ربما كانت هدايتنا إلى الله جزءا من بركة هذا النداء المقبول .!! ثم إن الصلاة- وهى أولى العبادات العملية- مرتبطة بهذا البيت العتيق . وبديهى أن المسلم عندما يقف، أو يركع، أو يسجد لا يعرف إلا أنه بين يدى الله رب المشارق والمغارب . وبديهى أن وجهه وحده هو المأمول فى أثناء التلاوة والتسبيح والتحميد . وبديهى أن الجهات كلها متساوية فى قيمتها المادية والأدبية، وليس شىء منها مقصود بتقديس . ولكن الله شاء أن يوجه الأمة جمعاء إلى قبلة واحدة، ترتبط فيها مساجد القارات الخمس، بأول مسجد ظهر على الأرض..!! وترتبط فيها الأمة الإسلامية بأبيها الأول إبراهيم، لتعلن أنها بهذا الارتباط لا تشذ عن قواعد النبوات القديمة . وإنما الذى شذ هو الذى أشرك وأفسد، من المغضوب عليهم، والضالين ..!! ولذلك جاء فى القرآن الكريم: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ، ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون) . ص _130(1/104)
لهذه الصلات التاريخية والروحية أوجب الله على الأمة الإسلامية أن ينبعث منها كل مستطيع كى يزور المسجد الحرام مرة واحدة فى عمره . وجعل لهذه الزيارة تعاليم رقيقة، محورها إذكاء مشاعر اليقين، وتنمية عواطف الإخلاص لله رب العالمين . . والكلمات التى يجأر بها الحاج وهو منطلق صوب البيت تنضح بهذا المعنى العالى. إنه يقول: " لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك... " (البخارى) . هذه التلبية كأنها إجابة للدعوة التى لم يضعف صداها على مر القرون، الدعوة التى أوحى الله بها لإبراهيم (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ، وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) . أجل إن الناس يأتون ولهم عجيج بالتلبية تشارك فيه كل الكائنات التى تسبح بحمد ربها، فكأن الوجود فى هذه البقاع المعزولة الموحشة قد تحول بغتة إلى مظاهرات لا هتاف لها إلا الذكر والشكر والتمجيد والتحميد . وفى الحديث: " ما من ملب يلبى إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر، أو شجر، أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا عن يمينه وشماله " (الترمذى) . وأيام الحج كلها موسم عبادة وتجرد، وإقبال على الله، ولهج بالثناء عليه، وشغل به عن غيره . ص _131(1/105)
(الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق و لا جدال في الحج و ما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) . * * * ومناسك الحج ليست شيئا معقدا، إنها هذا الاحتشاد الضخم فى منطقة عرفة يوم التاسع من ذى الحجة إلى ما بعد غروب الشمس . ثم الطواف حول البيت العتيق . تلك هى أركان الحج المهمة لمن نواه . وهناك مطالب أخرى خفيفة أو مؤكدة، كتحية البيت بالطواف حوله عند القدوم إلى مكة، وكرمى الجمرات، والسعى بين الصفا والمروة . وبعض الناس يحاول أن يجعل من مناسك الحج مراسم ثقيلة المؤنة، صعبة الأداء . وهذا خطأ، فالحج رحلة روحية ممتعة، وسياحة عاطفية كريمة . وقد شرعه الله، ليكون شحنة قلبية إلى جانب الأساس العقلى للإسلام، شحنة تحيطه بإطار من الذكريات والعواطف … ومنذ بدأ الحج فى الإسلام، وموسمه الجامع ينتهز للتوجيهات العامة والقضايا الخطيرة . فالحجة التى تمت فى السنة التاسعة من الهجرة، أعلن فيها بطلان المعاهدات التى عقدت مع المشركين ...!!! وهى معاهدات كان الوفاء فيها من جانب واحد فقط، جانب المسلمين وحدهم. أما المشركون الأقوياء، فطالما عبثوا بهذه العهود وخرجوا عليها ..!! حتى تأذن الله فى السنة التاسعة، بالبراءة من الناكثين، وتوعدهم فى الدنيا والآخرة بالقصاص على ما صنعوا . ص _132
وفى حجة الوداع كان الخطاب الإنسانى الذى ألقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الوفود الكثيفة التى اجتمعت معه، وهو خطاب لم تع مسامع الوجود أرقى من مبادئه، ولا أشرف من مقاصده . . وهو السجل الصادق لحقوق الإنسان وحريات الأمم . . وينبغى أن يبقى الحج ملتقى المسلمين الأكبر، ومثابتهم العظمى، وأن يبقى زمانه ومكانه الموعد المضروب لاجتماع الموحدين القادمين من المشارق والمغارب، يذكرون الله ويرجمون الشيطان . . ص _133
مجتمع ذو رسالة وهدف ص _135(1/106)
الأمة الإسلامية لها طابعها الخاص وسلوكها المميز، وليست لفيفا من الناس جمعته ضرورات العيش، ومغارم الحياة، ومغانمها . والإسلام- الذى عرفت به- تسمية قديمة، لها دلالتها المقصودة . . إنها تسمية جرت على لسان أبى الأنبياء إبراهيم، قبلها الله جل شأنه، ونزل بها الوحى الأعلى . . (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل) . والواقع أن إبراهيم لما اقترح هذا الاسم لم يبتدعه ابتداعا، وإنما أراد أن يثبت به حقيقة قديمة عريقة فى القدم، هى فطرة الله التى فطر الناس عليها، والتى دعا النبيون من قبله إليها . . أجل كان إبراهيم يستحضر جواب نوح لقومه لما صدوا عنه، فقال : (فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين) . وكأن إعجابه بإصرار نوح على الحق، وتشبثه بعنوانه الفذ، هما السبب فى أن يجعل اسم الأمة التى يريدها "المسلمين"، حتى يخلد فى المستقبل ما أكده نوح فى الماضى . . وبذلك تكون هذه الأمة وريثة للأنبياء كلهم وممثلة لتعاليمهم جميعا . . فى الأزل وفى الأبد لن تتغير طبيعة العلاقة بين العالم وربه . . فى القديم والحديث لن تتبدل الصلة بين الناس وبارئهم العظيم . إنها الإسلام . . إنها هذا الشعار وما يتضمنه من إخلاص وانقياد (إن الدين عند الله الإسلام) . ولطالما أكدنا فيما كتبنا أن هذا العنوان جديد قديم . . والمسلمون مكلفون بأمرين : ص _136(1/107)
* تبليغ الحقائق الأولى . * وحماية هذه الحقائق من التحريف والتشويه . ... إن الثوب الذى كساه المرسلون هذه الإنسانية هو هو لم يتغير على مر العصور . . كل ما هنالك أنه قد يتسخ، فيجب أن يزال ما علق به من درن . أو يتمزق فيجب نسخ ما عراه من وهن ...!! وللزمن فعله فى الإساءة إلى المبادئ، والميل بها تارة إلى يمين، وتارة إلى يسار...! وقد جاء قبل محمد ـ صلى الله عليه وسليم ـ نبيون كثيرون جاهدوا، كى يبقى الحق ناصعا، وتبقى طريقه قويمة . بيد أن التزوير تطرق إلى الحق وطريقه . . فإذا ناس يجعلون الشرك إيمانا، والمنكر معروفا ... وإذا آخرون يقسون على أنفسهم ويتقربون إلى الله بتعذيب أبدانهم وأرواحهم وحرمانها من حق الحياة الطيبة . فكيف لا يحتاج الناس- وتلك حالتهم- إلى رجل (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) . أى: إلى رجل يكشف معالم الطريق بعد أن طمرتها رياح الزمن، وجر عليها النسيان أو الطغيان ذيوله.. إننا نحن المسلمين لم نحزن يوما- ولن نحزن أبدا ؛ لأن اليهود تبعوا موسى أو لأن النصارى تبعوا عيسى، ولو خامرنا هذا الشعور لكنا خائنين لربنا ورسولنا..!! ولكنا حزنا، لأن كثير من اليهود والنصارى تخلوا عن رسالة الله التى حملها موسى وعيسى، ورفضوا أن يصلحوا أنفسهم وأن يصلحوا العالم.. وكان طبيعيا بعد هذا التخلى ألا يدع الله الأرض فوضى فى كفالة قوم آبوا المضى مع هدايات الله التى أنزلها عليهم... فكان الإسلام، وكانت أمته الباقية على اختلاف الليل والنهار ..! ص _137(1/108)
والشارة التى انفردت بها هذه الأمة، والتى لا تستحق إكرام الله إلا بها، هى تبليغ حقائق الدين، والحفاظ على حدود الله وحرماته، وبقاء المعروف معروفا يدعى إليه، والمنكر منكرا ينهى عنه . . ... هذه الشارة التى تجعل منزلة الأمة من سواد الناس كمنزلة رسولها منها. فكما أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- شرح الحق شرحا مستفيضا ثم قال: "اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد"، كذلك يجب أن تفعل أمته، فتشرح الحق، وتعيش به وله، وتشتهر فى الأرض باسمه وموضوعه . إن الجماعة الإسلامية ذات رسالة وهدف، وهذا معنى قول الله تعالى : (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس) . وقد تكرر هذا المعنى من قبل (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) . الشهادة على الناس: هى القيام على أمانات الدين وإبلاع عقائده، وعباداته، وأخلاقه ومعاملاته . لقد قامت فى الحياة دول غريبة عن رسالات النبيين . وفى هذا العصر تقوم دول، بعضها يحارب الله علنا، والآخر ينتسب إليه ظاهرا ويخاصمه باطنا . لكن الأمة الإسلامية مكلفة أن تجعل شرفها من الانتساب إلى الله ظاهرا وباطنا، ومن إحياء شرائعه كلها إذا أماتها الناس، أو أماتوا شيئا منها. وقد شرح محمد صلى الله عليه وسلم رسالة أمته فى العالم، ووظيفتها فى تبليغ الحق وحمايته، وسر استخلافها فى الأرض بعد ما خانته أمم أخرى: عن أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا إلى الليل، على أجر معلوم ؛ . . ص _138(1/109)
فعملوا له نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذى شرطت لنا، وما عملنا باطل . فقال لهم: لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا، فأبوا وتركوا... واستأجر آخرين بعدهم، فقال: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذى شرطت لهم من الأجر، فعملوا، حتى إذا كان حين صلاة العصر، قالوا: ما عملنا باطل ولك الأجر الذى جعلت لنا فيه، فقال لهم: أكملوا بقية عملكم، فإن ما بقى من النهار شىء يسير فأبوا... فاستأجر قوما يعملون له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، فاستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور " (البخارى) . تدبر الجملة الأخيرة " ما قبلوا من هذا النور"، إنها تشرح حالتهم كلها لقد أوتي اليهود كتابهم ؛ ليعملوا به، وليحكموا بين الناس بما فيه من حق (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) . وأوتى النصارى كتابهم كذلك ؛ ليعملوا به، وليجمعوا من قبلهم ومن معهم عليه : (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور) . لكن هذا النور الهادى ما كاد يشتعل بين أيديهم حتى انطفأ، فما وفى أصحاب موسى ولا أصحاب عيسى بعهودهم، ولا استقاموا طويلا مع رسالتهم . والأمم تتنكر لرسالاتها حين تدع الهوى يغلب الهدى، والباطل يهزم الحق، فتبقى كتبها معها ولكن معطلة مثل مواثيق الأمم المتحدة التى صيغت بدقة وعصيت بإصرار !. وقد يبلغ التنكر أن يتطرق الباطل إلى النصوص نفسها بالتحريف والمسخ، وهنا الطامة.. فإن معناه كسر المصابيح وذهاب أشعتها، وسيادة الظلام . والعالم يستحيل أن يستفيد من هذه الأحوال إلا الخبط والشر . والواقع أن ديانة موسى ذهبت، وحلت مكانها نحلة أخرى . ص _139(1/110)
وهل للصهيونية صلة بنبوات ؟ وكذلك القول فى ديانة عيسى ! إن هذه المخلفات التى تحمل عنوان الدين لا صلة لها بوحى الله، ولا مكان فيها لسعادة الناس، ويعتبر أصحابها قد تخلوا عن عملهم الأول، وأداروا ظهرهم نهائيا لوحى السماء . ومنذ بدأ هذا العوج وانتشر، وظهرت حاجة العالم لرسالة جديدة يستأنف أصحابها هداية الناس، وقيادتهم باسم الله، ويكملون ما رفض السابقون إكماله، فكانت هذه الأمة الإسلامية . إن الحق الذى حملته سيصحب الزمان حتى تنفض الحياة، سيبقى محفوظا لا يرقى إليه خلل، ستظل به حقائق الإيمان، وشرائع الإحسان كما رسمتها الحكمة العليا دون تغيير . وإذا كان هناك من رفض العمل مع الله، أو عمل معه على غير ما شرع، أو عجز عن القيام بما وكل إليه، فإن أهل القرآن لن يقعوا فى هذه الأخطاء . وعندما يقع شىء من هذه الأخطاء فلن تهدأ الحرب معه . هيهات، ولن يستطيع الشيطان أبدا الذهاب بالحق، والإتيان على معالمه، كما وقع ذلك بين الأقدمين . وقد روى ابن عمر حديثا آخر يشرح دور هذه الرسالة الخالدة . عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس . . أوتى أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار، فعجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتى أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا به إلى صلاة العصر، فعجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتينا القرآن، فعملنا به إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين . فقال أهل الكتابين: أى ربنا، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطا قيراطا، ونحن كنا أكثر عملا منهم؟ ص _140(1/111)
قال الله عز وجل: هل ظلمتكم من أجركم شيئا ؟؟ قالوا: لا ! قال: فهو فضلى أوتيه من أشاء أهو فضل محاباة ؟ كلا، ومن الحماقة أن نظن الله يحابى أمة ما . إنه فضل إتاحة العمل لمن يقدر على أدائه، فإذا لم يقم به فلا فضل له، ولا خير فيه . ثم إن أمة ما لا يجوز أن تنتسب إلى الله بمحض الدعوى..!! * الأمة التى تنحنى لله الأحد فلا تخضع إلا له . ! * الأمة التى تتجه إلى الله الصمد، فلا تدعو فى الشدة والرخاء غيره..! * والأمة التى تنقاد لله الحكم فلا تقضى بغير شرعه، ولا تحيا إلا وفق أمره..!! * الأمة التى تصبغ باطنها بالتقوى، وتملأ أرجاءها بالعدل، وتحد مطالبها ومآربها بحقائق الدار الآخرة... ... هذه الأمة هى التى يجوز أن تنسب نفسها لله . . ولو أن حضارة أفلحت فى جعل هذه الأرض قصورا تجرى من تحتها الأنهار، ثم بقى سكانها لا يحترمون ربهم، ولا يستعدون للقائه، ولا يسبحون بحمده، ولا يخضعون لمجده ما ساوت هذه الحضارة قلامة ظفر، ولا استحقت ذرة من تقدير . . وهناك أمم شتى انتسبت إلى الله دون أن تستعف فى الدنيا وتتراجع عن دناياها، ودون أن تطلب الآخرة، وتمهد لها بالتواضع والصلاح والإصلاح، فماذا حدث لها ؟ رفض الحق هذا الانتساب، وأوقع بأهله ما يستحقون من عقاب، واستخلف بعدهم قوما آخرين (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير) . والأمة الإسلامية لن تفلت من هذا القانون، فإن الله انصرف عن الأولين لما انصرفوا عنه . ومن هنا فإن كرامتها مرهونة برسالتها . ص _141(1/112)
وستبقى بعين الله ما بقيت مخلصة له، تسبح باسمه الأعلى، وتتحرى رضاءه فيما تفعل وتترك . وقد أومأنا إلى الأسباب التى بقيت بها هذه الأمة . حفظ القرآن الكريم، وخلود الوحى الإلهى فى صحائفه دون أى تغيير . وسلامة شروحه وتفسيره فى السنة النبوية، ويقظة العلماء فى دراستها وحياطتها . ذاك من الناحية النظرية . أما من الناحية العملية فإن عناصر مزج الحياة بالحق، ومحاكمتها إليه لم تنقطع من هذه الأمة على اختلاف الأعصار والأمصار . قد تشيع الخرافة، أو تنتشر المعصية، أو تقع المظالم، وهذه طبيعة الحياة، ولكن مقاومة أهل الإيمان تلاحق ذلك كله، فإما انتصرت عليه، وإما حصرت شره . . وربما انهزمت فى قطر ؛ لتنتصر فى قطر آخر . وربما تقهقرت فى عصر ؛ لتتقدم فى عصر آخر . . وأيا ما كان الأمر فإن الحق الثابت فى صحائف الوحى، المكافح فى سيرة المجاهدين لا تخمد ناره ولا تنطفئ أنواره . . وفى الحديث : " ولا يزال ناس من أمتى ظاهرين على الحق حتى يأتى أمر الله وهم ظاهرون " (مسلم) . وهذا الظهور بالحق لا يجوز أن يكون فى الخطب البليغة، أو الكتب القيمة. إنه فى الأحوال السائدة والأعمال المبينة. إنه فى بناء الجماعة على بصيرة من أمر الله، وضبط شئونها الخاصة والعامة بحدوده . الإسلام لا يصلح عنوانا مجلوبا لأمة متهاونة، أو متمردة، أو أمة تسير فى الحياة كيفما اتفق، وتنطلق فى فجاجها لغير وجهة، لأن الإسلام جملة من الحقائق المنصوبة فى حنايا الأنفس وزوايا المجتمع تُذكر صباحا ومساء بالله، وتؤكد اتباعه، وهيبته، والإخلاص له . . ص _142(1/113)
طبيعة الحياة بين الرجل والمرأة هل الغريزة الجنسية رجس من عمل الشيطان ؟ بعض الناس يظن هذا، ويري أن من مظاهر التقرب إلى الله كبت هذه الغريزة أبدا . ومن ثم فهو يعد الرهبانية درجة رفيعة من درجات السمو الإنسانى، ودلالة كبيرة على حب الله والسعى فى رضاه . والإسلام يأبى هذا التفكير ويرفض نتائجه جملة وتفصيلا . فهو دين الفطرة، وهو يصون الطبيعة البشرية ولا يمحقها، ونظرته إلى الميل الجنسى كنظرته إلى رغبة المعدة فى الأكل . إن هذه الرغبة لا تنكر، ولكن إشباعها يحتاج إلى شىء من البصر، فيجب أن يكون المطعوم حلالا لا حراما، وطيبا لا خبيثا . سعي الإنسان فى طلب الطعام مفهوم، ولكن من حق الله عليه مثلا ألا يأكل الجيف ، أو الدماء، أو الخنازير .. إلخ . ومن حق الله عليه أيضا إذا وجد الطعام المباح ألا يكتسبه بأسلوب الغش والخطف وغيرهما . كذلك الناحية الجنسية . إن الإسلام لا يستغرب حركتها، ولا يتعبد الناس بالقضاء عليها، ولكنه يرسم طريقا معينة لإشباعها ويضع لها الحدود التى تتحرك داخلها . فإذا توفر لها الحلال الطيب انحسم الحرج كله فى مسلكها . وكما يأكل المرء باسم الله يباشر زوجه باسم الله . ص _143(1/114)
وبانضمام النية الصالحة إلى هذه الأعمال المعتادة تتحول- وهى شهوات- إلى عبادات متقبلة..!! وجمهور الفقهاء المسلمين يعتبرون النكاح من الطاعات، ويرتبون الأبواب الباحثة فيه بعد الزكاة والحج!!! وقد حاول ناس- فى عهد النبوة- أن يجعلوا الرهبانية دينا، والإضراب عن الزواج عبادة لقوم باردى الغريزة . وربما كانوا متأثرين فى هذه النزعة بديانات أخرى . ولما بلغ خبرهم نبى الإسلام رفضه أشد الرفض، إذ إن هذا المسلم قد يكون عزوفا بدنيا طبيعيا . ولو فرضنا أنه كفاح لرغبة شديدة كامنة بالعقل، فهو انتصار فى معركة لا قيمة لها، ولا مكان لرضوان الله فيها . وقد تكون عواقبها الشخصية والاجتماعية مدمرة لأصحابها ولغيرهم . من أجل ذلك كان الزواج من سنن الإسلام ومعالم الإيمان . عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: " جاء رهط إلى بيوت أزواج النبى- صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته . فلما أُخبرُوا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم: أما أنا فإنى أصلى الليل أبدا ! وقال آخر: وأنا أصوم الدهر لا أفطر !. وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا !. فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: أنتم القوم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتى فليس منى ص _144(1/115)
وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله فى الشطر الباقى" (الطبرانى) . * * * وكما يرفض الإسلام الرهبانية، يرفض التبذل والتبرج وإرسال العنان للغريزة الجنسية تتشبع مما تجد، وتسعى وراء ما تفقد . . والحقيقة التى نؤكدها هنا، وأكدناها قبل ذلك أن الزنا فاحشة غليظة، ومنكر قبيح . وأن الإسلام يغلق جميع الطرق التى تفضى إلى هذه الرذيلة . ويعد الذين يسطون على الأعراض، ويستمرئون التسول الجنسى مجرمين فى منزلة قتلة الأنفس وقطاع الطرق..!! وسوف يظل الخلاف قائما على أشده بيننا وبين دعاة المدنية الغربية، ما بقوا ينظرون إلى عوج الغريزة الجنسية نظرة برود، وهدوء، وقلة اكتراث..!! إن الإسلام يستجيب لحاجات الجسد، وقد يوفر له المرفهات بعد الضرورات، والتوسع فى المباحات لا شىء فيه ما لم يتحول سرفا وسفها . والناس لا يتناولون أطعمتهم بقدر ما تحتاج أبدنتهم من "سعر حرارى" . إنهم يزيدون ويستكثرون، لكن مطاوعة البطن فيما يتشهى من أطعمة مسألة ينفر منها الدين، وتأباها المروءة . فماذا تقول فى أناس يفتنون فى رص الموائد، وإهاجة المعد، وتحميلها فوق ما تطيق ؟ إن ذلك لو كان من المال الخاص وكسب اليد، لكان تبذيرا تخشى عواقبه فى الدنيا والآخرة، فكيف لو كان من سحت ؟ فكيف لو كان من نهب وغصب ؟! كذلك القول فى الغريزة الجنسية.. إن بعضهم لا يكفيه أن يسكنها إذا تحركت بما أحل الله، بل نراه يملأ الأرجاء بمثيرات الغريزة، بما يستفزها لو هدأت، ويجيعها لو شبعت . ص _1 ص(1/116)
وهو يتخذ من تزيين المرأة وإقحامها فى كل مجال، وسيلة دنيئة لهذه الإثارة المتعمدة، واللذة لا يروى لها ظمأ مع هذا التلوين المستمر . ومادام التجديد ميسورا فلم النكوص عنه ؟ وهكذا تضطرم نيران الطبيعة الحيوانية، ويصعب إسلاس قيادها سيما والقلوب فارغة من اليقين الحاجز، والإيمان الذى يبذر الخشية ويعصم من الزلل..!! وقد بين الله جل شأنه أن زينة المرأة الظاهرة قد يسمح بإبدائها . فإن انكشاف مواضعها- وهى الوجه والكفان- يجعل إخفاءها متعذرا.. أما الزينة الباطنة فإن القرآن نفسه أحصى صنوف الناس الذين يجوز لهم أن يطلعوا عليها. ومن هذا الإحصاء الذى تنزل به الوحى يُعرف مبلغ التحريم فى تكشف المرأة لغير هؤلاء الذين تضمنتهم الآية . قال تعالى- بعد أن أمر المؤمنين بغض البصر وحفظ الفروج -: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء…). وقال : (… ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) . وضرب الخمار على الجيب معناه إسدال غطاء الرأس حتى يوارى أعلى الصدر، وبذلك تستر المرأة من فوق . ثم ينبغى أن تعتدل فى مشيتها، ولا تحاول إبراز زينتها من أسفل . ومعنى هذا التوجيه، ومعنى حصر الرجال- بالعدد- الذين يصح أن يروا زينتها الباطنة، أن ما وراء ذلك محرم. ص _146(1/117)
وأن ما حدث الآن فى الأحفال وعلى الشواطى وفى الشوارع منكر كله، لا يقبل الإسلام منه قليلا ولا كثير… *** إن العالم غريق فى مآثم جنسية جارفة، والعلة الأولى هى تجاهل حكم الله فى العلاقة بين الرجل والمرأة . . ونحب أن نقولها هنا صريحة . . الإسلام ينكر هذا الاختلاط بين الشواب والشبان فى ساحات الرقص حيث يتخاصرون ويترنحون تحت عنوان "الرياضة المباحة"..!! إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " لأن يطعن فى رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " (الطبرانى) . والإسلام ينكر هذه الخلوات المريبة بين الرجال والنساء، ويأبى أى تفسير لها يفتعله الشاردون عن نهج الشرف والفضيلة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذى محرم" (البخارى) . وقال: " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان . . " (المنذرى) . ولا يجوز أبدا باسم الحب، أو الإعجاب، أو أى شارة أخرى أن تدور عبارات الغزل ، أو يتم تبادل القبل بين فتى وفتاة، فإن هذا تمهيد خطير للشر، ومنزلق سريع نحو الجريمة . وقد نفر الإسلام من مقدمات المعصية، وأعطاها اسم المعصية نفسها . فالعين الجريئة الباحثة عن العورات زانية، واليد الخبيثة التى تتحسس الأجسام زانية، ومن صنع شيئا من ذلك ارتكب ذنبا لا محالة . . عن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة ... فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها ص _147(1/118)
البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه " (البخارى) . وفى رواية لمسلم: " واليدان تزنيان فزناهما البطش، والرجلان تزنيان فزناهما المشى، والفم يزنى فزناه القُبلُ " . ومعنى كتابة الله على ابن آدم، أن الله أحصى على كل إنسان خلجات نفسه، وحركات بدنه، إذا كانت هذى الخلجات والحركات تنطوى على قصد سيئ، ووجهة شهوانية . . وأنه جل وعلا أرصد لكل ذرة من هذه التصرفات الآثمة عقوبتها المناسبة فمهما تحرك الإنسان بنية الشر كتب عليه نصيبه من الجزاء، وأدركه العقاب المقدور لا محالة . . وهذا التشديد يقصد به سد منافذ الجريمة، فإن مقدمات الزنا النفسية يطلع عليها علام الغيوب وحده ..!! وهى إذا تمت وانتظمت تأدت إلى نتيجتها سرا، أو علنا، فكان ما يغضب الله ويفسد الأمم . . وعودة الناس إلى الجاهلية الأولى فى هذا المضمار أمر سهل، مهما بلغوا من حضارة، وأوتوا من علم . . وما أيسر اعتذارهم لنزوات الطبيعة، وما أسرع انزلاقهم إلى مهاوى الفحش. وأمامى- وأنا أخط هذه السطور- كلمات نشرت على عرض بضعة أعمدة بالحروف اللافتة فى صحيفة الأهرام تقول تحت عنوان "تخلع ملابسها فى مزاد للخير" . لأول مرة فى تاريخ "المجتمع الراقى" البريطانى ستخرج حفلة خيرية عامة عن وقارها ! ولأول مرة فى تاريخ هذا المجتمع- أو هكذا تقول الصحف البريطانية- ستضم حفلة من حفلات الخير الكبرى برنامجا من البرامج التى تقدمها "علب الليل" الباريسية..!! تؤديه راقصة فرنسية مشهورة اسمها "مس نيفر" . ص _148(1/119)
دعتها اللجنة المشرفة على الحفلة ؛ لكى تقف أمام الجمهور بملابسها كاملة، ثم تخلعها قطعة بعد قطعة حتى تبقى عارية كما ولدتها أمها..!! وستظل هكذا حتى تنتهى اللجنة من بيع ما خلعته من ملابسها بالمزاد العلنى، كل قطعة منها على حدة..!! بقى أن تعرف أن اللجنة التى نظمت البرنامج تضم أكثر من سيدة من "علية القوم" . وأن الذين سيحضرون الحفلة أكثر من "دوق"، وأكثر من "سير"، وأكثر من "لورد"... وبينهم كذلك السفير الأمريكى فى لندن..!! وأما الحفلة فتقام لصالح اللاجئين "الأوروبيين طبعا" . . * * * وللسادة المترفين رقاعات شتى، ونحن لا نبرز هذه الزاوية من القصة المسطورة، فما يستحق الإبراز فوق الحصر . وإنما نبرز تواطؤ أمم غفيرة على نسيان الله وهدم حدوده، والظهور بهذا النسيان والهدم فى آفاق الشرق والغرب . (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) . ونحن نحذر القردة والخنازير، من تزيين هذه السبيل لأمتنا، ومن تضليل سعيها بنشر هذا السقوط الاجتماعى على أنه تحضر وارتقاء، أو على أنه خُلق أهل الحضارة والارتقاء . . ص _149(1/120)
الأسرة هى المأوى الطبيعى لكلا الجنسين، والمستقر الوحيد الزكى لعلاقتهما . إن الإنسان وحده نصف، ما يبلغ تمامه إلا إذا انضم إليه نصف آخر . والشهوة الجنسية- لو صححنا النظر إليها- عامل ثانوى فى تكوين الأسرة، أو عاطفة مساعدة . أما الأساس الكريم الراقى، فهو الصحبة القائمة على الود، والإيناس والتآلف..!! وهذا الأساس هو الذى نوه القرآن الكريم به عندما ذكر قصة الخليقة : (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) . هذا السكن معناه استقرار الشعور والسلوك، واطمئنان المرء إلى أنه مع شخص يزيد به، ويستريح معه، ويهدأ فى كنفه عند القلق، ويلتمس البشاشة معه عند الضيق... وفهم الزواج على أنه رباط جنسى وحسب، سقوط فى التفكير، وفى الشعور.. إن الأمر أعلى من ذلك وأكبر، وتدبر قوله تعالى : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) . لكن بناء البيوت على هذه الحقيقة الروحية يحتاج إلى كثير من التثقيف والتأديب، أو بالتعبير الصحيح يحتاج إلى الخلق والدين . إن العلاقات بين الزوجين عميقة الجذور، بعيدة الآماد. إنها تشبه- من القوة واللصوق ص _150(1/121)
- صلة المرء بنفسه، ومن ثم عنى الإسلام بالمحافظة عليها والارتفاع بجوهرها وصيانة ظاهرها وباطنها . (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) . وروى أبو سعيد عن النبى صلى الله عليه وسلم " إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضى إلى امرأته وتفضى إليه ثم ينشرها " (أبوداود). وحسن الخلق مع الزوجة من أمارات الإيمان: " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى " (الحاكم) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه لفرسه، وملاعبته أهله فإنهن من الحق " (الترمذى) . فانظر كيف عد من الحق هذه الصلة الإنسانية الخاصة بين الزوجين ! وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: " خير متاع الدنيا المرأة الصالحة " (مسلم) . وبهذا النصح أفهم الرجل أن أفضل ما يستصحبه فى حياته ويستعين به على واجباته الزوجة اللطيفة العشرة القويمة الخلق أو التى وصفها فى حديث آخر "... التى تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فى نفسها ولا مالها بما يكره " (الترمذى) . إن هذه الزوجة هى دعامة البيت السعيد وركنه العتيد . والروابط بين الأسرة تعلو على الفناء، فإذا انتهت هذه الدنيا، وتركها أهلوها فرادى، أو جماعات، التأم شملهم مرة أخرى هناك فى الدار الآخرة، على نحو ما كانوا عليه فى هذه الحياة (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) . وفى سبيل جمع الشمل لا بأس أن يلتحق الأبناء المقصرون بآبائهم المجدين (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) . ص _151(1/122)
وإذا كانت الأسرة المؤمنة يبقى عقدها فى النعيم، فالأسر الأخرى يبقى عقدها كذلك فيما استحقت من عذاب . (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون ، من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) . وإنه لشىء عجاب أن تظل هذه الروابط الإنسانية موصولة قائمة . ولكن العجب ينقطع إذا فقهنا طبيعة الحياة الزوجية قبل الإنجاب وبعده، إنها تقوم على عاطفة أسمى من الزمالة والصداقة، عاطفة يستبطن بها كل الزوجين صاحبه، ثم تترعرع فى ظلها الأجيال الناشئة . ولن توجد بيئة أزكى ولا أجدى من الأسرة فى تربية الأولاد . . أجل، فى ظل الأمومة الحانية والأبوة الكادحة- وهما أوثق وأعمق المشاعر الإنسانية- تتم كفالتهم، وتتفتق براعمهم، وتستوى أعوادهم، وترتقب ثمارهم . . لذلك كانت حماية الأسرة من أعظم الواجبات، وكان تمهيد الطريق أمامها من أفضل القربات . ولما كانت نفقات البيت من أهم ما يواجهه الزوجان، ومن أشد ما يعنت صلى الله عليه وسلملأنه هو الذى يحمل العبء- وربما كان لاختلاف وجهات النظر فيما يُجلب وفيما يُترك أثر سيئ فى نفسه وفى أهله، بين النبى- صلى الله عليه وسلم- أن النفقة التى لابد منها للبيت، والتى يسعد البيت ببذلها ليست من المستهلكات الضائعة، بل هى من الزكوات الباقية فقال: " دينار أنفقته فى سبيل الله، ودينار أنفقته فى رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك ؛ أعظمها أجرا الذى أنفقته على أهلك " (مسلم) ! ! وهذا توجيه يستحق النظر، فإن من الناس من يضيع مصالح بنيه، أو يسيء تقديرها، أو يمتنع عن سد ثغورها على حين يعطى فى وجوه أخرى . ص _152(1/123)
والإسلام يرى أن كفالة البيت وتوفير الضمانات التى تستره فريضة قد ترجح أنواع الإنفاق الأخرى عند الموازنة الفاحصة . إن الجدل حول نفقات البيت لا ينقطع، والمطالب التى تُعرض وترفض كثيرة. . وفى بيت النبى- صلى الله عليه وسلم- نفسه حدث توتر فى العلاقات بسبب ما يطلبه أمهات المؤمنين من زيادات لا يقدر الرسول عليها ! ! والإسلام يكره أن تكون أمور النفقة سببا فى تعريض الأسرة كلها للمتاعب وتهديد مستقبلها بالأخطار . يقول الله تعالى فى مثل هذه الشئون: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا) . وهذا الأمر الإلهى جاء بعد جملة من الأوامر التى توصى بحسن الخلق، وتمسك بعروة التقوى، وهى أوامر عرضت فى سياق ما يمر بالبيوت من منازعات . ، وما يخاف على حبالها من انقطاع ، فبعد أن قال : (فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله) . وقال : (ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا) . وقال : (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا) . وقال : (ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا). ص _153(1/124)
الزواج رباط حر وفى سبيل رفع قواعد الأسرة وتثبيت دعائمها شرع الإسلام هذه المبادئ العظيمة: * الزواج رباط حر بين طرفين كاملى الإرادة، فلا الرجل يُكره على أخذ من يكره، ولا الفتاة ترغم على قبول من تبغض . وقد يحدث أن تستضعف البنت وتزوج من لا رغبة لها فيه، هنا يحكم الإسلام بأن هذا الإكراه لا قيمة له . روى عن خنساء بنت حذام الأنصارية أن أباها زوجها- وهى ثيب- فكرهت، فأتت رسول الله فرد نكاحها (البخارى) . وروى أنه جاءت جارية بكر إلى النبى صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهى كارهة فخيرها النبى صلى الله عليه وسلم بين القبول والرفض. وفى رواية أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبى زوجنى من ابن أخيه ليرفع بى خسيسته وأنا له كارهة، فقال لها: إن شئت أمضيت أمر أبيك وإن شئت فسخته . فقالت: أمضيت أمر أبى، ولكن فعلت ذلك ليعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شىء تعنى ليس لهم إكراه بناتهم فى التزوج ممن يكرهن .. لكن للآباء، والأولياء عموما حق الاعتراض على العقد إذا أساءت الفتاة التصرف فى نفسها بأن قبلت الزواج من أفاك، أو رقاص، أو محتال، وكثير ما تقع البنات الأغرار فى شراك هؤلاء الدجالين . فإذا لم يكن العقد قد تم مع كفء فسخه القضاء بعد اعتراض الأولياء . ص _154
إن الإسلام أباح للنساء أن يتصرفن فى حدود المعقول (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) . ومناط الكفاءة المعتبرة: الدين والخلق، لا النسب، أو الثروة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير " (الترمذى) قالها ثلاثا . ص _155(1/125)
الرجل رب البيت * الرجل- فى شريعة الله- رب البيت وقيم الأسرة، وهذه ميزة تكليف أكثر مما هى ميزة تشريف . والغرض منها أن يسير البيت وفق نظام سائد، لا وفق مآرب متدافعة ورغبات متنازعة . ومن العبث أن تكون أى شركة من غير رئاسة مسئولة . وترك زمام البيت فى يد المرأة وضع للأمور فى غير نصابها، أو هو تحميل العبء للكاهل الضعيف . . والرجل أجدر من امرأته بحق إدارة البيت ورياسة الأسرة، فإن ما ذرأه الله عليه من احتمال وصلابة، ومقدرة واسعة على الكسب والنفقة، كل ذلك يجعله أولى بالترجيح (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) . وقد يحدث فى بعض البيوت أن يستنوق الجمل، أو أن تكون المرأة أبين قدرة من رجلها.. وهنا تسقط منه الرياسة، أو يسقط هو من الرياسة وتنتقل إمرة البيت إلى المرأة . وهذا الوضع الشاذ لا يقدح فى القاعدة العامة، وهو على شذوذه محذور العواقب حيث يقع، ومن الخير أن تراعى طبيعة الحياة التى استتبعت هذا الحكم (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة) . وتقرير هذا المبدأ لم يخل الإسلام من جملة تعاليم تشرح حق المرأة على الرجل، وحق الرجل على المرأة . ص _156(1/126)
وهى تعاليم وفرت من الخير للأسر ما يملأ أرجاءها برا وتقوى، وودا وتعاونا، وفيها ضمانات موثقة للحياة الزوجية واستقرارها، وضمانات أعظم، لينبت الأولاد نباتا حسنا، وينالوا من حظوظ الصحة النفسية ما يجعلهم أصلح بالا، وأسعد حالا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلم الرجال حقوق النساء. ، وما ينبغى لهن من وفاء وتكريم، ويعلم النساء حقوق الرجال وما يجب لهم من احترام وفضل . عن ميمون الكردى عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس فى نفسه أن يؤدى إليها حقها، خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقى الله يوم القيامة وهو زان. وأيما رجل استدان دينا لا يريد أن يؤدى إلى صاحبه حقه، خدعه حتى أخذ ماله فمات ولم يؤد إليه دينه لقى الله وهو سارق " (الطبرانى) . وعن ابن عمر قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: " كلكم راع ومسئول عن رعيته، الإمام راع، ومسئول عن رعيته، والرجل راع فى أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية فى بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع فى مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته" (البخارى) . وعن عائشة- رضى الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله " (الترمذى) . وعن معاوية بن حيدة- رضى الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال: " أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ، ولا تهجر إلا فى البيت " (أبو داود) . وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أى أبواب الجنة شاءت " (ابن حبان) . ص _157(1/127)
وروى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: " جاءت امرأة إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك " . هذا الجهاد كتبه الله على الرجال فإن يصيبوا أُجِرُوا، وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون . ونحن معشر النساء نقدم عليهم فمالنا من ذلك . قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبلغى من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك، وقليل منكن من يفعله " (البزار) . وفى رواية أخرى: " ثم جاءته- يعنى النبى صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: إنى رسول النساء إليك، وما منهن امرأة علمت أو لم تعلم إلا وهى تهوى مخرجى إليك . الله رب الرجال والنساء وإلههن، وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء، كُتب الجهاد على الرجال فإن أصابوا أثروا، وإن استشهدوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، فما يعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة ؟ قال!: طاعة أزواجهن، والمعرفة بحقوقهن، وقليل منكن من يفعله " . وعن زيد بن أرقم- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المرأة لا تؤدى حق الله حتى تؤدى حق زوجها حتى لو سألها وهى على ظهر قتب لم تمنعه نفسها " (الطبرانى) . هل يهب النسيم عليلا داخل البيت على الدوام ؟ إن طبائع البشر تأبى هذا، فقد يعتكر الجو، وقد تثور الزوابع . وارتقاب الراحة الكاملة وهم، وانتظار اللذة الخالصة عجز . وقلما عاش إنسان وحده، أو مع غيره، على حالة ثابتة من الرضا وانعدام العتاب . ومن العقل توطين النفس على قبول بعض المضايقات، وترك التعليق المرير عليها، أو ترتيب النتائج الكبيرة لوقوعها . ولما كان الرجل فى نظر الإسلام هو رب البيت ومالك زمامه، فإنه مطالب بتصبير نفسه على ما لا نحب أحيانا . ص _158(1/128)
أجل مطالب بإساغة بعض التصرفات الغبية، فإن نشدانه المثل الأعلى فى بيته متعذر، ومجيء امرأته وفق آماله كلها بعيد . ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شىء فى الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا " (البخارى) . وفى رواية: " إن المرأة خلقت من ضلع، ولن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها " (البخارى وغيره) . وهذا ما يكرهه الإسلام . * * * ومن الرذائل النفسية تحقير نعمة الزوج، وتقليل شكرها، إن المرأة التى تبنى سلوكها على جحد زوجها، وكفر نعمته تخط لنفسها طريفا إلى النار . ونسيان الجميل شائع فى خلائق الناس، رجالا وإناثا، كأن تقدير النعمة واحترام صاحبها عبء جسيم ! وذلك ضرب من الخسة قد يغرى بعض الناس بترك الإحسان على نحو ما قال الشاعر : وزهدنى فى كل خير صنعته إلى الناس ما جربت من قلة الشكر لكن التقاطع فى الحياة العامة قد يكون له مكان . أما أن يلمح الرجل فى خلق زوجته كنودا لا إقرار معه بنعمة، ولا اعتراف معه بفضل فهذا من أكبر سيئات المرأة،، وقد عده النبى صلى الله عليه وسلم ذريعة لاستحقاق الزوجة عذاب الله . ص _159
وفى الحديث: " لا ينظر الله تبارك وتعالى إلى امرأة لا شكر لزوجها وهى لا تستغنى عنه " (الحاكم) . وفى آخر: " أريتُ النار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن، قيل: أيكفرن بالله ؟ قال: لا، يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان. لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط ". *** ص _160(1/129)
غيوم لابد منها وعلى الرجل ألا يسترسل مع مشاعر الضيق، وألا يحبس نفسه مع الجانب الذى يسوءه من زوجته، بل يجب أن يذكر جوانب الخير الأخرى . ولن يعدم ما تطيب به نفسه من سيرتها ومعاملتها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يفرك- لا يكره- مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضى منها آخر" (مسلم) . فإن غلبته مشاعر التشاؤم، وظن من نفسه أن يكرهها كراهية تامة، فليعلم أن هذه المشاعر كثير ما تكذب، وأن المرء قد يفرط فى أسباب خيره ومصادر نفعه. ولذلك قال تعالى : (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) . * * * وهنالك أناس لا تغنى فى تقويمهم العشرة الحسنة، والنصيحة الرقيقة . وكم من رجل وامرأة أبطرهما التلطف والحلم، فإذا لاحت القسوة سكن الجامح، وهدأ المهتاج . واللجوء إلى الخشونة فى تأديب المرأة دواء أخير، وإنما يلجأ إليه إذا تمردت على وظيفتها ونشزت- أى ترفعت وشرست- عندئذ ترد إلى مكانها الطبيعى بشىء من القسوة بعد أن عجز معها الظرف والرفق . لكن أى قسوة ؟ عن معاوية بن حيدة- رضى الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ ص _161(1/130)
قال : " أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح. ولا تهجر إلا فى البيت " (أبو داود) . فى رحاب الأسرة الهادئة المتماسكة تنمو الخلال الطيبة، وتستحكم التقاليد الشريفة، ويتكون الرجال الذين يؤتمنون على أعظم الأمانات، وتخطب النساء اللائى يقمن على أعرق البيوت . فلا غرو أن يهتم الإسلام بأحوال الأسرة، وأن يتعهد نماءها بالوصايا التى تجعل امتدادها زمانا ومكانا، خيرا ونعمة . وفى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أوامر مؤكدة بين أفراد الأسرة كلهم من والد ووالدة وذى رحم قريب، أو بعيد، فإن العناية بسلامة الأسرة هى وحدها طريق الأمان للجماعة كلها. وهيهات أن يصلح مجتمع وهت فيه حبال الأسرة . وقد نوه القرآن الكريم بجلال النعمة السارية فى أوصال هذه القطعة من المجتمع الكبير فقال : (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون) . إن الزوجين وما بينهما من علاقة، أو الوالدين وما يترعرع فى أحضانهما من بنين وبنات لا يمثلان أنفسهما فحسب، بل يمثلان حاضر أمة ومستقبلها . ومن ثم فإن الشيطان حين يفلح فى فك روابط الأسرة لا يهدم بيتا واحدا، ولا يصنع شرا محدودا، إنما يوقع الأمة جمعاء فى شر بعيد المدى . وتأمل هذا الحديث الذى نسوقه إليك تعرف أن فساد الأسرة قرة عين الشيطان . ! عن جابر- رضى الله عنه- عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة " . يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئا، ثم يجىء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت، فيلتزمه ". ص _162(1/131)
أخطاء التطليق عند المسلمين بالرغم من الدمار البالغ الذى يصيب المجتمع كله إثر تقويض الأسرة بعمل طائش، وبالرغم من المكانة الملحوظة التى وفرها الإسلام للأسرة بتعاليمه المحكمة، فإن المسلمين . ظلموا أنفسهم فى السنين الأخيرة ظلما مبينا، عندما جهلوا أو تجاهلوا منهج دينهم فى ذلكم الموضوع الجليل...!!! لقد تعمدوا إهمال بعض الأحكام، وتركوا للعقول الكليلة أن تشوه بعضها الآخر، ونشأت عن ذلك فوضى عملية وفقهية مؤسفة ... خذ مثلا الأمر بالتحكيم عندما يعجز الزوجان عن حل مشكلاتهما . إن المسلمين يكادون يتفقون على إهمال هذا الأمر، وقلما يكترثون لانتشال الأسرة الغارقة عن طريقه . مع أن التوجيه الإلهى فى هذا صريح كل الصراحة: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا) . ما سر هذا الانصراف؟ أهو الزهد فى إصلاح ذات البين؟ أهو الرغبة فى تيتيم الأولاد وأبواهم حيّان ؟ إن هذا عمى غريب عن هدايات الله . والطلاق فى الإسلام يبدأ وقفا للعلاقة الزوجية لا حسما لحبالها..!! كما يوقف الموظف إلى أن يُبت فى أمره مع بقاء صلته بعمله . ص _163(1/132)
وتبعا لهذا أوجب الله على المرأة إذا طُلقت أن تظل فى بيت الزوجية، فلا تخرج منه ؛ لأنه مازال بيتها، ولا يجوز للرجل أن يخرجها منه . فهل يصنع المسلمون هذا ؟ وهل تبقى المرأة فى البيت عندما تسمع لفظ الطلاق. إن الجماهير لا تعى هذا المعنى ولا تنفذه، والمرأة تدع البيت فور سماعها الكلمة الكريهة، ولو فكرت فى المكث لاستخرجها الرجل الغاضب . أهذه العواطف الصبيانية النزقة هى التنفيذ لقول الله : (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله) . والإسلام لما أوجب على المطلقة البقاء فى البيت، إنما يريد الانتظار حتى تهدأ العاصفة، وتتحرك الضمائر، ويراجع كلا الطرفين موقفه، ويستعرض ذكريات الماضى وتبعات المستقبل، ويدرس أحوال الأطفال، إن كان هناك أطفال. . فالهروب من البيت عقب كلمة الطلاق تضييع لفرص التفاهم، ولعودة المياه إلى مجاريها ولانتصار الرشد على الحمق، ولذلك يقول الله: (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) ومع ذلك فالمسلمون يتجاوزون حدود الله فى هذا المجال . وليس الطلاق كلمة تقال فى أى وقت، أو ترسل بأى صيغة، فإن الله رسم له أسلوبا معينا يجب التزامه . والدواء لا يكون دواء لأن مادته تحتوى على أسباب الشفاء، بل لابد من تناوله بالطريقة التى يشير بها الطبيب، جرعة جرعة، أو حبة حبة . فمن اخترع طريقة من عنده لم يقل بها الطبيب فلا يلومن إلا نفسه إذا أصابته كارثة . والطلاق الذى أباحه الإسلام وضعت له معالم محددة : يجب أولا أن يكون فى طهر لم يَمَس الرجل امرأته فيه، فإذا انعقدت إرادته على هذا ص _164(1/133)
