نواقض الإيمان
القولية والعملية
تأليف
د. عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران، آية 102]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء، آية 1]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب، آية 71،70]
أما بعد:_
…فتتضمن هذه المقدمة الحديث عن كل من: _
أهمية هذا الموضوع وأسباب اختياره.
خطة البحث، ومنهجي في البحث.
أما عن أهمية موضوع " نواقض الإيمان القولية والعملية " فتظهر من عدة أوجه، منها ما يلي: _
1 - أن نواقض الإيمان أعظم الذنوب على الإطلاق، فمن ارتكب ناقضاً من تلك النواقض فقد خرج من الملة، فلا يبقى إيمان مع وجود أحد هذه النواقض، فهي تحبط جميع الطاعات، إضافة إلى أن الله تعالى لا يغفر لمن مات عليها، بل صاحبها مخلد في نار جهنم، كما جاء ذلك في كتاب الله تعالى: -(1/1)
قال الله تعالى: _ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [آل عمران، آية 91]
ص (4)
{وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة، آية 5]
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر، آية 36]
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد، آية 34]
ولما ذكر ابن تيمية رحمه الله مسألة التكفير وما يترتب عليها من نتائج وتبعات، كان مما قاله: -
" اعلم أن " مسائل التكفير والتفسيق " هي من مسائل الأسماء والأحكام " التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين، وحرم الجنة على الكافرين، وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان(1)1) "
2- ونظراً لخطورة هذه النواقض، فإنه يتعين علينا العلم بها، ومعرفة أنواعها، فينبغي استبانة سبل الكافرين مخافة الوقوع فيها.
قال عز وجل: _
{وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام، آية 55].
يقول ابن القيم _ في هذا المقام: _
"والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة، وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبه هؤلاء مفصلة، وعاقبه هؤلاء مفصلة.
__________
(1) مجموع الفتاوى 12/468 ( الكيلانية )، وانظر جامع العلوم والحكم 1/114(1/2)
فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان، كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده، والطريق الموصل إلى الهلكة، فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم، وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشأوا في سبيل الضلال والكفر والشرك، وعرفوها مفصلة، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فأخرجهم من الظلمة الشديدة إلى النور التام،
________________________________________________ ص (5)
ومن الشرك إلى التوحيد ** فعرفوا مقدار ما نالوه، ومقدار ما كانوا فيه، فإن الضد يظهر حسنه الضد،وإنما تتبين الأشياء بأضدادها.
فاللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما، كما قال عمر رضي الله عنه: " إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية " وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه *** فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبين له، أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة في أمور كثيرة "(1) ويقول حذيفة بن اليمان _ رضي الله عنه: _ ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني *** "" (2)
ويبين الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب(3)
__________
(1) الفوائد ص 101، 102 = باختصار، وانظر الفتاوى لابن تيمية 10/301 .
(2) أخرجه البخاري ك الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة (13/35) . ح ( 7084)، ومسلم، ك الإمارة، ح (1847)
(3) من كبار علماء الجزيرة، ولد في الدرعية سنة 1165 ه، وبرز في عدة علوم له رسائل وكتب مفيدة، وعرف بالشجاعة، وأبناؤه علماء توفي في مصر حين نقل إليها سنة 1242 هـ.
انظر: مشاهير علماء نجد ص 48 . وعلماء نجد 1/48(1/3)
رحمهم الله أهمية هذا الموضوع قائلاً: " اعلم أن هذه المسائل من أهم ما ينبغي للمؤمن الاعتناء بها، لئلا يقع في شيء منها وهو لا يشعر، ولتبين له الإسلام والكفر، حتى يتبين له الخطأ من الصواب، ويكون على بصيرة في دين الله،
…ولا يغتر بأهل الجهل والارتياب وإن كانوا هم الأكثرين عدداً، فهم الأقلون عند الله، وعند رسوله والمؤمنين قدراً(1). "
3 _ ومع ظهور هذه النواقض، ووجوب الحذر منها، إلا أن الناظر إلى واقع بلاد المسلمين عموماً، يرى أن هذه النواقض قد عمت وطمت الكثير من تلك الديار،
____________________________________________________ ص (6)
فيشاهد، ويسمع ويقرأ مظاهر متنوعة، وأنماطاً مختلفة مما يناقض الإيمان، كما صارت هذه النواقض أمراً مألوفاً، بل تجاوز الأمر ذلك *** فسميت تلك النواقض بأسماء محببة للنفوس، ترويجاً لها، وتضليلاً للناس(2) *
4_ ومما يؤكد أهمية دراسة هذا الموضوع، أن موقف الكثير من المسلمين أمام تلك النواقض لا يخلو من غلو، أو جفاء، فهناك من غلا وتشدد أمام تلك النواقض، فأدخل في النواقض ما ليس منها *
وفي المقابل نجد أقواماً قد تساهلوا في أمر هذه النواقض، فجعلوها مجرد محرمات لا تخرج من الملة.
وهدى الله تعالي أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فقرروا هذه المسألة بعلم وعدل،و توسطوا بين أهل الغلو والإرجاء.
__________
(1) الدرر السنية في الأ جوبة النجدية 8/118 .
وانظر مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 3/ 40، 5/18، والدرر السنية 2/97 .
(2) ومن ذلك ما يفعله عباد القبور من تسمية شركهم تعظيماً واحتراماً، وإثباتاً لكرامات الأولياء، وتسمية دعاء الأموات توسلاً، وكذا ما يفعله المتصوفة من تسمية سجودهم لمشايخهم وضعاً للرأس بين يدى الشيخ !!
انظر: أعلام الموقعين 3/117، 118، وتطهير الاعتقاد للصنعاني ص19،20(1/4)
لقد كان من عيوب أهل البدع: تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون (1)
ولقد حذر الشارع من تكفير أحد من المسلمين وليس كذلك، فقال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء، آية 94]
وعن أبي ذر رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك "(2)
___________________________________________________ص (7)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما "(3)
يقول ابن دقيق العيد _ في بيان معنى هذا الحديث: _
"وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحداً من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين، ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد، فغلظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم " (4)
…ويؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك بقوله: _
__________
(1) انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية 5/251
(2) أخرجه البخاري، ك الأدب، باب ما ينهى عن السباب واللعان 10/464، ح (6045)، ولمسلم نحوه، ك الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم 1/79، ح (61) .
(3) أخرجه البخاري، ك الأدب، باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال 10/514، ح (6104)، ومسلم، ك الإيمان، باب بيان حال إيمان لأخيه يا كافر 1/79 ح (60) .
(4) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد 4/76(1/5)
"إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإنى أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية. " (1)
ولما قرر ابن الوزير تواتر الأحاديث في النهي عن تكفير المسلم(2).. قال رحمه الله: _ " وفي مجموع ذلك ما يشهد لصحة التغليظ في تكفير المؤمن، وإخراجه من الإسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات، وخاصة مع قيامه بأركان الإسلام، وتجنبه للكبائر، وظهور أمارات صدقه في تصديقه لأجل غلط في بدعة، لعل المكفر له لا يسلم من مثلها أو قريب منها، فإن العصمة مرتفعة، وحسن ظن الإنسان بنفسه لا يستلزم السلامة من ذلك عقلاً ولا شرعاً.(3) "
ويقول أيضاً: -
" وقد عوقبت الخوارج أشد العقوبة، وذمت أقبح الذم على تكفيرهم لعصاة المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصي الله تعالى، وتعظيمهم الله تعالى بتكفير عاصية، فلا يأمن المكفر أن يقع في مثل ذنبهم، وهذا خطر في الدين جليل، فينبغي
______________________________________________ ص (8)
شدة الاحتراز فيه من كل حليم نبيل.(4) "
ويحذر الإمام الشوكاني من التسرع في التكفير قائلاً: _
__________
(1) الفتاوى 3/229، وانظر الفتاوى 3/282، 283 ( قاعدة في أهل السنة ) 35 /103
(2) انظر إيثار الحق على الخلق ص 420 _ 425
(3) إيثار الحق على الخلق لابن الوزير ص 425، 426، وانظر في هذا الكتاب: ص 434، ص 345، ص 446
(4) المرجع السابق ص 447(1/6)
" اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية عن طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما (1). "
وعندما يقرر هؤلاء الأعلام وغيرهم خطورة هذه المسألة، والتحذير من تكفير من ليس بكافر، فلا يعني تهوين هذه المسألة، وإغلاق باب الردة بالحكم بإسلام من ظهر كفره بالدليل والبرهان، فهذا المسلك لا يقل انحرافاً وخطراً عن سابقه، وكلا الطرفين مذموم.
ولقد أخطأ قوم، فأرادوا الرد على أولئك الغلاة، فسلكوا مسلك الإرجاء، فالواجب أن نحذر من أسلوب رد البدعة ببدعة، ولا يقابل الباطل بباطل، كما يتعين بيان هذه المسألة بعلم وعدل، فأهل السنة يعلمون الحق، ويرحمون الخلق.
وقد سئل أبو المعالي الجوينى(2) عن تكفير الخوارج، فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين (3).
ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: -
"وبالجملة فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه، واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام، أو إدخاله فيه من أعظم أمور الدين.. وقد استنزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت
______________________________________________ ص (9)
__________
(1) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار للشوكاني 4/578
(2) هو عبد الملك بن الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني، النيسابوري، إمام مشهور، وأصولي متكلم، ولد سنة 419 ه له عدة مؤلفات، اشتغل بالكلام ثم تاب عنه، توفي سنة 478 ه انظر: طبقات الشافعية 5/165، سير أعلام النبلاء 18/468 .
(3) انظر الشفا لعياض 2/1058، وفتح الباري 12/300(1/7)
نصوص الكتاب والسنة وإجماع على كفره، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم.(1) "
5 - وأمر آخر يؤكد أهمية هذا الموضوع، وهو أن أول نزاع حدث في الأمة هو النزاع في التكفير.
…فكان أول بدعة حدثت في هذه الأمة بدعة الخوارج المكفرة بالذنوب، إضافة إلى أن بدعتهم أظهر البدع ذماً في السنة والآثار(2) ولقد كان باب التكفير وعدم التكفير، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الإفتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء(3).
…ولأجل ما سبق إيراده فقد رغبت الكتابة في هذا الموضوع، مع علمي ابتداء بضعفي وقصر باعي، والله تعالى حسبنا ونعم الوكيل.
__________________________________________________ص (10)
خطة البحث، ومنهجي في البحث
…تتكون خطة البحث من مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة وفهارس
المقدمة: - وتتضمن كلاً من:
أهمية هذا الموضوع وأسباب اختياره
خطة البحث ومنهجي في البحث
التمهيد: ويشمل خمسة مباحث:
…المبحث الأول: تعريف الإيمان وما يناقضه
…المبحث الثاني: التكفير المطلق وتكفير المعين
وفيه ثلاثة مطالب: -
……المطلب الأول: الفرق بين تكفير المطلق وتكفير المعين
……المطلب الثاني: عدم المؤاخذة قبل الإنذار
……المطلب الثالث: العذر بالجهل
…المبحث الثالث: معنى قيام الحجة
…المبحث الرابع: تكفير المتأول
…المبحث الخامس: إعتبار المقاصد في نواقض الإيمان
الباب الأول: - نواقض الإيمان القولية:
وفيه أربعة فصول:
__________
(1) الدرر السنية 8/217، وانظر رسالة " الكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل " لعبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين ص 21 .
(2) انظر الفتاوي لابن تيمية 12/468، 19/71، ومجموعة الرسائل والرسائل لابن تيمية 3/339، وثلاث وثائق في محاربة الأهواء والبدع في الأندلس للقاضي أبي الأصبغ عيسى ابن سهل ص 33، والرد الوافر لابن ناصر الدين ص 31 .
(3) انظر شرح العقيدة الطحاوية 2/432، 433 .(1/8)
الفصل الأول: نواقض الإيمان القولية في التوحيد
وفيه ثلاثة مباحث: -
…
المبحث الأول: نواقض الإيمان القولية في توحيد الربوبية
…المبحث الثاني: نواقض الإيمان القولية في توحيد الأسماء والصفات
…المبحث الثالث: نواقض الإيمان القولية في توحيد العبادة
الفصل الثاني: نواقض الإيمان القولية في النبوات
…وفيه ثلاثة مباحث: -
…المبحث الأول: في الأنبياء عليهم السلام.. وفيه مطلبان: _
……المطلب الأول: في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
……المطلب الثاني: سائر الأنبياء عليهم السلام
…المبحث الثاني: ادعاء النبوة
…المبحث الثالث: في الكتب المنزلة
الفصل الثالث: نواقض الإيمان القولية في سائر المغيبات: -
…وفيه مبحثان: -
…المبحث الأول: الملائكة والجن
…المبحث الثاني: اليوم الآخر. وفيه مطلبان: -
……المطلب الأول: إنكار البعث
……المطلب الثاني: إنكار الوعد أو الوعيد أو الاستهزاء به
الفصل الرابع: إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة.
الباب الثاني: نواقض الإيمان العملية:
…وفيه فصلان:
الفصل الأول: نواقض الإيمان العملية في التوحيد
…وفيه أربعة مباحث: -
…المبحث الأول: الشرك في العبادة
…
المبحث الثاني: الحكم بغير ما أنزل الله
…المبحث الثالث: الإعراض التام عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به
…المبحث الرابع: مظاهرة المشركين على المسلمين.
الفصل الثاني: نواقض الإيمان العملية في النبوات
الباب الثالث: _ نواقض الإيمان المختلف فيها القولية والعملية:
…وفيه فصلان:
الفصل الأول: النواقض القولية
…وفيه مبحثان: -
…المبحث الأول: سب الصحابة رضي الله عنهم
…المبحث الثاني: الاستهزاء بالعلماء والصالحين
الفصل الثاني: النواقض العملية
وفيه مبحثان: -
…المبحث الأول: ترك الصلاة
…المبحث الثاني: السحر وما يلحق به
خاتمة
الفهارس
وأما عن منهجي في كتابة هذا البحث، فكان على النحو التالي: -(1/9)
(1) ذكرت في تمهيد هذا البحث شيئاً من الضوابط المهمة في مسألة التكفير، وعوارض الأهلية.
(2) قبل أن أورد أي ناقض من نواقض الإيمان، أذكر في مطلع كل مبحث ما يقابل هذا الناقض، تذكيراً بالحق وبياناً لأصول الإيمان.
(3) ثم أذكر تعريف كل ناقض وبيان معناه.
(4) ثم أسوق جملة من الأدلة والاعتبارات في وجه كونه ناقضاً من نواقض الإيمان.
(5) وفي نهاية كل ناقض أسرد طرفاً من كلام أهل العلم _ من مختلف المذاهب الفقهية لأهل السنة _ في هذا الناقض مع مراعاة الترتيب المذهبي (الأحناف، المالكية،...الخ) والوفيات.
