سلسلة اقرأ (1)
منشورات الدعوة السلفية
كتاب رقم ( 77 )
نور على الدرب
كلمات في الدعوة والمنهاج
إعداد
أبي عبد الرحمن السلفي المقدسي
هشام بن فهمي العارف
?
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102)سورة آل عمران.
(يا أيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1)سورة النساء.
(يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)سورة الأحزاب.
أما بعد،
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
فهذه بفضل من الله تعالى سلسلة اقرأ جمعتها هنا تحت عنوان "نور على الدرب، كلمات في الدعوة والمنهاج" بعد أن كانت مفرقة على شكل مقالات، وهذه المقالات نشرت في جريدة القدس "جريدة يومية سياسية تأسست سنة 1951" في القدس ـ فلسطين، وفي مجلة الأصالة "رسالة إسلامية منهجية جامعة" الناشر لها: مركز الألباني للدراسات المنهجية والأبحاث العلمية ، في عمان ـ الأردن، وفي مجلة السبيل التي كانت تصدرها جمعية القرآن والسنة في قلقيلية ـ فلسطين.(1/1)
وهذه المقالات هنا مسلسلة من رقم 1 إلى رقم 25 مجموعة في هذا الكتاب تحت عنوان سلسلة اقرأ (1) ومن ثم يليها إن شاء الله سلسلة اقرأ (2) كلما سنحت الفرصة لجمع مقالات أخرى.
وإليك المقالات:
1. اقرأ : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11235 تاريخ 4/9/1421الموافق 30/11/2000.
2. اقرأ وداوم النظر في الكتب النافعة: نشرتها جريدة القدس ، العدد 11234 تاريخ 3/9/1421 الموافق 29/11/2000.
3. الفهم الصحيح نعمة: نشرتها جريدة القدس ، العدد 11779 تاريخ 26/3/1423 الموافق 7/6/2002.
4. العلم النافع: نشرتها جريدة القدس ، العدد 10891 تاريخ 13/9/1420 الموافق 21/12/1999.
5. الصراط المستقيم: نشرتها جريدة القدس ، العدد 10886 تاريخ 4/9/1420 الموافق 12/12/1999.
6. صراط المرسلين: نشرتها جريدة القدس ، العدد 10900 تاريخ 7/9/1420 الموافق 26/12/1999.
7. محمد صلى الله عليه وسلم مأمور باتباع ما أوحي إليه: نشرتها جريدة القدس ، العدد 10984 تاريخ 18/12/1420 الموافق 24/3/2000.
8. معنى قوله سبحانه وتعالى في سورة المزمل: (إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً): نشرتها جريدة القدس ، العدد 11238 تاريخ 7/9/1421 الموافق 3/12/2000.
9. عقيدة التوحيد في دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: نشرتها جريدة القدس ، العدد 11716 تاريخ 22/1/1423 الموافق 5/4/2002.
10. الفقيه الرباني: نشرتها جريدة القدس ، تاريخ 7/11/1420 الموافق 11/2/2000.
11. العلماء ورثة الأنبياء: نشرتها جريدة القدس ، العدد 10917 تاريخ 8/10/1420 الموافق 14/1/2000.
12. العلماء حكماء: نشرتها جريدة القدس ، العدد 10890 تاريخ 8/9/1420 الموافق 16/12/1999.
13. فضل العلماء: نشرتها جريدة القدس ، العدد 10888 تاريخ 6/9/1420 الموافق 14/12/1999.
14. منازل العلماء: نشرتها جريدة القدس ، العدد 10877 تاريخ 25/8/1420 الموافق 3/12/1999.(1/2)
15. طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل الله: نشرتها جريدة القدس ، تاريخ 16/1/1421 الموافق 21/4/2000.
16. قصة إسلام الصحابي سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ: نشرتها مجلة السبيل ، العدد العاشر ، ربيع أول 1420.
17. من سير الصالحين ..قصة أبي القرن: نشرتها مجلة الأصالة ، العدد 35 ، شعبان/1422.
18. الإيمان أولاً لو كانوا يعلمون: نشرتها جريدة القدس ، العدد 11772 تاريخ 19/3/1423 الموافق 31/5/2002.
19. صدق ووفاء ..أين نحن منه: نشرتها جريدة القدس ، العدد 11591 تاريخ 11/9/1422 الموافق 26/11/2001.
20. وسوسة الشيطان: نشرتها جريدة القدس ، العدد 10893 تاريخ 11/9/1420 الموافق 19/12/1999.
21. بطلان الابتداع وفضيلة الاتباع: مقدمة في مقالة "وحدة الصف من تسوية الصف".
22. عاقبة الابتداع والغلو في الدين: نشرتها جريدة القدس ، العدد 11603 تاريخ 23/9/1422 الموافق 8/12/2001.
23. خطر اتباع الهوى: نشرتها جريدة القدس ، العدد 10909 تاريخ 27/9/1420 الموافق 4/1/2000.
24. إن بني إسرائيل لما هلكوا قصوا: من دروس تبسيط العقيدة الإسلامية.
25. إن الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة: من دروس تبسيط العقيدة الإسلامية.
(1)
اقرأ(1/3)
في الصحيحين ـ واللفظ للبخاري ـ وغيرهما، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ ـ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَه الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ اْلأكْرَمُ ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ..الحديث.
اقرأ .. نبه الله بها على أعلى أسباب القرب إليه وهو العلم
إن مما يبين أهمية وفضل العلم والتعليم، نزول أول آيات من القرآن الكريم فيها حض على القراءة والأمر بها، بل وكرر الأمر فيها بالقراءة تنبيها على التزام أقوى أسباب السعادة.(1/4)
ثم ذكر القلم إبرازاً لمكانته وأهميته في حفظ العلم وتبليغه، قال العلامة السنوسي - رحمه الله - نقلاً عن بعض الشيوخ: "مقصد السورة والله أعلم، إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى اصطفاه بأن جعله إنسانا أولاً، وفضَّله على بني جنسه من المصطفين وغيرهم بما خصه به من العلوم والمعارف الموجبة منزلة القرب، وأنه خلقه للانقطاع لعبادته، وضمن له ما يهمه من أمر عدّوه، فقيل له في فاتحتها ( اقرأ ) فنبه على أعلى أسباب القرب وهو العلم، وحض في خاتمتها على نتيجة العلم وهو العلم المقرّب إليه جل وعلا، فقيل له ( اسجد واقترب ) وحاصله إعلم واعمل".
وقال تعالى في سورة العلق:
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
قال الزجاج: أي علم الإنسان الخط بالقلم. وقال ابن كثير: وفي الأثر: قيدوا العلم بالكتابة.
وقال الزمخشري في الكشاف: فدل على كمال كرمه، بأنه علم عباده ما لم يعلموا. ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ولا كتب الله المنزلة، إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به.أ.هـ
وقال تعالى في سورة المائدة: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ...(110).
فقوله تعالى: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ) أي: الخط الذي هو مبدأ العلم.
وقد ذكر القلم في السنة أنواعا متفاوتة، وكلها بالغة الأهمية:(1/5)
منها: أولها وأعلاها: القلم الذي كتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة، والوارد في الحديث: (إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم، وأمره أن يكتب كل شيء يكون).
ثانيها: القلم الذي يكتب به الملك في الرحم ما يخص العبد من رزق وعمل، والوارد في الحديث: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ: يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ، يَا رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟، شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟، فَمَا الرِّزْقُ وَالأجَلُ؟ فَيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ).
ثالثها: القلم الذي بأيدي الكرام الكاتبين كما في قوله تعالى في سورة الانفطار: (كِرَامًا كَاتِبِينَ(11).
رابعها: القلم الذي بأيدي الناس يكتبون به ما يعلمهم الله، ومن أهمها أقلام كتّاب الوحي، الذين كانوا يكتبون الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتابة سليمان إلى ملكة سبأ.
وقال الشنقيطي: وقوله تعالى: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) شامل لهذا كله، إذا كان هذا كله شأن القلم وعظم أمره، وعظيم المنّة به على الأمة، بلى وعلى الخليقة كلها.
الأمر بكتابة العلم
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة العلم، صح ذلك من حديث أنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن العباس: ( قيّدوا العلم بالكتاب)(1) وعن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضى! فأمسكت عن الكتاب وذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: (اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلا حَقٌّ).
(2)
اقرأ وداوم النظر في الكتب النافعة(1/6)
الكتاب حاضر نفعه، مأمون ضره ينشط بنشاطك، فينبسط إليك، ويمل بملالك، فينقبض عنك، إن أدنيته دنا، وإن أنأيته نأى، لا يبغيك شراً، ولا يفشي عليك سراً، ولا ينم عليك، ولا يسعى بنميمة إليك.
نعم المحدث والرفيق كتاب تلهو به إن خانك الأصحاب
لا مفشياً للسر إن أودعته وينال منه حكمة وصواب
فاجعل الكتاب جليسك في الوحدة، وأنيسك في الخلوة فقد قيل لرجل: من يؤنسك؟ فضرب على كتبه، وقال: هذه. فقيل: من الناس؟ فقال الذين فيها.
ولذلك كان العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ يحرصون على مداومة النظر في الكتب لأنها خزائن تحصيل العلم.
قال الأستاذ محمد كرد علي في كتابه "كنوز الأجداد" في ترجمة الإمام ابن جرير الطبري (صفحة:123):
وما أثر عنه أنه أضاع دقيقة واحدة من حياته في غير الإفادة والاستفادة، روى المعافى بن زكريا عن بعض الثقات، أنه كان بحضرة أبي جعفر الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ قبل موته، وتوفي بعد ساعة أو أقل منها فذكر له هذا الدعاء عن جعفر بن محمد، فاستدعى محبرة وصحيفة فكتبه، فقيل له: أفي هذه الحال ؟! فقال: ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتى الممات.
وجاء في كتاب "تبيين كذب المفتري" للحافظ ابن عساكر(صفحة:263) و"طبقات الشافعية الوسطى" لتاج الدين السبكي" في ترجمة الإمام سُليم الرازي المتوفى (447هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ قول التاج السبكي فيه: كان رحمه الله من الورع على جانب قوي، يحاسب نفسه على الأوقات، لا يدع وقتاً يمر بغير فائدة، إما ينسخ أو يدرِّس أو يقرأ، وينسخ شيئاً كثيراً.
وقال الحافظ الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (3/1141) في ترجمة الخطيب البغدادي، مؤرخ بغداد ومحدثها، المولود سنة 392 والمتوفى 463 هـ ـ رحمه الله تعالى ـ: كان الخطيب يمشي وفي يده جزء يطالعه لحرصه على الوقت والانتفاع به في طلب العلم.
وقالوا:
اليوم شيء وغداً مثله من نخب العلم التي تلتقط
يحصل المرء بها حكمة وإنما السيل اجتماع النقط(1/7)
وفي كتاب "تقييد العلم" (صفحة:140): وكان أبو بكر الخياط النحوي يدرس جميع أوقاته حتى في الطريق وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "ذيل طبقات الحنابلة" (1/142 - 162) - يحكي عن الإمام أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي (علي بن عقيل البغدادي) : وكان من أفاضل العالم، وأذكياء بني آدم، مفرط الذكاء، متسع الدائرة في العلوم، وكان يقول: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن المطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة. وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفراً على مطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه، وإن أجل تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص فالتكاليف كثيرة والأوقات خاطفة.
ولذلك قال ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ: فسبيل طالب الكمال في طلب العلم، الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة، فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة، ..فالله الله وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم.
وقال ـ رحمه الله ـ في كتابه "صيد الخاطر" (صفحة:440 -441): ومع ما في الكتب من المنافع العميمة والمفاخر العظيمة، فهي أكرم مال، وأنفس جمال، والكتاب آمن جليس وأسر أنيس، وأسلم نديم، وأفصح عليم.
وفي كتاب "سير أعلام النبلاء" (23/313) كتب الذهبي عن محمد بن عبد الله السلمي المرسي الأندلسي: كتب وقرأ وجمع من الكتب النفيسة كثيراً، ومهما فتح به عليه صرفه في ثمن الكتب.(1/8)
فاحرص أخي طالب العلم على تحصيل العلم النافع من الكتب النافعة واسترشد بأهل العلم أتباع السلف الصالح في أي الكتب تنفق أموالك، وفي أي الكتب تصرف أوقاتك.
ومن أجمل ما قاله ابن الأعرابي:
لنا جلساء ما نمل حديثهم البّاء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا
بلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة لا نتقي منهم لساناً ولا يدا
فإن قلت أموات فما أنت كاذباً وإن قلت أحياء فلست مفندا.
(3)
الفهم الصحيح نعمة
إن الفقه في الدين لا يتم إلا بطلب وسعي لتحصيله بهمة ونية، فلا يمكن أن يأتي الفقه في الدين لأي إنسان ما لم يسعى لتحصيله.
في سورة المجادلة قال الله تعالى:
(..يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ درَجَاتٍ..(11).
قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (17/194): والمعنى: أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم " درجاتٍ " أي: درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به.أ.هـ
وقال الفخر الرازي في الكبير (15/271): ولذلك فإنه يقتدى بالعالم في كل أفعاله، ولا يقتدى بغير العالم، لأنه يعلم من كيفية الاحتراز عن الحرام، والشبهات، ومحاسبة النفس ما لا يعرفه غيره، ويعلم من كيفية الخشوع والتذلل في العبادة ما لا يعرفه غيره، ويعلم من كيفية التوبة وأوقاتها وصفاتها ما لا يعرفه غيره، ويتحفظ فيما يلزمه من الحقوق ما لا يتحفظ منه غيره، وفي الوجوه كثرة، لكنه كما تعظم منزلة أفعاله من الطاعات في درجة الثواب، فكذلك يعظم عقابه فيما يأتيه من الذنوب، لمكان علمه حتى لا يمتنع في كثير من صغائر غيره أن يكون كبيرا منه.أ.هـ
وقد شبَّهَ الرسول صلى الله عليه وسلم، العالِمَ الذي يفقه الدِّين، ويعلِّمه، ويعمل به، وينشره بين الناس، بالأرض الطيبة التي تقبل المطر، وتنبت فيشرب منها الناس الماء ويرعوا منها أنعامهم وتنتج الخيرات بإذن الله.(1/9)
فقد أخرج البخاري - واللفظ له -، ومسلم في صحيحيهما، والإمام أحمد في المسند، والإمام البغوي في "شرح السنة":
عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأ والْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ.
قال الإمام البغوي - رحمه الله -: فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل مثل العالم كمثل المطر، ومثل قلوب الناس فيه، كمثل الأرض في قبول الماء، فشبه من تحمَّل العلم والحديث وتفقَّه فيه بالأرض الطيبة، أصابها المطر فتنبت، وانتفع بها الناس، وشبَّه من تحمَّله ولم يتفقَّه، بالأرض الصُّلبة التي لا تُنبت، ولكنها تُمسك الماء، فيأخذه الناس، وينتفعون به، وشبَّه من لم يفهم، ولم يحمِل بالقيعان التي لا تُنبت، ولا تمسك الماء، فهو الذي لا خير فيه.
قال ابن القيم - رحمه الله - في " إعلام الموقّعين 1/87":(1/10)
صحة الفهم، وحسن القصد، من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل، ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليه الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم، الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل..، ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى.أ.هـ
لذلك فقد نص كثير من السلف رضوان الله عليهم على أن من أسس طلب العلم: حسن الفهم.
قال الخطيب البغدادي في الجامع ( 2/174): العلم هو الفهم والدراية، وليس بالإكثار والتوسع في الرواية.
وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/124): والذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار دون تفقه ولا تدبر.
إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ
روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه قال: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ وَهِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَحَدَّثَنَا فُضَيْلٌ عَنْ هِشَامٍ قَالَ: وَحَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ:
إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ .
وقال: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ عَاصِمٍ الأحْوَلِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ:(1/11)
لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ.
ورواه أيضا الترمذي في كتاب "العلل" عن ابن سيرين ولفظه:
كَانَ فِي الزَّمَنِ الأوَّلِ لا يَسْأَلُونَ عَنِ الإسْنَادِ فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ سَأَلُوا عَنِ الإسْنَادِ لِكَيْ يَأْخُذُوا حَدِيثَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَيَدَعُوا حَدِيثَ أَهْلِ الْبِدَعِ.
(4)
العلم النافع
ختم الله تعالى سورة جليلة من سور القرآن وهي سورة الصافات ، وقد نفى فيها ضلال المشركين وسوء اعتقادهم ، ونسبتهم إلى الله ما هو منه بريء فقال في آخر السورة :ـ
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ(181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182).
ولذلك يلحُّ القرآن على أنَّ الأنبياء هم الأَدِلاَّءُ على ذات الله وصفاته الحقيقية ، التي لا يشوبها جهل ولا ضلال ولا سوء فهم، ولا سوء تعبير ، ولا سبيل إلى معرفة الله تعالى الصحيحة إلاّ ما كان عن طريقهم، لا يستقل بها العقل ، ولا يغني فيها الذكاء، ولا تكفي سلامة الفطرة ، وحدة الذهن والإغراق في القياس ، والغنى في التجارب 0 وقد ذكر الله تعالى هذه الحقيقة الناصعة على لسان أهل الجنة وهم أهل الصدق وأهل التجربة 0 وقد أعلنوا ذلك في مقام صدق : (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ (43) ( سورة الأعراف : 43 ) 0 وقرنوا هذا الاعتراف والتقرير بقولهم :ـ
لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ(1/12)
فدلَّ على أنَّ الرسل وبعثتهم هي التي تمكنوا بها من معرفة الله تعالى، وعلم مرضاته وأحكامه والعمل بها : يعني ذلك باختصار (العلم النافع) الذي تمكنوا به من الدخول في الجنة والوصول إلى دار النعيم0
وتكفَّل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وانفردوا بالعلم النافع ، وقد حكى الله تعالى قصة الأمم التي غلب عليها الزهو والتيه واستصغرت شأن الأنبياء والمبعوثين في عصرها ، الذين اشتهروا بامتياز في علوم من العلوم السائدة ، فقال في سورة غافر: (( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(83)0
والعلم النافع الذي ينشره الأنبياء بين الناس ، والعقيدة التي يدعون إليها ، والدعوة التي يقومون بها ، لا تنبع من ذكائهم ، أو حميتهم ، أو تألّمهم بالوضع المزري الذي يعيشون فيه ، أو من شعورهم الدقيق الحسِّاس، وقلبهم الرقيق الفياض ، أو تجاربهم الواسعة الحكيمة ، لا شيء من ذلك ، إنَّما مصدره الوحي والرسالة التي يصطفون لها ويكرمون بها ، فلا يقاسون أبداً على الحكماء أو الزعماء أو المصلحين وجميع أصناف القادة التي جربتهم البشرية وتاريخ الإصلاح (1) 0
لذلك كان قول الله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الشورى:ـ(1/13)
( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52). قال الشنقيطي رحمه الله تعالى : والضمير في قوله تعالى :ـ (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا) راجع إلى القرآن العظيم المذكور في قوله :ـ (رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) ، وقوله:ـ (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ) ومعنى هذا : ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نوراً نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا 0 وسُمِيَ القرآن نوراً لأنه يضيء الحق ويزيل ظلمات الجهل والشك والشرك كقوله تعالى في سورة النساء:ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قد جاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوْرَاً مُبِيْناً). وقوله تعالى في سورة الأعراف:ـ ( واتَّبِعُوا النُّوْرَ الَّذِي أَنْزَلْنَا مَعَهُ).…فيجب على كلِّ مسلمٍ أن يستضيء بنور القرآن ، فيعتقد عقائده ، ويحلُّ حلاله ، ويُحرِّمُ حرامه ، ويمتثلُ أوامره ، ويجتنب ما نهى عنه ، ويعتبر بقصصه وأمثاله 0
(5)
الصراط المستقيم
قال تعالى في سورة الأنعام:
(( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153)0
وقال تعالى في السورة:
( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(39) 0(1/14)
حَّدثَ أبوسلمة بن عبدالرحمن بن عوف قال :ـ سألت عائشة أم المؤمنين : بأي شيءٍ كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل ؟ قالت : كان إذا قام من الليل افتتح صلاته : اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون0 اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم0
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :ـ
(( ولا تكون الطرق صراطاً )) حتى تتضمن خمسة أمور:ـ
1)…الاستقامة 0
2)…الإيصال إلى المقصود 0
3)…القُرب 0
4)…سعته للمارين عليه 0
5) وتعينه طريقاً للمقصود (2) اهـ 0
ثم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خطَّ خطوطاً أخرى عن يمين الخط وعن شماله، وقال :
(( هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه )) 0
قلت:وكأني بالخط المستقيم أرى الخطوط متعوجة متعرجة ، لا تأتي بالمقصود ، غاياتها بعيدة المنال ، بعيدة عن الجنة ، ضيقة حشرة ، متفرقة، مظلمة 0
ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى :ـ
(( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا))،
((فَاتَّبِعُوهُ )) على التعقيب
((وَلاَ تَتَّبِعُوا )) تأكيداً لأمره
((السُّبُلَ)) 000 ضد الصراط المستقيم
((فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )) 000 نتائج الضد
((ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) 0
الفائدة وما دلَّ عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم تفسيره الآية :
01…الوقوف على (العودة إلى ) هذا الخط الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته من بعدهم ، وهو صراط الله المستقيم 0((ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) 0
02…اتباع الخط اتباعاً يشبه تماماً اتباع الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم 0
03…اتباع هذا الخط المرسوم من غير التفات إلى أدنى همسة مخالفة تخرج من شيطان رجيم 0(1/15)
04…التبرُّء من التبعية لغير الله تعالى 0
05…التبرُّء من الابتداع أو العمل خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم0
06…أنَّ الميل عن الخط المستقيم يعني : التفرُّق والانزلاق والوقوع في المهالك 0
07…الانتباه إلى هذه الوصية 0
08…أنّ الصراط المستقيم هو سبيل المتقين 0
…وقال تعالى في سورة البقرة:ـ ((ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)0
فمخالفة أمر الله تعالى والانحراف عن هذا الخط الذي رسمه لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال :ـ (( يا أيها الناس إنَّما أنا رحمة مُهْداة ))، يعني : انتهاج مسالك أهل الخلاف على الله وعلى رسوله ، والابتعاد عن جادة التقوى التي وصَّاكم رب العالمين اتخاذ أسباب التعقل فيها، وأنه لعلكم تذكرون 0 فالتذكير نافع في حقِّ من تعقَّل واعتبر وعلم أنَّ مخالفة الصراط المستقيم الوقوع في عذاب أليم في الدنيا والآخرة أعاذني الله تعالى وإياكم منه0
قال الله تعالى في سورة الأنعام:ـ ((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65) 0
أخرج البخاري وغيره عن جابر بن عبدالله قال : لما نزلت هذه الآية:ـ
(( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ )) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ـ أعوذ بوجهك ، (( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ))، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ـ (( هذه أهون ، أو أيسر ))0
وأخرج البخاري، ومسلم في صحيحيهما عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : (( استنصت الناس ، ثم قال :ـ (( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )) 0(1/16)
أي: تفعلون فعل الكفَّار في قتل بعضكم بعضاً ، قاله فضيل بن عياض وأيَّده النووي، وهو عندي والله أعلم أولى الأقوال بالصواب ، وفي الحديث : (( سَبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وقِتَالُهُ كُفْرٌ )) 0
(6)
صراط المرسلين
السنة كلَها داخلة في العمل بكتاب الله العزيز لقوله تعالى في سورة الحشر:ـ
(وَمَا آتاكُمُ الرَّسُوْلُ فَخُذُوْهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) .
وقال سبحانه وتعالى في سورة التوبة :ـ ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُوْلَهُ بِالْهُدَى وِدينِ الحَقِّ ) 0
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : فالهدى هو العلم النافع ودين الحق هو العمل الصالح 0 وهكذا قالت الجنُّ : (( يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ )) في الاعتقادات (( وإِلَى طَرِيْقٍ مُسْتَقِيْم )) أي في العمليات 0
لقد أمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، كما أمر من قبله الأنبياء والرسل، دعوة الناس إلى ربهم 0 ففي سورة الحج قال : ( وادْعُ إلى سَبِيْلِ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدَىً مُسْتَقِيْم ) ( الآية : 67 ) 0 وامتثل صلى الله عليه وسلم لأمر الله فكان منه قوله تعالى في سورة المؤمنون : ( وإنَّكَ لَتَدْعُوْهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْم(73)(وإنَّ الَّذِيْنَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لنَاَكِبُون(74).
وكان منه أيضاً الذي تقدم قوله تعالى في سورة الشورى :ـ ( وإنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْم (52) صِرَاطَ اللهِ الَّذِي لُهُ مَا فِيْ السَّماوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تَصِيْرُ الأُمُور (53)0
وأول الذي بدأ به إبراهيم عليه السلام دعوته ، قوله تعالى في سورة مريم :ـ (إذْ قَالَ لأَبِيْهِ يَا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئَاً (42) يَا أبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مَنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صَرَاطاً سَوِيّاً (43).(1/17)
فالهدي يأتي في القرآن بمعناه العام الذي هو البيان والدلالة والإرشاد، ولا ينافي أنَ الهدي قد يُطْلَقُ في القرآن في بعض المواضع على الهدى الخاص الذي هو التوفيق والاصطفاء ، كقوله تعالى في سورة القصص :ـ (( إنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )) ( الآية: 56 ) 0 وقوله تعالى في سورة الشورى :ـ (( وَلكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوْرَاً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا )) ـ ( الآية :52).
فالهدي المُثْبَتِ له صلى الله عليه وسلم ، ولغيره من الأنبياء ، هو الهدى العام الذي هو البيان والدلالة والإرشاد ، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم ، فبيّنَ المحجَّة البيضاء حتى تركها ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك 0
والصراط في لغة العرب : الطريق الواضح والمستقيم الذي لا اعوجاج فيه 0 وقد بيَّنه الله تعالى في سورة الفاتحة :ـ (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ(7)0
كما بيَّن تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم على منهج ودين قويم وشرع مستقيم وهو الإسلام ، فقال في سورة يس : (( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسِلِيْنَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْم (4) ـ الآيتان 3 ، 4) ، أي : وأنت من هؤلاء الذين قد ثبت لهم أنهم على الصراط المستقيم 0 ولقوله تعالى في سورة الصافات في حقِّ موسى وهارون عليهما السلام :ـ (( وَهَدَيْنَاهُمَا الْصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمْ )) ( الآية: 118)0
فيكون بما أرشد إليه القسم والتأكيد في قوله تعالى :ـ (( يَس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيْم (2) ـ (الآيتان 1، 2 من سورة يس ) ، للتعظيم ، والمعنى: أنهم قد ثبت لهم هذا الوصف العظيم ـ وأنت منهم ـ بما شاركتهم فيه من الأدلَّة فليس لأحد أن يخصَّك من بينهم بالتكذيب 0(1/18)
وثبت هذا الوصف في حق إبراهيم عليه السلام ، فقال تعالى في سورة النحل :ـ ( إِنَّ إِبْرَاهِيْمَ كاَنَ أُمَّةً قَانِتَاً ِللهِ حَنِيْفَاً وَلِمْ يَكُ مَنَ الْمُشْرِكِيْنَ ( 120) شَاكِرَاً لأَِنْعُمِهِ اِجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صَرَاطٍ مُسْتَقِيْم ).
وقال تعالى في سورة الأنعام :ـ ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوْبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوْحَاً هَدَيْنَا مَنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُوْبَ وَيُوْسُفَ وَمُوْسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِيْنَ ( 84 ) وَزَكرِيَا وَيَحْيَى وَعِيْسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مَنَ الْصَالِحِيْن(85) وَإِسْمَاعِيْلَ وَالْيَسَعَ وَيُوْنُسَ وَلُوْطَاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِيْنَ ( 86 ) وَمَنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاِجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صَرَاطٍ مُسْتِقِيْم (87)0
فكان مطلع سورة إبراهيم في القرآن العظيم :ـ (أَلر (1) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الْنَّاسَ مَنَ الْظُلُمَاتِ إِلَى الْنُورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صَرَاطِ الْعَزِيْزِ الْحَمِيْدِ (2) 0
أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسَّنه ، والنسائي، وإبن جرير، والآجري ، والبيهقي في شُعَبِ الإيمان ، والحاكم ، وصحَّحه وعزاه السيوطي في الدُّرِ المنثور 1/39 لابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه وهو في "المشكاة" (191) و"صحيح الجامع" ( 3887 ) عن النواس بن سمعان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :ـ(1/19)
( ضرب الله تعالى مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ، ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتعوجوا ، وداع من فوق الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه ، فإنَّك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام ، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم )0
(7)
محمد صلى الله عليه وسلم مأمور باتباع ما أوحي إليه
الاتباع: اقتفاء الأثر، يقال: تبعه واتَّبعه، فتارة يكون بالجسم نحو: تبعته في الطريق، واتبعته فيها. وتارة بالامتثال.
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم باتباع ما أوحى إليه فقال في آخر سورة يونس (10/مصحف، 51/تنزيل ): (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(109). قال ابن كثير: أي تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك واصبر على مخالفة من خالفك من الناس (حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ) أي: يفتح بينك وبينهم، (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) أي: خير الفاتحين بعدله وحكمته.
وقال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ:
(وَاتَّبِعْ) أيها الرسول (مَا يُوحَى إِلَيْكَ) علماً، وعملاً، وحالاً، ودعوةً إليه، (وَاصْبِرْ) على ذلك فإن هذا أعلى أنواع الصبر، وأن عاقبته حميدة، فلا تكسل، ولا تضجر، بل دم على ذلك واثبت.(1/20)
قلت: فلله الحمد والمنَّة، فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالأمر السهل الذي يتصوره البعض إن لم يتبع بالبصيرة في منهج الله في تعبده والتذلل له بالطاعة، فهو منهج الحق ومنهج الأنبياء ومنهج السلف الصالح الذين اتبعوا بإحسان، وإلا فمن أين له الثبات إن لم يكن صبوراً على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، صبوراً على ما يلقى من المكذبين والمبتدعة في الدين لأن عاقبة ذلك النصر المبين، إن شاء الله رب العالمين. لذا ختم الله تعالى الآية بقوله: (حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ).قال السعدي: أي: حتى يحكم بينك وبين من كذبك، فإن حكمه مشتمل على العدل التام، والقسط الذي يحمد عليه، وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه وثبت على الصراط المستقيم، حتى أظهر الله دينه على سائر الأديان، ونصره على أعدائه بالسيف والسنان بعد ما نصره عليهم بالحجة والبرهان.
وللبقاعي في "نظم الدرر" لفتة لطيفة: قال ـ رحمه الله ـ:
أعلمت هذه الآية أن من اتبع الوحي ابتلي بما ينبغي الصبر عليه، وأفهمت أن من كان له أشد اتباعاً كان أشد بلاء.
وفي سورة الأنعام (6/مصحف، 55/تنزيل ) قال الله تعالى: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ(106). قال ابن كثير: أي اقتد به واقتف أثره واعمل به، فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مرية فيه لأنه لا إله إلا هو.
وقال تعالى في سورة الجاثية (45/مصحف، 65/تنزيل): (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ(18).(1/21)
وقال تعالى في سورة الأحزاب وهي سورة مدنية (33/مصحف، 90/تنزيل): (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(2). قال ابن كثير: هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى، وقد قال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله.
وقوله تعالى: (وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) أي: لا تسمع منهم ولا تستشرهم. (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) أي: فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه فإنه عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله.
ولهذا قال تعالى:( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) أي: القرآن والسنة.
قال الإمام الشافعي في " الرسالة ": ولا يخفى على العاقل أن في أمر الله نبيَّه باتباع ما أوحى إليه أمراً لنا.
(8)
معنى قوله سبحانه وتعالى في سورة المزمل:
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً).
1/ الثقل أثناء نزول الوحي على الملائكة.
أخرج أبو داود في "سننه"، وابن خزيمة في "التوحيد"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" وذكره شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (1293) وقال: إسناده صحيح على شرط الشيخين، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(1/22)
(إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِلسَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، فَيُصْعَقُونَ فَلا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ، حَتَّى إِذَا جَاءَهمْ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، قَالَ: فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ مَاذَا قَالَ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: الْحَقَّ، فَيَقُولُونَ: الْحَقَّ الْحَقَّ).
2/ الثقل أثناء نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين وغيرهما ـ واللفظ للبخاري ـ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ( فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ(1) وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي(2) وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ. قَالَتْ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ(3)عَرَقًا.
وأخرج أحمد في "المسند" بإسناد صحيح، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنْ كَانَ لَيُوحَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا(4).(1/23)
وأخرج البخاري في "صحيحه" عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْلَى عَلَيْهِ "لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" قَالَ فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا عَلَيَّ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ".
3/ الثقل بالمعاني العظيمة، والأوصاف الجليلة.
أفاده قوله عز وجل (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ) أي: قريباً بوعد لا خلف فيه فتهيأ لذلك بما يحق له. وما كان بهذا الوصف (ثَقِيلاً) حقيق أن يتهيأ له، ويرتل، ويتفكر فيما يشتمل عليه. قال الفراء: ثقيلاً رزيناً ليس بالخفيف السفساف، لأنه كلام ربنا.
4/ الثقل في التكاليف، فهو ثقيل في فروضه وأحكامه.
أخرج الطبري، وعبد الرزاق في "تفسيره" عن قتادة في قوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً(5) قال: ثقيل والله فرائضه وحدوده. وقال الطبري: إن الله وصفه بأنه قول ثقيل، فهو كما وصفه به ثقيل محمله، ثقيل العمل بحدوده وفرائضه. وقال البقاعي: أي لما فيه من التكاليف الشاقة من جهة حملها وتحميلها للمدعوين، لأنها تضاد الطبع وتخالف النفس. وقال أبو العالية: ثقيلاً بالوعد والوعيد والحلال والحرام.(1/24)
وفي الصحيحين، وغيرهما، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ صَلاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ آخُذَ شُعَلاً مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ بَعْدُ.
