هذا النفاق فاحذروه...
بقلم /د.إياد قنيبي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد :
فإني لا أرى الحديث عن المنافقين يعطى في زماننا حقه في الخطب والمواعظ والمؤلفات على خطورته البالغة وغفلة الناس الشديدة عنه وامتلاء القرآن والسنة بزخم كبير من هذا الموضوع. لذا رأيت أن أستعين بالله تعالى على أن أجمع صفات المنافقين في هذا الكتاب آملا أن يكون مادة يتدارسها الحريصون على سلامة إيمانهم وينشرونها فيما بينهم عساه يسهم في التنبيه على خطورة النفاق.
وقد قسمت الكتاب إلى مقدمة تبين أهمية الموضوع، ثم مفاهيم هامة عن طبيعة النفاق، مَتْلُوَّةً بصفات المنافقين، وتحت كل صفة العناصر الآتية:
-الآيات والأحاديث التي تشير إلى هذه الصفة
-أمثلة من واقعنا تجسد الصفة
-آيات وأحاديث تبين الصفة المقابلة التي ارتضاها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم للمؤمن في مقابلة الصفة النفاقية المذكورة
وذلك، بعون الله تعالى، دون اختصار مخل ولا تطويل ممل.
مقدمة
كثرة المنافقين:
قال ابن القيم في المنافقين: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض، وفي أجواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات وتتعطل بهم أسباب المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات" (مدارج السالكين، جزء 1، ص 358).
كثرة الآيات المتعلقة بالمنافقين:
ولكثرة المنافقين وشدة خطرهم فصَّل الله تعالى صفاتهم في سور مدنية كثيرة. فلا ينبغي أن يُظن أن ظاهرة المنافقين قد انقرضت.(1/1)
ألم تر أن الله تعالى بين مرض قلبهم ومخادعتهم للمؤمنين في سورة البقرة، ثم جزعهم وتخذيلهم في آل عمران، ثم إعراضهم عن حكم الله ورسوله في النساء، ثم موالاتهم الكفار في المائدة، ثم شكهم في وعد الله بالتمكين للدين في الأنفال، ثم نكوصهم عن الجهاد والطعن في المؤمنين في التوبة، ثم قلة ثباتهم في الحج، ثم انتقاءهم من الدين بأهوائهم في النور، ثم قلة صبرهم في العنكبوت، ثم إخلافهم عهد الله في الأحزاب، ثم جبنهم في محمد، ثم سوء ظنهم بالله في الفتح، ثم اغترارهم بالأماني في الحديد، ثم حلفهم كذبا في المجادلة، ثم خذلانهم لمن ضعُف من أوليائهم في الحشر، ثم قلة أدبهم مع رسول الله والمؤمنين في المنافقون، ثم استحقاقهم الغلظة في التحريم...سبع عشرة سورة مليئة بالتحذير منهم وبالتفصيل في صفاتهم...
أيُظن بعد هذا كله أن الآيات التي تصفهم لم يعد لها أهمية في عصرنا إلا التبرك بتلاوتها وتدوين هذه الظاهرة تاريخيا!
خطورة النفاق والمنافقين:
فلا شك إذا أن الله تعالى قد أكثر من ذكر النفاق لنكون على بينة منه. قال تعالى:
((وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)).
فنحذر من النفاق في ذوات أنفسنا ونحذر من المنافقين.
خطر النفاق على النفس:(1/2)
اللحظة الحاسمة...هي تلك التي يعرف فيها المنافق أنه هالك...استفاق من حلم الخلود في نعيم الجنة إلى يقين الخلود في عذاب النار...لحظة رهيبة يخاف منها كل مؤمن... مر المؤمنون عبر محطات التنقية فتمايزوا عن الكفار الصرحاء، لكن ما زال في صفوفهم منافقون...والمنافق تتعاظم أمانيه في النجاة ولم يبق للجنة إلا خطوات...خطوات تحتاج نورا لإبصار الطريق...لكن المؤمنين تقدموا بنورهم تاركين المنافقين في ظلمات كظلمات نفاقهم وشكهم في الدنيا...وما زال لديهم أماني...بعضهم لا يعلم أن ما كان عليه هو النفاق، وبعضهم يظن أنه ينجو بما نجا به في الدنيا من كذب وخداع...ظن أن حيلته تنطلي حتى على ربه عز وجل...فينادي المنافق كما يصف رب العزة:
((يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير))
خادعوا الله تعالى طويلا فخدعهم ((إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم))...عادوا يلتمسون نورا يصلون به إلى النعيم المقيم فضرب السور وهووا في عذاب الجحيم...لحظة فاصلة مرعبة مهولة...
فاسأل نفسك يا أخي: هل سأكون قبل السور أم بعده عند هذه اللحظة...تصور نفسك وقد ضرب السور من خلفك فعلمت أنك مؤمن ناج...فتجثو على ركبتيك وتبكي مطأطئا رأسك من شدة الفرح والامتنان لله تعالى أن شملك برحمته...
أم يا ترى يُضرب السور أمامك فتوضع الأغلال في عنقك وتسحب بالسلاسل إلى نار جهنم...إلى قعرها ودركها الأسفل:
((إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار))
فاللهم ارزقنا الأولى.
الحذر من المنافقين:(1/3)
قال ابن القيم: (فإن بلية الإسلام بهم (بالمنافقين) شديدة جدا لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح وهو غاية الجهل والإفساد. فلِلَّه كم من معقل للإسلام قد هدموه! وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه! وكم من علم له قد طمسوه! وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه! وكم ضربوا بمعاول الشبه فى أصول غراسه ليقلعوها! وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها! فلا يزال الإسلام وأهله منهم فى محنة وبلية. ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية. ويزعمون أنهم بذلك مصلحون! ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) (مدارج السالكين-الجزء الأول ص347-348)
ولخطورتهم قال الله تعالى: ((هم العدو فاحذرهم))...فحصر العداوة فيهم كأن لا عدو غيرهم لأنهم شر الأعداء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((إن أخوف ما أخاف على أمتي من بعدي منافق عليم اللسان)) (صححه الهيثمي والألباني)...فالمنافق عليم اللسان يقبح الحق ويجمل الباطل ببيانه...وقد يستدل في مسعاه الخبيث هذا بقال الله وقال رسوله...حاملا النصوص على غير محملها. وهذا معنى قول ابن القيم (وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها) فالمنافق الملسن يحاول دفن الحقيقة ونصر آرائه السقيمة مستخدما في ذلك بلاغته وخلطه للأمور تعمية على الناس.
ولخطورتهم أمرنا الله تعالى أن نتخذ منهم موقفا واضحا حازما...
فلم يرض من المؤمنين أن ينقسموا في شأنهم فئتين... فَتَلين فئة في شأنهم...
((فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا))
وإنما أحب للمؤمنين أن يجتمعوا على جهاد المنافقين والغلظة عليهم.
((يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم))
ونفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يجاهدهم:
(((1/4)
ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) (مسلم).
ونهى الله تعالى نبيه والمسلمين عن طاعة المنافقين:
((ولا تطع الكافرين والمنافقين))
من ذلك جميعا يُعلم مدى ضرورة التعرف على صفات المنافقين لنتوقاها في ذوات أنفسنا ولنعرف بها أئمة النفاق...
ولئلا ننخدع بهم فصل الله تعالى لنا صفاتهم...حتى إذا ما حاولوا خداعنا كان ردنا عليهم:
((قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم))
والمتتبع للتاريخ الإسلامي يرى أن كل بلية نزلت بالإسلام إنما هي من جهتهم...سودوا صفحات التاريخ سود الله وجوههم...
فمن جرثومة الشر(أخذت هذه التسمية من شريط للشيخ علي القرني) عبد الله بن أبي بن سلول الذي طالما أدخل الحزن على الحبيب رسول الله وجنى على خلق كثيرين من أتباعه...فبدل أن يكونوا صحابة في عليين هوى بهم إلى الدرك الأسفل في الدنيا والآخرة ملاعين.
إلى عبد الله بن سبأ...الساعي بخبثه بين الصحابة الأخيار حتى أوقع الفتنة بين بعضهم...وأسس الطائفة التي جمعت زي الإسلام على قلوب المجوس فأذاقت وما زالت تذيق أمة الإسلام ألوان العذاب.
إلى بعض الأمراء أيام الصليبيين وفي عهد ملوك الطوائف بالأندلس...من تلبسوا بصفات المنافقين فحادوا عن حكم الله و والوا أعداء الله وكذبوا على رعيتهم وعطلوا الجهاد في سبيل الله...فذلت الأمة على أيديهم وتمزقت وأريق دمها وسُبِيَت...
إلى "محمد بن محمد مؤيد الدين" ابن العلقمي...الذي خان محمدا صلى الله عليه وسلم في أمة محمد، وأيد التتر ومرق من الدين، وأذاق المسلمين العلقم...(1/5)
إلى "محمد بن محمد نصير الدين" الطوسي...ويا ليت المسلمين يكفون عن الاغترار بالظواهر، فلا يُذهب غيظ قلوبهم على المنافقين أن يسمعوا لهم أسماء إسلامية... فتحسن بهم الظنون وتلين لهم القلوب...وليس المنافقون لذلك بأهل...فالأول عبد الله، والثاني عبد الله، والثالث والرابع محمد...لا محمد فحسب، بل محمد بن محمد! وكلهم عدو لله تعالى ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم...
إلى جمعيات النفاق التي أوهنت الدولة العثمانية...فكانت الثمرة إلغاء الخلافة وجعل المسلمين أيتاما على موائد اللئام.
وفي كل ساحة جهاد قديمة وحديثة...نرى من المجاهدين صنوف البطولة والثبات...ويكادون يقطفون ثمرة النصر على الرغم من قلة عددهم وعُددهم...فتمتد يد الغدر النفاقية لتطعن في ظهورهم وتقر أعين الكافرين... "فالكفر الظاهر على خطره وضرره يعجز في كل مرة يواجه فيها أمة الإسلام أن ينفرد بإحراز انتصار شامل عليها ما لم يكن مسنوداً بطابور خامس من داخل أوطان المسلمين ويتسمى بأسماء المسلمين، يمد الأعداء بالعون، ويخلص لهم في النصيحة، ويزيل من أمامهم العقبات، ويفتح الأبواب" (عبارة مقتبسة لم أعرف كاتبها الأصلي).
حقائق خطيرة عن النفاق يجهلها عامة الناس:
إنه ثمة حقائق لا بد من معرفتها لئلا تمر حالة من حالات النفاق دون تشخيص. فالمرء قد يرى في نفسه خيرا ينكر لأجله أن عنده نفاقا، وما ذلك إلا لجهله أن النفاق يتجزأ وليس على درجة واحدة. وقد تمر به أيام يقوى فيها إيمانه فيستبعد لأجلها أن ما يتلبس به في أيام أخرى هو صفات نفاقية. وما ذلك إلا لجهله أن المرء قد يتقلب بين الإيمان والنفاق. وقد يطمئن إلى إرادته الخير ويحسب أن لو كان منافقا لعَلِم من نفسه النفاق. وما ذلك إلا لجهله أن المرء قد يكون منافقا من حيث لا يعلم، إلى حد أن الصحابة خافوا على أن أنفسهم أن يكون فيهم نفاق لا يعلمونه لشدة خفائه.(1/6)
وعامة الناس يتصورون أن النفاق إنما يكون من شخص لا خير فيه البتة، وليس في قلبه ذرة إيمان، و يبيت للإسلام عداوة وبغضاء يخشى اطلاع الناس عليهما.
وحقيقة الأمر أن المنافقين الذين هذا حالهم قلة. لذا فالنفاق الذي هو أقل حدة ووضوحا أخطر لكثرة انتشاره وخفائه حتى على أصحابه في أكثر الأحيان. فهم لا يرون آيات النفاق تتحدث عنهم.
ولأجل ذلك كله أحببنا أن نستدل على حقائق عامة عن النفاق قبل الخوض في صفات النفاق تفصيلا. وهذه الحقائق هي:
1) النفاق يتجزأ وليس على درجة واحدة.
2) قد يتقلب المرء بين الإيمان والنفاق.
3) قد يكون المرء منافقا من حيث لا يعلم.
4) خاف الصحابة النفاق لشدة خفائه.
1) النفاق يتجزأ وليس على درجة واحدة:
وقد يجمع المرء بين نفاق وإيمان.
ا) ولذا قال الله تعالى واصفا موقف المنافقين يوم أحد:
((هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان)).
قال ابن كثير: استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال، فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب إلى الإيمان.
وأحب أن أبين بداية أنني لا أذكر تفاسير بعض العلماء في هذا الكتاب استدلالا على أن معنى الآية هو ما أذكره في موضعه...فالآيات كلها واضحة الدلالة والحمد لله. وإنما أذكر أقوال العلماء أحيانا ليعلم قارئنا أننا لا نأتي بما يخالف منهج أهل السنة. وإلا فقد فهمنا من الآيات ما قاله العلماء قبل قراءة أقوالهم لوضوح دلالتها والحمد لله. فلا يظنن ظان إن ذكرنا بعض أهل العلم أننا نحمل الآيات على فهمهم دون غيرهم.
فانظر كيف أن الله تعالى قد جعل الإيمان في هذه الآية في طرف والكفر في طرف آخر. والمنافقون-في يوم أحد-كانوا بين الطرفين لكنهم كانوا إلى الكفر أقرب. وقد تقلبت ببعضهم الأحوال قبل وبعد أُحُد فكانوا تارة إلى الإيمان أقرب وتارة إلى الكفر أقرب.(1/7)
-قال ابن تيمية في قوله تعالى: ((هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان)): فقد جعل هؤلاء إلى الكفر أقرب منهم للإيمان فعلم أنهم مخلطون وكفرهم أقوى وغيرهم يكون مخلطا وإيمانه أقوى...فبين سبحانه وتعالى : أن الشخص الواحد قد يكون فيه قسط من ولاية الله بحسب إيمانه وقد يكون فيه قسط من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه (أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية الجزء الأول ص23. وقد اطلعت على هذا النص لأول مرة في 14-7-2007 فوافق فهمي تماما والحمد لله رب العالمين).