(6) لما كانت نواقض الإيمان كثيرة جداً... حتى أوصلها بعضهم إلى أكثر من أربعمائة ناقض(1)، لذا اقتصرت في هذا البحث على أشهرها، وما كان من تلك النواقض ظاهراً منتشراً في واقعنا الحاضر فقد عنيت بتفصيله وبيانه، ولقد حرصت حسب وسعي على الالتزام بهذا المنهج مع اعترافي بالتقصير فيما التزمته وقصدته. وفي ختام هذه المقدمة أحمد الله تعالى حمداً كثيراً على نعمه الظاهرة والباطنة، فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأسأله عز وجل أن يبارك في هذا الجهد وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، ثم أشكر فضيلة المشرف على هذه الرسالة فضيلة الشيخ سالم بن عبد الله الدخيل على حسن توجيهاته، ودقة ملحوظاته، فجزاه الله كل خير، وأشكر لأهل الفضل فضلهم كما أشكر عضوي مناقشة هذه الرسالة: فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، فقد استفدت من ملحوظاتهم القيمة، وتوصياتهم الطيبة، فأحسن الله إليهما، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
_____________________________________________________ ص (14)
التمهيد
المبحث الأول: تعريف الإيمان وما يناقضه
__________
(1) انظر كشاف الإقناع عن متن الإقناع للبهوتي 6/136_141 والدرر السنية 8/86(1/10)
من المهم - ابتداء - أن أذكر تعريف الإيمان وما يضاده(1) وأن نشير _ ولو بإيجاز لعض المسائل المهمة في موضوع الإيمان ونقيضه (الكفر) مما هو وثيق الصلة ببحثنا وسيكون حديثنا عن تعريف الإيمان من خلال العناصر التالية: -
1 - تكرر ذكر الإيمان في القرآن والسنة، أكثر من سائر الألفاظ، وهو أصل الدين، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويفرق بين السعداء والأشقياء، ومن يوالى، ومن يعادى، وكما يقول ابن تيمية(2): _
" لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم المراد بلفظ الإيمان وما يضاده بياناً لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك، فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه شاف كاف، بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة
____________________________________________________ ص (15)
__________
(1) يقول الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمهم الله _ في بيان أهمية تصور الحقائق ومعرفة حدودها: _ اعلم أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج، وعرف ماهيته بأوصافها الخاصة عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده، وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين . ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما، لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر . وكم هلك بسبب قصور العلم وعدم معرفة الحدود والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة " أه من كتابه منهاج التأسيس ص 12
(2) هو أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، ابن تيمية الحراني، الإمام الفقيه، المجتهد، المحدث، الحافظ، المفسر، الأصولي، الزاهد، شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، أفتى ودرس وهو دون العشرين، وله مئات التصانيف، توفي سنة 728 ه .
انظر: ذيل طبقات الحنابلة 2/387، الدرر الكامنة 1/154(1/11)
للخاصة والعامة، بل كل من تأمل ما يقوله الخوارج(1) والمرجئة(2) في معنى الإيمان، علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول...(3)"
فالإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم.
…وقد عرف أهل السنة الإيمان بأنه قول وعمل: قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح، وقد حكى غير واحد منهم الإجماع على ذلك كابن عبد البر(4) في التمهيد(5)، ولقد تلقى أهل السنة هذا التعريف بالقبول والتسليم، اتباعاً للنصوص القرآنية، والأحاديث النبوية الصحيحة الدالة على أن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح
فمن الأدلة على أن الإيمان تصديق بالقلب:
قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات، آية 14]
وقوله تعالى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة، آية 22]
__________
(1) الخوارج: أول الفرق خروجاً في هذه الأمة، يكفرون أصحاب الكبائر، ويتبرؤن من بعض الصحابة، ويجوزون الخروج على الإئمة، وهم فرق متعددة، منهم: المحكمة، والأزارقة، والإباضية .
انظر: مقالات الإسلامية 1/167، التنبيه والرد للملطي ص 47، المل والنحل 1/114
(2) المرجئة: فرقة تأخذ بنصوص الوعد والرجاء، وتؤخر العمل عن مسمى الإيمان، وهم أصناف متعددة . انظر: مقالات الإسلاميين 1/213، والتنبيه والرد ص 146، والملل والنحل 1/139.
(3) مجموع الفتاوى 7/287
(4) هو أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري القرطبي المالكي، حافظ المغرب، ومؤرخ أديب ولد سنة 368 ه بقرطبة رحل كثيراً، وتولى القضاء، له مؤلفات كثيرة، توفي بشاطبة سنة 463 ه
انظر: سير أعلام النبلاء 18/153، والديباج المذهب 2/367
(5) انظر التمهيد 9/248، وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية 7/308، 12/472 وانظر تفسير ابن كثير 1/39، وفتح الباري 1/47، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/832، وشرح السنة للبغوي 1/38 .(1/12)
_____________________________________________ ص (16)
وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [المائدة، آية 41]
ومن الأدلة على أن الإيمان إقرار باللسان:
قوله تعالى {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة، آية 136]
وقوله تعالى {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت، آية 46]
ومن الأدلة على أن الإيمان عمل بالجوارح: قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان "(1) وقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: - " آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا الخمس من المغنم(2)" إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة.
وقد ذكر الحافظ ابن منده(3)
__________
(1) أخرجه البخاري ك الإيمان، باب أمور الإيمان (1/51 )، ح (9)، ومسلم، ك الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان (1/63 ) ح (35) .
(2) أخرجه البخاري، ك الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان (1/129)، ح (53 )، ومسلم، ك الإيمان باب الأمر بالإيمان بالله (1/46) ح (17 ) .
(3) هو أبو عبد الله محمد بن إسحاق ابن منده، إمام حافظ محدث، ولد سنة 310 ه ورحل كثيراً في طلب العلم، وله عدة مصنفات، توفي سنة 395 ه .
انظر: طبقات الحنابلة 2/167، وسير أعلام النبلاء 17/28(1/13)
رحمه الله قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (1)" وذلك في مقام الإستدلال به على أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالأركان، وأنه يزيد وينقص (2).
________________________________________________ص (17)
وأقوال السلف الصالح في هذه المسألة متفقة على أن الإيمان قول وعمل، وسنذكر بعض أقوالهم على النحو التالى: _ يقول الإمام أحمد بن حنبل(3) رحمه الله " الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص(4) "
…وعقد الإمام الآجري(5) رحمه الله باباً في كتابه " الشريعة " قائلاً: _ باب القول بأن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، ولا يكون مؤمناً إلا أن يجتمع فيه هذه الخصال الثلاث(6) "
__________
(1) أخرجه مسلم، ك الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان (1/69) ح (49 )، وأحمد (3/10 )
(2) انظر كتابه " الإيمان " 2/341، ت: د " على بن محمد الفقيهي .
(3) هو الإمام حقاً، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ولد سنة 164 ه، كان آية في العلم والحفظ والعبادة، نصر السنة ورد على المبتدعة وصبر في المحنة، وله عدة مصنفات، توفي سنة 241 ه، وصلى عليه مئات الألوف .
انظر: طبقات الحنابلة 1/4، وسير أعلام النبلاء 11/177
(4) السنة للإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل 1/307، وله عدة روايات في تعريف الإيمان، انظر المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة جمع: عبد الإله الأحمدي 1/63
(5) هو أبو بكر محمد بن الحسين البغدادي، الإمام، المحدث، القدوة، كان صدوقاً عابداً، صاحب سنة، له مؤلفات، توفي بمكة سنة 360 ه .
انظر: تاريخ بغداد 2/243، وسير أعلام النبلاء 16/133 .
(6) الشريعة للإمام الآجرى ص 119(1/14)
…وقال الإمام ابن بطة رحمه الله(1) في تعريف الإيمان: " معناه التصديق بما قاله، وأمر به وافترضه، ونهى عنه من كل ما جاءت به الرسل من عنده، ونزلت فيه الكتب، وبذلك أرسل المرسلين، فقال عز وجل: _ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، آية 25] والتصديق بذلك قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان.(2) "
________________________________________________ ص (18)
وعرف القاضي أبو يعلى(3) - رحمه الله -. الإيمان فقال: " وأما حد الإيمان في الشرع فهو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة، والباطنة أعمال القلب، وهو تصديق القلب، والظاهرة هي أفعال البدن الواجبات والمندوبات(4) "
وقال قوام السنة إسماعيل الأصبهاني(5)_ رحمه الله _: " الإيمان في الشرع عبارة عن جميع الطاعات الظاهرة والباطنة(6) "
__________
(1) هو عبيد الله بن محمد العكبري، من فقهاء الحنابلة، كان أماراً بالمعروف، صالحاً، مستجاب الدعوة، له مؤلفات، توفي بعكبدا ( بالقرب من بغداد ) سنة 387 ه
انظر: طبقات الحنابلة 2/144، والمنهج الأحمد 2/81
(2) 10) الشرح والإبانة عن أصول السنة والديانة (الإبانة الصغرى ) ص 176
(3) 11) هو محمد بن الحسين بن محمد البغدادي الحنبلي ابن الفراء، أفتى ودرس، وبرع في فنون كثيرة، ولي القضاء، وله عدة مصنفات، توفي سنة 458 ه .
انظر طبقات الحنابلة 2/193، شذرات الذهب 3/306
(4) 12) مسائل الإيمان ص 151
(5) 13) هو أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل، إمام حافظ، حسن الاعتقاد، له عدة مؤلفات، توفي سنة 534 ه .
انظر: سير أعلام النبلاء 20/80، وشذرات الذهب 4/105
(6) الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة 1/403(1/15)
وعلى كل فأقوال السلف في مثل هذا المعنى كثيرة جداً، يصعب حصرها في هذا المبحث القصير(1).
2 - تنوعت عبارات السلف الصالح في تعريف الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة
وكل هذا صحيح، فليس بين هذا العبارات اختلاف معنوي، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قائلاً: _ " إذا قالوا: قول وعمل فإنه يدخل في القول قول
_____________________________________________ ص (19)
__________
(1) انظر ما كتبه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الإيمان ص 56 _ 76 وابن أبي شيبة في كتاب الإيمان ص46، والعدني في كتاب الإيمان ص79، والبخاري في صحيحه ( كتاب الإيمان ) 1/92، ومسلم في صحيحه (كتاب الإيمان ) 2/3 وابن ماجه في سننه ( باب في الإيمان )، وأبو داود في سننه ( عون المعبود ) ( باب في رد الإرجاء ) 12/432، والترمذي في سننه ( باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الإيمان ) ( عارضة الأحوذي ) في 10/80، وابن أبي عاصم في السنة ( باب في الإرجاء والمرجئه ) 2/461، والنسائي في سننه ( كتاب الإيمان وشرائعه ) 7/86، والطبري في صريح السنة ص25، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4/ 830، وابن قدامة في لمعة الاعتقاد ص 23 والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 1/367، والبغوي في شرح السنة 1/38، وابن حزم في المحلى 13/9 والدرة فيما يجب اعتقاده ص326 وغيرها كثير .(1/16)
…القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام، ونحو ذلك إذا أطلق فإن القول المطلق، والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فقول باللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد " كقوله تعالى {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح، آية 11] وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب، هي من أعمال المنافقين، التي لا يتقبلها الله، فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر.
…ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك، فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على " المرجئة " الذين جعلوه قولاً فقط. فقالوا: بل هو قول وعمل، والذين جعلوه " أربعة أقسام " فسروا مرادهم، كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: _ قول وعمل ونية وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة(1) "
3_ في هذه المسألة سنورد كلام بعض السلف الصالح في توضيح تعريف الإيمان عندهم، وبيان غلط المخالفين في هذا الباب، وسنسوق هذا التوضيح الموجز على النحو التالي: _
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 7/170، 171 بتصرف يسير، وانظر 7/505، 506(1/17)
(أ) يتضمن تعريف الإيمان: قول القلب وعمله، فأما قول القلب فهو الاعتقاد والتصديق، فلابد من تصديق الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما أخبروا به، " فإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها، وكونها نافعة(1) "
__________________________________________________ ص (20)
كما يتضمن الإيمان: عمل القلب مثل: الإخلاص، والحب، والخوف، والرجاء، والتعظيم، والإنقياد، والتوكل، وغيرها من أعمال القلوب...(2)
" وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب.(3) "
وسأورد بعض النقول المختارة في هذه المسألة.
يقول ابن تيمية رحمه الله: _ " إن الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين: تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته، ويقال لهذا قول القلب، قال الجنيد بن محمد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب، فلابد فيه من قول القلب وعمله، ثم قول البدن وعمله، ولابد فيه من عمل القلب مثل حب الله ورسوله، وخشية الله، وحب ما يحبه الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله، وجعلها من الإيمان.(4) "
__________
(1) كتاب الصلاة لابن القيم ص54، ت: تيسير زعيتر
(2) انظر: الإيمان لابن منده 2/362، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 7/186، 14/119، ومعارج القبول للحكمي 2/18 .
(3) كتاب الصلاة لابن القيم، ص 54
(4) مجموع الفتاوى 7/186(1/18)
ويقول أيضاً: " إن معرفة الشيء المحبوب تقتضي حبه، ومعرفة المعظم تقتضي تعظيمه، ومعرفة المخوف تقتضي خوفه، فنفس العلم والتصديق بالله، وماله من الأسماء الحسنى والصفات العلى، يوجب محبة القلب له، وتعظيمه وخشيته، وذلك يوجب إرادة طاعته وكراهية معصيته، والإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد، ووجود المقدور عليه منه.(1) "
ويؤكد في موضع ثالث على أهمية أعمال القلوب، ذاكراً أنها " من أصول الإيمان، وقواعد الدين مثل محبة الله ورسوله، والتوكل على الله، وإخلاص الدين لله، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له...وهذه
______________________________________________________ص (21)
الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق باتفاق أئمة الدين.(2) "
ويقول أيضاً: " وفي الجملة فلابد في الإيمان الذي في القلب من تصديق بالله ورسوله، وحب الله ورسوله، وإلا فمجرد التصديق مع البغض لله ورسوله، ومعاداة الله ورسوله ليس إيماناً باتفاق المسلمين.(3) "
ويجلي ابن القيم(4) رحمه الله أهمية أعمال القلوب، فيقول: _ أعمال القلوب هي الأصل المراد المقصود، وأعمال الجوارح تبع ومكملة ومتممة، وأن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح فموات، وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، إذ هي أصلها، وأحكام الجوارح متفرعة عليها.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/525
(2) مجموع الفتاوى 10/5
(3) مجموع الفتاوى 7/537
(4) هو الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، برع في علوم متعددة، كان جرىء الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف، ومذهب السلف، له تصانيف كثيرة، توفي بدمشق سنة 751 هـ .
انظر: البداية والنهاية 14/234، الدرر الكامنة 4/21
(5) بدائع الفوائد 3/224(1/19)
…ويقول أيضاً: " ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها، علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وإنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح فعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح، وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت.(1) "
…ويقرر ابن تيمية أن الإيمان ليس مجرد التصديق فقط، بل لابد من أمر آخر، وهو عمل القلب الذي يتضمن الحب والانقياد والقبول... فيقول رحمه الله:
…" إن الإيمان وإن كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار والطمأنينة، وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر، وكلام الله خبر وأمر. فالخبر يستوجب تصديق المخبر، والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام، وهو عمل في القلب، جماعه
_____________________________________________________ ص (22)
الخضوع والانقياد للأمر، وإن لم يفعل المأمور به، فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد، فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة والإقرار، فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد.(2) "
…و نختم هذه النقول بنص نفيس لابن القيم _ رحمه الله _ حيث يقول:
__________
(1) المرجع السابق 3/230
(2) الصارم المسلول ص 519(1/20)
…" كل مسألة علمية فإنه يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه، وذلك عمل بل هو أصل العمل، وهذا مما غفل عنه كثير من المتكلمين في مسائل الإيمان، حيث ظنوا أنه مجرد التصديق دون الأعمال، وهذا من أقبح الغلط وأعظمه، فإن كثيراً من الكفار كانوا جازمين بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، غير شاكين فيه، غير أنه لم يقترن بذلك التصديق عمل القلب من حب ما جاء به والرضا وإرادته، والموالاة والمعاداة عليه، فلا تهمل هذا الموضوع فإنه مهم جداً، به تعرف حقيقة الإيمان. (1)"
…من خلال ما سبق إيراده من نصوص، ندرك الأمور التالية:
1_ عظم شأن أعمال القلوب، وأنها روح العبودية ولبها، ومن ثم كانت واجبة على جميع المكلفين، وفي كل وقت.
2_ أن الإيمان المتعلق بالقلب قائم على أصلين: التصديق بالحق واعتقاده، ومحبة هذا الحق وإرادته، فالأول أصل القول، والثاني أصل العمل.