قال الشنقيطي: فهو ثقيل من جانب تكاليفه، فقد ثقلت على السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها كما هو معلوم.
وقال ـ رحمه الله ـ: وقد بيَّن الله تعالى أن هذا الثقل قد يخففه الله على المؤمنين كما في الصلاة في قوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ(45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(46). فالقرآن خفيف على المؤمنين محبب إليهم.
5/ الثقل في الأجر والثواب.
أخرج الطبري، ونقله البغوي في "تفسيره" وابن كثير، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قوله: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة. ونقل البغوي أيضاً عن الحسين بن الفضل قوله: قولاً خفيفاً على اللسان ثقيلاً في الميزان.
وفي الصحيحين، وعند الترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وغيرهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
( كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ).(1/25)
وأخرج الترمذي حديث البطاقة عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاً، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ. ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لا تُظْلَمُ قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كَفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتْ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ، فَلا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ.
6/ الثقل على الكفار والمنافقين والمبتدعة.
قال الحسين بن الفضل كما نقله الشوكاني في "فتح القدير": ثقيلاً لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد. وقال البقاعي في "نظم الدرر": هو ثقيل على المخالف من جهة أنه لا يقدر على رده ولا يتمكن من طعن فيه بوجه.
قلت: فالقرآن ثقيل بحججه على الكفار، ثقيل بحججه على المنافقين، ثقيل بحججه على المبتدعة في الدين.
(9)
عقيدة التوحيد في دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
إذا تأملنا القرآن الكريم، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، في الدعوة، نصل إلى حقيقة واضحة كل الوضوح وهي:(1/26)
* أن غالب آيات القرآن الكريم جاءت في تقرير عقيدة التوحيد، توحيد الإلهية والربوبية والأسماء والصفات، والدعوة إلى إخلاص العبادة والدين لله وحده لا شريك له، وتثبيت أصول الاعتقاد ( الإيمان والإسلام ).
* أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى غالب وقته ـ بعد النبوة ـ في تقرير الاعتقاد والدعوة إلى توحيد الله تعالى بالعبادة والطاعة، وهذا هو مقتضى (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
فالدعوة إلى العقيدة تأصيلا وتصحيحا شملت الجزء الأكبر من جهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقته في عهد النبوة.
وإليك بيان ذلك:
1/ أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قضى ثلاثاً وعشرين سنة في الدعوة إلى الله ـ في عهد النبوة ـ منها ثلاثة عشرة سنة في مكة، جلها كانت في الدعوة إلى تحقيق ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) أي الدعوة إلى توحيد الله تعالى بالعبادة والإلهية وحده لا شريك له، ونبذ الشرك وعبادة الأوثان وسائر الوسطاء، ونبذ البدع والمعتقدات الفاسدة.
ومنها عشر سنين في المدينة، وكانت موزعة بين تشريع الأحكام، وتثبيت العقيدة، والحفاظ عليها، وحمايتها من الشبهات، والجهاد في سبيلها، أي أن أغلبها في تقرير عقيدة التوحيد وأصول الدين، ومن ذلك مجادلة أهل الكتاب، وبيان بطلان معتقداتهم المحرفة. والتصدي لشبهاتهم وشبهات المنافقين، وصد كيدهم للإسلام والمسلمين، وكل هذا في حماية العقيدة قبل كل شيء.
فأي دعوة لا تولي أمر العقيدة من الاهتمام كما أولاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ علماً وعملاً ـ فهي ناقصة.(1/27)
2/ إن الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما قاتل الناس على العقيدة (عقيدة التوحيد) حتى يكون الدين لله وحده، تلك العقيدة المتمثلة في شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، على الرغم أن سائر المفاسد والشرور كانت سائدة في ذلك الوقت، ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل الغاية من قتال الناس تحقيق التوحيد، وأركان الإسلام، فقد قال صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيحين وغيرهما ـ: (أمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّ الإسْلامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ).
وهذا لا يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يبال بالأمور الأخرى، من الدعوة إلى الفضائل والأخلاق الحميدة، من ( البر والصلة والصدق والوفاء والأمانة ). وترك ضدها من ( الآثام والكبائر كالربا والزنا والظلم وقطيعة الرحم). وحاشاه ذلك، لكنه جعلها في مرتبة بعد أصول الاعتقاد، لأنه يعلم وهو القدوة، صلى الله عليه وسلم، أن
الناس إذا استقاموا على دين الله وأخلصوا له الطاعة والعبادة، حسنت نيتهم وأعمالهم، وفعلوا الخيرات واجتنبوا المنهيات بالجملة، وأمروا بالمعروف حتى يسود بينهم ويظهر، ونهوا عن المنكر حتى لا يظهر ولا يسود.
إذن فمدار الخير على صلاح العقيدة، فإذا صلحت استقام الناس، على الحق والخير، وإذا فسدت فسدت أحوال الناس، واستحكمت فيهم الأهواء والآثام، وسهلت عليهم المنكرات، وإلى هذا يشير الحديث الذي أخرجه الشيخان، وابن ماجه، والدارمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
( ..أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ).(1/28)
فالرسول صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى كونه دعا إلى إخلاص الدين لله، وقاتل الناس حتى يشهدوا بكلمة الإخلاص، فإنه صلى الله عليه وسلم، كان يدعو إلى جميع الأخلاق الفاضلة، جملةً وتفصيلا، وينهى عن ضدها، جملةً وتفصيلا.
وكما اهتم صلى الله عليه وسلم بإصلاح الدين، كان يعمل على إصلاح دنيا الناس، إنما كان ذلك كله في مرتبة دون الاهتمام بأمر التوحيد وإخلاص الدين لله وحده، وهذا ما يجهله أو يتجاهله المنازع في هذه المسألة.
3/ فإذا تأملنا القرآن الكريم، المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رحمة للعالمين ومنهاجاً للمسلمين إلى يوم الدين، وجدنا أن أغلبه في تقرير العقيدة وتقرير أصولها، وتحرير العبادة والطاعة لله وحده لا شريك له، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن أول شيء نزل في القرآن وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يفعله هو أن يكبر الله ـ تعالى ـ ويعظمه وحده، وأن ينذر الناس من الشرك، وأن يتطهر من الآثام والذنوب وغيرها، ويهجر ما هم عليه من عبادة الأصنام، ويصبر على ذلك كله.
قال تعالى في سورة المدثر: ( يا أيها الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأَنذِرْ(2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3)وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ(6)وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ(7).
ثم استمر القرآن الكريم، يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سائر العهد المكي، لتثبيت العقيدة وتقريرها، والدعوة إلى إخلاص العبادة والدين لله وحده، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.(1/29)
لذلك نجد أن أغلب آيات القرآن الكريم في العقيدة: إما بصريح العبارة، وإما بالإشارة، حيث أن معظم القرآن جاء في تقرير توحيد الإلهية وإخلاص العبادة لله وحده، وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات، وأصول الإيمان والإسلام، وأمور الغيب والقدر خيره وشره، واليوم الآخر، والجنة وأهلها ونعيمها، والنار وأهلها وعذابها، ( الوعد والوعيد)، وأصول العقيدة تدور على هذه الأمور.
وقد ذكر العلماء ومنهم: ابن تيمية وابن حجر العسقلاني رحمهما الله، أن القرآن: ثلث أحكام، وثلث أخبار، وثلث توحيد، وهذا ما فسروا به قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) متفق عليه. فإن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) اشتملت على أعظم التوحيد والتنزيه لله تعالى.
وآيات الأحكام لا تخلوا من ذكر للعقيدة وأصول الدين، وذلك من خلال ذكر أسماء الله وصفاته، وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذكر حكم التشريع....ونحو ذلك.
وكذلك آيات الأخبار والقصص أغلبها في الإيمان والاعتقاد، وذلك من خلال أخبار المغيبات والوعيد واليوم الآخر ونحو ذلك.
وبهذا يتحقق القول: بأن القرآن الكريم وهو الهادي إلى التي هي أقوم إلى يوم القيامة، غالب آياته في تقرير العقيدة والدعوة إليها والدفاع عنها والجهاد في سبيلها. وبهذا نصل إلى نتيجة بينة هي:
أنه على الدعاة الذين جعلوا القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم هديهم، أن يدركوا هذه الحقيقة من القرآن والسنة، ويعملوا بها، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والله الهادي إلى سواء السبيل.
(10)
الفقيه الرباني(1/30)
أخرج الخطيب البغدادي في كتابه ـ الفقيه والمتفقه ـ (1/53) عن أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قال: الفقه في اللغة: الفهم، يقال: فلان لا يفقه قولي. قال الله تعالى في سورة الإسراء: (..وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..(44) أي لا تفهمونه. ثم يقال للعلم الفقه لأنه عن الفهم يكون، وللعالم فقيه، لأنه إنما يعلم بفهمه، على مذهب العرب في تسمية الشيء بما كان له سببا.
وقال تعالى في سورة التوبة (..لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ..(122).
قال الشيخ أحمد بن يوسف بن عبد الدائم المعروف " بالسمين الحلبي " في كتابه عمدة الحفاظ (4/245): أي يطلبون أن يُفَقَّهوا دين الله. وأصل الفقه: الفهم.
قال الإمام ابن حزم ـ رحمه الله ـ:
فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو حصن، أن ينتدب منهم من يطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها، ويتعلم القرآن كله، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام..الخ، ثم يقوم بتعليمهم، فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله، ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المجتهدين في صنوف العلم، وإن بعدت ديارهم، وإن كانوا بالصين.أ.هـ
وكان مالك بن أنس يقول(1): لا ينبغي لأحد يكون عنده العلم أن يترك التعلُّم. وقال القعنبيُّ كما في "سير أعلام النبلاء" (8/108): سمعت مالكا يقول: كان الرجل يختلف إلى الرجل ثلاثين سنة يتعلم منه. وفي كتاب حلية الأولياء (6/320): وقال نافع بن عبد الله: جالست مالكا أربعين سنة ـ أو قال: خمساًوثلاثين سنة ـ كل يوم أبكِّر، وأهجِّر، وأروح.
وفي كتاب الثقات لابن حبان (8/218): وكان حامد بن يحيى البلخي ممن أفنى عمره بمجالسة ابن عيينة.
وقالوا: من لم يحتمل ذلَّ التعليم ساعة، بقي في ذلِّ الجهل أبداً.(1/31)
ونقل جلال الدين السيوطي ـ رحمه الله ـ في كتابه إسعاف المبطأ برجال الموطأ (صفحة 4): عن شعبة بن الحجاج أنه قال: كان مالك أحد المُمَيَّزين، ولقد سمعته يقول: ليس كل الناس يكتب عنهم، وإن كان لهم فضل في أنفسهم، إنما هي أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تؤخذ إلا من أهلها.
وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: لقد أدركت بالمدينة أقواماً لو استسقى بهم القطر لسقوا، وقد سمعوا من العلم والحديث شيئا كثيرا، وما أخذت عن واحد منهم، وذلك أنهم كانوا قد ألزموا أنفسهم خوف الله والزهد، وهذا الشأن يعني الحديث والفتيا يحتاج إلى رجل معه تقى، وورع، وصيانة، واتقان، وعلم، وفهم، ويعلم ما يخرج من رأسه وما يصل إليه غداً يوم القيامة، فأما الزهد بلا اتقان ولا معرفة فلا ينتفع به، وليس هو بحجة ولا يحمل عنهم العلم.
وقال ابن وهب أيضا: نظر مالك إلى العطان بن خالد فقال: بلغني أنكم تأخذون من هذا! فقلت: بلى، فقال: ما كنا نأخذ الحديث إلا من الفقهاء.
وقال معن بن عيسى: سمعت مالكا يقول: كم أخ لي بالمدينة أرجو دعوته، ولا أجيز شهادته.
وقال جعفر الفريابي: كان من مذهب مالك، التقصي والبحث عمن يحمل عنه العلم، ويسمع منه.
وقال ابن كنانة: قال مالك: من جعل التمييز رأس ماله عدم الخسران، وكان على زيادة.
وقال قراد أبو نوح: ذكر مالك شيئا، فقيل له: من حدثك؟ قال ما كنا نجالس السفهاء.
وقال المناوي يشرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم (البركة مع أكابركم ) قال: البركة مع أكابركم المجربين للأمور، المحافظين على تكثير الأجور، فجالسوهم لتقتدوا برأيهم، وتهتدوا بهديهم، أو المراد: من له منصب العلم، وإن صغر سنه، فيجب إجلالهم حفظا لحرمة ما منحهم الحق سبحانه.(1/32)
وقال اسحاق بن محمد الفروي(1): سئل مالك أيؤخذ العلم عمن ليس له طلب ولا مجالسة، فقال: لا، فقيل: أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنه لا يحفظ ولا يفهم ما يحدث، فقال: لا يكتب العلم إلا ممن يحفظ، ويكون طلب، وجالس الناس، وعرف، وعمل، ويكون معه ورع.
وقال معن بن عيسى: كنت أسأل مالكا عن الحديث، وأكرر عليه أسماء الرجال، فأقول لم تركت فلانا، وكتبت عن فلان، فيقول لي: لو كتبت عن كل من سمعت لكان هذا البيت ملآنا كتبا. يا معن اختر لدينك ولا تكتب في ورقك إلا من تحتج به، ولا يحتج به عليك.
قال تعالى في سورة آل عمران:
( .. وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ(79).
أخرج الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ في كتابه الفقيه والمتفقه (1/51): عن محمد ابن عبد الواحد قال: سألت ثعلبا عن هذا الحرف ( رباني ) فقال: سألت ابن الأعرابي فقال: إذا كان الرجل عالماً، عاملاً، معلماً، قيل له هذا ربَّاني، فإن حرم عن خصلة منها، لم يقل له ربَّاني.
" فالعالم الربَّاني هو الذي لا زيادة على فضله لفاضل، ولا منزلة فوق منزلته لمجتهد، وقد دخل في الوصف له بأنه ربَّاني وصفه بالصفات التي يقتضيها العلم لأهله، ويمنع وصفه بما خالفها. ومعنى الربَّاني في اللغة: الرفيع الدرجة في العلم العالي المنزلة فيه، وعلى ذلك حملوا قول الله تعالى: (لَوْلا يَنْهَاهُمْ الربَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ) وقوله تعالى: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ).
وفي تفسير أبي المظَفَّر السمعاني نقل عن سعيد بن جبير قوله: الربَّاني: الفقيه العالم الذي يعمل بعلمه. وقال السمعاني ـ رحمه الله ـ والربَّاني من طريق المعنى: هو أن يكون على دين الرب، وعلى طريق الرب.(1/33)
وقال مجاهد: الربَّانيون فوق الأحبار، فالأحبار العلماء، والربَّانيون: الذين جمعوا مع العلم البصيرة بسياسة الناس.
فالربانيّ: هو العالم البصير بسياسة الناس؛ فيربيهم على صغار العلم قبل كباره على منهاج النبوة.
وقال ابن كثير في قوله تعالى (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ): أي ولكن يقول الرسول للناس كونوا ربَّانيين، قال ابن عباس وأبو رزين وغير واحد: أي حكماء؛ علماء؛ حلماء.
وقوله تعالى (تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ): قال الضحاك: حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيها، وقال ابن كثير: تعلِّمون: أي تفهِّمون، (وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ): أي تحفظون ألفاظه.
(11)
العلماء ورثة الأنبياء
العلم ميراث النبي كذا أتى بالنص والعلماء هم ورَّاثه
ما خلَّف المختار غيرَ حديثه فينا، فذاك متاعه وأثاثه
أخرج أبو داود في " سننه " وأحمد وغيرهما وهو في الصحيحة رقم: 1784: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ.
وبذلك يظهر العلم وينتشر ويحصل التبليغ، وهو الميثاق المأخوذ على العلماء.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه " أعلام الموقعين " (1/10-11):
ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالما بما يبلغ، صادقا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله ، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب السماوات؟(1/34)
فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه.
ثم قال:
وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ(86) سورة ص .فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلا، وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول: ( .. فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(59) سورة النساء.
ثم قال:
ثم قام بالفتوى بعده برك(1) الإسلام، وعصابة الإيمان، وعسكر القرآن، وجند الرحمن، أولئك أصحابه صلى الله عليه وسلم، ألين الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأحسنها بياناً، وأصدقها إيماناً، وأعمها نصيحةً، وأقربها إلى الله وسيلةً، وكانوا بين مكثر منها ومقلٍّ ومتوسط.
البركةُ معَ أكابركم،
وإن من أشراط الساعة أن يُلتمس العلمُ عند الأصاغر
أخرج ابن عبد البر في كتاب " العلم وفضله "(2) والبزار في " مسنده " والحاكم في " المستدرك " وغيرهم، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(البركة مع أكابركم).(1/35)
وأخرج ابن عبد البر أيضاً، وابن المبارك في "الزهد" واللالكائي في " أصول اعتقاد أهل السنة" والطبراني في " الكبير" وغيرهم، وهو في الصحيحة رقم (695)، عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر ).
وذكر أبو عبيد في تأويل هذا الخبر، عن ابن المبارك أنه كان يذهب بالأصاغر إلى أهل البدع، ولا يذهب إلى السِّن.
قلت: وهذا التأويل لابن المبارك ـ رضي الله عنه ـ صحيح دلَّ عليه قول عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه: ابن المبارك، وعبد الرزاق في "مصنفه" وأبو نعيم في " الحلية " واللالكائي: ( لايزال الناس صالحين متماسكين ( بخير ) ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا).
وفي رواية أخرى له، أخرجها ابن عبد البر: ( لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا أخذوه عن صغارهم وشرارهم هلكوا).
لذلك كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول:(ألا إن أصدق القيل: قيل الله، وأحسن الهدي: هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، ألا إن الناس لم يزالوا بخير ما أتاهم العلم عن أكابرهم )(1).
وقال أبو عمر: وقال بعض أهل العلم: إن الصغير المذكور في حديث عمر وما كان مثله من الأحاديث إنما يراد به الذي يُستفتى ولا علم عنده، وإن الكبير هو العالِم في أي شيء كان.
وقال أبو عبيد ـ فيما نقله ابن عبد البر ـ: والذي أرى أنا في الأصاغر أن يؤخذ العلم عمن كان بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذاك أخذ العلم عن الأصاغر.
قلت: وليس بين ما قاله أبو عبيد والإمام ابن المبارك فرق، فبعد أن نقل ابن حجر في الفتح (13/291): ما أخرجه أبو عبيد ويعقوب ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود قوله:(1/36)
( لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا)، قال: وقال أبو عبيدة: معناه أن كل ما جاء عن الصحابة وكبار التابعين لهم بإحسان هو العلم الموروث، وما أحدثه من جاء بعدهم هو المذموم، وكان السلف يفرقون بين العلم والرأي، فيقولون للسنة علم، ولما عداها رأي.أ.هـ
(12)
العلماء حكماء
قال الله تعالى في سورة لقمان: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ..(12).
روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ..) أي: الفقه في الإسلام، ولم يكن نبياً ولم يوحَ إليه. وقال ابن كثير يفسر الحكمة في الآية: أي الفهم والعلم والتعبير. وقوله تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ..) أي: أمرناه أن يشكر الله عز وجل على ما أتاه الله، ومنحه، ووهبه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه.أ.هـ
قلت: فالعالم الحكيم من جمع بين العلم النافع والعمل الصالح، فعلمه من الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، وعمله مطابق لعلمه، بنى عمله على الإخلاص والسنة بفهم سلف الأمة.
ومن حكمة لقمان أن موعظته كانت على الوجه التالي:
1- الدعوة إلى الإخلاص لله في العمل وترك الشرك.
2- الإحسان للوالدين.
3- الحث على معرفة الرجال بالحق(1).
4- الدعوة إلى فهم أشرف العلوم الشرعية وهو توحيد الإلهية والأسماء والصفات.
5- الحث على إقامة الصلاة.
6- الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
7- الحث على التخلق بالصبر.
8- الحث على التخلق بالأخلاق الحميدة.(1/37)
قال تعالى في سورة لقمان: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(12)وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13)وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(15)يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الارْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16)يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاتَمْشِ فِي الارْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(18)وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ(19).(1/38)
لذلك فمن عَلِمَ العلم النافع، ووفق للعمل بموجبه، فقد أوتي خيراً كثيراً. قال الله تعالى في سورة البقرة: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الالْبَابِ(269). قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد(1) في قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) ليست بالنبوة، ولكنه العلم والفقه والقرآن. وقال أبو العالية في رواية عنه: الحكمة: الكتاب والفهم.
وأخرج الخطيب البغدادي في الفقه والمتفقه(1/29): عن عبد الرحمن بن محمد الزهري، قال: سئل أبو العباس أحمد بن يحيي عن قوله في سورة مريم: (..وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ..(12)، فقال: الحكمة فقه الشيء، قيل له: الكتاب غير الحكمة؟ فقال: لا يكون حكيماً حتى يعلم القرآن والفقه، فإن علم أحدهما لا يقال له حكيم حتى يجمعهما، معناه يعلمهم الكتاب ويعلمهم معانيه.
وأخرج ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله "(1) عن ابن وهب: قال لي مالك: وذكر قول الله عز وجل في يحيي: (..وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)(2)، وقوله في عيسى: (..قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ..)(3) وقوله: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ..)(4)، وقوله: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ..)(5)، قال مالك: "الحكمة في هذا كله طاعة الله، والاتباع لها، والفقه في دين الله، والعمل به".
وقال ابن وهب: وسمعت مالكا مرة أخرى يقول: "الذي يقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله، قال: ومما يبين ذلك أن الرجل تجده عاقلا في أمر الدنيا، ذا نظر فيها، وبصير بها، ولا علم له بدينه، وتجد آخر ضعيفا في أمر الدنيا عالماً بأمر دينه، بصيراً به، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا، فالحكمة الفقه في دين الله.
وقال ابن وهب: وسمعته يقول: الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل.(1/39)
وقال ابن ميلق فيما نقله البقاعي في نظم الدرر(15/156): الحكمة: مدارها على إصابة الحق والصواب، في القول والعمل.
وقال ابن كثير: والصحيح أن الحكمة كما قال الجمهور: لا تختص بالنبوَّة بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة والرسالة، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع.أهـ
فقد ورد في الصحيحين وغيرهما(1) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِي اللَّه عَنْه ـ: قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا .
قلت: ومن حكمة الإمام البخاري ـ رضي الله عنه ـ حين جعل الحديث في كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة"، أراد أن يبيِّنَ أن الحكمة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث هي الفقه في الدين، ولا يتم الفقه في الدين إلا بالتمسك بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، علماً وعملاً وتعليماً.
وأخرج الدارمي بإسناد صحيح (1/100) عن أبي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ أنه قال:
لَيْسَ هَدِيَّةٌ أَفْضَلَ مِنْ كَلِمَةِ حِكْمَةٍ تُهْدِيهَا لأخِيكَ .
(13)
فضل العلماء
روى الترمذي في "سننه"، والطبراني في "الكبير" وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ عن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلانِ، أحدهما عابدٌ، والآخر عالِمٌ، فقال صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد، كفضلي على أدناكم). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله وملائكته، وأهلَ السماوات والأرض حتى النملةَ في جُحْرها، وحتى الحوتَ في البحر، ليُصَلُّون على معلم الناس الخير).
قال أبو عمر ـ يعني ابن عبد البر ـ: الصلاة ههنا: الدعاء والاستغفار.(1/40)
وفي "السلسلة الصحيحة" (1852) عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخَلْقُ كلهم يصَلُّون على معلم الخير، حتى نينانُ البحر).
وفي "صحيح الجامع" (3753) عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صاحب العلم، يستغفر له كل شيء، حتى الحوتُ في البحر).
وروى أحمد، والطبراني، والحاكم بإسناد صحيح عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من أمتي من لم يُجِلَّ كبيرنا، ويَرحمْ صغيرنا، ويعرِفْ لعالِمنا).
ونقل ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" عن أبي الأسود الدؤلي: ( ليس شيء أعَزُّ من العلم، وذلك ان الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك).
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (1/10) واصفاً العلماء:
( هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(59) سورة النساء.
وقالوا كما في "جامع بيان العلم وفضله": ( العلماء في الأرض كالنجوم في السماء، والعلماء أعلام الإسلام، والعالم كالسراج، من مَرَّ به اقتبس منه، ولولا العلم كان الناس كالبهائم).
وقال بعض الحكماء: ( من الدليل على فضيلة العلماء أن الناس تحب طاعتهم ).
ويقال:( مَثَلُ العلماء مَثَل الماء حيث ما سقطوا نفعوا ).
وفي "صحيح جامع بيان العلم وفضله" ( صفحة49):عن ميمون بن مهران ـ رحمه الله ـ:(إن مثل العالم في البلد كمثل عين عذبةٍ في البلد).(1/41)
وقال ـ رحمه الله ـ: (العلماء هم ضالتي في كل بلد، وهم بغيتي إذا لم أجدهم، وجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء).
وعن أم الدرداء كما في كتاب "مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام" قالت: طلبت العبادة في كل شيء، فما رأيت أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم.
وفي كتاب "سير أعلام النبلاء" (10/45): قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: ( أي رجل كان الشافعي فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟، قال: يا بني، كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خَلَف؟ أو منهما من عَوَض؟.
وقد قيل لعبد الله بن المبارك ـ رضي الله عنه ـ هذه الأحاديث المصنوعة؟! فقال: " يعيش لها الجهابذة".
وفي تذكرة الحفاظ (1/252) عن ابن عُلية قال: ( أخذ هارون الرشيد زنديقا، فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: " لِمَ تضرب عنقي؟ " قال له: " أريح العباد منك " قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها ما فيها حرف نطق به؟! فقال له الرشيد: " فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك ينخلانها نخلاً، فيخرجانها حرفاً حرفاً ".
(14)
منازل العلماء
قال تعالى في سورة الزُمَر:
(..قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الألْبَابِ(9).
فالآية بمعنى: لا يستوون، ويقال: الذين يعلمون هم المؤمنون، والذين لا يعلمون هم الكفار، ويقال: الذين يعلمون العلماء، والذين لا يعلمون الجهال.
أخرج الترمذي في سننه ـ كتاب الزهد ـ (صحيح الترمذي 2441) عن أبي كَبْشَةَ الأنَّمَارِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " ثَلاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ"، قَالَ:(1/42)
"مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلاظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ ـ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا ـ،وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ:فقال:
َ إِنَّمَا الدُّنْيَا لأرْبَعَةِ نَفَرٍ:
عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ.
وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ.
وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ.
وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاًوَلا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ.
كان ابن المبارك ـ رحمه الله ـ يقول: أول العلم النيَّة، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر.
وأخرج الإمام أحمد بن حنبل في كتابه " الزهد " (صفحة:441) بإسناد صحيح، عن محمد بن النضر الحارثي قال: كان يقال: أول العلم الإنصات له، ثم الاستماع له، ثم حفظه، ثم العلم به، ثم بثَّه.
وأخرج ابن عبد البر عن سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: قال: ما من عمل أفضل من طلب العلم إذا صحَّت النيَّة. وقال ـ رحمه الله ـ: ما عالجت شيئاً أشدَّ عليَّ من نيَّتي، إنها تقَلَّبُ عليَّ. ويقول يزيد بن هارون: ما عزَّت النيَّة في الحديث إلا لشرفه.(1/43)
نقل الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ في كتابه: " سير أعلام النبلاء " (13/444) عن أحمد بن جعفر بن سَلْم قال: سمعت الأبَّار يقول: كنت بالأهواز، فرأيت رجلاً قد حفَّ شارِبه ـ وأظنه قال: قد اشترى كتبا وتعَّين للفتيا ـ فذُكر له أصحاب الحديث، فقال: ليسوا بشيء، وليس يسوون شيئاً. فقلت: أنت لا تحسن تصلِّي. قال: أنا؟ قلت: نعم، أيْش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحت ورفعت يديك؟ فسكت، فقلت له: أيْش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضعت يديك على ركبتيك؟ فسكت، قلت: فما تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجدت؟ فسكت، فقلت: ألم أقل: إنك لا تُحسن تُصلِّي؟ فلا تذكر أصحاب الحديث.
(15)
طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل الله
قال تعالى في سورة العنكبوت:
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69).
قال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ فيما نقله ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ في " جامع بيان العلم وفضله ":
"من رأى الغدوَ والرَّواحَ إلى العلم ليس بجهادٍ فقد نقص عقله ورأيه".
ويفسر هذا القول ابن القيم في كتابه الماتع " زاد المعاد في هدي خير العباد " (3/6) فيقول ـ رحمه الله ـ:
( ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسَه في ذات الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هَجَر ما نهى الله عنه). كان جهاد النَّفْس مقدَّما على جهاد العدوّ في الخارج وأصلاً له، فإنه من لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمِرَت به وتترك ما نُهيَت عنه ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهر له، متسلط عليه، لم يجاهده ولم يحاربه في الله؟! بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج.(1/44)
فهذان عدوان قد امتُحِن العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث، لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذِله ويُرجف به، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ، وفوت اللذات والمشتهيات، ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوَّين إلا بجهاده، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان، قال تعالى في سورة فاطر: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا..(6). والأمر باتخاذه عدوَّا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته، كأنه لا يفْتُر ولا يقَصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس.
ثم قال ـ رحمه الله ـ(3/9): إذا عرف هذا فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.
فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، وما فاتها علمُه شقيت في الدارين.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الرَّبَّانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربَّانيَّا حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلمه، فمن علم وعمل وعلَّم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات.أ.هـ
ثم تكلم ـ رحمه الله ـ عن جهاد الشيطان، وجهاد الكفار والمنافقين ثم قال:(1/45)
( ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان، والراجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة. قال تعالى في سورة البقرة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(218). وكما أن الإيمان فرض على كل أحد، ففرض عليه هجرتان في كل وقت: هجرة إلى الله عز وجل بالتوحيد، والإخلاص والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، والمحبة، والتوبة، وهجرة إلى رسوله بالمتابعة، والانقياد لأمره، والتصديق بخبره، وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ .
وفرض عليه جهاد نفسه في ذات الله، وجهاد شيطانه، فهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد).أ.هـ
فقد نقل السمعاني في "تفسيره" ما روي عن الحسن أنه قال: أفضل الجهاد مخالفة الهوى.
ونقل ابن القيم في " زاد المعاد " ما قاله عبد الله بن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى. وذكر ابن كثير في " تفسيره " ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عباس الهمداني أبو أحمد من أهل عكا في قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) قال: الذين يعملون بما يعلمون، يهديهم الله لما لا يعلمون، قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان يعني الداراني فأعجبه، وقال: ليس ينبغي لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمل به وحمد الله حتى وافق ما في قلبه.
وعن سفيان الثوري أنه قال لإبراهيم بن أدهم: ألا تأتينا فتتعلم منا؟ فقال: إني سمعت حديثين فإذا فرغت منهما تعلمت الثالث.(1/46)
فقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا) قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: يعني الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين.
قال السمعاني: ويقال: المجاهدة: هو الصبر على الطاعات واجتناب المعاصي، ويقال: قتال الكفار، ويقال: تحقيق الإخلاص في الأعمال، وهو حقيقة قوله تعالى: (فِينَا).
وقوله تعالى: (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) قال الشنقيطي: أقسم الله تعالى على ذلك بدليل اللام في قوله: (لَنَهْدِيَنَّهُمْ).
وقال ـ رحمه الله ـ: وهذا المعنى جاء مبينا في آيات أخر كقوله تعالى في سورة التوبة: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124). وقوله تعالى في سورة محمد: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ(17).
وقال تعالى في سورة البقرة:
(..وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ..(282).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: أن تقوى الله وسيلة إلى حصول العلم، وأوضح من هذا قوله تعالى في سورة الأنفال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا..(29).أي: علماً تفرقون به بين الحقائق، والحق والباطل.أ.هـ
فقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا):قال أبو سليمان الدارانيّ: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعِظَمُه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله وهو الجهاد الأكبر.
ونقل البغوي في " تفسيره " قول الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا في طلب العلم لنَهدينَّهم سبل العمل به.
وقال سهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في إقامة السُنَّة، لنَهدينَّهم سبل الجنة.(1/47)
ونقل القرطبي في " تفسيره " عن الضحاك في معنى الآية قوله: والذين جاهدوا في الهجرة لنَهدينَّهُم سبل الثبات على الإيمان. ثم قال: مثل السُنَّة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى، من دخل الجنة في العقبى سَلِم، كذلك من لزم السُنَّة في الدنيا سَلِم.
وقال يوسف بن أسباط: المعنى: لنخلصنَّ نياتهم، وصدقاتهم، وصلواتهم، وصيامهم.
وقوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ):
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ:
بالعون، والنصر، والهداية. دل هذا، على أن أحرى الناس بموافقة الصواب، أهل الجهاد. وعلى من أحسن فيما أمر به، أعانه الله، ويسر له أسباب الهداية. وعلى أن من وجد واجتهد في طلب العلم الشرعي، فإنه يحصل له من الهداية، والمعونة على تحصيل مطلوبه، أمور إلهية، خارجة عن مدرك اجتهاده، وتيسر له أمر العلم. فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل الله ، بل هو أحد نوعي الجهاد، الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق، وهو الجهاد بالقول، واللسان، للكفار، والمنافقين. والجهاد على تعليم أمور الدين، وعلى رد نزاع المخالفين للحق، ولو كانوا من المسلمين.