القرار الخطير تربص بنفسه وبزوجه فلم يوقع الكلمة كيفما اتفق، بل انتظر حتى تطهر من حيضها ثم منع نفسه بعد الطهر من قربانها، ثم قال الكلمة وهو واع لما يفعل.. وبذلك تستقبل الزوجة عدتها فى بيتها على بينة (فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) . وتلك هى السنة المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهى أيضا السنة التى يجهلها، أو يجحدها جمهور المسلمين.!! وكثير من الفقهاء يرفض الطلاق إذا وقع على غير هذه الصورة، كأن يطلق الرجل امرأته وهى حائض مثلا . إن هذا الطلاق حرام ولا يقع، وسناده فى ذلك أنه أتى على غير الطريقة المشروعة . " ومن أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد عليه " (مسلم)، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . والغريب أن المسلمين لا يعرفون فى معاملاتهم إلا طلاق البدعة هذا !! وجمهور الفقهاء على استنكاره، ولو أنهم اتفقوا على رفض آثاره لكان خيرا، ولكن فريقا منهم للأسف يمضيه . ونحن نرى الحق والمصلحة فى احتقاره وإبطاله معا . ثم سرت العدوى بإيقاع الطلاق حيث لا مكان لوقوعه فى قضايا كثيرة . فالطلاق اعتبر يمينا، بل أصبح اليمين المفضلة عند الرعاع ..!! وهذا خطأ، فالطلاق لا يكون يمينا، إنما اليمين بالله أو باسم من أسماء الله الحسنى . . ... وما يتداوله العامة بينهم من أيمان الطلاق لا قيمة له . . وكذلك توكيد الفعل أو الترك بالطلاق، أو الطلاق المعلق كما يقولون . إن هذا كله ضرب من اللغو لا تُنقض به عرا الزوجية . ثم ما قيمة تطليق السكارى والحشاشين، وأشباههم من العابثين الذين لا يعنون ما يقولون، ويهرفون بما لا يعرفون، وينكرون نيتهم، أو يثيرون حولها الريبة . ص _165(1/134)
إن عقد الزواج لا يتم إلا عن بصيرة وإرادة، فكذلك إنهاؤه ما يتم إلا عن وعى وعزم . ولذلك ينبغى رفض أكثر ما يجرى على الألسنة من تطليق هو إلى اللغو أقرب منه إلى الحق . * * * هل معنى هذا أنى أقبل تقييد الطلاق، وإجراءه أمام القاضى ؟ لا لا… إننى أرفض هذا العبث رفضا باتا . . إن الطلاق حق الزوج، ولن تستطيع شرطة القاهرة، ولا شرطة العالم أجمع إلقاء الرجل فى أحضان امرأة تنافر وده معها، وأجمع أمره على قطعها . . وليس من كرامة المرأة أن يسن قانون بهذا الوضع الشاذ . . إن منع الطلاق إجراء يقع فى الغرب حيث يستطيع الرجل أن يبقى زوجا صوريا لامرأة يتصل بغيرها وتتصل بغيره . علاج سوء التطليق هو رفع المستوى العلمى والخلقى، وإعادة الأمة الإسلامية إلى قواعدها الاجتماعية الأولى، وهى قواعد من أنبل وأشرف ما وعى التاريخ . وكذلك الرأى فى تقييد تعدد الزوجات بحكم القضاء . إن القانون لا يصنع شيئا حيث يكون المجال لقوة العقيدة، وحسن الخلق..!! ونحن نعلم أن هناك من أساء استعمال حقه فى تعدد الزوجات، وإيقاع الطلاق.. ولكننا موقنون أن الأسرة لم تصب من ذلك إلا بخدوش، أو علل متداركة البرء . أما الهدم الذى أصاب دعائم الأسرة فمن الفوضى الجنسية والخلقية التى زحفت علينا من الغرب . ومن المستحيل أن نقبل كلاما فى تحريم تعدد الزوجات من أناس قضوا أعمارهم مع مئات النساء، أو نسمع كلاما فى تقييد الطلاق من هذا القبيل نفسه . فإن النصح لله ورسوله، له رجاله، ووسائله، وأهدافه ...!! ص _166(1/135)
حقيقة الروابط بين الفرد والأمة الأمة هى الأسرة الكبيرة التى ينتمى المرء إليها، ويشارك فى رسالتها، وينشط فى ميدانها، ويكافح تحت راياتها، والتى ينضر وجهه لانتصارها، وينكسر قلبه لانهزامها.. !! والإنسان الكبير يهتم بأمته اهتمامه بنفسه أو أشد، ويبرها مثل ما يبر أمه أو آكد، أو يحتفى بكل ما يصله بأبنائها، ويزيد روابطه بهم متانة . وقد كانت الأمة الإسلامية فى عهدها الأول مثلا فريدا للتحاب والتعاضد، وكانت العلاقات بين الرعاة والرعايا قائمة على الإعزاز والحب، مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم " (المنذرى) . يعنى تدعون لهم ويدعون لكم، وذاك طبعا إنما يكون لصفاء النفوس وشيوع العدالة، ونجاح الرسالة العامة التى يتعاون فى إنجاحها الحاكم والشعب وإنك لتشعر بروعة هذا الحب المتبادل، وعظمة هذه الرسالة الجامعة فيما يختلج بأفئدة المجاهدين من مشاعر، وهم على أهبة القتال مع عدوهم . كان النعمان بن مقرن أحد القادة المرموقين فى جبهة فارس، وكانت عاطفته وهو يقاتل مرتبطة بجماهير المؤمنين وراء الجبهة البعيدة، وفى ذلك يقول: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوات، فكان إذا طلع الفجر أمسك عن القتال حتى تطلع الشمس، وإذا طلعت قاتل، حتى إذا انتصف النهار أمسك حتى تزول الشمس . فإذا زالت قاتل حتى العصر، ثم أمسك حتى يصلى العصر، ثم يقاتل . ص _167(1/136)
وكان يقول: " عند هذه الأوقات تهيج رياح النصر، ويدعو المؤمنون لجيوشهم فى صلواتهم " (الترمذى) . والصلة بين المسلمين أكبر من أن تكون مواطنة، أو مرافقة بالمعنى الضيق المتداول بين الناس الآن . فالرفيق قد يكون زميلا فى مرحلة محدودة من مراحل الحياة ... والمواطن قد يكون صاحبا فى نطاق الانتفاع بقطعة الأرض التى تسمى وطنا.. أو فى نطاق الالتزام بطبيعة الجوار وحقوقه . . لكن الإسلام يقيم الصلة بين المسلمين على الإخاء الوثيق، وهو إخاء تزدهر فيه عراقة النسب الإنسانى، كما تزدهر فيه حقائق الرسالة الإسلامية وما تفرضه هذه الرسالة على معتنقيها من مشاعر ومناهج . . أركان الأخوة : الإخاء الخالص لله : * الذى تغذيه شُعَبُ الإيمان . * والذى تمسكه أهداف الدعوة . * والذى تنميه على السراء والضراء مراحل الجهاد لله ورسوله . . ... هذا الإخاء هو روح الإسلام، ولب نظمه وشرائعه، وقوام جماعته وحكومته..!! قد يتعاشر شخصان على ما قل أو كثر من مشاعر الحياة الرخيصة، أو الغالية.. أما الأخوة التى يرتفع عليها صرح المجتمع الإسلامى، وتتماسك لبناته بقوتها، فيجب أن تكون، بل لا تقبل حتى تكون لله وحده . والأخوة المعنية هنا ليست شعارا أجوف. ص _168(1/137)
.. إنها شركة روحية ومادية على الوفاء بتعاليم الإسلام وإنفاذ وصاياه، وإبلاغ هداياته... ... هى الالتقاء على هذه الأعمال، وتحمل ما تستوجب من جهد، أو غرم، وما تستتبع من ألم، أو سرور. .. هى تلوين للعاطفة الإنسانية بالحب والبغض تبعا لما يصيب الإسلام من خير، أو شر . ثم توجيه السلوك العام وفق ما تقضى به هذه الأخوة اليقظة... وقد جاءت فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة لتمحيص الأخوة لله، وإقامتها على مواريث الدين وغاياته، ونفى المآرب الدنيوية عنها. وبذلك وحده تتكون أمة مخلصة لرسالتها حريصة على إنجاحها، تعيش بها وتعيش لها، ولا ترضى سواها موضوعا ولا عنوانا . وهناك بعض ما قاله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فى شرح هذا الإيمان وهدفه . عن أنس رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.. وأن يحب فى الله ويبغض فى الله.. وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحب إليه من أن يشرك بالله شيئا " (البخارى).. وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل، وشاب نشأ فى عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنى أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " (البخارى) . ص _169(1/138)
وعن أبى الدرداء رضى الله عنه يرفعه، فقال: " ما من رجلين تحابا فى الله بظهر الغيب إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حبا لصاحبه " (الطبرانى) . وعن أبى إدريس الخولانى- رضى الله عنه- قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى براق الثنايا، وإذا الناس معه، فإذا اختلفوا فى شىء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل . فلما كان من الغد هجرت فوجدته قد سبقنى بالتهجير، ووجدته يصلى، فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، ثم قلت له: والله إنى لأحبك لله، صلى الله عليه وسلم فقلت: الله. فأخذ بحبوة ردائى إليه، فقال: أبشر، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى : " وجبت محبتى للمتحابين فىَّ، وللمتجالسين فىَّ، وللمتزاورين فىَّ، وللمتباذلين فىَّ " (مالك) . وعن عائشة- رضى الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث أحلف عليهن، لا يجعل الله من له سهم فى الإسلام كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة والصوم والزكاة.. ولا يتولى الله عبدا فى الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجل قوما إلا جعله الله معهم " (أحمد) . * * * مكانة الفرد فى الإسلام : * رسالة مقدسة تنزلت من رب العالمين . . * وأمة متساندة للعمل بها فى كل أفق . وقد شرحنا فى مكان آخر الآثار الاجتماعية والسياسية لتلك الأخوة المبرأة، ويكفى أن نجيب هنا على هذا السؤال ليتم بحثنا : هل الفرد فى الأمة الإسلامية يفنى فى الدولة، شأن نظرائه فى الأمم الشيوعية؟ ص _170(1/139)
أم أن الدولة تخدم الفرد كما هى الحال فى الأمم الديمقراطية ؟ إن الإسلام شريعة السماء، وهو فوق أن يقارن بفلسفات الأرض، لكننا نحب أن نشرح خصائص الفطرة ؛ ليعلم الناس مقدار ما ضمنت لهم من خير.. لقد بلغ الإسلام فى تكريمه الإنسان حدا يشبه التدليل .. ملكة هذا العالم الرحب، ورمى بين يديه بمفاتيح كنوزه.. نبهه إلى قيمة العقل وقال له: اسبح مع تيار الفكر حيث شئت ولكن احذر الغرق... أباح له ما فى السموات وما فى الأرض يحتكم فيه وينتفع به... صحيح أنه رفض حرية الهوى والعدوان والجريمة، ولكن هذا الخطر ليس تقييدا للحرية، وإنما هو ضبط لحدودها بحيث يظفر البشر جميعا بأنصبتهم ؛ فلا تنتقص حرية مخلوق، لأن آخر امتدت حريته فوق ما ينبغى له منها دون افتئات. ويظهر هذا "التدليل" للإنسان فى شأن يعتبر أخطر وأهم شئون الدولة بل فى شأن من حق الدولة فيه أن تصادر حرية الفرد، وأن تطوح بكلمته، وأن تضرب على يديه ؛ لأنه شأن حربى يتصل بمستقبلها كله . حدث حذيفة بن اليمان قال " ما منعنى أن أشهد بدرا إلا أنى خرجت وأبو حسيل فأخذنا كفار قريش . قالوا: إنكم تريدون محمدا..!! فقال: ما نريده، ما نريد إلا المدينة.. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر . فقال: " انصرفا، نفى لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم ". ما هذا ؟! كلمة يقولها مسلم لا ترى الدولة أن تخجله فيها، ولا أن ترده عنها، بل ترى أن تصون كرامته وأن تحترم عدته . ذلك.. والمسلمون فى معركة بدر ثلث عدوهم، وحاجتهم إلى كل رجل منهم ظاهرة ص _171(1/140)
ومع ذلك، لا يأمرهما النبى صلى الله عليه وسلم بالاشتراك فى المعركة إلى جانب دينهم وإخوانهم، بل يقول لهما: انصرفا.. ثم لا يجعل هذا الوفاء مسلكا شخصيا لهما وانتهى الأمر. كلا. إنه يجعل هذا الوفاء خلق الدولة نفسها، فيقول: نفى- نحن- لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم .. هل يظفر فرد فى العالمين، وتحت ظل أى نظام ديمقراطى بهذا الإعزاز وتلك الكرامة ؟؟ وما حدث لحذيفة وصاحبه حدث مثله لامرأة . فإن أم هانئ بنت أبى طالب أجارت رجلين مشركين فى أعقاب المعركة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانى. وفى أثناء الفتوح، رمى عبد مسلم بأمان إلى قوم مشركين محاصرين، فسلموا لهذا الأمان، ثم حدث خلاف بين المسلمين عن قيمة تصرف هذا العبد، وبلغ الحادث مسامع عمر بن الخطاب، فأقر الأمان واحترم كلمة العبد، وصدق حديث النبى صلى الله عليه وسلم أن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم . . * * * على أن الإسلام عندما أتاح للفرد هذه الحرية الكريمة قمع أهواءه الجائرة وحبسه داخل حدود الله التى تنفى البطر والسرف والطغيان والعدوان . وجعله ينصاع لمطالب الرسالة التى يقوم المجتمع عليها، وتقوم الدولة بإنفاذ شرائعها وحماية نظمها فى الداخل والخارج . الفرد لا يتلاشى فى الدولة كأن الدولة، صنم جديد يطلب العباد الفانين من غير وعد، كلا، إن الدولة فى الإسلام أمينة على الإسلام، ومثله العليا، القريبة والبعيدة . وهى بهذه الأمانة تطلب بذل النفس والمال من كل فرد . ولها بهذا الشعار الصادق حق الهيمنة والتوجيه فى كل مجال، وكل وجهة . ص _172(1/141)
لا يوجد- فى منطق الإسلام- فرد يملك من ذاته أن يتلاشى الآخرون فيه، أو يذوبوا فى أمره ونهيه، وحبه وكرهه . إنما يوجد فى الإسلام "جهاز حكومى" يوجه الأشياء والأشخاص لإعلاء كلمة الله، وتقديس اسمه، وإقامة أمره . ومن حق هذا الجهاز أن يأمر فيطاع، وأن يشير فيلبى . . وهنا يفنى الفرد فيما يكلف به، ولا يؤذن له بتراجع، أو تردد، قال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) . وقال : (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه) . (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) . وفناء الفرد فى الدولة على هذا الاعتبار ليس إلغاء لشخصه، أو طمسا لمواهبه وامتيازه . بل هو هو الموقف الحقيقى الواجب على أى إنسان بالنسبة إلى الله خالقه وولى أمره ... إن استسلام الفرد للدولة- والحالة هذه- ضرب من طاعة الله، والمسارعة إلى مرضاته، وإقامة دينه فى أرضه ... أما ضياع شخصية الفرد، وذهاب استقلاله النفسى، كما تصنع بعض المذاهب الاقتصادية، فإنه يخلق عالما من الإمعات التى تحيا فى جو مشحون بعوامل الرهبة والرغبة، لا مكان فيه للأشواق النبيلة والانبعاثات العالية . والإسلام ينكر هذه الأوضاع . لأنه دين يجرد العمل من النيات المغشوشة، ويجعله خالصا لله، ويرفضه إذا قصد به وجه بشر مهما كان سلطانه . ولأنه لا يعرف حاكما- يملك من ذاته- صلاحية تسخير العامة، والخاصة، وإملاء ص _173(1/142)
إرادته على أنواع الخلق، إذ "الحاكمية" بهذه الصفة أقرب إلى ذات الله منها إلى أحد الناس، ولأنه يوجب على الحاكم أن يستشير، وعلى من حوله أن يشير . ولأنه إذا أخطأ فرض على الأمة أن تنصحه، وأن تنقد خطأه . ولأن الحاكم والمحكوم فى نظر الإسلام يخضعان لعقائد وشرائع جامعة لا يمكن التفريط فيها ولا الإفلات منها . ونخلص من هذا الاستعراض الموجز، إلى أن الإسلام يجعل الدولة للفرد فى الحدود التى تصون كرامته الإنسانية وخصائصه الفردية . ويجعل الفرد للدولة فى الحدود التى تعلو بها رسالتها- التى هى رسالة السماء- وتخفق بها رايتها- التى هى راية الحق - . ص _174
الحدود هل أرصد الإسلام لكل خطأ عقوبة عاجلة ؟ لا، فما أكثر الأخطاء التى يرتكبها الناس ولا تلقى أكثر من الزجر والتوبيخ، أو من النصح والإرشاد... خذ مثلا الكفر نفسه، وهو أكبر الأخطاء، وأشدها فحشا... إن الإسلام لم يلقه بعقاب معين . لقد اعتبر الكافر شخصا مخطئا، ولكن ماذا يصنع له مادام كفره لم يدفعه إلى اعتداء أو أذى ؟ إنه يحيا مع غيره من المسلمين، مرعى الذمام، مكفول الحق..!! وهناك أخطاء كثيرة كعقوق الوالدين، وأكل الربا . إن الإسلام يعتبرها جرائم نكراء، ولكنه لم يكتب لها حدودا خاصة . الجرائم التى انبرى الإسلام لكفاحها، ولم يترك لبشر تقدير العقاب فيها هى: القتل، والزنا، والسرقة، والقذف، والسكر... هذه الجرائم تولى الله ورسوله تأديب مرتكبيها، وبيان ما يستحقون من أذى.. ونحن- المقروحين من ذئاب الأعراض والأموال والدماء- نعرف مدى العدالة التى تتحقق بإنفاذ هذه الأوامر الإلهية العالية . ولكن يبدو أن كثير من الناس لا يدرى متى تقام الحدود، ومتى يؤخذ بتلابيب الخطائين . ولو عرف الحقيقة لاطمأن ضميره إلى حكم الله، وأدرك أنه: عدالة ورحمة معا. ص _175(1/143)
إن الإنسان خطاء بطبيعته، وأخطاؤه ليست سواء فى اقتصار ضررها على نفسه، أو تعديها إلى المجتمع . وهنا حقان متميزان لابد من رعايتهما . حق المخطئ فى فرصة يتوب فيها ويستأنف مسلكا أنظف.. وحق المجتمع فى صيانة كيانه من نزوات العميان، وتخبطهم الذى يصيب الأبرياء والغافلين... والإسلام يرعى الحقين كليهما، ولا يجوز أن ينحصر النظر فى أحدهما دون الآخر، فأما حق المخطئ فى التوبة، فليس فى الأرض دين ييسر المتاب للخاطئين، ويدفعهم إليه دفعا كالإسلام الحنيف . ولكن ما العمل إذا تحول امرؤ إلى كلب مسعور، فأصبح تركه حرا لا يزيده إلا ضراوة ، ولا يزيد المجتمع به إلا شقاوة ...!! إن عقاب مثل هذا لامناص منه..!! اتفق المسلمون على أن الحدود التى ثبتت بالكتاب والسنة يجب تنفيذها. وهى سبعة نتحدث عنها بالترتيب الآتى . ص _176(1/144)
( 1 - 2 ) قطع السارق وجزاء العصابات المسلحة استتباب الأمان فى المجتمع من أجل النعم، ما أعظم أن يتحرك الإنسان كيف يشاء دون قلق على دمه، أو ماله، أو عرضه! عندما دعا إبراهيم ربه للبلد الذى أسسه، طلب له أمرين اثنين، رزقا مكفولا وأمنا مستقرا، وقدم الأمن على الرزق وهو يسأل الله حاجته (رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات …) . ولكى يشيع الأمان، ويطمئن كل إنسان، شرع الله شرائع كثيرة، من أهمها حد السرقة، إن السرقة جريمة بالمطاردة والاستئصال، ووجودها مثار ضيق وقلق فكيف إذا شاعت ؟! تصور عاملا يكدح طوال الشهر، يسعى على أهله وولده، قبض مرتبه الذى يرقبه بشوق وعاد إلى بيته وهو يفكر فى سداد الثغرات الكثيرة التى تنتظره، ولكن يدا آثمة امتدت فى الطريق إلى ماله فسرقته. ماذا يقول وما يفعل ؟ وكيف يترك هذا اللص يحصد فى لحظات حصاد الآخرين فى أيام طوال ؟ وأعرف موظفا تغرب عاما، أو عامين، ليؤسس بيتا يتزوج فيه، فإذا اللصوص ينقبون البيت ويستولون على كل ما أثل وهيأ ! وفلاحا باع محصول زراعته ولم يهنأ بالثمن الذى ناله، لأن اللصوص أخذوه منه ! وهكذا يأكل القاعد الخبيث من كدح العامل المرهق . وهؤلاء الشطار اللئام يستولون على أموال الآخرين فيتوسعون فى إنفاقها ويبعثرونها فى لذاذاتهم دون حذر ؛ لأنهم ما تعبوا فى كسبها . ص _177(1/145)
لا ريب أن المجتمع المحترم يجب أن يخلص من هؤلاء، وأن يرصد لهم العقوبة التى تقطع دابرهم، وتروع قريبهم وبعيدهم . الأيدى فى نظر الإسلام ثلاثة : يد عاملة، وهذه حقها أن تكافأ وتصان وتشجع، ومن حقها أن يضمن لها سعيها وأن تذاد عنه الآفات، وأن تهنأ به دون متطفل سمج يفتات عليه . ويد عاطلة، وهذه حقها أن تجد العمل الذى يشغلها، وأن توفر لها أسباب العيش الشريف، وأن تأخذ حقها الطبيعى فى الحياة، ولا يجوز أن نلجئها إلى طلب القوت عن طريق التسول، أو التلصص . ويد فاسدة، وهى اليد التى عزفت عن العمل الشريف، وانبسطت للناس بالأذى، وعز علاجها مع وفرة التعاليم الدينية التى تغرى بالحلال وتنفر من الحرام، ماذا يصنع الإسلام لهذه اليد إلا أن يقطعها ؟ ليريح منها صاحبها ويريح المجتمع كله من مفاسدها ؟ ونسأل الذين يستبقون هذه اليد ويأبون الخلاص منها: ماذا تبغون من تركها؟ ربما قالوا: نكفها عن الأذى بالسجن حينا ثم نتركها. ونقول: فإذا خرجت من السجن لتستأنف السرقة وإنزال الفواجع بغيرها، أنتركها للأبد ؟ لا يقول بهذا رجل مخلص للناس، غيور على كرامتهم المادية والأدبية! ومسألة التريث أو التعجل فى إقامة الحد ليست موضع الخلاف بيننا وبين الشاغبين على العقوبات الإسلامية، فإن الحد لا يقام- دينا- إلا بعد أن يستريح ضمير القاضى إلى ما يحكم به، وهو لن يحكم على جائع محرج، ولن يبت الحكم فى قضية أحاطت بها شبهة . إن اليد التى تقطع هى اليد التى ظلمت المجتمع، لا اليد التى ظلمها المجتمع، قال تعالى : (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ، فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم) . والبلاد التى نفذت قطع، السارق هدأت أحوالها، وسادتها طمأنينة كاملة، وأغناها ص _178(1/146)
قطع يد واحدة عن فتح سجون كثيرة يسمن فيها المجرمون، ثم يخرجون أشد ضراوة وأكثر قساوة . والسطو على مال الغير، جريمة فيها قابلية النماء والتجدد، وتتحول من رغبة فى المال الحرام إلى جراءة على الدم الحرام، وما أيسر أن يقتل اللص من يعترض طريقه وهو يسرق، سواء أكان المعترض حارس الأمن، أو صاحب المال . ويغلب أن يتعاون اللص مع اللص فى إدراك مأربه، ومن هنا تتكون العصابات التى تقطع الطريق، أو التى تتقاسم المهام فى إتمام أعمال السلب والنهب . والسجون ساحات ممهدة لدراسة هذه المعاصى وإحكام خطتها . وطبيعى أن يتضاعف العقاب مع استفحال الجرم على هذا النحو . وقد سمعنا بأنباء السطو المسلح على السيارات والقطارات، أو على الحقول والمتاجر . والغريب أن بعض الناس يتعاطف مع هؤلاء القطاع ويحاول تخفيف عقوباتهم. وإنى لشديد الريبة فى ضمائر هؤلاء المدافعين، وأكاد أقول: ما يعطف على اللص إلا لص، ولا على القاتل إلا قاتل . وقد حسم الإسلام اللجاجة فى مجازاة أولئك العابثين، قال تعالى : (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) . وهنا ثلاثة أمور لابد من تقريرها : أولها: أنه لابد من الحفاظ على أموال الناس، وإقامة سياج منيع حولها، ورفض اشتهاء القاعدين الحصول عليها بالأساليب المعوجة ؛ والحدود السماوية ضمان أكيد لهذا المعنى . ص _179(1/147)
ثانيها: لا مكان للرحمة بمثيرى الفوضى ومهدرى الحقوق، فإن ترك هؤلاء فتح لأبواب العذاب على المجتمع كله، وإغراء بالظلم وإسقاط للقيم . ثالثها: عندما يكون الانحراف خطأ عارضا، فالشارع أول المنادين بإقالة العثرات، وتيسير المتاب، وهو القائل: أن يخطئ الإمام فى العفو خير من أن يخطئ فى العقاب . لكن البون شاسع بين تعطيل الحدود، والتدقيق فى إيقاعها . وهناك من يكذب، فيقول: إن القطع أوجد جمهور، من العاطلين العاجزين عن العمل، وهذا اجتراء غريب فإن القطع خلال أربعة عشر قرنا نفع ولم يضر، ولم يحس المجتمع بوجوده إلا على ندرة، لأن الإرهاب بالقطع صرف اللصوص عن السرقة، وأغراهم بالبحث عن كسب معقول . ص _180
3 - 4
جلد الزناة ورجمهم وجلد القاذفين
المجتمع الإسلامى- من ناحية الغريزة الجنسية- يخالف كل المخالفة المجتمعات الشيوعية والرأسمالية .