3_ أن التصديق _ بحد ذاته _ لا يعد إيماناً شرعياً، بل لابد من الانقياد والخضوع لشريعة الله، وإلا فمن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الكثير من أهل الكتاب والمشركين قديماً وحديثاً يعرفون أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، وأنه صادق، ومع ذلك فهم كفار؛ لأنهم لم يعملوا بما يوجبه هذا التصديق من الحب والتعظيم والانقياد للرسول صلى الله عليه وسلم.
4_ أن مرجئة الكرامية(2) غلطوا عندما ظنوا أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط،
____________________________________________________ ص (23)
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/420، وانظر قريباً من ذلك في زاد المعاد 3/638 .
(2) الكرامية: أتباع محمد بن كرام السجستاني (ت 255 هـ ) وهم طوائف متعدده من أهل الإثبات يغلب عليهم الارجاء في الإيمان، والتشبيه في الصفات، ولديهم انحرافات أخرى .
انظر: مقالات الإسلاميين 1/223، والملل والنحل 1/108(1/21)
فالمنافقون كفار بالإجماع، وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين، قال تعالى: _ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة، آية 8].
…فقد وقع من المنافقين القول الظاهر، ولكن انتفى عنهم الإيمان لعدم وجود التصديق ولوازمه في القلب.
5_ أن المرجئة من الجهمية(1) غلطوا عندما ظنوا أن الإيمان يكون تاماً بدون العمل الذي في القلب كما وقع من الجهمية (2)، كما غلط جميع المرجئة عندما ظنوا أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون العمل الظاهر _ كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله
ب _ ويتضمن الإيمان أيضاً قول اللسان(3)
__________
(1) الجهمية: أتباع الجهم بن صفوان السمرقندي المقتول سنة 128 هـ، معطلة في الصفات، جبرية في القدر، مرجئة محضة في الإيمان وقالوا بفناء الجنة والنار . انظر مقالات الإسلاميين 1/338، والتنبيه والرد ص 96، والملل والنحل 1/86.
(2) لأن غالب فرق الأمة يدخلون أعمال القلوب في الإيمان، حتى عامة فرق المرجئة تقول بذلك ذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى 7/550
(3) بعض السلف يجعلون للسان عملاً، كما جاء في معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي (2/20 )، حيث أن عمل اللسان _ كما ذكر _ ما لا يؤدى إلا به، كتلاوة القرآن، والأذكار، وقد ذكر _ من قبل _ ابن منده في كتابه الإيمان (2/362) أن الإيمان يتضمن: أفعال اللسان كالأذكار والدعاء .
وقد عد الشيخ محمد بن إبراهيم _ رحمه الله _ ما جاء في بعض طبعات " العقيدة الواسطية "في تعريف الإيمان، وأنه عمل اللسان، عده الشيخ غلطاً . . . كما جاء في فتاويه (1/245) . وعلى كل فيبدو أن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي، فمن جعل للسان قولاً فقط، فقد أدخل في قول اللسان سائر الطاعات القولية، ومن فرق بين قول اللسان وعمله، فإنه جعل قول اللسان هو النطق بالشهادتين، كما جعل عمل اللسان بقية العبادات القولية . مع أن بعض علماء السلف يجعلون قول اللسان فعلاً وعملاً، بل يجعلون الإيمان هو العمل، كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام _ رحمه الله _ في كتابه الإيمان: " الإيمان عمل من أعمال تعبد الله به عباده، وفرضه على جوارحهم، وجعل أصله في معرفة القلب، ثم جعل المنطق شاهداً عليه، ثم الأعمال مصدقة له، وإنما أعطى الله كل جارحة عملاً ولم يعطه الأخرى، فعمل القلب الاعتقاد، وعمل اللسان القول، وعمل اليد التناول . . . وكلها يجمعها اسم الإيمان، فالإيمان على هذا التناول إنما هو كله مبني على العمل 220 أ هـ بتصرف يسير ص 76 وانظر إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد 1/9 . " " وقال الشنقيطى: " فعل اللسان هو القول، والدليل على أن القول فعل قوله تعالى " زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه " الأنعام،، آية 112 " أ . هـ من مذكرة أصول الفقه ص 38(1/22)
و عمل الجوارح، فقول اللسان هو النطق
____________________________________________________ ص (24)
بالشهادتين، والإقرار بلوازمهما، وأما عمل الجوارح فما لا يؤدى إلا بها مثل الصلاة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
…و أما قول اللسان فأمر لابد منه، فهو الأصل في ثبوت وصف الإيمان _ في الظاهر _ وقد أكد علماء السلف على هذا الأمر، فها هو أبو ثور(1) يقرر أهمية إقرار اللسان قائلاً: " ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أن الله عز وجل واحد، وأن ما جاءت به الرسل حق، وأقر بجميع الشرائع، ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به، أنه ليس بمسلم، ولو قال: المسيح هو الله وجحد أمر الإسلام، قال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك، أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن، فلما لم يكن بالإقرار _ إذا لم يكن معه التصديق _ مؤمناً ولا بالتصديق إذا لم يكن معه الإقرار مؤمناً، حتى يكون مصدقاً بقلبه، مقراً بلسانه.(2) "
…وهذا ابن حزم(3) يؤكد على أهمية قول اللسان، فيقول: " من اعتقد الإيمان بقلبه، ولم ينطق به بلسانه دون تقية، فهو كافر عند الله تعالى، وعند المسلمين (4).
…ويقول ابن تيمية: " من لم يصدق بلسانه مع القدرة، لا يسمى في لغة القوم مؤمناً، كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. (5) "
__________
(1) هو إبراهيم بن خالد، إمام حافظ فقيه، ولد في حدود سبعين ومائة، له مصنفات، توفي سنة 240 هـ
انظر: طبقات الشافعية 2/74، وسير أعلام النبلاء 12/72
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/849، والشفا 2/542
(3) هو أبو محمد على بن أحمد بن سعيد الظاهري الأندلسي، فقيه حافظ، وأديب، وزير صاحب التصانيف، ولد
(4) المحلى 1/50 وانظر كتابه "الدرة" ص 326 .
(5) مجموع الفتاوى 7/337 .(1/23)
…ويقول: " فمن صدق بقلبه، ولم يتكلم بلسانه فإنه لا يعلق به شيء في أحكام الإيمان، لا في الدنيا، ولا في الآخرة (1).
___________________________________________________ ص (25)
وقد أورد ابن تيمية _ رحمه الله _ فرضاً ممتنعاً فقال: " وكذلك لو قيل إن رجلاً يشهد أن محمداً رسول الله باطناً وظاهراً، وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة، ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل، فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمداً رسول الله، ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين إلا الجهمية.(2) "
…و المراد _ بقول اللسان الذي يكون إيمانا ً في الباطن والحقيقة _ هو الملازم لاعتقاد القلب وتصديقه، وإلا فالقول المجرد عن اعتقاد الإيمان ليس إيماناً باتفاق المسلمين (3).
…والإيمان عمل الجوارح فكما يجب على الخلق أن يصدقوا الرسل عليهم السلام فيما أخبروا، فعليهم أن يطيعوهم فيما أمروا، فلا يتحقق الإيمان بالرسول مع ترك الطاعة بالكلية، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [النساء، آية 64].
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/140 وانظر المعيار المعرب للونشريسي 2/190 .
(2) مجموع الفتاوى 7/219، وانظر 7/9 .
(3) انظر مجموع الفتاوى 7/550 .(1/24)
…وأعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، ولازمة لها " فالقلب إذا كان فيه معرفة وإرادة، سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يختلف البدن عما يريده القلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب (1)" فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر، والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: " قول وعمل " قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن، صلح الظاهر، وإذا فسد، فسد(2) "
_________________________________________________ ص (26)
وإضافة إلى ما سبق، فإن عدم الأعمال الظاهرة ينفي الإيمان الباطن، " ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، كقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة، آية 81] وقوله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة، آية 22] ونحوها، فالظاهر والباطن متلازمان، ولا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن، فلابد أن يستقيم الظاهر(3) " …
__________
(1) أخرجه البخاري ك الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (1/126 ) ح (52 )، ومسلم، ك المساقاة . باب أخذ الحلال ( 3/1219 ) ح (1599 )
(2) مجموع القتاوى 7/187، وأنظر 7/541، 221 .
(3) مجموع الفتاوى 18/272، وانظر الأصفهانية ص142، ابن تيمية، ت: حسنين محمد مخلوف .(1/25)
وتعليل ذلك؛ " لأن القلب إذا تحقق ما فيه _ من الإيمان الباطن _، أثر في الظاهر ضرورة، ولا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور، فإذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتاً، استلزم موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه (1). "
ومن ثم فإنه يمتنع أن يكون الشخص مؤمناً بالله تعالى، مقراً بالفرائض، ومع ذلك فهو تارك لتلك الطاعات، ممتنع عن فعلها، يقول ابن تيمية: _
…" من الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة، والصيام، والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة (2). لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار، كقوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [سورة القلم، آية 42 , 43(3)]"
________________________________________________ص (27)
وإذا تقرر أن الإيمان يتضمن قول اللسان، وعمل الجوارح، فيظهر لنا ما يلي:
أ _ عظم قول اللسان، وعمل الجوارح، وأهميتهما ووجود التلازم بينهما وبين قول القلب وعمله.
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/645
(2) الزندقة: لفظ أعجمي معرب، أخذ من كلام الفرس بعد ظهور الاسلام ويطلق الزنديق على كل من: المجوسي، والدهري، والمنافق، والجهمي
انظر: السبعينية لابن تيمية ص338، وفتح الباري 12/271 وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 31 .
(3) مجموع الفتاوى 7/187، وانظر 7/541، 221(1/26)
ب_ غلط الجهمية الذين زعموا أن الإيمان مجرد معرفة قلبية بالله تعالى وإن لم يكن هناك قول ولا عمل، وقد رد أبو عبيد القاسم بن سلام هذا القول، ووصفه بأنه " منسلخ من قول أهل الملل الحنفية، لمعارضته لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالرد والتكذيب.. ثم قال _ ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض، إذ كان يرضى منهم بالدعوى في قلوبهم، غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة...(1) "
جـ- غلط الماتريدية(2) الذين ادعوا أن قول اللسان ركن زائد، ليس بأصلي، وإنما هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، حتى قالوا: _ " ومن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه، فهو كافر عندنا، وعند الله تعالى مؤمن من أهل الجنة (3)"
د - غلط عموم المرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، حتى قال قائلهم: " من حصل له حقيقة التصديق، فسواء أتى بالطاعات، أو ارتكب المعاصي، فتصديقه باق على حاله، ولا تغير فيه أصلاً(4) " حيث أن هؤلاء المرجئة لم يفرقوا بين جنس العمل _ والذي يعد شرطاً في صحة الإيمان عند أهل السنة _ وبين آحاد العمل وأفراده والذي يعد تاركه غير مستكمل للإيمان، وسيأتي توضيحه في موضعه إن شاء الله.
___________________________________________________ص (28)
__________
(1) الإيمان ص 79، ص80
(2) الماتريدية: أتباع أبي منصور الماتريدي (ت333هـ) أصحاب تعطيل في الصفات، وإرجاء في الإيمان . ونزعة كلامية في التلقي، إضافة إلى تشابه كبير بينهم وبين الأشاعرة . انظر: أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية لعلي المغربي، والماتريدية لأحمد الحربي .
(3) المسامرة شرح المسايرة ص36 لكمال بن أبي شريف، صححه _ احتشام آسيا آبادي .
وانظر شرح العقائد النسفية ص 121 لسعد الدين التفتازاني
(4) شرح العقائد النسفية ص 123 _ لسعد الدين التفتازاني .(1/27)
وقال الفضيل بن عياض _ رحمه الله _: ((ميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليس من الإيمان، ومن قال ذلك فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحداً للفرائض راداً على الله عز وجل أمره(1))
…وكما يقول القاضي أبو يعلى في الرد على هؤلاء المرجئة.
" لو كان الإيمان هو التصديق باللسان، أو القلب، لوجب فيمن فعل ذلك فقط، وأخل بالواجبات، وارتكب المنهيات أن يمدح بأنه كامل الإيمان، وامتناع ذلك شرعاً _ للنصوص الثابتة في ذلك كحديث " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (2)" ونحوها _ بين أن الإيمان عبارة عن جميع ذلك(3) "
4_ من خلال ما سبق يظهر لنا الإيمان له جانبان، فالأول باطنه وحقيقته، وهو ما يتعلق بالقلب قولاً وعملاً، والجانب الآخر: وهو الظاهر، وهو ما يتعلق بالجوارح، وينبغي مراعاة الفرق بين الحكم على الظاهر والباطن، ومن ثم مراعاة الفرق بين الحكم عند الناس من جانب، والحكم عند الله تعالى من الجانب الآخر، أو الفرق بين الأحكام الدنيوية، والأحكام الأخروية.
…يقول ابن تيمية: _
__________
(1) السنة للإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل 2/376
(2) أخرجه البخاري، ك المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه (5/119) ح (2475 )، ومسلم، ك الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان، (1/76)، ح (76 ) .
(3) مسائل الإيمان _ ص229 بتصرف يسير، وانظر اللالكائى 4/850، السنة للخلال 3/566
وانظر رد الامام أحمد على من قال من المرجئة " إذا قال فقد عمل بجارحته " في كتاب السنة للخلال 3/570، 572(1/28)
" إن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن، الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة، فإن المنافقين الذين قالوا: {آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة، آية 8]. هم في الظاهر مؤمنون، يصلون مع الناس، ويصومون ويحجون، ويغزون والمسلمون يناكحونهم، ويوارثونهم كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار
_____________________________________________________ ص (29)
المظهرين للكفر.(1) "
…ثم قال: _ " فيجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة التي يحكم فيها الناس في الدنيا، وبين حكمهم في الآخرة بالثواب والعقاب(2).
…ويقرر ابن تيمية _ في موضع آخر _ أن الفرق بين الظاهر والباطن في موضوع الإيمان " ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم، بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام (3)"
…ولذا فقد كان سلف هذه الأمة مدركين للفرق بين الأمرين فكان سفيان الثوري(4) واين المبارك(5) يقولان: " الناس عندنا مؤمنون في المواريث والأحكام، ولا ندري كيف هم عند الله عز وجل(6) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/210
(2) مجموع الفتاوى 7/215، وانظر مجموع الفتاوى 7/42 .
(3) مجموع الفتاوى 7/472، وانظر مجموع الفتاوى 7/617 .
(4) هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق، إمام الحفاظ وأمير المؤمنين في الحديث، ولد سنة 97 هـ ونشأ في الكوفة، وتوفي بالبصرة سنة 161 هـ .
انظر: حلية الأولياء 6/356، وسير أعلام النبلاء 7/229.
(5) هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك الحنظلي، إمام مجاهد، ولد سنة 118هـ صاحب تصانيف ورحلات، مات بهيت (على الفرات) منصرفاً من غزو الروم سنة 181هـ.
انظر: حلية الأولياء 8/162، وسير أعلام النبلاء 8/378
(6) أخرجه الخلال في السنة 3/567، وابن بطة في الإبانة الكبرى 2/872 .(1/29)
…ويقول الإمام الشافعي(1) رحمه الله: _ " أخبر عز وجل عن المنافقين بالكفر، وحكم فيهم بعلمه من أسرار خلقه ما لا يعلمه غيره بأنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم كاذبون بإيمانهم، وحكم فيهم جل ثناؤه في الدنيا بأن ما أظهروا من _ الإيمان _ وإن كانوا به كاذبين _ لهم جنة من القتل، وهم المسرون الكفر المظهرون الإيمان... وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم _ إذ حقن الله تعالى دماء من
____________________________________________________ ص (30)
أظهر الإيمان بعد الكفر _ أن لهم حكم المسلمين من الموارثة والمناكحة وغير ذلك من أحكام المسلمين، فكان بيناً في حكم الله عز وجل في المنافقين، ثم حكم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ليس لأحد أن يحكم على أحد بخلاف ما أظهر من نفسه، وأن الله عز وجل إنما جعل للعباد الحكم على ما أظهر؛ لأن أحداً لا يعلم ما غاب إلا ما علمه الله عز وجل(2) "
5- وإن من المسائل المهمة التي ينبغي الإشارة إليها في هذا التمهيد، مسألة أصل النزاع في تعريف الإيمان، فالأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، هو دعوى أن الإيمان حقيقة واحدة، لا تتبعض ولا تتجزأ، فمتى ذهب بعضه ذهب كله، فلم يبق منه شيء.