(16)
قصة إسلام الصحابي سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ(1/48)
أخرج الإمام أحمد في " المسند " بإسناد صحيح، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا جَيٌّ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ(1) وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، أَيْ مُلازِمَ النَّارِ، كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ(2) النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا لا يَتْرُكُهَا تَخْبُو(1) سَاعَةً، قَالَ: وَكَانَتْ لأبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ، قَالَ فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا، وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، قَالَ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلاتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ، قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ، قَالَ: فَلَمَّا جِئْتُهُ، قَال:َ أَيْ بُنَيَّ، أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلَمْ(1/49)
أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَازِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: أَيْ بُنَيَّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: كَلا وَاللَّهِ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِنَا، قَالَ: فَخَافَنِي فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا، ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، قَالَ: وَبَعَثَتْ إِلَيَّ النَّصَارَى، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى، فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ، قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى، قَالَ: فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلادِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ، قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ، حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا الأسْقُفُّ(1) فِي الْكَنِيسَةِ، قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ، قَالَ: فَادْخُلْ فَدَخَلْتُ مَعَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا، فَإِذَا جَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا أَشْيَاءَ اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلالٍ(2) مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ(3)، قَالَ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ،(1/50)
ثُمَّ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا، قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ قَالَ: قُلْتُ أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ، قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَيْهِ، قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ، قَالَ: فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا، قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا وَاللَّهِ لا نَدْفِنُهُ أَبَدًا، فَصَلَبُوهُ ثُمَّ رَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ ثُمَّ جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ، قَالَ يَقُولُ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً لا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَلا أَرْغَبُ فِي الآخِرَةِ وَلا أَدْأَبُ لَيْلاً وَنَهَارًا مِنْهُ، قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَهُ وَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ إِنِّي كُنْتُ مَعَكَ، وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَكَ وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا الْيَوْمَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ إِلا رَجُلاً بِالْمَوْصِلِ وَهُوَ فُلانٌ، فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ، قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ: إِنَّ فُلانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ، قَالَ: فَقَالَ لِي:(1/51)
أَقِمْ عِنْدِي، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ إِنَّ فُلانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ وَقَدْ حَضَرَكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا تَرَى فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلاً عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلا بِنَصِيبِينَ وَهُوَ فُلانٌ فَالْحَقْ بِهِ، وَقَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي، قَالَ: فَأَقِمْ عِنْدِي، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ إِنَّ فُلانًا كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلا رَجُلاً بِعَمُّورِيَّةَ فَإِنَّهُ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا قَالَ فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي، فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ، قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ: إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلانٍ فَأَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَى فُلانٍ وَأَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَى فُلانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَيْكَ،(1/52)
فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ(1) بَيْنَهُمَا نَخْلٌ بِهِ عَلامَاتٌ لا تَخْفَى يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلادِ فَافْعَلْ، قَالَ: ثُمَّ مَاتَ وَغَيَّبَ فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارًا فَقُلْتُ لَهُمْ تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ، قَالُوا: نَعَمْ فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا فَكُنْتُ عِنْدَهُ وَرَأَيْتُ النَّخْلَ وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي وَلَمْ يَحِقْ لِي فِي نَفْسِي فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَابْتَاعَنِي مِنْهُ فَاحْتَمَلَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي، فَأَقَمْتُ بِهَا وَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ لا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ(1) لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ(1/53)
عَلَيْهِ، فَقَالَ: فُلانُ قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ، وَاللَّهِ إِنَّهُمُ الآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ(2) حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي، قَال:َ وَنَزَلْتُ عَنِ النَّخْلَةِ فَجَعَلْتُ أَقُولُ لابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ، مَاذَا تَقُولُ؟ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: فَغَضِبَ سَيِّدِي، فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ، قَالَ قُلْتُ: لا شَيْءَ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا قَالَ، وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِقُبَاءَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ، قَالَ فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصْحَابِهِ: كُلُوا وَأَمْسَكَ يَدَهُ، فَلَمْ يَأْكُلْ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَجَمَعْتُ شَيْئًا وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا، قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ اثْنَتَانِ ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه(1/54)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ قَالَ وَقَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدَرْتُهُ، عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي، قَالَ: فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ، فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحَوَّلْ فَتَحَوَّلْتُ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرٌ وَأُحُدٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلاثِ مِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ(1) وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصْحَابِهِ: أَعِينُوا أَخَاكُمْ، فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ، الرَّجُلُ بِثَلاثِينَ وَدِيَّةً(1) وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ، يَعْنِي الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلاثُ مِائَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ(2) لَهَا فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ، فَفَقَّرْتُ(1/55)
لَهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي فَقَالَ: مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ، قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ: خُذْهَا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ، قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا، وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ وَعُتِقْتُ، فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ.
(17)
من سير الصالحين ..قصة أبي القرن
في حديث أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" عن ربيع بن عميلة قال: حدثنا عبد الله، ما سمعنا حديثاً هو أحسن منه إلا كتاب الله عز وجل، ورواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فذكره. والحديث ذكره شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ في "الصحيحة" (2694) وعنون له بقوله: هل أصابنا ما أصابهم؟ وقال ولكن عندي وقفة في رفعه لأنه ليس صريحاً فيه، ولكنه على كل حال في حكم المرفوع، والله أعلم.(1/56)
وله شاهد مختصر جداً من رواية أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيل كتبوا كتاباً فاتبعوه، وتركوا التوراة" أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5548).
نص الحديث
"إن بني إسرائيل لما طال الأمد وقست قلوبهم اخترعوا كتاباً من عند أنفسهم، استهوته قلوبهم، واستحلَّته ألسنتهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، فقالوا: اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم عليه، فاتركوهم، وإن خالفوكم فاقتلوهم، قال: لا، بل ابعثوا إلى فلان ـ رجل من علمائهم ـ فإن تابعكم فلن يختلف عليكم بعده أحد، فأرسلوا إليه فدعوه، فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله، ثم أدخلها في قرن، ثم علقها في عنقه، ثم لبس عليها الثياب، ثم أتاهم، فعرضوا عليه الكتاب فقالوا: تؤمن بهذا؟ فأشار إلى صدره ـ يعني الكتاب الذي في القرن ـ فقال: آمنت بهذا، ومالي لا أؤمن بهذا؟ فخلوا سبيله. قال: وكان له أصحاب يغشونه فلما حضرته الوفاة أتوه، فلما نزعوا ثيابه وجدوا القرن في جوفه الكتاب، فقالوا: ألا ترون إلى قوله: آمنت بهذا ومالي لا أومن بهذا، فإنما عنى بـ (هذا) هذا الكتاب الذي في القرن قال: فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين فرقة، خير مللهم أصحاب أبي القرن.
فوائد الحديث
1/ من رحمة الله تعالى بأمة محمد أن لها العبرة والدرس مما وقع لبني إسرائيل، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.
2/ وفي الحديث أهمية معرفة السنة النبوية، وتقصي حقائقها من مظانها الصحيحة، للاستفادة من القصص الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاصة عمن حذرنا من أن نستن بسننهم اليهود والنصارى.(1/57)
3/ وفي الحديث بيان واضح أن ترك اتباع الكتاب والسنة الصحيحة، يؤدي إلى ضعف في الإيمان، وبمرور الوقت يعني تعدي الناس على كتاب الله تعالى؛ وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ بالتحريف، فإن لم يحرفوا الألفاظ، حرفوا المعاني اتباعاً للهوى.
4/ وفي الحديث بيان واضح أن الله تعالى يحق الحق بإذنه ومشيئته فيحول بين أهل الهوى ـ أهل الضلال والبغي والشهوات ـ، وبين ما يريدون الانتصار له من البدع والخزعبلات والتحريفات والضلالات والتعديات واللمز والغمز والهمز.
5/ وفي الحديث فضيحة بينة لهؤلاء المبتدعة أهل الضلال الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. وقد وصفهم الله تعالى في سورة البقرة بقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ(101). نقل القرطبي في الجامع قول الشعبي: هو بين أيديهم يقرؤونه؛ ولكن نبذوا العمل به. وقال سفيان بن عيينة: أدرجوه بالحرير والديباج، وحلوه بالذهب والفضة، ولم يحلوا حلاله، ولم يحرموا حرامه؛ فذلك النبذ.
قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: وهذا أبلغ في الإعراض كأنهم في فعلهم هذا من الجاهلين، وهم يعلمون صدقه، وحقيقة ما جاء به. ثم قال:
ولما كان من العوائد القدسية والحكمة الإلهية، أن من ترك ما ينفعه وأمكنه الانتفاع به ولم ينتفع، ابتلي بالاشتغال بما يضره، فمن ترك عبادة الرحمن ابتلي بعبادة الأوثان، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه، ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله، أنفقه في طاعة الشيطان، ومن ترك الذل لربه، ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل.أ.هـ(1/58)
قال الكاتب عفا الله عنه: كذلك هؤلاء اليهود والنصارى لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر، وكذلك الناظر في أحوال مجتمعاتنا الآن يرى انصراف الناس إلى السحرة والمشعوذين وأهل الضلالات والبدع لأن قطاعاً كبيراً من الناس آثر ترك الحق فابتلوا باتباع الباطل وأكبره اتباع الشياطين، قال تعالى في سورة بعدها: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ..(102). ثم قال الله تعالى بعدها: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(103).
قال الشنقيطي ـ رحمه الله ـ: "ذكر الله تعالى في هذه الآية ـ يعني (101) من سورة البقرة ـ الكريمة أن كثيراً من اليهود نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ولم يؤمنوا به، وبين في موضع آخر أن هؤلاء الذين لم يؤمنوا بالكتاب هم الأكثر، وذلك في قوله تعالى في سورة آل عمران: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ(110)".
وفي سورة آل عمران قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ(187).
فقوله تعالى: (فَنَبَذُوهُ) أي: رموه وطرحوه. وقوله: (وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) أي: تمثيل عن قلة مبالاتهم به، قال الشيخ أحمد بن يوسف، المعروف بالسمين الحلبي: لم يكتفوا بطرحه بل لا يهمّون به، لأن الإنسان قد يرمي الشيء مع التفاته إليه.(1/59)
أخرج ابن عبد البر عن مالك بن مغول في قوله تعالى: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) قال: تركوا العمل به. وأخرج الخطيب البغدادي في كتابه "اقتضاء العلم العمل" عن عمر بن الخطاب قوله: لا يغرركم من قرأ القرآن إنما هو كلام نتكلم به، ولكن انظروا من يعمل به".
وقال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ:
فأما الموفقون، فقاموا بهذا أتم القيام، وعلموا الناس مما علمهم الله، ابتغاء مرضاة ربهم، وشفقة على الخلق، وخوفاً من إثم الكتمان. وأما الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى ومن شابههم، فنبذوا هذه العهود والمواثيق، وراء ظهورهم فلم يعبأوا بها، فكتموا الحق، وأظهروا الباطل، تجرؤاً على محارم الله، وتهاوناً بحقوقه تعالى، وحقوق الخلق، واشتروا بذلك الكتمان ثمناً قليلاً، وهو ما يحصل لهم إن حصل من بعض الرياسات، والأموال الحقيرة، من سفلتهم المتبعين أهوائهم، المقدمين شهواتهم على الحق. (فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) لأنه أخس العوض، والذي رغبوا عنه ـ وهو بيان الحق، الذي فيه السعادة الأبدية، والمصالح الدينية والدنيوية ـ أعظم المطالب وأجلها، فلم يختاروا الدين الخسيس ويتركوا العالي النفيس إلا لسوء حظهم وهوانهم وكونهم لا يصلحون لغير ما خلقوا له.
6/ وفي الحديث بيان غرض آخر لهؤلاء الضلال متبعي الهوى، وهو حمل الناس بالقوة والشدة والإرهاب والغطرسة وحتى بالقتل ـ بعد التحريف الذي نالوا به كتاب الله وسنة نبيه ـ على الباطل الذي اخترعوه، وجاءوا به من عند أنفسهم. فإذا تابعهم الناس على الباطل تركوهم، وإن تكلم العلماء وأهل العلم فيهم لمزوهم وغمزوهم وقتلوهم.
7/ وفي الحديث بيان رفيع لمنزلة العلماء، وأن هؤلاء الضلال لا يخفى عليهم أهل العلم والعلماء، وهو الذي بينه الله تعالى في الآية: (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ).(1/60)
8/ وفي الحديث بيان أن العلماء ينظرون بنور الله تعالى ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ.
9/ وفي الحديث فقه العلماء في الدين والواقع، خلافاً لما يذهب إليه المتحمسون الذين فرغوا من فقه الدين والواقع.
10/ وفي الحديث بيان أن هذا الدين معلق في أعناق العلماء المخلصين وهو في قلوبهم ويلاحظ الطالب للحق ما ورد في نص الحديث: "فأرسلوا إليه فدعوه، فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله، ثم أدخلها في قرن، ثم علقها في عنقه".
وأن هذا الكتاب كتاب الله الذي كتبه بقي معلقاً في عنقه حتى حضرته الوفاة.
11/ وفي الحديث فائدة: أن ما ذهب إليه العالم من التورية بقوله : فأشار إلى صدره ـ يعني الكتاب الذي في القرن ـ فقال: آمنت بهذا، ومالي لا أؤمن بهذا؟ فخلوا سبيله، مشروع في دين الله عز وجل، وله أسوة في نبينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والتورية: أن يقصد بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ بالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب.(1/61)
ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب فليس بحرام في هذه الحال واستدل العلماء بجواز الكذب في هذه الحال بحديث أم كلثوم ـ رضي الله عنها ـ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً (متفق عليه) وزاد مسلم في رواية: قالت أم كلثوم: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: تعني الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها.
وقال الحافظ في "الفتح" (5/300):
" واتفقوا على ان المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقاً عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها، وكذا في الحرب في غير التأمين، واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم والله أعلم".أ.هـ
12/ بيَّن الحديث أن هذا العالم من الربانيين وأنه امتثل قول الله تعالى كما هو في سورة آل عمران: (..وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ(79). وامتثل قوله تعالى كما هو في سورة المائدة: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ(44).
وقوله تعالى: (لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(63).(1/62)
أخرج الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ في كتابه الفقيه والمتفقه (1/51): عن محمد ابن عبد الواحد قال: سألت ثعلباً عن هذا الحرف (رباني) فقال: سألت ابن الأعرابي فقال: إذا كان الرجل عالماً، عاملاً، معلماً، قيل له هذا ربَّاني، فإن حرم عن خصلة منها، لم يقل له ربَّاني.
" فالعالم الربَّاني هو الذي لا زيادة على فضله لفاضل، ولا منزلة فوق منزلته لمجتهد، وقد دخل في الوصف له بأنه ربَّاني وصفه بالصفات التي يقتضيها العلم لأهله، ويمنع وصفه بما خالفها. ومعنى الربَّاني في اللغة: الرفيع الدرجة في العلم العالي المنزلة فيه، وعلى ذلك حملوا قول الله تعالى: (لَوْلا يَنْهَاهُمْ الربَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ) وقوله تعالى: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ).
وفي تفسير أبي المظَفَّر السمعاني نقل عن سعيد بن جبير قوله: الربَّاني: الفقيه العالم الذي يعمل بعلمه. وقال السمعاني ـ رحمه الله ـ والربَّاني من طريق المعنى: هو أن يكون على دين الرب، وعلى طريق الرب.
وقال مجاهد: الربَّانيون فوق الأحبار، فالأحبار العلماء، والربَّانيون: الذين جمعوا مع العلم البصيرة بسياسة الناس.
فالربانيّ: هو العالم البصير بسياسة الناس؛ فيربيهم على صغار العلم قبل كباره على منهاج النبوة.
وقال ابن كثير في قوله تعالى (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ): أي ولكن يقول الرسول للناس كونوا ربَّانيين، قال ابن عباس وأبو رزين وغير واحد: أي حكماء؛ علماء؛ حلماء.
وقوله تعالى (تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ): قال الضحاك: حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيها، وقال ابن كثير: تعلِّمون: أي تفهِّمون، (وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ): أي تحفظون ألفاظه.(1/63)
13/ وفي الحديث الإشارة إلى اختلاف بني إسرائيل وأنهم تفرقوا إلى إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة هي الناجية أصحاب صاحبنا أبو القرن، وانتصرت هذه الفرقة الناجية بإخلاص وثبات أبو القرن، قال الله تعالى في سورة الشورى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ..(14). وقال تعالى في سورة البينة: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ(4).
وأختم الفوائد بالتساؤل الذي عنون شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ به للحديث:
هل أصابنا ما أصابهم؟ !!
(18)
الإيمان أولاً لو كانوا يعلمون
قال الله تعالى في سورة الكهف:
(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ قُبُلاً(55)وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا(56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا(57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً(58)وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا(59).(1/64)
في هذه الآيات خطاب واضح ليعتبر المؤمن، وإخبار جلي عما حل بالمبتدعة الظلمة، وبالكفرة الفجرة حين تركوا مسلك الصراط المستقيم، أي: حين تركوا الهدى وأعرضوا عن دين الله، واستكبروا عن استغفاره سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: (وما منع الناس) أي: ما الذي منع الناس من الإيمان؟ والحال أن الهدى الذي به يكون الرشاد، وبه يحصل الفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، قد وصل إليهم، وقامت عليهم حجة الله، فلم يمنعهم ـ كما قال الشيخ السعدي رحمه الله ـ عدم البيان بل منعهم الظلم والعدوان عن الإيمان، فلم يبق لهم إلا أن تأتيهم سنة الله، وعادته في الأولين من أنهم إذا لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب أو يرون أن العذاب قد أقبل عليهم ورأوه مقابلة ومعاينة، أي: فليخافوا من ذلك، وليتوبوا من كفرهم، قبل أن يكون العذاب الذي لا مرد له.
ففي هذه الآية كما تلاحظ أخي القاريء تهديد واضح جلي، وهو أن الانصراف عن الإيمان والفقه فيه وتعلمه نذير شؤم يحل بأهله، وما منع الناس أن يؤمنوا؟ أي: ما الذي ينتظره الناس إذا لم يؤمنوا؟! وفي الآية أن الله تعالى هدد بالعذاب بعد قيام البيان، وإقامة الحجة.
لذلك أعقب الله تعالى هذه الآية بقوله: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ). قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: أي: لم نرسل الرسل عبثاً، ولا ليتخذهم الناس أرباباً، ولا ليدعوا إلى أنفسهم، بل أرسلناهم يدعون الناس إلى كل خير، وينهون عن كل شر، ويبشرونهم على امتثال ذلك، بالثواب العاجل، والآجل، وينذرونهم على معصية ذلك بالعقاب العاجل والآجل، فقامت بذلك حجة الله على العباد، ومع ذلك يأبى الظالمون الكافرون، إلا المجادلة بالباطل، ليدحضوا به الحق، فسعوا في نصر الباطل مهما أمكنهم، وفي إدحاض الحق وإبطاله، واستهزؤا برسل الله وآياته، وفرحوا بما عندهم من العلم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون، ويظهر الحق على الباطل.أ.هـ(1/65)
التحذير من عاقبة المبتدعة الظلمة، والكفرة الفجرة
وفي الآية التالية يفسر ابن كثير ـ رحمه الله ـ قول الله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا(57) فأي عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها ـ أي: تناساها وأعرض عنها ـ ولم يصغ لها ولا ألقى إليها بالاً (وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة.أ.هـ
وقال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: يخبر تعالى أنه لا أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً، من عبدٍ ذكر بآيات الله وبيِّن له الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وخوِّف ورهِّب ورغِّب، فأعرض عنها فلم يتذكر بما ذكر به، ولم يرجع عما كان عليه ونسي ما قدمت يداه من الذنوب، ولم يراقب علام الغيوب فهذا أعظم ظلماً من المعرض الذي لم تأته آيات الله، ولم يذكر بها، وإن كان ظالماً فإنه أشد ظلماً من هذا، لكون العاصي على بصيرة وعلم، أعظم ممن ليس كذلك. ولكن الله تعالى عاقبه بسبب إعراضه عن آياته ونسيانه لذنوبه، ورضاه لنفسه حالة الشر مع علمه به، أن سد عليه أبواب الهداية بأن جعل على قلبه أكنة ، أي: أغطية محكمة تمنعه أن يفقه الآيات وإن سمعها، فليس في إمكانه الفقه الذي يصل إلى القلب.( إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا).
باب التوبة مفتوح: وربك الغفور ذو الرحمة(1/66)
ثم أخبر الله تعالى عن سعة مغفرته ورحمته، وأنه يغفر الذنوب، ويتوب الله على من يتوب، (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ). ولو أن الله تعالى آخذ العباد على ما قدمت أيديهم من الذنوب لعجل لهم العذاب، ولكنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة بل يمهل ولا يهمل، والذنوب لا بد من وقوع آثارها وإن تأخرت عنها مدة طويلة ولهذا قال: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً).
كما قال تعالى في سورة الرعد: ( ...وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ(6). والآيات في هذا كثيرة شتى، ولكن البصير المؤمن من اتعظ بغيره، وإلا فلا يلومن الظالم إلا نفسه.( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا(59).
أول ما يجب على العبد معرفة الله عز وجل
قال شيخ الإسلام الهروي الأنصاري في أول كتابه (اعتقاد أهل السنة):
"إن أول ما يجب على العبد معرفة الله عز وجل؛ لحديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا هم عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم..الحديث".(1/67)
على هذا المبدأ سار علماء الإسلام وأئمته في سائر أحوالهم، ودرج عليه المحققون من المصنفين فترى آثارها في مصنفاتهم، تأمل مثلاً صنيع الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه (الجامع الصحيح) الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله، تجد من دقة فهم هذا الإمام الجليل وفقهه في الدين ما يروي الغليل ويكبت الشانيء العليل، صدر كتابه ببدء الوحي ثم أتبعه بالإيمان ثم بالعلم، كأنما أراد رحمه الله أن ينبه الأذهان إلى أن أول واجب على الإنسان هو الإيمان وأن الوسيلة إلى الإيمان هي العلم وأن مصدر الإيمان والعلم هو الوحي؛ فبدأ ببيان كيفية الوحي وصفة نزوله ثم أتبعه بذكر الإيمان والعلم، فرتب هذا الشأن الترتيب الحقيقي.
ويقول جندب بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ:
تعلمنا الإيمان ، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً.
ويقول عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ:
لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن تنزل السورة فنتعلم حلالها وحرامها وزواجرها وأوامرها وما يجب أن نقف عنده منها، ولقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يوقف عنده ينثره نثر الدقل".
ومعنى الدقل: التمر الرديء اليابس.
(19)
صدق ووفاء..أين نحن منه ؟
أخرج الإمام البخاري في "صحيحه" في كتاب الكفالة، باب الكفالة والقرض، ـ واللفظ له ـ وأخرجه في كتاب البيوع، باب التجارة في البحر، وفي كتاب الاستقراض، باب إذا أقرضه إلى أجل مسمى، وفي كتاب الشروط، باب الشروط في القرض، وفي كتاب اللقطة، باب إذا وجد خشبة في البحر أو سوطاً، وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" - عن أبي هريرة ـرضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/68)
"أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ فَقَالَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ، قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً، قَالَ: صَدَقْتَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ للأجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاً، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لأهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالألْفِ دِينَارٍ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟! قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي(1/69)
لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالألْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا.
فوائد الحديث
1/ العلم بتوحيد الله، فالرجلان يعلمان من توحيد الله تعالى ما جعلهما يخلصان في أشرف علوم التوحيد ألا وهو معرفة الله تعالى في أسمائه وصفاته، فيقول له: كفى بالله شهيداً .. كفى بالله وكيلاً.
2/ كان الذي قال كفى بالله شهيداً .. كفى بالله وكيلاً .. رجلاً صالحاً ، ومعنى أنه صالح: يعني أنه مخلص لله ، ومتابع لسنة الأنبياء في طاعة الله تعالى. والمتابع الذي يعلم العلم النافع، والعلم النافع: قال الله ..وقال رسوله صلى الله عليه وسلم .. وما كان على منهج السلف الصالح في فهم الكتاب والسنة. ورضي الرجل الآخر بالأجر والثواب، فرضي بشهادة الله .. وكفالة الله.
3/ الخشية من الله تعالى ، والمعرفة التامة بالله تعالى، حملتا هذا الرجل الصالح للتفكير بطريقة يوصل بها المال إلى صاحبه في الموعد المتفق عليه.
4/ تشبع الرجل الصالح بحق التوكل على الله، الذي يفتقده كثير من الناس اليوم، لضعف إيمانهم بالله، وجهلهم بأسمائه وصفاته.
5/ وتولى الله تعالى حفظ الخشبة، لأن الرجل الصالح عمل بقول الأنبياء: احفظ الله يحفظك.
6/ ومع هذا فالرجل الصالح جاء بالأسباب فحمل ألفاً أخرى لصاحب المال، الذي أخبره بدوره بقوله: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة.
7/ من الحديث استفدنا مشروعية الاستدانة والقرض، ومشروعية الإشهاد والكفالة.
8/ وجوب الوفاء بالقرض ، والصدق في الوعد، وعدم المماطلة في السداد.
9/ مشروعية التجارة.
10/ مشروعية التقاط ما له قيمة قليلة كالخشبة والسوط.
(20)
وسوسة الشيطان
قال الله تعالى في سورة الأعراف :ـ(1/70)
( ولقد خلقناكم ثم صورنكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس لم يكن من الساجدين (11) قال ما منعك ألاّ تسجد إذْ أمرتُك قال أنا خيرٌ منهُ خلقتني من نارٍ وخلقته من طين(12) قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنَّكَ من الصاغرين (13) قال أَنْظِرْني إلى يومِ يُبْعَثُون (14) قال إنَّك من المُنْظَرِيْنَ(15) قال فبما أغويتني لأقعدنَّ صراطك المستقيم (16) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (17).
وقال الله تعالى في سورة الحجر :ـ (( قال ربِّ فانظرني إلى يومِ يُبْعَثُون (36) قال فإنَّك من المُنْظَرِيْنَ (37) إلى يومِ الوقت المعلوم (38) قال ربِّ بما أغويتني لأُزَيِنَنَّ لهم في الأرض ولأُغْوِيَنَّهُم أجمعين (39) إلاَّ عبادك منهم المخلصين (40) قال هذا صراطٌ عليَّ مستقيم (41) إنَّ عبادي ليس لك عليهم سُلطانٌ إلاَّ من اتَّبَعَك من الغاوين (42).
ففي مطلع سورة الأعراف قال الله تعالى :ـ (( اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إليكُم من ربِّكُم ولا تتَّبِعُوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون )) ـ ( الآية : 3 ) 0 والإشارة إلى القرآن ، لأنه يُوضِّحُ الطريق إليه وهو الصراط المستقيم ، قال تعالى :ـ ((وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعُوه )) 0 والإشارة بهذا إلى المُنَزَّل قرآناً لأنه مبين للصراط المستقيم الذي طمع اللعين في الاستيلاء عليه وقطع سالكه ، فقيل عن مرامه من ذلك :ـ (( لأقْعُدنَّ لهم صراطك المستقيم)) ، ومراده لأستولينَّ لهم عليه ، ودليله حصره الجهات 0
وفي سورة الحجر قال تعالى : (( ولقد جعلنا في السماء بُروجاً وزَيَنَّاها للناظرين (16) وحفظناها من كلِّ شيطان رجيم (17) إلاَّ من استرق السمع فأتبعه شهابٌ مبينٌ (18) لقد منع ومنع جنوده عن تعرف خبر السماء واستراق السمع 0(1/71)
نعم ، منعوا ولقد قالت الجنّ :ـ (( وأنَّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشُهُباً (8) وأنَّا كنَّا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شِهَاباً رصَداً (9) وأنَّا لا ندري أَشَرٌ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربَّهم رشداً (10). سورة الجن
عن ابن عباس قال : كانت الجَنُّ تصعد إلى السماء يستمعون الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعاً ، فأمّا الكلمة فتكون حقاً ، وأما ما زادوا فيكون باطلاً ، فلمَّا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك 0 فقال لهم إبليس : ما هذا إلاَّ لأمر قد حدث في الأرض ، فبعث جنوده فوجدوا صلى الله عليه وسلم قائماً يُصَلِّي ، وفي رواية : وهو يُصلِّي بأصحابه صلاة الفجر ، فأتوه فأخبروه فقال : هذا الحديث الذي حدث في الأرض (1) 0
ولما كان يطمع اللعين في الاستيلاء بالكامل ، فمنع من فوق اتجه إلى تحت ، قال :ـ
(( لأُزَيِنَّنَ لهم في الأرض ولأُغْوِيَنَّهُم أجمعين )) ، واستثنى :ـ ((إلاَّ عبادك منهم المخلصين)) ، فإنه لا سبيل للشيطان إلى إغوائهم ، ولا طريق له عليهم 0 إذْ عمدة هذا الطريق الإخلاص لله على ما قرَّره كتاب الله:ـ
(( قال هذا صراط عليَّ مستقيم ، إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتَّبَعَك من الغاوين)) 0
أخرج الترمذي والإمام أحمد والطبري من طرق : عن عطية عن أبي سعيد الخدري، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ـ (( كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض))(1) 0(1/72)
وفي الحديث الذي تقدم ذكره ، فعلى باب الصراط داعٍ يقول : يا أيها الناس! ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتعوجوا ، وداعٍ من فوق الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه ، فإنَّك إن تفتحه تلجه 000 الحديث )) إلى أن قال : (( وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كلّ مسلم))0
وفي سورة الزخرف قال الله تعالى :ـ (( ومن يَعْشُ عنْ ذِكْرِ الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين (36) وإنَّهُم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنَّهم مهتدون (37) حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذْ ظلمتم أنَّكُم في العذاب مشتركون (39) أفأنت تُسْمِعُ الصُّمَ أو تَهْدي العُمْيَ ومن كان في ضلالٍ مبين(40) فإمَّا نذهبنَّ بك فإنَّا منهم منتقمون (41) أو نُرِيَنَّكَ الذي وعدناهم فإنَّا عليهم مقتدرون (42) فاستمسك بالذي أُوْحِيَ إليك إنَّك على صراطٍ مستقيم (43) وإنَّه لذكرٌ لكَ ولقومِكَ وسوفَ تُسْئَلُون(44) .
(21)
بطلان الابتداع وفضيلة الاتباع
لقد أحسن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ في قوله في خطبته ـ وإن كانت مأثورة عمن تقدم ـ في كتابه "الرد على الزنادقة والجهمية":(1/73)
"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين".
وقال الإمام الشافعي فيما رواه ابن عساكر ـ رحمه الله ـ في "تاريخ دمشق" (15/1/3)، ونقله ابن القيم في "إعلام الموقعين" (2/363):
"ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت؛ فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي".
وقال حافظ المغرب ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ في كتابه "التمهيد" (10/127):
"وأما ما نهى الله عنه ورسوله، فلا خيار فيه لأحد، وكل قول خالف السنة فمردود..لأن الله عز وجل قد أمر في كتابه عند تنازع العلماء وما اختلفوا فيه بالرد إلى الله ورسوله، وليس في جهل السنة في شيء قد علمها فيه غيره حجة".
وقال ـ رحمه الله ـ في المصدر نفسه (10/61): "فلا حجة في قول أحد مع السنة".
وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري ـ رحمه الله ـ فيما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كتابه "الاستقامة" (1/110):(1/74)
"وأخبرني أحمد بن حمزة، حدثنا محمد بن الحسين ـ وهو أبو عبد الرحمن السلمي ـ يقول: بلغني أن بعض أصحاب أبي علي الجوزجاني سأله: كيف الطريق إلى الله؟ قال: أصح الطرق وأعمرها وأبعدها من الشبه: اتباع الكتاب والسنة، قولاً وفعلاً، وعقداً ونيةً، لأن الله يقول: (..وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا..(54) سورة النور، فسأله: كيف طريق اتباع السنة؟ قال: بمجانبة البدع، واتباع ما اجتمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام وأهله، والتباعد عن مجالس الكلام وأهله، ولزوم طريقة الاقتداء والاتباع، بذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا..(123) سورة النحل.
(22)
عاقبة الابتداع والغلو في الدين(1/75)
أخرج الدارمي في "سننه" (1-68-69)، وبحشل في "تاريخ واسط" (ص:198-199)، وهو في "الصحيحة" (2005)، قال الدارمي: أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى قَال: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَبْلَ صَلاةِ الْغَدَاةِ فَإِذَا خَرَجَ مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الأشْعَرِيُّ فَقَالَ: أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدُ؟ قُلْنَا:لا فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلاَّ خَيْرًا، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْمًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلاةَ، فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفِي أَيْدِيهِمْ حَصًى، فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً، فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً، فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً، وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً، فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً، قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئًا انْتِظَارَ رَأْيِكَ وَانْتِظَارَ أَمْرِكَ، قَالَ: أَفَلا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ، ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ، قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لا يَضِيعَ مِنْ(1/76)
حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ!! هَؤُلاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلالَةٍ؟! قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلاَّ الْخَيْرَ، قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ"
الفوائد التي تؤخذ من الحديث والقصة
1- الذي شرع الغاية لم ينس الوسيلة، فعندما شرع الله الذكر لم ينس وسيلته؛ فقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما أخرجه أبو داود، والترمذي، والحاكم، من حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ يعقد التسبيح بيمينه، ويقول: "إنهن مستنطقات".
2ـ البدعة الإضافية ضلالة
وهي: التي تستند إلى دليل من جهة الأصل، وغير مستندة من جهة الكيف والصفة؛ فسميت إضافية؛ لأنها لم تخلص لأحد الطرفين: المخالفة الصريحة، أو الموافقة الصحيحة.