إن الاتصال الجنسى هناك نداء الجسد، ويكاد يكون معزولا عن الخلق والروح، والعبادة والإيمان .
أما نحن المسلمين فنربط العلاقة الجنسية بتعاليم الدين ربطا محكما، ونضبطها داخل إطار من التصون والاستعفاف، قال تعالى فى وصف المؤمنين: (والذين هم لفروجهم حافظون ، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) .
هناك متنفس واحد للرغبة الجنسية، هو العقد الشرعى الذى ارتضاه الله، وهو اليوم بيت الزوجية وحده .
لا ملام فيما يقع داخله، إنما الملام فنون الإثارة والتذوق التى لجأ إليها الإباحيون، ودفعوا إليها الذكور والإناث دفعا خبيثا، كالاختلاط المطلق، والرقص المنفرد والمزدوج، والروايات التى تقرأ، أو تمثل بما تحوى من تبذل وخلاعة.. وأخيرا اللقاء الحيوانى الذى لا غرض منه إلا قضاء الوطر، وإرواء الطباع المستثارة . .(1/148)
المجتمع الإسلامى مضاد لهذا كله، وهو يمقت الزنا وكل مقدماته، وقد أرصد عقوبة صارمة للزناة تدور بين الجلد، والقتل إذا كان المجرمان متزوجين .
ص _181
ولاشك أن مائة جلدة للبكر، والإعدام رجما للثيب عقوبات شديدة، بيد أنها عادلة . . لكن الذى يلفت النظر فى هذه العقوبات ضروب الحيطة البالغة التى اتخذها الإسلام لتنفيذها . لابد من أربعة شهداء يرون الجريمة رأى العين ... والمألوف أن هذه الجريمة ترتكب فى خفاء غالبا، وأن توفر أربعة أشخاص لشهودها يندر وقوعه. ومن الناحية التاريخية ندرك أن التطبيق لحد الزنا لم يتم بالبينة المطلوبة إلا قليلا جدا، حتى إن بعضهم ظن الحد إرهابا فقط . ونحن نعترف بأن الإسلام شدد فى إثبات جريمة الزنا، وأنه قصد إلى هذا التشدد قصدا، لما ينشأ عن الإثبات من عواقب اجتماعية غليظة واسعة، إذ إن جريرة الزنا تتعدى أصحابها المباشرين إلى أسرتيهما معا، وتسبب مآسى مادية وأدبية لأفراد الأسرتين كلتيهما.. فلا جرم أن الإسلام يستوثق ويضاعف دلائل الإثبات . والمجال واسع لتطبيق الحد فى البيئات التى كثر فيها الخبث وتبجح.. ففى أقطار أوربا وأمريكا، وفى البلدان التى قلدتها تحول ناس كثيرون إلى قطعان من الدواب، تقترف الفاحشة فى الحدائق والطرق دون محاذرة . وجلد هؤلاء، أو قتلهم ميسور لسهولة الاستدلال على مناكرهم . لكن الإسلام- بيقين- لم يعتمد على الحد جلدا كان، أو قتلا لنشر العفة فى المجتمع ، بل اعتمد على تأسيس اليقين فى القلوب، وبناء الضمائر التى ترقب الله خفية، وتأبى معصيته ولو أتيحت لها . ثم قام الإسلام بعد هذا المهاد العظيم، فأكد أوضاعا تضمن ألا يكون هناك انحراف . . منها : إشاعة الملابس السابغة المحتشمة التى تكرم جسد المرأة وتحميه . ومنها : التوصية بغض البصر ومنع العيون الخائنة من البحث عن العورات. ص _182(1/149)
ومنها : تحريم الخلوة بين الرجل والمرأة، سدا للذريعة وطهارة للقلوب . ومنها : المباعدة بين أنفاس الرجال والنساء، حتى فى المساجد الجامعة، فإن للرجال صفوفا مستقلة وللنساء صفوفا خاصة بهن . ومنها : رفض ازدواج التعليم، فلكل من الجنسين مدارسه وجامعاته . . ومنها : تيسير الزواج وجعله ظاهرة اجتماعية طبيعية، لا تكلف معها ولا عنت . والواقع أن البون شاسع بين السلوك الإسلامى فى الصلات الجنسية وبين السلوك المنحل المستورد من هنا وهناك . وقد انتهى السلوك الأجنبى باعتبار الزنا حاجة بدنية لا يحرمها القانون، مادامت محفوفة بالتراضى، كما انتهى باستقبال الألوف المؤلفة من اللقطاء على أنهم أناس طبيعيون لا ينبغى التساؤل من أين جاءوا ؟ ونحن المسلمين نرفض بحسم هذه النتائج، ونعد الزنا فاحشة موبقة، ونوصد كل الأبواب المفضية إليها، ونعاقب على وقوعها بالجلد والقتل، ونرى أن الأسرة وحدها هى الملتقى المشروع لأشراف الناس . وكما يهتم الإسلام بحفظ الحرمات، يأبى التعرض لها ويعاقب على تجريحها . وفى الناس من يبسط لسانه بالأذى فى الآخرين ولا يبالى أن ينسب إليهم الإفك، ويشيع عنهم الخنا . ولا يجوز ترك هؤلاء الهجامين يلغون فى الأعراض، ويهينون ذوى المروءات، وقد طالبهم الإسلام أن يأتوا على ما يقولون بأربعة شهداء، وإلا جلدوا ثمانين جلدة (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) . وضرب المفترين هذا الحد، ثم إسقاط كرامتهم أبد الدهر، برد شهادتهم وعدها كذبا، هو جزاء شديد بلا ريب، إلا أنه عادل ومزعج عن الاتهام الباطل . إن النساء الشريفات ينبغى أن يحطن بشتى الضمانات ؛ ليعشن آمنات هادئات.. ص _183(1/150)
وثم أمر نلفت إليه النظر لدقته وروعته، أن الدين يحب أن تموت الخطيئة مكانها، فلا تلوكها الألسن وتبعثر نبأها فى كل مكان . فلو فرضنا أن شخصا وحده رأى جريمة جنسية، فلا يجوز له أن يحدث بها أحدا، من يدرى ؟ ربما كان هذا الكتمان معونة على توبة وطهر . إن الدين لا يقف متربصا أن تزل قدم فيجهز على صاحبها- (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) . .. إن الدين يمنح فرصا من الستر الممدود ؛ كى يرشد الضال ويقلع العاصى ؛ ومن هنا كلف المؤمن أن يصم أذنيه عن سماع الإشاعات الرديئة، وأن يكذب مروجيها ماداموا لا يملكون أدلة إثباتها- وهى أدلة صعبة- قال تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ، لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون). وبديهى أن الإسلام يكره الجريمة، ويتوعد عليها بالنكال فى الدنيا والآخرة، ويتهدد أقواما يرتكبونها سرا ثم يبرزون للناس وكأنهم أطهار شرفاء (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا) . ومع البغضاء التى واجه بها الدين هؤلاء المنافقين، إلا أنه آثر ستر المستورين، وفتح منافذ الأمل لمستقبل يصطلحون فيه مع الغفور الودود . . فمن كشف القدر صفحته، جلد كالحيوان وحل به ما يستحق . . لكن الإسلام نظر إلى البيوت وجوها وعلاقة الزوجين فيها نظرة خاصة، نعم الظن أكذب الحديث، والاتهام وبال على صاحبه ما لم يسانده شهود، لكن الزوج قد يجد ما يحرجه ولا يستطيع إثباته ولا يستطيع العيش معه . وهنا يتدخل الإسلام ؛ ليرشد ويحكم، إن الأمر خطير، والقضية لا مجال فيها لغيرة ص _184(1/151)
تتوهم، أو لتخيل فاسد!! فإما أن يستيقن الرجل مما يقول، استيقانا لا يتراجع فيه ولا يضطرب، وإما أن يسكت فلا يرمى أهله بما قد يكن أبرياء منه . وتجىء هنا شريعة اللعان، لتنهى علاقة مختلة مريبة (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) . واللعان تشريع حاسم فى موضعه، وقلما يحتاج المجتمع الإسلامى إلى وصف هذا الدواء، فإن التعاليم العتيدة التى تكتنف أرجاءه حصنته من هذه المتاعب، وحمته من آثارها الموجعة . . والأسرة الإسلامية قديما وحديثا أرجح كفة، وأنقى صفحة، وأبين عفة من جميع الأسر التى تزحم القارات الخمس، والفضل فى هذا الاستقرار لتعاليم الإسلام الحنيف . . ص _185
.. 5 ..
حد المخمور والمخدر
الخمر: ما غطى العقل، وعطل وظيفته سواء أكان أشربة سائلة، أو عقاقير جامدة، كالحشيش والقات والأفيون وما أشبهه .
وبعض الناس لا يتصور الخمر إلا ما أسكر من عصير العنب، أو القصب، أو الشعير، أو غير ذلك، وهذا خطأ، فإن الأمم التى تشيع بينها الخمور السائلة أحسن حالا من الشعوب التى يخدرها الحشيش والقات والأفيون .
ولا يتصور أن يحظر الشارع أخف الضررين، ويترك الإثم الآخر دون تحريم.
وقد عرفت الخمر من قديم بأنها تشل الفكر، وتطيش الحكم، وتفسد التصور. قال الشاعر :
شربت الإثم حتى ضل عقلى كذاك الإثم تذهب بالعقول
* * *
فإذا سكرت فإننى رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإننى رب الشويهة والبعير
واضطراب النظر فى الأمور على هذا النحو يهبط بقيمة الإنسان وكرامته العقلية، ويحرمه أجل ميزة فضل بها على أنواع الخلق، وهى: عقله الذكى البديع.(1/152)
وعندما بت القرآن الكريم الحكم بتحريم الخمر ذكر أن ذلك لآثارها النفسية والعقلية السيئة : (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاةِ) .
والمرء إذا استرخى زمام فكره، استيقظت غرائزه وتلاشى ما يحكمها وشرعت تنطلق
ص _186
هنا وهناك دون حذر، ومن ثم ترى المخمور، أو المخدر يأتى أفعاله وكأنه حيوان لا صاحب له . وقد أحست أمم كثيرة خطورة هذه الحال على يومها وغدها، فقاومت المسكرات والمخدرات بقوة، ونفذت بعض الحكومات عقوبة الإعدام فيمن يتناول المخدرات، أو يروجها، وانطلقت صيحات كثيرة ترهب من الخمور وغائلتها وتجذب الأنظار إلى ضراوتها وفتكها . ولكن أمر الناس عجيب، فهم يوقنون أن الدخان مثلا لا جدوى فيه، وأنه يحرق المال والصحة، وأنه يكمن وراء أمراض مرعبة، ومع ذلك يتهاوى الصغار والكبار على هذه العادة الحمقاء: عادة التدخين، ولا يبالون بما تجره عليهم من وبال . ويظهر أن بعضهم يفر من الإحساس بالواقع إلى غيبوبة مؤقتة أو نشوة متاحة يظنها استجماما لأعصابه، وهى لوصح ماتوهم: غيبوبة يعقبها صحو أليم، فإن المسكرات والمخدرات قد تنقل ذويها إلى عالم من التبلد وقلة المبالاة، وربما أشعرتهم ببعض السرور الغبى الماجن، لكن الصحو الذى يعقب هذه الغيبوبة يجىء مضاعف الحسرة، وذلك إلى جانب ما يسكن البدن الإنسانى من علل مختلفة، وهذا هو السر فى تعبير القرآن الكريم عن الخمر والميسر: (فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) . أى أن النتائج الضارة التى لا فكاك منها أرجح مما يتوهمه السكير أو يشعر به من نشوة ولذة، وكذلك ما يسببه الميسر من شحناء أكبر مما يعود على الفقراء من أرباح القمار . . وفى أوسط هذا القرن أرادت الولايات المتحدة أن تحرم الخمر لما استبانته من سوئها، وسنت لذلك قانونا حسنا، ولكنها فشلت فى تطبيقه ؛ لأنها لم تتبع سنة التدرج التى اتخذها الإسلام،(1/153)
ولو أنها تدرجت فى الحظر لنجحت فى وقاية الجمهور من هذا البلاء . والإسلام يحرم المسكرات، ويعاقب شاربيها بالجلد ثمانين جلدة، وهو حد اتفقت الأمة ص _187
عليه، لأن الروايات اختلفت فى عقوبة تناول الخمر، فمنها ما جاء بضربه وإهانته، ومنها ما جاء بجلده أربعين، ومنها ما بلغ بالجلد ثمانين . وقد رأى الصحابة أن من سكر هذى، ومن هذى افترى، فليعاقب بحد الافتراء، أى: قذف المحصنات . ونلفت النظر إلى أن الإسلام يعاقب على شرب الخمر لا على السكر منها، فمن شرب، سكر أو لم يسكر، ضرب الحد المقرر . وأرى أن هناك بيئات قد استباحت المسكر والمخدر، وأن إنزال عقوبة الموت بها أجدى على الدين والدنيا . ص _188
.. 6 ..
الارتداد عن الإسلام
الارتداد عن الإسلام يسلخ المرتد عن المجتمع، ويسلبه حق الحياة! وهذا الحكم شغب عليه بعض الناس، ورأوه مصادرة لحرية الرأى، ولحق كل امرئ أن يؤمن إذا شاء وأن يكفر إذا شاء .
ونحن نحترم حق أى إنسان أن يؤمن وأن يكفر، ولكن هذا الحق يتقرر لصاحبه وهو فرد لم تتضح له الأمور، إن له أن يدرس ويوازن ويرجح، وأن يبقى على ذلك طول عمره .
فإذا آثر الوثنية، أو اليهودية، أو النصرانية لم يعترضه أحد، وبقى له حقه كاملا فى حياة آمنة هادئة .
وإذا آثر الإسلام فعليه أن يخلص له، يتجاوب معه فى أمره ونهيه وسائر هديه، وهنا نتساءل هل من حرية الرأى عند اعتناق الإسلام أن نكسر قيوده ونهدم حدوده ؟ أو بتعبير آخر، هل حرية الرأى تعطى صاحبها فى أى مجتمع إنسانى حق الخروج على هذا المجتمع ونبذ قواعده ومشاقة أبنائه ؟
هل خيانة الوطن، أو التجسس لحساب أعدائه من الحرية ؟ هل إشاعة الفوضى فى جنباته والهزء بشعائره ومقدساته من الحرية ؟(1/154)
إن قضية الارتداد تحتاج إلى إيضاح لتعرف أبعادها، فالإسلام معروض للأغمار والعباقرة على أنه عقيدة وشريعة، وكتابه ونهج نبيه صلى الله عليه وسلم يقرران مثلا أن الله واحد، وأن الآخرة حق، وأن القصاص حق، وأن الصيام حق.
ومعنى ذلك أن الذى يدخل فى الإسلام يرتضى كل هذه التعاليم وينفذها .
ص _189
فإذا جاء من قال: أومن بالله وأرفض الإيمان بالآخرة، أو أومن بهما وأرفض شريعة الصيام، وشريعة القصاص، وما أشبه ذلك.. فهل يترك هذا الشخص؟ ليعبث بدين الله على هذا النحو؟ كلا.. إما أن يثوب إلى رشده ويرجع إلى الجماعة، وإما لا، فالخلاص منه حتم، ولا تتهم جماعة تؤمن وجودها وتصون حقيقتها وتذود العبث عن كيانها . لو أن إنسانا ثارت فى صدره شبهة لوجب على الراسخين فى العلم أن يزيلوها، ولو بقيت فى نفسه هذه الشبهة فاعتزل بها ما أحس أحد خطره ولا خطورتها . أما أن تنبت فى رأس أحد فكرة أن الرجل مثلا لا يجوز أن يرأس البيت ولا أن يضاعف له الميراث، أو تنبت فى رأسه فكرة أن نظام الربا يجب أن يسود ويمتد ويوجه الاقتصاد كله . ثم يتحول هذا الشخص إلى داعية لفكرته ويحاول تنفيذها بشتى الطرق... فذاك ما لا يمكن قبوله باسم الإسلام . وإقناع الإسلام بقبول هذا الوضع سفه، ومطالبته بتوفير حق الحياة والحركة لمن يريد نقض بنائه وتنكيس لوائه أمر عجيب . لا يوجد فى الدنيا مجتمع ينتحر بهذه الطريقة السقيمة، ولذلك لا نرى أى غرابة فى أن يستتاب المرتد، فإذا لم يتب قتل . والقرآن الكريم لم يذكر حد الارتداد صراحة.. ولكن جاء فى السنة "من بدل دينه فاقتلوه" و " لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، وقتل النفس التى حرم الله بغير حق، والتارك لدينه المفارق للجماعة" . وكشف القرآن الكريم أن اليهود جعلوا من حرية الارتداد وسيلة للطعن فى الإسلام، أعلنوا عن دخولهم فيه حتى ينفوا عن أنفسهم تهمة التعصب، ثم قرروا الارتداد السريع كأنهم اكتشفوا فيه ما ينفر(1/155)
من البقاء عليه، والأمر كله لعب بالدين واستهانة بحقه . وما يقبل ذلك مبدأ محترم يشق لنفسه طريقا فى الحياة . على أن النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من المدينة ويلحق بمكة من كره الإسلام، وذلك فى ص _190
معاهدة الحديبية، وما نعلم أحدا ارتد عن دينه، ولا نعرف شخصا طبيعيا فضل الشرك على التوحيد، أو أهواء الأرض على شريعة السماء !! إلا ما روى عن جبلة بن الأيهم الذى كره أن يقتص منه لما لطم رجلا من العامة، وقال: كيف وأنا أمير وهو سوقة ؟ فلما قال له أمير المؤمنين: إن الإسلام سوى بينكما ؛ احتال حتى خرج من سلطان الإسلام، ولحق بالروم متنصرا، وهذا الأرعن لم يفعل ذلك ؛ لأن التثليث أرجح فى نفسه من التوحيد، ولكنها حمية غبية أفقدته الرشد وأضلته عن سواء السبيل . ويروون عنه أنه راجع أمره وذكر ما كان منه وقال : تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنفنى منها لجاج وغيرة وبعت لها العين الصحيحة بالعور فيا ليت أمى لم تلدنى وليتنى رجعت إلى الأمر الذى قاله عمر ونلفت النظر إلى أن قوى كثيرة تعمل الآن لنهش الكيان الإسلامى، وتوهين عراه، وإثارة لغط مفتعل حول شعب الإيمان كلها، أعلاها وأدناها . وعلى المسلمين أن يدفعوا عن دينهم بالوسائل المشروعة كلها، يثبتون القلق، ويقتلون الخائن، ويحيون فى جو من الوضوح والإخلاص . إن سرقة العقائد والأخلاق أصبحت حرفة لعصابات من المنصرين الذين يكرهون الإسلام وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم، ويبعثرون أسباب الفتنة فى كل ناحية حتى يقلبوا المجتمع كله رأسا على عقب . ومن حق المسئولين عن هذه الأمة المظلومة أن يحموا عقائدها وشرائعها ويردوا عنها كيد المتربصين، ومؤامرات الحاقدين . ويجب أن نتشبث بحدود الإسلام كلها، مدركين أن الصحة العقلية والاجتماعية فى ص _191(1/156)
إقامتها، وكما جاء فى الحديث الشريف: " لحد يقام فى الأرض بحقه أبرك لها من أن تمطر أربعين صباحا " . إن الغيث يحيي ما مات من الأرض، ولكن الحدود تحي ما مات من الأخلاق، وتمنع أوبئة الفساد من الإتيان على الأمم، وتدمير حاضرها ومستقبلها . ص _192
( 7 ) القصاص القاتل يقتل، ومادام قد تعمد إزهاق روح بريء فإن إفقاده الحياة قصاص عدل، ولا مكان لطلب الرحمة به . وقد علت صيحات شتى تطلب إلغاء عقوبة الإعدام، وترى أن المجرم مريض ينبغى أن يعالج، وتزعم أن قتله لا يفيد شيئا، ولن يعيد الحياة إلى الضحية التى اعتدى عليها . والغريب أن هذه الصيحات الجاهلة وجدت من يستمع إليها فى أوربا وأمريكا، فألغيت عقوبة الإعدام، ليحل محلها حكم بالسجن مدى الحياة . . ونحن نتدبر حجج القوم فلا نجد فيها إلا اللغو المرفوض، ذلك أنهم يقولون: إن القصاص من القاتل لن يعيد الحياة إلى القتيل المظلوم. ونحن ما أعدمنا القاتل لهذا الغرض البعيد، ولكنا أعدمناه ؛ لنستبقى الحياة فى أرجاء الجماعة كلها، ولنزعج كل مفكر فى العدوان، فيوقن أنه سيفقد نفسه يوم يميت شخصا آخر . إن أغلب المجرمين يعتدون على حق الحياة، لأنهم ذاهلون عن الثمن الذى يدفعونه حتما، ولو علموا أنهم مقتولون يقينا إذا قتلوا غيرهم لترددوا وأحجموا . ويوم قال العرب: القتل أنفى للقتل.. وعندما أوجز القرآن الكريم ثمرة العقوبة المرصدة فى هذه العبارة الوجيزة (فى القصاص حياة) ، كان ذلك تجسيما للاستقرار الذى يسود البلاد، والأمان الذى يصون الدماء عقب إنفاذ كتاب الله فى كل معتد أثيم . . وقد يكون القاتل مريض النفس، أو لا يكون! فهل يمكن التعلل بهذا لتركه يفلت من آثار فعلته ؟ ص _193(1/157)
ما أكثر الأمراض النفسية والفكرية التى تظهر، أو تخفى فى سلوك الأفراد. وقد شرعت سير وعبادات منوعة يستشفى بها الذين ينشدون العافية، والذين يؤثرون حياة الشرف والسلم فلا يبسطون أيديهم بالأذى، ولا يلغون فى دم، أو عرض، أو مال.. فهل نعتذر لشخص يهتك الحرمات لأنه مستطار الشهوة، أو نعتذر لسفاك يرخص الدماء ؛ لأنه منحرف المزاج، لماذا إذن تقتل الكلاب المسعورة والذئاب المغتالة ؟ إن القاتل يقتل ولا مساغ للجدال عنه . وقد ترك القتلة فى بعض الأقطار إهمالا لحكم الله وإعلاء لحكم الطاغوت، فماذا كسبت هذه الأقطار من ترك القصاص ؟ كسبت انتشار الجريمة، وسيادة الفوضى، وذعر الألوف إن كانوا فى الطرق أن يصابوا، أو فى بيوتهم أن تقتحم عليهم !! فهل هذا هو المطلوب من العطف على المجرمين ووصفهم بأنهم مرضى بانحرافات نفسية ؟ إن الله عز وجل جعل العدوان على إنسان واحد استهانة بحق الحياة للناس كلهم (أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) . والإحياء المقصود، قد يكون بإنقاذ غريق، أو حماية مهدر مطارد مظلوم، وقد يكون بتوطيد حق الحياة للجماعة كلها عندما يقتص من مجرم سفاح، فإن قتله حياة لغير واحد كان يمكن أن يصرعوا لو بقى السفاح حرا . والقصاص تشريع قديم فى النفس وفى الحواس والأطراف (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له) . والصدقة هنا تنازل المرء عن حقه المقرر شرعا، ويجوز أن يتنازل أولياء الدم عن القصاص نظير مال يتفق عليه، أو قربى إلى الله بالعفو . ص _194(1/158)
وفى الحديث "وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا" ، وهنا يترك القاتل فلا يقتل، ولكن من حق الدولة أن تعاقب الذين يعكرون صفو الأمن بما ترى من عقوبات. وربما تساءل بعضهم: لماذا يسقط القصاص بعفو ولى الدم؟ والجواب: إن الملابسات التى تحيط بالجرائم كثيرة، وهناك ناس لا يجرحهم المصاب المادى قدر ما يؤذيهم الهوان الأدبى، فإذا ضربه قوى طاغ لم يحزن لألم بدنه كثيرا، إنما كان حزنه الأهم الأعم لقدرة غيره عليه وللضعف الذى جرأ الآخرين على إساءته . . ويذهب هذا كله عنه يوم يملك حق الإحياء والإماتة لخصمه، ويوم يلجأ الناس إليه طالبين عفوه وآملين أن تكون يده العليا، إن هذا يكفيه ويشفيه. وانتهاء الحق الفردى لا ينهى حق الجماعة كما أسلفنا . ص _195
.. 8 ..