…يقول ابن تيمية: " وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة، والمعتزلة(3)
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن إدريس المطلبي . من مشاهير الأئمة الكبار ولد في غزة سنة 150هـ، وبرع في فنون كثيرة، وله عدة مؤلفات، توفي بمصر سنة 204 هـ .
انظر: _ طبقات الشافعية، الجزء الأول، وسير أعلام النبلاء 10/5 .
(2) الأم 6/157، وانظر 6/165، 1/259، 260
(3) المعتزلة: رأس المعتزلة واصل بن عطاء (ت 131 هـ )، وهم فرق متعددة تجمعهم الأصول الخمسة التي تتضمن تعطيلاً للصفات، ونفي القدر، وتخليد عصاة الموحدين في النار، والقول بالمنزلة بين المنزلتين، وتجويز الخروج على أئمة المسلمين .
انظر: مقالات الإسلاميين 1/235، والتنبيه والرد ص 35، والملل والنحل 1/43(1/30)
، والجهمية وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً إذا زال بعضه، زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه، وبقاء بعضه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان(1) ".
…ثم قالت الخوارج والمعتزلة: _ " الطاعات كلها من الإيمان، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان، فذهب سائره، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان. وقالت المرجئة والجهمية ليس الإيمان إلا شيئاً واحداً، لا يتبعض، إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية، أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة، قالوا: لأنا إذا أدخلنا فيه الأعمال، صارت جزءاً منه، فإذا ذهبت ذهب بعضه،
____________________________________________________ص (31)
فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول المعتزلة والخوارج (2). "
وبناء على هذا الأصل الفاسد الذي أصلوه، قال هؤلاء: _ بأنه لا يجتمع في العبد إيمان وكفر؛ لإن الإيمان شيء واحد لا يتبعض، فكذا الكفر...
…يقول ابن تيمية في هذه المسألة: " وطوائف أهل الأهواء من الخوارج والمعتزلة.
والجهمية والمرجئة، كراميهم، وغير كراميهم يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك وقد ذكر أبو الحسن [الأشعري] في بعض كتبه الإجماع(3)
__________
(1) أخرجه البخاري، ك الإيمان، باب زيادة الإيمان (1/103 )، ح (44 )، ومسلم، ك الإيمان، باب أدنى أهل الجنة (1/182 ) ح (325 )
(2) مجموع الفتاوى 7/510، وانظر: 7/223، 18/270، 12/471 والأصفهانية 138، 143، 144، ومنهاج السنة 5/204، 205 .
(3) لأبي الحسن الأشعري قولان في تعريف الإيمان، أحدهما: يوافق قول جمهور السلف، بأن الإيمان قول وعمل كما جاء في كتابه (( مقالات الإسلاميين )) والآخر: على أن الإيمان هو التصديق، وهذا هو القول المشهور عند أئمة الأشاعرة.
انظر: مقالات الإسلاميين /ت: ريتر ص 293، ومجرد مقالات الأشعري / من إملاء ابن فورك ص 150، ومجموع الفتاوى 7/509، 550، وانظر رسالة موقف ابن تيمية من الأشاعرة للشيخ عبد الرحمن المحمود (رسالة دكتوراه ) مطبوعة على الآلة الكتابة 4/1428، 1429 .(1/31)
على ذلك، ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب والسنة، وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول.(1) "
…إن أي حقيقة جامعة لأمور _ سواء كانت أعياناً أو أعراضاً _ إذا زال بعض أمورها، فقد يزول سائرها، وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة، زوال سائرها، وإن كان من المعلوم _ بداهة _ أن هذه الحقيقة الجامعة التي زالها بعضها، لم تبق كما كانت(2).
…" إن الإيمان عند جمهور أهل السنة له شعب متعددة، كما أخبر بذلك أعلم الخلق صلى الله عليه وسلم في حديث شعب الإيمان، وكل شعبة منه تسمي إيماناً، فالصلاة وسائر أعمال الجوارح من الإيمان، والأعمال الباطنة كالحياء
________________________________________________ص (32)
والتوكل والرجاء من الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى، ويكون إليها أقرب.(3) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/353، وانظر مجموع الفتاوى 13/48 .
(2) انظر مجموع الفتاوى 7/514
(3) كتاب الصلاة لابن القيم، ص53 = بتصرف .(1/32)
وإذا كان الإيمان مشتملاً على شعب متعددة، ومتفاوتة، فإنه يتضمن بناء على تفاوت شعبه _ أركاناً، وواجبات، ومستحبات، وكما يقول ابن تيمية: _ "الإيمان: مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة، فالناس فيه ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، كالحج وكالبدن والمسجد وغيرها من الأعيان والصفات، فمن أجزائه ما إذا ذهب، نقص عن الأكمل، ومنه ما نقص عن الكمال(1) وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات، ومنه ما نقص ركنه وهو ترك الاعتقاد والقول(2) "
…فالإيمان كالحج _ مثلاً _ في اشتمالهما على أركان، وواجبات، ومستحبات، ففي الحج أركان متى تركت، لم يصح الحج كالوقوف بعرفة، ومشتمل على واجبات من فعل أو ترك، يأثم بتركها أو فعلها عمداً، ويجب مع تركها الجبران بدم، كالإحرام من المواقيت المكانية، ورمي الجمار ونحو ذلك، ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها، فلا يأثم بتركها، ولا يجب دم، مثل: رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه، ودعائه في الطواف وغيرهما (3)، فكذا الإيمان _ كما سبق ذكره _ ومن ثم فإن الناس متفاوتون في الإيمان، فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات بإذن ربه، ولقد تواترت النصوص الدالة على أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة.
__________________________________________________ص (33)
__________
(1) أي الكمال الواجب، فالشارع لا ينفي الإيمان عن شيء، إلا لانتفاء ما هو واجب، لا لانتفاء ما هو مستحب . انظر: الأصفهانية ص139، ومجموع الفتاوى 18/268 ومنهاج السنة 5/208.
(2) مجموع الفتاوى 7/637، وانظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/806 .
(3) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 12/472،473، 7/514، 19/290، 291 .(1/33)
كقوله صلى الله عليه وسلم: _ " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان(1) " خلافاً للمبتدعة القائلين أن الإيمان لا يقبل التبعيض والتجزئة، وأنه شيء واحد.
وإذا تقرر أن الإيمان شعب متعددة، وأنه قابل للتبعيض والتجزئة، فإنه يمكن اجتماع إيمان وكفر غير ناقل عن الملة، في الشخص الواحد؛ لأن الإيمان مراتب، فكذا الكفر الذي يقابله _ كما سيأتي بيانه إن شاء الله _ وقد دلت النصوص الكثيرة على إمكان ذلك، كما في قوله تعالى:
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف، آية 106]حيث إن الله أثبت لهم إيمانا مع شرك، فدل ذلك على اجتماعهما في المؤمن.
وقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات، آية 9] فأثبت الله تعالى لهم وصف الإيمان، مع أنهم متقاتلون، وقتال المسلم كفر، كما قال عليه الصلاة والسلام " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر(2) "
…وقوله عليه الصلاة والسلام " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض(3) "، فدلت هذه النصوص بمجموعها على اجتماع الإيمان والكفر _ الأصغر _ في المسلم.
…يقول ابن تيمية: _
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) أخرجه البخاري، ك الإيمان، باب خوف المؤمن . . . (1/110 ) ح (48)، ومسلم ك الإيمان، باب بيان قول النبي . . . (1/81 ) . ح (116)
(3) أخرجه البخاري، ك الإيمان، باب الإنصات للعلماء (1/317)، ح (121) . ومسلم، ك الإيمان، باب معنى قول النبي: لا ترجعوا (1/81) ح (118) .(1/34)
…" أما أئمة السنة والجماعة، فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم، فيكون مع الرجل بعض الإيمان، لا كله، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب ما معه، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه، وولاية الله بحسب إيمان العبد وتقواه، فيكون مع العبد من ولاية الله بحسب ما معه من الإيمان والتقوى،
_____________________________________________________ ص (34)
فإن أولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس، آية 62] (1).
6_ إذا أدركنا حقيقة الإيمان وتعريفه، فيسهل علينا معرفة حقيقة الكفر الذي يضاد الإيمان وينافيه (2).
…إن الكفر حكم شرعي، والكافر من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فليس الكفر حقاً لأحد من الناس، بل هو حق الله تعالى.
…يقول أبو حامد الغزالي(3): " الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلاً، إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار، ومدركه شرعي فيدرك إما بنص وإما بقياس على منصوص.(4) "
__________
(1) الأصفهانية، ص 144، انظر مجموع الفتاوى 18/270، 11/173_ 175
(2) انظر ما نقلناه من كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ في حاشية رقم (1) ص 14 .
(3) هو محمد بن محمد الغزالي الطوسي، فيلسوف، متصوف، ولد سنة 450هـ، صاحب تصانيف، وذكاء مفرط، وله رحلات، إشتغل بعلوم مذمومة ثم تاب عنها، وأقبل على الحديث حتى توفي في طابران بخراسان سنة 505 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 6/191، سير أعلام النبلاء 19/322 .
(4) فيصل التفرقة ص 128، وانظر: ص 146، 158 .(1/35)
…ولما أورد القاضي عياض(1) فصلاً عن المكفرات القولية، قال في مطلع هذا الفصل: " اعلم أن تحقيق هذا الفصل، وكشف اللبس فيه، مورده الشرع، ولا مجال للعقل فيه.(2) "
__________________________________________________ ص (35)
ويقول ابن تيمية: _
…" الكفر حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة، والعقل قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأ في العقل، يكون كفراً في الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صواباً في العقل، تجب في الشرع معرفته. (3)"
ويقول أيضاً: _
" فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف بكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزني بأهله؛ لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق الله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله.(4) "
ويقول ابن الشاط (5): _ كون أمر ما كفراً، أي أمر كان، ليس من الأمور العقلية بل هو من الأمور الوضعية الشرعية فإذا قال الشارع في أمر ما هو كفر فهو كذلك، سواء كان ذلك القول إنشاء أم اخباراً (6)"
__________
(1) هو أبو الفضل عياض بن موسي اليحصبي الأندلسي، ولد سنة 476 هـ، له رحلات، وولي القضاء، ومؤلفاته كثيرة توفي بمراكش سنة 544 هـ انظر: سير أعلام النبلاء 20/212 والديباج المذهب 2/46 .
(2) الشفا 2/1065 .
(3) الدرء 1/242 وانظر مختصر الصواعق المرسلة 2/421، والصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي ص78 .
(4) الرد على البكري ص 257، وانظر منهاج السنة 5/244 .
(5) هو قاسم بن عبد الله بن الشاط الإشبيلي المالكي، فقيه، أصولي، فرضي درس بمدينة سبته، له مؤلفات، توفي بسبتة سنة 723 هـ .
انظر: الديباج المذهب 2/152، معجم المؤلفين 8/105 .
(6) 10) تهذيب الفروق 4/158، 159 .(1/36)
…ويقول ابن الوزير(1): " إن التكفير سمعي محض لا مدخل للعقل فيه، وأن الدليل على الكفر لا يكون إلا سمعياً قطعياً، ولا نزاع في ذلك (2). "
___________________________________________________ ص (36)
تعريف الكفر:
…وإذا انتقلنا إلى تعريف الكفر، فنبتدىء بتعريفه لغة، فأصل الكفر تغطية الشيء، وسمى الفلاح كافراً لتغطية الحب، وسمي الليل كافراً لتغطية كل شيء.
…قال تعالى {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} [الحديد، آية 20]، وقال لبيد بن ربيعة (3): _ حتى إذا ألقت يداً في كافر(4) يريد الليل؛ لأنه يغطي كل شيء، والكفر جحود النعمة وهو نقيض الشكر، وكفرّه بالتشديد، نسبه إلى الكفر، أو قال له كفرت بالله، وأكفره إكفاراً: حكم بكفره(5).
…يقول ابن الجوزي(6)
__________
(1) 11) هو محمد بن إبراهيم بن علي المرتضي، إمام كبير، من مجتهدي اليمن، له عدة مصنفات توفي بصنعاء سنة 840 هـ .
انظر: البدر الطالع 2/81، والأعلام 5/3000 .
(2) العواصم والقواصم 4/178 , 179 = باختصار .
(3) لبيد بن ربيعة، الشاعر المشهور، أدرك الإسلام، وهو صحابي جليل، كان فارساً شجاعاً سخياً، مات سنة 41 هـ .
…انظر: الإصابة 5/675، والبداية 7/221 .
(4) وعجز هذا البيت: وأجن عورات الثغور ظلامها
…انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة ص 156
(5) انظر: لسان العرب 5/144، 145، والمصباح المنير ص 647، 648، والمفردات للأصفهاني ص 653 ـ 655
(6) هو أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي البغدادي، حافظ مفسر، وفقيه واعظ ولد سنة 509 هـ، له مصنفات كثيرة وفي علوم مختلفة، توفي سنة 597 هـ،
…انظر: ذيل طبقات الحنابلة 1/399، وسير أعلام النبلاء 21/365 .(1/37)
" ذكر أهل التفسير أن الكفر في القرآن على خمسة أوجه: _ أحدها الكفر بالتوحيد، ومنه قوله تعالى في البقرة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} [آية 6]، والثانى: كفران النعمة، ومنه قوله تعالى في البقرة: _ {وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [آية 152]، والثالث: التبرؤ، ومنه قوله تعالى في العنكبوت: _ {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ} [آية 25]، أي يتبرأ بعضكم من بعض، والرابع: الجحود، ومنه قوله تعالى في البقرة: _ {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [آية 89]، والخامس: التغطية، ومنه قوله تعالى في الحديد: _{أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [آية 20]، يريد الزراع الذين يغطون الحب(1) "
…و أما تعريف الكفر إصطلاحاً، فنسوق بعض كلام أهل العلم في ذلك.
____________________________________________________ ص (37)
يقول ابن تيمية: " الكفر: عدم الإيمان، بإتفاق المسلمين، سواء اعتقد نقيضه وتكلم به، أو لم يعتقد شيئاً ولم يتكلم.(2) "
…ويقول: _ ((الكفر عدم الإيمان بالله ورسله، سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب، بل شك وريب، أو إعراض عن هذا كله حسداً أو كبراً، أو اتباعاً لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة.(3))
…ويقول أيضاً في ذكر بعض أقوال الفرق في تعريف الكفر: _
__________
(1) نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، ابن الجوزي 2/119 , 120 وانظر: كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر لابن العماد، ص 33، 34 .
(2) مجموع الفتاوى 20/86 .
(3) مجموع الفتاوي 12/335، وانظر: 3/315 .(1/38)
…" والناس لهم فيما يجعلونه كفراً طرق متعددة، فمنهم من يقول الكفر تكذيب ما علم بالاضطرار من دين الرسول، ثم الناس متفاوتون في العلم الضروري بذلك، ومنهم من يقول الكفر هو الجهل بالله تعالى، ثم قد يجعل الجهل بالصفة كالجهل بالموصوف، وقد لا يجعلها، وهم مختلفون في الصفات نفياً وإثباتاً، ومنهم من لا يحده بحد، بل كل ما تبين له أنه تكذيب لما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر، جعله كفراً، إلى طرق أخرى.