فهؤلاء القوم لم يقولوا كفراً، ولم يفعلوا نكراً ـ فيما يظهر لهم ـ بل كانوا يذكرون الله ، وهو أمر مشروع بالنص، إلا أنهم خالفوا الكيفية والصفة التي سنها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنكر الصحابة عليهم وأمروهم أن يعدوا سيئاتهم.
3ـ الله سبحانه وتعالى لا يعبد إلا بما شرع، لا بالأهواء والعوائد والبدع.(1/77)
4ـ البدعة تميت السنة، فهؤلاء النفر اخترعوا صفة للذكر لم تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأماتوا هدي محمد صلى الله عليه وسلم وهذا أصل فهمه السلف الصالحون، وعلموا يقيناً أن البدعة والسنة لا تجتمعان.
ولنا أن نتذكر قول التابعي حسان بن عطية ـ رحمه الله ـ والذي أخرجه الدارمي: "ما ابتدع قوم بدعة في دينهم، إلا نزع من سنتهم مثلها".
5ـ البدعة سبب الهلاك؛ لأنها تقود إلى ترك السنة، وفي ذلك ضلال بعيد، قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ "ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم" وإذا ضلت الأمة هلكت، لذلك قال عبد الله بن مسعود لتلك الحلق: "يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم!".
وفي الأثر دلالة على أن الصحابة جميعهم على هذا الإنكار لأن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه احتج على الحلق بأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ متوافرون.
6- البدعة بريد الكفر، لأن المبتدع نصب نفسه مشرعاً، ولله نداً، فاستدرك على أحكم الحاكمين، وظن أنه على ملة أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم. قال شيخنا في "الصحيحة" (5/14): ألا ترى أن أصحاب تلك الحلقات صاروا بعد من الخوارج الذين قتلهم الخليفة الراشد علي بن أبي طالب؟ فهل من معتبر.
7- البدع تفتح باب الخلاف على مصراعيه ـ وهو باب ضلالة ـ ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيء؛ لأن الدال على الشر كفاعله.
8- التقليل من شأن البدع يقود إلى الفسوق والعصيان والخروج على جماعة المسلمين وإمامهم، ألم تر أن هؤلاء النفر أصبحوا في صفوف الخوارج يوم نهروان يقاتلون الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بقيادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ الذي استأصل شأفتهم في ذلك اليوم المشهود.(1/78)
9- ومن الفوائد التي تؤخذ من الحديث والقصة؛ أن العبرة ليست بكثرة العبادة، وإنما بكونها على السنة، بعيدة عن البدعة، وقد أشار إلى هذا ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ بقوله أيضاً: "اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة".
(23)
خطر اتباع الهوى
…لقد نزَّه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن النطق بالهوى ، أو أن يقول شيئاً من عند نفسه في أمر الدين ، فكان مطلع سورة النجم :ـ (( والنجم إذا هوى (1) ما ضلَّ صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3)0
…قال ابن كثير : وقوله تعالى :ـ (( ما ضلَّ صاحِبُكُم وما غَوى )) ، هذا هو المقسم عليه وهو الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه راشد ، تابع للحق ، ليس بضالٍ 0 والضال هو الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم0 والغاوي هو العالم بالحق العادل عنه قصداً إلى غيره 0 فنزَّه الله رسوله ، وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود وهي علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه 0 بل هو صلاة الله وسلامه عليه وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ، لذا قال الله تعالى :ـ ((إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحَى )) ، أي إنما يقول ما أمر به يبلغه كاملاً موفوراً من غير زيادة أو نقصان 0 اهـ 0
…وحين خطَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطَّه المستقيم الذي قال عنه : هذا صراط الله مستقيماً 0 كان لزاماً على المتتبع لهذا الصراط المستقيم ألاّ يتبع الهوى ، قال تعالى :ـ (( وأمّا من خاف مقام ربِّه ونهى النفس عن الهوى فإنَّ الجنة هي المأوى )) ـ ( سورة النازعات ، الآية: 40 )) 0
…قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : ونفس الهوى وهو الحب والبغض الذي في النفس لا يلام عليه ، فإنّ ذلك قد لا يملك وإنما يلام على اتباعه (1)0
…وقال أيضاً : ومجرد الحبّ والبغض هوى ، لكن المحرم إتباع حبه وبغضه بغير هدى من الله 0 اهـ 0(1/79)
…إذا فهذا الخط الذي خطّه النبي صلى الله عليه وسلم هو مراد الله تعالى الذي قال :ـ ((ثمَّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتَّبِعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون )) ـ ( سورة الجاثية : 18) 0
…وخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال :ـ (( فلذلك فادعُ واستقمْ كما أُمِرْتَ ولا تتبع أهوائهم )) ـ ( سورة الشورى : 15 ) 0
…بعد أن قال :ـ (( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله )) ـ (سورة الشورى ، الآية:10) 0 فالحكم حكم الله وما أوحى إلى نبيه ، كقوله تعالى:ـ (( فإن تنازعتم في شيءٍ فرُدُّوه إلى الله والرسول )) ـ ( سورة النساء ، الآية : 59 ) 0 وقوله تعالى في سورة المائدة :ـ ((فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عمَّا جاءك من الحق )) ـ ( الآية : 48 ) 0
…لذا قال تعالى في سورة الشورى :ـ (( شرَّع لكم من الدين ما وصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصَّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرَّقُوا فيه )) ـ ( الآية: 13 )) 0
…قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1) : وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله 0
ثم قال الله تعالى :ـ (( وما تفرقوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم )).
قال ابن تيمية في "المجموع": فأخبر أن تفرّقهم إنما كان بعد مجيء العلم الذي بيَّن لهم ما يتقون ، فإنّ الله ما كان ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتى يبيِّن لهم ما يتقون 0(1/80)
وكذلك الحال في هذه الأمة ، فإنّ التفرق لم يقع بينها إلاّ بعد قيام حجة الله عليهم بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبعد أمرهم بالائتلاف والاجتماع ونهيهم عن التفرق والاختلاف وبعد تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من التفرّق ، وبعد أن قصَّ الله علينا تفرّق الأمم السابقة واختلافهم وذلك حتى يكون لنا العبرة فيهم فلا نختلف كما اختلفوا ولا نتفرّق كما تفرقوا 0 اهـ 0
وقال تعالى في سورة الأعراف :ـ (( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين (175) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذَّبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176) .
ثُمّ عرَّفَ حال مُتَّبِعِي الهَوى فقال :ـ (( من الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزبٍ بما لديهم فرحون )) ـ ( الآية : 32 ) 0
قلت : لقد حصل التكذيب بعد العلم 0 وقال تعالى في سورة القصص:ـ (( فإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَائَهُم وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدَىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الْظَّالِمِيْن (50) ولقد وصلنا لهم القول لعلَّهم يتذكرون (51) .
وقوله تعالى مفسرا في سورة الجاثية :ـ (( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون )) ـ ( سورة الجاثية ، الآية : 23 )) 0(1/81)
لقد أضلَّه الله تعالى بعد بلوغه العلم وقيام الحجة فهو إذاً من الظالمين 0 قال تعالى يخاطب رسوله والمراد أمته :ـ (( ولئن اتبعت أهوائهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين )) ـ ( سورة البقرة، الآية : 145 )) 0 وقال تعالى في سورة الرعد :ـ (( ولئن اتبعت أهوائهم من بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من وليٍّ ولا واقٍ )) ـ (الآية : 37 )) 0 قال ابن كثير : وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعد ما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية ، على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام 0
من أجل هذا كلّه : حذَّر الله تعالى إتباع الهوى فقال :ـ (( فلا تتبعوا الهوى )) ـ ( سورة النساء ، الآية : 135 )0
(24)
إن بني إسرائيل لما هلكوا قصوا
أخرج الطبراني في "المعجم الكبير" ، وأبو نعيم في "الحلية" ، وهو في الصحيحة (1681) عن خباب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( إنّ بني إسرائيل لمّا هلكوا قصّوا )
قال في النهاية:
إي اتكلوا على القول وتركوا العمل ، فكان ذلك سبب هلاكهم ، أو بالعكس، لما هلكوا بترك العمل أخلدوا إلى القصص.
قال شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ:
وأقول ومن الممكن أن يقال: إن سبب هلاكهم اهتمام وعّاظهم بالقصص والحكايات، دون الفقه والعلم النافع الذي يعرِّف الناس بدينهم فيحملهم ذلك على العمل الصالح، لما فعلوا ذلك هلكوا، وهذا هو شأن كثير من قصّاص زماننا الذين جل كلامهم في وعظهم حول الإسرائيليات والرقائق والصوفيات ، نسأل الله العافية.(1/82)
قلت: والقصص حلوٌ للعوام، خاصة إذا كان القاصّ حلو اللسان، فكان من هلاك الناس أن هؤلاء القصّاص حوّلوا الناس عن العلم النافع والعمل الصالح إلى القصص التي أكثر ما فيها إسرائيليات وأحاديث ضعيفة يمتعهم بسماعها، يحوّل وجوه الناس إليه بدلاً من أن يحوِّلهم إلى أهل العلم يطلبون ما ينفعهم ظانّاً هذا المُسيكين أنه بافترائه على الله ورسوله يخشّع الناس ويجعل في قلوبهم مخافة الله؟! فإلى الله المشتكى مما ابتلي به المسلمون اليوم من هؤلاء القصّاص الذين لبّسوا على الناس دينهم بحجة وعظهم.
أخرج الخطيب البغدادي عن مالك بن دينار قوله:
( تلقى الرجلَ وما يلحنُ حرفاً وعمله لحن كلُّه ).
وعن إبراهيم بن أدهم قوله:
(أعربنا في الكلام فما نلحن، ولحنّا في الأعمال فما نُعرب).
وعن بعض الزهّاد:
لم نؤتَ من جَهْلٍ ولكننا نَسْتُرُ وجهَ العِلْمِ بالجهلِ
نكره أن نَلْحَنَ في قولنا ولا نُبالي اللَّحْنَ في الفعلِ
وأنشد هلال بن العلاء الباهلي لنفسه:
سَيَبْلى لسانٌ كان يُعْرِب لفظةً
فيا ليتهُ من وقْفَةِ العَرْضِ يسلَمُ
وما ينفع الإعراب إن لم يكن تقىً
وما ضرَّ ذا تقوى لسانٌ معجَّمُ
أخرج الإمام ابن جرير الطبري في " التفسير " (1/35) عن عبد الله بن مسعود قوله: كان الرجل منّا إذا تعلّم عشر آيات لم يجاوزهنّ ، حتى يعرف معانيهنّ ، والعمل بهنّ.
وفي رواية أخرى أخرجها عن أبي عبد الرحمن (1/36) قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات ، لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً.
وقالت أم سفيان الثوري له ، وهي تعظه: " يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر: هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك، فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك"(1).(1/83)
وعن الحسن قال: " قد كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في: تخشعه، وهديه، ولسانه، وبصره، وبرّه ".
قال الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي في كتابه " فتح المنعم ":
اعلم ـ أصلحك الله ـ أن تفضيل العالم على العابد، الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: "فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ"..الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم:" فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ..الحديث.
لا يراد منه أن العالم المفضَّل عار عن العمل، والعابد عن العلم، بل المراد أن علم ذلك غالب على عمله، وعمل هذا غالب على علمه، فإن العابد إذا كان عارياً عن العلم لا يُسمى في عرف الشرع عابداً، بل يُسمى فاسقاً، لأنه بدوام تركه تعلم فروض العين لا يزال فاسقاً؛ كما قال بعض العلماء:
وجاهل لفرضِ عينٍ لم يَجُزْ
إطلاقُ " صالحٍ " عليه فاحترِزْ
لأنه بتركِهِ التعلُّما
لم يَنِ فاسقاً قال العُلَما
أي يقول العلماء: إنه لم يزل فاسقاً بتركه التعلم الواجب عليه، فالصالح لا يُطلق شرعاً إلا على القائم بحقوق الله وحقوق العباد، ولا يمكن ذلك بدون العلم:
وقائمٌ بِحَقِّ ربه وحَقِّ
عِباده فصالحاً قد استحق
فالصالح مرادف للعابد، لأن عبادة العابد بدون علم لا تسمى عبادة؛ لأن ما يفسده صاحبها أكثر مما يصلحه:
إن الذي بدون علمٍ يَعْبُدُ
لا يُحسن العملَ لكن يُفْسِدُ
فترد أعماله ، ولا تقبل لخلوها عن العلم:
وكل من بغير علمٍ يعملُ
أعماله مردودةٌ لا تُقْبَلُ
والحاصل أن العابد هو العالم الذي غلب عمله على علمه، ولم يشتغل بتعليم الناس، بخلاف العالم فإن الغالب عليه التعليم، والافتاء، والتصنيف.
مهما فاتك من العلم فلا يفوتنَّك العَمَل(1/84)
ينبغي لمن أراد التفقه في الدين في أول طلبه أن يمزجه بالتعبد، إذ إنه ليس ثَمَّ عمر طويل في الغالب حتى يترك له برهة منه، فيخشى عليه أن يموت وهو في السبب، قبل وصوله للمقصود(1).
أخرج الخطيب البغدادي في كتابه "اقتضاء العلم العمل" (61) عن حفص بن حميد يقول: دخلت على داود الطائي أسأله عن مسألة وكان كريماً فقال:
أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب؟ أليس يجمع آلته، فإذا أفنى عمره في الآلة فمتى يحارب؟ إن العلم آلة العمل فإذا أفنى عمره في جمعه فمتى يعمل؟.
وأخرج أيضاً عن أبي عبيد القاسم بن سلام يقول: سمعني عبد الله بن ادريس أتلهف على بعض الشيوخ فقال لي:
يا أبا عبيد مهما فاتك من العلم فلا يفوتنَّك العمل.
أنشد أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصوري لنفسه:
كم إلى كم أغدوا إلى طلب العلـ
ـم مُجدّا في جمع ذاك حَفياً
طالباً منه كلَّ نوع وفَنٍّ
وغريبٍ ولست أعملُ شيّا
وإذا كان طالب العلم لا يعـ
ـــمل بالعلم كان عبداً شقيّا
إنما تنفع العلوم لمن كا
ن بها عاملاً وكان تقياً
ومما ينبغي أن يُعلم أن السلف ـ رضوان الله عليهم ـ لا يطلقون اسم الفقه إلا على العلم الذي يصحبه العمل، كما سُئل سعد بن إبراهيم عن أفقه أهل المدينة فقال: أتقاهم.
(25)
إن الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة
معنى قوله صلى الله عليه وسلم:
إن الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة
الحديث أخرجه أبو الشيخ في "تاريخ أصبهان"، والطبراني في "الأوسط"(4202) ولفظه: إن الله حجب التوبة عن صاحب كل بدعة، والهروي في "ذم الكلام" (960)، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وابن أبي عاصم في "السنة"(37)، وهو في الصحيحة (1620).
وأورد المنذري الحديث في "الترغيب والترهيب" (54 ـ صحيح الترغيب والترهيب) كتاب السنة، الترهيب من ترك السنة وارتكاب البدع والأهواء.(1/85)
فالحديث فيه ما فيه من الترهيب من ترك السنة وارتكاب البدعة، والحديث في عمومه دال على عدم توبة المبتدع والحيال بينه وبين التوبة وحجبه عنها.
قال الله عز وجل في سورة النور (..فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)، قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في قوله تعالى: (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) قال: أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة.
وقال الله تعالى في سورة الأنفال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24).
قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ:
يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو: الاستجابة لله وللرسول، أي الانقياد لما أمر به، والمبادرة إلى ذلك، والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه، والنهي عنه.
وقوله: (إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) وصف ملازم، لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلب والروح بعبودية الله، ولزوم طاعته، وطاعة رسوله، على الدوام.
ثم حذر من عدم الاستجابة لله وللرسول فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) فإياكم أن تردوا أمر الله، أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك. وتختلف قلوبكم فإن الله يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث يشاء، ويصرفها أنى شاء.
فليكثر العبد من قول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب اصرف قلبي إلى طاعتك".أ.هـ
وقال الشيخ سلطان المعصومي ـ رحمه الله ـ في كتابه "تمييز المحظوظين من المحرومين" (ص:192):(1/86)
(وَاعْلَمُوا) أيها المؤمنون (أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وهذا تنبيه لأمرين عظيمين أمرنا الله تعالى أن نعلمهما علماً يقيناً:
الأول: أن من سنة الله في البشر الحيلولة بين المرء وقلبه، الذي هو مركز الوجدان والإدراك ذي السلطان على إرادته وعمله، وهذا أخوف ما يخافه المتقي على نفسه إذا لم ييأس من روح الله فيه.
ومعرفة هذه الجملة تثمر الخوف والرجاء، فكم من متق مهتد يضل عن الصراط المستقيم، ويميل إلى مهاوي الجحيم، بسبب شبهة تزعزع الاعتقاد، أو شهوة يغلب بها الغي على الرشاد، فيطيع هواه، ويتخذه إلهاً من دون الله، على أنه فيه مختار بلا جبر ولا اضطرار؛ كما وقع في هذا العصر من بعض معاصرينا، كعبد الله القصيمي في كتابه "هذي هي الأغلال" فإنه قد خالف النصوص الصريحة القرآنية، والأحاديث الصحيحة النبوية، في أحد وعشرين موضعاً من هذا الكتاب، ظاهره الكفر والزندقة، بعد أن كان مؤمناً موحداً يدافع عن الإيمان والتوحيد وأهله، ويصارع أهل الشرك والخرافات، كما في مؤلفاته السابقة، ككتابه "الصراع بين الإسلام والوثنية" و "البروق النجدية" و "شيوخ الأزهر" وغيرها، ولكن قد صدق الله العظيم (أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ).
وقال ـ رحمه الله ـ:
ومن جملة الأسباب الظاهرة مصاحبة المتفرنجين والزنادقة، والطمع فيما عندهم من مال الدنيا.
اللهم ثبت قلوبنا على دينك، (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(8) سورة آل عمران.
اللهم توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.أ.هـ
المبتدعة يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون فيه
فعلى المسلم أن يحذر أن تصيبه فتنة من الله تعالى، أو أن يحول الله بينه وبين قلبه.(1/87)
فمن الأحاديث الدالة على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في وصف الخوارج من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ" ..الحديث.
وفي رواية لمسلم من حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي، أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي، قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَلاقِيمَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ".. الحديث.
أخرج ابن وضاح في كتابه "البدع والنهي عنها" (ص:62)، عن حماد بن زيد عن أيوب ـ يعني السختياني ـ قال: كان رجل يرى رأياً فرجع عنه فأتيت محمداً فرحاً بذلك أخبره، فقلت: أشعرت أن فلاناً ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال: انظروا إلى ما يتحول إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله، يمرقون من الإسلام لا يعودون فيه.
وأخرجه اللالكائي في "شرح اعتقاد أصول أهل السنة والجماعة" (286) ولفظه: قال رجل لأيوب:
يا أبا بكر إن عمرو بن عبيد قد رجع عن رأيه !!
قال: إنه لم يرجع.
قال: بلى يا أبا بكر إنه قد رجع.
قال أيوب: إنه لم يرجع ـ ثلاث مرات ـ أما أنه لم يرجع، أما سمعت إلى قوله: (يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ).
وأيوب صاحب الأثر يرى أن كل الأهواء خوارج ينطبق عليهم هذا الأثر، فقد أخرج اللالكائي (290) عن سلام بن أبي مطيع قال: وكان أيوب يسمي أهل الأهواء كلهم خوارج ويقول: الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف.(1/88)
وأخرج ابن وضاح عن أبي عمرو الشيباني قال: كان يقال: يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها.
وأخرج عن عبد الله بن القاسم وهو يقول: ما كان عبد على هوى فتركه إلا إلى ما هو شر منه، قال: فذكرت هذا الحديث لبعض أصحابنا فقال: تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مروق السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لا يرجعونِ حَتَّى يرجع السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ).
وأخرج اللالكائي (285)، عن الحسن البصري قال: "أبى الله تبارك وتعالى أن يأذن لصاحب هوى بتوبة". ولفظه عند ابن وضاح: "أبى الله لصاحب بدعة بتوبة".
وفي كتاب "البدعة وأثرها السيء في الأمة" بيًّن الشيخ سليم الهلالي ـ حفظه الله ـ في الفصل الثامن، خطورة البدع ، ومما قاله بعد ذكر حديث الخوارج يبين أن صاحب البدعة لا يزداد من الله إلا بعداً: "يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّة"..الحديث؛
قال: فبيًّن اجتهادهم في بدعتهم، ثم بيًّن آخراً بُعدهم من الله تعالى.
وقال: التوبة عن المبتدع محجوبة، ما دام مصراً على معصيته، وما برح مقيماً على بدعته، لذلك يخشى عليه سوء الخاتمة. واستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إن الله حجب التوبة عن صاحب كل بدعة".
(1) السلسلة الصحيحة، حديث رقم: 2026
(1) الصلصة: صوت الحديد إذا وقع بعضه على بعض
(2) يفصم عني: يقلع عنه.
(3) يتفصَّد: يسيل
(4) الجران: هو باطن العنق.
(1) "صحيح بيان العلم وفضله " لابن عبد البر (صفحة: 106).
(1) "إسعاف المبطأ برجال الموطأ " (صفحة:4).
(1) البرك: صدر كل شيء، والمراد أنهم المقدمون من المؤمنين، يقصد بهم الصحابة رضوان الله عليهم.(1/89)
(2) راجع غير مأمور، كتاب "صحيح جامع بيان العلم وفضله" للشيخ الفاضل: حسن الزهيري.
(2) أخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله"، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ".
(1) المقصود بذلك: بجعلهم على محك الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في " الفقه والمتفقه" ( 1/28).
(1) " صحيح جامع بيان العلم وفضله " (صفحة:28).
(2) " سورة مريم " الآية: 12
(3) " سورة الزخرف " الآية: 63
(4) " سورة آل عمران " الآية: 48
(5) " سورة الأحزاب " الآية: 34
(1) فتح الباري: كتاب الزكاة (1409)، وكتاب الأحكام (7141)، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7316)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين " باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلِّمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره، فعمل بها وعلمها" (1352)، وكتاب الزهد (4198)، وأحمد (3469) و (3900). وأخرجه: النسائي وابن ماجه والطبراني والبيهقي وغيرهم كثير، ولله الحمد.
(1) أي: رئيسها.
(2) قَطَن النار: القيِّم على نار المجوس وموقدها، جمعها أقطان.
(1) أي: تسكن ويخمد لهيبها.
(1) عالم، رئيس من علماء النصارى رؤسائهم.
(2) القلّة: هي الجرار، والقُلَّة: التي يستخدمونها، سميَّت قلة لأنها تُقَلّ، ترفع وتحمل.
(3) أي: فضة.
(1) الحرّة: أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنها أحرقت بالنار.
(1)العذق ـ بفتح العين ـ: النخلة بحملها، والعِذق ـ بالكسرـ: الكباسة، وهو من التمر كالعنقود من العنب.
(2) يريد: الرعدة، والعُرواء: برد الحمى أول مسها.
(1) هي حفرة تحفر للفسيلة إذا حولت لتغرس فيها.
(1) واحدة الوديّ: وهو صغار الفسيل، والفسيلة: هي النخلة الصغيرة، تقطع من الأم أو تقلع من الأرض فتغرس، وهو أيضا جزء من النبات يفصل عنه ويغرس.
(2) أي: أحفر لها موضعا تغرس فيه، واسم تلك الحفرة: فُقرة وفقير.
(1) " صفة الصفوة " (3/189).
(1) " فتح المنعم " للشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي.
??
??
??
??
1
15(1/90)
سلسلة اقرأ (2)
منشورات الدعوة السلفية
كتاب رقم (77)
نور على الدرب
كلمات في الدعوة والمنهاج
إعداد
أبي عبد الرحمن السلفي المقدسي
هشام بن فهمي العارف
?
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102)سورة آل عمران.
(يا أيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1)سورة النساء.
(يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)سورة الأحزاب.
أما بعد،
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
فهذه بفضل من الله تعالى سلسلة اقرأ جمعتها هنا تحت عنوان "نور على الدرب، كلمات في الدعوة والمنهاج" بعد أن كانت مفرقة على شكل مقالات، وهذه المقالات نشرت في جريدة القدس "جريدة يومية سياسية تأسست سنة 1951" في القدس ـ فلسطين، وفي مجلة الأصالة "رسالة إسلامية منهجية جامعة" الناشر لها: مركز الألباني للدراسات المنهجية والأبحاث العلمية ، في عمان ـ الأردن، وفي مجلة السبيل التي كانت تصدرها جمعية القرآن والسنة في قلقيلية ـ فلسطين.(2/1)
وهذه المقالات هنا مسلسلة من رقم 26 إلى رقم 50 مجموعة في هذا الكتاب تحت عنوان سلسلة اقرأ (2) ومن ثم يليها إن شاء الله سلسلة اقرأ (3) كلما سنحت الفرصة لجمع مقالات أخرى.
وإليك المقالات:
26- قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. درس في المسجد الأقصى في آخر جمعة من رمضان 1423 هـ.
27- تفسير قوله تعالى : إن هو إلا ذكر وقرآن مبين : درس في المسجد الأقصى .
28- من هم الأخسرون؟ : نشرتها جريدة القدس على حلقتين ، العدد 11950 تاريخ 20/9/1423 هـ والعدد 11951 تاريخ 21/9/1423 ، ومجلة الأصالة العدد 43 .
29- معنى قوله تعالى : عتل بعد ذلك زنيم : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11245 تاريخ 14/9/1421.
30- معنى قوله تعالى فذكر إن نفعت الذكرى : نشرتها مجلة السبيل العدد 5 و6 تاريخ 12/1418 .
31- تفسير سورة المسد : نشرتها مجلة السبيل العدد 8 تاريخ 6/1419 .
32 - وحدة الصف من تسوية الصف : نشرة (سلسلة من هم الغرباء؟).
33- منازل الندم : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11935 تاريخ 5/9/1423 .
34- أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11247 تاريخ 16/9/1421 .
35- إن الله لا يحب العقوق : نشرتها جريدة القدس 11604 تاريخ 24/9/1422.
36- لا يدخل الجنة قاطع : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11260 تاريخ 29/9/1421 .
37- بلوا أرحامكم ولو بالسلام : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11255 تاريخ 24/9/1421 .
38- اتقوا الله وصلوا أرحامكم : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11258 تاريخ 27/9/1421 .
39- أرحامكم أرحامكم : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11253 تاريخ 22/9/1421 .
40- التائب من الذنب كمن لا ذنب له : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11593 تاريخ 13/9/1422 .
41- على كل عضو من أعضاء بني آدم صدقة : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11594 تاريخ 14/9/1422.
42- حب الدنيا رأس كل خطيئة : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11606 تاريخ 26/9/1422.(2/2)
43- حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11598 تاريخ 18/9/1422.
44- الناس أربعة والأعمال ستة : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11584 تاريخ 4/9/1422.
45- يا أيها الناس ابتاعوا أنفسكم من الله من مال الله : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11586 تاريخ 6/9/1422.
46- من صمت نجا : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11589 تاريخ 9/9/1422.
47- خير الناس من طال عمره وحسن عمله : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11600 تاريخ 20/9/1422.
48- إن عظم الجزاء من عظم البلاء : نشرتها جريدة القدس ، الأعداد 11853 و11751و12033 تاريخ 3/9/1422 و 27/2/1423و20/12/1423 ومجلة الأصالة ، العدد36.
49- مصدر المعرفة الصحيح : نشرتها جريدة القدس ، العدد 11949 تاريخ 19/9/1423.
50- الحذر من الأهواء : مقالة مقتطعة من كتاب "تبصير المسلمين إلى الصراط المستقيم".
(26)
قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين
1/ طريق الفلاح
في سورة النور قال الله تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(51). لقد حصر الله تعالى الفلاح في الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم حين يدعون إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، سواء وافق أهوائهم أو خالفها (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أي: سمعنا حكم الله ورسوله، وأجبنا من دعانا إليه ، وأطعنا طاعة تامة، سالمة من الحرج.(2/3)
وفي سورة الأعراف (39/نزول) حين كان السياق في أحوال بني إسرائيل تلك الأمة التي سبقتنا قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(157)، وفيها لفت الله تعالى انتباه أهل الكتاب إلى ضرورة اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإيمان به شرط في دخولهم الإيمان وهو الذي يجدونه باسمه وصفته والتي من أعظمها وأجلها ما يدعو إليه وينهى عنه. وأنه صلى الله عليه وسلم جاءهم وهم في ظلمات الشك والحيرة لما وقع ما وقع في كتبهم وعلومهم الشرعية من التحريفات والمبتدعات والتأويلات الفاسدة الضالة فجاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالصفة التي يعرفونها ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فهو صلى الله عليه وسلم يأمر بتوحيد الله عز وجل وترك ما يعبد سواه، ويأمرهم بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار والمملوك، وبذل النفع لسائر الخلق، والصدق، والعفاف، والنصيحة، وما أشبه ذلك، وينهاهم عن الشرك بالله تعالى، وقتل النفوس بغير حق، والزنا، وشرب ما يسكر العقل، والظلم لسائر الخلق، والكذب ، والفجور، ونحو ذلك. ويحل لهم من الطيبات من المطاعم والمشارب والمناكح، ويحرم عليهم الخبائث من المطاعم والمشارب والمناكح والأقوال والأفعال. ومن وصْفه صلى الله عليه وسلم أن دينه سهل سمح ميسر، لا إصر فيه ولا أغلال، ولا مشقات ولا تكاليف ثقال. ثم قال الله تعالى مبيناً سبيل الفلاح وذلك(2/4)
باتباع ما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) أي: فالذين عظموه وبجلوه ونصروه صلى الله عليه وسلم واتبعوا النور الذي أنزل معه وهو القرآن ـ الذي يستضاء به في ظلمات الشك والجهالات والضلالات ـ أولئك هم المفلحون، ففي الآية كما ترى أيضاً مخرج مهم لأهل الكتاب وغيرهم للخروج من ظلمات الشك والحيرة.
2/ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ
وفي سورة فاطر(43/نزول) قال الله تعالى (وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ(19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ(20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ(21) وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ ..(22). قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ يخبر تعالى انه لا يتساوى الأضداد في حكمة الله، وفيما أودعه في فطر عباده. فكما أنه من المتقرر عندكم، الذي لا يقبل الشك أن هذه المذكورات لا تتساوى، فكذلك فلتعلموا أن عدم تساوي التضادات المعنوية أولى وأولى. فلا يستوي المؤمن والكافر ، ولا المهتدي والضال، ولا العالم والجاهل، ولا أصحاب الجنة وأصحاب النار، ولا أحياء القلوب وأمواتها، فبين هذه الأشياء من التفاوت والفرق ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فإذا علمت المراتب وميزت الأشياء وبان الذي ينبغي أن يتنافس في تحصيله من ضده فليختر الحازم لنفسه ما هو أولى به وأحقها بالإيثار. أنتهى.(2/5)
وإيضاحاً في زيادة التمثيل فبعد أن بين الله تعالى حال الكفرة الفجرة، وبين حال المؤمنين البررة قال في سورة هود: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ(24). فضرب الله تعالى في هذه الآية المثل للكافر بالأعمى والأصم، وضرب المثل للمؤمن بالسميع والبصير وبين أنهما لا يستويان. وقوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ ..) فالأحياء هنا المؤمنون، والأموات الكفار، وجاء هذا المعنى واضحاً في قوله تعالى في سورة الأنعام: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ..(122). فقوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا) أي: موت كفر فأحييناه حياة إيمان. فالكافر يعيش في ظلام دامس، ظلام الكفر والجهل والمعاصي، فحين يتوب ويرجع إلى ربه فإنه يحيا بنور العلم والإيمان والطاعة، ويمشي بين الناس في النور، متبصراً في أموره مهتدياً لسبيله، عارفاً للخير مؤثراً له، مجتهداً في تنفيذه في نفسه وفي غيره.
قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: "أفيستوي هذا بمن هو في الظلمات ، ظلمات الجهل والغي والكفر والمعاصي، ليس بخارج منها قد التبست عليه الطرق وأظلمت عليه المسالك فيحضره الهم والغم والحزن والشقاء. فنبه الله تعالى العقول بما تدركه وتعرفه أنه لا يستوي هذا ولا هذا كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، والأحياء والأموات".(2/6)
والجزاء من جنس العمل فالله تعالى في سورة طه (45/نزول) قال: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126). فالكافر يحشر يوم القيامة في أول وهلة أعمى وأصم وأبكم على الحقيقة لأنه تعامى عناداَ وطغياناً وكفراً عن الحق في الدنيا قال الله تعالى في سورة الإسراء (50/نزول): (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا(97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا(98).
3/ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ
وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ(2/7)
وفي مطلع سورة الأنعام (55/نزول) قال الله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1) ، وفي خلق الله تعالى وجعله الظلمات والنور دلالة قاطعة أنه تعالى هو المستحق للعبادة وإخلاص الدين له، فليس بين الظلمات والنور مساواة فكيف بهؤلاء الكفار يعدلون به سبحانه سواه، فيسوون شركائهم به سبحانه في العبادة والتعظيم؟!! ثم قال الله تعالى في السورة: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ(50).(2/8)
ثم في السورة شنع الله تعالى على اليهود والمشركين الذين قدموا العمى على الهدى واختاروا إخفاء الحق وإعلان الباطل فقال: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ(91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا..(92). وهذه الآيات نزلت في قريش وطائفة من اليهود ، وقد كان كتاب الله ـ التوراة ـ الذي نزل على موسى نوراً وهدى للناس ، يعني أنه يستضاء به في كشف المشكلات ويهتدى به من ظلم الشبهات، لكن أهل الضلال المغضوب عليهم جعلوا من التوراة قراطيس ، أي: قطعاً مكتوبة من الكتاب الأصلي الذي بأيديهم ويحرفون منها ما يحرفون، ويبدلون ويتأولون ويقولون: هذا من عند الله!!! وقد فضح الله أعمالهم هذه في سورة البقرة فقال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ(79).