التعازير
للدولة أن تنشى ألوانا من العقوبات التى تبسط رواق الأمان على المجتمع وتمنع النزوات أن تثير الفوضى والظلم فى جوانبه .
وقد علمنا أن هناك جرائم لم يتحدث الشرع أصلا عن عقابها الدنيوى كأكل الربا، أو خيانة الشركة، أو الفرار من القتال، أو غش السلع والأدوية وما أشبه ذلك من المعاصى . .
والقضاء يقدر على استئصال هذه الجرائم بما يناسبها من نكال، له أن يجلد، أو يسجن، أو يفرض غرامات مالية.. وربما بلغ الأمر حد القتل فى قضايا التجسس والخيانة العظمى . .
والعالم أجمع يعترف بمبدأ العقوبة على شتى المخالفات، ولكن التفاوت بين أقطاره يقع فى كمها وكيفها بحسب ما يكتنفها من أحوال . .
ويدخل فى دائرة التعزير أن تنضبط مع قواعد العدالة فلا تبلغ حد الجور فى الشدة، ولا حد الاستهانة فى الخفة، ولذلك ينبغى أن تضعها هيئات متخصصة فى الفقه والتربية والإصلاح الاجتماعى.. وأن تدع للقاضى حرية التصرف بين درجات عليا ودنيا فى الأجزية المقترحة . .
كما أنه يجب أن يعرف أنه لا عقاب إلا على ذنب، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ظهر المسلم حمى إلا بحقه " .(1/159)
فأى حاكم يضرب أحد الرعية، أو يظلمه دون ذنب وجبت مؤاخذته مهما كان منصبه ،
ص _196
فإن ولاية المناصب ليست ذريعة لإيقاع المظالم. والإسلام لا يتربص بالمخطئ، كى يقع عليه الحد أو ينال منه القصاص. كلا، فطالما أمر الدين بالتستر على المخطئين والترفق بهم حتى إذا استمرأ المجرم المرتع فإن من خيانة الجماعة، وإضاعة المصلحة والعدالة تركه يفعل ما يشاء . وفقهاء الإسلام متفقون على أن الحدود تقام على المجرم... المجرم الذى لا يبالى ما صنع، ولا يخشى سيئة اجترحها . وبعض الذين يقادون لإقامة الحق عليهم قد يتظاهرون بأنهم ليسوا مجرمين متعودين . وأن ما فعلوه ليس إلا زلة قدم ينبغى اغتفارها... ولكن الولاة الراشدين لا ينخدعون بهذا الكلام، ولا صلى الله عليه وسلمليفلتوا من العقاب . روى ابن حزم بسنده تحت عنوان " لا يؤاخذ الله عبدا بأول ذنب" قال: " أتى أبو بكر بسارق، فقال: اقطعوا يده، فقال اللص: أقلنيها يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سرقت قبلها..!! فقال أبو بكر: كذبت والذى نفسى بيده ما غافص الله مؤمنا بأول ذنب يعمله- غافصه أخذه على غرة- " . وعن أنس بن مالك: أُتِيَ عمر بن الخطاب بسارق، فقال: والله ما سرقت قبلها. فقال له عمر: كذبت ورب عمر، ما أخذ الله عبدا عند أول ذنب . . وقيل : إن على بن أبى طالب، قال: الله أحلم من أن يأخذ عبده فى أول ذنب يا أمير المؤمنين، فأمر به عمر فقطع . فلما قطع قام إليه على بن أبى طالب، فقال له: أنشدك الله كم سرقت من مرة ؟ قال له : إحدى وعشرين مرة …!!! * * * وكأن هؤلاء الخلفاء كانوا واثقين عند إقامة الحد أن افتضاح امرئ وهو يعصى الله دليل تأصل الإثم فى دمه، واستحقاقه ما ينزل به . . ص _197(1/160)
فهل إذا بدا ما يدل على أن الخطأ الذى ارتكب ليس صادرا عن إجرام كامن، وشر باطن يترك المجرم ؟ لقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغنى من حد فقد وجب " . ومع أن ابن حزم يطعن فى قيمة الأحاديث الكثيرة التى وردت بهذا المعنى إلا أنه يقول: يعفى عن مستور الحال الذى يقع منه الخطأ أول وهلة، أما المجاهر المؤذى فيرفع إلى السلطان . ونقول: إن أدلة الإثبات فى الحدود الشرعية صعبة، وقلما تلتف حول رجل عادى . ولا يؤخذ بها إلا مبارز بالجريمة متخذ بفعلها، قد أعماه الهوى والمجون عن أى حذر . ومثل هذا لا يبكى ما يصيبه، بل من حق المجتمع أن يشتفى منه . وللسلطان- فى نظرنا- أن يدرس أحوال من يقعون فى قبضته، فإن وجدهم سفلة يضار بهم المجتمع أقام عليهم الحدود، وإن وجد سرائرهم حسنة، وتوبتهم صحيحة تركهم ... وهنا يرد سؤال مهم : هل التوبة تسقط الحدود ؟ الحق أن الإمام مخير بين الأمرين بعد أن يدرس أحوال المقبوض عليهم وظروف المعصية التى ارتكبوها، ومدى إيمانهم بالله وتوبتهم إليه . وهذا رأى الإمام ابن تيمية . ولابن حزم كلام طويل فى المسألة ننقل جانبا منه هنا . هل تسقط الحدود بالتوبة أم لا ؟ قال أبو محمد رحمه الله: قال قوم: إن الحدود كلها تسقط بالتوبة . وهذه رواية رواها أبو عبد الرحمن الأشعرى عن الشافعى قالها بالعراق ورجع عنها بمصر . واحتج أهل هذه المقالة بما روى عن يزيد بن نعيم عن أبيه: أن ماعز بن مالك أتى ص _198(1/161)
النبى صلى الله عليه وسلم فقال: أقم عَلَيّ كتاب الله، فأعرض عنه أربع مرات، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمه، فلما مسته الحجارة خرج يشتد..!! وخرج عبد الله بن أنس من نادى قومه بوظيف حمار، فضربه فصرعه، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فحدثه بأمره فقال : "ألا تركتموه لعله يتوب الله عليه، يا هذا لو سترته بثوبك كان خيرا لك". وعن علقمة بن وائل عن أبيه: أن امرأة وقع عليها رجل فى سواد الصبح- وهى تعمد إلى المسجد- عن كره من نفسها . فاستغاثت برجل مر عليها، وفر صاحبها . ثم مر عليها قوم ذو عدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الذى استغاثت به، وسبقهم الآخر فأتوا به النبى صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أنه وقع عليها . . وأخبره القوم أنهم أدركوه يشتد ... فقال: إنما كنت أغيثها على صاحبها، فأدركنى هؤلاء فأخذونى! قالت: كذب، هو الذى وقع على..!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهبوا به فارجموه " . فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجمونى، أنا الذى فعلت بها الفعل، فاعترف. فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذى وقع عليها؟ والذى أغاثها؟ والمرأة . فقال: " أما أنت فقد غفر الله لك " وقال للذى أغاثها قولا حسنا . فقال له عمر. ارجم الذى اعترف بالزنا . قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا، إنه قد تاب إلى الله تعالى ". زاد ابن عمر فى روايته: " لو تابها أهل مدينة يثرب لقبل منهم ". وعن واثلة بن الأسقع قال!: " شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وأتاه رجل، فقال: يا رسول الله، إنى أصبت حدا من حدود الله تعالى، فأعرض عنه، ثم أتاه ثانية، فأعرض عنه، ثم قالها الثالثة، فأعرض عنه. ص _199(1/162)
ثم أقيمت الصلاة، فلما قضى الصلاة أتى الرابعة فقال: أصبت حدا من حدود الله فأقم في حد الله..!! قال: "ألم تحسن الطهور، أو الوضوء، ثم شهدت الصلاة معنا آنفا؟ اذهب فهى كفارتك" . وعن شداد بن عبد الله عن الباهلى، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد، فقال له رجل: إنى أصبت حدا، فأقم عليّ... وأقيمت الصلاة، فصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد، ثم خرج ومعه الرجل، وتبعته . فقال: يا رسول الله، أقم علي حدى، فإنى أصبته . فقال: "أليس حين خرجت من منزلك، توضأت فأحسنت الوضوء وشهدت معنا الصلاة ؟". قال: نعم.. قال: "فإن الله غفر لك ذنبك، أو حدك" . وعن أنس: أن رجلا أتى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنى زنيت، فأقم عليّ الحد... ثم أقيمت الصلاة، فصلى مع النبى صلى الله عليه وسلم... فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: " قد كفر عنك بصلاتك ".. قال أبو محمد رحمه الله: وقالوا قد قال الله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) . قالوا: فصح النص من القرآن، وصح الإجماع، بأن حد المحاربة تسقطه التوبة قبل القدرة عليهم . ص _200(1/163)
فوجب أن تكون جميع الحدود من الزنا، والسرقة، والقذف، وشرب الخمر كذلك. لأنها كلها حدود وقعت التوبة قبل القدرة على أهلها. *** وقد رفض ابن حزم هذا الكلام كله، وضعفه من جميع نواحيه.. أما السنن الواردة فقد طعن فى أسانيدها وجادل فى متونها.. (يرى ابن تيمية أن ابن حزم متشدد فى نقد الرجال!، وأنه قد يضعف رواة لا بأس بهم ولا مكان لرد أحاديثهم، وما أثبتناه من نصوص فمنقول عن "المحلى"). وأما قياس بقية الحدود على حد قطع الطريق فقد رده ابتداء، لأنه لا يعترف بالقياس (أما القياس، فإن ابن حزم يخالف فى رفضه جمهرة الفقهاء الذين يعتبرونه من أدلة الشريعة الأربعة... وإن كان القياس فى هذه المسألة بالذات موضع نظر)، ولا يعتبره من أدلة الشرع. ثم شرع ابن حزم يروى من الآثار، ويسوق من النصوص ما يشهد لرأيه بأن الحدود لا تسقط بالتوبة. ولا مجال هنا لذكر أدلته. والذى ينقدح فى نفوسنا- بعد استعراض وجهات النظر المختلفة- ما قلناه آنفا من أن القضاء يستبين الظروف التى تحيط بالمتهمين، فإن استيقن من إجرامهم أقام الحدود حتما.. وإلا أوقع من العقوبات الزاجرة الأخرى ما يراه تعزيرا. أو لا، فمن حقه أن يعفو عن التائبين. ص _201
الشريعة الإسلامية
ص _203(1/164)
تطلق الشريعة الآن على جزء محدد من الدين الإسلامى، هو الجزء المتصل ببحوث الفقه والقانون. وهذا الإطلاق أخص من معناها الأصلى الشامل لتعاليم الإسلام كلها، والمرادف لكلمة دين. وقد استعملت مادة التشريع فى القرآن الكريم للدلالة على مدلول الرسالة جمعاء من عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات. (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ). (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها) . (ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) . والعرف السائد الآن يحترم فروع التخصص، ويجعل دراسة العقيدة مثلا شعبة غير دراسة الفقه والحقوق والمعاملات وما إليها، ويطلق على هذه الشعبة الأخيرة من المعرفة الدينية "الشريعة الإسلامية". ونحن لا نرى بأسا من قبول هذا الاصطلاح . * * * ص _204(1/165)
مصادر التشريع القرآن الكريم. نحن نستطيع الجزم بأن الوحى الإلهى قد انتهى إلى هذا الكتاب.. وأن ما بين دفتيه كلمة السماء إلى الأرض دون تحريف ما . وأن مراد الله من خلقه قد خلد فى هذه الصحائف، فلا تعقيب لأحد بعده. وهذه الصفات لا يمكن ألبتة إضفاؤها على كتاب آخر . إن العالم كله لا يحوى فى جنباته الآن إلا خطابا واحدا من الله لعباده، هذا الخطاب هو الكلم المسطور فى القرآن الكريم . . والقرآن الكريم قد تضمن جملة الحقائق التى تنادى بها موسى وعيسى، وتنادى بها من قبلهم نوح وإبراهيم . . فلو أن أحدهم بعث الآن حيا لرأى ملامح رسالته مصقولة فى مرآة هذا الوحى الخاتم، ولكان أول من يحتفى بها ويدعو لاعتناقها...!!! والغريب أن كل رسالة تجيء إلى واحد من الناس فإنه يقرؤها، ويعرف ما بها.. وأولى الرسالات بالإجلال ما كان من عند الله . ولكن المسلمين ترجموا عن إجلالهم لكتاب الله بأمور لا غناء فيها، وعلقوا عواطفهم بتقديس حروفه وأنغامه أكثر مما علقوها بتحقيق مناهجه وأهدافه . وما بهذا يخدم القرآن، أو تسود رسالته . . وإنى لأتدبر ما يحدث اليوم فى مجالس القرآن من عجيج وضجيج، فتأخذنى الدهشة لهذا السفه . . ص _205(1/166)
ولئن كانت مسالك العامة قد اتخذت هذا المجرى التافه فإن مسالك الخاصة تحتاج هى الأخرى إلى نقد ولفت . ذلك أن إقبالهم على فقه القرآن محدود . . وقد كتب الأستاذ "سليمان الندوى" منددا بهذا المسلك، فقال تحت عنوان "تقصير العلماء فى خدمة القرآن" : " الحق يقال إن علماءنا قصروا فى خدمة القرآن من هذه الناحية، أعنى أنهم لم يؤلفوا كتبا كافية فى علوم القرآن، أعنى عقائد القرآن، وفقه القرآن، وأخلاق القرآن، وسياسة القرآن إلى غير ذلك . بل نبذوه وراءهم ظهريا، وصدقت علينا الآية : (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) . والحال أن الصحابة- رضى الله عنهم- كانوا يقدمون القرآن على كل شىء فى استنباطاتهم واستدلالاتهم، ولكن عصرهم لم يكن عصر تدوين وتأليف، ولهذا لم يؤلفوا فيه الكتب، وإنما كان هذا من فرائض الذين جاءوا بعدهم، ولكنهم غفلوا عن أداء هذا الفرض، واشتغلوا بآراء الرجال، والحكايات الإسرائيلية، والمسائل الخلافية والجدل . والسبب فى ذلك أن القرآن الكريم ليس مرتبا على الأبواب، فيصعب على كثير من الناس البحث عن مطلوبهم فيه، حتى المسائل المنصوصة فيه، فضلا عن الاستنباط منه . والعلماء الذين ألفوا الكتب فى أحكام القرآن أيضا اتبعوا ترتيب التفاسير ولم يرتبوها على الأبواب، فبقيت الصعوبة كما كانت ؛ ولما كانت كتب الحديث والفقه والفتاوى مبوبة مرتبة انصرف الناس بسهولة إلى الأخذ منها، وتركوا النظر والتدبر فى القرآن والرجوع إليه - قبل كل شىء- حين الاستنباط والاستدلال . والخلاصة أن الحاجة داعية إلى أن يوجه علماؤنا عنايتهم إلى تأليف كتب مبسوطة سهلة ص _206(1/167)
مبوبة فى علوم القرآن، ويبينوا وجه التوفيق والارتباط بين الآيات والأحاديث الثابتات، ويقربوها لأفهام أهل هذا العصر، وبذلك يخدمون الدين خدمة كبيرة، ويكون ذلك أكبر باعث لاتحاد كلمة المسلمين وصيانة الشبان عن الإلحاد والمروق من الدين، وما نظنهم إلا فاعلين ذلك إن شاء الله " . ص _207
السُّنة مأخوذة من القرآن على أننا نعتقد- مثل كثير من العلماء المحققين- أن الأحكام التى توجد فى الأحاديث الصحيحة هى مأخوذة ومستنبطة من القرآن الكريم، استنبطها النبى ـصلى الله عليه وسلم ـ من القرآن بتأييد إلهى، وبيان ربانى، ولذلك يجب علينا قبولها والعمل بها بشرط ثبوتها عن النبى صلى الله عليه وسلم، وهذا الفهم والاستنباط يسمى فى اصطلاح القرآن تارة " تبيينا " وتارة "إراءة"، قال الله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) . وقال جل شأنه: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) . * * * وما من شك فى أن السنة هى الركن الثانى فى الدين، والمصدر الذى يلى القرآن فى التشريع، وأن ما تواتر نقله منها، فله حكم القرآن فى وجوب العمل به. وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لزمنا قبوله، وأنزلناه منزلته فى الاستدلال والحكم . بيد أن هنا كلاما يجب أن يقال: إن القرآن الكريم هو الدعامة الأولى فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم . استقرت آياته فى سويداء قلبه، وامتدت معانيها وغاياتها فى مشاعره وأفكاره، واستنار بأشعة الوحى باطنه كله، فهيهات أن يصدر عنه إلا ما يوافق القرآن ويسعى بين هداياته المقررة . وحديث الرسول الكريم إلى الناس فيما يتصل بشئون دينهم إذا لم يكن وحيا مباشرا من ص _208(1/168)
الله، فهو مُوَلَّد من حقائق القرآن التى أوحيت إليه واختلطت بفؤاده وعقله، والتى ينبعث عنها ويوجه غيره إليها . ومن السذاجة تصور النبوة ترديدا مجردا لأخبار الملأ الأعلى . أو تصور الرسول شخصا لا يتكلم ولا يحكم ولا يفتى ولا ينصح إلا إذا همس فى آذانه الملك بما يقول وبما يفعل … إن الرسالة أجل من ذلك وأخطر . والرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أفعمت أقطار نفسه بهذا القرآن العظيم، وتشربت روحه ما أودع فيه من هدى وخير أصبح، من ذاته- ينطق بالحكمة، ويفسر القرآن . يفسره بألوف من الأقوال والأعمال والتقريرات والإجابات التى نشأت عنه وتمت فى حرارته وسناه ... وسيرة النبى -صلى الله عليه وسلم- فى هذا كله لا يمكن أن تكون إلا حقا ؛ لأنه إما أن يلهم الحق ابتداء- وهو لذلك أهل-، وإما أن يهدى إليه إذا اجتهد فى أمر وفاته الصواب ؛ فإن الوحى الأعلى لا يقره على خطأ. ومن هنا ينتفى- بتة- أن يكون فى السنة النبوية ما يخالف القرآن، أو ما يسير فى وجهة تضاد وجهته، إن معنى ذلك ابتداء كذب هذه السنن المنسوبة، وغربتها عن الصراط المستقيم . ونحن نأسف ؛ لأن كثيرا من المسلمين لم يحسنوا فهم السنة على ضوء ما شرحنا، ولم يتبعوا السلف الصالحين فى هذا النهج البين الذى اقتفيناهم نحن فيه.. فترى بعضهم- لغفلته عن القرآن- يدير على لسانه أحاديث ما كان ليذكرها قط لو أن قلبه ولبه مرتبطان أول الأمر بالكتاب العزيز . خذ مثلا هذا الحكم الجزئى فى إحدى المناسبات الشائعة بين العوام، مناسبة النصف من شهر شعبان ..!! ذهب بعض المفسرين إلى أن الليلة المباركة فى قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) . ص _209(1/169)
هى ليلة النصف من شهر شعبان، ثم ذكروا عدة أحاديث تبين كيفية فرق الأمور العظيمة، فأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم من طريق محمد بن سوقة عن عكرمة (فيها يفرق كل أمر حكيم) قال: " فى ليلة النصف من شعبان يبرم أمر السنة، وينسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أحد " . وأخرج ابن زنجويه والديلمى عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح، ويولد له، وقد خرج اسمه فى الموتى " . وأخرج أبو يعلى عن عائشة- رضى الله عنها- أن النبى -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم شعبان كله فسألته، فقال: "إن الله يكتب فيه كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتينى أجلى وأنا صائم " . نقول: والصحيح الذى يؤيده القرآن الكريم، أن الليلة المباركة هى "ليلة القدر". قال ابن كثير: " إن الليلة المباركة هى ليلة القدر، ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان فقد أبعد النُّجعَة، فإن نص القرآن أنها فى رمضان " . القرآن صريح فى أنه رمضان، لا شوال ولا شعبان، وهو شهر نزول القرآن. فبأى وجه يروى بعضهم أحاديث تخالف هذه الحقيقة ؟ وبأى عقل يسمح بتداول هذه الأحاديث ؟ والغريب أن شيئا من التهيب خامر قلب ابن كثير وهو يرد هذه الآثار المفتعلة، فبدلا من أن يصمها بالكذب الصراح يجيء بتعبير ملطف ... ونحن نعرف أن موضوع هذا المثل تافه، ولكننا ضربناه لما هو أهم، فإن هذا الانفصال الذهنى عن هدايات القرآن، سرى عن نقل روايات كثيرة فى موضوعات عظيمة الخطر، كعلاقة المؤمن بالدنيا، وعلاقة الرجل بالمرأة، وعلاقة المسلم بالكافر ... وهكذا ... ص _210(1/170)
فأى دمار مادى وأدبى يقع فى أمتنا عندما يشيع فيها ما رواه الطبرانى "بعثت بخراب الدنيا ولم أبعث بعمارتها "...؟؟؟ إن علاقة المؤمن بالدنيا ما تقوم على هذا المحور المهلك . وقد نقلنا لك آنفا من الكتاب والسنة ما يوجه النفوس إلى غير هذا . هل تخريب الدنيا غاية يستهدفها رجل فقه القرآن، وأنصت إلى قول الله: (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش …) . لكن مثل هذا الكلام الفارغ كان محورا لتجمع لفيف من العاطلين آثروا الفرار من جهاد العيش، وتعمير الأرض والتطواف بقضايا الإيمان فى شتى الأقطار، فأصاب الأمة ما أصابها . . * * * وفى علائق الرجال بالنساء فشت أحكام كثيرة خاطئة، واستخفت أحكام كثيرة صحيحة، ولقد ألف الأستاذ الكبير أبو الأعلى المودودى كتابا عن الحجاب شدد فيه الخناق على المرأة، وغالى بقيمة النقاب حتى جعله دينا ورفض أن يرى زينة المرأة أدنى أقربائها . وروى عن ابن جرير الطبرى عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: خرجت لابن أخى عبد الله بن الطفيل مُزينة، فكرهه- أى التزين- -صلى الله عليه وسلم- . فقلت: إنه ابن أخى يا رسول الله ! فقال: " إذا عرقت المرأة- أى حاضت- لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها، وإلا ما دون هذا " وقبض على ذراع نفسه، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى . وتعقب هذا الكلام الأستاذ ناصر الدين الألبانى، فضعف الحديث من ناحية السند ، ثم ألمع إلى أن زينة المرأة الباطنة يراها أبناء الإخوة بنص القرآن، فالحديث باطل ..!! ولو أننا استحضرنا توجيهات القرآن ابتداء ما احتجنا إلى مناقشة السند وتوهينه، يكفى أن يكون المتن مخالفا للقرآن ليرد أشد الرد . ص _211(1/171)
قال الأستاذ ناصر الدين فى إسناد هذا الحديث : قلت: هو عنده من طريق ابن جريج، قال: قالت عائشة : وهذا منقطع أيضا بل هو معضل، فإن بين ابن جريج وبين عائشة مفاوز . ثم إن الحديث معارض للقرآن الكريم فى قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) . * * * وروى أحمد بن حنبل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقى تحت ظل رمحى " . ومع أنى أعلم أن السيف قد يكون رحمة من الله فى تأديب المعتدين، وقمع الطغاة، إلا أننى لم أستطع أن آخذ من هذا الحديث الصورة النبيلة الرقيقة التى ترتسم فى فؤادك عندما تقرأ قوله تعالى : (و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) . إن الحديث، لو كان صادقا، ما يُحمل إلا فى وضعه الصحيح ومكانه اللائق به، ومعرفة الوضع اللائق لأثر ما إنما يكون بعد التفقه الكامل فى كتاب الله، وحياة نبيه، وحقيقة سيرته، وجوهر سنته … وحديث "بعثت بالسيف" قد يوحى بأحكام لم يقل أحد من الفقهاء بها . فإن جعل توحيد الله غاية للجهاد بحيث لا تهدأ الحرب حتى يُسلم الناس معنى باطل، وحكم لم يتقرر فى شرائع الإسلام . ص _212(1/172)