…ولا ريب أن الكفر متعلق بالرسالة، فتكذيب الرسول كفر، وبغضه وسبه وعداوته، مع العلم بصدقه في الباطن كفر عند الصحابة، والتابعين لهم بإحسان وأئمة العلم، إلا الجهم ومن وافقه كالصالحي والأشعري، وغيرهم (1). "
…ويقول رحمه الله:
…" إنما الكفر يكون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم(2) "
…ويقول في كتاب رابع: _
…" الإيمان متضمن للإقرار بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، والكفر تارة يكون بالنظر إلى عدم تصديق الرسول والإيمان به، وهو من هذا الباب يشترك فيه كل ما أخبر به، وتارة بالنظر إلى عدم الإقرار بما أخبر به، والأصل في ذلك هو الإخبار بالله وبأسمائه، ولهذا كان جحد ما يتعلق بهذا الباب أعظم من جحد
_____________________________________________________ ص (38)
غيره، وإن كان الرسول أخبر بكليهما، ثم مجرد تصديقه في الخبر، والعلم بثبوت ما أخبر به، إذا لم يكن معه طاعة لأمره لا باطناً ولا ظاهراً، ولا محبة لله ولا تعظيم له، لم يكن ذلك إيماناً.(3) "
__________
(1) منهاج السنة 5/251
(2) الدرء 1/242
(3) مجموع الفتاوى 7/533، 534 .(1/39)
…من خلال ما أوردناه من كلام ابن تيمية، نستخلص أن الكفر _ وهو نقيض الإيمان _ قد يكون تكذيباً في القلب، فهو مناقض لقول القلب _ وهو التصديق _، وقد يكون الكفر عملاً قلبياً كبغض الله تعالى، أو آياته، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي يناقض الحب الإيماني، وهو آكد أعمال القلوب وأهمها، كما أن الكفر يكون قولاً ظاهراً يناقض قول اللسان، وتارة يكون عملاً ظاهراً كالإعراض عن دين الله تعالى، والتولي عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو بهذا يناقض عمل الجوارح القائم على الانقياد والخضوع والقبول لدين الله تعالى.
ويعرف ابن حزم الكفر بعبارة جامعة فيقول عن الكفر:
" وهو في الدين: صفة من جحد شيئاً مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معاً، أو عمل عملاً جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان.(1) "
ويقول السبكي(2): _ " التكفير حكم شرعي سببه جحد الربوبية، أو الوحدانية، أو الرسالة، أو قول، أو فعل حكم الشارع بأنه كفر وإن لم يكن جحداً (3). "
ويقول ابن القيم _ في بيان معنى الكفر _
_____________________________________________________ص (39)
__________
(1) الإحكام 1/45، وانظر: الفصل 3/252، والمحلي 13/437 .
(2) هو عبد الوهاب بن على الشافعي، تاج الدين، ولد بالقاهرة سنة 727 هـ، برز في علوم كثيرة، واشتغل بالفتاوى والتدريس والقضاء، وجرى عليه محن كثيرة، وله مؤلفات متعددة، توفي بدمشق سنة 771 هـ .
…انظر: الدرر الكامنة 3/39، والبدر الطالع 1/410
(3) فتاوى السبكي 2/586 .(1/40)
" الكفر جحد(1) ما علم أن الرسول جاء به، سواء كان من المسائل التي تسمونها علمية أو عملية فمن جحد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد معرفته بأنه جاء به، فهو كافر في دق الدين وجله.(2) "
ويعرف الشيخ عبد الرحمن السعدي(3) الكفر قائلاً: _
…" وحد الكفر الجامع لجميع أجناسه، وأنواعه، وأفراده هو جحد ما جاء به الرسول، أو جحد بعضه، كما أن الإيمان اعتقاده ما جاء به الرسول والتزامه جملة وتفصيلاً، فالإيمان والكفر ضدان متى ثبت أحدهما ثبوتاً كاملاً، انتفى الآخر(4) "
من خلال النصوص السابقة، ندرك معنى الكفر الذي لا يجامع الإيمان، بأنه اعتقادات، وأقوال، وأفعال حكم الشارع بأنها تناقض الإيمان.
7 _ إذا كان الإيمان قولاً وعملاً، فكذا الكفر يكون قولاً وعملاً، فهو _ أي الكفر _ قول القلب (التكذيب)، كما أنه أعمال قلبية _ كالبغض _ تناقض الإيمان، وهو قول باللسان، كما أنه أعمال ظاهرة بالجوارح تنقل عن الملة.
__________
(1) الجحد في اللغة: إنكارك بلسانك ما تستيقنه نفسك، قال تعالى " " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " " الأنعام، آية 33، انظر مفردات الأصفهاني ص122 ولسان العرب 3/106، والجحود _ ها هنا _ يراد به التكذيب المنافي للتصديق، كما يراد به الإمتناع والإباء المنافي للإنقياد، انظر الفتاوى لابن تيمية 20/98، وكتاب الصلاة لابن القيم ص 44 .
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/421
(3) هو عبد الرحمن بن ناصر السعدي التميمي، من كبار علماء نجد المعاصرين، ولد بعنيزة عام 1307 هـ، له مؤلفات كثيرة، واشتغل بالتدريس، توفي بعنيزة عام 1376 هـ .
انظر: علماء نجد 2/422، والأعلام 3/340 .
(4) الإرشاد إلى معرفة الأحكام ص 203، 204 .(1/41)
…و لمزيد من التفصيل لهذا التعريف نقول: إن الكفر قد يكون تكذيباً في القلب، وهذا الكفر قليل في الكفار _ كما يقول ابن القيم(1) _؛ لأن الله تعالى أيد رسله، وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة، وأزال به المعذرة
وقد يكون الكفر قولاً باللسان، وإن كان القلب مصدقاً، أو غير معتقد بهذا الكفر القولي، يقول أبو ثور _ وقد سبق إيراد قوله بتمامه: _
______________________________________________________ ص (40)
ولو قال / المسيح هو الله، وجحد أمر الإسلام، وقال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك، وليس بمؤمن(2).
…ويقول ابن حزم: _
" ومما يتبين أن الكفر يكون بالكلام، قول الله _ عز وجل _ {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا {35} وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا {36} قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} إلى قوله {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف الآيات، 35 _ 42]، فأثبت الله الشرك والكفر مع إقراره بربه تعالى، إذ شك في البعث.(3) "
…ويقول أيضاً: " لم يختلف أهل العلم بأن في القرآن التسمية بالكفر، والحكم بالكفر قطعاً على من نطق بأقوال معروفة، كقوله تعالى: _ {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة، آية 17]و قوله تعالى {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التوبة آية 74]، فصح أن الكفر يكون كلاماً (4). "
…ويقول ابن تيمية: _
__________
(1) انظر مدارج السالكين 1/337 .
(2) أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/849 .
(3) الفصل /3/235 .
(4) المحلى 13/498 = بتصرف يسير(1/42)
…" إن سب الله، أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء، وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل(1) "
…ومما يدل على أن الكفر قول باللسان، قوله تعالى في شأن المنافقين {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 66].
قال ابن تيمية: _
…" فقد أخبر تعالى أنهم كفروا بعد إيمانهم، مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من
__________________________________________________ ص (41)
غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام.(2) "
…ويقول ابن نجيم (3)" إن من تكلم بكلمة الكفر هازلاً، أو لاعباً كفر عند الكل، ولا اعتبار باعتقاده (4)"
…وإن الكفر _ أيضاً _ قد يكون عملاً قلبياً، فإن الأعمال القلبية مثل الحب والتوكل والخوف... لابد منها في الإيمان، فلو صدق الله ورسوله، ولم يكن محباً لله أو رسوله _ مثلاً _ لم يكن مؤمناً... بل هو كافر.
…وكذا الكفر، فقد يكون الشخص مصدقاً بالله ورسوله، ولكنه يبغض الله أو رسوله، ومن ثم فهو كافر لبغضه لله أو لرسوله.
…يقول ابن تيمية:
…" فمن صدق الرسول، وأبغضه، وعاداه بقلبه وبدنه، فهو كافر قطعاً بالضرورة(5). "
…ويقول أيضاً: _
__________
(1) الصارم المسلول ص 512 ت: _ محي الدين عبد الحميد .
(2) مجموع الفتاوى 7/220 .
(3) هو عمر بن ابراهيم بن محمد المصري، الحنفي، فقيه، مشارك في بعض العلوم، له مصنفات، توفي سنة 1005 هـ .
انظر: الأعلام 5/39، ومعجم المؤلفين 7/271 .
(4) البحر الرايق 5/134
(5) مجموع الفتاوى 7/556 . وانظر: 7/397، 529، 541 .(1/43)
…" والقلب إذا لم يكن فيه بغض ما يكرهه الله من المنكرات، كان عادماً للإيمان، والبغض والحب من أعمال القلوب(1)
…ويقول _ في موضع ثالث _: _
…" إن ما أخبرت به الرسل من الحق ليس إيمان القلب مجرد العلم بذلك، فإنه لو علم بقلبه أن ذلك حق، وكان مبغضاً له وللرسول الذي جاء به، ولمن أرسله، معادياً لذلك، مستكبراً عليهم، ممتنعاً عن الانقياد لذلك الحق، لم يكن هذا.
_________________________________________________ ص (42)
مؤمناً مثاباً في الآخرة باتفاق المسلمين (2). "
…ويذكر ابن تيمية دليلاً على ذلك فيقول: _
…يبين ذلك قوله تعالى: _ {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {106} ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {107}أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل، الآيات 106 _ 109].
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/557 .
(2) التسعينية فتاوي ابن تيمية (ط الكردي ) 5/165، وانظر الصارم المسلول ص 518، 519 .(1/44)
…فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه، وذكر وعيده في الآخرة، ثم قال{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ}، وبيّن تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا، ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب، والعلم والجهل، ليس هو من باب الحب والبغض... واستحباب الدنيا على الآخرة، قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ماله في الآخرة من خلاق (1). "
…ويقول أيضاً: " قد يحصل في القلب علم بالحق وتصديق به، ولكن ما في القلب من الحسد والكبر ونحو ذلك مانع من استسلام القلب وانقياده ومحبته.(2) "
…ويقرر ابن حزم عدم انحصار الكفر في التكذيب فحسب، فيقول:
…" قد قال الله تعالى: _ {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ {25} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ {26} فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ {27} ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد، الآيات 25_28]، فجعلهم مرتدين كفاراً بعد علمهم بالحق، وبعد أن تبين لهم الهدى، بقولهم للكفار ما قالوا فقط وأخبرنا تعالى أنه يعرف إسرارهم، ولم يقل تعالى أنهم جحدوا، بل قد صح أن في سرهم التصديق؛
__________________________________________________ ص (43)
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/559،560، وانظر ما كتبه الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن هذه الآية " " ذلك بأنهم استحبوا . . " " في كشف الشبهات / مؤلفات الشيخ 1/181
(2) مجموع الفتاوى 7/535، وانظر الموافقات للشاطبي 1/66 .(1/45)
لأن الهدى قد تبين لهم، ومن تبين له شيء، فلا يمكن ألبتة أن يجحده بقلبه أصلاً.(1) "
ويكون الكفر عملاً ظاهراً _ كالإعراض عن دين الله تعالى مثلاً _ فلقد حكم الله تعالى بكفر الممتنع عن طاعته تعالى، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تكون الطاعة تصديقاً فقط، قال تعالى {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران، آية 32].
يقول ابن كثير (2)_ رحمه الله _ عن هذه الآية: _ دلت الآية على أن مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله، ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين(3)(4). "
وساق الخلال بسنده إلى الحميدي(5)
__________
(1) الفصل 3/262، وانظر الفصل 3/259 .
(2) هو أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي الشافعي محدث، مؤرخ، مفسر، فقيه، ولد سنة 700 هـ، له عدة مؤلفات وتوفي بدمشق سنة 774 هـ .
انظر: _ الدرر الكامنة 1/399، والبدر الطالع 1/153 .
(3) الفصل 3/262، وانظر الفصل 3/259 .
(4) تفسير ابن كثير 1/338 .
(5) هو عبد الله بن الزبير بن عيسى بن حميد، الإمام الحافظ الفقيه، صاحب ((المسند )) توفي بمكة سنة 219 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 10/616، وطبقات الشافعية 2/140(1/46)
حيث قال: " وأخبرت أن قوماً يقولون: إن من أقر بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، أو يصلي مسند ظهره، مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن، ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه، إذا كان يقر الفروض، وإستقبال القبلة. فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل المسلمين. قال الله عز وجل {حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة، آية 5](1). "
وقال إسحاق بن راهوية (2): _ ومما أجمعوا على تكفيره وحكموا عليه كما
__________________________________________________ ص (44)
حكموا على الجاحد، فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى، ومما جاء من عنده، ثم قتل نبياً، أو أعان على قتله، ويقول قتل الأنبياء محرم، فهو كافر(3). "
ويقول ابن تيمية: _
__________
(1) السنة للخلال 3/586، 587 .
(2) هو أبو يعقوب اسحاق بن إبراهيم الحنظلي المروزي، نزيل نيسابور، ولد سنة 161 هـ، كان إماماً كبيراً في الحفظ والفتوى والتفسير، توفي سنة 338 هـ .
انظر: طبقات الحنابلة 1/109، وسير أعلام النبلاء 11/358 .
(3) تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي 2/930 .(1/47)
قال تعالى: _ {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور آية 47]، والتولي هو التولي عن الطاعة، كما قال تعالى: _ {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح، آية 16]، وقال تعالى: _ {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[القيامة، آية 31، 32]. فعلم أن التولي ليس هو التكذيب، بل هو التولي عن الطاعة، فإن الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر، ويطيعوه فيما أمر، وضد التصديق التكذيب، وضد الطاعة التولي، فلهذا قال: _ {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة آية 31، 32]و قد قال تعالى: _ {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور، آية 47] فنفي الإيمان عمن تولى عن العمل، وإن كان قد أتى بالقول...
ـ إلى أن قال ـ
ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضع كثيرة، كما نفي فيها الإيمان عن المنافق.(1) "
ويقول أيضاً: _
" الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم.(2) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/142، وانظر الصارم المسلول ص 33، 520، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/92، وانظر رسالة " ضوابط التكفير عند أهل السنة " لعبد الله القرني ( ماجستير ) مطبوعة على الآلة الكاتبة ص 168، 200
(2) الدرء 1/242 .(1/48)
________________________________________________________ ص (45)
ولذا يقول ابن الوزير _ في الرد على من اشترط الاعتقاد في قول الكفر: _
".. وعلى هذا لا يكون شيء من الأفعال والأقوال كفراً، إلا مع الاعتقاد، حتى قتل الأنبياء، والإعتقاد من السرائر المحجوبة، فلا يتحقق كفر كافر قط إلا بالنص الخاص في شخص شخص.(1) "
8 _ من خلال العرض السابق لمعنى الكفر، ندرك أن الكفر ليس حقيقة أو شعبة واحدة، وهي التكذيب الإعتقادي أو القلبي كما هو عند المرجئة، بل هو شعب متعددة، ومراتب متفاوتة، كما أن مقابله _ وهو الإيمان _ شعب متعددة كما سبق ذكره
يقول ابن القيم _ مقرراً لذلك: _
" الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة، والحج، والصيام من شعب الإيمان، وتركها من شعب الكفر، والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان.(2) "
…ويقول أيضاً: _
…"وها هنا أصل آخر، وهو أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، فكفر الجحود: أنه يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحوداً وعناداً من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه، وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه، وأما كفر العمل، فينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وإلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم، والإستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان (3). " وقد
__________________________________________________ ص (46)
__________
(1) إيثار الحق على الخلق ص 419
(2) كتاب الصلاة، ص 53 .