وبين الله تعالى في الآية أنهم ـ يعني اليهود ـ تعلموا من التوراة ـ الكتاب الأصلي ـ العلوم الشرعية المفيدة والعقيدة الصحيحة، فإذا سألوا من أنزل هذا الكتاب؟ ـ يعني التوراة الذي فيه النور والهدى ـ قل: الله الذي أنزله، فحينئذ يتضح الحق وينجلي مثل الشمس. فإذا ألزموا بهذا الإلزام فاتركهم يخوضوا في الباطل ويلعبوا بما لا فائدة فيه حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.(2/9)
ثم أشار الله تعالى إلى القرآن ووصفه بأنه مبارك ومن بركته أنه مصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة، فأي نور بعد هذا النور؟.
فكان من صناعتهم الخسيسة كما رأيت حياكة الباطل، والتلبيس على الناس، وفي الآية رسالة مهمة للمبتدعة في أمة محمد فعليهم أن يتقوا الله عز وجل ولا يفعلوا فعل من استحق غضب الله تعالى من التلاعب في نصوص كتاب الله تعالى ، وأحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك بتحريف معانيها خلاف فهوم الصحابة والتابعين لهم بإحسان اتباعاً للهوى، فإن هذا النوع من التلبيس يطمس النور ويوقع الناس في الحيرة والشك. كما حصل في أسلافهم من أمة بني إسرائيل.
وحيلة وكيد هؤلاء المتلاعبون بدين الله ضعيف جداً لأنهم غيبوا رقابة الله عنهم ظانين أن الله ليس بعليم ولا بسميع ولا ببصير قال الله تعالى في سورة التوبة يفضح نواياهم الخسيسة: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(32). وقال في سورة الصف: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8).
إن الله تعالى لهؤلاء المتلاعبين بكتاب الله وسنة رسله بالمرصاد، ألا ترى إلى التوراة نوراً وهدى، فإذا تلاعب بها المتلاعبون فطمسوا ما فيها من النور والخير العظيم، بعث الله رسولاً وأنزل كتاباً فكان بعد موسى عيسى عليهما السلام مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتاه الله الإنجيل، وهكذا جاء محمد على فترة من الرسل وبعد أن دخلت الحيرة والشك قلوب الناس واحتاجوا إلى النور من جديد كان القرآن مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل وأمة محمد صلى الله عليه وسلم من رحمة الله بها أنه يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد دينه، فيشع النور من جديد.(2/10)
قال الله تعالى في سورة المائدة: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ(44).
ثم قال الله تعالى: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(46).
وقد نوه الله تعالى لعظم القرآن في مطلع السورة نفسها حاثاً من سبقنا من أهل الكتاب ـ التوراة والإنجيل ـ فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(16).
4/ نُورٌ عَلَى نُورٍ(2/11)
وفي سورة الشورى (62/نزول) رد الله تعالى افتراءاتهم الضالة وقال: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ(51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ(53). قال الشنقيطي ـ رحمه الله ـ: والضمير في قوله تعالى: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا) راجع إلى القرآن العظيم المذكور في قوله: (رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) وقوله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ) وعنى هذا: ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نوراً لأنه يضيء الحق ويزيل ظلمات الجهل والشك والشرك. كقوله تعالى في سورة النساء: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا(174).(2/12)
ومن رحمة الله تعالى على أمة محمد الأمة الخاتمة أن الله تعالى أعطاها ما تسترشد به مما وقع في الأمم السابقة لها من الغي والفسق والفجور والكفر واتباع الهوى لتحذر النتائج والعواقب في الدنيا والآخرة، وجعل كتابه القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، نور وبرهان، فمن اتبعه خرج من الظلمات إلى النور قال الله تعالى في مطلع سورة إبراهيم (72/نزول): (الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(1). ولأن الرسل رحمة من عند الله تعمل على إزالة الظلام والغشاوة وتحل محلها النور والاستقامة، وذلك من خلال التبيين والتصويب والتعريف ، التبيين لمراد الله تعالى ، والتصويب لما علق في ذهن الناس من تحريفات وأخطاء ومبتدعات وضلالات وخرافات، والتعريف بالخير والتحذير من الشر. فإذا استقام الناس حيث أطاعوا الله والرسول تحصلوا على الخير والنور، وإن عصوا ضلوا وبقوا في الشر والظلام، ولنا كما ذكرنا العبرة من بني إسرائيل لذا قال الله تعالى في السورة: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ..(5).
ومحمد صلى الله عليه وسلم مرسل من عند ربه وما فعله موسى مع قومه يفعله محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه قال الله تعالى في سورة الطلاق: (..فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ..(11).(2/13)
وقال الله تعالى في سورة التغابن: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(8).
والمؤمن من فضل الله عليه ورحمته أنه يخرجه من الظلمات إلى النور قال تعالى في سورة البقرة (87/نزول): (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(257).
وقال تعالى في سورة الأحزاب (90/نزول): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا(43).
قال الله تعالى في سورة النور:(2/14)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ(36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ(37) لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ(40).
(27)
……………
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ(2/15)
في سورة القلم (2/ نزول) قال الله تعالى: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ(51). فسمى الله تعالى القرآن ذكراً. وبيّن الله تعالى في الآية التالية أنه ذكر للعالمين فقال: (وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(52) يعني للجن والإنس. ويشهد أنه للجن أيضاً: قوله تعالى في سورة الجن: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا(1). وقوله تعالى في سورة الأحقاف: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ(29).
"لقد سمى الله القرآن ذكراً اعتباراً بالمطلوب بالنسبة إليه بعد العلم بما جاء فيه، أي: يقدم لمتلقيه في أول تلقيه له علماً ، ثم على المتلقي أن يجعله في ذكره دواماً، وأن يجدد تذكره عند كل مناسبة تستدعي ذلك فهو ذكر للعالمين.
فحين يوصف القرآن في آياته بأنه ذكر للعالمين فعلينا أن نفهم أن الواجب بالنسبة إليه أن نعلمه أولاً ثم نذكر ما فيه دواماً ، لأن الله عز وجل يطالبنا باعتقاد عقائده دواماً والتزام أخلاقه دواماً وبالعمل بشرائعه دواماً وهذا لا يكون إلا بذكره عند كل مناسبة تستدعي ذكره"(1).(2/16)
وفي سورة المدثر (4/نزول) قال الله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38)إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(40)عَنْ الْمُجْرِمِينَ(41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48) فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ(50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ(51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً(52) .
فقوله تعالى: (فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ(50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) تعجب من إعراضهم ونفورهم عن سماع القرآن والحجة ، فشبههم في إعراضهم عن الدعوة والتذكرة بالحمر الفارة من الصيادين أو الأسد، قال ابن عطية ـ رحمه الله ـ في المحرر: إثبات لجهالتهم لأن الحمر من جاهل الحيوان جداً. انتهى.
كما شبه الله تعالى العالم الغير منتفع بعلمه بالحمار يحمل أسفاراً.
وفي السورة قال الله تعالى: (كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ(53) كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ(54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ(56).
فكرر الردع والزجر على أن هذا القرآن حقاً موعظة بليغة فانتفعوا (وقيد انتفاعهم بمشيئة الله عز وجل) فالباب ما زال مفتوحاً، والفرصة ما زالت متاحة، فالله عز وجل أهل لأن يتقى، أهل لأن يغفر الذنوب.(2/17)
والناظر المتدبر في آيات الله تعالى يرى أن المكذبين بدين الله تعالى حين تظهر الحجة لا يوجهون الطعن لها، بل يوجهون الطعن للذي أقامها وبينها، لذلك حين سخروا هؤلاء بالنبي صلى الله عليه وسلم وتطاولوا على شخصه بقولهم: إنه مجنون، رد الله تعالى افترائهم في مطلع سورة القلم بقوله: (وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2) وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4). قال الشنقيطي ـ رحمه الله ـ: وهذا بمثابة الرد على الإدعاء الكاذب للمشركين، لأن أخلاق المجانين مذمومة، بل لا أخلاق لهم، وهنا أقصى مراتب العلو في الخلق.
وفي ختام السورة أيضاً رد الله تعالى ادعائهم ، عود على بدء، فقال: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ(51) وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(52). وتبين أن المراد بنعمة الله تعالى في أول السورة هو ما أوحاه الله تعالى لنبيه من الذكر.
وفي سورة التكوير (7/ نزول) قال الله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ(22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ(23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ(25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26) إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28).(2/18)
أجمع أهل العلم على أن المراد بالقول: هو القرآن. وأما المراد بالرسول الكريم: جبريل عليه السلام بدليل قوله تعالى: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ(22). فصاحبكم هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي صحبهم منذ ولادته.
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: وقوله تعالى: (أَمِينٍ) صفة لجبريل بالأمانة ، وهذا عظيم جداً أن الرب عز وجل يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ).
وبعد بيان قوة السند وتزكية الله تعالى لعبديه الملكي والبشري قال تعالى محذراً منذراً: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26) إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28). فما على العبد بعد الذكر إلا أن يستقيم على سبيل الحق فيتبعه.
ووصف صاحب الحق بالجنون ، والكهانة ، والشعر سنة المكذبين مع أهل الحق منذ نوح ، قال الله تعالى في سورة القمر: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ(9). فهذا سمت أهل الباطل يزعمون أن ما هم عليه من الباطل والشرك والضلال هو الذي يدل عليه العقل، وأن ما جاء به نوح عليه الصلاة والسلام جهل وضلال، لا يصدر إلا من المجانين، وكذبوا في ذلك، وقلبوا الحقائق الثابتة شرعاً وعقلاً، وقد زجره قومه وعنفوه عندما دعاهم إلى الله تعالى وهكذا فعل أعداء الرسل.(2/19)
ولما كانت هذه الأذية شنيعة في حق الأنبياء والرسل وأتباعهم مستمرة إلى قيام الساعة، فقد أمر الله تعالى نبيه وأتباعه بالاستمرار في التذكير ولو استمر وصف الأعداء لهم بالجنون والكهانة والشعر فقال مدافعاً نافياً عن نبيه هذه الصفات في سورة الطور: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ(29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ(30).
وقد أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إمام أهل الذكر، أن يذكِّرَ الناس ويكرر الذكرى عند مظنة النفع تكريراً تقوم به حجة الله على خلقه فقال في سورة الأعلى وهي التالية للتكوير في النزول (87/مصحف، 8/نزول):(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى(9). وقال في سورة ق (50/مصحف، 34/نزول):(..فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ(45).
وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه واضح جلي لمن تأمله وتدبره فقال في سورة يس (36/مصحف، 41/نزول): (..إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ(69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ(70).
ولما استمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتذكير بالقرآن والسنة، ازداد أهل الإيمان والتقوى إيماناً وتقوى، وازداد الكفار ضلالاً وغياً وكانوا قوماً حمقى، ولما نصعت الحجة زاد الكفار من بغضهم للنبي صلى الله عليه وسلم وزادت عداوتهم له، ويبدو ـ والله أعلم ـ أنهم حين كانوا يصفونه صلى الله عليه وسلم بالجنون حين سمعوا منه القرآن لأول مرة كان الوصف محصوراً عليهم كما هو في سورة القلم، لكنهم أخيراً حين طفح غيظهم أسفروا عن عداوتهم وانطلقوا في هذه العداوة الشديدة للنبي صلى الله عليه وسلم معلنين مجاهرين واصفين محمد صلى الله عليه وسلم بالجنون كما ذكر الله عز وجل في سورة الحجر (15/مصحف، 54/نزول): (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ(6).(2/20)
قال الشنقيطي: قد يقال في هذه الآية الكريمة كيف يقرون بأنه أنزل إليه الذكر وينسبونه للجنون مع ذلك؟
والجواب أن قولهم ( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) يعنون في زعمه تهكماً منهم به. ويوضح هذا المعنى ورود مثله من الكفار متهكمين بالرسل عليهم صلوات الله وسلامه في مواضع أخر كقوله في سورة الشعراء عن فرعون مع موسى: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ(23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ(24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ(25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ(26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27).أ.هـ
ولما بلغت السخرية فيهم هذا الحد قال الله تعالى في السورة ـ يعني سورة الحجر ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9). ففي الآية رد على الكفار أن ما أوحاه الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم من الذكر الحكيم نعمة عظيمة وإنه سبحانه وتعالى يحفظها.
وختم الله تعالى السورة بقوله:(2/21)
(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ(87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ(88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ(89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ(90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ(91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ(94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ(95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99).
(28)
من هم الأخسرون؟!!
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ
قال الله تعالى في سورة النازعات ينقل كلام الأخسرين:
يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ(10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً(11)قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ(12).
حصر الله تعالى الخسارة في الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وخسروا الإيمان الذي دعتهم إليه الرسل فقال تعالى في سورة النمل: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ(4) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأخْسَرُونَ(5).(2/22)
وقال تعالى في سورة هود: (..وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(19) أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ(20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأخْسَرُونَ(22).
لماذا هؤلاء الأخسرون ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون مع أن لهم أسماعاً وأبصاراً؟!!
الجواب الأول واختاره ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ ونقله عن ابن عباس وقتادة: أنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحق سماع منتفع، ولا أن يبصروه إبصار مهتد، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين؛ عن استعمال جوارحهم في طاعة الله، وقد كانت لهم أسماع وأبصار. ويدل لهذا قول الله تعالى في سورة الأحقاف: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ..(26).(2/23)
الجواب الثاني واختاره الشنقيطي ـ رحمه الله ـ واستظهره وهو أن عدم الاستطاعة المذكورة في الآية إنما هو للختم الذي ختم الله على قلوبهم وأسماعهم، والغشاوة التي جعل الله على أبصارهم. ويشهد لهذا القول قول الله تعالى في سورة البقرة: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ..(7). وقوله في سورة الكهف: (..إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ..(57).
وذلك الختم والأكنة على القلوب جزاء من الله تعالى لهم على مبادرتهم إلى الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله في سورة النساء: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ..(155). وقوله في سورة الصف: (..فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ..(5). وقوله في البقرة: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا..(10). وقوله تعالى في سورة التوبة: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ..(125). وقوله تعالى في سورة الأنعام: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ..(110).(2/24)
الجواب الثالث: أن المعنى ما كانوا يستطيعون السمع أي لشدة كراهيتهم لكلام الرسل على عادة العرب في قولهم: لا أستطيع أن أسمع كذا إذا كان شديد الكراهية والبغض له ويشهد لهذا القول قوله تعالى في سورة فصلت: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا..(27). وقوله تعالى في سورة نوح: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(7). وقوله تعالى في سورة فصلت: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ(26).
قلت: وقد جاء في السنة التحذير من عدم الانصياع لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم بحجة عدم الاستطاعة فإن هذا يفضي إلى خطر عظيم فقد أخرج مسلم في "صحيحه"، وأحمد ، عن إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِمَالِهِ فَقَالَ: كُلْ بِيَمِينِكَ، قَالَ: لا أَسْتَطِيعُ قَالَ لا اسْتَطَعْتَ مَا مَنَعَهُ إِلا الْكِبْرُ قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ.
قال النووي في شرح مسلم: "فإن مجرد الكبر والمخالفة لا يقتضي النفاق والكفر، لكنه معصية إن كان الأمر أمر إيجاب".(2/25)
ومثله ما جاء في ترك الجماعة والجمعة، فعن الْحَكَمُ بْنُ مِينَاءَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ".
أخرجه مسلم، وابن ماجه، والنسائي، وأحمد ، وابن خزيمة، والدارمي وغيرهم.
وعن أبي الجعد الضمري ـ وكانت له صحبة رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ ثَلاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ".
أي: لقلة الاهتمام بأمرها، لا استخفافاً بها ؛ لأن الاستخفاف بفرائض الله تعالى كفر وردة؛ لأنه كفر قلبي.
وعَنْ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَتَّخِذُ أَحَدُكُمْ السَّائِمَةَ فَيَشْهَدُ الصَّلاةَ فِي جَمَاعَةٍ فَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ سَائِمَتُهُ فَيَقُولُ لَوْ طَلَبْتُ لِسَائِمَتِي مَكَانًا هُوَ أَكْلأ مِنْ هَذَا فَيَتَحَوَّلُ وَلا يَشْهَدُ إلا الْجُمُعَةَ فَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ سَائِمَتُهُ فَيَقُولُ لَوْ طَلَبْتُ لِسَائِمَتِي مَكَانًا هُوَ أَكْلأ مِنْ هَذَا فَيَتَحَوَّلُ فَلا يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ وَلا الْجَمَاعَةَ فَيُطْبَعُ عَلَى قَلْبِهِ".
الجواب الرابع: أن الله تعالى شبههم بالحجارة لا تسمع ولا تبصر فقوله تعالى: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) وهي صفة الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى في سورة الأعراف: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا..(195).(2/26)
لذلك فهؤلاء الأخسرون حين عطلوا حواسهم المهمة: السمع والبصر، عن الانتفاع بها في سماع كلام الله تعالى والعمل بمقتضاه، والتبصر بما في كتابه عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يختم على قلوبهم ويكونوا أعظم الناس يوم القيامة خسارة. ولعدة أسباب منها:
1/ أنهم اتخذوا الشيطان ولياً وقد نهى الله عن ذلك ويشهد لذلك قوله تعالى في سورة النساء: (..وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا(119). وقوله تعالى في سورة المجادلة: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ(19).
2/ الشرك بالله تعالى وقد نهى الله عنه ويشهد لذلك قوله تعالى في سورة الزمر: (..لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(65).
3/ النفاق والذي من علاماته: نقض العهد الذي بينه وبين الله تعالى، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، ويشهد له قوله تعالى في سورة البقرة: (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ(27).
4/ الكفر بكتاب الله تعالى وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويشهد له قول الله تعالى في سورة البقرة: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ(121).
5/ الاعتقاد بدين غير دين الإسلام ويشهد له قوله تعالى في سورة آل عمران: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ(85).(2/27)
6/ طاعة الكفار وموالاتهم ويشهد له قوله تعالى في سورة آل عمران: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(149).
7/ الأمن من مكر الله تعالى ويشهد له قوله تعالى في سورة الأعراف: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99).
8/ الكفر بالله تعالى وما يجب الإيمان به من كتبه ورسله أو شيء من الشرائع فقد حبط عمله بشرط أن يموت على كفره ، ويشهد له قوله تعالى في سورة المائدة: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ(5).
واعلم أخي الداعي إلى الله على بصيرة أن هذا بعد إقامة الحجة وبيان الدليل، ويشهد لهذا قوله تعالى في سورة الأعراف: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(100). قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: أي إذا نبههم الله فلم ينتبهوا، وذكرهم فلم يتذكروا وهداهم بالآيات والعبر فلم يهتدوا، فإن الله تعالى يعاقبهم ويطبع على قلوبهم، فيعلوها الران والدنس، حتى يختم عليها فلا يدخلها حق، ولا يصل إليها خير، ولا يسمعون ما ينفعهم، وإنما يسمعون ما به تقوم الحجة عليهم.(2/28)
قال كاتب هذا المقال ـ عفا الله عنه ـ فإذا جاء الختم ـ عافانا الله منه ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا ـ أصبح صاحبه يرى المنكر حقاً والمعروف باطلاً، ويحسب أنه يحسن صنعاً ويشهد له قول الله تعالى في سورة الكهف: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا(105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا(106).
9/ اتباع الهوى المخرج صاحبه من الهدى: ويشهد له قول الله تعالى في سورة المائدة: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ(70) وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(71).
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا، فترتب وهو أنهم عموا عن الحق وصموا فلا يسمعون حقاً ولا يهتدون إليه. وقوله تعالىفي سورة الجاثية: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(23).
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا
يقول الله تعالى في سورة التغابن:(2/29)
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(16).
(29)
معنى قوله تعالى:
(عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)
في الوقت الذي وصف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه على خلق عظيم، وصف المكذبين بعكس ذلك: من كذب، ومداهنة، وكثرة حلف، ومهانة وهمز، ومشي بنميمة، ومنع للخير، وعتل وتجبر، واعتداء، وظلم، وانقطاع زنيم، عشر خصال ذميمة ونتيجتها الوسم بالخزي على الأنوف صغاراً لهم.
فقال تعالى:
( فَلا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ(8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ(10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ(11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ(12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ(13).
فقوله تعالى: (عتلِّ بعد ذلك زنيم ) عتل: أي جاف غليظ قاسي القلب عديم الفهم.
وقال الكلبي والفراء فيما نقله القرطبي في الجامع: وهو الشديد الخصومة بالباطل.
وقال أبو عبيدة ونقله ابن حجر في الفتح (8/663) العتل: الفظ الشديد من كل شيء.
وفي الصحيحين ( البخاري ـ الفتح 4918) و ( مسلم ـ بشرح النووي 17/187) من حديث حارثة بن وهب الخزاعي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بأهل الجنة. قالوا: بلى. قال صلى الله عليه وسلم: كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ثم قال: ألا أخبركم بأهل النار. قالوا: بلى.قال: كل عتل جواظ مستكبر ـ وفي رواية ـ كل جواظ زنيم متكبر.
التفسير الصحيح لقوله تعالى: ( زنيم )(2/30)
أخرج البخاري في صحيحه ـ كتاب التفسير ـ باب عتل بعد ذلك زنيم (الفتح ـ 8/663): عن مجاهد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (عتل بعد ذلك زنيم) قال: رجل من قريش له زنمة مثل زنمة الشاة.
قلت: وليس المقصود بهذا وصفه بسوء الخلقة لأن هذا ليس مما يعاب عليه الإنسان حيث أنه ليس مما يختاره لنفسه. وإنما وصف بذلك ليعرف.
فقد أخرج ابن جرير الطبري في الجامع (29/26) بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في الزنيم: نعت فلم يعرف حتى قيل زنيم، قال: وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها.
التفسير الخطأ لقوله تعالى: (زنيم)
وما أخرجه ابن جرير في التفسير (29/26) والحاكم في المستدرك (2/499) كلاهما من طريق أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى (عتل بعد ذلك زنيم ).
ففي رواية ابن جرير: أن ابن عباس قال في الزنيم: الذي يعرف بأبنة: يعني يعرف بعيب في حسبه. قال ابن منظور: والأبنة: العيب الذي في الخشب والعود وأصله من ذلك، يقال: ليس في حسب فلان أبنة كقولك ليس فيه وصمة.
وفي رواية الحاكم قال ابن عباس: يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها.
قال البخاري ( كما في علل الترمذي الكبير رقم 427 الجزء 2/963): لا أعرف لأبي إسحاق سماعاً من سعيد بن جبير.
قلت: فالإسناد منقطع، فقول الحاكم هذا حديث صحيح وموافقة الذهبي له ليس بصحيح.
(30)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى
قال تعالى في سورة الأعلى:
( فذكر ان نفعت الذكرى (9) ( سيذكر من يخشى (10) (ويتجنبها الأشقى (11)( الذي يصلى النار الكبرى (12)( ثم لا يموت فيها ولا يحيا (13).
اشارات النص:
أولا: مفاسد المكذبين وصفاتهم
الأصرار على تجنب قبول الذكر واختيار طريق الشر.
لقد سمى الله القرآن ذكراً اعتباراً بالمطلوب بالنسبة إليه بعد العلم بما جاء فيه، أي : يقدم لمتلقيه في أول تلقيه له علما ثم على المتلقي ان يجعله في ذكره دواماً، وأن يجدد تذكره عند كل مناسبة تستدعي ذلك فهو ذكر للعالمين .(2/31)
فحين يوصف القرآن في آياته بأنه ذكر للعالمين ، فعلينا أن نفهم أن الواجب بالنسبة إليه أن نعلمه أولا ثم نذكر ما فيه دواما، لأن الله عز وجل يطالبنا باعتقاد عقائده دواما، والتزام أخلاقه دواما، وبالعمل بشرائعه دواما وهذا لا يكون إلا بذكره دواماً عند كل مناسبة تستدعي ذكره.
فقوله تعالى : ( ويتجنبها الأشقى )
قال قتادة فيما أخرجه ابن جرير بإسناد حسن : فلا والله لا يتنكب عبد هذا الذكر زهدا فيه وبغضا لأهله الا شقي بين الشقاء .
وقال الشيخ برهان الدين البقاعي في النظم (21/399):
قوله ( ويتجنبها ) أي يكلف نفسه وفطرته الأولى المستقيمة تجنب الذكرى التي نشاء تذكيره بها من أشرف الخلائق وأعظمهم وصلة بالخالق . ولما كان هذا الذي يعالج نفسه على العوج شديد العتو قال ( الأشقى ) .
ثانيا: معالجات رب العالمين :
(1) تكرير الذكرى عند مظنة النفع تكريرا تقوم به حجة الله على خلقه .
( فذكر إن نفعت الذكرى )
قال الحسن البصري : تذكرة للمؤمن وحجة على الكافر. وقال ابن تيمية :
فقوله تعالى : ( إن نفعت الذكرى ) لا يمنع كون الكافر يبلغ القرآن لأنه لم يخص قوما دون قوم . لكن قال ( فذكر ) وهذا مطلق بتذكير كل أحد. وقوله ( إن نفعت الذكرى ) لم يقل ( إن نفعت كل أحد ) بل أطلق النفع فقد أمر بالتذكير إن كان ينفع.
والتذكير المطلق العام ينفع، فان من الناس من يتذكر فينتفع به والآخر تقوم عليه الحجة ويستحق العذاب على ذلك فيكون عبرة لغيره فيحصل بتذكيره نفع أيضاً . ولأنه بتذكيره تقوم عليه الحجة فتجوز عقوبته بعد هذا بالجهاد وغيره فتحصل بالذكرى منفعة .
فكل تذكير ذكر به النبي صلى الله عليه وسلم المشركين حصل به نفع في الجملة، وان كان النفع للمؤمنين الذين قبلوه واعتبروا به وجاهدوا المشركين الذين قامت عليهم الحجة .أ.هـ(2/32)
وقال الشنقيطي : ويفهم من هذه الآية الكريمة أن التذكير لا يطلب إلا عند مظنة نفعه بدليل أن الشرطية، وأنه صلى الله عليه وسلم بعد أن يكرر الذكرى تكريرا تقوم به حجة الله على خلقه، مأمور بالتذكير عند ظن الفائدة، أما اذا علم الفائدة فلا يؤمر بشيء هو عالم انه لا فائدة فيه لأن العاقل لا يسعى الى ما لا فائدة فيه .
وبيان ذلك انه تارة يعلمه بإعلام الله به كما وقع في أبي لهب حيث قال الله تعالى(سيصلى نارا ذات لهب وامرأته.....) الآية .
فأبو لهب هذا وأمرأته لا تنفع فيهما الذكرى، لأن القرآن نزل بأنهما من أهل النار بعد تكرار التذكير لهما تكرارا تقوم عليهما به الحجة فلا يلزم النبي صلى الله عليه وسلم علمه بذلك أن يذكرهما بشيء لقوله تعالى: ( فذكر إن نفعت الذكرى ) .
وتارة يعلم ذلك بقرينة الحال بحيث يبلغ على أكمل وجه، ويأت بالمعجزات الواضحة فيعلم أن بعض الأشخاص عالم بصحة نبوته وأنه مصر على الكفر عنادا ولجاجا، فمثل هذا لا يجب تكرير الذكرى له دائما بعد أن تكرر عليه تكريرا تلزمه به الحجة.
وحاصل ايضاح هذا الجواب ان الذكرى تشتمل على ثلاث حكم :
(1) خروج فاعلها من عهدة الأمر بها .
(2) رجاء النفع لمن يوعظ بها.
(3) إقامة الحجة على الخلق.
فالنبي صلى الله عليه وسلم اذا كرر الذكرى حصلت الحكمة الأولى والثالثة، فان كان في الثانية طمع واستمر على التذكير وإلا لم يكلف بالدوام، والعلم عند الله تعالى .
وقال ابن كثير : قوله تعالى ( فذكر إن نفعت الذكرى ) اي ذكر حيث تنفع التذكرة ومن ههنا يؤخذ الأدب في نشر العلم فلا يضعه عند غير أهله .
(2) ذكر الله تعالى مبدأ السعادة أولا حثا عليه ومآل الشقاوة ثانيا تحذيرا منه .
( سيذكر من يخشى ) ( ويتجنبها الأشقى ) (الذي يصلى النار الكبرى ) ( ثم لا يموت فيها ولا يحيا ) .(2/33)
فآيات النص من الاحتباك أن الله تعالى ذكر الثمرة في الأول وهي الخشية دليلا على حذف ضدها من الثاني وهي القسوة الناشئة على الحكم بالشقاوة، وذكر الأصل والسبب في الثاني وهو الشقاوة دليلا على حذف ضده في الأول وهو السعادة، فالإسعاد سبب والخشية ثمرة، والإشقاء سبب والقساوة ثمرة ومسبب .
قال الملوي فيما نقله البقاعي في نظم الدرر (21/400):
ولا شك أن القرآن العظيم على أحسن ما يكون من البراعة في التركيب وبداعة الترتيب وكثرة العلوم مع الاختصار وعدم التكرار . فيكتفي في موضع بالثمرة بلا سبب، وفي آخر بالسبب بلا ثمرة لدلالة الأول على الثاني والثاني على الأول فيضم السبب إلى الثمرة والثمرة إلى السبب .
أخرج مسلم في "صحيحه" وابو عوانة ، والدارمي، وابن ماجة، وأحمد ، والطبري في التفسير ، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا:
( أما أهل النار الذين هم أهلها ( وفي رواية : الذين لا يريد الله عز وجل إخراجهم) فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (يريد الله عز وجل إخراجهم ) فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحما، أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر ، فبثوا على انهار الجنة، ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل.
وقد قال الله تعالى أخبارا عن أهل النار :
( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال أنكم ماكثون ) الزخرف الآية 77 وقال ( لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ) فاطرالآية 36.
(31)
سورة المسد
قال تعالى:
( تبت يدا ابي لهب وتب ) _ يعني عبد العزى بن عبد المطلب وكان يكنى أبا لهب ـ
( ما أغنى عنه ماله وما كسب )
( سيصلى نارا ذات لهب )
( وامرأته حمالة الحطب ) _ يعني أروى بنت حرب بن أمية (أخت ابي سفيان) ـ
( في جيدها حبل من مسد ) الآيات 1 ـ 5
اشارات النص :
أولا: سبب نزول النص :(2/34)
عن بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء ، فصعد الى الجبل فنادى:
يا صباحاه ، فاجتمعت قريش فقال : أرايتم ان حدثتكم ان العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني ؟ قالوا: نعم ، قال: فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال ابو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبا لك، فأنزل الله عز وجل:
( تبت يدا أبي لهب وتب ) إلى آخرها .
الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" ( الفتح 8/736/رقم 4972) واللفظ له ، ومسلم ( 356 كتاب الأيمان باب89) عن ابن عباس قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا فقال: يا صباحاه ... بنحو الذي أخرجه البخاري والترمذي ( 3363 ) باب ـ ومن سورة تبت يدا أبي لهب ـ وقال: هذا حديث حسن صحيح ، وأحمد (1/281) والبيهقي في "دلائل النبوة" (2/182) والنسائي في التفسير (رقم734) وابن جرير في التفسير (15/30/336).
ثانيا: مفاسد المكذبين وصفاتهم
( 17 ) التصدي للدعوة بالشتيمة والأذى الوقحين .
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فيما أخرجه البخاري ( الفتح 8/738/ رقم 4973 ) قال أبو لهب : تبا لك ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت ( تبت يدا أبي لهب وتب ) .... السورة .
( 18 ) المشي بالنميمة لإثارة العداوة والشحناء .
فبعد قوله تعالى في النص الثاني من سورة القلم: ( هماز مشاء بنميم ) وصف هنا زوجة ابي لهب ـ وكانت من سادات نساء قريش وهي ام جميل ، واسمها أروى بنت حرب بن أمية، وهي أخت أبي سفيان، وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده ـ بـ ( حمالة الحطب ) . ـ استعارة مشهورة ـ .(2/35)
قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه : الحطب : النميمة وكانت تنم وتؤرش بين الناس . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة باسناد حسن قال: كانت تحطب الكلام ، تمشي بالنميمة. وقال مجاهد: حمالة الحطب تمشي بالنميمة ، أخرجه الفريابي ، وابن جرير. وأخرج سعيد بن منصور من طريق محمد بن سيرين قال: كانت أمرأة ابي لهب تنم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المشركين . وقال الفراء: كانت تنم فتحرش فتوقد بينهم العداوة فكنى عن ذلك بحملها الحطب. وقال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن (صفحة 160) : ومن هذا قيل ( فلان يحطب علي ) اذا أغرى به ، شبهوا النميمة بالحطب، والعداوة بالشحناء بالنار لأنهما يقعان بالنميمة كما تلتهب النار بالحطب. ويقال: نار الحقد لا تخبو ، فاستعاروا الحطب في موضع النميمة .
ثالثا معالجات رب العالمين :
(1) تلقين المكذبين درسا بإخبارهم عن المصير الذي سوف يلقاه أبو لهب في الدنيا والآخرة لتصديه للدعوة وشدة أذاه للنبي صلى الله عليه وسلم .
( تبت يدا أبي لهب وتب ) قال ابن كثير: قوله تعالى: ( تبت يدا أبي لهب ) أي خسر وخاب وضل عمله وسعيه ( وتب) اي: قد تب تحقق خسارته وهلاكه .