بل هو مخالف لنص القرآن الصريح فى معاملة أهل الكتاب . ذلك أن المعتدين منهم مهما جحدوا وآذوا واعتسفوا يُكتفى عند هزيمتهم بفرض بعض المغارم المالية عليهم مع بقائهم على عقيدتهم . وغير أهل الكتاب من أصحاب النحل الأرضية المنحلة يعاملون المعاملة نفسها . وقد كانت هذه سياسة "عمر بن الخطاب" مع المجوس تنفيذا لوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- . أما عبدة الأصنام فى الجزيرة العربية فقد ظلوا قرابة عشرين سنة يعاملون على قاعدة "لكم دينكم ولى دين" . بل منحوا حق الارتداد عن الإسلام إذا لم يعجبهم البقاء فيه !! فلما لم تزدهر هذه المرونة إلا ضراوة، وبدا أنهم يتحينون الفرص للغدر بالدين الذى وهبهم الحياة، نزلت سورة"براءة"بوضع السيف فى عنق من لم يتب منهم . أى أن الانبعاث بالسيف كان فى فترة محدودة لم تتجاوز الشهور، ومع قوم معينين غز لُؤمُهم على العلاج، ورفضوا كل مهادنة لخصومهم فى الرأى، فكيف يكون السيف- والحالة هذه- شارة رسالة ؟ إن أى حديث يخالف روح القرآن أو نصه فهو باطل من تلقاء نفسه . والدليل الظنى متى خالف القطعى سقط اعتباره على الإطلاق، كما أورد البخارى وغيره من الحفاظ حديث أبى هريرة قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدى فقال: " خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق وفى آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل " . ومع أن الحديث فى صحيح مسلم قد أغفله الحفاظ لكونه مخالفا لما جاء فى القرآن من أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام لا سبعة ! فقالوا : هو من رواية أبى ص _213(1/173)
هريرة عن كعب الأحبار، ولا يمكن أن يكون من قول الرسول، لأن قوله -صلى الله عليه وسلم- لا يتعارض مع القرآن بل يكون شارحا له، ومفسرا لآياته. * * * والخلاصة أن السنة، هى الركن الثانى فى الدين، ولكن السنة بحاجة إلى من يعرف أسانيدها ومتونها معرفة حسنة. ومن يعرف- قبل ذلك وبعده- الكتاب العزيز، ويقف على معانيه ومراميه . ص _214
الاجتهاد الرجل الذى يعيش فى جو الوحى، خبيرا بحكمته وأحكامه، متأنقا فى تلاوته وتدبره، بصيرا بسياقاته ومغازيه . . والذى يصحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى سيرته، ويستبطن سنته من أقوال وأفعال، ويتأسى به فى تقواه وعبادته، وخلقه وغيرته . هذا الرجل- مادام يملك ذلكم القلب التقى والبصر القوى- يستطيع أن يصرف أحوال الحياة التى تلقاه تصريفا يطبعها بطابع الدين، ويضفى عليها صبغة الحق . لأنه سيجتهد فى إلحاقها بما علم من كتاب الله وسنة رسوله، وفى ردها إلى ما وعى من بواعث الإسلام وأهدافه … والسير فى الحياة بهذه النية . . ورجع الأمور التى لا تتناهى ولا تنضبط لكثرتها وتغيرها، إلى ما تعلمنا من مبادئ الشريعة ومناهجها، يسمى اجتهادا أو قياسا . وهو من أصول التشريع، ومن أدلة الإسلام فى تعرف الأحكام . والأمة مطالبة بالتزام هذا الصراط فيما تفد به العصور من أحداث . ولكن ذلك العمل الكبير ليس فى مكنة كل إنسان، وطبائع العوام لا تطيقه، بل ليس يقبل منها إذا هى عالجته . ومن ثم كان فقه الشريعة، ونقل الأحكام مما نعلم إلى ما لا نعلم يحتاج إلى دراسة واستعداد . فمن توفرت فيه هذه الصلاحية عد من أهلها، وإلا فلا مجال له فيها . . ص _215(1/174)
قال الأستاذ "على حسب الله" أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة سابقا: والمصدر الثالث اجتهاد الرأى فى الأمة، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر). وقال سبحانه: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) . هذه هى الأصول الذى تستمد منها الأحكام فى الشريعة الإسلامية وهى مرتبة على نحو ما ذكرنا: الكتاب، فالسنة، فالاجتهاد . ويؤيد هذا ما روى معاذ بن جبل- رضى الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن قال له: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال أقضى بما فى كتاب الله... قال: فإن لم يكن فى كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم يكن فى سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأي لا آلو. قال معاذ: فضرب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صدرى، ثم قال: "الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله " . وروى سعيد بن المسيب عن على- رضى الله عنه- أنه قال: قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه منك سنة ؟ قال: " اجمعوا له العالمين من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأى واحد" . ومن هذين الحديثين نرى أن الاجتهاد نوعان: اجتهاد فردى فى الأمور التى يكفى لمعرفة حكمها اجتهاد الفرد، كالذى قال معاذ . واجتهاد العالمين من المؤمنين فيما يعرض للأمة من الأمور التى تحتاج إلى تبادل الرأى كالذى قيل لعلى- رضى الله عنه- . ص _216(1/175)
الإجماع هناك حقائق مسلمة فى الشريعة، لم يثر خلاف فى فهمها، ولا فى العمل بها طول القرون التى خلت، ولا مكان للرأى فى زيادتها أو نقصها، ومحاولة نقض هذه المسلمات، أو الشغب عليها فتنة كبيرة وشر مستطير . وذلك معنى الإجماع وسر الشناعة فى الخروج عليه . الإجماع ليس اتفاق الناس على عُرف ما، أو فكرة ما . فهذا النوع من الاتفاق لا يعنينا بقاؤه، أو فناؤه، مادام مبتوت الصلة بمعالم الدين . إنما الإجماع أن ترد حقيقة شرعية معينة، وأن يجيز العقل المجرد عدة صور لها، أو أفهام فيها . ولكن هذه الصور والأفهام انتفت تمام الانتفاء باتفاق المسلمين على قول واحد، وعمل واحد . فكل خروج على هذه الحقيقة يعتبر ثغرة فى الإسلام، ونقضا لبناء الأمة . خذ مثلا الصلاة، إنها خمس فقط، وعدد ركعاتها سبع عشرة على ما نعلم من هيئات وأداء . فكل محاولة للعبث بذلك خروج على الإجماع ومزلقة إلى الكفر . وكذلك الصيام، إنه الامتناع عن شهوتى البطن والفرج من مطلع الفجر إلى الغروب فى شهر رمضان، فمن زعم شيئا غير ذلك فهو يكذب على الله ورسوله، وجماعة المسلمين . ومن الخير بعد تجميد هذه الأشياء المجمع عليها، جذب الأنظار إلى طبيعة الاستقرار فى أوضاعها، حتى ينقطع هزل بعض الناس فلا يحاولون الخوض فيها . ص _217(1/176)
الفقه والمجتمع تكاد دراسة الفقه تقتعد المنزلة الأولى فى ثقافتنا التقليدية . ولا غرو، فالفقه دائرة رحبة تضم داخل أقطارها أفعال المكلفين كلها . وشرائع الإسلام فى ذلك الميدان بلغت حد الاستيعاب . ويندر أن يوجد تصرف إنسانى يعرض للمرء من المهد إلى اللحد دون أن يتناوله الفقه الإسلامى بنص، أو قاعدة . وهذا الشمول من خصائص الإسلام . إن الدين الذى يبنى أمة ذات رسالة تبقى على الدهر، وتظل صلاحيتها كامنة فى تعاليمها لا يدع فى السلوك العام، أو الخاص فجوة يقوم غيره بسدادها ... والحقيقة أن المجتمع الإسلامى، منذ نشأ، صبغ بطابع الفكر القانونى فى كل شىء، وتدخلت تعاليم الإسلام فى تنظيمه من الألف إلى الياء . نعم ، تدخل الفقه فى تعليمه كيف يأكل وما يأكل . بل وكيف ينفى فضلاته، وكيف يتطهر منها..!! وظل يتابعه فى شئونه، مرحلة مرحلة حتى عرفه، وهو عضو فى الدولة، كيف يسالم وكيف يحارب، وكيف يعايش غيره من أعضاء الأسرة العالمية فى مجال العلاقات الدولية الكبرى . ولم يكن الاشتغال بهذه الأمور فضولا يمكن الاستغناء عنها، أو نوافل يستطاع تركها، لا، لقد كان الاشتغال بها من لباب الدين، ومن صميم العمل بالكتاب والسنة . ص _218(1/177)
ولذلك عندما انحطت الثقافة الإسلامية فى عصور الانحلال والتأخر أخذت أنواع شتى من المعارف العظيمة تتفلت من بين أيدينا . وماتت علوم كونية وأدبية وفنية مهمة، علوم طالما ازدهرت فى عواصمنا وتألقت بها مغانينا . . ولكن الجماهير ظنتها ثانوية، أو خادمة لغيرها فلم تكترث لفقدها . . أما الفقه، فقد تشبثت بحباله وأبت التفريط فيه . . ومنذ ثلاثين سنة، ونحن غلمان فى المعاهد الدينية كنا ندرس أبوابا فى الفقه تجمع بين الوضوء والغسل، وبين عهود الأمان ودار الحرب، وغيرها من موضوعات القانون الدولى . ولا تزال كتب الفقه مشحونة بهذا الخليط الهائل من القضايا والأحكام، التى تدل على نظر أصيل وفكر عميق، واستبحار فى فهم الحياة وسياسة الإنسان لا نظير له فى ثقافة أخرى . . * * * ص _219(1/178)
فقه العبادات ولا بأس من إلقاء نظرة عجلى على بعض نواحى هذا الفقه المحيط . . فى فقه العبادات تجيء الشرائع من عند الله جملة وتفصيلا، فليس لإنسان أن يقترح ، أو يخترع، عليه فحسب أن ينفذ ما رسم الله له . . والعبادات التى افترضها الإسلام ليست طقوسا مبهمة، إنها أعمال واضحة مفهومة . . وإذا استثنينا بعض مناسك الحج، فإن سائر العبادات التى امتاز بها هذا الدين يمكن وصفها بأنها فلسفة عقلية راقية، وأشفية نفسية موفقة . . أما التقاليد الدينية التى يؤديها الحجيج، فهى إهاجات عاطفية، وذكريات تاريخية لا يستغنى عنها البشر، ولا تخلو منها حتى النظم المادية التى تقدس العقل وحده . وحكمة تشريعها ظاهرة فى ربط الجماهير بالمعانى الكبيرة . . أما محور العبادات فى الإسلام، فهو تزكية النفس، وإخلاص السريرة، وإشراب الطبيعة الإنسانية معنى الخضوع لله وحده، والامتداد فيما وراء هذا، مع الناس ومع الحياة . فأبناء آدم سادة فى هذا الكون، وهم سواسية بين يدى ربهم، وفى الحقوق والواجبات العامة . . وليس لكاهن دينى، أو زعيم مدنى غناء عن الآخرين فى قليل ولا كثير، فلا نجاة إلا فى حسن الاتصال بالله، وصدق المعاملة معه . . * * * ص _220(1/179)
أسباب الاختلاف والاجتهاد يدخل العبادات عن طريق تحرى مراد الله سبحانه وتعالى، فليس لأحد الفقهاء رأى شخصى يعتبره أتباعه دينا ..! وقد أعجبنى من أحد مقلدى المذاهب جواب سديد . . قيل له: أتتبع كلام أبى حنيفة ؟ قال: لا . . أتبع كلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- كما فسره أبو حنيفة..!! وهذا الجواب تصوير صادق لطبيعة التقليد، وإلا فإن أبا حنيفة وغيره من الأئمة لا يتبعون لذواتهم . . ونحن لا نقر التقليد الفقهى كما هو شائع الآن فى البلاد الإسلامية، وإنما نشير فقط إلى وجهة نظره . . وهذا الاجتهاد فما فقه العبادات له أسبابه ونتائجه . . فالنص الذى لا جدال فى ثبوته قد تتفاوت الأنظار فى فهمه، حسب الطبيعة الذهنية للفاهم، أو حسب الطبيعة اللغوية للألفاظ . كما أن الآثار النبوية موضع تقدير مختلف بين العلماء من ناحية السند الذى وردت به، فقد يصح عند هذا ما لا يصح عند ذاك . ويتبع هذا بداهة اختلاف فى الأحكام قد يكون بعيد المدى . فمثلا هل تصح إمامة المرأة فى الصلاة ..؟ يرى بعضهم منع ذلك مطلقا، ويرى آخرون إباحته مطلقا، ويرى غيرهم إباحة إمامة ص _221(1/180)
المرأة لغيرها من النساء، والخلاف ليس ترجيحا لفلسفة خاصة، إنما هو ترجيح لما صح عند الفقيه المجتهد أنه سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- . وأحكام الفقهاء تختلف فى قضايا كثيرة لهذا السبب . ونحن نلحظ تعدد المذاهب فيما يتصل بتقويم السنن المروية . وهو تعدد لا محل للجزع منه إذا اعتمد على أصول علمية محترمة فى تعديل الرواة وتجريحهم، وبالتالى فى قبول الأسانيد أو ردها . ومن الخير أن نؤكد هنا حقيقة تشرح موقف الأمة جمعاء من السنة، فقد قال الأستاذ "محمد تقى القمى" رائد دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية ما يأتى : "لا يختلف الشيعى عن السنى فى الأخذ بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل يتفق المسلمون جميعا على أنها المصدر الثانى للشريعة، ولا خلاف بين مسلم وآخر فى أن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفعله وتقريره سنة لابد من الأخذ بها . " إلا أن هناك فرقا بين من كان فى عصر الرسالة يسمع عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وبين من يصل إليه الحديث الشريف بواسطة، أو وسائط . . " ومن هنا جاءت مسألة الاستيثاق من صحة الرواية، واختلفت الأنظار . " أى أن الاختلاف فى الطريق وليس فى السنة . " وهذا ما حدث بين السنة والشيعة فى بعض الأحايين . . " فالنزاع صغروى (تعبير جرى على اصطلاح علماء المنطق، كأن هناك قياسا من الشكل الأولى يصاغ على النحو التالى: هذا كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- واجب الاتباع، فهذا واجب الاتباع... فالجملة الثانية، وهى المقدمة الكبرى، مسلمة عند جميع الطوائف، لكن الكلام فى الجملة الأولى، وهى المقدمة الصغرى، هل الأمر المروى كلام الرسولى -صلى الله عليه وسلم- أم لا) لا فى الكبرى، فإن ما جاء به النبى -صلى الله عليه وسلم- لا خلاف فى الأخذ به، وإنما الكلام فى مواضع الخلاف ينصب على أن الأثر المروى: هل صدر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أم لا ؟ " . ص _222(1/181)
وكما ينشأ الخلاف عن تقويم السند، وتقدير نسبته إلى صاحب الشريعة، ينشأ عن اختلاف الفهم فى النص الثابت . وقد كتب الأستاذ "محمد جواد مغنية" بحثا حسنا فى شرح هذا الموضوع عند شرح قوله تعالى : (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) . قال: " ولست أعرف آية من آيات الأحكام كثرت فيها أقوال المذاهب بل أقوال المذهب الواحد كهذه الآية الكريمة . " فقد اختلفوا فيمن يجب عليه التيمم مع فقد الماء: هل هو المريض والمسافر فقط، أو كل من فقد الماء حتى الحاضر الصحيح ؟ . " وهل المراد بالملامسة الجماع، أو ما يعم اللمس باليد ؟ " وهل المراد بالماء خصوص المطلق، أو كل ماء حتى المضاف ؟ " وهل المراد بالصعيد التراب فقط، أو وجه الأرض ترابا كان أو رملا أو صخرا ؟ " وهل المراد بالوجه كله أو بعضه ؟ " وهل المراد باليد الكف فقط، أو هى مع الذراع ؟ 1ـ قال أبو حنيفة: إن المسافر والمريض اللذين لم يجدا ماء يجب عليهما التيمم، أما الحاضر الصحيح فلا يسوغ له التيمم مع فقد الماء، وليس عليه صلاة (كتاب المغنى لابن قدامة ا ص 243 الطبعة الثالثة، وكتاب بداية المجتهد لابن رشد ج1 ص 63 طبعة سنة 1935) . أما الدليل الذى اعتمده الإمام أبو حنيفة فظاهر الآية حيث دلت على أن مجرد فقد الماء لا يكفى لجواز التيمم، بل اشترطت مع ذلك أن يكون فى حالة السفر أو المرض : (وَإِنْ كُنْتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) . وقال سائر المذاهب: على فاقد الماء أن يتيمم ويصلى مسافرا كان أو حاضرا، سليما ، ص _223(1/182)
أو سقيما، حيث تواتر الحديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك، والحديث مفسر ومبين للكتاب، وخرجوا ذكر السفر فى الآية مخرج الغالب، وإذا حمل الوصف على الغالب انتفت دلالته عما عدا الموصوف . هذا، ولو تم ما نقل عن الإمام أبى حنيفة لكان المسافر والمريض أسوأ حالا من الحاضر الصحيح، حيث يجب التيمم والصلاة عليهما، ولا يجب عليه . 2ـ فهم الشافعية من " لامستم النساء " المعنى العام حتى اللمس باليد، ولكن خصصوه بالمرأة الأجنبية من غير حائل، وقال الإمامية: المراد باللمس فى الآية الجماع، لأن العرب تطلق اللمس على المواقعة، لأن به يتوصل إليها، كما يطلقون المطر على السماء . 3ـ قال الحنفية: يجوز الوضوء بالماء المضاف، لأن معنى " فلم تجدوا ماء " أى ماء مضافا كان أو مطلقا، وعليه فمن كان عنده ماء مضاف لا يعد فاقدا للماء . وقالت بقية المذاهب: إن لفظ الماء ينصرف إلى المطلق، فإذا قلت لصاحب القهوة، آتنى ماء، فلا يأتيك بالعصير أو " الكازوزة " . 4ـ قال الحنفية وجماعة من الإمامية: المراد من الصعيد فى الآية التراب والرمل والصخر دون المعادن، وقال الشافعية: المراد به الرمل والتراب فقط ولا يعم الصخر، وقال الحنابلة وبعض الإمامية: بل التراب فقط، وقال المالكية: الصعيد يشمل التراب والرمل والصخر والثلج والمعادن إذا لم تنقل من مقرها إلا الذهب والفضة والجواهر . 5ـ قال الأربعة: المراد بالوجه جميع الوجه تماما كما فى الوضوء ، وقال الإمامية: المراد بعض الوجه لا كله، لأن الباء فى آية التيمم دخلت على الوجوه ، ولم تدخل عليها فى الوضوء، فآية الوضوء قالت " فاغسلوا وجوهكم " وآية التيمم قالت " فامسحوا بوجوهكم " والباء تفيد التبعيض . 6ـ قال الأربعة: المراد باليدين: الكفان والزندان مع المرفقين، وعليه يكون الحد فى التيمم هو الحد بعينه فى الوضوء، وقال الإمامية: المراد باليدين: الكفان فقط ؛ لأن اليد إذا ص _224(1/183)
أطلقت لا يفهم منها إلا الكف، فإذا قلت: هذان يدان وفعلته بيدى انصرفت إلى الكف وحدها . قال ابن رشد فى " بداية المجتهد "ج 9 ص 66: " إن اليد فى كلام العرب تقال على ثلاثة معان: على الكف فقط، وهو أظهرها استعمالا، وتقال على الكف والذراع، وتقال على الكف والساعد والعضد " . وكما تدلنا هذه الأقوال على أن الخلافات بين المذاهب إنما هى لفظية لا معنوية، وفى الفروع لا فى الأصول، تدلنا أيضا على مرونة الشريعة الإسلامية، ومجالها الواسع للاجتهاد والتيسير، بالإضافة إلى ما فى هذه الخلافات من الفوائد اللغوية والأصولية وما إلى ذلك مما أشرنا إلى بعضه فيما تقدم " . * * * هل فى هذه المذاهب المختلفة ما هو أولى بالحق من الآخر! لا. إنها جميعا سواء فى قيمتها، مهما كان بعضها أحظى من الآخر عند من يقول به . . وأنت فى هذه الفروع الفقهية بين نظرين : * إما اعتبرتها جميعا وجوها للحق، وأن الحق فيها يتعدد ؛ وكلها صواب مراد الله . * وإما اعتبرت الحق واحدا غير معروف على التحديد ؛ وتلك الأقوال اجتهاد فى استبانته ؛ ولأصحابها كلهم أجر البحث عنه . فمن أخطأه فله أجر هذا الجهد ؛ ومن أصابه- ولسنا نعرف بالضبط من هو- فله أجر مضاعف . . وسواء كان هذا أو ذاك ؛ فلا مكان لاستنكار أحدها، أو نسبته إلى ضلالة . . بل لا مكان للزعم بأنه الحق الذى لا حق سواه . وقد كان المجتهدون الأوائل أدرى الناس بهذه الجادة ؛ ولذلك رفض بعضهم أن يحجر على الآخر، أو يلزمه ما لا يلتزم به . لما حج المنصور قال لمالك: قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التى صنفتها ثم أبعث فى كل ص _225(1/184)
من أمصار المسلمين منها نسخة ؛ وآمرهم بأن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره ؛ فقال: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا ؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل ؛ وسمعوا أحاديث ؛ ورووا روايات ؛ وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ؛ وأتوا به من اختلاف الناس ؛ فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم " . * * * وعندى أن أغلب الأقوال التى تداولتها المذاهب الفقهية حق، وأنها فِعلُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو إقراره على اختلاف المكان والزمان . فهو- صلوات الله عليه- سدل يديه فى الصلاة وضمهما . وهو رفع يديه قبل الركوع وبعده حينا، وتركه حينا . وهو أقر التكبير فى الأذان مفردا، ومثنى... إلخ . ولو يسرنا الدراسة المقارنة، ووسعنا منادح النظر لانفرجت أزمات ما استحكمت حلقاتها إلا يوم ضاق العطن، وقصر الباع، وانتشر الجهل، وعمت الخيبة . * * * إن هناك أصولا، لا يتعدد فيها الحق، ولا يختلف فيها المؤمنون. ولو صدقنا الله العمل بهذه الأصول القائمة لعفا عما بعدها. ويعجبنى قول الأستاذ "محمد تقى القمى" فى أساس التقريب بين المذاهب : " لعل قائلا يسأل: ما هذه الأصول التى تجعلونها الحد الفاصل بين المسلمين وغيرهم ؟ فأذكر له بعضها على سبيل التمثيل، لا على سبيل الحصر . فنحن جميعا نؤمن بالله ربا، وبمحمد صلى الله عليه وآله نبيا ورسولا، وبالقرآن كتابا، وبالكعبة قبلة وبيتا محجوجا، وبأن الإسلام مبنى على الخمس المعروفة، وبأنه ليس بعده دين، ولا بعد رسوله -صلى الله عليه وسلم- نبى ولا رسول، وبأن كل ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- حق، فالساعة حق، والبعث حق، والجزاء فى الدار الآخرة حق، والجنة حق "والنار حق. إلخ . وما اختلفنا فيه من شىء فحكمه إلى الله ورسوله . ص _226(1/185)
أى أننا متفقون على أسلوب الخلاف ؛ فليس منا من يقول: هذا أمرٌ أمَرَ به الله، أو رسوله، ومع ذلك لا نلتزمه ولا نقول به . وليس منا من يقول: كلفنا الله ورسوله أن نؤمن بكذا، ومع هذا لا نؤمن به. وليس منا من ينكر معلوما من الدين بالضرورة . وإنما يقول المختلفون: هذا أمر به الله، أو أمَرَ به رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو هذا لم يأمر به الله ولا رسوله، أو هذا من المواضع التى يسوغ فيها الاجتهاد، أو من المواضع التى لا اجتهاد فيها ..؟؟ فالخلاف إنما هو فى إثبات أن الله ورسوله أمرا بهذا الشىء، أو لم يأمرا به، مع الاتفاق على أن أمرهما واجب الطاعة على المسلم، وأن شريعة الله إنما ترجع إلى كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " . ص _227(1/186)