(3) كتاب الصلاة، ص 55، انظر الرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص 27، 28 وأعلام السنة المنشورة للحكمي ص 73 ـ 76(1/49)
أورد محمد بن نصر المروزي(1) هذا الأصل، وحكاه عن علماء أهل الحديث قائلاً: " والكفر ضد الإيمان، إلا أن الكفر كفران: _ كفر هو جحد بالله، وبما قال، فذلك ضد الإقرار بالله، والتصديق به، وبما قال، وكفر هو عمل ضد الإيمان الذي هو عمل.
…وإن للكفر فروعاً، دون أصله، لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما أن الإيمان من جهة العمل فرعاً للأصل، لا تنقل تركه عن ملة الإسلام (2). "
…وقد ورد عن سلف هذه الأمه تقسيم الكفر إلى ما يخرج عن الملة وإلى ما لا يخرج، كابن عباس، وطاووس، وعطاء(3) وغيرهم.
…وإذا ثبت أن الكفر شعب متعددة، وأن له مراتب، فمنه ما يخرج من الملة، ومنه ما لا يخرج من الملة، فإنه يمكن أن يجتمع في الرجل كفر ـ غير ناقل من الملة _ وإيمان. وهذا أصل عظيم عند أهل السنة، وقد خالفهم فيه أهل البدع، مع أن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والإجماع أدلة ظاهرة على هذا الأصل.
…وإذا تقرر ما سبق فلا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر بالعبد، أن يصير كافراً الكفر المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً، حتى يقوم به أصل الإيمان (4).
…يقول ابن تيمية: _
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن نصر بن الحجاج المروزي، ولد ببغداد سنة 202 هـ كان من أئمة عصره في الحديث، وهو من أعلم الناس باختلاف العلماء، له مؤلفات، توفي سنة 294 هـ .
…انظر: طبقات الشافعية 2/246، وسير أعلام النبلاء 14/33 .
(2) تعظيم قدر الصلاة 2/517 ـ 520 = باختصار .
(3) انظر المرجع السابق 2/521، 522، وانظر فتح الباري 1/83 .
(4) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1/208، وكتاب الصلاة لابن القيم ص 60 والرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف آل الشيخ ص 31(1/50)
… "فرق بين الكفر المعرف باللام، كما في قوله صلى الله عليه وسلم " ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك، إلا ترك الصلاة.(1)" وبين كفر منكر في الإثبات.
__________________________________________________ ص(47)
وفرق أيضاً بين معنى الإسم المطلق، إذا قيل: كافر. أو مؤمن، وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده كما في قوله: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (2). فقوله " يضرب بعضكم رقاب بعض " تفسير الكفار في هذا الموضع، وهؤلاء يسمون كفاراً تسمية مقيدة، ولا يدخلون في الإسم المطلق إذا قيل: كافر، ومؤمن(3). "
وإذا تقرر معنى الكفر،و أنه اعتقادات، وأقوال، وأعمال تنافي الإيمان، وأنه على شعب، ومراتب متفاوتة، فسندرك ما يلي: _
1_ أن المرجئه قد أخطأوا في قولهم إن الكفر هو التكذيب من وجهين: _
…الأول: قولهم كل من كفره الشارع، فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى، فحصروا الكفر في مجرد التكذيب فقط (4).
…الثاني: قولهم: إن التكذيب يقوم بالباطن، بحيث ينتفي التصديق عن الكافر، مع أن كفر إبليس وفرعون واليهود ونحوهم، بل وغالب الأمم الكافرة، لم يكن أصله من جهة عدم التصديق والعلم، فإن إبليس مثلاً لم يخبره أحد بخبر، بل أمره الله بالسجود لآدم فأبى واستكبر، وكان من الكافرين، فكفره الإباء والاستكبار وما يتبع ذلك (5).
…ولذا يقول ابن القيم رحمه الله:
__________
(1) أخرجه مسلم، ك الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على ترك الصلاة 1/88، ح (134 ) والترمذي في الإيمان 5/13، ح (2612 )، وأبو داود في السنة، ح (3678)
(2) سبق تخريجه .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم 1/208، 209 .
(4) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/364، وانظر مجموع الفتاوى 7/557،558 .
(5) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/534، ومدارج السالكين 1/337 .(1/51)
…" وهذان القسمان (كفر الجحود والعناد، وكفر الإعراض) أكثر المتكلمين ينكرونهما، ولا يثبتون من الكفر إلا الأول (كفر التكذيب أو الجهل)، ويجعلون الثاني والثالث (كفر الجحود، والإعراض) كفراً لدلالته على الأول لا لأنه في ذاته، فليس عندهم الكفر إلا مجرد الجهل، ومن تأمل القرآن والسنة، وسير الأنبياء في أممهم، ودعوتهم لهم، وما جرى لهم معهم، جزم بخطأ أهل الكلام فيما قالوه، وعلم أن عامة كفر الأمم عن تيقن وعلم، ومعرفة بصدق أنبيائهم (1). "
___________________________________________________ ص (48)
وقد غلط المرجئة عندما ظنوا أن ترك العمل بالكلية، وعدم الإلتزام بالشريعة ليس كفراً،ما لم يكن عن تكذيب، فكما أنه لا يكفي لتحقيق الإيمان مجرد الإلتزام المجمل بالشريعة دون التصديق، فكذلك لا يكفي مجرد التصديق دون تحقيق الإلتزام الإجمالي (2).
2_ خطأ المبتدعة _ عموماً _ في دعواهم أن الكفر خصلة واحدة، بناء على ظنهم أن الإيمان شيء واحد، أو شعبة واحدة، مع أن النصوص الشرعية _ كما سبق ذكره _ تدل على أن الكفر شعب متفاوتة، فهناك كفر أكبر، وهناك كفر دون كفر... وهكذا.
9_ وإذ أنهينا الحديث عن معنى الإيمان والكفر، فإنه يجدر بنا أن نشير إلى معنى كلمة ((ناقض)) حيث إن موضوع هذه الرسالة _ كما هو معلوم _ ((نواقض الإيمان القولية والعملية))
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/94 .
(2) انظر أصول اللالكائي 4/850، ورسالة ضوابط التكفير ص 168، 176، 195 .(1/52)
…و بالرجوع إلى معاجم اللغة نجد أن النقض يطلق على: _ إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء، فهو بمعنى نكث الشيء، وانتثار العقد. والنقض ضد الإبرام ونقيضك الذي يخالفك(1).
…يقول الفيومي(2): _
…" ونقضت الحبل نقضاً حللت برمه، ومنه ما يقال نقضت ما أبرمه إذا أبطلته، وانتقض هو بنفسه، وانتقضت الطهارة بطلت، وانتقض الجرح بعد برئه والأمر بعد التئامه فسد، وتناقض الكلامان تدافعا كأن كل واحد نقض الآخر، وفي كلامه تناقض إذا كان بعضه يقتضي إبطال بعض (3). "
_________________________________________________ ص (49)
وفي التعريفات: " نقيض كل شيء: _ رفع تلك القضية، فإذا قلنا كل إنسان حيوان بالضرورة، فنقيضها أنه ليس كذلك (4)"
__________
(1) انظر: الفاخر للمفضل بن سلمة (ت291 هـ ) ص322، وجمهرة اللغة لابن دريد 3/99، وتهذيب اللغة للأزهري 8/344، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/470، 471، ولسان العرب لابن منظور 7/242، وترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير 4/427، وإكمال الإعلام بتثليث الكلام للجياني 2/721، وتاج العروس للزبيدي 5/93
(2) هو أبو العباس أحمد بن محمد على الفيومي، فقيه، لغوي، له مصنفات توفي سنة 770 هـ .
…انظر: الدرر الكامنة 1/334، معجم المؤلفين 2/132 .
(3) المصباح المنير ص 762 .
(4) التعريفات للجرجاني ص 245 .(1/53)
…وفي التنزيل جاءت مادة ((نقض)) في مواضع. منها: قوله تبارك وتعالى: _ {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل، آية 92]، وقوله سبحانه وتعالى: _ {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}[النحل، آية 91]، وقوله سبحانه وتعالى {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد، آية 20]، كما وردت مادة ((نقض)) في الحديث النبوي، كقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: " لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة(1). " أي هدمتها.
…وجاء من حديث عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه(2). " أي أزاله.
…وعن أبي أمامة الباهلي(3)7) رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " لتنقض عرا الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة، تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة.(4) "
…فمن خلال ما سبق عرضه من النصوص، يمكن القول، بأن معنى النواقض _ إصطلاحاً _ أنها اعتقادات، أو أقوال أو أفعال تزيل الإيمان وتقطعه، وإذا كان الإيمان قائماً على إعتقاد، والاعتقاد _ لغة _ فيه معنى اللزوم والتأكد والاستيثاق (5)، فإن ((النقض)) يقابل ((العقد))، ومن ثم فإن تلك المكفرات تنقض الإيمان، بينما سائر المعاصي تنقص الإيمان.
__________
(1) أخرجه البخاري، ك العلم، باب من ترك بعض الاختيار .. (1/224 )، ح ( 126 ) ومسلم، ك الحج، باب نقض الكعبة (2/971 )، ح (402)
(2) أخرجه البخاري، ك اللباس، باب نقض الصور (10/385 ) ح (5952 )
(3) هو صدي بن عجلان الباهلي، صحابي جليل، سكن الشام مات رضي الله عنه سنة 36 هـ
…انظر: الاصابة 3/420، سير أعلام النبلاء 3/359 .
(4) أخرجه أحمد (4/232 )، والحاكم (4/92 ) وصححه .
(5) انظر لسان العرب 3/297 مادة (( عقد )) .(1/54)
__________________________________________________ ص (50)
ومما يحسن ذكره _ ها هنا _ في خاتمة هذا المبحث أننا إذا رجعنا إلى كتب الفقه، فإننا نجد أن الفقهاء _ رحمهم الله _ يعقدون باباً مستقلاً للمرتد وأحكامه فيوردون معنى الردة، فنذكر أمثلة لتعريفاتهم للردة.
…ففي بدائع الصنائع يقول الكاساني(1): _ " أما ركن الردة فهو إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان، إذ الردة عبارة عن الرجوع عن الإيمان.(2) "
…ويقول ((الصاوي))(3) في شرح الصغير: _ الردة كفر مسلم بصريح من القول، أو قول يقتضي الكفر، أو فعل يتضمن الكفر. (4)"
…ويقول الشربيني (5)في ((مغنى المحتاج)): " الردة هي قطع الإسلام بنية، أو قول، أو فعل سواء قاله استهزاءً، أو عناداً، أو اعتقاداً.(6) "
…ويقول البهوتي(7)
__________
(1) 10) هو أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، فقيه، أصولي، توفي بحلب سنة 587 هـ، وله مؤلفات . انظر: معجم المؤلفين 3/75، والأعلام 2/70 .
(2) 7/134 بتصرف يسير / وانظر البحر الرايق لابن نجيم 5/129 .
(3) هو أحمد بن محمد الصاوي، الخلوتي المالكي، ولد بمصر سنة 1175هـ، توفي بالمدينة 1241 هـ، وله مصنفات .
…انظر: معجم المؤلفين 2/111، والأعلام 1/246 .
(4) 6/144، 145، وانظر حاشية الدسوقي 4/301، وبلغة السالك 2/416، وفتح العلي المالك 2/281 .
(5) هو محمد بن أحمد الشربيني الشافعي، فقيه، مفسر، متكلم، نحوي له مصنفات كثيرة، توفي سنة 977 هـ انظر: شذرات الذهب 8/384، ومعجم المؤلفين 8/269
(6) 4/133، وانظر نهاية المحتاج للرملي 7/413، وروضة الطالبين للنووي 10/64
(7) هو منصور بن يونس بن صلاح البهوتي الحنبلي، شيخ الحنابلة بمصر، له مؤلفات متعددة في الفقه، توفي بمصر سنة 1051 هـ
…انظر: مختصر طبقات الحنابلة للشطي ص 114، ومعجم المؤلفين 13/22 .(1/55)
في ((كشاف القناع)): _ المرتد: لغة هو الراجع. قال تعالى: _ {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة، آية 21].
___________________________________________________ص (51)
وشرعاً الذي يكفر بعد إسلامه نطقاً، أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً.(1) "
وبهذا يعلم أن الردة عن الإسلام هي الرجوع عن الإسلام إما بإعتقاد أو فعل أو قول.
__________________________________________________ ص (52)
المبحث الثاني: ((التكفير المطلق وتكفير المعين))
المطلب الأول: الفرق بين تكفير المطلق وتكفير المعين
يفرق أهل السنة بين تكفير المطلق وتكفير المعين، ففي الأول يطلق القول بتكفير صاحبه _ الذي تلبس بالكفر _ فيقال من قال كذا، أو فعل كذا، فهو كافر، ولكن الشخص المعين الذي قاله أو فعله، لا يحكم بكفره إطلاقاً حتى تجتمع فيه الشروط، وتنتفي عنه الموانع، فعندئذ تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
…يقول ابن تيمية:
" وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة (2).
…ثم يقول: " إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات، لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعين(3). "
__________
(1) 6/136،وانظر المبدع في شرح المقنع 9/170، والمغني 8/123، وشرح منتهى الإرادات 3/386، غاية المنتهى 3/335 .
(2) مجموع الفتاوى (الكيلانية ) 12/466
(3) مجموع الفتاوى ( الكيلانية ) 12/487، 488(1/56)
…ويسوق ابن تيمية بعضاً من الأعذار الواردة على المعين، فيقول: _ " الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبه لمعرفة الحق، وقد تكون عنده، ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطاياه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية، أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجماهير أئمة الإسلام.(1) "
…إلى أن قال: " كان الإمام أحمد _ رحمه الله _ يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
_______________________________________________ ص (53)
ظاهرة بينه... لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط... ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية، ويدعون الناس إلى ذلك ويعاقبونهم، ويكفرون من لم يجبهم، ومع هذا فالإمام أحمد ترحم عليهم، واستغفر لهم، لعلمه بأنهم لم يبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك..
…وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال: - القرآن مخلوق، كفرت بالله العظيم، بيّن له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد، لسعى في قتله.(2) "
…ولقد طبق ابن تيمية هذا المسلك، فكان يقول: " ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش، لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال (3). "
__________
(1) مجموع الفتاوى 23/326
(2) مجموع الفتاوى 23/348، 349 باختصار .
(3) مجموع الفتاوى 23/326(1/57)
…ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب(1): _ " ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة إذا قال قولاً يكون القول به كفراً، فيقال من قال بهذا القول فهو كافر، ولكن الشخص المعين إذا قال ذلك، لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها (2). "
…وبهذا يتضح لنا التكفير العام المطلق يجب القول بعمومه وإطلاقه، وأما الحكم على المعين بأنه كافر، فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه، فالكفر من الوعيد الذي نطلق القول به، ولكن لا
__________________________________________________ ص (54)
نحكم للمعين بدخوله في ذلك المطلق حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له(3).
…وإذا ظهر لنا الفرق بين التكفير المطلق، وتكفير المعين، فسندرك خطأ فريقين من الناس، فهناك فريق من الناس قد غلا، فادعى تكفير المعين بإطلاق، دون النظر إلى الشروط والموانع، وفريق آخر امتنع عن تكفير المعين بإطلاق، فأغلق باب الردة (4).
________________________________________________ ص (55)
……
المطلب الثاني: عدم المؤاخذة قبل الإنذار
__________
(1) هو الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن على التميمي، صاحب الحركة الإصلاحية المشهورة، كان عالما كبيراً، رحل إلى عدة بلدان وله مؤلفات كثيرة، توفي بالدرعية سنة 1206 هـ
…انظر: تاريخ ابن غنام، علماء نجد 1/25
(2) الدرر السنية 8/244 .
(3) انظر لمزيد من التفصيل: مجموع الفتاوى 3/354، 12/498، 28/500، 501، 35/165 .