واسناد التب لليدين كان من باب اطلاق البعض وإرادة الكل كما قال الشنقيطي، وهو كقوله تعالى( ناصية كاذبة ) مع أن الكاذب هو صاحبها .
فلما كان الكذب يسود الوجه، ويذل الناصية، وعكسه الصدق يبيض الوجه، ويعز الناصية، أسند الكذب إلى الناصية لزيادة أختصاصها بالكذب عن اليد مثلا.
ولما كان الهلاك والخسران غالبا بما تكسبه الجوارح واليد اختصاصا في ذلك أسند إليها التب .
(2) التصغير والتحقير بقوله ( ابي لهب ) بكنيته، فلم يرد به التكريم، بل أراد به التشهير، فهو أول من سماه من كفار قريش وقرنه بوصف النار أعاذني الله واياكم منها .
( تبت يدا أبي لهب وتب ) ( ما أغنى عنه ماله وما كسب ) ( سيصلى نارا ذات لهب )(2/36)
قال الخازن (4/317): فان قلت : لم كناه وفي التكنية تشريف وتكرمه ؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : انه كان مشتهرا بالكنية دون الاسم، فلو ذكره باسمه لم يعرف .
الثاني: أنه كان اسمه (عبد العزى ) فعدل عنه إلى الكنية لما فيه من الشرك ـ لأن العزى صنم فلم تضف العبودية الى صنم ـ .
الثالث : أنه لما كان من أهل النار والنار ذات لهب، وافقت حال كنيته وكان جديرا بها أن يذكر بها .
وقال القرطبي في الجامع (20/161): وقد قيل : اسمه كنيته، فكان أهله يسمونه (أبا لهب ) لتلهب وجهه وحسنه فصرفهم الله عن أن يقولوا : أبو النور وأبو الضياء الذي هو المشترك بين المحبوب والمكروه، وأجرى ألسنتهم أن يضيفوه إلى ( لهب ) الذي هو مخصوص بالمكروه المذموم وهو النار ثم حقق ذلك بأن يجعلها مقره.
(3) الذم والتقبيح بقوله ( تبت ___ وتب ) وإنذارا للمكذبين أمثاله .
فقوله تعالى ( تبت يدا أبي لهب ) كانت إنشاء للدعاء عليه، محمولة على الذم والتقبيح، ثم جاء ( وتب ) لبيان انه واقع به لا محالة وانه ممن حقت عليهم كلمات ربك لييأس صلى الله عليه وسلم والمسلمون من إسلامه وتنقطع الملاطفة معه.
(4) الايذان بالحط من كبرياء المكذبين وتسويد وجوههم وان تكون عاقبتهم كأبي لهب .
( ما أغنى عنه ماله وما كسب ) ( سيصلى نارا ذات لهب ) .
فبعد قوله تعالى في النص الثاني من سورة القلم: ( أن كان ذا مال وبنين ) ( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) وكان ذلك على الذم والتقريع للمكذبين. قال في النص السادس من سورة المدثر: ( وجعلت له مالا ممدودا ) ( وبنين شهودا ) ( ومهدت له تمهيدا ) ( ثم يطمع أن أزيد ) ( كلا انه كان لآياتنا عنيدا ) وكان ذلك في سياق المعالجة للاعتبار، لذا قال هنا في حق أبي لهب الذي لم يعتبر:
( ما أغنى عنه ماله) ( وما كسب) يعني ولده، قاله ابن عباس وروي عن عائشة ومجاهد وعطاء والحسن وابن سيرين مثله .(2/37)
(5) تخصيص امرأة ابي لهب بالذم لأتصافها ايضا بخلق ذميم ألا وهو النم . وقال صلى الله عليه وسلم (كفى بالمرء اثما ان يحدث بكل ما سمع ) وفي رواية كفى بالمرء كذبا ..1
( وامرأته حمالة الحطب ) وقد ثبت في الصحيحين من حديث مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال : "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبيرأما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الاخر فكان يمشي بالنميمة". الحديث أخرجه بقية الجماعة في كتبهم من طرق عن مجاهد به.
وفي الصحيحين عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة نمام ) قال الحافظ ابن حجر : قوله (لا يدخل الجنة) أي في أول وهلة كما في نظائره .
وروى مسلم في "صحيحه" عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ألا أنبئكم ما العضه ؟ هي النميمة ، القالة بين الناس .
وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" والطحاوي في "المشكل" والبيهقي في "السنن" وحسنه شيخنا في "الصحيحة" رقم (845 ) عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أتدرون ما العضه ؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: نقل الحديث من بعض الناس إلى بعض ليفسدوا بينهم .
(6) تلقين المكذبين درسا آخر بإخبارهم أيضا عن المصير الذي سوف تلقاه امرأة أبي لهب في الدنيا والآخرة لتصديها للدعوة وشدة أذاها للنبي صلى الله عليه وسلم .
( وأمرأته حمالة الحطب ) ( في جيدها حبل من مسد )
وأبو لهب وأمرأته من الأقربين ولو تركا لتجرأ غيرهما بأشد مما فعلاه ، قال الشيخ عبد الرحمن حبنكة في "القواعد" (صفحة 55):
فأنزل الله بهما قرآنا يتلى أخرس بذلك كل من كانت تحدثه نفسه بأن يفعل مثلهما، وكل من ستحدثه نفسه بمثل ذلك في المستقبل، إذ كان العربي يخشى من كلمة ذم سائرة فيه أكثر من خشيته من القتل.أ.هـ(2/38)
فالسورة بهذا الدرس الملقن مقصودها: البت ، والقطع ، والحتم بخسران الكافر ولو كان اقرب الخلق إلى أعظم الفائزين. وهي أي السورة مع ما تقدمها واتصل بها يعني ( سورة النصر ) في قوة ، فسورة النصر آخر سورة نزلت جميعا قاله ابن عباس في صحيح مسلم، ولما تقدم الإعلان بالنصر للنبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى ناسب أن يأتي إعلان بإهلاك أعدائه ومناوئيه وحساده وشانئيه ولو كان من أقرب الناس إليه.
قلت : وجاءت سورة النصر والمسد بعد أن فصلت سورة (قل يا أيها الكافرون ) بين الأولياء والأعداء، وكان مقصودها الأعظم، البراءة من الشرك والمشركين وان كانوا أقرب الناس، ليعلم كفار قريش وغيرهم انه لا اعتصام لأحد من النار إلا بالإيمان، وأن القرابات غير نافعة ولا تجديه شيئا الا مع الإيمان، وان النصر لأهل الإيمان الذين يحققون الولاية لله والبراءة من أعدائه، وان الهزيمة والهلاك لأهل الكفر الذين يعادون الله ورسوله والمؤمنين.
واتصلت سورة الإخلاص التالية للمسد بقل يا أيها الكافرون في المعنى ولهذا قيل من أسمائها أيضا الإخلاص، اذن فمدار الصراع القائم في الدنيا ومقصودنا الصراع بين الأيمان والكفر نتائجه إما نصر أو هزيمة وهلاك ويتوقف مدار النصر على مدى تحقيق مفهوم الولاء والبراء والله اعلم .
إذ انه لا يستقيم إيمان عبد إلا اذا حقق بإخلاص في القول والعمل مفهوم الولاء والبراء، الذي جمعته كلمة لا اله إلا الله وفصلته سورتين في ذكرهما ثواب عظيم ألا وهما سورة قل يا ايها الكافرون وسورة قل هو الله أحد.(2/39)
ويضاف إلى ذلك أن كثيرا من الذين يخلون من مفهوم الولاء والبراء يميلون إلى خلق ذميم الا وهو ( أن يكونوا حمالي حطب ) يعني القالة بين الناس ، لأنهم لا يحسبون حساب من يوالون ومن يعادون وإذا وقعوا في مأزق فان أول مخرج لهم منه هو مصلحتهم الذاتية فحسب ولو على حساب الدين فيكونون ممن ينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ) وهو في الصحيحين عن أبي هريرة . وعن عمار فيما أخرجه أبو داود وصححه شيخنا ( الصحيحة رقم 892) : (من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار).
(32)
وحدة الصف من تسوية الصف
أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية الصفوف
أخرج الإمام مسلم في "صحيحه"، وأحمد في "المسند"، والنسائي، وغيرهم عن أبي مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول : "استووا ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم".
وأخرج الإمام أحمد في "مسنده"، وابن حبان، وهو في "صحيح الجامع" (193) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنوا إقامة الصفوف في الصلاة".
فأمْر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديثين يفيد الوجوب، وقوله في الحديث الأول: "ولا تختلفوا" يفيد النهي، والنهي يفيد التحريم. وقد اجتمع في الحديث الأمر والنهي معاً، فكان كل منهما قرينة مؤكدة للآخر.
ومن الأدلة على وجوب التسوية وإقامة الصفوف، أفعال كثيرة وردت في النصوص بصيغة الأمر: "أحسنوا إقامة الصفوف" . "سوّوا صفوفكم" . "أقيموا صفوفكم" . "رصّوا صفوفكم" . إلى غير ذلك من النصوص.
ومن الأفعال التي اقترنت بلام الأمر: "لتقيمنَّ صفوفكم، أو ليخالفنَّ الله بين قلوبكم" . "لتسونَّ صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم".(2/40)
ومن الأدلة على وجوب التسوية وإقامة الصف، ورود لا الناهية في بعض الأحاديث، والنهي يفيد التحريم إلا لقرينة تصرفه، والقرائن جاءت مؤكدة لا صارفة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم". وإلى غير ذلك من الأدلة الدالة على الوجوب كما سيأتي معنا ـ إن شاء الله تعالى ـ.
التحذير من عاقبة عدم إقامة الصف
ففي الوقت الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية الصفوف، ونهى عن الاختلاف فيها؛ بأن يحسن المصلون إقامتها، حذر من التهاون بذلك، ومن عدم الائتمار بأمره، فقد أخرج أبو داود، وابن حبان في "صحيحه" وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (512) عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم، أو ليخالفنَّ الله بين قلوبكم".
قال: فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه.
وقد علق شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ على هذا القول في "صحيح الترغيب والترهيب" بقوله: "هذا فعل السلف، وأما الخلف فأهملوه إلا من شاء الله تعالى".
وفي رواية أخرجها مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن النعمان أنه قال:
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسوِّي صفوفنا، حتى كأنما يسوّي بها القداح، حتى رأى أنَّا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوماً فقام حتى كاد يكبّر، فرأى رجلاً بادياً صدره من الصف، فقال:
"عباد الله! لتسوُّن صفوفكم، أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم".
ولأهمية تسوية الصفوف فقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم وأقسم ـ وهو الصادق المصدوق ـ على بيان خطورة مخالفتها فقال في رواية أخرجها أبو داود عن النعمان أيضاً:
"أقيموا صفوفكم، فوالله لتقيمنَّ صفوفكم، أو ليخالفنَّ الله بين قلوبكم".(2/41)
وأخرج أبو داود، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحه" وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (513) عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله يأتينا فيمسح عواتقنا وصدورنا، ويقول: "لا تختلف صفوفكم، فتختلف قلوبكم".
قال الإمام النووي في "شرح مسلم" يشرح قول النبي صلى الله عليه وسلم:
معناه: يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول: تغير وجه فلان علي: أي أظهر لي من وجهه كراهية، لأن مخالفتهم في الصفوف، مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر، سبب لاختلاف البواطن".
وقال ابن حجر في "الفتح" (2/210):
"وفيه من اللطائف وقوع الوعيد من جنس الجناية وهي المخالفة، وعلى هذا فهو واجب، والتفريط فيه حرام".
السواري تقطع الصفوف؛ لذا جاء المنع من الاصطفاف بينها
أخرج ابن ماجه، والطيالسي، وابن خزيمة، وابن حبان، والطبراني في "المعجم الكبير"، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم، بإسناد لا بأس به في الشواهد، وأورده شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ في "الصحيحة" (335) عن قرة بن إياس المزني، قال:
"كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونطرد عنها طرداً".
وله شاهد من حديث أنس بن مالك رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن أبي شيبة، وغيرهم بسند صحيح عن عبد الحميد بن محمود قال:
"صليت مع أنس بن مالك يوم الجمعة، فدفعنا إلى السواري فتقدمنا وتأخرنا، فقال أنس: كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ:
"وهذا الحديث نص صريح في ترك الصف بين السواري، وأن الواجب أن يتقدم أو يتأخر. وقد روى ابن القاسم في "المدونة" (1/106)، والبيهقي (3/104) من طريق أبي إسحاق عن معدي كرب عن ابن مسعود أنه قال:
"لا تصفوا بين السواري".
وقال البيهقي: "وهذا ـ والله أعلم ـ لأن الاسطوانة تحول بينهم وبين وصل الصف".أ.هـ(2/42)
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" بسند صحيح عن إبراهيم التيمي أنه قال:
"لا تصلوا بين الأساطين" وقال: "أتموا الصفوف".
قال شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ:
"وفي حكم السارية، المنبر الطويل ذي الدرجات الكثيرة، فإنه يقطع الصف الأول، وتارة الثاني أيضاً، قال الغزالي في "الإحياء" (2/139): "إن المنبر يقطع بعض الصفوف، وإنما الصف الأول المتصل الذي في فناء المنبر، وما على طرفيه مقطوع، وكان الثوري يقول: الصف الأول هو الخارج بين يدي المنبر، وهو متجه لأنه متصل، ولأن الجالس فيه يقابل الخطيب ويسمع منه".
قال شيخنا: "وإنما يقطع المنبر الصف إذا كان مخالفاً لمنبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان له ثلاث درجات، فلا ينقطع الصف بمثله، لأن الإمام يقف بجانب الدرجة الدنيا منها. فكان من شؤم مخالفة السنة في المنبر الوقوع في النهي الذي في هذا الحديث.
ومثل ذلك في قطع الصف المدافيء التي توضع في بعض المساجد وضعاً يترتب منه قطع الصف، دون أن ينتبه لهذا المحذور إمام المسجد أو أحد من المصلين فيه لبعد الناس أولاً عن التفقه في الدين، وثانياً لعدم مبالاتهم بالابتعاد عما نهى عنه الشارع وكرهه".أ.هـ
فهم السلف للنصوص النبوية المتقدمة
لقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاختلاف في الصف في الصلاة ، وظل على ذلك التحذير مستمراً طوال عمره، فهو صلى الله عليه وسلم يؤكد على إقامة الصف وتسويته في كثير من النصوص ـ كما تقدم وبألفاظ متعددة كما لاحظنا ـ ، نظراً لكون الاختلاف في الصف يفضي إلى اختلاف القلوب فحذر وأكد، فكان من أقواله صلى الله عليه وسلم:
"فتختلف قلوبكم".
"أو ليخالفنَّ الله بين قلوبكم" .
"أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم".
واستمراره صلى الله عليه وسلم على التحذير من عاقبة الاختلاف في الصف، وتأكيده على ضرورة تسوية الصف، مشعر أن هذه الشعيرة من الخطورة بمكان أن التفريط بها أو إهمالها،(2/43)
له عواقب سيئة. إنها السنة النبوية النابعة من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمة مهداة"، لأن الفاء المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: "فتختلف" فاء السببية، فيكون معنى الحديث: الاختلاف في تسوية الصفوف سبب في اختلاف القلوب.
لذلك جاء فهم السلف موافقاً العمل بهذه النصوص اتباعاً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحباً في نيل محبة الله تعالى ورضاه، ومراعاةً لعدم الوقوع في الخطيئة الكبيرة وهي الفرقة والاختلاف، وانتصاراً للحق، وخذلاناً للباطل، وصوناً لوحدة الصف.
ومن عظيم أهمية الأمر بتسوية الصف، أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى صفوف المصلين من وراء ظهره. فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال:
"أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري".
أورد هذا الحديث الإمام البخاري في "صحيحه" ـ باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف ـ.
لذلك نجد أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ "أنه قدم المدينة، فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف".
وهذا الخبر بوبه الإمام البخاري في "صحيحه" تحت مسمى: باب إثم من لم يتم الصفوف.
فيا أخي المسلم المتبع لسنة نبيك وفهم أصحابه أنظر إلى أهمية الملاحظة التي أبدى بها أنس حين سئل: ما أنكرت منا؟ فأجاب بقوله:" ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف" ، إنه التوجيه السلفي لفهم النص النبوي.
وقد بيّن أنس ـ رضي الله عنه ـ كيف كانت تسوية الصفوف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول فيما أخرجه البخاري في "صحيحه": "وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه". وقد تقدم قول النعمان "وكعبه بكعبه" ـ والمراد بالكعب: العظم الناتيء في جانبي الرجل وهو عند ملتقى الساق والقدم، وهو الذي يمكن أن يلزق بالذي جنبه ـ.(2/44)
ثم يقول أنس في رواية له عند المخلص: "فلقد رأيت أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه، فلو ذهبت تفعل هذا اليوم، لنفر أحدكم كأنه بغل شموس".
وقال أبو مسعود فيما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" بعد أن ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "استووا ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم"، قال أبو مسعود: "فأنتم اليوم أشد اختلافاً" .
ـ يعني أهل الفتنة ـ وفي قوله ـ رضي الله عنه ـ التحذير من الاستهانة بتسوية الصف.
وجاء في الموطأ بإسناد صحيح: حدثني مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه أنه قال: كنت مع عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ فقامت الصلاة، وأنا أكلمه، وهو يسوي الحصباء بنعليه، حتى جاءه رجال، قد كان وكَّلهم بتسوية الصفوف، فأخبروه أن الصفوف قد استوت، فقال لي: استو في الصف، ثم كبَّر.
قلت: وهذا لعظيم تسوية الصفوف وأهمية ذلك، وبيان لعظم الخطر المحدق لمن خالف هذا الهدي النبوي.
ولهذا الحرص دليل واضح من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أبو داود، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحه" وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (513) عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية، يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم".(2/45)
ودرج العلماء من السلف ـ رحمهم الله ـ على بيان أهمية تسوية الصفوف في مؤلفاتهم، وجمعهم للأحاديث فها هو إمام أهل الحديث، الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ يسمي باباً في "صحيحه" "إثم من لم يتم الصفوف". وللحافظ المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب" "الترهيب من تأخر الرجال إلى أواخر صفوفهم، وتقدم النساء إلى أوائل صفوفهم، ومن اعوجاج الصفوف". وللإمام الشوكاني في كتابه "نيل الأوطار" باب سماه: "الحث على تسوية الصفوف ورصها وسد خللها". وابن خزيمة صدّر عنواناً في "صحيحه" سماه: "باب الأمر بتسوية الصفوف قبل تكبير الإمام". و "باب الأمر بالمحاذاة بين المناكب". و"باب الأمر بسد الفرج" و "باب التغليظ في ترك تسوية الصفوف".
قال الشيخ حسين العوايشة ـ حفظه الله ـ في كتابه "تسوية الصفوف وأثرها في حياة الأمة" (صفحة:48):
"ولا يخفى على المتأمل ما تحدثه الصلاة بين السواري من قطع الصفوف، وعدم التراصّ والالتصاق، فالمنع هو الذي تطمئن له النفس، دون أن يسمع النصوص المتقدمة، فكيف إذا سمعها؟ وقد ورد فيها لفظ "نطرد" وهو مما يشعر بالتحريم، ثم إيراد المفعول المطلق "طرداً" مما يزيده تأكيداً".أ.هـ
وكما درج العلماء من السلف ـ رحمهم الله ـ على بيان أهمية تسوية الصفوف في مؤلفاتهم، درجوا أيضاً على ذكر الزجر عن الصلاة بين السواري لأنها تقطع الصفوف، فقد بوّب ابن خزيمة في "صحيحه" باباً بقوله: "باب طرد المصطفّين بين السواري عنها". وبوّب على حديث أنس "باب النهي عن الاصطفاف بين السواري". وبوّب الإمام ابن حبان في "صحيحه" باباً بقوله: "ذكر الزجر عن الصلاة بين السواري جماعة". وبوّب الترمذي في "سننه" على حديث أنس "باب ما جاء في كراهية الصف بين السواري". وبمثله بوّب البيهقي وقال بعده: "وهذا ـ والله أعلم ـ لأن الاسطوانة تحول بينهم وبين وصل الصف، فإن كان منفرداً، أو لم يجاوزوا ما بين الساريتين، لم يكره إن شاء الله تعالى".(2/46)
التوجيه المنهجي النبوي والفوائد المستخلصة من الأحاديث في بيان منع الصلاة جماعة بين السواري
ولنا بعد سرد الأحاديث النبوية، والإطلاع على أفعال وأقوال السلف ـ رضي الله عنهم ـ ومن تبعهم بإحسان في فهم النصوص الحديثية، أن نستخلص الفوائد والعبر في التوجيه المنهجي النبوي.
1/ في هذه الأحاديث دعوة واضحة إلى وحدة الصف، ولا يجوز لأحد أن يستهين بهذه الشعيرة، وبهذه السنة العظيمة الأثر، وبهذا الهدي الذي جاء به نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، إن إحياء سنة تسوية الصفوف لها أجر عظيم عند الله، لأن الذي يعمل على إحياءها فإنه يدعو الأمة إلى توحيد صفها، ولا يتأتى لها ذلك إلا إذا اتبعت نبيها، وكيف لها أن تترك هذه السنة وهي تسمع قول نبيها صلى الله عليه وسلم وهو يحثها على التسوية، والرص، والإقامة، والمحاذاة، وسد الخلل. فإذا فشلت في تحقيق وحدتها في الصف في المسجد، فهي أحرى بالفرقة خارجه، بل هي عقاباً لها مستحقة للفرقة، وقد تحقق فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" من حديث البراء بن عازب: "لا تختلف صدوركم، فتختلف قلوبكم"، فهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.
وإذا وقع الاختلاف، وقع الشر والفتن، وغلب العدو، فالاختلاف في الصف الظاهر دليل واضح على الاختلاف في الباطن ـ نوايا القلوب ـ، أو الاختلاف على اتباع السنة وفهم المنهج النبوي. فعدم اتباع الهدي النبوي في تسوية الصف مجلبة للشر وغضب الرب، والاستهانة في تعظيم هذه السنة مآل أصحابها الاختلاف والتفرق، ومعاداة إحياء هذه السنة مشعر بوجود الشياطين الذين لا يهمهم إلا تفريق الصف، من أجل هذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يؤكد فيه على تسوية الصف حتى يكون كل من فيه على قلب رجل واحد، يحذر تخلل الشياطين فيقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود عن البراء ـ رضي الله عنه ـ:(2/47)
"أقيموا صفوفكم، لا يتخللُكم الشياطين كأنها أولاد الحذف، قيل يا رسول الله: وما أولاد الحذف؟ قال: سود جرد بأرض اليمن.
والمراد بأولاد الحذف: أولاد الضأن الصغار. وفي "القاموس" غنم سود صغار حجازية أو جرشية، بلا أذناب ولا آذان.
وفي حديث آخر رواه الطيالسي، وأبو داود عن أنس ـ رضي الله عنه ـ وهو في صحيح الجامع (1205): فوالذي نفسي بيده، إني لأرى الشياطين بين صفوفكم، كأنها غنم عُفر".
والعُفر: البياض غير الناصع.
وإذا تخللت الشياطين وقع الهلاك، والمنازعة، والفشل، ووقعنا في الذي حذرنا منه الله تعالى بقوله في سورة الأنفال: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري عن ابن مسعود:"لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا".
لذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على وحدة الصف، وسد الفرج، حتى لا تكون الفرج مرتعاً للشياطين، وفي حديث ابن عمر الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود ، والنسائي وغيرهم، وهو في "صحيح الجامع" (1198): "ولا تذروا فرجات للشيطان".
وفي الحديث الذي أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" وهو في "الصحيحة" (1757) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياي والفُرج، يعني في الصلاة".
ومن ثم كان الأجر والثواب لمن سد فرجة، ففي الحديث الذي رواه أبو داود كما في "صحيح الترغيب والترهيب" (507)، أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من سد فرجة؛ رفعه الله بها درجة ، وبنى له بيتاً في الجنة".
وفي حديث آخر:
"وما من خطوة أحب إلى الله ؛ من خطوة يمشيها العبد يصل بها صفاً".
فلاحظ أخي المسلم، يا عبد الله، كم هو مهم وصل الصف، وسد الفرجة، والمحاذاة بين المناكب. وقديماً قالوا: عند انسداد الفُرج، تبدو طلائع الفَرج.
ومن المهم أن نبيِّن أنه لا بد أن نحاذي بين المناكب والأعناق لقوله صلى الله عليه وسلم: "وحاذوا بالأعناق".(2/48)
وقوله عليه السلام: "وحاذوا بين المناكب" .
بحيث لا يتقدم عنق على عنق، ولا منكب على منكب، ولا صدر على صدر. وهذا من تمام الصلاة، ومن إقامة الصلاة. فقد أخرج البخاري، ومسلم، وابن ماجه، وغيرهم وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (494): "سوّوا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة".
وفي رواية لأنس عند البخاري، ومسلم، وأبو داود، وغيرهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سوّوا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة"، وفي رواية عند مسلم "فإن إقامة الصف من حسن الصلاة".
وكما اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الجماعة في المسجد، اهتم أيضاً بتسوية الصف فيها، فليس هذا أقل شأناً من صلاة الجماعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "مجموع الفتاوى" (23/393-394):
"فإن صلاة الجماعة سميت جماعة؛ لاجتماع المصلين في الفعل مكاناً وزماناً، فإذا أخلّوا بالاجتماع المكاني أو الزماني، مثل أن يتقدموا أو بعضهم على الإمام، أو يتخلفوا عنه تخلفاً كثيراً لغير عذر، كان ذلك منهياً عنه باتفاق الأئمة، وكذلك لو كانوا متفرقين غير منتظمين، مثل أن هذا خلف هذا، وهذا خلف هذا، كان هذا من أعظم الأمور المنكرة، بل قد أمروا بالاصطفاف، ولو لم يكن الاصطفاف واجباً؛ لجاز أن يقف واحد خلف واحد، وهلم جرا، وهذا مما يعلم كل أحد علماً عاماً أن هذه ليست صلاة المسلمين".أ.هـ
وإذا كنا نتكلم عن الجماعة ووحدة الصف لأهمية الموقف الذي يجب أن يكون عليه المسلم في وقت زاد فيه زخم الفتن، فإننا ننبه أن هذه السنة التي يجب علينا إحياءها هي مفتاح لنيل محبة الله عز وجل، قال الله تعالى في سورة الصف: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص). قال ابن كثير في تفسيره: قال قتادة:(2/49)
"ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحب أن يختلف بنيانه! فكذلك الله ـ عز وجل ـ لا يحب أن يختلف أمره، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم، وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عصمة لمن أخذ به".
وتعقب الشيخ حسين العوايشه ـ حفظه الله ـ قول قتادة بقوله:
"ولنتأمل قول قتادة ـ رحمه الله ـ فقد عطف صفهم في الصلاة، على صفهم في القتال، فذكر البنيان المرصوص في القتال والصلاة، فإن كان صاحب البنيان يحب تماسك بنيانه وقوته، فالله تعالى أولى؛ أن يحب ائتلاف المؤمنين وتماسكهم، وتراصهم في القتال والصلاة، وإن لم نحقق التراص في صلاتنا، فمتى وأين وكيف نحققه؟
وجاءت الأحاديث بدورها للترغيب في وصل الصف، والترهيب من قطعه، فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فيما أخرجه أحمد ، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم وهو في "صحيح الجامع" (1198): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أقيموا الصفوف، فإنما تصفون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله عز وجل".
قال شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ في "الصحيحة" (32):
"ومن المؤسف أن هذه السنة من التسوية قد تهاون بها المسلمون، بل أضاعوها إلا القليل منهم".أ.هـ
والسواري ـ هذه الاسطوانات المبنية لرفع سقف المسجد ـ تعمل على قطع الصف في صلاة الجماعة، وإذا كنا نخشى أن تصيبنا فتنة من الله، أو يصيبنا عذاب أليم، فعلينا باتباع الهدي النبوي برص الصف وتسويته أولاً، وألا ندع هذه السواري تقطع صفوفنا ثانياً، ومن هنا جاء التعليل بالنهي عن الصلاة بين السواري، لأنها تقطع الصفوف.
قال شيخنا ـ رحمه الله ـ:
"وينبغي أن يعلم أن كل من يسعى إلى وضع منبر طويل قاطع للصفوف، أو يضع المدفئة التي تقطع الصف، فإنه يخشى أن يلحقه نصيب وافر من قوله صلى الله عليه وسلم: "..ومن قطع صفاً قطعه الله".أ.هـ(2/50)
قال الشيخ خير الدين وانلي ـ حفظه الله ـ في كتابه "المسجد في الإسلام":
"لما كان فن الهندسة بدائياً، كانت السواري ضرورة من الضرورات للبناء، أما وقد ترقت الهندسة وأدواتها فقد صار بالإمكان بناء جسر عظيم دون أن يستند إلى السواري، ومعلوم أن السواري تقطع الصفوف.."
ثم قال بعد أن ذكر طرفاً من أدلة النهي المتقدمة:
"ولما للسواري من محاذير قطع الصفوف فيمكن اليوم بعد رقي الهندسة المعمارية تقليلها إلى أقصى حد ممكن، بل الاستغناء عنها إن أمكن.
ويجب على المصلين ملاحظة هذه السواري حين الصلاة، وجعلها أمام الصف أو خلفه، لا أن تشترك مع المصلين في الصف وتفصل بعضهم عن بعض".أ.هـ
وقال مالك: "لا بأس بالصفوف بين الأساطين إذا ضاق المسجد".
وقال الشيخ علي حسن ـ حفظه الله ـ في كتابه "توفيق الباري في حكم الصلاة بين السواري" (صفحة:34):
وأما في سعة المسجد: فالنهي قائم دونما شك، وأما في الضيق: فهو جائز، فعله الصحابة عندما "اضطروا" إليه.
2/ وفي هذه الأحاديث الحاثة على تسوية الصف، والأحاديث الناهية عن الصلاة بين السواري ابتلاء على الطاعة، فهذه الشعيرة في نظر الجهلة، أعداء السنة أنها من القشور والمظاهر والتفاهات، وأن هناك حسب زعمهم أولويات ، وما علموا هؤلاء ـ ضيقوا الفهم ـ أن الله تعالى يبتلي الناس عليها ليتميز أصحاب الحق والخير عما سواهم من أهل الباطل والضلال والشر والخرافة، وليتميز أهل الجد والإخلاص عما سواهم من أهل التخلف والنفاق، وليتميز أهل الوحدة عن أهل الفرقة، وليتميز أهل السنة عن أهل البدعة.
وليعلم هؤلاء أعداء السنة وأصحاب الهوى والفرقة، أن الذي يمتثل سنن المصطفى في تسوية الصف، ويتحاشى الصلاة بين السواري في الجماعة فإنه من خيار الناس.
فقد روى أبو داود، والبيهقي، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وهو في "صحيح الجامع" (3259) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"خياركم ألينكم مناكب في الصلاة".(2/51)
قال صاحب بذل المجهود: معناه: أنه إذا كان في الصف وأمره أحد بالاستواء، ويضع يده على منكبه، ينقاد ولا يتكبَّر، فالمعنى: "أسرعكم انقياداً".
وقال الخطابي: معناه: لزوم السكينة والطمأنينة بحيث لا يلتفت، ولا يجاوز منكبه منكب من بجنبه، ولا يمنع من أراد دخولاً في صف لسد فرجة، أو لضيق مكان، بل يمكّنه من ذلك، ولا يدفعه بمنكبه".
قال الله تعالى في سورة النساء: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلموا تسليماً).
نصيحة لإخواننا الأئمة والمصلين
1/ من الملاحظ على كثير من أئمة المساجد التكبير للدخول في صلاة الجماعة دون اهتمام يذكر بتسوية الصف كما جاء في الأحاديث المتقدمة، وربما يكتفي البعض منهم بترديد عبارات مخالفة للسنة النبوية في كثير من الأحيان، مثل: "استحضروا النية" والحكاية في هذا الباب طويلة، لكن الذي أردت لفت الانتباه إليه هو اكتفاء بعض الأئمة بقوله: استووا، استووا، ولربما قالها وهو يعطي ظهره للمصلين، فيقع في مخالفتين:
الأولى: اقتصاره على القول: استووا، مع أن الأصل أن يأتي بتمام الحديث ليشعر بأهمية تسوية الصفوف، ويلقي في قلوب المصلين الرهبة مخافة ترك التسوية. فيقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: استووا ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم.
الثانية: إذا أعطى الإمام ظهره للمصلين، وأمرهم بالاستواء، فهذا إهمال، أو تفريط بسنة أكد النبي حرصه على إحياءها، فهذا النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ يقول: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه على الناس فقال: "أقيموا صفوفكم ثلاثاً، والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن بين قلوبكم" . وحديث أنس أيضاً يصف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشعر باهتمامه يقول أنس: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم ، وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري" .(2/52)
وهذا ابن مسعود ينقل لنا فعل النبي أيضاً في تسوية الصف فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة. وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسوَي صفوفنا حتى كأنما يسوَي القداح.
2/ وقد يشرع الإمام في تكبيرة الإحرام من غير أن يأمر بتسوية الصفوف، وهذا مخالف للسنة .