ب) قول النبي صلى الله عليه وسلم:
((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها)) (متفق عليه).
فانظر كيف أنه عليه الصلاة والسلام قد بين أن المرء قد يتلبس بصفات تجعل فيه شيئا من نفاق مع أنه ليس بمنافق خالص.
وينبغي أن نذكر أن بعض شراح هذا الحديث استشكلوا هذا الحديث من حيث أن هذه الخصال قد توجد في المسلم المصدق بقلبه ولسانه والإجماع حاصل أنه لا يحكم له بنفاق يجعله في الدرك الأسفل من النار لهذه الصفات. وخرجوا من هذا الاستشكال بتأويلات كاعتبار النفاق المذكور نفاقا عمليا لا اعتقاديا. وبالتالي فهو ليس نفاقا مخرجا من الملة.
غير أننا في هذا الكتاب لا نتعرض لهذا التفريق بين النفاق الاعتقادي والنفاق العملي لأن هذا التفريق إنما يحسن ذكره لمنع المسلمين من الوقوع في الإفراط بتكفير من تلبس بشيء من هذه الصفات. ونحن في هذا الكتاب لسنا نتصدر للحكم على من تلبس بصفة نفاق بالكفر أو الإيمان الحكمي أو الحقيقي، فهذا مبحث يحتاج إلى مزيد علم واستفصال. إنما نحن هنا معنيون بالزجر عن صفات النفاق، فيحسن في مثل هذا المقام أن نطلق النفاق كما أطلقه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ليكون الزجر كما أريد له، ولئلا تركن النفوس وتقل نفرتها عن صفات المنافقين إن قيل إن هذه الصفة أو تلك نفاق عملي لا يخرج من الملة.(1/8)
ج) روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر وقلب أغلف مربوط على غلافه وقلب منكوس وقلب مصفح فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه ) (قال ابن كثير في إسناده: وهذا إسناد جيد حسن. وضعفه الألباني). فانظر كيف أنه عليه الصلاة والسلام فرَّق بين المنافق الخالص والقلب الذي جمع إيمانا ونفاقا يتغالبان.
ولذا قال ابن كثير في تفسير أوائل سورة البقرة: (...ومنافقون، وهم قسمان: خُلَّص، وهم المضروب لهم المثل الناري، ومنافقون يترددون، تارة يظهر لهم لمع الإيمان وتارة يخبو، وهم أصحاب المثل المائي، وهم أخف حالا من الذين قبلهم) اهـ.
ويقصد بالمثل الناري قوله تعالى ((مثلهم كمثل الذي استوقد نارا)) والمثل المائي ((أو كصيب من السماء)). ويقصد بقوله: تارة يظهر لهم لمع الإيمان قوله تعالى ((كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا)). وهذا الصنف المتردد نراه في واقعنا من أناس يتكلمون بكلام المتشككين في شرائع من شرائع الإسلام كتعدد الزوجات والحدود وميراث المرأة. لكنهم إن أوقع أعداء الإسلام بالأمة ظلما جديدا أحسوا بأنهم مستهدفون وزاد تمايز الحق عندهم من الباطل فقوي إيمانهم وأظهروا على الدين غيرة. لكنهم ما يلبثون أن يعودوا إلى ما كانوا فيه من تشكك وريبة.(1/9)
وههنا تنبيه. وهو أنه ليس شرطا أن ينطبق النص في المنافقين بكامل جزئياته على أحدنا حتى يشعر أنه يخاطبه. وبالتالي فإذا قرأ قارئ آيات تصف المنافقين وأحس بداية بانطباق الصفات عليه ثم جاءت صفة في الآيات لا تنطبق فلا ينبغي أن يشعره ذلك أن الآيات لا تعنيه. بل له من الوعيد ومن تحقق اسم النفاق فيه بقدر انطباق الآيات عليه، وله من الإيمان بقدر مخالفتها لحاله.
تجد مثل هذا الفهم في تعامل الصحابة مثلا مع الآيات التي تصف الكفار. ففي الحديث الذي رواه الحاكم وقال فيه الذهبي في التلخيص (على شرط البخاري ومسلم) أن سعدا رضي الله عنه إستأذن على ابن عامر و تحته مرافق من حرير فأمر بها فرفعت فدخل عليه و عليه مطرف خز فقال له : استأذنت علي و تحتي مرافق من حرير فأمرت فرفعت فقال له : نعم الرجل أنت يا ابن عامر إن لم تكن ممن قال الله عز و جل : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا }. و الله لأن أضطجع على جمر الغضا أحب إلي من أن اضطجع عليها.
فانظر كيف أن هذه الآية أُنزلت في الكفار ((ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون)) لكن ذلك لم يمنع سعدا رضي الله عنه من زجر ابن عامر بها لمشابهة في جزئية من الآية مع أن ابن عامر ليس من ((الذين كفروا)).
وكذلك إيراد أهل السنة لقوله تعالى (( ما سلككم في سقر(42) قالوا لم نك من المصلين (43) )) في معرض ترهيب المنتسبين إلى الإسلام عن ترك الصلاة، مع أن تتمة الصفات المذكورة في مجموعة هذه الآيات ((وكنا نكذب بيوم الدين))، وهي صفة لا تنطبق على كثير من تاركي الصلاة.
2) قد يتقلب المرء بين الإيمان والنفاق:
وكما أن الإيمان يزيد وينقص-وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة- فكذلك النفاق يزيد وينقص.
ا) فقد وصف الله تعالى المنافقين بقوله: ((مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء))(1/10)
قال ابن كثير في تفسيرها: (ومنهم من يعتريه الشك، فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى أولئك)اهـ.
وميل المنافق إلى المؤمنين إما أن يكون عن زيادة طارئة في إيمانه أو لغلبة دنيوية في صراع المؤمنين مع الكفار والله تعالى أعلم.
ب) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، ولا تدري أيتهما تتبع)) (مسلم).
ج) عن جبير بن نفير أنه سمع أبا الدرداء وهو في آخر صلاته وقد فرغ من التشهد ، يتعوذ بالله من النفاق . فأكثر التعوذ منه. فقال جبير: ومالك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟ فقال: (دعنا عنك دعنا عنك. فوالله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيخلع منه) (قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: إسناده صحيح).
3) قد يكون المرء منافقا وهو لا يعلم:
ا) قال الله تعالى:
((ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم))
وهذه الآية ضمن آيات متتابعة كثيرة تتحدث عن المنافقين. قال ابن تيمية:
(فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر. فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف ففعلوا هذا المحرم الذى عرفوا أنه محرم ولكن لم يظنوه كفرا. وكان كفرا كفروا به) (مجموع الفتاوى-الجزء السابع ص220. وفيه مبحث قيم للتدليل على صحة ما ذهب إليه فراجعه).
ب) في البخاري: باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر
ج) قال ابن القيم: (وأما النفاق: فالداء العضال الباطن الذى يكون الرجل ممتلئا منه وهو لا يشعر) (مدارج السالكين-الجزء الأول ص347)
فكما أن مريض الفم لا يحسن التذوق فإن هؤلاء مرضى القلوب فيرون الفساد صلاحا:(1/11)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ
د) والآيات الدالة على ان المرء قد يسيء وهو يحسب أنه محسن كثيرة، كقوله تعالى:
- ((ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) ))
وكقوله تعالى:
- ((أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا))
هـ) قوله صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)) (صحيح مسلم). فبعض من (زعم أنه مسلم) قد يصدق زعمه هذا لما يرى من صلاة نفسه وصيامها ولا شعر بنفاقه.
4) خاف الصحابة على أنفسهم من النفاق:
ا) فقد روى البخاري عن ابن أبي مليكة, ووهو من كبار التابعين أنه قال: (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه).
ب) قال عمر لحذيفة ـ أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين رضي الله عنهما: ناشدتك بالله هل سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم؟ فقال: لا، ولا أزكي بعدك أحداً.
عند سماع هذه الآثار فإننا نقف عادة عند الإعجاب بورع الصحابة واعتبار أنهم كانوا يخافون النفاق (زيادة عن اللزوم). لكن ليس هذا ما ينبغي أن يفهم منها. فالصحابة أفقه الأمة، وهم بالتالي يعطون الأمور أوزانها المناسبة ويخافون مما يجب الخوف منه. فخوفهم هذا يُشعر بخفاء النفاق إلى الحد الذي يمكن معه أن يوجد في النفس ولا يشعر به صاحبه. فجدير بهم أن يخافوه ونحن بذلك أجدر. فكلما زاد إيمان المرء وفقهه بطبيعة النفاق زاد خوفه منه.
ج) يُذكر عن الحسن البصري أنه قال: (ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق) (البخاري). أي: ما خاف النفاق إلا مؤمن ولا أمن النفاق إلا منافق.
د) قال ابن رجب في فتح الباري (1/ 178 ، 179):
((1/12)
قال ابن سيرين: ما في القرآن آية أخوف عندي من هذه ((ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)).وقال أيوب (أي: السختياني): كل آية في القرآن فيها ذكر النفاق أخافها على نفسي ، وقال معاوية بن قرة : كان عمر يخشاه وآمنه أنا؟)
وهؤلاء جميعا من أئمة التابعين.
فهذه حقائق أربعة عن طبيعة النفاق أحببت أن أقدم بها بين يدي الحديث عن صفات المنافقين
صفات المنافقين:
1) الشك في الدين
2) الإعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
3) موالاة اليهود والنصارى والكافرين عموما
4) تغيير الولاء بحسب ميزان القوى
5) الكذب
6) التخلف عن الجهاد
7) ثقل العبادات على النفس
8) الشك في وعد الله بالنصر والتمكين لهذا الدين
9) الحرص على الدنيا والتسخط عند البلاء
10) القبول بعيشة الذل
11) تشويه سمعة الدعاة والمصلحين
12) قلة الأدب مع الله وكتابه ورسوله وأصحاب رسول الله
13) إخلاف العهد مع الله
14) الفتنة وتفرقة أمة محمد على أسس جاهلية
15) قسوة القلب تجاه القرآن
16) الإعراض عن التوبة
17) نسيان الله تعالى
18) الأمن من مكر الله
19) استصغار المعصية واستعظام الطاعة
20) الفجور عند الخصومة
21) الرياء
22) تعريض النفس للفتن
1) الشك في الدين
فالمنافق قد يشك في وجود الله أو في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في صلاحية الإسلام للحياة.
وصفة الشك أهم صفات النفاق لأنها أصل كل شر، وهي سبب الصفات النفاقية الأخرى كما سترى.
الدليل على أن المنافق يشك في الدين:
قال الله تعالى واصفا المنافقين: ((في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)). قال المفسرون في معنى المرض: هو الشك. وهذا القول نقله ابن كثير عن عدد من الصحابة.
وقال تعالى في آية الاسور المضروب بين المنافقين والمؤمنين: ((قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم)) فريبهم شكهم.(1/13)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحا خطورة هذا الشك: ((وثلاثة لا تسأل عنهم : رجل نازع الله عز وجل رداءه فإن رداءه الكبرياء وإزاره العزة ورجل شك في أمر الله والقنوط من رحمة الله)) ( صحيح ). وقوله ((لا تسأل عنهم)) يوضح أنهم هلكى.
سبب كل الصفات الأخرى
فالمنافقون لشكهم:
رفضوا مرجعية الشريعة: ((وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وأن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا))
نكصوا عن الجهاد: ((إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون))
والوا الكفار: ((ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء)) (المائدة)
تكاسلوا عن الطاعات: ((ولو يعلمون ما فيهما-أي: صلاتي الفجر والعشاء- لأتوهما ولو حبوا)) لكن لشكهم في وجود هذا الجزاء أصلا تكاسلوا.
الشك يجعل حسابات المنافق أرضية
فشكه يُضعف عنده التوكل على الله وانتظار المثوبة والعقوبة الأخرويين فيغش و يرتشي ويفعل ما يرى فيه أمانا لحياته حل أم حرم.
سيقول قائل: فما ذنب المنافق إذن؟
إن الناس لا يجدون صعوبة في الاقتناع بأن منكر الإسلام وجاحده كبرا يستحق العقوبة. لكن الكثيرين يتساءلون: إن كان إنسان قد استعرض الإسلام وفكر فيه فلم يقتنع بوجود الله تعالى أو نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم مع أنه حاول أن يكون منصفا، أو شك في صحة هذا الدين، فما ذنبه؟
والجواب عن ذلك أن الله تعالى قد أعطى كل إنسان قلبا سليما لا بد أن يستحسن الإسلام. فأي قلب سليم لا يحب قول الله تعالى:
((إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وبنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون))؟
وأي قلب هذا الذي لا يحب قول الله تعالى: ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل))(1/14)
فالقلب الذي لا يقتنع بدين الله تعالى قلب مريض أفسده صاحبه بالمعاصي، كما تفسد الحواس بتعريضها لما يؤذيها:
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا
فالعيب ليس في دين الله ولا عن نقص حجة فيه ((قل فلله الحجة البالغة)), والله تعالى قد فطر الناس جميعا على الانجذاب لدينه: ((وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون)). إنما العيب في القلب الذي يستقبح دين الله ولا يقتنع به.
مرض القلب ناتج عن المعاصي:
فمرض القلب إذا مكتسب بالمعاصي. والأدلة على ذلك في القرآن والسنة كثيرة جدا منها قول الله تعالى:
((فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا)) (النساء) أي ردهم وأوقعهم في الخطأ والكفر بسبب معاصيهم. وقوله تعالى:
ومنها قوله تعالى: (( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون )) (المنافقون) فالكفر أكبر المعاصي.
ومنها قوله تعالى: ((كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين (86))) (آل عمران).
يوضح الله الحق للإنسان ويدركه الإنسان ولو لفترة قصيرة. لكن الإنسان إذا تعامى وآثر الدنيا وحظوظ النفس أو استكبر مَرِض قلبه فنسي هذا اليقين الذي تبدى له. يدل على ذلك قول الله تعالى: ((ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون (110) ))
فليحذر امرؤ أن يتعامى عن حق ذاق طعمه لحظة وإلا فقد ينساه بقية حياته.