شرائع المعاملات استفاضت المعاملات بين الناس قبل أن يجىء الدين إلى العالم . ذلك أن ضروب الاتصال المادى والأدبى من الضرورات الإنسانية التى لا تتوقف على إلهام من السماء . فقبل أن يتنزل الإسلام، وفى الأقطار المحرومة منه بعد ما تنزل، جرت بين الخلق صلات اقتصادية واجتماعية وسياسية لا حصر لها، وسرت فى مجراها الذى خطته الأفكار والأهواء جميعا... فلما أتى الوحى كانت وظيفته أن ينقى هذه المعاملات من الأدران التى لصقت بها، وأن يدخل فى جوهرها، أو مظهرها ما يجعلها تتفق مع مبادئه ومثله، وإذا كانت هذه المعاملات سليمة ابتداء أقرها دون تعديل، أو تحوير. فالبيع مثلا معاملة معتادة، وكل ما يطلبه الإسلام لها أن تتجرد عن رذائل الغش والخداع والتغرير والربا وما إلى ذلك . وأنواع المعاملات إنما يتطرق الخلل إليها لغلبة الأثرة وسائر غرائز السوء عليها، ولذلك أدارها الإسلام على رعاية المصلحة وتحقيق العدالة … ووضع مختلف التعاليم لجعل طبيعة العقود والتصرفات والأساليب التى تتم بها مستقيمة مع هذين الأمرين: المصلحة، والعدالة . والإسلام دين يواجه أحوال الناس بالأقضية التى تقيم العدل وتثبت المصلحة، فهو ليس دراسة فنية للقانون، ومبادئه، وأغراضه. ولكنه تطبيق عملى يبت فى شئون الناس بالأحكام التى يتأملها أولو الأبصار، فيجدون فيها أرقى المبادئ وأفضل الشرائع … ص _228(1/187)
إن الجفاف طبيعة القانون، وشئون التشريع تكاد تكون شيئا مقابلا لشئون الروح، وأعمال القلوب، وحركات العواطف . لكنك إذا تتبعت أسلوب الإسلام فى علاجه لما يدور بين الناس من معاملات، وجدته يرقى بها، وينفث فيها من طبيعته السماوية، فإذا هى تستحيل من نصوص صلبة خشنة إلى وصايا أدنى ما تكون إلى شرائع الأخلاق ومناهج الأدب… وسترى مصداق ذلك فيما نسوقه بين يديك من شواهد . وثم شىء نحب أن يكون واضحا: إن دوران المعاملات على المصلحة لا يعنى أن كل ما يتواضع الناس على قبوله يكون عملا صالحا، كلا، فما نص الإسلام على تحريمه لا يمكن أبدا أن يكون مصلحة، كالربا، أو الزنا..!! والتراضى بين الأطراف المعنية لا يجعل من هاتين الرذيلتين شيئا مشروعا ولو تظاهرت قوانين الأرض على استباحة ذلك..!! وقد أشرنا إلى أن شبكة الشرائع الدينية تمتد فى كيان المجتمع كله، ولا تدع جانبا منه، ونحن فى هذه العجالة لا نستطيع إحصاء ضروب التوجيه التى احتواها الإسلام . ولكننا نكتفى بعرض نماذج من شرائعه فى قطاعين اثنين من قطاعات الحياة العامة . ومن هذه النماذج تعرف الطابع السائد فى ضروب المعاملات . ص _229(1/188)
قطاع تجَارى * الأول: القطاع التجارى، وما يقع فيه من أخذ ورد، ورهن وصلح، ودين ورسوم . . إلخ . . * والثانى: القطاع السياسى، وما يتناوله من حرب وسلام، وهدنة، وصلح، ودعوة، ورفض، أو قبول . . إلخ . وهناك جملة من أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- فى القطاع الأول: عن عبد الله بن أبى أوفى- رضى الله عنه-: أن رجلا أقام سلعة وهو فى السوق فحلف بالله: لقد أعطى بها ما لم يُعط، ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت : (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) (البخارى) . ومر النبى -صلى الله عليه وسلم- برجل يبيع طعاما فسأله: كيف تبيع؟؟ فأخبره، فأوحى إليه: أن أدخل يدك فيه، فأدخل يده فإذا هو مبلول، فقال النبى -صلى الله عليه وسلم-: ليس منا من غش " (أبو داود) . وفى رواية أخرى فقال: " ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كى يراه الناس؟ ثم قال: من غش فليس منى " (مسلم) . وعن حكيم بن حزام رضى الله عنه عن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما فى بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما (البخارى) . ص _230(1/189)
وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- عن النبى -صلى الله عليه وسلم-، قال: "لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد " . وفى رواية: " فإن تلقاه إنسان فابتاعه، فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق " (مسلم) . وقال على رضى الله عنه: سيأتى على الناس زمان عضوض، يعض الموسر على ما فى يديه ولم يؤمر بذلك، وقال تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم) ويتبايع المضطرون، وقد نهى النبى -صلى الله عليه وسلم- عن بيع المضطر. (أبو داود) . عن جابر- رضى الله عنه- قال: " لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء " (مسلم) . وقال ابن عمر- رضى الله عنهما-: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير فآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق فآخذ مكانها الدنانير . فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجدته خارجا من بيت حفصة، فسألته عن ذلك فقال: " لا بأس به بالقيمة " (أصحاب السنن) . وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهم يسلفون الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف فى تمر، وفى رواية فى شىء، فليسلف فى كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (أبو داود). وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله تعالى: " أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خانه خرجت من بينهما " (أبو داود) . وعن عروة البارقى- رضى الله عنه- أن النبى -صلى الله عليه وسلم- أعطاه دينارا يشترى به أضحية أو شاة، فاشترى شاتين، فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة فى بيعه، فكان لو اشترى ترابا لربح فيه (أبو داود) . وعن عمر بن عوف المزنى- رضى الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " الصلح جائز بين ص _231(1/190)
المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما. وعن كعب بن مالك- رضى الله عنه- أنه تقاضى ابن أبى حدرد دينا كان له عليه فى المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو فى بيته، فخرج إليهما فكشف سجف حجرته فنادى: يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله، قال: ضع فى دينك هذا وأومأ إلى الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال: قم فاقضه. *** وهناك جملة من الأحاديث فى القطاع الثانى : عن عطاء بن يسار، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث عليا رضى الله عنه مبعثا، فقال له: امض ولا تلتفت، قال: يا رسول الله، كيف أصنع بهم؟ قال: إذا نزلت بساحتهم، فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلا، فإن قتلوا منكم قتيلا، فلا تقاتلهم حتى تريهم إياه . ثم تقول لهم: هل لكم إلى أن تقولوا لا إله إلا الله؟ فإن قالوا: نعم، فقل لهم: هل لكم أن تصلوا؟ فإن قالوا: نعم، فقل لهم: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم الصدقة؟ فإن قالوا : نعم، فلا تبغ منهم غير ذلك.. والله لأن يهدى على يديك رجل، خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت وعن عبد الرحمن بن عائذ قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث بعثا قال: " تألفوا الناس وتأنوا بهم، ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل بيت من مدر ولا وبر، إلا أن تأتونى بهم مسلمين أحب إلى من أن تأتونى بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم " (تيسير الوصول) . وبعث أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- يزيد بن أبى سفيان على جيش، فأتى براحلته ص _232(1/191)
ليركب فقال: بل أمشى، فقادوا راحلته وهو يمشى، وخلع نعليه وأمسكهما بأصبعيه، رغبة أن تغبر قدماه فى سبيل الله . ثم قال: " إنى موصيك بعشر فاحفظهن: إنك ستلقى أقواما زعموا أنهم قد فرغوا أنفسهم لله فى الصوامع، فذرهم وما فرغوا له أنفسهم، وستلقى أقواما قد حلقوا أوساط رءوسهم فافلقوها بالسيف، ولا تقتلن وليدا، ولا امرأة، ولا شيخا كبيرا، ولا تعقرن شجرا بدا ثمره، ولا تحرقن نخلا ولا كرما، ولا تذبحن بقرة ولا شاة، ولا ما سوى ذلك من المواشى إلا لأكل " . وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- أن رجلا قال: يا رسول الله، رجل يريد الجهاد وهو يريد عرضا من الدنيا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " لا أجر له " فأعظم ذلك الناس، فقالوا للرجل: عد لرسول الله فلعلك لم تفهمه، فقال الرجل: يا رسول الله، رجل يريد الجهاد فى سبيل الله وهو يبتغى عرضا من الدنيا، فقال رسول -صلى الله عليه وسلم-: " لا أجر له " فأعظم ذلك الناس وقالوا: عد لرسول الله، فقال له الثالثة: رجل يريد الجهاد فى سبيل الله وهو يبتغى عرضا من الدنيا، فقال: " لا أجر له " (أبو داود) . * حاصر أحد جيوش المسلمين قصرا من قصور فارس، وكان الأمير سلمان الفارسى فقالوا: يا أبا عبد الله ألا ننهد إليهم؟ قال: دعونى أدعوهم كما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو . فأتاهم، فقال لهم: إنما أنا رجل منكم، فارسى، والعرب يطيعوننى، فإن أسلمتم فلكم مثل الذى لنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه وأعطونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون . قال: ورطن إليهم بالفارسية: وأنتم غير محمودين، وإن أبيتم نابذناكم على سواء . قالوا: ما نحن بالذى يعطى الجزية، ولكنا نقاتلكم . قالوا: يا أبا عبد الله ألا ننهد إليهم ؟ قال: فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا . . ص _233(1/192)
ثم قال انهدوا إليهم . . قال: فنهدنا إليهم، ففتحنا ذلك القصر (الترمذى) . * كان بين معاوية وبين أهل الروم عهد، وكان يسير فى بلادهم، فلما انقضى العهد أغار عليهم، فإذا رجل على فرس وهو يقول: الله أكبر، وفاء لا غدر، وإذا هو عمرو بن عبسة. فسأله معاوية فقال، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عهدا، ولا يشدنه حتى يمضى أمده، أو ينبذ إليهم على سواء "، قال: فرجع معاوية بالناس. * عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: خرجنا مع النبى عليه الصلاة والسلام عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلا الثياب والمتاع والأموال. فتوجه رسول -صلى الله عليه وسلم- نحو وادى القرى، وقد أهدى له عبد أسود يسمى مدعما . فبينما هو يحط رحل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصابه سهم فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة. فقال النبى -صلى الله عليه وسلم-: كلا، والذى نفسى بيده إن الشملة التى أخذها يوم خيبر من الغنائم ولم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا. فلما سمعوا ذلك، جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- فقال: شراك أو شراكان من نار (البخارى) . * عن ابن مسعود- رضى الله عنه-، قال: بعثنى النبى -صلى الله عليه وسلم- ساعيا، ثم قال: "انطلق يا أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء وعلى ظهرك بعير من الصدقة له رغاء قد غللته " . قال: إذا لا أنطلق . قال: إذا لا أكرِهُكَ". * وعن أبى بكر- رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " من قتل معاهدا فى غير كنهه حرم الله عليه الجنة " . وفى رواية : " أن يشمه ريحها " . * * * ص _234(1/193)
طبيعة التشريع والإسلام حافل بالوصايا والفتاوى التى تلقى النور فى دروب الحياة، وتدل السائر على أسباب السلامة والاستقامة، ولا نستطيع استقراء توجيهاته فى كل قطاع . ولكن الذى يحتاج إلى تنويه أن دراسة هذه النصوص تمكن الدارس من معرفة روح الإسلام وحكمه فى مختلف الشئون . وقد استخلص الفقهاء من الانكباب عليها جملة من المبادئ والقواعد تعد مفتاحا لمغاليق القانون، ويستطيع أولو النهى بهذه المبادئ والقواعد أن يمدوا رواق الإسلام فى كل اتجاه، وأن يصبغوا الحياة به فى كل ناحية . . والتراث الذى آل إلينا من سنن الرسول الكريم فى المعاملات تراث رقيق ونبيل، لم يُؤثر مثله عن رسول آخر، بله عن سائر البشر . . والذرية القاصرة التى نشأت فى كنف الغزو الثقافى الحديث تجهل هذا التراث، وتذهل عن قيمته . وقد تعمدنا الإكثار من الأمثلة المنوعة فى القطاع الواحد لأمور : 1ـ جذب النظر إلى ما امتاز به الإسلام من مزج المعاملات بحسن النية وسمو الوجهة . 2ـ انفساح الدائرة التى يعمل فيها التشريع الدينى حتى إنها لتشمل الحياة كلها . 3ـ الكشف عن أن هذه السنن ليست أحكاما جزئية مبعثرة لا يجمع بينها رباط مشترك، بل هى مظاهر لروح واحد، يسرى فيها، ويضم شتاتها، وينتظم أحوال الناس على تجددها واطرادها. ص _235(1/194)
قال الدكتور " محمد يوسف موسى " : " من الطبيعى أن يستهدف هذا التشريع مصلحة الناس كافة، لا فرق بين أجناسهم وأديانهم، وفى هذا يقول الإمام الشاطبى : " إننا وجدنا (بالاستقراء) الشارع قاصدا لصالح العباد، والأحكام العادية (أى أحكام المعاملات) تدور معه حيثما دار . فترى الشىء الواحد يمنع فى حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز، كالدرهم بالدرهم إلى أجل تمتنع فيه المبايعة، ويجوز فيه القرض، وبيع الرطب باليابس (كالتمر مثلا) يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة " . ومن المعروف أن المصالح تتضارب كثيرا، فربما كان الخير لهذا فى ضرر يصيب ذاك . وهنا بينت الشريعة أنه يجب فى هذه الحالات تقديم المصلحة العامة على الخاصة . وفى هذا وذاك يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "لا ضرر ولا ضرار" . ولكل من هاتين القاعدتين تطبيقات كثيرة . ونذكر من باب التطبيق: إباحة نزع ملكية بعض الناس، توسعة لطريق، أو مجرى ، أو غير هذا وذاك من المنافع العامة، وإيجاب نفقة القريب المحتاج على قريبه، وإكراه المدين الموسر على الوفاء بدينه ولو بالحبس " . * * * روى البخارى عن عروة، قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار- فى ري الأرض- فقال النبى -صلى الله عليه وسلم-: يا زبير، اسق ثم أرسل الماء ؛ لأن المجرى يمر به أولا . فقال الأنصارى- طاعنا فى الحكم-: إنه ابن عمتك !! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اسق يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر ثم أمسك- عن هذا التوسع- أى ارو أرضك حتى يستفيض بها الماء، وتمتلئ الحفر... ثم دع الماء. وروى يحيى بن آدم القرشى فى كتابه " الخراج ": أنه كان للضحاك بن خليقة الأنصارى ص _236(1/195)
أرض لا يصل إليها الماء إلا إذا مر ببستان لمحمد بن مسلمة . فأبى محمد هذا أن يدع الماء يمر بأرضه.. أى رفض أن يحفر مجرى للماء بأرضه التى يملكها . فأتى الضحاك عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-. فقال لابن مسلمة: أعليك فيه ضرر؟ فقال: لا، فقال له: " والله لو لم أجد له ممرا إلا على بطنك لأمررته، نفذ ما قضى به " . فى هذه الصور الجزئية يأتى أصحاب البصر من الفقهاء، ويستخلصون نتائج مهمة، فيقول الشيخ محمد يوسف موسى: " إن الفقه الإسلامى يحفظ الحق لصاحبه ويبيح له استعماله كما يريد، ويحميه من عدوان الغير بشرط ألا يضار الغير باستعمال صاحب الحق حقه ضررا يكون أكبر من ضرر الحد من حرية صاحب الحق . وذلك تطبيقا لقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وارتكاب أخف الضررين . ويقول الشيخ على حسب الله. إن العلماء استقرءوا أحكام الدين وما ترمى إليه من مصالح فوجدوا ذلك لا يعدو ثلاثة أنواع : * النوع الأول: مصالح لا تقوم الحياة إلا بها، وسموها المصالح الضرورية، وهى تنهض على حفظ أمور خمسة: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وإلى هذا النوع يرجع أكثر أحكام الشريعة . * النوع الثانى: مصالح لا تختل بفقدها حياة الناس، ولكن يصيبهم من فقدها ضيق ومشقة، وشفوها المصالح الحاجية، وكثير من أحكام الشريعة يرجع إلى هذا النوع. كإباحة المبادلات، والرخص التى تعفى الناس من بعض التكاليف أحيانا . ص _237
* النوع الثالث : مصالح ترجع إلى الأخذ بمحاسن العادات: كستر العورات، وحرمة الخبيث من المطعومات، وسموها المصالح التحسينية . ومن استقرأ أحكام الشريعة وجدها قد تكفلت بالمحافظة على كل هذه المصالح. فهى شريعة كاملة، كلها عدل ورحمة ورفق بالناس . وذلك من أكبر أسباب صلاحيتها لبنى الإنسان فى كل زمان، وفى كل مكان . ص _239
حُكم الله أولى ص _241(1/196)
لا يجوز للناس أن يتخذوا غير الله ربا، أو حكما: والذى يعبد غير الله جاحد للحق، خائن للنعمة، وكذلك الذى يتبع غير ما شرع، ويحكم بغير ما أنزل..!! لماذا نعطى بشرا ما حق منازعة الله فى أمره ونهيه، وتحليله وتحريمه ؟ لماذا يملك إنسان ما أن يدع كلام الله جانبا، وأن يطرحه وراءه ظهريا.. ثم يأتى لنا من عند نفسه بأحكام يزعم أنها أولى بالاتباع من أحكام الله ؟! أهو أصدق من الله؟ أهو أبصر منه بمصالح الخلق؟ أم هو أذكر لما نسى رب العالمين من حاجات الناس ؟؟!! ... إن إهمال التشريع الإلهى، واعتناق القانون الأرضى، عبث شائن، وجاهلية منكرة . (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) . (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) . الواقع أن إماتة شرائع السماء معصية كبرى، وكل ما هنالك من فرق بين هذه المعصية وبين غيرها من الرذائل أن الأفراد قد يتورطون فى الإثم عن غفلة أو ضعف أو انزلاق قدم أو سورة شهوة، أما وأد أحكام السماء فما يكون إلا عن تعمد وعلانية وقلة مبالاة بالله … وقد توعد الله جل شأنه من يميلون عن الحق ويجنحون إلى الهوى، فقال: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) . ص _242(1/197)
وما تترك أحكام الله إلا ببواعث الهوى. إلا أنه فى ميدان التقنين الموضوع هو منظم معمّم مُزَوَّق، كأنه منطق العقل الشديد، وهدى المصلحة المؤكدة . ولذلك، ومنعا لهذا الغش يقول الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق …) . ويقول مرة أخرى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك …) . ومن ثم فنحن نريد أن يعى الناس أجمعون هذه الحقيقة، وأن يثقوا بأن الشريعة لا تنطوى على باطل ولا على عبث . إنها الحق الكامل (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) . (إن الحكم إلا لله) . (له الحكم وإليه ترجعون) . ربما كان للقانون سلطة على الناس فى أنحاء كثيرة من حياتهم، ولكنه سلطان منقوص الأطراف، منزوف القوى، إذا لم يصحبه سناء روحى يوفر له الاحترام والهيبة...!! وكم يعجز القانون وحده عن تأمين المجتمع وبث الثقة فى جنباته ؟ أما تشريع الله فلا: ذلك أن الخضوع له من الخضوع لله الذى أنزله. والتسليم التام لكل صغيرة وكبيرة فيه هو مقتضى الإيمان (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) . (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) . من أجل هذا كان التشريع السماوى مرعيا فى السر والعلانية، منفذا فى الظاهر والباطن، لأن تنفيذه لا يكون خوفا من سلطة يمكن خداعها، بل خشية من عالم الغيب والشهادة . ص _243(1/198)
والمتهم بالجريمة هو نفسه أول من يستكين لعقابها، لأنه يعرف أن ذلك أمر الله الذى لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. بل إنه قد يسعى كيما توقع العقوبة عليه فى الدنيا حتى ينجو بها من عذاب الآخرة. وتلك ميزة فى القانون السماوى لا تعهد فيما يصطنعه الناس لأنفسهم من قوانين.. ثم إن إقامة حكم الله فريضة يتعاون عليها المجتمع والدولة، ويرى كلا!ا أنه مطالب بها بوحى إيمانه. ومن ثم تستحكم حلقات الحصار حول المجرم فلا يستطيع فرار، من تبعات عمله، ولا يجد مجير من أقرب الناس إليه. إن الجميع يتقربون إلى الله بتقديمه إلى القضاء؟ لينال جزاءه العدل، كما كتبته السماء.. أما فى الأحوال الأخرى فإن المجرم قد ترصد الجوائز للقبض عليه، ومع ذلك يجد قن يخفيه، لأن حرمة القانون لم تتصل بحنايا القلوب، بل قد يمارى بعض الناس فى استحقاقه للعقاب، وفى صلاحية هذا القانون للتطبيق. قد يخضع الإنسان لأمر صديقه الذى يحبه، أو والده الذى يبره، فيبادر إلى تنفيذ ما يطلبان منه وهو رضى النفس قرير العين. بل قد تبلغ العاطفة من قلبه أن يتمنى لو صدر له من أحدهما أمر قد يفعله على وجه من السرعة والإتقان يدل على مدى حبه وعظيم تعلقه. هذه صورة من الخضوع للحبيب يعرفها الناس. وهناك صورة أخرى للون آخر من الخضوع: موظف مرهوب التسلط مخوف الأذى يصدر الأمر إلى مرءوسه فيستمع إليه ثم ينصرف لينفذه، والخوف وحده هو الذى يحرك أعضاءه. إنه يؤدى العمل المطلوب دون رغبة مقارنة، بل أحيانا مع كره له ولمن أصدره، وما تدفعه إلى تنفيذه إلا ضرورة الطاعة، أو نحافة العقوبة، فلو أمن هذه أو تلك ترك العمل لفوره. ص _244(1/199)