3/ وتحت عنوان "سنة متروكة يجب إحياؤها" قال شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ في "الصحيحة" (31):
استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بإقامة الصفوف وتسويتها، بحيث يندر أن تخفى على أحد من طلاب العلم فضلاً عن شيوخه، ولكن ربما يخفى على الكثيرين منهم، أن من إقامة الصف تسويته بالأقدام، وليس فقط بالمناكب، بل لقد سمعنا مراراً من بعض أئمة المساجد حين يأمرون بالتسوية التنبيه على أن السنة فيها إنما هو بالمناكب فقط دون الأقدام! ولما كان ذلك خلاف الثابت في السنة الصحيحة، رأيت أنه لا بد من ذكر ما ورد فيه من الحديث تذكيراً لمن أراد أن يعمل بما صح من السنة، غير مغتر بالعادات والتقاليد الفاشية في الأمة".أ.هـ
4/ أتوجه بالنصيحة للأئمة والمصلين أن يتقوا الله تعالى في إحياء هذه السنة، وأن يستووا في صفوفهم كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وألا يدعوا السواري تقطع صفوفهم، ولله الحمد فقد باشرنا هنا في فلسطين التنبيه عليها في المسجد الأقصى من أجل إحياءها والعمل بها ، فلاقت هذه السنة استغراباً عجيباً من الناس ، الذين أسعفناهم بفضل من الله تعالى ببيان حكمها لعل الله تعالى يهديهم إليها، وبادر طلابنا الأفاضل بارك الله فيهم وهم من محبي السنة الانتصار لها والعمل بها ، في الوقت الذي لم تلق فيه للأسف تشجيعاً من أئمة المسجد الأقصى! الذين سمعنا على لسان بعضهم ما لم نتوقعه!(2/53)
5/ من الأخطاء التي نراها في المسجد الأقصى الصلاة في أمكنة بعيدة عن الصف، وقد يكون هذا استرواحاً ، أو تعوداً في الصلاة في مكان معين في المسجد!! وقد يكون كسلاً منهم للوصول إلى الصفوف الأولى، أو من أجل الجمع بين الوظيفة والصلاة كما يفعل بعض حراس المسجد الأقصى!! فنقول لهؤلاء الناس:
فعلكم هذا مخالف للهدي النبوي لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قولاً حري بكم أن تسمعوه، قال فيما أخرجه الإمام مسلم:
"تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم ، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى (23/410):
"ولا يصف في الطرقات والحوانيت، مع خلو المسجد، ومن فعل ذلك استحق التأديب، ولمن جاء بعده تخطيه، ويدخل لتكميل الصفوف المتقدمة، فإن هذا لا حرمة له".
قال: فإن امتلأ المسجد بالصفوف، صفوا خارج المسجد، فإذا اتصلت الصفوف حينئذ في الطرقات والأسواق صحت صلاتهم، وأما إذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر، طريق يمشي الناس فيه، لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء. وكذلك إذا كان بينهم وبين الصفوف حائط، بحيث لا يرون الصفوف ولكن يسمعون التكبير، من غير حاجة، فإنه لا تصح صلاتهم في الأظهر، وكذلك من صلى في حانوته، والطريق خال، لم تصح صلاته، وليس له أن يقعد في الحانوت، وينتظر اتصال الصفوف به، بل عليه أن يذهب إلى المسجد فيسد الأول فالأول فالأول".أ.هـ
أما الحراس فواجبهم القيام بوظيفتهم الحراسة وقت الصلاة، إلا إذا أرادوا الصلاة مع الناس مع وجود من ينوب عنهم في الحراسة فعليهم ألا يصلوا عند الأبواب بل يتقدمون للصلاة في الصفوف الأولى.
6/ ومن الأخطاء وجود جماعتين في المسجد الأقصى، جماعة تصلي في قبة الصخرة، وجماعة تصلي في مقدمة المسجد، فهذا تفريق للجماعة مبتدع لم يكن يعمل من قبل، ولا حجة مقبولة لمن أراد أن يسوغ هذا الفعل، ففيه ما فيه من تفريق الجماعة.(2/54)
قال شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ في "الصحيحة" (31) بعد ذكر فوائد الأحاديث الحاثة على تسوية الصف:
"وخلاصة القول: أنني أهيب بالمسلمين ـ وخاصة أئمة المساجد ـ الحريصين على اتباعه صلى الله عليه وسلم ، واكتساب فضيلة إحياء سنته صلى الله عليه وسلم ، أن يعملوا بهذه السنة ، ويحرصوا عليها ، ويدعوا الناس إليها، حتى يجتمعوا عليها جميعاً، وبذلك ينجون من تهديد : أو ليخالفن الله بين قلوبكم" انتهى.
(33)
منازل الندم
وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ
المنزل الأول: الندم عند حضور الموت.
قال الله تعالى في سورة ق: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ(19).
فالكافر يطلب التأخير من أجل أن يؤمن ويعمل عملاً صالحاً، وذلك حين تيقن ضلالته وعاين الملائكة التي تقبض روحه، قال تعالى في سورة الأنفال: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ..(50). والمؤمن المفرط يطلب التأخير أيضاً لأنه ضيع وترك العمل الصالح الذي فيه طاعة ربه عز وجل، وقيل: فيما ترك من المال حتى يتصدق، فالعمل الصالح نعمة عظيمة فالمحافظة على الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، واتباع سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، واجتناب البدع والضلالات والخرافات ، والقيام بفرائض الله تعالى، وتدبر الكتاب العزيز، وتعليم الناس، والصدقة، وبر الوالدين، والأخلاق الحسنة، نعم عظيمة قال الله تعالى في سورة المؤمنون: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100).(2/55)
نقل البغوي وابن كثير قول قتادة: والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة، ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله عز وجل .
قال القرطبي في "الجامع": "ودلت الآية على أن أحداً لا يموت حتى يعرف اضطراراً أهو من أولياء الله أم من أعداء الله، ولولا ذلك لما سأل الرجعة، فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقه".
واستظهر الشنقيطي ـ رحمه الله ـ كلام ابن عطية في الآية: من أن الكافر والمفرط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة، ليعملا العمل الصالح الذي يدخلهما الجنة، ويتداركا به ما سلف منهما من الكفر والتفريط وأنهما لا يجابان إلى ذلك كما دل عليه حرف الزجر والردع الذي هو (كلا) جاء موضحاً في مواضع أخر كقوله تعالى في سورة المنافقون: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ(10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا..(11)، وقوله تعالى في سورة إبراهيم: (وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ(44). إلى غير ذلك من الآيات.
المنزل الثاني: عند حمل الجنازة.
أخرج البخاري في "صحيحه" ، والنسائي، وأحمد ، والبيهقي ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(2/56)
"إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، قدموني، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلا الإنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَهُ لصَعِقَ".
ولذلك وجب الإسراع في السير في الجنازة ، سيراً دون الرمل، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً: "أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها عليه، وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم".
المنزل الثالث: في القبر.
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الأنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ وَكَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الأرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ:
"اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا ثُمَّ قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ ..
إلى أن قَالَ:(2/57)
"وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلاائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ قَالَ فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأرْضِ ..
إلى أن قال:
"فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي فَيَقُولانِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي فَيَقُولانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَافْرِشُوا لَهُ مِنْ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاعُهُ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ فَيَقُولُ رَبِّ لا تُقِمْ السَّاعَةَ".
المنزل الرابع: يوم القيامة.(2/58)
يندم ويقول: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي). يندم أنه لم يقدم الإيمان ، ويندم أنه لم يقدم العمل الصالح، ويندم أنه لم يقدم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى في سورة الفجر: (كَلا إِذَا دُكَّتْ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا(21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى(23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24). قال ابن كثير ـرحمه الله ـ: يندم على ما كان سلف منه من المعاصي إن كان عاصياً ويود لو كان ازداد من الطاعات إن كان طائعاً. قلت: كما يندم المبتدع الذي ابتدع في دين الله تعالى ما ليس فيه ويتمنى لو انتهج في الدنيا منهج النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكان من أتباعه محباً للسنة داعياً لها ويشهد لهذا القول قول الله تعالى في سورة الفرقان : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً(27) يَاوَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً(28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ..(29). وقال تعالى في سورة الحاقة: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه(25). وحين تعاين الحقيقة ويقف المرء على مرأى من الوضوح والتجلي فإنه لا ينفع الندم كما قال تعالى في سورة الأعراف: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(53).
المنزل الخامس: عند الحساب والقضاء والناس بين يدي الله تعالى.(2/59)
قال الله تعالى في سورة السجدة: (وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ(12).
يقولون: ربنا بان لنا الأمر ووضح ـ الآن ـ مع أنه كان واضحاً لهم في دنياهم التي ابتلوا فيها لكنهم آثروا الدنيا على الآخرة وكفروا بالله وعصوا ومضى وقت الإمهال وخسروا الفرصة الممنوحة بعنادهم بعد إقامة البيان والحجة والدليل . قال الله تعالى في سورة النبأ: (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا(40).
فحين عاين الكافر عذاب الله ونظر إلى حكم الله بين الحيوانات التي كانت في الدنيا فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجور حتى إنه ليقتص للشاة الجماء من القرناء فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها: كوني تراباً فتصير تراباً فعند ذلك يقول الكافر (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا). وقد ورد معنى هذا في حديث أبي هريرة مرفوعاً ـ والذي أخرجه ابن جرير في "تفسيره" وهو في "الصحيحة" (1966) ـ: "يقضي الله بين خلقه الجن والإنس والبهائم، وإنه ليقيد يومئذ الجماء من القرناء، حتى إذا لم يبق تبعة عند واحدة لأخرى قال الله: كونوا تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا).
المنزل السادس: عند أول مس من العذاب وهو أدناه.
وقال الله تعالى في سورة الأنبياء: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(46).
المنزل السابع: عند الوقوف على النار.
قال الله تعالى في سورة الأنعام: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(27).
المنزل الثامن: في الوهلة الأولى لرؤية النار.(2/60)
وقال الله تعالى في سورة الملك: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10). وقال تعالى في سورة الشورى: (..وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ(44).
المنزل التاسع: وهم في النار.
ومقالاتهم في النار كثيرة وعجيبة تعبر عن خالص ندمهم فلا يردون ولا يعذرون.
قال الله تعالى في سورة الأحزاب: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا(66). وفي الآية كما ترى بيان لأهمية طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالة للعصاة والمبتدعة الذين يفرقون بين الكتاب والسنة، أو يفرقون بين السنة والسنة ـ بزعمهم ـ هذا متواتر وهذا آحاد. فلهم أن يراجعوا أنفسهم الآن قبل فوات الأوان قبل أن يقولوا يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا. وقال الله تعالى في سورة فاطر: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(37).
ومعنى قوله تعالى: (يَصْطَرِخُونَ) أي: ينادون فيها يجأرون إلى الله عز وجل بأصواتهم، لقد سألوا الرجعة في غير وقتها فيقال لهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ).قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: أوَ ما عشتم في الدنيا أعماراً لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ:(2/61)
متعناكم في الدنيا، وأدررنا عليكم الأرزاق؛ وقيضنا لكم أسباب الراحة؛ ومددنا لكم في العمر؛ وتابعنا عليكم الآيات؛ (وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ) وواصلنا إليكم النذر؛ وابتليناكم بالسراء والضراء، لتنيبوا إلينا وترجعوا إلينا فلم ينجع فيكم إنذار، ولم تفد فيكم موعظة، وأخرنا عنكم العقوبة، حتى إذا انقضت آجالكم، وتمت أعماركم، ورحلتم عن دار الإمكان، بأشر الحالات، ووصلتم إلى هذه الدار، دار الجزاء على الأعمال، سألتم الرجعة. هيهات هيهات، فات وقت الإمكان، وغضب عليكم الرحيم الرحمن، واشتد عليكم عذاب النار، ونسيكم أهل الجنة فامكثوا في جهنم، خالدين مخلدين، وفي العذاب مهانين.
وفي الختام أخي المسلم اذكر قول الله تعالى في سورة الأنعام:
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ(31)
(34)
أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن
الخلق: بضم اللام وسكونها، الديدن والطبع والسجية، كما أن لصورة الإنسان الظاهرة منه وهي الجسم ولها أوصاف ومعان وكذلك لصورته الباطنة وهي النفس أوصافها ومعانيها المختصة بها وهي الخلق، وأوصاف النفس منها حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف هذه الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولذا تكرر مدح حسن الخلق وذم مساويه.
أخرج الإمام البخاري في كتابه "الأدب المفرد" (464) ـ واللفظ له ـ وأحمد في "مسنده"، والترمذي في "سننه"، والبزار كما في "كشف الأستار"، وابن حبان في "صحيحه"، وابن أبي الدنيا في كتابه "التواضع"، وعبد الرزاق في "مصنفه"، والبغوي في "شرح السنة"، والبيهقي في "السنن الكبرى" والخرائطي في "مكارم الأخلاق"، وغيرهم عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(2/62)
من أعطي حظه من الرفق؛ فقد أعطي حظه من الخير؛ ومن حرم حظه من الرفق؛ فقد حرم حظه من الخير. أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة حسن الخلق، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء.
ولفظه عند البزار: لا يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن حسن الخلق ليبلغ بصاحبه درجة الصوم والصلاة.
ولفظ الغطريف: أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن.
ولفظ الخرائطي: ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق.
وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" وصححه شيخنا في "الصحيحة" (519) عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:
إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار.
معنى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم:
وإن حسن الخلق ليبلغ بصاحبه درجة الصوم والصلاة.
أخرج الإمام أحمد في "مسنده"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" وهو في "الصحيحة" (522) عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله عز وجل لكرم ضريبته، وحسن خلقه.
وأخرج البخاري في "الأدب المفرد"، والخرائطي، وهو في "الصحيحة" (794) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الرجل ليدرك بحسن الخلق درجات الصائم القائم الظمآن في الهواجر.
وأخرجه البغوي في "شرح السنة" عن أبي أمامة مرفوعاً ـ بإسناد حسن لشواهده ـ ولفظه:
إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الساهر بالليل الظاميء بالهواجر.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل" وهو في "الصحيحة" (795) عن عائشة مرفوعاً، ولفظه:
إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل، صائم النهار.
وأخرج الطبراني في "الكبير" ـ بإسناد حسن ـ وعزاه حمدي عبد المجيد السلفي لسمويه والضياء عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(2/63)
إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة، وشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة. وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم.
(35)
إن الله لا يحب العقوق
قال الله تعالى في سورة النساء:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ..(135).
تدل هذه الآية على أن للوالدين منزلة عند الابن، فهو أول ما يدعو وينصح ويرشد أقرب الناس إليه والديه ثم الأقربين، فمناصحة الابن لوالديه بر لهما.
أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ الصَّلاةُ لِوَقْتِهَا، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وأخرج مسلم في "صحيحه" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ.
وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" وهو في "الصحيحة" (675) عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يدخل الجنة عاق، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بالقدر".
وأخرج ابن حبان في "صحيحه" وهو في "الصحيحة" (678) عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم".
وأخرج الحاكم في "المستدرك" وهو في "صحيح الجامع" (3063) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء".(2/64)
ومعنى ورجلة النساء: المرأة المتشبهة بالرجال.
وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" بإسناد لا بأس به في الشواهد عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يلج حائط القدس: مدمن خمر، ولا العاق لوالديه، ولا المنان عطاءه". ومعنى حائط القدس: الجنة.
وللحديث شاهد قوي موقوف في حكم المرفوع أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" عن عبد الله بن عمرو قال:
"لا يدخل حظيرة القدس سكير، ولا عاق ، ولا منان".
وأخرج الترمذي، وابن حبان، وغيرهما، وهو في "الصحيحة" (516) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد".
ويا أخي المسلم احذر عقوق الوالدين، فعقوق الوالدين من أكبر الكبائر، فقد أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟! ثَلاثًا ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ،قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ".
وأخرج الحاكم في "المستدرك" وهو في "الصحيحة" عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق".
(36)
لا يدخل الجنة قاطع(2/65)
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: لما نزلت هذه الآية: (وأنذر عشيرتك الأقربين ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فعم وخص، فقال: "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار؛ يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار؛ يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار؛ يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار؛ يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار؛ فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلالها. الحديث أخرجه الإمام مسلم والترمذي وأحمد.
والبلال بمعنى البلل وهو النداوة، وأطلق ذلك على الصلة، كما أطلق اليبس على القطيعة، لأن النداوة من شأنها تجميع ما يحصل فيها وتأليفه، بخلاف اليبس فمن شأنه التفريق. قال الخطابي: بللت الرحم بلا وبللا أي نديتها بالصلة. وقال الطيبي في قوله صلى الله عليه وسلم (ببلالها) مبالغة بديعة وهي مثل قوله (إذا زلزلت الأرض زلزالها) أي زلزالها الشديد الذي لا شيء فوقه. فالمعنى أبلها بما اشتهر وشاع بحيث لا أترك منه شيئاً.
وقد روى الإمام البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم وهو في "الصحيحة" (2741) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل لما خلق الخلق قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن، فقال: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب! قال: فذاك لك. قال أبو هريرة: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرؤا إن شئتم: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم). سورة محمد
قال ابن كثير في "تفسيره": وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموماً، وقطع الأرحام خصوصاً، بل قد أمر الله بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال.أ.هـ(2/66)
لذلك فإنه لا بد من وصل الأرحام مهما صدر منهم من إساءة، وإن قاطعوك فلا تقطعهم، بل صلهم وتودد لهم وأحسن إليهم. فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: أن رجلاً قال: "يا رسول الله لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عليهم ويجهلون علي، فقال: "إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك".
فالشاهد في هذا الحديث أنه لا بد للمرء مهما بلغ رحمه من إساءة له، أن يحلم ويصل، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم (فكأنما تسفهم الملّ) قال النووي: كأنما تطعمهم الرماد الحار. وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا لمحسن، بل ينالهم الإثم والقطيعة وإدخالهم الأذى عليه.
وقيل: معناه إنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسف الملّ.
وروى الشيخان، وغيرهما عن جبير من مطعم ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يدخل الجنة قاطع) قال سفيان: يعني قاطع رحم.
وروى الإمام أحمد، وابن حبان، عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر.
وفي الحديث الذي أخرجه الطبراني في "الكبير" وهو في "الصحيحة" (2548) عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من ذي رحم يأتي رحمه فيسأله فضلاً أعطاه الله إياه فيبخل عليه؛ إلا أخرج له يوم القيامة من جهنم حية يقال لها: شجاع يتلمظ؛ فيطوق به.
قطع الأرحام من الكبائر
قال القاضي عياض ـ رحمه الله ـ ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة. والصلة درجات بعضها أرفع من بعض وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام ولو بالسلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة، فمنها واجبة ومنها مستحبة.(2/67)
وقطيعة الرحم من صفات المفسدين وصفات الفاسقين الذين قال الله عنهم في سورة البقرة: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون(27).
قال ابن أبي جمرة ـ رحمه الله ـ صلة الرحم تكون بالمال وبالعون على الحاجة وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه مع التحمل على ما يصاب منهم، من القطع والأذى وبالدعاء، والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إذا كانوا أهل استقامة، وإذا كانوا فجاراً فبذل الجهد في وعظهم ثم مقاطعتهم مع الإعلام أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق ولا يسقط صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب إلى أن يعودوا إلى الطريق المثلى.
قلت: ولا يباشر المقاطعة إلا بعد بذل الوسع في بيان الحق لهم والدين، وإنما المقاطعة من أجل إشعارهم بتقصيرهم مع الله، أو لأنهم تمادوا في الوقوع بالمعاصي دون اكتراث، مثل سب الدين، وسب ذات الله، ومثل سماع الموسيقى ولعب النرد ومشاهدة الأفلام الهابطة أو التعرض لأهل العلم بالاستهزاء، أو السفور أو الاختلاط، وإذا رأيت منهم إقبالاً على شرع الله، وحب الخير فصلهم وتودد لهم وأكرمهم.
(37)
بُلُّوا أرحامكم ولو بالسلام
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه لصحيح مسلم: يستحب أن يقدم في البر الأم، ثم الأب، ثم الأولاد، ثم الأجداد والجدات، ثم الأخوة والأخوات، ثم سائر المحارم من ذوي الأرحام، كالأعمام والعمات، والأخوال والخالات، ويقدم الأقرب فالأقرب، ويقدم من أدلى بأبوين على من أدلى بأحدهما، ثم بذي الرحم غير المحرم، كابن العم وبنته وأولاد الخال والخالات، وغيرهم، ثم المصاهرة، ثم بالمولى من أعلى وأسفل، ثم الجار، ويقدم القريب البعيد الدار على الجار، وكذا لو كان القريب في بلد آخر قدم على الجار الأجنبي، وألحقوا الزوج والزوجة بالمحارم. والله أعلم.أ.هـ(2/68)
والمسلم البر التقي هو صانع المعروف في أهله وأرحامه، فقد أخرج البخاري في "صحيحه" وأحمد في "المسند" عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ليس الواصل بالمكافيء، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها".
وما أخرجه أبو يعلى، وابن حبان، وهو في "الصحيحة" (1432) عن أبي بردة قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر، فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت:لا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من أحب أن يصل أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه بعده".
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في "الفتح": أي الذي إذا منع أعطى، قال الطيبي: المعنى ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافيء صاحبه بمثل فعله، ولكن من يتفضل على صاحبه. وقال الحافظ: ههنا ثلاث درجات:
- واصل.
- ومكافيء.
- وقاطع
فالواصل من يتفضَّل ولا يُتفضَّل عليه. والمكافيء من يصل ولا يزيد على ما يأخذ، والقاطع الذي يُتفضَّل عليه وهو لا يتفضَّل.
وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ حينئذ فهو الواصل، فإن جوزي سمي من جازاه مكافئاً.
لذلك جاءت الأحاديث ترغب الواصل رحمه ومنها:
(1) ما أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه. واللفظ عند الإمام أحمد: من أحب أن يوسع الله عليه رزقه..الحديث.
(2) في الحديث المتفق عليه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله".
(3) وعن أبي هريرة في الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرحم شجنة من الرحمن فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته". ومعنى شجنة من الرحمن: الشجنة: عروق الشجر المشتبكة، فيعني أنها أثر من آثار رحمة الله مشتبكة.(2/69)
(4) وأخرج الطيالسي وهو في "الصحيحة" (914) عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة.
وهذا يعني أن على الولد أن يبر والده، فإما ان يحفظ ذلك الباب أو يضيعه.
(5) وأخرج الترمذي، والطحاوي في "المشكل" وهو في "الصحيحة" (154) عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر.
(6) وأخرج الإمام أحمد وغيره، وهو في "الصحيحة" (1598) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل لترفع درجته في الجنة، فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك.
(7) وما أخرجه الترمذي عن ابن عمر أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبرها.
فصلة الأرحام كما ترى أخي القاريء سبب مهم في كثرة المال، وطول العمر، ومحبة الأهل، والذكر الطيب في الدنيا وبعد الموت، وفي دخول الجنة، ومغفرة الذنوب، ورفع الدرجات في الآخرة. فهل لك أن توصلهم ولو بالسلام، عاملاً بأقل ما طلبه منك النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال عن نفسه إنما أنا رحمة مهداة. فقد أخرج وكيع في "الزهد"، وابن حبان في "الثقات"، وهو في "الصحيحة" (1777) عن سويد بن عامر الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُلُّوا أرحامكم ولو بالسلام".
(38)
اتقوا الله وصلوا أرحامكم
في مطلع سورة النساء قال الله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً(1).(2/70)
قال الضحاك فيما نقله ابن كثير في "تفسيره" في قوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام): واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن برّوها وصلوها. قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، والضحاك، وربيع، وغير واحد.
وقد روى ابن عساكر بإسناده عن عبد الله بن مسعود وهو في "الصحيحة" (869) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الله وصلوا أرحامكم.
قال شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ عقب تخريجه الحديث وتصحيحه: والحديث كالتفسير لقوله تعالى: ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) لأن المعنى: اتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وهو المعنى الذي اختاره ابن جرير من حيث الأسلوب العربي.
قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: افتتح تعالى هذه السورة بالأمر بتقواه والحث على عبادته، والأمر بصلة الأرحام، والحث على ذلك.
ثم قال ـ رحمه الله ـ: وقرن الأمر بتقواه، بالأمر ببر الأرحام، والنهي عن قطيعتها، ليؤكد هذا الحق.
ثم قال: وتأمل كيف افتتح هذه السورة بالأمر بالتقوى، وصلة الأرحام والأزواج عموماً، ثم بعد ذلك فصل هذه الأمور أتم تفصيل، من أول السورة إلى آخرها.
لا بد من صلة الأرحام
أخرج البخاري في "صحيحه" والإمام أحمد في "مسنده" عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
وأخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أبي أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ أن أعرابياً عرض للنبي صلى الله عليه وسلم في مسيرة فقال: أخبرني ما يقربني من الجنة ويباعدني من النار! قال: "تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم".(2/71)
وأخرج مسلم في "صحيحه" والترمذي، والبخاري في "الأدب المفرد" عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه"
كان من أول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين وصل المدينة :
صلة الأرحام
وأخرج الترمذي، وابن ماجه، والدارمي، وغيرهم عن زرارة بن أبي أوفى قال: حدثني عبد الله بن سلام قال:
"لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أنجفل الناس قبله، وقيل: قد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثاً)، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال:
"يا أيها الناس! افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".
صلة الرحم أفضل من عتق الرقاب
أخرج البخاري في "صحيحه" والبغوي في "شرح السنة" أن ميمونة بنت الحارث إحدى أمهات المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم أنها اعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: أو فعلت؟ قالت: نعم. قال أما أنك لو أعطيتها لأخوالك كان أعظم لأجرك.
وفي رواية: لو وصلت بعض أخوالك.
وأخرج الإمام أحمد، والطبراني، عن حكيم بن حزام، أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقات أيها أفضل؟ قال: على ذي الرحم الكاشح.
ومعنى الكاشح: هو الذي يضمر عداوته في باطنه.
والحديث أخرجه الحاكم عن أم كلثوم بنت عقبة، وأبو داود، والترمذي عن أبي سعيد وهو في "الجامع الصحيح" (1110).
(39)
أرحامكم ، أرحامكم(2/72)
حث النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم على صلة الرحم، حتى في مرضه الذي قبض فيه، فقد أخرج ابن حبان في "صحيحه" (الإحسان:436)، وهو في "الصحيحة" (1538) عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: "أرحامَكم ، أرحامَكم".
والأرحام كما قال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ في "الفتاوى الإسلامية": هم الأقارب من النسب من جهة أمك وأبيك، وهم المعنيون بقول الله سبحانه وتعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) "الأنفال:75" وأقربهم الآباء، والأمهات، والأجداد، والأولاد، وأولادهم وما تناسلوا، ثم الأقرب فالأقرب من الأخوة وأولادهم، والأعمام والعمات، وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما سأله سائل قائلاً من أبرّ يا رسول الله؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال:"أمك" قال: ثم من؟ قال:"أمك" قال: ثم من؟ قال: "أباك، ثم الأقرب فالأقرب". أخرجه الإمام مسلم وغيره.
لذلك نجد النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم يحث على معرفة النسب من أجل صلة الرحم. فقد أخرج الطيالسي وهو في "الصحيحة" (277) عن إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: كنت عند ابن عباس فأتاه رجل فسأله: من أنت؟ قال: فمت له برحم بعيدة فألان له القول، فقال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعرفوا أنسابكم، تصلوا أرحامكم، وإن كانت قريبة؛ فإنه لا قرب بالرحم إذا قطعت وإن كانت قريبة، ولا بعد بها إذا وصلت، وإن كانت بعيدة.
وأخرج الترمذي، والحاكم، والإمام أحمد في "مسنده"، والسمعاني في "الأنساب" وأورده شيخنا الألباني في "الصحيحة" (276) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر.(2/73)
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم (مثراة في المال، منسأة في الأثر): هو قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري وغيره عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ.
ومعنى ينسأ له في أثره: أي يبقى ذكره في الخير حتى بعد وفاته.
ومعنى مثراة في المال: أي يكثر ماله ويبارك فيه.
صلة الرحم أول خلق وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم
ففي الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ بِغَارِ حِرَاءٍ أنه صلى الله عليه وسلم رَجَعَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ خَدِيجَةُ:
كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.. ..الحديث.
وكذلك في الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره في وصف أبي سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ النبي صلى الله عليه وسلم لهِرَقْلَ فكان مما قاله:(2/74)
قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لا، قَال:َ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا.
إلى أن قال هرقل: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالصِّلَةِ.
فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي امتدحه الله تعالى فقال فيه (وإنك لعلى خلق عظيم) كان يأمر بصلة الأرحام كما كان يأمر بالصلاة لأهمية ذلك. فكانت قريش المنتصر منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم والخصم يعلمون منه هذا الخلق الجليل الرفيع.
(40)
التائب من الذنب كمن لا ذنب له
قال الله تعالى في سورة التحريم:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(8).
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ في "الجامع لأحكام القرآن" (5/90): واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين.(2/75)
أخرج البخاري في "الأدب المفرد" ، ومسلم في "صحيحه" ، عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة".
وقال الله تعالى في سورة المائدة:
(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(74).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الاستغفار والتوبة، فقد أخرج الترمذي، وأحمد، وهو في "الصحيحة" (556) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: "رب اغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الغفور" مائة مرة.
وقال تعالى في سورة الزمر:
( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53).
سئل ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ كما نقل ذلك ابن حجر في "الفتح": أأسبح أو أستغفر فقال: الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور.
قصة الرجل الذي قتل مائة نفس
أخرج البخاري في "صحيحه" كتاب أحاديث الأنبياء عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(2/76)
" كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟! قَالَ: لا، فَقَتَلَهُ ،فَجَعَلَ يَسْأَلُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا ، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ ، فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي ، وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا ، فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ".(2/77)
واخرج مسلم في "صحيحه" كتاب التوبة عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ: لا فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ ،فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ ،وَقَالَتْ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الأرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ فَقَاسُوهُ، فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الْحَسَنُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ".
من فوائد الحديث
1/ سعة رحمة الله تعالى.(2/78)
2/ قبول توبة المذنب ولو كان قاتلاً شريطة أن يكون مخلصاً لله تعالى ، صادقاً بها، نادماً ، فالندم توبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجه، وأحمد وغيرهم.
3/ فضل العالم على العابد، فقد أفتى العالم بعلم، وأفتى الراهب بجهل.
(41)
على كل عضو من أعضاء بني آدم صدقة
أخرج الإمام أحمد في "المسند" وهو في "الصحيحة" (574) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"على كل عضو من أعضاء بني آدم صدقة".
ومن فوائد صلاة الضحى أنها تجزيء عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كل يوم وهي ثلاثمائة وستون مفصلاً كما في حديث أبي ذر الذي أخرجه مسلم، وأبو داود، وأحمد ، وابن خزيمة، والبيهقي، والبغوي في "شرح السنة" ، وهو في "الصحيحة" (577) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى".
وأخرج أبو داود، وأحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهم ، بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" فِي الإنْسَانِ ثَلاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلاً فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهُ بِصَدَقَةٍ، قَالُوا: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ النُّخَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ تَدْفِنُهَا وَالشَّيْءُ تُنَحِّيهِ عَنْ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَرَكْعَتَا الضُّحَى تُجْزِئُكَ".
(42)
حب الدنيا رأس كل خطيئة(2/79)
أخرج الترمذي ، وابن ماجه، والدارمي، عن عَبْد اللَّهِ بْنَ ضَمْرَةَ قَال : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُول ُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :
"ألا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرُ اللَّهِ، وَمَا وَالاهُ، وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ".
قال المناوي ـ رحمه الله ـ: الدنيا ملعونة لأنها غرت النفوس بزهرتها ولذتها فأمالتها عن العبودية إلى الهوى، وقال بعد ذكر قوله وعالما أو متعلما : أي هي وما فيها مبعد عن الله إلا العلم النافع الدال على الله فهو المقصود منها ، فاللعن وقع على ما غر من الدنيا لا على نعيمها ولذتها ، فإن ذلك تناوله الرسل والأنبياء.
وأخرج الإمام أحمد، وابن جرير في "التفسير" وغيرهما، وهو في "الصحيحة" (414) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال َ:
" إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ).
مالي وللدنيا
أخرج الإمام احمد، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم، وهو في "الصحيحة" عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه، فقال: يا نبي الله لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا؟ فقال:
"مالي وللدنيا؟! ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها".
وأخرج الإمام أحمد في "الزهد" وهو في "الصحيحة" (910) عن مصعب بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"احذروا الدنيا ، فإنها حلوة خضرة".(2/80)
وأخرج الإمام أحمد في "المسند" وهو في "الصحيحة" (911) عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله عز وجل مستخلفكم فيها ، لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء".
وأخرج ابن ماجه، وابن حبان، وهو في "الصحيحة" (950) عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره ، وجعل غناه في قلبه ؛ وأتته الدنيا وهي راغمة".
تعس عبد الدينار والدرهم
أخرج البخاري في "صحيحه"، وابن ماجه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ".
لذا قال بعض السلف ـ رحمهم الله ـ: من أحب الدرهم والدينار فليتهيأ للذل.
(43)
حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات
قال الله تبارك وتعالى في سورة النازعات :
(فَأَمَّا مَنْ طَغَى(37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى(39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41).
أخرج الإمام مسلم في "صحيحه"، والإمام أحمد، والترمذي، والدارمي من حديث أبي هريرة، وأنس بن مالك عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ".(2/81)
وأخرج أبو داود، والترمذي ـ واللفظ له ـ (صحيح الترمذي:2075)، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَالَ انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأهْلِهَا فِيهَا، قَالَ: فَجَاءَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لأهْلِهَا فِيهَا، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَوَعِزَّتِكَ لا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأهْلِهَا فِيهَا، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ، قَالَ: اذْهَبْ إِلَى النَّارِ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأهْلِهَا فِيهَا فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلَهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/402):
"المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه".