ومنها قول الله تعالى:
((فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)) وقوله تعالى:
((أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله)) وقوله تعالى:
(((1/15)
لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم)) أي أن بناء المنافقين لمسجد الضرار أورثهم شكا ونفاقا في قلوبهم. ولهذا فعلى المرء أن يحذر من فعل معصية قد تزيد مرض قلبه وشكه ما دامت آثارها قائمة مع أن صاحبها قد يكون نسيها فلا ينتبه إلى هذا المصدر من مصادر مرض قلبه.
ومن أدلة السنة النبوة على أن المعاصي تورث مرض القلب وبالتالي الشك في الدين قول النبي صلى الله عليه وسلم:
((من سمع النداء يوم الجمعة فلم يأتها، ثم سمعه فلم يأتها، ثم سمعه فلم يأتها، طبع الله على قلبه، وجعل قلبه قلب منافق)) (أخرجه أبو يعلى والبيهقي وقال ابن حجر: رجاله ثقات، وصححه ابن المنذر وحسنه الألباني).
وكذلك حديث عرض الفتن على القلوب كعرض الحصير وحديث الران. وهذه الآيات والأحاديث تدل على أن فتنة الشهوة تقود إلى فتنة الشبهة، وأن المعاصي تخدش العقيدة. فلا يغترن امرؤ بقوله أنه وإن كان مقيما على معصية إلا أن إيمانه في قلبه كامل. ومن ظن أن بإمكانه الإسراف على نفسه من المعاصي دون أن يتأثر إيمانه بأدرانها فقد وقع بظنه هذا في كبيرة جديدة، وهي الأمن من مكر الله تعالى القائل:
((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)) وشر فتنة أن تمرض قلوبهم لمخالفتهم أمر الله ورسوله فيصيبها كفر أو نفاق.
فمن ظن نفسه مفلتا من هذه العقوبة، وفعل المعصية وهو يقول: لن يعاقبني الله بمرض القلب يكون قد انطبق عليه قول ابن مسعود رضي الله عنه: ((الكبائر : الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله))
فمحصل المسألة أن المعصية تقود إلى مرض القلب، والذي بدوره يقود إلى الشك في الدين، والشك بدوره يقود إلى الصفات النفاقية الأخرى
وسنبرهن على هذا التسلسل في تحت الصفات النفاقية الأخرى بإذن الله تعالى.
كيف تقود المعصية إلى مرض القلب والشك في الدين؟(1/16)
إن العاصي يضائل نداء الإيمان في قلبه ثلاث مرات: قبل ممارستة المعصية ليُقبل على المعصية، ثم أثناء ممارستها ليستمتع بها، ثم بعد الانتهاء منها ليتجنب الندم على فعلها. عملية "التحجيم" هذه إذا كثرت قمعت إيمان قلبه وأورثته مرضا وشكا.
كما أن العاصي إذا تأخرت عقوبته قد يحمد الله تعالى على لطفه بداية. لكن إن واقع معصيته مرارا ولم ير عقوبة فقد يشك في وجود الثواب والعقاب أصلا.
ألا ترى أن الطفل إن أقدم على ما زُجر عنه فلم ير ضررا عاجلا اجترأ عليه، ثم بدأ يشك في ترتب الضرر على هذا الفعل أصلا؟
ولهذا لما اجترأ يهود على الدعاء على النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم (السام عليك) ولم يُعاجلوا بعقوبة شكوا في نبوته بعدما كانوا متيقنين منها:
((وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير (8) ))
أي: يقولون في أنفسهم لو كان هذا نبيا لعذبنا الله بما نقول له.
في المقابل تقود الطاعة إلى اليقين:
فصاحب الطاعة يستجمع إيمانه ليدفعه إلى فعل الطاعة قبل فعلها ثم ليستمر عليها أثناء أدائها ثم ليفرح بها بعد الانتهاء منها.
قال الله تعالى: ((ومثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة)) فالإنفاق يُثَبِّتهم على الإيمان.
وقال تعالى: ((ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا))
وفي الحالين، في حال المؤمن والمنافق، يسكب الله الإيمان في قلب من شاء: ((ويزيد الله الذين اهتدوا هدى)) ويضل من يشاء. فشيء من زيادة الهدى والضلال قد نفهم سببه وعمليته النفسية، لكن الهدى والإضلال بيد الله تعالى أولا وآخرا ((لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون)).(1/17)
فإذا علم الارتباط بين المعصية والشك في الدين ظهر لنا بطلان دعوى العاصي أنه وإن كان يعصي إلا أن إيمانه القلبي كامل. وإني أعلم رجلا شكا إلي أجواء عمله المختلطة التي فيها تبرج شديد يحس منه بالافتتان. فنصحته بترك عمله فرد بأنه قد عود أسرته على مستوى من المعيشة يتطلب دخلا عاليا فلا يمكنه النزول عنه. وبعد فترة ليست بالطويلة أرسل إلي رسالة بالبريد الإلكتروني يخبرني أن إيمانه يمر بمرحلة حرجة، وأنه يحس بأنه منافق خالص. وأنه إذا حاول حل مشكلته بسماع محاضرات زاد تشككا في النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ألا ترى المتبرجة تعترف أول الأمر بذنبها وتطلب ممن حولهت الدعاء لها, ثم قد تجدها بعد حين تقول إن الحجاب ليس كل شيء، وإني لا أدع فرضا إلا أديته، ثم إنها تبدأ بانتقاد المحجبات لبعض سلوكياتهن وتصرح أنها بأخلاقها خير منهن، ثم قد يصل بها الأمر أخيرا أن تهزأ بالحجاب وتقول: أتريد مني أن أبدو كالخيمة المتحركة! وما هي إلا معصيتها طمست بصيرتها. فليحذر العاقلون.
وسائل طرد الشك:
من وجد في قلبه شكا في الدين فعليه أولا بالدعاء. فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. وفي الحديث القدسي ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدِكم)) (مسلم).
ثم عليه بسؤال أهل الحكمة من العلماء. ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن ابن الديلمي قال: (وقع في نفسي شيء من هذا القدر خشيت أن يفسد علي ديني وأمري. فأتيت أبي بن كعب فقلت أبا المنذر انه قد وقع في نفسي شيء من هذا القدر فخشيت على ديني وأمري. فحدثني من ذلك بشيء. لعل الله أن ينفعني به). فابن الديلمي لم يترك هذا الخاطر يعتمل في قلبه بل سارع إلى صحابي ليزيل شبهته بنور وحي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ليست الخواطر من الشك القادح في الإيمان(1/18)
فالكلام المتقدم إنما هو عن الشك الذي يستقر في النفس، لا عن الخواطر الشيطانية التي يستعين صاحبها بالله تعالى ليدفعها. قال الله تعالى: ((إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)).
و جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: (إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به . قال : "وقد وجدتموه ؟ " قالوا : نعم . قال: ((ذاك صريح الإيمان))) (مسلم(.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (إني أحدث نفسي بالأمر لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة)) (صحح إسناده ابن حجر).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال : هذا ، خلق الله الخلق ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل : آمنت بالله)) (مسلم) .
فمن كان بين رفقة سوء يزيدونه في دينه شكا، ودعاة هداية، فليذكر ما أخرجه ابن جرير الطبري وابن المنذر عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب مثلا للمؤمن والكافر والمنافق كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع ثم وقع المنافق حتى كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر أن هلم إلي فإني أخشى عليك وناداه المؤمن أن هلم إلي فإن عندي وعندي يحصي له ما عنده. فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه الماء فغرقه وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك (فيه ضعف لإرساله ) .
2) الإعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم
أسبابه:
تظهر هنا السلسلة التي أصلنا لها في صفة الشك في الدين. فهذا الإعراض ناتج عن الشك الذي هو ناتج عن مرض القلب الذي هو ناتج عن الذنوب. قال الله تعالى:
((أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)) (المائدة). فنقص يقينهم-أي شكهم-جعلهم يبغون حكم الجاهلية. وقال تعالى:
(((1/19)
وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وأن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون)). فإعراضهم ناتج عن الريب الذي هو ناتج عن مرض القلب.
وقال تعالى: ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم)) (المائدة). فذنوبهم السالفة اقتضت إمراض قلوبهم.
فشك المنافق في الدين يجعل حساباته أرضية، فلا ينظر إلى المصلحة الأخروية في تطبيق أحكام الله تعالى، ويغريه له الشيطان بأن مصلحته الدنيوية في تحكيم الأهواء.
والمنافقون يعمدون إلى تحجيم صورة الإسلام وعرضه على أنه إنما جاء للقضاء على عبادة الأوثان فحسب. وأنه لا علاقة له بأوضاعهم الجاهلية من الاحتكام إلى القوانين الوضعية.
والآيات التي تصف المنافقين بالإعراض عن حكم الله ورسوله كثيرة.
أعذارهم الكاذبة:
قال الله تعالى في سورة النساء:
((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا (62)))
قال ابن كثير: (أي: يعتذرون إليك، ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى عداك إلا الإحسان والتوفيق، أي المداراة و المصانعة، لا اعتقادا منا صحة تلك الحكومة) (تفسير ابن كثير).
وهذا مما يضحك به المنافقون على البعض. يخبرونهم أن شريعة الله على الرأس والعين وأنهم ما يحتكمون إلى الشرائع الوضعية والأجنبية إلا لتجنب شر الكفار (المداراة) ولمصلحة الشعب (الإحسان).(1/20)
قال ابن تيمية: (فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض وقد يكون سببه قوة الشهوة فكيف بالتنقص والسب ونحوه) (الصارم المسلول).وهو يبين بهذا أن النفاق يثبت بمجرد ترك الاحتكام إلى الله ورسوله، حتى وإن كان المحتكم مقتنعا بصحة الدين، وحتى لو كان الدافع الشهوة، لا التكذيب والجحد للدين.
ثم قال الله تعالى: ((أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهمن في أنفسهم قولا بليغا (63) وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64) )) (النساء).
فعجبا ممن يتظاهر بتبجيل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعرض عن أحكامه المفصلة في السلم والحرب والاقتصاد والجنايات...وهو ما أُرسل إلا ليطاع، فما قيمة أن يُبجل ويعصى بل وتحارب شريعته؟!
المنافق يكره حكم الله ورسوله:
ثم قال تعالى:
((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65) )) (النساء).
فهي إذن ثلاثة شروط لا إيمان بغياب أحدها. ولاحظ قوله تعالى: ((ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت)) فالمؤمن يحب حكم الله ورسوله. والمنافق يبغض هذا الحكم. وترى لهذا البغض أشكالا. كامرأة تقول: (أنا إن شككت في آية أنها مدسوسة على القرآن فهي آية مثنى وثلاث ورباع)!...فهي تكره الحكم كحكم، لا أنها تكره أن يتزوج زوجها عليها فحسب. وترى أخرى تقول: (كيف يقول القرآن: فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن. أنا إنسانة لي كرامتي)!
وأخرى تقول: (كيف تكون شهادتي أنا الدكتورة على النصف من شهادة بواب عمارتي لمجرد أنني أنثى)! وهذا كله نفاق. ولنا على هذه الأقوال ردود في محاضرات الإيمان بالغيب وفي سلسلة (إسلامنا أم حضارتهم) وفي محاضرة (مبطلات الأعمال).(1/21)
وقد روى المحدثون في سبب نزول الآيات من سورة النساء سببين يُرجع إليهما في مظانهما.
فمرض قلب المنافق يجعله يكره ما أنزل الله، فيعرض عن الاحتكام إليه. قال الله تعالى في الكافرين: ((ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)) (محمد). وقال في المنافقين:
((إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم (25) ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم (26))) (محمد). فالمنافقون لما خالطوا الكافرين الذين كرهوا ما نزل الله، ووعدوهم بالطاعة في بعض الأمر، انتقل مرض كراهية الوحي إلى قلوبهم المريضة.
وفي المقابل، يحب المؤمن حكم الله ورسوله: ((ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم)).
المنافق يحتكم إلى ما وافق هواه من شرع الله ليخادع الله تعالى والمسلمين، بل ونفسه، بأنه يطبق "بعض" الشريعة:
قال الله تعالى: ((يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا)) إلى أن قال تعالى: ((يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وأن لم تؤتوه فاحذروا)) (المائدة).
قال ابن كثير: (قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه-أي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من الأنبياء قد حكم بينكم بذلك. وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك) اهـ.
((يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون))
ثم قال تعالى: ((ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم)) فـ"انتقائيتهم" هذه من الدين هي بسبب مرض قلوبهم.(1/22)
إلى أن قال تعالى: ((سماعون للكذب أكالون للسحت)). فمرض قلوبهم نتج عن ذنوبهم، من سماع للباطل وتعاطٍ للرشوة.
وقال تعالى أيضا واصفا هذه "الانتقائية" عند المنافقين:
((وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (48) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين (49)))
فعلى مستوى أصحاب السلطة تراهم يسارعون إلى الإسلام لحل بعض المشاكل الاجتماعية، ويعلقون يافطات الآيات والأحاديث النبوية الحاضة على إعطاء الفقير وإطعام اليتيم، ليحل الإسلام مشكلة الفقر الناتج عن فسادهم وسرقتهم. وفي المقابل يُعرضون عن حكم الله ويحاربونه عندما يدعو إلى الجهاد في سبيل الله و ينهى عن تولي اليهود والنصارى.
وعلى مستوى الأفراد قد ترى تلك التي تستاء من قوله تعالى ((واضربوهن)) أو ((مثنى وثلاث ورباع)) إن تُلي أمامها قول الله تعالى ((وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)) وكانت أما لولد...قد تقول في خشوع (صدق الله العظيم)! ((قل كل من عند الله فمالهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا)).
وما لـ"فنانة" تتكلم عن تسامح الإسلام وجماله وهي تضاد الإسلام بتبرجها ودعوتها إلى الفسوق والعصيان!