(4) انظر في الرد على الفريق الأخير: رسالة مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب ( مجموعة مؤلفات الشيخ 1/279 _ 329 )، وفتاوي محمد بن إبراهيم 1/73 ,74، ورسالة حكم تكفير المعين للشيخ إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ .(1/58)
لقد أرسل الله الرسل عليهم السلام مبشرين ومنذرين، وأقام سبحانه للناس أسباب الهداية، ومن تمام حكمته وعدله أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء، آية 15] وقال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء، آية 165]، وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ {8}قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الملك، آية 7، 8].
…وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: _ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: _ " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار(1) "
…و توضيحا ً لما سبق ذكره نختار نبذة من مقولات العلماء على النحو الآتي: _
…يقول ابن حزم: " قال الله تعالى {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام، آية 19]، وقال عز وجل {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء، آية 15].
…فنص تعالى على أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته، لا من لم تبلغه، وأنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول من عند الله عز وجل، فصح بذلك أنه من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه، وهكذا جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه يؤتى يوم القيامة بالشيخ الخرف، والأصم، ومن كان في الفترة، والمجنون، فيقول المجنون " يارب أتاني الإسلام، وأنا لا أعقل، ويقول الخرف والأصم، والذي في الفترة أشياء ذكرها، فيوقد لهم نار، ويقال لهم:
__________
(1) أخرجه مسلم ك الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/134)، ح (240 )(1/59)
__________________________________________________ ص (56)
أدخلوها، فمن دخلها وجدها برداً وسلاماً(1)، وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين، فإنه معذور لا ملامة عليه.(2) "
…ويقول الشاطبي(3): _ جرت سنته _ سبحانه _ في خلقه، أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة عليهم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولكلٍ جزاء مثله.
…كما أنه تعالى أنزل القرآن برهاناً في نفسه على صحة ما فيه، وإقامة للحجة وزاد على يدي رسوله عليه الصلاة والسلام من المعجزات ما في بعضه كفاية(4) "
ويقول ابن تيمية: _ وهذا أصل لابد من إثباته، وهو أنه قد دلت النصوص على أن الله لا يعذب إلا من أرسل إليه رسولاً تقوم به الحجة عليه.(5) "
…ثم ساق النصوص القرآنية الدالة على ذلك... ثم قال: _
__________
(1) أخرجه أحمد ولفظه: " أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أسمع شيئاً وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة، فيقول رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن أدخلوا النار، قال: فو الذي نفس محمد بيده لو دخلوها، لكانت عليهم برداً وسلاماً "
انظر المسند 4/24، ومجمع الزوائد للهيثمي 7/215 _217 وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 3/418، 419/ / رقم الحديث (1434 )
(2) الفصل 4/105 .
(3) هو أبو اسحاق إبراهيم بن موسي بن محمد اللخمي الغرناطي، محدث، فقيه أصولي لغوي، مات سنة 790 هـ، وله مؤلفات
…انظر: معجم المؤلفين 1/118، والأعلام 1/75 .
(4) الموافقات 3/377 = بتصرف يسير .
(5) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/309 .(1/60)
…وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الحجة إنما تقوم بالقرآن على من بلغه، كقوله تعالى: _ {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام، آية 19]. فمن بلغه بعض القرآن دون
________________________________________________ ص (57)
بعض، قامت الحجة عليه بما بلغه دون ما لم يبلغه.(1) "
…ثم قال: _ " والذي عليه السلف والأئمة أن الله تعالى لا يعذب إلا من بلغته الرسالة، ولا يعذب إلا من خالف الرسل كما دل عليه الكتاب والسنة، ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال، والمجانين وأهل الفترات، فهؤلاء فيهم أقوال، أظهرها ما جاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة، فيبعث إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب، وإن عصوه استحقوا العذاب. (2)" …
…ويؤكد في موضع آخر _ على أنه لا تعذيب إلا بعد البلاغ، فيقول: _
…" إن الكتاب والسنة قد دلت على أن الله لا يعذب أحداً، إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة، لم يعذبه رأساً، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل، لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية.
…وذلك مثل قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء، آية 165].
__________
(1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/310
(2) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/312 باختصار، وانظر مجموع الفتاوى (تفسير سورة الإخلاص ) 17/308 .(1/61)
…وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}[الأنعام، آية 130] _ وذكر آيات كثيرة ثم قال: _ فمن كان قد آمن بالله ورسوله، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم يؤمن به تفصيلاً، إما أنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به،فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب على من يثيبه الله عليه، وما لم يؤمن به، فلم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها(1). "
ويقرر ابن القيم " أن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها، والثاني: _ العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم
___________________________________________________ص (58)
حجة الرسل (2). "
…ومن الفوائد التي أوردها العراقي(3) في شرحه لحديث " لا يسمع بي أحد من هذه الأمة.. " قوله: " ومفهومه إن لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور على ما تقرر في الأصول أن لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح (4). "
__________
(1) مجموع الفتاوى (الكيلانية ) 12/493، 494 = باختصار .
(2) طريق الهجرتين ص 414، وانظر مدارج السالكين 1/188 .
(3) هو أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي زين الدين، من كبار حفاظ الحديث، له رحلات كثيرة، ومؤلفات متعددة، توفي بالقاهرة سنة 806 هـ .
انظر: شذرات الذهب 7/55، والأعلام 3/344 .
(4) طرح التثريب شرح التقريب 7/160 .(1/62)
…وأورد الشنقيطي(1) مسألة " هل يعذر المشركون بالفترة(2) أم لا؟ " ثم قال: _ " والتحقيق أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا، ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل.(3) "
ومن خلال ما أوردناه من نصوص ونقول، يتقرر أن العذاب والمؤاخذة لا يقع إلا بعد النذارة وقيام الحجة، وأن أهل الفترة ومن في حكمهم يمتحنون يوم القيامة، كما جاءت بذلك الأحاديث والله تعالى أعلم(4).
__________________________________________________ ص (59)
المطلب الثالث: ((العذر بالجهل))
__________
(1) هو محمد الأمين بن محمد المختار الجكني، ولد عام 1325 هـ بشنقيط، واجتهد في طلب العلم، وكان آية في التفسير والأصول، له مؤلفات كثيرة، كما كان له جهود في الدعوة ونشر العلم، وكان زاهداً ورعاً تقياً، توفي بمكة المكرمة سنة 1393 هـ .
انظر: ترجمة عطية سالم للشنقيطي في آخر الجزء التاسع من أضواء البيان .
(2) الفترة: هي ما بين كل نبيين كانقطاع الرسالة بين عيسي عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم / انظر تفسير ابن كثير 2/34 .
(3) أضواء البيان 3/481، وانظر التفصيل لهذه المسألة في نفس الكتاب 3/474 _ 484 .
(4) انظر للمزيد من التفصيل في هذا المطلب: تفسير ابن كثير 3/28 _32، وإيثار الحق لابن الوزير ص206، فتح الباري 3/246، تفسير المنار 6/72، 73، أهل الفترة ومن في حكمهم لموفق أحمد شكري .(1/63)
مما قد يعتبر مانعاً من موانع تكفير المعين: العذر بالجهل، وإنما اقتصرت عليه، مع تعدد عوارض الأهلية، لكثرة الكلام فيه، ووقوع اللبس فيه، وهذه مسألة خاض الناس فيها ما بين غال وجاف، فهناك من يجعل الجهل عذراً بإطلاق، وهناك من يمنعه بإطلاق، والحق وسط بينهما _ كما سيأتي بيانه إن شاء الله _ ونوجز ما يهمنا في هذه المسئلة على النحو التالي: _
1_ المقصود بالجهل خلو النفس من العلم، أو عدم العلم عما من شأنه العلم (1).
ونؤكد _ ابتداء _ أن الجهل أمر أصلي ينبغي رفعه _ حسب الاستطاعة _ وأن يسعي إلى تعليم الجاهل.
…ولما ساق ابن عبد البر _ رحمه الله _ حديث ابن عباس رضي الله عنهما " أهدى رجل لرسول صلى الله عليه وسلم رواية خمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الله حرمها، قال: لا.. الحديث(2) "
…قال بعد ذلك: " وفي هذا الحديث دليل على أن الإثم مرفوع عمن لم يعلم، قال الله عز وجل: _ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء، آية 15]، ومن أمكنه التعلم ولم يتعلم أثم والله أعلم (3). "
…ويقول القرافي(4): _ " القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه، لا يكون حجة للجاهل، فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله، وأوجب عليهم كافة أن يعلموها، ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل بها واجبان، فمن
__________
(1) انظر مفردات الراغب ص 142، وفتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم 3/102 والتعريفات للجرجاني ص80 .
(2) أخرجه مسلم، ك المساقاة، باب تحريم بيع الخمر، (3/1206 ) ح ( 1579 )، ومالك، ك الأشربة، باب جامع تحريم الخمر (2/846 )
(3) التمهيد 4/140، وانظر الكبائر للذهبي ص 47 .
(4) أحمد بن أدريس الصنهاجي المالكي، فقيه، أصولي، مفسر، ولد بمصر سنة 626 هـ له مؤلفات كثيرة، توفي بمصر سنة 684 هـ .
…انظر: الديباج المذهب 1/236، معجم المؤلفين 1/158 .(1/64)
__________________________________________________ ص (60)
ترك التعلم والعمل، وبقي جاهلاً، فقد عصى معصيتين لتركه واجبين.(1) "
…ويؤكد ابن تيمية على ذلك قائلاً: إن بيان الحكم سبب لزوال الشبهة المانعة من لحوق العقاب، فإن العذر الحاصل بالاعتقاد ليس المقصود بقاءه، بل المطلوب زواله حسب الإمكان، ولولا هذا لما وجب بيان العلم، ولكان ترك الناس على جهلهم خيراً لهم، ولكان ترك دلائل المسائل المشتبهة خيراً من بيانها.(2) "
يقول ابن اللحام (3): _ " جاهل الحكم إنما يعذر إذا لم يقصر ويفرط في تعلم الحكم، أما اذا قصر أو فرط فلا يعذر جزماً (4). "
ويقول السيوطي(5): _ كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك.(6) "
2_ والأمر الآخر الذي ينبغي مراعاته في هذه المسألة، وهو أن العذر بالجهل له اعتبار في مسألة التكفير بالنسبة لمن يغلب عليه التلبس به، كمن أسلم حديثاً، ومن نشأ في البادية ونحوهما.
__________
(1) الفروق 4/264، وانظر الفروق 2/149 _ 151
(2) مجموع الفتاوى 20/279 وانظر الفتاوى 22/16 .
(3) هو علي بن محمد بن عباس البعلي الحنبلي، الفقيه الواعظ الأصولي، اشتغل بالتدريس والفتيا والقضاء، له مؤلفات، توفي بمصر سنة 803 هـ
انظر: الجوهر المنضد لابن عبد الهادى ص 81، وشذرات الذهب 7/31 .
(4) القواعد والفوائد الأصولية ص 58 .
(5) هو عبد الرحمن بن محمد المصري الشافعي، جلال الدين، عالم مشارك في أنواع من العلوم، نشأ بالقاهرة، وألف كتباً كثيرة في مختلف الفنون، توفي سنة 911 هـ .
انظر: شذرات الذهب 8/51، والبدر الطالع 1/328 .
(6) الأشباه والنظائر ص 200(1/65)
…سئل الإمام الشافعي عن صفات الله وما يؤمن به، فقال: " لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه أمته، ولا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول، فإن خالف بعد ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يقدر
_______________________________________________ ص (61)
بالعقل، ولا بالروية والقلب والفكر، ولا نكفر بالجهل بها أحداً إلا بعد انتهاء الخبر إليه به.(1) "
ويقول الإمام البخاري: _ " كل من لم يعرف الله بكلامه أنه غير مخلوق، فإنه يعلم ويرد جهله إلى الكتاب والسنة، فمن أبى بعد العلم به، كان معانداً، قال الله تعالى: _ {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة، آية 115]، ولقوله: _ {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء، آية 115].(2) "
" ويقول محمد بن جرير(3)
__________
(1) مختصر العلو للذهبي ص 177 .
انظر إثبات صفة العلو لابن قدامة ص 124 ت، بدر البدر
(2) خلق أفعال العباد 61
(3) هو أبوجعفر محمد بن جرير بن كثير الطبري، إمام مجتهد، صاحب التصانيف في علوم مختلفة، توفي ببغداد سنة 310 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 3/120، وتاريخ بغداد 2/162(1/66)
في كتابه التبصير في معالم الدين _ بعد أن ذكر بعض نصوص الصفات _ قال: فإن هذه المعاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله بها نفسه، ورسوله مما لا يثبت حقيقة علمه بالفكر والروية، ولا يكفر بالجهل أحد إلا بعد انتهائها إليه. (1)"
ويقول ابن حزم: _ " ولا خلاف في أن امرءاً لو أسلم _ ولم يعلم شرائع الإسلام _ فاعتقد أن الخمر حلال، وأن ليس على الإنسان صلاة، وهو لم يبلغه حكم الله تعالى لم يكن كافراً بلا خلاف يعتد به، حتى إذا قامت عليه الحجة فتمادى حينئذ بإجماع الأمة فهو كافر (2). "
وفي هذا المقام يقول ابن تيمية:
" لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة، كما قال تعالى: _
________________________________________________ ص (62)
{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء، آية 165]، ولهذا لو أسلم رجل، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر حرام، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا، وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية (3)".
… ويقول _ في موضع آخر _: _ " من دعا غير الله، وحج إلى غير الله فهو مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالماً بأن هذا شرك محرم، كما أن كثيراً من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم، وعندهم أصنام لهم وهم يتقربون إليها ويعظمونها، ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام، ويتقربون إلى النار أيضاً، ولا يعلمون أن ذلك محرم فكثير من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك...(4) "
__________
(1) إجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص 195، وانظر سير أعلام النبلاء 14/280
(2) المحلي 13/151 .
(3) مجموع الفتاوى 11/406 .
(4) الرد على الأخنائي ص 61، 62 = باختصار يسير .(1/67)
…ويقول أيضاً _ في موضع ثالث: _ " إن تكفير المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يكفر. (1)"
…ولعل من أظهر الأدلة(2) في اعتبار الجهل عذراً، ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: _ " إن رجلاً لم يعمل خيراً قط فقال لأهله إذا مات فأحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل،
__________________________________________________ ص (63)
فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم بين يديه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يارب وأنت أعلم فغفر الله له (3)"
…ويقول ابن قتيبة(4)
__________
(1) الرد على البكري ص 258، وانظر الفتاوى 12/500، ومجموعة الرسائل لابن تيمية 4/382 .
(2) إن الأدلة ها هنا كثيرة جداً . . وانظر ما كتبه _ مثلاً _ شريف هزاع في كتابه العذر بالجهل ولعل من آكد هذه الأدلة حديث الذي أمر أهله بإحراقه والذي قال عنه ابن تيمية: _ " " وهو حديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أصحاب الحديث والأسانيد من حديث أبي سعيد، وحذيفة، وعقبة بن عمرو، وغيرهم من وجوه متعددة " مجموع الفتاوى 12/491، وانظر مجموع الفتاوى 11/408، 409، ومجمع الزوائد للهيثمي 10/194، 196، وإيثار الحق لابن الوزير ص 438، والعواصم والقواصم لابن الوزير 4/175 .
(3) أخرجه البخاري، ك أحاديث الأنبياء، (6/514 ) ح (3478) ومسلم، ك التوبة، باب في سعة رحمه الله ( 4/2109 ) ح (2756 )
(4) أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، علامة كبير، صاحب التصانيف، ونزل بغداد، وتولي القضاء، وتوفي سنة 276 هـ .
انظر: تاريخ بغداد 10/170، والبداية والنهاية 11/48 .(1/68)
:عن هذا الحديث: " وهذا رجل مؤمن بالله، مقر به، خائف له، إلا أنه جهل صفة من صفاته، فظن أنه إذا أحرق وذروي في الريح أنه يفوت الله تعالى، فغفر الله تعالى له بمعرفته ما بنيته، وبمخافته من عذابه جهله بهذه الصفة من صفاته. (1)"
…ويقول ابن تيمية: " وكنت دائماً أذكر هذا الحديث.. فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك (2)."