وما ذاك إلا لأن صاحب الهوى لا يرى إلا الهوى، فإذا تكلم فبهوى، وإذا صمت فلهوى، وإذا فعل فلهوى، وإذا ترك فلهوى، ولأنه يعيش في محيط هواه الذي أضله وأعماه وأصمه، والذي أسره وقيده، فإن الهوى يأسر صاحبه، ويحبس قلبه عن ربه عز وجل.(2/82)
أخرج ابن أبي حاتم في "تفسير القرآن العظيم" (15199)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" لابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) قال: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زماناً من الدهر في الجاهلية، فإذا وجد حجراً أحسن منه يعبد الآخر ويترك الأول.
وأخرج ابن أبي حاتم (15201) وعزاه السيوطي لابن المنذر، وابن أبي شيبة، عن الحسن: في قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) قال: لا يهوى شيئاً إلا اتبعه.
وأخرج ابن أبي حاتم (15203) وعزاه السيوطي لعبد بن حميد، عن قتادة في قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) قال: والله كلما هوى شيئاً ركبه، وكلما اشتهى شيئاً أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى.
وقال الله تبارك وتعالى في سورة الجاثية:
(أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(23).
(44)
الناس أربعة ، والأعمال ستة
أخرج الإمام أحمد في "مسنده" ـ والسياق له ـ، وابن حبان في "صحيحه"، وابن أبي شيبة في "المصنف" وهو في "الصحيحة" (2604) عن خريم بن فاتك الأسدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(2/83)
" النَّاسُ أَرْبَعَةٌ وَالأعْمَالُ سِتَّةٌ: فَالنَّاسُ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمُوَسَّعٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا مَقْتُورٌ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ، وَمَقْتُورٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ، وَشَقِيٌّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالأعْمَالُ: مُوجِبَتَانِ، وَمِثْلٌ بِمِثْلٍ، وَعَشْرَةُ أَضْعَافٍ، وَسَبْعُ مِائَةِ ضِعْفٍ. فَالْمُوجِبَتَانِ: مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ، وَمَنْ مَاتَ كَافِرًا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَهَا قَلْبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ وَمَنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَلَمْ تُضَاعَفْ عَلَيْهِ، وَمَنْ عَمِلَ حَسَنَةً كَانَتْ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ،وَمَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ".
ترتيب الحديث لتيسير فهمه
" النَّاسُ أَرْبَعَةٌ وَالأعْمَالُ سِتَّةٌ :
فَالنَّاسُ أربعة :
(1) مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ،
(2) وَمُوَسَّعٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا مَقْتُورٌ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ ،
(3) وَمَقْتُورٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ ،
(4) وَشَقِيٌّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
وَالأعْمَالُ ستة :
مُوجِبَتَانِ، (1+2)
وَمِثْلٌ بِمِثْلٍ، (3+4)
وَعَشْرَةُ أَضْعَافٍ، (5)
وَسَبْعُ مِائَةِ ضِعْفٍ ، (6)
فَالْمُوجِبَتَانِ :
(1) مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ .
(2) وَمَنْ مَاتَ كَافِرًا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ .
وَمِثْلٌ بِمِثْلٍ:(2/84)
(3) وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَهَا قَلْبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً .
(4) وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ وَمَنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَلَمْ تُضَاعَفْ عَلَيْهِ.
وَعَشْرَةُ أَضْعَافٍ
(5) وَمَنْ عَمِلَ حَسَنَةً كَانَتْ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا .
وَسَبْعُ مِائَةِ ضِعْفٍ
(6) وَمَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ.
(45)
يا أيها الناس! ابتاعوا أنفسكم من الله من مال الله
قال الله تعالى في سورة الحديد:
(آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ(7).
وقال تعالى في سورة النور:
(..وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ..(33).
وقال تعالى في سورة سبأ:
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(39).
أخرج البخاري في "صحيحه" ، ومسلم، وأحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ، وَقَالَ: يَدُ اللَّهِ مَلأى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ".
أخرج الخرائطي في "مكارم الأخلاق" وهو في "الصحيحة" (271) عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(2/85)
"يا أيها الناس! ابتاعوا أنفسكم من الله من مال الله، فإن بخل أحدكم أن يعطي ماله للناس فليبدأ بنفسه، وليتصدق على نفسه فليأكل وليكتس مما رزقه الله عز وجل".
وأخرج الإمام أحمد في "مسنده"، والبخاري في "الأدب المفرد" ، وهو في "الصحيحة" (453) عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ ، وَمَا أَطْعَمْتَ زَوْجَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ ، وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ".
وأخرج البغوي ، وهو في "الصحيحة" (566) عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أفضل الصدقة جهد المقل، وابدأ بمن تعول".
وأخرج البخاري، والنسائي، والطيالسي، وهو في "الصحيحة" (729) عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
"إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ".
وأخرج الإمام أحمد في "مسنده"، وهو في "الصحيحة" (1024) عن عمرو بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما أعطى الرجل امرأته فهو صدقة".
وأخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، وغيرهم، وهو في "الصحيحة" (730) عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ قَالَت:ْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ ، لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا".(2/86)
وأخرج مسلم في "صحيحه" ـ واللفظ له ـ، والنسائي، والترمذي، عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ قَالَ:"يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي ،قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ".
مثل البخيل والمنفق
أخرج البخاري في "صحيحه" ـ واللفظ له ـ، ومسلم، والنسائي، وأحمد، والخرائطي في "مساويء الأخلاق"، وأبو الشيخ في "الأمثال"، والبغوي في "شرح السنة" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلا يُنْفِقُ إِلاَّ سَبَغَتْ أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلاَّ لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلا تَتَّسِعُ".
قال الخطابي ـ رحمه الله ـ: "والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسح لها صدره وطابت نفسه وتوسعت في الإنفاق، والبخيل إذا حدث نفسه بالصدقة شحت نفسه فضاق صدره وانقبضت يداه".
(46)
من صمت نجا
قال الله تعالى في سورة الهمزة:
(ويل لكل همزة لمزة(1).
أخرج الحاكم، والبيهقي، وابن خزيمة، وابن حبان، وهو في "صحيح الجامع" (5376)، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك، فقل إني صائم، إني صائم".(2/87)
عن الأعمش عن شقيق فيما أخرجه الطبراني، وأبو الشيخ، وابن عساكر، وهو في "الصحيحة" (534) قال: " لبى عبد الله ـ رضي الله عنه ـ على الصفا، ثم قال: يا لسان قل خيراً تغنم، اسكت تسلم، من قبل أن تندم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن هذا شيء أنت تقوله أم سمعته؟ قال: لا، بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أكثر خطايا ابن آدم في لسانه".
وأخرج أبو يعلى، والبيهقي في "الشعب"، وهو في "الصحيحة" (535) عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب اطلع على أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهما ـ وهو يمد لسانه ، فقال: ما تصنع يا خليفة رسول الله؟ فقال: هذا أوردني الموارد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء في الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته".
وهذا الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وهو في "صحيح الجامع" (351) عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً:
"إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا".
لذلك قال علي بن أبي طالب فيما أخرجه ابن أبي الدنيا في "كتاب الصمت" بإسناد حسن (58): "اللسان قوام البدن، فإذا استقام اللسان استقامت الجوارح، وإذا اضطرب اللسان، لم يقم له جارحة".
وأخرج الإمام أحمد، وهو في "الصحيحة" (540) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب". وفي رواية: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار".
وفي "موطأ الإمام مالك، وفي سنن الترمذي، وابن ماجه، وفي مسند الإمام أحمد، وغيرهم، وهو في "الصحيحة" (888) عن بلال بن الحارث المزني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(2/88)
"إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه".
قال الحسن ـ رضي الله عنه ـ فيما أخرجه ابن أبي الدنيا في "كتاب الصمت" بإسناد قوي (34): "ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه".
وتخوف النبي صلى الله عليه وسلم من المنافق عليم اللسان فقال فيما أخرجه الإمام أحمد، وهو في "صحيح الجامع" (1554): "إن أخوف ما أخاف على أمتي، كل منافق عليم اللسان".
وفي "الصحيحين" وغيرهما، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".
قال النووي في "رياض الصالحين" ـ رحمه الله ـ:
"وهذا صريح أنه ينبغي أن لا يتكلم إلا إذا كان الكلام خيراً، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة لا يتكلم".
وأخرج ابن المبارك في "الزهد"، وعنه أحمد، والترمذي، وهو في "الصحيحة" (890)، عن عقبة بن عامر الجهني قال: قلت يا رسول الله! ما النجاة؟ قال: "أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك".
وفي رواية أخرجها الطبراني وهي في "صحيح الترغيب والترهيب" (2855) عن ثوبان ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته".
وقد دل النبي صلى الله عليه وسلم على طريق النجاة في الحديث الذي أخرجه الترمذي، والدارمي، وأحمد، وهو في "الصحيحة" (536) عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صمت نجا".
وكان صلى الله عليه وسلم كما قال جابر بن سمرة فيما ذكره التبريزي في "مشكاة المصابيح" (5826) وعزاه "لشرح السنة" وهو في "صحيح الجامع" (4822): طويل الصمت قليل الضحك.(2/89)
وأخرج الترمذي، وابن ماجه ، وابن حبان، وغيرهم، وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (2862) عن سفيان بن عبد الله الثقفي ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به قال:
"قل ربي الله ثم استقم" قال: قلت: يا رسول الله ! ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا.
(47)
"خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ"
أخرج الترمذي في "سننه" (صحيح الترمذي 1898) عن عبد الله بن بسر أن أعرابياً قال: يا رسول الله من خير الناس؟ قال:
"من طال عمره وحسن عمله".
والحديث أخرجه الإمام أحمد في "المسند" عن عبد الله بن بسر بإسناد صحيح، ولفظه:
جَاءَ أَعْرَابِيَّانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ. وَقَالَ الآخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَمُرْنِي بِأَمْرٍ أَتَثَبَّتُ بِهِ، فَقَالَ لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وفي رواية:
أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيَّانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ خَيْرُ الرِّجَالِ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ". وَقَالَ الآخَرُ: إِنَّ شَرَائِعَ الإسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ، قَالَ: لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وأخرج الإمام أحمد في "المسند" بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمَالاً".(2/90)
وأخرج الترمذي في "سننه" ( صحيح الترمذي 1899)، والإمام أحمد، والدارمي ، من طرق: عن عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ:
أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: " مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ". قَالَ فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ:" مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ".
وأخرج الحاكم في " المستدرك " (1/339) وعبد بن حميد في " المنتخب " وهو في "الصحيحة" (1298) كلاهما من طريق محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ألا أنبئكم بخياركم من شراركم؟ قالوا بلى! قال: خياركم أطولكم أعماراً وأحسنكم عملاً".
طال عمره، فَلِحُسْنِ عمله وخُلُقِه سبق أخاه الشهيد
أخرج أبو داود ( صحيح سنن أبي داود 2202) ـ واللفظ له ـ والنسائي، كلاهما عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ قَالَ:
"آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا وَمَاتَ الآخَرُ بَعْدَهُ بِجُمُعَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، فَصَلَّيْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا قُلْتُمْ فَقُلْنَا دَعَوْنَا لَهُ وَقُلْنَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَأَلْحِقْهُ بِصَاحِبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَيْنَ صَلاتُهُ بَعْدَ صَلاتِهِ، وَصَوْمُهُ بَعْدَ صَوْمِهِ، شَكَّ شُعْبَةُ فِي صَوْمِهِ، وَعَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ، إِنَّ بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ".
فانظروا ـ رحمكم الله ـ كيف سبق الأخ الذي مات على فراشه أخاه الشهيد، وارتفعت درجته فوق درجته بسبب أسبوع متعه الله به؟! فكيف لو عاش بعده سنة أو أكثر، فاغتنموا ـ رحمكم الله ـ حياتكم؛ فإن الموت يأتي بغتة.(2/91)
وروى الإمام البيهقي في "الزهد" (2/73) وهو في "الصحيحة" (2591) عن طلحة بن عبيد الله: أن رجلين من بليّ ـ وهو حي من قضاعة ـ قتل أحدهما في سبيل الله، وأخر الآخر بعده سنة ثم مات، قال طلحة: فرأيت في المنام الجنة فتحت، فرأيت الآخر من الرجلين دخل الجنة قبل الأول، فتعجبت. فلما أصبحت ذكرت ذلك، فبلّغت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أليس قد صام بعده رمضان، وصلى بعده ستة آلاف ركعةٍ، وكذا وكذا ركعةٍ لصلاة السُّنة؟".
وأخرج الإمام أحمد (1/177)، وابن خزيمة في "صحيحه" (310)، والحاكم (1/200)، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا، وَنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: كَانَ رَجُلانِ أَخَوَانِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ مِنْ الآخَرِ فَتُوُفِّيَ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُهُمَا، ثُمَّ عُمِّرَ الآخَرُ بَعْدَهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَضْلُ الأوَّلِ عَلَى الآخَرِ فَقَالَ: أَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي؟ فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَانَ لا بَأْسَ بِهِ، فَقَالَ مَا يُدْرِيكُمْ مَاذَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاتُهُ، ثُمَّ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّمَا مَثَلُ الصَّلَوَاتِ كَمَثَلِ نَهَرٍ جَارٍ بِبَابِ رَجُلٍ غَمْرٍ عَذْبٍ يَقْتَحِمُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَا تُرَوْنَ يُبْقِي ذَلِكَ مِنْ دَرَنِهِ.
(48)
إن عظم الجزاء مع عظم البلاء،
وإذا أحب الله قوماً ابتلاهم
قال الله تعالى في سورة البقرة:(2/92)
(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين(155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون(156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون(157).
أخرج أبو داود في "سننه"، والحاكم، وأحمد ـ واللفظ له ـ، وهو في "الصحيحة" (959)، عن أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أُمَّتِي أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ إِلاَّ عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْقَتْلُ وَالْبَلاءُ وَالزَّلازِلُ". ولفظه عند أبي داود: "أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ وَالزَّلازِلُ وَالْقَتْلُ".
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ فيما أخرجه البخاري ومسلم ـ رحمهما الله ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يرد الله به خيراً يُصب منه". أي: يصيبه ببلاء .
وأخرج الإمام الترمذي ، وابن ماجه ، وهو في "الصحيحة" (146) عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط".
قال القاضي الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ: الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم البلاء صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه .
وفي الحديث الصحيح (الصحيحة:147) الذي أخرجه الإمام الدارمي والإمام أحمد ـ رحمهما الله ـ عن صهيب قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد مع أصحابه إذ ضحك ، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: يا رسول الله ! ومم تضحك ؟ قال:
"عجبت لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، إن أصابه ما يحب حمد الله وكان له خير، وإن أصابه ما يكره فصبر كان له خير، وليس كل أحد أمره كله خير إلا المؤمن".
أشد الناس بلاء الأنبياء(2/93)
أخرج ابن ماجه، وابن سعد، والحاكم، وهو في "الصحيحة" (144) عن أبي سعيد الخدري قال: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله ! ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك ، يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر . قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال:الأنبياء، قلت: يا رسول الله! ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة التي يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء".
الصبر على الابتلاء علامة خير
قال الله تعالى في سورة الزمر: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب(10). فالصبر أخي المسلم على الابتلاء علامة خير كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود بإسناده عن المقداد بن الأسود مرفوعاً وهو في "الصحيحة" (975): "إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر".
وأخرج البخاري ومسلم ـ رحمهما الله ـ عن عَطَاء بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَتْ إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ، فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا".
لذا قال بعض السلف الصالح ـ رحمهم الله ـ: إذا نزلت بك مصيبة فصبرت كانت مصيبتك واحدة، وإن نزلت بك ولم تصبر فقد أصبت بمصيبتين، فقدان المحبوب ، وفقدان الثواب .
فالصبر على الابتلاء عبادة لله عز وجل قال الله تعالى في سورة الحج :(2/94)
(ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين(11).
أصيب عروة بن الزبير ـ رحمه الله ـ في قدمه فقرر الأطباء قطعها، فقطعت. فما زاد على أن قال: اللهم لك الحمد فإن أخذت فقد أبقيت، وإن ابتليت فقد عافيت. فلما كان من الغد ركلت بغلة ابنه محمدا ـ وهو أحب أبنائه إليه ، وكان شاباً يافعاً ـ فمات من حينه ، فجاءه الخبر بموته، فما زاد على أن قال مثل ما قال في الأولى، فلما سئل عن ذلك قال: كان لي أربعة أطراف فأخذ الله مني طرفاً وأبقى لي ثلاثة، وكان لي سبعة من الولد فأخذ الله واحداً وأبقى لي ستة، وعافاني فيما مضى من حياتي ثم ابتلاني اليوم بما ترون، أفلا أحمد على ذلك؟!
الابتلاءات للمسلم رفع للدرجات وكفارات للخطايا
أخرج الإمام أحمد ـ واللفظ له ـ وغيره، وهو في "الصحيحة" (2599) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَكَانَ لِجَدِّهِ صُحْبَةٌ أَنَّهُ خَرَجَ زَائِرًا لِرَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَبَلَغَهُ شَكَاتُهُ، قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَيْتُكَ زَائِرًا عَائِدًا وَمُبَشِّرًا، قَالَ: كَيْفَ جَمَعْتَ هَذَا كُلَّهُ؟ قَالَ خَرَجْتُ وَأَنَا أُرِيدُ زِيَارَتَكَ فَبَلَغَتْنِي شَكَاتُكَ فَكَانَتْ عِيَادَةً، وَأُبَشِّرُكَ بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: "إِذَا سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ".(2/95)
وأخرج الترمذي، وابن ماجه، والدارمي، وغيرهم، وهو في "الصحيحة" (143) عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: "الأنْبِيَاءُ ثُمَّ الأمْثَلُ فَالأمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ".
وأخرج الإمام البخاري في "صحيحه" عن عُرْوَة بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ زَوْجَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا".
وأخرج الإمام مسلم في "صحيحه" عَنْ الأسْوَدِ قَالَ: دَخَلَ شَبَابٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ بِمِنًى وَهُمْ يَضْحَكُونَ، فَقَالَتْ: مَا يُضْحِكُكُمْ؟ قَالُوا فُلانٌ خَرَّ عَلَى طُنُبِ فُسْطَاطٍ فَكَادَتْ عُنُقُهُ أَوْ عَيْنُهُ أَنْ تَذْهَبَ، فَقَالَتْ: لا تَضْحَكُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلاَّ كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ.
وأخرج ابن سعد في "الطبقات" (2/207) وهو في "الصحيحة" (1103) عن أبي بردة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويحسبها عائشة قالت:(2/96)
مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضاً اشتد منه ضجره أو وجعه، قالت: فقلت: يا رسول الله إنك لتجزع أو تضجر، لو فعلته امرأة منا عجبت منها ، قال: "أو ما علمت أن المؤمن يشدد عليه ليكون كفارة لخطاياه".
وأخرج الإمام مسلم، والترمذي، وأحمد، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما يصيب المؤمن من وصب، ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن حتى الهم يهمه، إلا كفر به من سيئاته".
ومعنى الوصب: الوجع والمرض. ومعنى النصب : التعب .
(49)
مصدر المعرفة الصحيح
في سورة النحل (70/ نزول) بيَّن الله تعالى أنه خلق الناس لا يعلمون شيئاً، ثم زوَّدهم بوسائل المعرفة، قال تعالى :
(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78).
قال السعدي ـ رحمه الله ـ: خص الله تعالى هذه الأعضاء الثلاثة، لشرفها، وفضلها، ولأنها مفتاح لكل علم .
قلت: بعد أن منَّ الله علينا بهذه الأعضاء المهمة، نبَّه على أهمية استعمالها في طاعة الله تعالى، فمن استعملها في الحق، استعمله الله في العمل الصالح، فيكون العبد بعدئذ، عبداً لله شاكراً.
لذا ذمَّ الله الكثرة التي سقطت في الابتلاء فقال في سورة النمل (48/نزول): (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ(73). وامتدح القلَّة فقال في سورة سبأ (58/نزول): (..اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ(13).وقال في سورة المؤمنون (74/نزول): (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ(78).
والشكر: اعتراف القلب بمنَّة الله تعالى، وتلقيها افتقاراً إليها، وصرفها في طاعة الله تعالى، وصونها عن صرفها في المعصية.(2/97)
وتحديد مصدر العلم الصحيح، أو المعرفة الصحيحة، من أهم قضايا المنهج الصحيح.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "مجموع الفتاوى" (2/4):
"ولهذا كان طائفة من أئمة المصنفين للسنن على الأبواب، إذا جمعوا فيها أصناف العلم، ابتدأوا بأصل العلم والإيمان، كما ابتدأ البخاري صحيحه ببدء الوحي ونزوله، فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول أولاً، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء به، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به، فرتبه ترتيبه الحقيقي، وكذلك الإمام أبو محمد الدارمي ـ رحمه الله ـ صاحب المسند، ابتدأ كتابه بدلائل النبوة".
وبيَّن ابن القيم في كتابه "الفوائد" (صفحة:116) أن سبب انحراف المنحرفين مرتبط بانحرافهم عن مصدر المعرفة الصحيح، فقال:
ومن هنا يتبين انحراف أكثر الناس عن الإيمان لانحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة.
ثم بيَّن مصدر المعرفة الموصل إلى الاستقامة والهدى فقال:
ولا يتم الإيمان إلا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة، وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق، فيكون علمه مقتبساً من مشكاة الوحي، وإرادته لله والدار الآخرة، فهذا أصح الناس علماً وعملاً، وهو من الأئمة الذين يهدون بأمر الله، ومن خلفاء رسوله في أمته.أ.هـ
فأول مصدر من مصادر المعرفة لدى المسلمين، هو الوحي من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو مصدر المعرفة الحق الذي بدونه لا تستقيم حياة، ولا ينعم عيش، فهو هدى الله الذي أنزله لهداية الناس وإصلاحهم. وهم لا يعدلون بهذا المصدر بديلاً، ولا يرون له مثيلاً، فهو مصدر اصطفاه الله لهم.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "مجموع الفتاوى" (1/3):(2/98)
وبعث الله محمداً بأفضل المناهج والشرع، وأحبط به أصناف الكفر والبدع، وأنزل عليه أفضل الكتب والأنباء، وجعله مهيمناً على ما بين يديه من كتب السماء. وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله. وهو شهيد عليهم، وهم شهداء على الناس في الدنيا والآخرة بما أسبغه عليهم من النعم الباطنة والظاهرة، وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة إذ لم يبق بعده نبي يبيِّن ما بدل من الرسالة، وأكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمه ورضي لهم الإسلام ديناً، وأظهره على الدين كله إظهاراً بالنصرة والتمكين، وإظهاراً بالحجة والتبيين، وجعل فيهم علماءهم ورثة الأنبياء يقومون مقامهم في تبليغ ما أنزل من الكتاب، وطائفة منصورة لا يزالون ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى حين الحساب. وحفظ لهم الذكر الذي أنزله من الكتاب المكنون كما قال تعالى في سورة الحجر: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9). فلا يقع في كتابهم من التحريف والتبديل كما وقع من أصحاب التوراة والإنجيل. وخصَّهم بالرواية والإسناد الذي يميز به بين الصدق والكذب، الجهابذة النقاد، وجعل هذا الميراث يحمله من كل خلف عدوله أهل العلم والدين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، لتدوم بهم النعمة على الأمة، ويظهر بهم النور من الظلمة، ويحيي بهم دين الله الذي بعث به رسوله، وبيَّن الله بهم للناس سبيله، فأفضل الخلق أتبعهم لهذا النبي الكريم المنعوت في قوله تعالى في سورة التوبة: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128).
أما المصدر الثاني من مصادر المعرفة فهو الكون بسمائه، وأرضه، وشجره، وحجره، وجميع الخلق فيه.(2/99)
قال الله تعالى في سورة الغاشية: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21).
(50)
الحذر من الأهواء
…لقد نزَّه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن النطق بالهوى ، أو أن يقول شيئاً من عند نفسه في أمر الدين ، فكان مطلع سورة النجم :ـ (والنجم إذا هوى، ما ضلَّ صاحبكم وما غوى ، وما ينطق عن الهوى).
…قال ابن كثير : وقوله تعالى :ـ ( ما ضلَّ صاحِبُكُم وما غَوى ) ، هذا هو المقسم عليه وهو الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه راشد ، تابع للحق ، ليس بضالٍ ، والضال هو الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم ، والغاوي هو العالم بالحق العادل عنه قصداً إلى غيره ، فنزَّه الله رسوله ، وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود وهي علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه ، بل هو صلاة الله وسلامه عليه وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ، لذا قال الله تعالى :ـ ( إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحَى ) ، أي: إنما يقول ما أمر به يبلغه كاملاً موفوراً من غير زيادة أو نقصان . ا.هـ
…وحين خطَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطَّه المستقيم الذي قال عنه : هذا صراط الله مستقيماً ، كان لزاماً على المتتبع لهذا الصراط المستقيم ألاّ يتبع الهوى ، قال تعالى في سورة النازعات :ـ
( وأمّا من خاف مقام ربِّه ونهى النفس عن الهوى فإنَّ الجنة هي المأوى). قال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في مجموع الفتاوى (28/131) : ونفس الهوى وهو الحب والبغض الذي في النفس لا يلام عليه ، فإنّ ذلك قد لا يملك وإنما يلام على اتباعه .
…وقال أيضاً : ومجرد الحبّ والبغض هوى ، لكن المحرم إتباع حبه وبغضه بغير هدى من الله.ا.هـ(2/100)
…إذن فهذا الخط الذي خطّه النبي صلى الله عليه وسلم هو مراد الله تعالى الذي قال في سورة الجاثية :ـ (ثمَّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتَّبِعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ).
…وخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال في سورة الشورى :ـ ( فلذلك فادعُ واستقمْ كما أُمِرْتَ ولا تتبع أهوائهم ).بعد أن قال في السورة:ـ ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ).
فالحكم حكم الله وما أوحى إلى نبيه ، كقوله تعالى في سورة النساء:ـ (فإن تنازعتم في شيءٍ فرُدُّوه إلى الله والرسول ) وقوله تعالى في سورة المائدة :ـ (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عمَّا جاءك من الحق ).
…والدعوة إلى الله على بصيرة يبدأ بيانها بالعلم النافع من أجل أن نكون على الصراط المستقيم ، صراط المرسلين ، صراط من أناب إلى الله تعالى.
…لذا قال تعالى في سورة الشورى :ـ ( شرَّع لكم من الدين ما وصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصَّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرَّقُوا فيه).
…قال ابن تيمية في مجموع الفتاوي (3/421) : وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها ، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله.
…ثم قال الله تعالى في سورة الشورى:ـ ( وما تفرقوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم).
…قال ابن تيمية في المجموع (1/14) : فأخبر أن تفرّقهم إنما كان بعد مجيء العلم الذي بيَّن لهم ما يتقون ، فإنّ الله ما كان ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتى يبيِّن لهم ما يتقون،(2/101)
…وكذلك الحال في هذه الأمة ، فإنّ التفرق لم يقع بينها إلاّ بعد قيام حجة الله عليهم بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبعد أمرهم بالائتلاف والاجتماع ونهيهم عن التفرق والاختلاف وبعد تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من التفرّق ، وبعد أن قصَّ الله علينا تفرّق الأمم السابقة واختلافهم وذلك حتى يكون لنا العبرة فيهم فلا نختلف كما اختلفوا ولا نتفرّق كما تفرقوا.ا.هـ
فالعلم النافع إذاً هو العلم الذي ينتفع به من استقام على الجادة وتبصَّر الصراط المستقيم، فأخضع هوى نفسه له وحَذِرَ الذي حذَّر منه رب العالمين، أمّا من لم ينتفع بما جاء به العلم النافع ولم يُخْضِعْ هوى نفسه له بل حاد عنه وانساق تبعاً طمعاً وحسداً وعناداً واستكباراً فإنه يكون بذلك أخرج نفسه عن الصراط المستقيم، فإن كان علم ولم يستقم فكأنه لم يعلم ولا يمكن أن يسمى بذلك عالماً ، لذلك كان قول الله تعالى في سورة الجاثية :ـ ( ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ). لأنهم لو علموا وعملوا بما علموا واستنكروا الهوى لكانوا يعلمون، فالله تعالى بذلك نفى عنهم العلم النافع واتباع ما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم .
…قال تعالى في سورة الروم :ـ( بل اتَّبَعَ الَّذين ظلموا أهوائهم بغير علمٍ فمن يهدي من أضلَّ الله وما لهم من ناصرين ).
…فهذه عاقبة المتفرقين المبتعدين عن الخطِّ المستقيم أنه ما لهم من ناصرين.
…ثم قال الله تعالى في سورة الروم :ـ ( فأَقِمْ وجهَكَ للدِّينِ حنيفاً فطرةَ اللهِ التي فَطَرَ الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدِّين القَيِّم ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون).
…قال ابن ريان في كتابه "الروض الرَّيان" : حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف فكيف يجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف ؟!(2/102)
…الجواب : ما كان مقصودهم نفس العلم ، بل كان قصدهم طلب الرئاسة والتقدم ، لأنهم علموا وعاندوا ولو كان قصدهم نفس العلم لما اختلفوا ، ولكن تحاسدوا وعاندوا. ا.هـ
…قلت : ويستدل على الذي قاله ابن ريَّان قوله تعالى في سورة محمد:ـ ( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتَّبعوا أهوائهم).
قال ابن كثير : أي فلا فهم صحيح ولا قصد صحيح.
وقال تعالى في سورة الأعراف :ـ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذَّبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون).
…ولابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه الفوائد ، كلام نفيس في تفسير هاتين الآيتين حبذا الإطلاع عليه.
…ومن ثم جاء تنبيه الله تعالى لأصحاب الصراط المستقيم في سورة الروم فقال :ـ (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين).
…ثُمّ عرَّفَ حال مُتَّبِعِي الهَوى فقال بعدها مباشرة :ـ ( من الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزبٍ بما لديهم فرحون ).
…كما قال تعالى في مطلع سورة القمر :ـ (( وكذَّبُوا واتَّبَعُوا أَهْوَائَهُم))
…لقد حصل التكذيب بعد العلم، وقال تعالى في سورة القصص:ـ ((فإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَائَهُم وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدَىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الْظَّالِمِيْن ، ولقد وصلنا لهم القول لعلَّهم يتذكرون).
وفي قوله تعالى :
(( ومن أضلّ ممن اتبع هواه بغير هدى من الله))(2/103)
…يقول الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: فهذا من أضلّ الناس ، حيث عرض عليه الهدى والصراط المستقيم ، الموصل إلى الله تعالى وإلى دار كرامته فلم يلتفت إليه ولم يقبل عليه ودعاه هواه إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الهلاك والشقاء فاتبعه وترك الهدى أ.هـ.
…لذلك كان قوله تعالى مفسراً في سورة الجاثية:ـ ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ).
…لقد أضلَّه الله تعالى بعد بلوغه العلم وقيام الحجة فهو إذاً من الظالمين، قال تعالى يخاطب رسوله في سورة البقرة والمراد أمته :ـ ((ولئن اتبعت أهوائهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين )).
وقال تعالى في سورة الرعد :ـ (( ولئن اتبعت أهوائهم من بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من وليٍّ ولا واقٍ )) . قال ابن كثير : وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعد ما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية ، على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام .
…من أجل هذا كلّه : حذَّر الله تعالى إتباع الهوى فقال في سورة النساء:ـ (( فلا تتبعوا الهوى ))
…كما أمر الله تعالى نبيه داود عليه السلام بأن يحكم بين الناس بالحق ونهاه عن إتباع الهوى فقال في سورة ص:ـ (( يا داود إنَّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحقِّ ولا تتبع الهوى فيُضِلَكَ عن سبيل الله إنَّ الَّذين يُضِلُونَ عن سبيل الله لهم عذابٌ شديدٌ بما نَسُوا يوم الحساب)).وقال في سورة الكهف :ـ (( ولا تُطِعِ من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطاً )).
عاقبة متبع الهوى
أنه يعمى رؤية الخط المستقيم(2/104)
…قال تعالى في سورة المائدة :ـ (( لقد أخذنا ميثاق بين إسرائيل وأرسلنا إليهم رُسُلاً كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذَّبوا وفريقاً يقتلون، وحسبوا ألاّ تكون فتنة فعَمُوا وصمُّوا ثم تاب الله عليهم ثمَّ عمُوا وصمُّوا كثير منهم والله بصير بما يعملون)).
…قال ابن كثير : وحسبوا أن لا يترتب لهم شرّ على ما صنعوا ، فترتب وهو أنهم عموا عن الحق وصمُّوا فلا يسمعون حقاً ولا يهتدون إليه.
…فحذار حذار أخي المسلم ، لا تنجرف مع تيار الهوى فتعمى الحق ، ولا تبصر الخط المستقيم.
…كما أنه أخي المسلم لا بدَّ أن تفهم وتعي عقيدة الولاء والبراء حتى تحذر، قال ابن كثير : كانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ المعاملة ففريقاً يكذبونه وفريقاً يقتلونه ، وما ذاك إلاّ لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبالإلزام بأحكام التوراة التي تصرفوا في مخالفتها ، فلهذا كان يشق عليهم فكذبوهم وربما قتلوا بعضهم ولهذا قال تعالى في سورة البقرة :ـ (( أفكلَّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون )). إلى أن قال الله تعالى :ـ (( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملَّتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من وليٍّ ولا نصير)).
(1) "قواعد التدبر الأمثل " ـ عبد الرحمن حسن حبنكة ـ صفحة 245.
1 السلسلة الصحيحة (2025) .
??
??
??
??
14(2/105)