وقد تحتال النفس الإنسانية فى تلك الأحوال على الجمع بين كراهيتها الكامنة، ومظهر الطاعة المطلوبة، فتؤدى العمل على صورة مضطربة مكذبة به، أبعد ما تكون عن الوفاء والصدق. إن الخضوع الأول هو الأساس الحقيقى للعلاقات الصالحة، والضمان الأوحد للمصالح الحساسة.. أما الخضوع الآخر، فهو شكل من أشكال السيطرة، إن أجدى مرة، أفلس مرارا.. والتشريع الذى يسود الجماهير، ويضبط مصالحهم، وينظم حقوقهم وواجباتهم يجب أن ينظر إليه على ضوء الحقيقة التى ضربنا لها المثل السابق. أعنى أن القانون ينبغى أن يستقر احترامه، والتزام العامة والخاصة به من صوت الضمير المتردد بين حنايا الصدر. وبذلك يكون الخضوع له مستندا إلى دعائم نفسية مكينة لا تعرف احتيالا، ولا التواء.. إنه لأمر مرهق أعظم الإرهاق أن يكون تنفيذ القانون منوطا بالسلطة المادية وحدها.. فإذا ابتعدت- وما أكثر ما تبتعد- لم يكن هناك ظل لقانون، ولا تقدير لمصلحة.. ترى أيكفى عدد الضباط والجنود لكفالة هذه المهمة؟؟ وإذا كفى، فهل نرتقب مستوى رفيعا لما نطلب؟؟ وكم يكلفنا ذلك كله من أعباء؟ لكننى أرمق مجتمعا آخر، أدى الضمير الدينى فيه واجبه على نحو يستثير الرضا والإعجاب والتأمل: * فهذا رجل ينزلق مع الشهوة الجنسية إلى جريمة زنا ارتكبها فى خفاء، ولم يره فيها أحد.. ولكنه بعد انقشاع الغمة، وانكسار الشهوة، وصحوة الضمير يذهب بنفسه إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويقول له: أقم عليَّ حد الله.! ص _2 ص(1/200)
ما هذا..؟؟ إنه مؤمن يرى أنه ارتكب مخالفة سيئة، وأنه من الواجب أن يطهر منها بتحكيم القانون فى بدنه..!! * وهذه فتاة على عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه-.. يصدر أمر الدولة ألا يغش اللبن بالماء، وينطلق عمر فى جوف الليل. يتحسس شئون الرعية فيسمع إلى الفتاة وأمها تهمس إليها: امزجى اللبن بالماء، فتقول: لا، إن أمير المؤمنين منع هذا، فتقول أمها مغرية لها: وأين أمير المؤمنين الآن؟ فتجيبها الفتاة: إذا لم يكن أمير المؤمنين يرانا فرب أمير المؤمنين يرانا. * وتلك فتاة أخرى : يغريها صاحبها بالشر، والليل ساج، والكواكب ساهرة، والعزلة عن الخلق تامة، فيقول لها: ما ترانا إلا هذه الكواكب، فترد عليه: ويحك، فأين مكوكبها؟ جل شأنه..!! إن الضمير الموصول بالله- سبحانه- هو القانون الحقيقى. وأظن أننا يوم نقيم سياسة التقنين على هذا المعنى، نكون أرسيناها على دعائم راسخة، ويومئذ نشعر بشيء من الراحة. إن قداسة القانون تعود قبل كل شىء إلى أصله، وإلى علاقة الناس بهذا الأصل، فإذا اعتمد القانون على أنه من عند الله، جعل الناس هيمنته على أعناقهم جزءا من صلاتهم وزكاتهم. والتشريع الذى يبلغ هذه الغاية هو الذى تستقيم به الأحوال وتستقر به الأوضاع. والشريعة ضمان للصالح العام؟ فإن مبناها على الرحمة؟ وغايتها إسعاد الناس فى عاجلتهم قبل آجلتهم.. والخير الذى أمر الله عباده به ـ وما يأمر إلا بخير ـ تعود فائدته فى الدنيا ومثوبته فى الأخرى؟ على فاعليه وحدهم. والشر الذى نهاهم عنه- وما ينهى إلا عن شر- ليس إلا وقاية لهم من أذى قريب أو بعيد؟ ومن شر جلى أو خفى. ص _246(1/201)
إن الدين. وما تضمن من شرائع هو رحمة الله بالخلق. وما بالله حاجة إلى أحد من العالمين. وقد تسمع لغطا جهولا حول قسوة العقوبات التى جاء بها الشرع الحكيم. كأن الله يتشفى بالحدود والقصاص ممن أساء إليه، أو كأن له ثأر عند من قتل، أو سرق فهو ينكل به؟ لتهدأ نفسه، سبحانه وتعالى عما يفترى الأفاكون. والحقيقة أن العقوبات السماوية رحمة بالناس وبر بالمجتمع. إن الله إذا أرخص دم قاتل، فلكى يحقن ألوف الدماء، وإذا أرخص يد سارق، فلكى يزرع الأمان فى الأرض.. ولعل أكذب شىء فى الأرض هذه العاطفة التى تسمع صداها يتردد بين الحين والحين: أن ألغوا عقوبة الإعدام، أو انسوا ما أنزل الله من حدود.. والاستجابة لهذه المشاعر الطفلة هو انتزاع للعدل والأمان من آفاق الأرض وإشاعة للطغيان والعدوان فى كل مكان. إن شرائع الله ـ منذ بعث بها المرسلين ـ هى نداء الرحمة العاقلة. وقد بين الله فى كتابه العزيز أنه أباح لبنى إسرائيل الطيبات، فلما بغوا ونزعت عروقهم إلى الجريمة شدد عليهم. ثم قال مبيتا حكمة ما صنع: (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين) وإذا كان القانون السماوى يبطش بفرد أثيم، فهو يصرح بأن الغرض إحاطة الجماعة الإنسانية كلها بسياج يحفظ عليها الحياة والطمأنينة. (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) نعم، إنه عدوان عام على البشرية كلها، يوشك- إن لم يوقف بالقصاص الحاسم- أن يحصدها فردا فردا:- (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) ص _247(1/202)
إن الأرض قد يبارك فيها بعد المطر، فتخضر، وتؤتى ثمارها. وهذه البركة التى تجتنى حبوبا وفواكه أقل من بركة أخرى يفرط الناس فيها للأسف الشديد. هذه النعمة المضيعة هى ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " حد يُعمل به فى الأرض خير لأهل الأرض من أن يُمطَروا أربعين صباحا " (النسائى). ولا عجب ففى الحديث: " يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة " (الطبرانى). * * * وعزائم الشريعة التى. كفص بها المؤمنون ليست أغلالا فى الأعناق، أو قيودا فى الأقدام، إنها أعمال تجمع بين الوفاء لحقوق الله والضمان لحظوظ الناس. ومن الخطأ أن تحسب الدين أفعالا مرهقة، وواجبات مضنية. نعم: هو نشاط ونظام، والذين ألفوا الكسل والفوضى يكرهون هذه المعانى، وهو جهاد لبلوغ الكمال وإقرار الحق، ولو أن امرءا زرع شجرة فى الثرى لاحتاجت تنميتها إلى عناية، فكيف بتربية النفس، وطبعها على الفضائل، والمحافظة عليها من الغوائل؟ ومع ذلك فإن الأمر إذا بلغ حد المشقة والعنت جاء لطف الله برفع الحرج عن الناس والتيسير عليهم.. فإلى جانب العزائم المطلوبة رخص مخففة، فمن فقد الماء تيمم، ومن سافر خفف من صلاته، ومن مرض قضى الصيام أيام صحته. ومن لبس الحذاء أو الجوارب على طهر حسبه أن يمسح عليها يوما كاملا فى الإقامة، وثلاثة أيام فى السفر. ويجوز عند الضرورة ما لا يجوز فى أوقات أخرى.. فكلمة الكفر إذا قالها المكره لم يؤاخذ بها ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) ص _248(1/203)
(فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ) وإذا كانت القاعدة آن الضرورات تبيح المحظورات، فإن طبيعة الضرورة التوقيت والإلجاء، لا الدوام والاختيار.. ومن ثم فالذين يستبيحون الأنظمة الربوية للضرورة- كما يقولون- ليسوا على ذرة من الصواب، لأنهم يجعلون بناء المجتمع يقوم على الحرام دون تفكير فى تغييره، أو أدنى شعور بإنكاره، وهذا معناه استباحة المحظور أبدا وتحليل الحرام سرمدا.. والشريعة- كالحقائق الكونية والقواعد العلمية- عامة لا تختلف فى عصر عن عصر، ولا فى قطر عن قطر. أما القانون فمبناه العرف المتغاير بين قوم وقوم، وبلد وبلد، دون مقياس محترم للخير والشر. والقانون المدنى المنقول إلينا عن " أوربا " يبيح الزنا مادام قد وقع بين شخصين لهما إرادتهما الحرة. وهو كذلك يبيح شرب الخمر مادام السكير لم يعربد فى الطريق مزعجا المارة. والقانون المدنى فى بلاد أخرى يبيح زراعة الأفيون والحشيش. أما فى بلادنا فهو يحرم هذه المواد زراعة وتداولا. ومعنى التغاير أن ضوابط الفضيلة والرذيلة مائعة فى القانون، وذلك شىء لا تعرفه الشريعة بتة. وقد تكون القوانين قائمة على إصلاح جزء ما من الحياة العامة، وناجحة فى هذا الإصلاح الواجب، لكن الحياة العامة كل لا يتجزأ، وعلاج النقص فى ناحية منها لا يغنى عن استدراك الخلل فى بقية النواحى. لذلك ترك للدراسات الخلقية أن تكمل ما يقصر القانون عن تكميله. والأخلاق بشرحها للحقوق والواجبات والمثل العليا تكفل بزعمهم هذا الجانب الإنسانى الخطير.. ص _249(1/204)
والحق أن علم الأخلاق بانفصاله هو الآخر عن الدين أصبح بناء على الرمال، وأصبح جهده فى تصحيح القيم الإنسانية ليس أحسن حالا من جهد القانون.. ولا علاج إلا بإعادة القداسة إلى التشريع الدينى كله، وترك أحكام السماء تؤدى رسالتها العتيدة فى الهداية والإسعاد. * * * * إن الأبحاث الفقهية فى الشريعة الإسلامية ظلت عدة قرون مزدهرة ازدهار، لا نظير له فى أرجاء العالمين. والتراث الضخم الذى خلفه الأسلاف الواعون فى هذا المضمار يدل على استبحار فى المعرفة، وأصالة فى النظر والاستدلال، وبراعة فى القياس والتخريج. ثم ركدت ريح الفقه، ونشأ علماء مقلدون. ثم انقضى أصحاب هذا العلم التقليدى ، وأتى من بعدهم ببغاوات تردد ما لا تعقل. ومرت فترة عصيبة بالفقه الإسلامى فإذا هو طريح فى زوايا الإهمال. وانطلقت الحياة العامة وحدها، متجردة من منطق العقيدة والشريعة جميعا.. ثم أخذت الحياة تدب رويدا رويدا فى العملاق الغافى، وشرع المسلمون يثوبون إلى رشدهم، ويعودون إلى كنوزهم الدفينة يستخرجون منها الأعاجيب. وقد انتعشت الدراسات الإسلامية إبان النهضة الأخيرة، واقتعدت البحوث الفقهية منها مكانة كريمة. ثم تمت خطوة أخرى بأن أخذ رجال القانون الأصلاء يعودون به إلى منابعه من الإسلام العظيم، بعد أن نما الإحساس بضرورة حسم هذا الاستعمار التشريعى، والعودة بأمتنا الكبرى إلى مواريثها وأمجادها. ويضيق المقام عن إثبات مشاعر رجال القانون العرب تجاه التشريع الإسلامى عندما تعرفوا عليه، وبهرهم سناؤه. وحسبنا أن نثبت هنا شهادات القانونيين الأجانب فى هذا الشأن. ص _250(1/205)
وفيها عبرة وذكرى (من رسالة للأستاذ على حسب الله): قال السيد العلامة فارس الخورى ـ وهو من أعلام الشرق، وأحد كبراء النصارى السوريين: " إن محمدا أعظم عظماء العالم، ولم يجد الدهر ـ بعد ـ بمثله. والدين الذى جاء به أرقى الأديان وأتمها وأكملها، وقد أودع شريعته المطهرة أربعة آلاف مسألة علمية، واجتماعية، وتشريعية. ولم يستطع علماء القانون المنصفون إلا الاعتراف بفضله، وبأن مبادئه متفقة مع العقل، مطابقة لأرقى النظم والحقائق العلمية ". وقال الأستاذ سليم باز- النصرانى اللبنانى، الذى شرح جملة الأحكام الشرعية: " إنى أعتقد بكل اطمئنان أن فى الفقه الإسلامى كل حاجات البشر: من عقود، ومعاملات، وأقضية، والتزامات، وذلك ماثل فى الكتب المودعة بخزائن الكتب فى البلاد الإسلامية، أو فى البلاد الأوروبية. فإن ما فى هذه المكتبات من موسوعات الفقه الإسلامى إنما هو ثمرة جهود الألوف من فحول العلماء، وهى الشاهد الأكبر على أنه لا يوجد معنى من معانى الأحكام التى ينشد بها العدل، ولا حاجة من حاجات البشر فى التشريع إلا تقدم لفقيه مسلم قول فيها ". ولندع شهادة النصارى من الشرقيين، فقد يشهدون تعصبا لشرقيتهم، ولنلتمس شهادة من الأوروبيين لأولئك الذين لا يرضون إلا شهادتهم، وقد وجدنا فيهم منصفين والحمد لله. قال العلامة سانتيلانا فى بعض مؤلفاته: " إن فى الفقه الإسلامى ما يكفى المسلمين فى تشريعهم المدنى، إن لم نقل فيه ما يكفى الإنسانية كلها ". وقال هوكنج الأمريكى أستاذ الفلسفة بجامعة هارفرد فى كتابه "روح السياسة العالمية": " إنى أشعر بأنى على حق حين أقرر أن فى الشريعة الإسلامية كل المبادئ اللازمة للنهوض ". وقال الدكتور أنريكر أنساباتو: ص _251(1/206)
" إن الشريعة الإسلامية تفوق فى كثير من بحوثها الشرائع الأوروبية، بل هى تعطى العالم أقوى الشرائع ثباتا ورسوخا ". وقال الأستاذ لامبير الفرنسى: " الكتب والمؤلفات فى الشريعة الإسلامية كنز لا يفنى، ومعين لا ينضب، والشريعة الإسلامية فى العصور الوسطى وتاريخ المدنية الإسلامية أمدت المدنية النصرانية الحاضرة بقسط وافر من الأصول العامة ". وقال جوزيف كوهلر القانونى الألمانى، حينما اطلع على رسالة للدكتور محمود فتحى عن " الاعتساف فى استعمال الحق عند فقهاء الإسلام ": " لقد كان الألمان يتيهون عجبا لابتكارهم وضع تشريع لنظرية الاعتساف فى قانونهم المدنى سنة 1787 م. أما وقد ظهر أن رجال الفقه الإسلامى قد تكلموا فى ذلك طويلا منذ القرن الثامن الميلادى، فإنه يجدر بالألمان أن يتركوا مجد الكلام فى هذه النظرية والعمل بها لمن عرفوها قبل أن يعرفها الألمان بعشر قرون، وهم حملة الشريعة الإسلامية ". وقال الأستاذ سبرل عميد كلية الحقوق بجامعة فيينا، فى مؤتمر الحقوق سنة 1927 م : " إن البشرية لتفخر بانتساب رجل كمحمد إليها، فإنه- على أميته- استطاع قبل بضعة عشر قرنا أن يأتى بتشريع سنكون- نحن الأوروبيين- أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفى سنة ". وأخيرا يجتمع فى سنة 1937 بلاهاى المؤتمر الدولى للفقه المقارن من أقطاب رجال القانون، وأعلام التشريع الحديث، فيعترف بفضل الشريعة الإسلامية، ويقرر أنها شريعة حية صالحة للتطور ومسايرة المدنية، وأنها جديرة بأن تشغل مكانة ممتازة بين مصادر القانون المقارن. ص _253
خاتمة ص _255(1/207)
أحوال المسلمين سيئة منذ عدة قرون. لقد كانوا فترة طويلة خيرة أمم الأرض. ثم خفت كفتهم قليلا فأصبحوا سواء مع أمم أخرى. ثم هبطت جدودهم فأضحوا دون كثير من الأمم.. ومن الطيش فى الفهم وفى الحكم أن نرجع ذلك إلى الإسلام. فإن المسلمين بلغوا القمم يوم كانت صلتهم بدينهم وثيقة. فلما رثت الحبال وبعدت الشقة، أخذوا يتقهقرون رويدا رويدا حتى أصبحوا آخر الأمر فى منزلة القائل: تقدمتنى أناس كان شوطهم وراء خطوى لو أمشى على مهل وسر التأخر لا يعدو سببين: العصيان الجسيم لجملة من هدايات الإسلام فى ميادين الحياة الرئيسة، مع وضوح النهج، وإبصار القصد. وانقلاب مفاهيم مهمة من حقائق الإسلام مع شيوع كثير من البدع والخرافات، حتى إن جمعا غفيرا من الأتقياء كان يعبد الله بغير ما شرع ويتقرب إليه بغير ما أنزل.. وما انهدم خلال قرون لا ينبنى خلال شهور أو أعوام. لابد من عودة طويلة الأمد، ضافية الذيول، تستغرق من الجهد والوقت الشيء الكثير، ذلك أن الدين فى إبان ازدهاره يكون نورا فى الضمائر، وصلاحا فى الأعمال، ورعاية للأمانات، ووفاء بالعقود، وصدقا مع الله والناس. فإذا تطاول العمر، وتراخى الزمان، وجاء أخلاف بعد أسلاف، تحول الدين إلى لغو ص _256(1/208)
على الألسنة، وصغر فى الهمة، وحرص على المظاهر، وتفريط فى الحقوق. وربما اتخذت مراسيم الدين ستارا لعلل النفوس وشهواتها، ومتنفسا لأغراضها ومآسيها. ومن حق الدين فى الحالة الأولى أن يسود، وأن ترقى أمته.. ومن حق الحياة فى الحالة الأخيرة أن تتبرم بالمتدينين الخادعين والمخدوعين على السواء، وأن تنزل بهم من علو إلى سفل، ومن نصر إلى هزيمة!! والقانون الصارم هنا هو قول الله جل شأنه: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وعمر النهضة الصحيحة، هو ما يتطلبه ذلك التغيير من مدة تطول أو تقصر، المدة التى يقتضيها تحول الهزل إلى جد، والزور إلى حق، والغدر إلى وفاء، والغباء إلى ذكاء... أتظن ذلك يحدث بين عشية وضحاها؟ هيهات. إن تفهيم الجاهل أنه جاهل يستغرق أمدا. وإقناعه بالترقى يستغرق أمدا. وتنقيله من مرحلة إلى مرحلة يستغرق أمدا. وإزاحة الركام الغليظ من مخلفات ماضيه يستغرق أمدا.. وشق الطريق الصاعدة إلى أعلى، أو الماضية إلى أمام يستغرق أمدا. وإذا كانت تربية شجرة فاكهة تستغرق سنة، فكيف بتربية نفس، وكيف بإحياء أمة؟؟ ألا ما أشق العبء على الدعاة الصادقين، وما أثقل الرسالة التى يحملها بناة الأمم. إن بعض الناس يسمع قوله تعالى (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) فيحسب أن المشيئة الإلهية تقلب مصاير الأمم كما تنقلب الورقة فى يد أحدنا دون اكتراث. ص _257(1/209)
قلت لأحد هؤلاء: دعوا هذا الفهم الصبيانى للحياة والأحياء. إن نزع الملك فى فلسطين من قوم وإيتاءه قوما آخرين، نتائج انتظمت مقدماتها خلال خمسين، أو مائة سنة.. ولكى تعود البلاد إلى أهلها، ولكى تحظى أمة بالربح بعد الخسارة لابد أن تفتش بدقة فى أسباب مصابها، ثم تمهد للنتائج المرجوة بالأعمال التى تثمر الخير، وتقرب النصر.. ولابد أن تصبر على ذلك وتصابر. فإن منطق المقامرين فى الربح والخسران قد يصح فى ميدان اللعب، أو على موائد العبث، ولكنه لا يصح أبدا فى ميادين الحياة. * * * * وأمتنا الإسلامية جهلت من الدنيا بمقدار ما جهلت من الدين، ونسيت من عالم الشهادة بمقدار ما نسيت من عالم الغيب. ولا يتوهمن واهم أن اضمحلال العمران، وكلال الأذهان، وانتشار الفاقة، راجع إلى أن القوم شغلهم تعمير الآخرة عن تثمير الدنيا؟ فكان سعيهم للجنة على حساب هذى الحياة، كلا! إن الفشل أصابهم فى الميدانين جميعا؟ والعجز الذى لحقهم فى أداء رسالتهم أزرى بهم هنا وهناك ؛ فكان التخلف الذى رأينا. وكان الاستعمار الذى سقطت البلاد الإسلامية بقضها وقضيضها بين أنيابه الزرق.. إن هذه الأمة تحتاج إلى أمواج من المعرفة تحيي مواتها، أمواج يمدها وابل هتان لا ينقطع صيبه ؛ أمواج من المعرفة بكل شىء خرج من الأرض، أو نزل من السماء؟ إن ظمأها إلى العلم محرق، وصداها إلى فنونه شديد؟ وما لم يسعفها هذا الفيضان من المعرفة فإن الجفاف سيجعلها صحراء موحشة من الحياة؟ والحديث عن العلم تمهيد للحديث عن التربية. إن ارتفاع المستوى العلمى لا يغنى عن سناء الخلق واكتمال الفضيلة. ص _258(1/210)
والعلم جزء من العظمة الإنسانية يوم يكون له سناد من الضمير الزاكى والهدف الراقى. أما إذا صحبته الشهوات الطائشة والنيات الرديئة؟ فإن زيادته تستحيل نقضا؟ وقدرته على التسامى تستحيل إلى قوة على الهبوط. ومن هنا كان اتجاه الدين أولا إلى النفس يريد تزكيتها، وتهذيب نوازعها وإعلاء غرائزها وكبت ما يجب من ضراوتها وقساوتها. وعندما يبلغ الدين هذه الغاية يكون قد ضمن القيادة؟ واستوثق من سلامة السير.. لكن كيف يتم هذا الأمل العظيم؟ إن الأخلاق الرفيعة لا تتكون بالدراسة النظرية، كما لا تتكون بالأوامر العسكرية. الأمر أعقد من ذلك، فمع الأمر والنهى والترغيب والترهيب، لابد من حساب البيئة وظروفها: وقد رأيت بتجربتى- أن الأخلاق تهون فى بيئة الاستبداد والجبروت، وتستقيم فى بيئة الحرية والكرامة.. إن الأخلاق قد تكون فى بطون الكتب، أو على ألسنة الدعاة مقالات رائقة؟ كما تكون الأدوية فى زجاجاتها وعلبها مواد ثمينة نافعة، بيد أن هذا وذاك لا غناء فيه ما لم يتناول بإعزاز وعناية؟ ويخلط بكيان الإنسان؟ ليتحول فيه حياة وعملا. وقد قال الله فى كتابه: (و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين) ونحن ما نشك فى أن القرآن يتضمن أشفية شتى لأنواع السقام البشرى؟ ولكن الأمم التى تتبع هذا الكتاب العزيز معلولة فى أغلب أحوالها، بل هى صريعة أدواء شنعاء، وذلك ؛ لأنها ظنت أن القلوب يمكن أن تمتك بالإيمان والإحسان دون جهد، كما يمتلئ الكوز بالماء إذا غمس فى البحر. ولعمرى إن هذا لهو المجون، ومن المستحيل أن يبلغ شىء تمامه بهذه الطريقة، ولا أن يثبت حق أمام باطل بهذا الأسلوب. وتعجبنى كلمة ذكية قرأتها فى صحيفة دينية لا تصدر فى بلادنا، يقول صاحبها: ص _259(1/211)
إن جميع الغرائز والمؤهلات المتأصلة فى كيان الإنسان، مفطورة على الميوعة البدائية التى من شأنها التراجع والتقلص أمام الزحف والوثوب، والتى لا تتمكن من المقاومة والصمود تجاه القوة المساورة، أية قوة كانت...!!! فكما أن العضلات تولد متفككة ناعمة، ثم تشتد وتتماسك بالرياضات البدنية كذلك تكون القوى النفسية . . فقوة التفكير الإنسانى- فى المراحل الأولية- بسيطة سالبة الشحنة، ثم تتطور بسرعة مدهشة، تبعا للعوامل الوافدة إليها، وفى بداية الأمر نراها تتأثر ولا تؤثر.. ومتى أردنا أن يصبح هذا التفكير قويا فولاذيا يتوسع ولا يتقلص، فله نوع خاص من الرياضة يمده بشىء من القوة والتركيز، ولابد له من أن يمارسه حتى يقوى، ويكون له شخصية كاملة . وليست رياضة التفكير الإنسانى سوى تكراره.. فمن فكر كثيرا يصبح مفكرا أصيل التفكير، ومن لم يفكر كثيرا سوف يبقى من رعاع الناس.. هكذا تكون جميع ركائز الإنسان.. حتى الغرائز.. فإذا كبحها الإنسان تفتتت، ووئدت فى خبايا الكتمان، ومتى لقاها التشجيع والتأييد، وزاولت رياضتها الخاصة بها، اندلعت كلسان النار تسحق العقل والضمير، وتقتل العفة والحياء.. كهذه وتلك، تكون فطرة الدين فى الإنسان- فهى موجودة- غير أنها بطبيعتها الأولية ضعيفة متهافتة تحتاج إلى رياضة من نوعها لتنميها، وتبعث فيها الدفء والحياة.. حتى تصبح فوق الميول والأهواء ؛ وحتى تصبح أوسع من الدهر وأعمق من الحياة . ورياضات الدين إنما هى العبادات، بهذه الأساليب المتوارثة والكيفيات المنقولة إلينا عن رب العالمين . وإذا كان غرس الدين- وهو معقد الفضائل كلها- يحتاج إلى هذا الدأب والنصب ؛ فكيف بغرس أنواع الأخلاق خُلقا خُلقا ؟؟ إن الأمر كما أشرنا آنفا يحتاج إلى رياضات طويلة المدى ؛ وعلاجات مضبوطة منسقة . . ص _260(1/212)
وقد ألفت كتابا فى " خلق المسلم" تزيد مادته على هذه الصحائف ؛ ومن الممكن اعتباره ملحقا بهذا البحث . ولكنه ملحق يوضع بين أبواب العقيدة والعبادة ؛ لأن هذه مكانة الخلق فى الإسلام، بيد أن المشكلة ليست فى التدوين الحسن، أو الردىء.. المشكلة أن التربية الدينية والخلقية- لكى تؤتى ثمارها- لابد فيها من السيطرة على البيئة كلها، وتسخير عناصرها فى جهاز دقيق متراكب، يضمن آخر الأمر أن تصاغ النفوس صياغة صالحة، وأن تأخذ النهضات بعدئذ وجهتها السديدة، والله وحده ولى التوفيق.(1/213)