وما لهؤلاء المفتونين بـ "المنتقين" الذين يجعلون محاكم شرعية ومحاكم مدنية يعمون بها على الناس بأن هانحن نطبق بعض الشريعة...مع أن تطبيقهم للجزء الذي يريدون من الدين يجعلهم غير مطبقين ولا حتى جزئيا للدين، لأن هذا الجزء إنما طبق بأهوائهم، لا استسلاما وإذعانا لله تعالى.
- ولست أنسى كلمة رجل أمريكي قال لي مدافعا عن ديمقراطيتهم ما ترجمته: (أعتقد أن علينا أن نسمح لله بالتدخل في حياتنا بالمقدار الذي نريد فحسب).
((وما قدروا الله حق قدره))
ولعل أحد "المنتقين" حين قرأ كلمة الأمريكي هذه استبشعها مع أنها ما هي إلا تعبير بلسان المقال عن حال "المنتقين".(1/23)
ومن أبواب هذه الصفة النفاقية تأييد مناهج تتعارض مع الإسلام كالديمقراطية في جزئية لله فيها حكم بَيِّن، كقبول جعل الولاية العامة لنصراني.
أشكال من الاحتكام الخفي إلى غير حكم الله ورسوله:
وقد ترى امرأة لا تحتجب من أخ زوجها فإن نُصحت قالت: (هو مثل أخي). مع أن الله تعالى قد فصل في المحارم وما جعله لها محرما. وترى آخر يصر على الدخول على العروس ليعطيها ما يسمونه نقوط العروس وليس لها محرما، فإن قيل له: إنها متزينة وليست في حجابها قال: (عاداتنا وتقاليدنا)! ((وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا)). فليحذر امرؤ لنفسه أن يتلبس بصفات النفاق وهو لا يعلم.
... ... ... ************************************
3) موالاة اليهود والنصارى والكافرين عموما
وقد أكثر الله تعالى من الآيات التي تُبرز هذه الصفة في المنافقين.
أسبابها الحقيقية:
وهذه الصفة كذلك هي وليدة الشك في الدين. قال الله عز و جلَّ:
((ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون (80) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (81) )). قال مجاهد: يعني بذلك المنافقين. اهـ. وحتى لو عُني بذلك اليهود فإن الآيات تبين قاعدة عامة منسحبة على اليهود وغيرهم أن متولي الكافرين لا إيمان عنده. فالمنافقون إذن يتولون الكافرين لشكهم وقلة إيمانهم. وكذلك قوله تعالى:
((لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله)) فالمنافق لما شك في الله واليوم الآخر أصبحت حساباته أرضية. فرأى أن القوة المادية بأيدي الكافرين فوالاهم ليكونوا له عزا: ((بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما () الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين () أيبتغون عندهم العزة فلله العزة جميعا () ))(1/24)
وشكهم هذا كما أسلفنا ناتج عن مرض قلوبهم. قال الله تعالى: ((فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم)) (المائدة) فمسارعة المنافق في موالاة الكفار ناتجة عن مرض قلبه.
مبرراتهم المعلنة:
1) أن ترك هذه الموالاة يجلب عليهم المصائب ويدفعهم إلى المواجهة مع من لا قبل لهم بهم:
((فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة)).
وقد نزلت الآية في وصف حال عبد الله بن أبي ودفاعه عن يهود بني قينقاع وقوله (إني امرؤ أخشى الدوائر).
ومن أعجب العجب أني سمعت رجلا من باكستان يبرر مواقف منافقي بلده المعادية للمسلمين والموالية للصليبيين قائلا أنه لولا هذه المواقف فإن مشروع القنبلة النووية في بلده سيكون مهددا! فيا عجبي كيف تصبح القنبلة النووية في أيدي المنافقين سببا للخور والجبن والنذالة!
2) أنهم بموالاتهم هذه يصلحون بين المؤمنين والكافرين، فيعيش الفريقان في سلام وتعايش. قال الله تعالى:
((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون))
روى ابن إسحاق عن ابن عباس في تفسيرها: (أي: إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب). فوصف الله تعالى موالاتهم هذه بالفساد في الأرض، كما قال في الآية الأخرى بعدما فرض على المؤمنين أن يتولى بعضهم بعضا: ((والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير(73) )) (الأنفال).
أئمة النفاق يتآمرون مع الكافرين ضد المسلمين:
قال الله تعالى واصفا المنافقين: ((وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون)). وقال تعالى:
((يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك))(1/25)
فالمنافقون إذا التقوا بأوليائهم وأسيادهم من أهل الكتاب والكافرين عموما تباهوا بمخادعتهم للمؤمنين وتلقوا من أسيادهم الأوامر وتآمروا معهم للكيد بالإسلام وأهله.
وقال تعالى مبينا نية المنافقين في بناء مسجد الضرار:
((وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل))
اجتمعوا في الدنيا فسيجمعهم الله تعالى في الآخرة:
قال الله تعالى: ((إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا))
فكما اجتمعوا على عداوة الإسلام والاستهزاء بأهله في الدنيا فسيجمعهم الله تعالى حيث يلعن بعضهم بعضا ويكفر بعضهم ببعض.
الله تعالى يحذر المؤمنين من اتخاذ الكافرين أولياء:
قال الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء. بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)) وقال تعالى:
((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا)) وقال تعالى:
((لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة)) فالله يتبرأ ممن تولاهم. والله تعالى أعلى من أن يكون مع الأنجاس في موالاة منافق.
ويهيج الله تعالى في المؤمنين مشاعر المحبة لدينه ليعلموا أن حب الله ودينه لا يجتمع مع حب المستهزئين بالدين في قلب واحد: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين () وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (58) ))
بل ونهى الله عز وجل عن تولي من يتولى الكافرين فقال:
((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا)) وهم المنافقون.(1/26)
- فما بال الذين يقولون عن الكفار أهل الكتاب "إخواننا النصارى" وقد كفروا بالتوحيد وبرسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى ما جعل المؤمن أخا للكافر أبدا، وإنما جعل المنافق كذلك فقال: ((ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب)).
- وقد بلغ من فساد بعض من ينتسبون إلى العلم أن أفتوا للمسلمين في جيوش دول صليبية بمحاربة المسلمين لئلا يُشك في ولائهم وانتمائهم إلى بلادهم وأتوا على ذلك بـ"أدلة". وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي من بعدي كل منافق عليم اللسان)) (صححه الهيثمي والألباني). روى البخاري أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل. فأنزل الله: ((إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا منا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) )) قال ابن كثير: فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراما بالإجماع، وبنص هذه الآية . اهـ. فهؤلاء أناس فُرضت عليهم الهجرة ليتمكنوا من إقامة دينهم بمكة فآثروا الإقامة في الأهل والمال والأوطان على إظهار دينهم حتى دُفعوا دفعا إلى الخروج في جيش المشركين في بدر. فقُتل من قُتل منهم ظالما لنفسه. فما بال الضلال الجهال الذين يُفتون لجندي أمريكي مسلم أن يحارب المسلمين ليحافظ على جنسيته الأمريكية ودولاراته!
((فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)).(1/27)
فلينظر كل امرئ إلى حاله، أيجد الطمأنينة في كنف المشركين والمنافقين والظالمين. فإن كان كذلك فإنه منافق. فالله تعالى قال: ((ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون (8) )) (المنافقون). فمن لم يستيقن أن العزة إنما هي لله وأن ليس للكافرين منها شيء فهو منافق.
العز في كنف العزيز ومن عبد العبيد أذله الله
((إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون () ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)) (المائدة).
... ... ... ******************************
4) تغيير الولاء بحسب ميزان القوى
وهذا في المنافقين طبع خسيس وخُلق رخيص. فإن المنافق لما كانت حساباته أرضية طينية، فإنه ينظر إلى كفة من مال ميزان القوى...فإن طاشت كفة أوليائه تنكر لهم، وأعطاهم دبره وحالف ضدهم وساعد عليهم كأن لم تكن بينه وبينهم مودة. فلا يظنن ظان أن موالاته للكفار مرتكزة إلى ركن وثيق، بل هي المصلحة الأرضية المادية- جمع القروش وملء الكروش. فالمنافق لا يفهم معنى الوفاء لوليه والمروءة والشهامة والنبل والنخوة والنجدة...ومن استثار فيه هذه المعاني كان كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء.
قال الله تعالى:
((ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا ولئن قوتلتم لننصرنكم))
هكذا المنافق! وعود عريضة وجرأة عظيمة فيما يبدو...لكن الله بين كذبهم:
((والله يشهد إنهم لكاذبون (11) لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون (12) ))
فبمجرد أن يذهب مجد الكافرين تظهر خسة المنافق ونذالته... ثم بين الله تعالى السبب فقال:
((لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله))(1/28)
فالمنافق لمَّا والى الكافر ما استحضر أمر الله ونهيه...ولمَّا ترك هذه الموالاة ما تركها لله وإنما خوفا من المؤمنين. فهو لم يذكر الله على كل حال! ((ذلك بأنهم قوم لا يفقهون (13) )).
والمنافق في ذلك أخس من الكفرة. ففي غزوة بني قريظة التي نزلت فيها هذه الآيات أوفى حيي بن أخطب لبني قريظة بوعده أن يدخل معهم في الحصن ولم يوف المنافقون بوعد النصرة.
- والمنافق يعتبر من الحكمة أن يتقلب ويميل مع الريح حيث تميل. قال الله تعالى واصفا المنافقين:
((الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين))
فهم مع المنتصر أيا كان. وكأني بالمنافق يمشي مخبولا يحك إسته ويسيل لعابه حاملا في يده صحنا يدور باحثا عن المنتصر يستجديه أن يملأ الصحن طعاما... إن قلتَ له: "رضوان الله"، "الجنة"، "الغيرة على الدين"...فتح فمه ببلاهة ونظر إليك نظرة من لم يفهم شيئا ثم تولى عنك وهو يقول: (وهل تملأ هذه صحني؟)!
وقال الله تعالى:
((وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا))
فيعتبر نذالته حكمة بل ونعمة من الله تعالى!
((ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم))
سيندم حينئذ ويتمنى لو كان مع المؤمنين. هل تراه يندم لأنه يرى نصر الله لعباده المؤمنين فيعلم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فيحتقر ما هو فيه من بطالة ونفاق وتشتاق روحه إلى التحليق في مدارج الأبطال النشامى؟ لا! ما زالت تطلعاته لا تعدو أصابع قدميه!
((فأفوز فوزا عظيما)) يريد الغنيمة...بضعة دنانير ومتاعا زائلا.(1/29)
-إن عُلم هذا فليستحِ أقوام منسوبون إلى العلم من ربهم أن ينسبوا إلى دينه وإلى رسوله مذهب المنافقين في تقليب الولاءات والخنوع للقوي المبطل باسم الدين. والله من ذلك بريء، ورسوله صلى الله عليه وسلم سيد الشرفاء الأوفياء.
... ... ... *****************************
5) الكذب
النفاق والكذب لفظتان مترادفتان:
لو طلب منك أن تُجمِل صفات المنافقين في كلمة واحدة فقل: هي "الكذب"! قال الله تعالى:
((ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم)) فجعل في مقابلة الصادقين: المنافقين. وفي حديث ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا)) تجد أن الصفات الأربعة تدور حول الكذب: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف (والإخلاف كذب)، وإذا عاهد غدر (والغدر كذب)، وإذا خاصم فجر (والفاجر في خصومته كثيرا ما يكذب في ذم من خاصمه).
والكذب كذب حديث، كما أنه مخالفة الفعل للقول، بحيث يُكَذِّب فعلك قولك.
فترى أن الله تعالى كره، بل مقت أن يتلبس المؤمن بهذه الصفة التي تجعله يتقاطع مع شخصية المنافق في شيء مشترك فقال:
(( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3) ))
وكم نرى هذه الصفة-مخالفة الفعل للقول- في المسلمين! كم نراهم يذمون واقعا هم لبِِناتُه والمسهمون فيه:
كم قلت أمراض البلاد وأنت من أمراضها
والشؤم علتها فهل فتشت عن أعراضها
يا من حملت الفأس تهدمها على أنقاضها
اقعد فما أنت الذي يسعى إلى إنهاضها
وانظر بعينيك الذئاب تعبُّ في أحواضها
كم ترى من مسلم يذم الخيانة وتسليم البلاد لأعدائها ويلعن المتآمرين من بني جلدتنا وإن سألته أتتمنى أن تجاهد قال بلا تردد (يا ريت! طبعا). ثم هو يشعل دخانه المستورد من بلاد "الأعداء" السالبين للـ"بلاد" ويجاهد خلايا جسمه ويحرق مع سيجارته شعاراته الرنانة ونواياه الجهادية! فهذا لم تصدق نيته للجهاد ولم يُعد له العدة بل يفعل خلاف ما يقول.(1/30)
المنافق يكذب أول ما يكذب على نفسه:
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ((انظر كيف كذبوا على أنفسهم)): (... وكذب المنافقين باعتذارهم بالباطل وجحدهم نفاقهم)
فالمنافق يعتذر لنفسه بالباطل ويبرر لها نفاقها ويعميها عن الحق ويزين الباطل لنفسه و يحجم نداء الإيمان فيها ويقنعها بأن طريق النفاق أسلم... بل ولا يعتبر صفات النفاق نفاقا، بل يخدر شعور نفسه بأن فيها صفات حميدة وأنها على خير.
المنافق يكذب ليبرر أعماله السيئة:
أمَا وقد خدع نفسه فالخطوة التالية هي مخادعة المؤمنين. فالمؤمنون في نظره بسطاء سذَّج ليس عندهم من الحكمة كالذي عنده. فلا بد من مخادعتهم "ترفعا" عن الخوض معهم في جدل عقيم، ووقاية للنفس من انفعالات عواطفهم "الساذجة" في نظره. فلا يجد المنافق حرجا من أن يحلف لهم كذبا:
- ((اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون))
فهو يفعل كل بشعة ويتمرغ في أوحال النفاق ثم يحلف بالله ما أراد إلا الحسنى، فينطلي حلفه على مؤمنين لا يتصورون أن يحلف رجل كذبا! فيتمادى المنافق في طغيانه بعد أن اطمأن إلى تصديق الناس له.
وانظر كيف ينكر الله تعالى هذه الفعلة القبيحة-الكذب للصد عن سبيل الله، فيقول: ((إنهم ساء ما كانوا يعملون))
وذلك كقوله تعالى أيضا:
(( اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين))
فالأيمان الكاذبة هي الدرع الواقي الذي يحتمي به المنافق في الدنيا والستار الذي يمرر من وراءه كل ردية، لكنها الغموس له في نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا.
وانظر فيما يلي كيف يغطي المنافق صفاته النفاقية بالكذب:
1- الشك في الدين: ((ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين))
وقال تعالى:
((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون))
2- الإعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم:
(((1/31)
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) )) إلى أن قال تعالى:
((فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا (62) ))
فيحلفون أنهم ما احتكموا إلى الطواغيت تكذيبا بالإسلام.
3- موالاة اليهود والنصارى والكافرين عموما:
((ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون))
4- ترك الجهاد والتخذيل عنه:
((ولِيَعْلَمَ الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (167) ))
وقال تعالى:
((يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين))
5- قلة الأدب مع الله تعالى ومع رسوله والمؤمنين:
((يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا))
فهم كانوا يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم ويكذبونه ثم إذا نقل إليه شيء من ذلك حلفوا أنهم ما فعلوا.
وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرته قد كان يقلص منه الظل فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((يجيئكم رجل ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا رأيتموه فلا تكلموه)) . قال : فجاء رجل أزرق فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم دعاه قال : ((علام تشتمني أنت وأصحابك؟)) قال : كما أنت حتى آتيك بهم . فذهب فجاء بهم فجعلوا يحلفون بالله ما قالوا ولا فعلوا (رجاله رجال الصحيح-الهيثميي)(1/32)
فانظر إلى هذا الرجل كيف احترف الكذب حتى أنه يتظاهر للنبي بأنه لن يقول شيئا لئلا يُكذب بل سيأتي بأصحابه ليحلفوا بأنفسهم ما قالوا، وكأن كذب الجماعة عنده أوثق من كذب الفرد! وتخيلهم وقد اصطفوا أمام النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقاسموا الأدوار فأحدهم يقسم بالله رافعا إصبعه الآثم إلى السماء، والآخر يقبض يديه ثم يمدهما مع بسط أصابعه إنكارا والثالث يقاطع صاحبيه وهو يشير إلى صدره الأسود مشهدا الله على ما في قلبه من حب وتعظيم لله ولرسوله. ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هدوئه ورفعته ينتظرهم ليفرغوا من تمثيلهم المبتذل ويتجاوز عنهم.
6- التفريق بين المؤمنين:
((والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون (107) ))
... وهكذا هم! سوء طوية وفساد نية، وادعاء عريض مع عمل بغيض:
(( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون (53) ))
المنافق يكذب خوفا من المؤمنين، واللهُ أحق أن يُخشى:
قال الله تعالى:
((سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم)) وقال تعالى:
((يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين)) وقال تعالى:
((يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون))
فلا يخافون إلا الناس، ولا يبالون أن يكون ما بينهم وبين الله تعالى خرابا بلقعا! ألا شاهت الوجوه وعميت الأبصار، ونعوذ بالرحمن من قسوة القلب ومن أن نضل ونحسب أنا مهتدون.
قد يُصدق المؤمن المنافق:
فالمؤمن بطهر قلبه وتعظيمه لله تعالى قد لا يتصور أن يوجد في الناس من يكذب - بل ويحلف كذبا- بهذه الصورة المبتذلة:
((ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام))(1/33)
أيُعقل أن يكون في بني آدم من يقول: (أُشهد الله أني مؤمن به مصدق لرسوله محب لدينه) وهو في الحقيقة عدو لله مبغض لدينه!؟ أيصل الاستخفاف إلى أن يُِشهِد الله على ما في القلب ليتقي بطش المؤمنين، وهو يعلم أنه ما في القلب إلا العفن وسواد النفاق! أي استهزاء بالله هذا؟! ((الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)).
وهكذا هم: ((يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم))
فالمؤمن قد يرضى عن المنافق لحلاوة لسانه الموهمة بخلاف ما في قلبه.
((وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم))
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير
فأرشدنا الله تعالى ألا نؤمن لهم ولا نصدقهم إذ ظهرت لنا منهم أمارات النفاق وخالفت أفعالهم أقوالهم، فتصديقهم خطر:
((قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم))
فالمنافق لن يقف ليقسم بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم أنه لا يؤمن بالله، لكن لسان حاله ينطق بذلك، ولسان الحال أبلغ من لسان المقال.
من يدعي حب الحبيب ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء
فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقا طاعة ووفاء
منافقو هذه الأيام يستعلنون:
في أزمنة عزة المؤمنين وعلو شأنهم كان المنافقون لا يستعلنون بخبثهم، بل يتناجون به خفية:
((ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول))
وهم في ذلك كهمل المدارس الثانوية الذين يدخنون في حمامات المدرسة في نهار رمضان.(1/34)
أما في أيامنا هذه، فمع علو أهل الكفر في الأرض واشتداد المحنة على المؤمنين أصبح المنافقون، وأئمتهم خاصة، في أكثر الأحيان لا يحتاجون إلى ستر سوءاتهم. فالاستكبار على الدين ورفض حكمه وموالاة الكفرة والطعن في الجهاد أصبحت كلها من مقومات السيادة ومؤهلات الصدارة في كثير من مجتمعات المسلمين. وإنما أصبح المنافقون يكذبون بالقَدْر الذي يُخَدِّر غضب عامة المسلمين الذين ينخدعون بكلمات قليلة معسولة عن حب الدين يطلقها المنافق وهو يسبح في وحل نفاقه الواضح لكل ذي بصيرة. إنما هو لا يريد أن "يُقرفه" هؤلاء "الدراويش" إذا أغضبت سلوكياته وتصريحاته "المتنورة" عواطفهم الدينية "الساذجة" في نظره!
... ... ***************************************
تبلغ السفاهة بالمنافق أنه يحاول الكذب على الله تعالى:
وهذا درك من العجب أن تنحط إليه نفس إنسانية، واستخفاف بعظمة الله تعالى لا أكاد أفهمها! خاصة إذا تذكرنا أن هذه المحاولة البائسة ستكون يوم البعث عندما يُكشف الغطاء فالبصر حديد ولا غيب يومئذ! قد عاين المنافق صدق ما كان يشك فيه وعلم أن الله هو الحق المبين. أمع هذا كله لا زال يكذب، بل يحلف كذبا! وليخادع من؟! ليخادع الله تعالى!
((يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون للا ه كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون (18) )) (المجادلة). فبالهيئة المبتذلة نفسها يحلفون ويحسبون أن ذلك ينفعهم مع من يعلم السر وأخفى.
فالمنافق ما وصل إلى هذا المستوى الدنيء إلا بكثرة تدربه على الكذب في الدنيا... أدمن الكذب بل الحلف على الكذب فاستقر ذلك في قلبه ولم يبل مع الدفن وتعاقب القرون قبل البعث.
قد كانوا في الدنيا كما وصفهم الله تعالى:
(((1/35)
وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76) )) يُقر فريق من منافقي اليهود بأن الله تعالى قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا ويذكرون نعته في التوراة المطابق للواقع، فيلومهم فريق آخر لأن هذا الإقرار يقوي حجة المؤمنين على المنافقين أمام الله يوم القيامة. بل ويشتد هذا الفريق في النكير حتى يقول للأولين: (أفلا تعقلون!). وكأنهم يتكلمون عن إله غائب لا يسمعهم في هذا الحوار، بل ولن يطلع على ما في صدورهم حتى ولا يوم القيامة! إنما كل همهم أن يستطيعوا الكذب عليه يوم القيامة وأن يقنعوه بضعف حجة المؤمنين! وهذا عندهم العقل كل العقل!
فقال تعالى معجِّبا من سفاهتهم:
((أوَلا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون (77) ))
وهذا القدر من الانحراف يحتاج تدربا طويلا على الكذب. فمخادعة للنفس. ثم مخادعة للناس، ثم مخادعة لله في الدنيا، ثم مخادعة لله يوم القيامة. وما ذلك إلا لأن قلوبهم قست ففقدوا الشعور:
((يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون))
اللهم فاعصمنا من الانحطاط في هذه الدركات.
... ... ****************************************
الصدق تدل عليه الأعمال، وعلى رأسها الجهاد:
فالدعاوى يستطيعها كل أحد، أما الأفعال فلا يثبت عليها إلا الصادقون، خاصة إذا كان فيها التضحية بالنفس والمال كما في الجهاد. لذلك تجد في سورة براءة أن الله تعالى فضح المنافقين وبين تخاذلهم عن الجهاد ثم قال تعالى:
(((1/36)
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119) ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه)) فالمؤمن الصادق يبرهن على صدق إيمانه بألا يضن بنفسه عن تضحية ضحاها رسول الله. وألا يتناءى بها عن معاناة ومشقة عاناها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمؤمن الصادق لا يقول لنفسه: أيُعقل وأنا صاحب الأملاك والعقارات وصاحب العقلية الذكية والمواهب الفريدة أن تنتهي حياتي في معركة؟! ((ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه)). فإن كان جهادا حقيقيا شرعيا فإنه لا يربأ بنفسه عنه.
وقال تعالى:
((قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا)) إلى أن قال تعالى: ((إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (15) ))
فجعل الصدق -الذي هو ضد الكذب صفةِ المنافقين- في الإيمان الذي لا يخالطه شك وفي الجهاد.
وقال تعالى:
((ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون
(177) ))
و(حين البأس) أي: عند مواطن القتال، أي: في الجهاد. وهذه الآية تنص على أن الذين صدقوا-في مقابلة المنافقين الذين كذبوا-هم أولئك الذين يأتون بهذه الأفعال، ومنها الجهاد. وقد رأينا، وسنرى فيما يأتي، أن المنافقين لا يأتون بها. فبدل الإيمان شك، وبدل الوفاء إخلاف عهد، وبدل الصبر انتكاسة وجبن، وبدل الجهاد قعود.
فاللهم اجعلنا من الصادقين.
... ... ********************************************
6) التخلف عن الجهاد
علاقته بالشك في الدين ومرض القلب والذنوب:(1/37)
وكما في صفات المنافقين كلها فهذا التخلف ناتج عن الشك في الدين الذي هو ناتج عن مرض القلب. ومرض القلب ثمرة الذنوب.
أما الذنوب، فقال الله تعالى:
(( فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا))
وقد روى البخاري أنها نزلت في المنافقين الذين رجعوا من جيش رسول الله المنطلق إلى أحد، فأبوا أن يتابعوا معه المسير إلى الجهاد. فالتخلف عن الجهاد إذن ثمرة الذنوب.
وقال تعالى:
((إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا))
فالذنوب التي يُسلفها الإنسان أيام الراحة تجتمع عليه يوم الجهاد لتُضعفه عن إرادة التضحية في سبيل الله تعالى.
وأما مرض القلب، فقال تعالى:
((فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم (20) طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم (21) فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (22) ))
فمرض القلب يُجبن عن القتال ويجعل صاحبه يفغر فاه ويصفر وجهه وتدور عيناه إذا علم بقرب المواجهة. وانظر ارتباط مرض القلب بالذنوب من إفساد في الأرض وتقطيع للأرحام.
وقال تعالى:
((وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين (86) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (87) ))
فترك الجهاد مقترن بالطبع على القلب، أي مرضه. فمرض القلب يُقعد عن الجهاد، والقعود عن الجهاد يزيد مرض القلب.
وأما الشك في الدين، فقال تعالى:
(((1/38)
إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون (45) )) ولا عجب. فكيف يضحي إنسان بنفسه في سبيل قضية لا يؤمن بها. أن كانت التكاليف المطلوبة سهلة ميسورة فلا بأس عند المنافق، على طريقة ((وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي))... فالمنافق قد يؤدي بعض التكاليف "احتياطا"، بحيث "في حال" ثبت أن هناك إلها وآخرة وجنة ونارا فها قد قدم ما قد ينجيه في ظنه، وفي حال أن ذلك كله لم يكن فهو لم "يخسر" كثيرا. أما أن "يغامر" بنفسه في سبيل ما لا يتيقن، فالمنافق لا يرى ذلك من الحكمة.
المنافق يتفنن في الأعذار للتخلف والتثبيط عن الجهاد:
1) فتارة يقول: (إنه لا حرب على الإسلام كدين، وإنكم أيها المشايخ تؤمنون بنظرية المؤامرة وتفسرون كل حدث على أنه جزء من هذه الحرب الصليبية في زعمكم. وهذا من وساوسكم وعقدكم النفسية). وهذا كما قال ابن سلول وفئته الناكصة يوم بدر. قال الله تعالى:
((وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم)) أي: لو نعلم أنكم تلقون حربا لجئناكم ولكن لا تلقون قتالا.
ولذلك ترى المنافق إذا ما نُخز لينجد المسلمين ويدفع عن الأمة قلل من شأن الحرب على الإسلام وأكد أن دوافع الحرب اقتصادية أو أنها تستهدف فئة من أصحاب الغلو، وليس الإسلام ذاته!
2) وتارة يتعلل بعدم مناسبة الطقس للجهاد! وانظر إلى سخافة أعذارهم! وكأن الجهاد يتحمل التأجيل حتى يصبح الجو جميلا وتكون رحلة الجهاد نزهة شيقة. قال تعالى:
((فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر)) فرد الله عليهم ردا يهز الكيان ويقشعر منه جلدُ مَن به روح:
((قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون (81) )).(1/39)
تصورهم معي وهم يثنون أعناق خيولهم لتُدبِر عن الجيش الإسلامي قائلين: (لا تنفروا في الحر). حتى إذا استدارت وجوههم الآثمة وتوارت عن أنظار المؤمنين تغامزوا ضاحكين من عذرهم السخيف... قال الله تعالى:
((فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون (82) ))
وَلْيبكوا كثيرا...إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال:
((إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل. ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا)) (البخاري ومسلم واللفظ لمسلم).
فما بالك بمن هو في الدرك الأسفل من النار؟! لن يفرحوا يومئذ بمقعدهم، ولعل المؤمنين يقولون لهم يومئذ وهم يضحكون: لا تنفروا في الحر! فها قد أتاكم إلى عندكم!
وانظر كيف قال الله تعالى: ((فرح المخلفون))... وهذا فارق بين المؤمن والمنافق. فإن المؤمن قد يقع في معصية لشهوة، لكنه بعد مقارفتها يندم عليها...كما وقع من كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم عندما تخلفوا عن تبوك.
3) وتارة يتعلل من في قلبه نفاق بعدم مناسبة الوقت للجهاد. فما زال لديه طموح وخطط مستقبلية لا يحب أن تقطعها المنية. ولا زال يرى في نفسه إمكانيات ينبغي أن تُستغل لـ"صالح البشرية". فهو صاحب عقلية ومواهب... خسارة أن تضيع بضربة سيف أو رمية رمح! قال الله تعالى:
((ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77) ))(1/40)
وقد روى النسائي وغيره بسند صحيح عن ابن عباس ما يدل على أن هذه الآية شملت بعض الصحابة الصادقين الذين تمنوا الجهاد حقا لكنهم ضعفوا عند فرضه عليهم. لكن شتان بين هؤلاء الصحابة والمنافقين. فإن هذا الفريق من الصحابة وإن كبا كبوة عارضة إلا أنهم بعد تذكير الله لهم استجابوا لله وللرسول فنهضوا شجعانا ولم يتخلفوا عن رسول الله بعدها ومسحوا هذه الزلة العارضة بتاريخ أبيض ناصع من الصبر والثبات غازين ومغزوين، لم يؤثَر عنهم بعدها (ليت) ولا (لو) ولا (لولا). وخير الخطائين التوابون.
أما المنافقون فإنهم لما دنت المواجهة وفرض القتال ضرب الخوف أطنابه في قلوبهم... فخشوا الناس أكثر من خشية الله وبقوا معترضين على قدر الله وأمره متسخطين عند كل اختبار قائلين في أنفسهم: (ربنا لِمَ كتبت علينا القتال؟)! وأكبر همهم أن يتواروا عن أعين المؤمنين فلا يُعلم نكوصهم عن الجهاد فإن خرجوا إليه كارهين فإنهم لا يأتون البأس إلا قليلا. وفي قتالهم هذا: ((وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك)) أي من اتباعنا دين محمد.
ويبقى هذا الجبن والتسخط في قلب المنافق إلى أن يموت.
4) وتارة يتعلل ببعد المسافة عن أرض الجهاد:
(( لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة))
فما عند المنافق من إيمان لا يكفي إلا لمسافة قصيرة... وبعد هذه المسافة ينفد وقوده الإيماني! ويا حبذا لو كان المنتظر من هذا الجهاد القريب غنيمة تستحق الخروج. فـ"جنة عرضها السماوات والأرض" لا تفعل في نفس المنافق فعل درهم أو قطيفة.
5) وتارة يتعلل بأن الجهاد سيفتنه وبأن الالتزام بدين الله سينفره عن دين الله:(1/41)
روى المفسرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء تجهيزه لغزو الروم قال للجد بن قيس: ((هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر؟)). فقال: (يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشي إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن). فأنزل الله: (( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني))
(وسبب النزول هذا وإن كان في إسناده ضعف إلا أن الطبري قال فيه: وبذلك من التأويل تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل).
وإن الواحد منا قد يتعذر لنفسه في ترك أمر من أوامر الله بأنه إن فعل هذا الأمر فسينفر من الدين...فيقول في نفسه: فلأبق على معصية فعلية خير لي من هذه الموبقة العقدية: النفرة من الدين. قد تقول المتبرجة ذلك لنفسها وقد يقولها صاحب النظرة المحرمة.
وعلى هؤلاء جميعا يرد الله تعالى فيقول:
((ألا في الفتنة سقطوا)).
فهذا التعذر الأجوف المبتذل هو عين الفتنة. كما أن ترك أمر الله فتنة.
وكم يتعذر المعطلون للجهاد بدرء الفتن عن بلادهم وتجنيبها الويلات، فإذا بالشباب الذين جُنبوا التضحية في سبيل الله تأسن أرواحهم فيقعون في مستنقعات الشهوات والتنازع على الدنيا فيُهلكون دنياهم وأخراهم ((ألا في الفتنة سقطوا))
6) وتارة يتعذر بأن وقوفه في خط المواجهة يهدد أمنه الداخلي:
((ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا (13) ))
فقد ادعى المنافقون أن بيوتهم قريبة من جيوش العدو فيخافون على أهليهم أو أموالهم.
وهكذا...إذا دهم العدو بلدا من بلاد المسلمين فإن المتخاذلين في البلاد الأخرى يرفعون شعار أن المحافظة على أمن بلدهم أولى من نصرة المسلمين المنكوبين.
7) ((سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم)) فهم لم يندموا على تخلفهم ولم يتوبوا إلى الله بقلوبهم، وإنما يطلبون الاستغفار رياء ونفاقا.(1/42)
فهذه أعذارهم! ظلمات بعضها فوق بعض... حجج الخَزِيِّ الجبان وادعاءات بطال كسلان. فلن يجاهد المنافق إلا إذا أمَّنت له "جهادا" مفصلا على هواه: جهاد في فصل الربيع على مسافة قصيرة وبغنائم وفيرة، وفي الوقت المناسب بعد أن يفرغ من تحقيق الأماني، شريطة أن يكون أهله في غنى عنه وتجارته لها من يُسيرها وأن يتفرغ الجيش الإسلامي لحماية بيته من خلفه، وشريطة أن تخلو ساحة الجهاد من نساء فاتنات وألا تكون في الجهاد تضحيات تفتنه عن دينه،
وشريطة أن يعلن العدو بلسانه أنه يحارب الإسلام ذاته!
وهو مع ذلك كله يقسم:
((وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون (53) )) طاعة بالشروط المذكورة. فهم كمن قال:
أحمس في الوغى أبناء قومي ... ... وأحمي ظهرهم عند القتال
فإن فروا سبقتهم جميعا ... ... وإن كروا فقد دبرت حالي
ولي عزم يشق الماء شقا ... ويكسر بيضتين على التوالي
وقال تعالى في المنافقين: ((فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد))
قال ابن كثير: أي: فإذا كان الأمن تكلموا كلاما بليغا فصيحا عاليا، وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة، وهم يكذبون في ذلك.
... ******************************************************
لا يكتفي المنافق بقعوده عن الجهاد بل يثبط غيره:
قال الله تعالى:
((قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا))
وقال تعالى:
((وإن منكم لمن ليبطئن)) فيتباطأ هو في نفسه ويبطئ غيره عن الجهاد.
بل ويطعن المنافق على الجهاد نفسه ويعتبر تركه حكمة:
((الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا)) ففي القعود السلامة!
يرى الجبناء أن العجز عقل ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
بل ويتجاوز بعضهم كل حد فيستغل ما يصيب المؤمنين من ابتلاء في معركة من المعارك ذريعة للطعن في الدين ذاته:
(((1/43)
يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا)) قال بعض المفسرين: ...وقيل: أي: لو كنا على الحق ما قتلنا ههنا (البغوي). فهم اعتبروا ما أصاب المسلمين يوم أحد دلالة على بطلان الدين. فحساباتهم أرضية بحتة، لا يفهمون أن الله تعالى يمحص بذلك الابتلاء صف المؤمنين من شوائب المنافقين ويتخذ شهداء يعلي لهم المنازل ويعظم الأجور.
فالمنافقون هرطقوا بأن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين خارج المدينة سبب للمصيبة في أحد. والحق أن سبب المصيبة هو عصيان الرسول ((ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون))
وهكذا المنافقون! ينسبون كل مصيبة تحل بالمسلمين إلى الجهاد والمجاهدين...(( وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك))
أي من قِبَلك (يا محمد) وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك (ابن كثير) ويقولون هذه من عند محمد، أساء التدبير وأساء النظر (الطبري)
يقولون جرَّنا محمد إلى مواجهة لم نستعد لها وهيج علينا الأمم. ألا شاهت الوجوه وشُلت ألسن تنسب الفشل إلى طاعة الله والرسول. فما أُتيت الأمة إلى من قِبَل المنافقين وإفسادهم وتفريقهم صف المسلمين وتخذيلهم المسلمين عن رد عدوهم.
لذا ترى أن الله تعالى يحذرنا من هذا المنطق الأعوج في اعتبار ما يصيب إخواننا دلالة على بطلان قضية الجهاد ودافعا إلى القعود لسلامة الأرواح ويبين أن ذلك ديدن الكفار:
((يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم))(1/44)
وعلى هذه الأقوال جميعا...على من قال (لو أطاعونا ما قتلوا) وعلى من قال (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا) وعلى من قال (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا)...عليهم وعلى كل متخاذل مخذل جزع عن نزول القضاء لائم لساداته من المؤمنين النبلاء رد الله تعالى بأجمل رد وأفصح بيان:
((قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين))
((قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم))
((ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون))
فالموت سيحصد الشجاع والجبان
غير أن الفتى يلاقي المنايا كالحات ولا يلاقي الهوانا
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا
لكن شتان بين طريقة موت كل منهما... وشتان بين الذكرى التي يتركها كل منهما... وشتان بين المآل والمصير. ... ...
حال المنافق أيام الرخاء لا تدل على نيته الجهاد:
كثيرا ما يتعذر المنافقون لأنفسهم بأنهم يتمنون في أنفسهم أن يجاهدوا لكن الفرصة غير مواتية. قال الله تعالى: (( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ))
فلو كان تمنيهم هذا صادقا لظهر في أعمالهم. لكنهم لما وهنوا أمام الشهوات مرضت قلوبهم فأصبح خروجهم خطرا على المؤمنين الصادقين، لأن المنافق الذي ضعف أمام الشهوات والشبهات لا يظن به أن يقف شجاعا أمام الحديد والنار وتطاير الأشلاء. وحري به أن يستزله الشيطان ببعض ما كسب فينكص ويخلخل صفوف المؤمنين. لذا كَرِه الله انبعاثهم:
((ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين))
لذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم غياب النية الصادقة للجهاد أمارة للنفاق:
((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق)) (مسلم وأبو داود).(1/45)
فليبرأ المؤمن لنفسه من هذه الشعبة بأن يوطن نفسه على حب الجهاد ويدعو الله تعالى أن يهيئ له سبله ويترك المعاصي التي تحول دونه وتُعَلِّقه بالدنيا ويعد له العدة. فإنه إن فعل ذلك فمات حتف أنفه بلغ منازل الشهداء بعمل قلبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((من سأل الله الشهادة من قلبه صادقا بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)) (مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة)
وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم)). قالوا: (يا رسول الله وهم بالمدينة؟) قال: ((وهم بالمدينة. حبسهم العذر(( (البخاري)...فهؤلاء تمنوا صادقين أن يجاهدوا في غزوة تبوك لكنهم ما استطاعوا لمرض أو عدم نفقة فأثابهم الله الكريم ثواب المجاهدين لصدقهم، لأنهم لما لم يجدوا ما ينفقون تولوا وأعينهم تفيض من الدمع... فهم تشتاق أرواحهم إلى ساحات التضحية في سبيل الله تعالى.
لكن الذم والعيب للمنافقين الذين توفرت لديهم أسباب الجهاد فرضوا بالدنية واختاروا مكانا لا يليق بالرجال عندما يدعو داعي الجهاد:
((إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون))
فاللهم ارزقنا شهادة في سبيلك وقبلها نية صادقة نبرأ بها من النفاق.
7) ثقل العبادات على النفس
وهذه أيضا من الثمار المشؤومة للشك في الدين. قال الله تعالى:
((واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (45) الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون (46) ))
فالصلاة ثقيلة إلا على الذين يظنون (ويظنون في القرآن بمعنى يوقنون) بيوم آخِر يلاقون فيه ربهم فيجزيهم على صبرهم على تكاليف الصلاة جزاء حسنا.(1/46)
أما المنافقون فإنهم يشكون في هذا اليوم الآخر أو لا يصدقون به، فثقلت عليهم الصلاة لذلك. ففيها تفريغ الأوقات واستيفاء الشروط والانقطاع للحظات عن الدنيا التي لا يؤمنون إلا بها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)) (البخاري ومسلم).
ولماذا صلاتا العشاء والفجر؟ لأنهم لا يراهم فيهما إلا الله تعالى! هم في غيرهما من الصلوات يدفعهم إلى المساجد تجنب الإحراج مع المؤمنين، كما أنهم مستيقظون في أوقات هذه الصلوات على كل حال. فلا بأس والحال كذلك أن يصلوا... فإن كانت آخرةُُ وجنة ونار فلم "يخسروا شيئا" بصلواتهم هذه. أما العشاء والفجر، فوقتا عتمة، لا يراهم فيهما المؤمنون حضروا أم غابوا. ثم في هذين الوقتين لا بد من التضحية بالنوم. وساعة نوم أهم عند المنافق من جنة عرضها السماوات والأرض. فالجنة عنده "محتملة" وليست باليقين الذي يضحى من أجله! ولأن يعيش في أحلام سعيدة أحب إليه من يقوم ليعمل في سبيل غيب يشك فيه!
((ولو يعلمون ما فيهما)) لو كانوا يوقنون بالمعاد وحسن الجزاء...لأتوهما ولو حبوا...كما هو حالهم في شأن الدنيا... يحبون خلفها على الأيدي والأرجل بل ويلهثون لأدنى عرض فيها.
قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر:
((والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)) (البخاري). فالمنافق لو علم أنه بإتيانه المسجد يكسب عظمة عليها قطعة لحم سمينة (عرقا سمينا) أو حتى ما بين ظلفي الشاة من اللحم (مرماة) لأتى العشاء! أما جنة عرضها السماوات والأرض فلا تفعل في نفسه مقدار ما تفعله قطعة لحم صغيرة!(1/47)
وفي أيامنا هذه... فكر... ماذا يكون حال مسجد في حي مكتظ بالسكان تدخله عشاء وليس فيه إلا صفان أو ثلاثة...ماذا يكون حاله لو أُعلن أن بعد الصلاة طبيخا أو أن مبلغا من المال سيوزع على الحاضرين؟ كم من الخلق يحضر؟
حسن أداء الصلاة مقياس الإيمان من النفاق:
فالمؤمن يقوم إلى الصلاة بنشاط، مخلصا، حريصا على الصلاة في الجماعة، ويطمئن في أدائها. وأما المنافق فهذه الصفات عنده معكوسة كما يلي:
ا) المنافق لا يحرص على الجماعة:
للحديث الذي أسلفنا ولقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
((من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن. فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم. ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة. ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف)) (مسلم). فانظر كيف أن الصحابة كانوا يحرصون على أدائها في جماعة، حتى المريض المعذور منهم، فيأتي الجماعة متكئا على رجلين ما يستطيع أن يمشي وحده لمرضه أو كبر سنه.
ب) الكسل عن الصلاة علامة نفاق:
فإنك لتسمع من يتعذر لنفسه عن ترك الصلاة بأنه لا يجحدها وإنما هو الكسل! ولا يعلم هذا أنه أقر على نفسه بالنفاق. فهو إن نجا من الكفر على قول من لا يرى بكفر تارك الصلاة فقد وقع بتركه الصلاة كسلا في خصلة من خصال النفاق. قال الله تعالى:
(((1/48)
إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا (142( )) فقول أحدهم: أتركها كسلا إدانة له لا عذر. فالمنافقون قاموا إلى الصلاة كسالى. أما هو فقد أقعده الكسل فما قام أصلا!
جـ) المنافق يرائي في صلاته:
فقد قال تعالى: ((يراؤون الناس)). وهذا الرياء في الصلاة مرض خفي يتجزأ على درجات. فقد لا يكون الدافع إلى الصلاة ابتداء الرياء عند بعضنا، لكنه يُحسن الصلاة إذا كان بين الناس أكثر مما إذا خلا بربه عز وجل...وهذا من الرياء. ألا ترى أن أحدنا قد يدخل المسجد فيُقدَّم للإمامة في صلاة سرية، فلا يكاد يزيد على المعوذتين أو سورة الإخلاص. فإذا أمَّ في جهرية خرجت كنوز ما يحفظه من طوال السور مجودة؟! ولا يمكن أن يرضى لنفسه أن يؤم الناس في جهريتين متتاليتين بالقصار! فنسأل الله تعالى العفو.
د) المنافق لا يتأنى في صلاته:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان (أي: قاربت على الغروب) قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا)) (مسلم).
وكم ترى من المسلمين إسراعا في الصلاة فلا يطمئنون بين السجدتين ولا بعد القيام من الركوع.
الصلاة في الجماعة سبب في تمايز المؤمن عن المنافق في الآخرة:
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وصححه الألباني وقال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم).
فهذا النور التام هو الذي سيمكنهم من العبور على الصراط مخلفين وراءهم المنافقين بلا نور:
((يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم))
((يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم (12)))(1/49)
مشوا في ظلمات الليل فأثابهم الله تعالى نورا يوم تشتد الحاجة إلى النور. وفي المقابل:
((يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا))
يريدون التطفل على المؤمنين ونوال الجنة بلا عمل! لكن هيهات...اكتسب المؤمنون النور بمشيهم في الظلم. أما أنتم أيها المنافقون فعلى أي شيء تمنحون النور؟ ارجعوا فالتمسوه في شككم وريائكم وكسلكم...كطالب اللولؤ في البيداء... فيُضرب السور وتنجلي الحقائق وتجزى كل نفس بما كسبت..
ترك الجمعة سبب في دخول النفاق إلى القلب:
فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من سمع النداء يوم الجمعة فلم يأتها، ثم سمعه فلم يأتها، ثم سمعه فلم يأتها، طبع الله على قلبه وجعل قلبه قلب منافق)) (أخرجه البيهقي وأبو يعلى وصححه ابن المنذر وحسنه الألباني).
والطبع على القلب شر عقاب دنيوي. فلا يعود صاحبه يستقبح معصيته. فأنى له إذن أن يتوب!
المنافق يستثقل الإنفاق في سبيل الله تعالى:
قال الله تعالى:
((وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون))
وقال تعالى:
((فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون))
ولا غرابة...فالصدقة عند المنافق خسارة محضة إذ هو لا يؤمن بجزائها الأخروي. لذا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الصدقة برهانا على صحة الإيمان فقال:((الصدقة برهان)) (مسلم).
وكما أنها برهان على الإيمان فإنها تزيده كذلك. فالمؤمن حين يهم بإخراج الصدقة يستجمع إيمانه ويستذكر الآخرة ليقاوم تخذيل الشيطان. فيزداد إيمانا وثباتا بذلك. قال الله تعالى:
((ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة))
لا يكتفي المنافق بالكسل عن الطاعات بل يثبط غيره ويستهزئ بالعاملين:(1/50)
قال تعالى: ((المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف))
فأيما رجل دعا إلى منكر وثبط عن طاعة فليعلم أنه تلبس بصفة من صفات المنافقين. أيما شاب دعا صاحبه إلى معصية فليعلم أن هذا نفاق!
وقال تعالى في وصف المنافقين: ((الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم (79) )) (التوبة)
فهؤلاء المنافقون تخاذلوا عن الإنفاق لتجهيز جيش العسرة لكنهم سارعوا إلى اللمز في المؤمنين! قعدوا يتربصون: فمن جاء بصدقة كبيرة قالوا إنما فعلها رياء، ومن جاء بصدقة صغيرة على فقر حاله ينتزعها من أفواه أولاده نصرة لدين الله سخروا من صدقته الصغيرة في أعينهم الكبيرة في ميزان الله تعالى.
وهكذا المنافق! يرى نفسه القزمة الوضيعة بين الجبال الشُّم...ولا يسعفه شكه وكسله ليرتقي إلى قممهم ويبني مجدا كالذي بَنَوه...فلا يرى سبيلا إلا أن يتطاول على أسياده ويزدريهم لينزلوا إلى مستواه في أعين الناس.
كيف تتخلص من استثقال العبادات؟
بالإكثار من ذكر الله تعالى. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، و إن الله يعطي الدنيا من يحب و من لا يحب، و لا يعطي الإيمان إلا من أحب. فمن ضن بالمال أن ينفقه، و خاف العدو أن يجاهده، و هاب الليل أن يكابده، فليكثر من قول: سبحان الله، و الحمدلله، و لا إله إلا الله، و الله أكبر)) فالبخل بالمال والقعود عن الجهاد واستثقال قيام الليل أقرب إلى النفاق منه إلى الإيمان. وفيه شيء من نسيان الله تعالى. ألم تر إلى قوله عز وجل:
((المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم)) فلما نسوا الله ثقل عليهم الإنفاق في سبيله.
فمن أكثر من ذكر الله تعالى عالج هذا النسيان فنشطت نفسه للإنفاق والجهاد وقيام الليل.(1/51)
8) الشك في وعد الله بالنصر والتمكين لهذا الدين:
وهذه بلية عظمى تشل إرادة المنافق عن نصرة الدين. فهو يرى أن قضية الدين خاسرة. فعلام يتعب من أجلها؟! قال الله تعالى:
((ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء)) فالمنافق لما كانت حساباته أرضية ورأى قوة الكفار وانتفاشهم ظن أن الإسلام هالك وأن الله تعالى لن ينصر دينه. وهذا ظن سوء يمقته الله. لذا كان جزاؤهم:
((عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا (6) ))
كلمات يظهر فيها شدة غضب الله على من أساء الظن فيه تعالى بأن يظن أن الله يخذل دينه ولا يظهره، وأن رسول الله وطائفة المؤمنين يهلكون في الحرب فلا تقوم للإسلام بعدهم قائمة. قال تعالى بعدها بآيات:
((بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا (12) ))
فالمنافق ينظر إلى الكفار فيرى لديهم قوة مادية ينخلع لها قلبه، ثم يلوي عنقه فينظر إلى المؤمنين فلا يجد لديهم إلا عدة ضئيلة هي غاية ما استطاعوه، لكنهم مع ذلك مهللون مكبرون مستبشرون موقنون بنصر الله. فيضحك المنافق منهم قائلا: هؤلاء المساكين يعتقدون أن دينهم ينصرهم على الدبابات والطائرات والصواريخ!:
((إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم. ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم (49) ))
الشك في وعد الله سبب لكثير من صفات النفاق الأخرى:
فالشاك في نصر الله تنهزم نفسيته وتخور عزيمته وتنشل إرادته... خاصة إذا انضم إليه شك في اليوم الآخر الذي ينصر فيه الله عباده على أعدائه تمام النصر:
((إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد))
فتراه بعد ذلك ينكص عن الجهاد...فعلام يجاهد إن كان الإسلام هو الخاسر عنده
وتراه يكذب على المؤمنين ليعرضوا عنه ويدعوه ينسل من المواجهة مع الكفار(1/52)
وتراه يسارع في طاعة الكفار على حساب دينه...فهم الأقوى في نظره
وتراه يخلف العهد مع الله تعالى... فهو كما شك في قدرة الله على نصر الدين يشك في قدرة الله على عقاب من نقض العهد.
أفعال سوء هي جميعا ثمار مشؤومة للشك في نصر الله. قال الله تعالى واصفا حال المنافقين أيام الخندق:
((وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا))
فإلام قادهم هذا الاعتقاد الفاسد:
1) ((وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا)) فنكوص عن الجهاد
2) ((ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا)) فكذب على المؤمنين
3) ((ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سؤلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا)) فمسارعة في الكفر وطاعة الكفار
4) ((ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا)) فإخلاف عهد مع الله تعالى.
قال ابن كثير في وصف حال المنافقين في غزوة الأحزاب:
(أما المنافق فنجم نفاقه. والذي في قلبه شبهة أو حسكة، ضعُفَ حاله فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه لضعف إيمانه وشدة ما هو فيه من ضيق الحال) اهـ. وصدق. فقد قال معتب بن قشير المنافق: "كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط" (سيرة ابن هشام).
المؤمن لا يشك في نصر الله:
فالحبيب المصطفى كان يبشر المؤمنين بفتح البلاد وهو في هذا الوضع الصعب في يوم الخندق، يقينا بوعد الله. لذا قال الله في سورة الأحزاب:
((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا))
وقال في وصف المؤمنين الصادقين:
((ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما))
فلا يأس مع الإيمان. ألم تر إلى قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:
((ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون))(1/53)
وقوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام:
((ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون))
وكذا قال ابن مسعود تلميذ محمد صلى الله عليه وسلم:
((الكبائر : الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله)) أي: اليأس من نصر الله.
فهذا الدين منصور...يضعف أهله لفترة من الزمن بمقدار تفلتهم منه. لكنه لن يُجتث ولن يندرس. ولن تهلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والذي يحاول القضاء على الإسلام أسْفَهُ ممن ينقطع جوفه ويحمر وجهه وهو ينفخ على الشمس ليطفئ نورها:
((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (8) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (9) )) (الصف).
فهذا الدين منصور. قال عليه الصلاة والسلام: ((بشر هذه الأمة بالسناء والتمكين في البلاد والنصر والرفعة في الدين. ومن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة نصيب)).(قال الألباني: إسناده صحيح على شرط البخاري). فالذي يعمل بعمل الآخرة من أجل الدنيا كأنه أحس بأن قضية الدين خاسرة فلا حاجة إلى التضحية من أجلها. فقال: (إذن أكسب بهذا العمل مكانة عند الناس لأنال شيئا بدلا من الخروج صفر اليدين)!
وقال عليه الصلاة والسلام: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار. ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين. بعز عزيز أو بِذُل ذليل: عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يُذل به الكفر)) (رواه أحمد وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم).(1/54)
وقد بشر عليه الصلاة والسلام بفتح القسطنطينية ثم رومية (روما) في الحديث الذي قال فيه الذهبي (على شرط البخاري ومسلم). أما قسطنطينية فقد فتحت كما بشر عليه الصلاة والسلام، وبعد 800 سنة من بشرى النبي. وأما روما فلم تُفتح بعدُ. فنحن نوقن بأن ذلك كائن وأن المسلمين عندما يعز أمرهم فلن تقتصر العزة على استرداد ما احتل من أراضيهم. بل سيعودون إلى مبادأة الكفار بالقتال ونشر سلطان الإسلام في ربوع الأرض. فاللهم اجعل لنا من ذلك نصيبا.
فإلى كل من لا زال في شك من وعد الله بعد هذا كله:
((من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة)) أي: من كان سيئ الظن بالله، فيظن أن الله سيخذل دينه ونبيه في الدنيا والآخرة... ((فَلْيمدد بسبب إلى السماء)) فليربط حبلا على عنقه ويربط طرفه الآخر بسقف بيته (فكل ما علاك فأظلك فهو سماء)... ((ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ)) لِيشنق نفسه... فإن كان وعد الله لا يشفي صدر المنافق من الشك والهلع ولا يقطع أمل الكافر في القضاء على الإسلام فلعل قطع الأعناق يفي بالغرض!
إن ربي لطيف لما يشاء:
فإن كنت يا أخي من المؤمنين لكنك يهولك ما ترى من انتفاش الباطل وتسلط أهله ولا يستوعب عقلك كيف يمكن أن ينصر الله دينه مع أن الأسباب المادية ليست في صالح الدين البتة فأقول لك ليطمئن قلبك:
((إن ربي لطيف لما يشاء. إنه هو العليم الحكيم (100) )) أي: إذا أراد أمرا قيض له أسبابا وقدره ويسره بطريقة لطيفة لا تخطر بالبال. فمن كرب شديد إلى فرج عجيب، ومن ضعف إلى عزة وتمكين.
فهذه الآية حكاية عن يوسف عليه السلام الذي نقله الله من ظُلمة السجن إلى كرسي حكم يتبوأ من الأرض حيث يشاء برؤيا أُريَها الملك.
إن ربي لطيف لما يشاء
وهو سبحانه بعد ذلك جعل فرعون يلتقط موسى من تابوت في البحر ويربيه في بيته ليكون هلاك فرعون وجنوده على يد موسى عليه السلام
إن ربي لطيف لما يشاء(1/55)
وهو سبحانه الذي ألقى الإيمان في قلب نعيم بن مسعود يوم غدر بنو قريظة وأُتي المؤمنين من فوقهم ومن أسفل منهم فخَذَّل بين المشركين واليهود... ثم أرسل الله ريحا وكفى المؤمنين القتال
إن ربي لطيف لما يشاء
وهو سبحانه الذي جعل "فاطميي" مصر يقتتلون فيستنجد بعضهم على بعض بنور الدين زنكي فيرسل صلاح الدين، لتبدأ رحلة تطهير مصر منهم وتنضم مصر المعادية إلى دولة صلاح الدين فيحارب بها الصليبيين.
إن ربي لطيف لما يشاء
وهو سبحانه الذي جعل التتار يبيعون سيف الدين قطز في السبي بدراهم معدودة ليكون هلاكهم على يديه.
إن ربي لطيف لما يشاء
وهو سبحانه الذي جعل الجيش الروسي يدرب أفرادا من الشيشان فيقودون بعد ذلك الجهاد الشيشاني على الروس ويمرغون أنف روسيا في التراب.
إن ربي لطيف لما يشاء
وغير ذلك كثير. يمكر الكافرون فينقلب مكرهم عليهم:
((ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين))
((ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله))
يكيدون كيدا بشريا هزيلا في مقابل كيد جبار السماوات والأرض سبحانه وتعالى:
((إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا))
ينفقون أموالهم في الصد عن سبيل الله فتنقلب عليهم:
((إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغلبون))
فيا أخي المؤمن لا تشغل نفسك بـ"كيف يمكن أن ينصر الله دينه؟" ولكن اشغل نفسك بأن تكون من الطائفة المنصورة العاملة لهذا الدين... فيكون لك شرف الإسهام في نصر الأمة ولو كان هذا النصر بعد مماتك. جعلني الله وإياك منهم.
9) الحرص على الدنيا والتسخط عند البلاء
فالمنافق يشترط أن يجلب الإسلام له منفعة دنيوية عاجلة ليرضى به دينا. كيف لا وحدود بصيرته تقف عند الحدود الدنيا للدنيا، والجزاء الأخروي ليس في حساباته لأنه يشك في الآخرة أصلا. قال تعالى واصفا المنافقين:
((ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون))(1/56)
وكم قال موتوروهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (اعدل فإنك لم تعدل)! كم مرة جرحوا قلبه الكبير بهذه الكلمات الخسيسة التي ما قالوها إلا جشعا وشرها وتطلعا إلى ما ليس لهم بحق... وهكذا المنافق، يرضى عن الدين بمقدار ما يتحقق له من متاع دنيوي، لأنه ما أسلم طمعا في رضوان الله وإنما أضمر في قلبه أن يتخذ الإسلام سُلَّما إلى متاع الدنيا.
- روى البخاري عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله تعالى: ((ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين)) قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: (هذا دينٌ صالح)، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: (هذا دينُ سوء).
فالمتعوس اعتبر تحقُّق متاع الدنيا دلالة على صحة الإسلام، فإذا تعرض لابتلاء ضاع منه ما تأمل واعتبر ذلك دلالة على بطلان الإسلام!! فأي ضيق في الأفق ومحدودية في النظرة!!
وكم رأينا في واقع حياتنا من أناس يتسخطون على ربهم عند أدنى بلاء، وتسوء منهم بالله الظنون. فهؤلاء المدعو عليهم بالتعاسة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط. تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)) (البخاري).
فعبد الدرهم والدينار يتنقل بين المبادئ والمنهجيات بحثا عن المال. وقد لا ينسلخ من الإسلام صراحة بل يغير ويبدل بهواه و يزعم أن ما هو عليه موافق للإسلام... يلهث وراء بريق الدرهم على يديه ورجليه كالكلب، فلعل الأشواك تدخل في يديه ورجليه في سعيه هذا...وإذ ذاك فـ(لا انتقش)...أي لا خرجت منه الشوكة كما دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي المقابل يدعو النبي صلى الله عليه وسلم في تتمة الحديث للمؤمن عبدِ الله، لا عبدِ الدنيا فيقول:
(((1/57)
طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفَّع))
فقد بدت علامات التضحية في سبيل الله في شعث رأس هذا المؤمن وتغبُّر قدميه وإمساكه بعنان الفرس ليتوجه به حيثما سمع نداء الجهاد، لكنه مع ذلك لم ينل شيئا من الدنيا، ولا حتى الاحترام...فهو إن استأذن أميره في الجهاد لم يأذن له، وإن جاء شفيعا لأحد رده أميره مخذولا ولم يلتفت إليه ولا لشفاعته...سوءَ تصرف من هذا الأمير...فلعله يأتي الأمير فيقول له: سمعت أن أحد أولادي مريض فأذن لي أن أغادر المعسكر للاطمئنان عليه ثم أعود، فيرفض الأمير... ولعل جنديا يسيء فَيَهِمُّ الأمير بتعزيره فيطلب الجندي شفاعة صاحبنا المؤمن لأنه ظن أن تضحيات المؤمن جعلته وجيها عند الأمير، فيأتي صاحبنا ليشفع فإذا بالأمير يرفض شفاعته ويعزر الجندي ويكسر قلب المؤمن...
فهل دفعه ذلك إلى أن ينقلب على عقبيه ويترك الجهاد والتضحية؟ لا بل على العكس، يمتثل الأوامر...فإن أمره الأمير بأن يسهر والناس نيام للحراسة استجاب ووقف حارسا أمينا لجيش المسلمين...وإن أمره الأمير أن يتأخر في ذيل الجيش (الساقة) يجمع المتاع الساقط من أفراد الجيش ويساعد من أبطأ لِعَطَبٍ فيه أو في ركوبته امتثل أمر الأمير، مع أن الأمير لم يكرمه في شيء... وليس ذلك كله عن نقص عزة في نفسه ولكن لأنه لا يتعامل مع الأمير وإنما مع رب الأمير سبحانه وتعالى...ولا يبتغي الأجر والإكرام من الأمير وإنما ابتغى وجه ربه الأعلى...فلسوف يرضى...فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا له بـ(طوبى).
هكذا المؤمن، يقدم كل شيء، ويضحي بكل شيء، ولا يسخط إن لم يعجل الله له الجزاء في الدنيا وادخر له أجره كاملا ليوم القيامة...
أما المنافق، فلا يريد أن يقدم شيئا إلا إذا كان المقابل الدنيوي مضمونا! قال تعالى:
(((1/58)
سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم))
فهؤلاء تخلفوا عن عمرة الحديبية التي وعد الله من شهدها بمغانم خيبر. فلما علموا أن خيبر ستُفتح على المسلمين سارعوا يطالبون بالسماح لهم أن يشهدوا غزوة خيبر! لماذا؟ لأن فيها الغنيمة! أما في الحديبية فلم يك ثم غنيمة دنيوية موعودة فما حرصوا عليها.
فرد الله تعالى عليهم: ((يريدون أن يبدلوا كلام الله)) فالله وعد مغانم خيبر لأهل الحديبية خاصة. ثم قال تعالى:
(( قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا)) سيرمون المؤمنين بتهمة أنهم يمنعونهم من الخروج إلى خيبر استئثارا بالدنيا عنهم فرد الله تعالى بأن المخلفين: ((بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا))...ثم أعطاهم الله تعالى فرصة أخرى ليعدلوا نواياهم ويبرهنوا على استعدادهم للتضحية دون ضمان المقابل الدنيوي فقال:
((قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا)) قال الطبري في تأويل الأجر الحسن أنه الجنة. وكأن الله تعالى لم يضمن الغنيمة الدنيوية في هذه الفرصة للمخلفين كما ضمنها في خيبر للمؤمنين. فإن كان هؤلاء المخلفون يرضون بالجنة برهنوا على ذلك بطاعة الله في النفير إلى القوم أولي البأس الشديد. ((وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما))
وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بائعي الدين من أجل الدنيا بقوله:
((بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم. يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا. أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا. يبيع دينه بعرض من الدنيا)) (مسلم).
عدم الاستعداد للتضحية في سبيل الله:
ومن كان هذا حالَه في اشتراط المنفعة الدنيوية ليرضى بالإسلام دينا فلن يكون على استعداد للتضحية في سبيل الله تعالى. قال الله تعالى:
(((1/59)
ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله)) فدعوى الإيمان باللسان سهلة. لكنهم لما أوذوا في سبيل الإيمان الذي ادعوه تزلزلت قلوبهم وتركوا الدين الذي ادعوه لأن قلوبهم الضعيفة رأت هذا الأذى الدنيوي مساويا لعذاب الله الشديد في الآخرة، فاختاروا الردة ليسلموا من أذية الدنيا ولو أدى ذلك بهم إلى عذاب الله.
وَلَيْتَهم وقفوا عند هذا الحد، بل: ((ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم)) فإن ارتفعت الأذية وتحقق للمسلمين نصر عاد هؤلاء المنافقون إلى دعوى الإيمان لينالوا نصيبا من هذا الخير الدنيوي! يخادعون الله والذين آمنوا، فقال الله تعالى: (( أَوَليس الله بأعلم بما في صدور العالمين (10) وَلَيَعْلَمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين (3) ))
فلا زالت البلايا تصيب الناس ليُعرف بها المؤمن من المنافق. قال الله تعالى:
((ما كان الله لِيَذَرَ المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب))
والمنافق خبيث ليس من أهل التضحية. فلا يسقط عند الاختبارات الصعبة فحسب، بل عند أدنى بلاء...
رأيت سفيها شاب شعره سُرق حذاؤه في المسجد إثر صلاة جمعة فصاح و"هدد" بأنه لن يصلي بعد اليوم في المساجد...ولا أدري يهدد مَن! أهو بذلك يهدد السارق؟ فالسارق لا يهمه أصلى الناس في المساجد أم لم يصلوا إلا ليسرق أحذيتهم...أم هو يتوعد الله تعالى؟! فالله هو الغني الحميد، لا ينقص من ملكه شيئا أن يجتمع الناس على أفجر قلب رجل فيهم... ولكن المنافقين لا يفقهون.
دخلت النار امرأة في هرة حبستها، ورُب أناس قد يدخلون النار في حذاء لم يصبروا على فقدانه! ولا أدري! إن كانوا لا يتحملون أن يبذلوا حذاء فكيف يبذلون أنفسهم في سبيل من قال: ((إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون))!(1/60)
ومن في قلبه نفاق لا يسقط عند بلاء الضراء فحسب، بل إنه لا يصبر على فوات ما يراه مصلحة دنيوية له، وإن كان في هذه المصلحة محرم، كالقرض الربوي وبيع السلع المحرمة. فإذا دعوته إلى تركها فجوابه المعد على الفور: (ما البديل؟)! البديل الصبر على فوات هذه المصلحة...البديل التقنُّع بما عند الله تعالى...ولكن المنافقين لا يفقهون.
ولينظر كل منا في نفسه...هل إذا قيل له كُفَّ عن هذا الحرام قال نعم، ولا بد من التضحيات. أم يقول ما البديل فيكون في قلبه نفاق؟
وأود هنا أن أنقل عبارات عظيمة لابن القيم يصف بها داء سوء الظن بالله، وهذا الداء قرين النفاق في قلوب لم تعرف حق ربها عز وجل، فافترضت أن لها على الله "واجبات". فإن أُنقصت شيئا من هذه الـ"واجبات" ساء ظنها بربها، وخرج ما كان في هذه القلوب من قيح وصديد وحثالة فظهر على فلتات الألسن. ولا والله لا يكون هذا من قلب صفا وده لربه وعَظَّم قدره. قال ابن القيم:
فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ولسان حاله يقول ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه... وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به. ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده ولو فتشت من فتشته لرأيت عنده تعتبا على القدر وملامة له واقتراحا عليه خلاف ما جرى به وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا فمستقل ومستكثر. وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا(1/61)
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع وليتب إلى الله تعالى وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء ومنبع كل شر... فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام والحكمة التامة المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه... وأفعاله كذلك كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل وأسماؤه كلها حسنى
فلا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل
ولا تظنن بنفسك قط خيرا ... وكيف بظالم جان جهول
وقل يا نفس مأوى كل سوء ... أيرجى الخير من ميت بخيل
وظن بنفسك السوآى تجدها ... كذاك وخيرها كالمستحيل
وما بك من تقى فيها وخير ... فتلك مواهب الرب الجليل
وليس بها ولا منها ولكن ... من الرحمن فاشكر للدليل
(من زاد المعاد بتصرف)
فقول ابن القيم: (فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده) يعني به أن من عنده هذه الصفة النفاقية إن وُضع على المحك بتعرضه لاختبار فإن سوء ظنه بالله وجزعه وقلة صبره ستظهر على صفات وجهه وفلتات لسانه.
أما المؤمن فإنه يثبت عند الشدائد، وهذا الثبات رزق يرزقه الله من كان يتقيه في أيام الرخاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
والمنافقون ما اتقوا الله في رخائهم فما ثبتهم عند الشدة.
نسأل الله الرضا عند القضاء والثبات في الأمر وإذا أراد فتنة في القوم أن يقبضنا إليه غير مفتونين.(1/62)