…ويفصل ابن تيمية ذلك بقوله: _ " فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم، بعدما أحرق وذري، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك. وهذان أصلان عظيمان، أحدهما: متعلق بالله تعالى، وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير، والثاني: متعلق باليوم الآخر، وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت، ويجزيه على أعماله، ومع هذا فلما كان مؤمناً بالله في الجملة، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل عملاً صالحاً _ وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه _ غفر الله بما كان منه من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح.(3) "
__________________________________________________ص (64)
__________
(1) تأويل مختلف الحديث ص 136 ت: محمد الأصفر .
(2) مجموع الفتاوى 3/231، وانظر مجموع الفتاوى 28/501، 11/409، 410 وانظر الفصل لابن حزم 3/296 .
(3) مجموع الفتاوى 12/491، وانظر السبعينية ( بغية المرتاد ) ص 342 .(1/69)
ويضيف ابن تيمية في بيان هذا الحديث قائلاً: _ " فإن هذا الرجل جهل قدرة الله على إعادته ورجا أن لا يعيده بجهل ما أخبر به من الإعادة، ومع هذا لما كان مؤمناً بالله وأمره ونهيه ووعده ووعيده، خائفاً من عذابه، وكان جهله بذلك جهلاً لم تقم عليه الحجة التي توجب كفر مثله، غفر الله له، ومثل هذا كثير في المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخبر بأخبار الأولين، ليكون ذلك عبرة لهذه الأمة.(1) "
…ومما يجدر ذكره هاهنا، أننا في زمان قد تهيأت فيه الأسباب لتبليغ ونشر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في البلدان عن طريق الوسائل المختلفة، التي جعلت سائر أقطار العالم كالبلد الواحد(2) إلا أن العذر بالجهل لا يزال ظاهراً في عصرنا، حيث قل أهل العلم العاملون، وكثر الأدعياء الذين يزينون الباطل والكفر للعامة، ويلبسون عليهم، وقد أشار ابن تيمية إلى أهل زمانه _ وهو بلا شك أقل سوء من زماننا الحاضر _ وما كان عليه الكثير من الوقوع في أنواع من الكفر، ومع ذلك عذرهم بهذا الجهل قائلاً: _
__________
(1) الصفدية 1/233، وانظر: _ مدارج السالكين 1/338، 339، إيثار الحق على الخلق لابن الوزير ص 436 وانظر مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 3/ (11) ( الفتاوى ) ومجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن عثيمين 3/605 .
(2) انظر المنتخبات من مكتوبات أحمد السر هندي ص 68 .(1/70)
" وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات، يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه، ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف " يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه الصلاة، ولا صياماً، ولا حجاً، ولا عمرة، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، ويقولون: أدركنا آباءنا
__________________________________________________ ص (65)
وهم يقولون لا إله إلا الله، فقيل لحذيفة بن اليمان(1): ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار(2) "(3) "
2_ وعندما نقرر أن للعذر بالجهل اعتباراً في مسألة التكفير، فلا يعني أن الجهل عذر مقبول لكل من ادعاه. ولذا يقول الإمام الشافعي: " إن من العلم ما لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله، مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل، والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا.(4) "
…" وكما يقول ابن قدامه(5)
__________
(1) حذيفة بن اليمان الأزدي، صحابي جليل، وأمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ممن أشار على عثمان رضي الله عنه بكتابة المصحف وجمعه، توفي بالمدائن سنة 36 هـ
انظر: الإصابة 2/45، سير أعلام النبلاء 2/361 .
(2) انظر: تخريجه ص 474
(3) الفتاوى 35/165 .
(4) الرسالة ص 357
(5) هو عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الدمشقي، الزاهد الإمام، وأحد أعلام الحنابلة، رحل الى بغداد، وله تصانيف كثيرة، توفي بدمشق سنة 620 هـ
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة 2/133، وسير أعلام النبلاء 22/165 .(1/71)
: _ أثناء كلامه عن تارك الصلاة " فإن كان جاحداً لوجوبها (أي الصلاة) نظر فيه، فإن كان جاهلاً به، وهو ممن يجهل ذلك كالحديث الإسلام، والناشىء ببادية، عرف وجوبها وعلم ذلك، ولم يحكم بكفره لأنه معذور، فإن لم يكن ممن يجهل ذلك كالناشىء من المسلمين في الأمصار والقرى، لم يعذر ولم يقبل منه إدعاء الجهل، وحكم بكفره؛ لأن أدلة الوجوب ظاهرة في الكتاب والسنة،و المسلمين يفعلونها على الدوام، فلا يخفى وجوبها على من هذا حاله، ولا يجحدها إلا تكذيباً لله تعالى، ورسوله وإجماع الأمة، وهو يصير مرتداً عن الإسلام، ولا أعلم في هذا خلافاً.(1) "
____________________________________________________ص (66)
ومن المهم أن يعلم أن العذر بالجهل تكتنفه وتتعلق به عدة أمور، منها نوعية المسألة المجهولة(2)، كأن تكون من المسائل الخفية، وكذلك حال الجاهل كحديث عهد بالإسلام، أو الناشىء في البادية، ومن حيث حال البيئة، ففرق بين وجود مظنة العلم أو عدمه.
…يقول ابن تيمية: _ " إن الأمكنة والأزمنة التي تفتر فيها النبوة، لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ، كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة.(3) "
__________
(1) المغني 2/442 .
(2) يقسم بعضهم تلك المسائل _ بهذا الاعتبار _ إلى أربعة أقسام: _
الأول: ما يكفر به مطلقاً ولا يعذر بجهله وهي الأمور الظاهرة والمعلومة من الدين بالضرورة .
الثاني: ما لا يكفر بجهله وهي المسائل الخفية التي اختلف فيها، ولم يجمع عليها .
الثالث: ما لا يكفر به إذا فعله جاهلاً، إلا بعد إعلامه بحكم الله فيه، وهو مما أجمع عليه . . ولكن تعرض فيه شبهه وسوء فهم .
الرابع: المسائل الاجتهادية التي ليس فيها نص قطعي الرواية والدلالة، فهذه يعذر فيها كل مجتهد باجتهاده .
انظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/520، 521 .
(3) السبعينية (بغية المرتاد ) ص 311(1/72)
…ويقول أيضاً: _ " لا يكفر العلماء من استحل شيئاً من المحرمات لقرب عهده بالإسلام، أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك.(1) "
…ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب _ رحمه الله _: _ " إن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف(2) فلا يكفر حتى يعرف، وأما أصول الدين التي
________________________________________________ ص (67)
أوضحها الله في كتابه فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة.(3) "
ويقول _ في موضع آخر _: " إن الشخص المعين إذا قال ما يوجب الكفر، فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة تدفع بها في نحر من كفر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات، بعد بلوغ الحجة ووضح المحجة. (4)"
__________
(1) مجموع الفتاوى 28/501، وانظر مجموع الفتاوى 11/407 .
(2) الصرف والعطف من السحر، فيزعمون أنه يحبب المرأة لزوجها فلا ينصرف عنها .
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 3/11 ( الفتاوى )، وانظر الفتاوى لابن تيمية 4/54، 12/180، وانظر تعليق الشيخ محمد رشيد رضا في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/517، وانظر مجموع فتاوى ابن باز 4/26، 27 .
(4) الدرر السنية 8/244، وانظر فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/73، 74 .(1/73)
…وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: " يختلف الحكم على الإنسان بأنه يعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يعذر، باختلاف البلاغ وعدمه، وباختلاف المسألة نفسها وضوحاً وخفاء، وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفا(1)"
كما ورد في نفس الفتوى ما يلي: " ومن عاش في بلاد يسمع فيها بالدعوة إلى الإسلام وغيره، ثم لا يؤمن ولا يطلب الحق من أهله، فهو في حكم من بلغته الدعوة الإسلامية، وأصر على الكفر(2) "
…" أما من عاش في بلاد غير إسلامية، ولم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن القرآن الكريم والإسلام، فهذا على تقدير وجوده، حكمه حكم أهل الفترة، يجب على علماء المسلمين أن يبلغوه شريعة الإسلام أصولاً وفروعاَ، إقامة للحجة، وإعذاراً إليه، ويوم القيامة يعامل معاملة من لم يكلف في الدنيا لجنونه، أو بلهه، أو صغره، وعدم تكليفه، وأما ما يخفى من أحكام الشريعة من جهة الدلالة، أو لتقابل الأدلة وتجاذبها، فلا يقال لمن خالف فيه آمن وكفر، ولكن
__________________________________________________ ص(68)
يقال: أصاب وأخطأ(3) "
ومما يحسن التنبيه عليه أن العذر بالجهل فيمن قارفوا الكفر، لا يعني نفي الكفر عنهم وقد أظهروه، كما يقتضيه الحكم الدنيوي عليهم.
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء، جمع أحمد الدويش 2/97
(2) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء، جمع أحمد الدويش 2/97
(3) المرجع السابق 2/99(1/74)
وفي هذا يقول ابن تيمية: " أخبر الله تعالى عن هود أنه قال لقومه: {اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} [هود، آية 50] فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه، لكونهم جعلوا مع الله إلهاً آخر، فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة، فإنه يشرك بربه ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى، ويجعل له أنداداً قبل الرسول... وأما التعذيب فلا(1) "
ولما ذكر ابن القيم طبقات المكلفين، ذكر منهم طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم، فكان مما قاله عن تلك الطبقة: _
" إتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار، وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين، لا الصحابة ولا التابعين، ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة(2) " وهذا المقلد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلف، والعاقل المكلف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر، وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلف في تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين.
والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً.(3) "
___________________________________________________ص (69)
ويقول أيضاً:
__________
(1) مجموع الفتاوى 20/37، 38 .
(2) أخرجه مسلم، ك الإيمان، باب غلط تحريم القتل . .، (1/106 )، ح (178 ) وأحمد (1/3 )
(3) طريق الهجرتين ص 411 = باختصار(1/75)
" الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم.(1) "
…ويقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين (2): " قد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار، مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، فنعتقد كفرهم، وكفر من شك في كفرهم.(3) "
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما يلي: _
((كل من آمن برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر ما جاء به في الشريعة، إذا سجد بعد ذلك لغير الله من ولي، وصاحب قبر، أو شيخ طريق يعتبر كافراً مرتداً عن الإسلام، مشركاً مع الله غيره في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده، لإتيانه بما ينقض قوله من سجوده لغير الله، ولكنه قد يعذر لجهله، فلا تنزل به العقوبة حتى يعلم وتقام عليه الحجة، ويمهل ثلاثة أيام إعذاراً إليه ليراجع نفسه عسى أن يتوب، فإن أصر على سجوده لغير الله بعد البيان قتل لردته...فالبيان وإقامة الحجة للإعذار إليه قبل إنزال العقوبة، لا ليسمى كافراً بعد البيان، فإنه يسمى كافراً بما حدث منه من سجود لغير الله مثلاً (4). ((
__________
(1) المرجع السابق ص 413، وانظر مدارج السالكين 3/489
(2) أحد علماء نجد، وكان مفتي الديار النجدية، ولد عام 1194 هـ في سدير ودرس ثم جلس للتدريس والفتيا، وتولى القضاء، له عدة مؤلفات وتوفي سنة 1282 هـ
…انظر: علماء نجد 2/567 .
(3) الدرر السنية 8/213
(4) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 1/220 = باختصار(1/76)
ومن خلال ما سبق ندرك خطأ إطلاق القول بأن الجهل عذر في أصل الدين وفي غيره، كما أن إطلاق القول بأن الجهل ليس عذراً خطأ أيضاً، بل لابد من
__________________________________________________ ص (70)
التفريق بين ما كانت المخالفة فيه بمناقضته أصل الدين ونحوه من الأمور الظاهرة والمعلومة من الدين بالضرورة، وما كانت المخالفة فيه متعلقة بأمور تحتاج إلى بيان وتفصيل، كما أنه لابد من التفريق بين أحكام الدنيا (ظاهراً)، وأحكام الآخرة (باطناً)(1).
_____________________________________________________ص (71)
المبحث الثالث: معنى قيام الحجة
1_ نؤكد _ ابتداء _ ما سبق الإشارة إليه من ضرورة قيام الحجة، وأن من بلغته الدعوة، فقد قامت عليه الحجة، كما قال ابن تيمية: _ " حكم الوعيد على الكفر، لا يثبت في حق الشخص المعين، حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله.(2) "
…ويقول في موضع آخر: " إن حكم الخطاب لا يثبت في حق المكلف إلا بعد البلاغ لقوله تعالى: _ {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام، آية 19] وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء، آية 15]، ولقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء، آية 165]، ومثل هذا في القرآن متعدد، بين الله سبحانه أنه لا يعاقب أحداً حتى يبلغه ما جاء به الرسول.(3) "
…وقد يشكل على البعض: كيف تقوم الحجة على من قضى الله تعالى بخذلانه وحرمانه؟ ولكن كما قال ابن القيم _ رحمه الله _: _
__________
(1) انظر رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 298 .
(2) السبعينية ( بغية المرتاد ) ص 311
(3) مجموع الفتاوى 22/41(1/77)
…" فإن قيل كيف تقوم حجته عليهم، وقد منعهم من الهدى، وحال بينهم وبينه، قيل: حجته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عياناً، وأقام لهم أسباب الهداية باطناً وظاهراً، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل، أو صغر لا تمييز معه، أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله، فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته، فلم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه، نعم قطع عنهم توفيقه، ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه...(1) "
2 _ وأمر آخر وهو أن إقامة الحجة ليس لكل مسألة مطلقاً،... فهناك أمور _ كالمسائل الظاهرة مما هو معلوم من الدين بالضرورة _ لا يتوقف في كفر قائلها، ولذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: " ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة،
__________________________________________________ ص (72)
إذا قال قولاً يكون القول به كفراً، فيقال من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعين إذا قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس... وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله (2). "
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (3)
__________
(1) شفاء العليل ص 173
(2) الدرر السنية 8/244، وانظر الدرر السنية 8/90
(3) هو العلامة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب مفتى الديار السعودية، اشتغل بالتدريس والفتيا ورئاسة القضاء والإشراف على تعليم البنات، وله رسائل وفتاوى، توفي سنة 1389 هـ
انظر: مقدمة الجزء الأول من فتاويه، وعلماء نجد 1/88(1/78)
: _ " إن الذين توقفوا في تكفير المعين، في الأشياء التي قد يخفى دليلها، فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة، فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر سواء فهم، أو قال: ما فهمت، أو فهم وأنكر، ليس كفر الكفار كله عن عناد وأما ما علم بالضرورة أن رسول الله جاء به وخالفه، فهذا يكفر بمجرد ذلك، ولا يحتاج إلى تعريف سواء في الأصول أو الفروع ما لم يكن حديث عهد بالاسلام.(1) "
3_ وإذا أردنا أن نتحدث عن الضابط في قيام الحجة على المعين، فيمكن القول بأن الأصل أنه لا تكفير للمعين إلا إذا كانت الحجة الرسالية قد بلغته، وقد يراد ببلوغ الحجة الرسالية مجرد البلوغ العام الذي تقوم به الحجة بأصل الدين الذي هو عبادة الله والتقرب إليه وحده والإتباع المجمل للشريعة، وقد يراد ببلوغ الحجة ما يتعلق بتفاصيل الحجة الرسالية، والإتباع المفصل للشريعة بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فلابد فيه _ لإقامة الحجة _ من الإبلاغ التفصيلي، فمن لم تبلغه حجة الله بشيء من تلك الأمور، لم يكن مكلفاً، فالحجة الرسالية على التفصيل شرط في التكليف.
وأما الإقرار بأصل الدين _ الشهادتين _ علماً وعملاً فهو كاف في قيام
__________________________________________________ ص (73)
الحجة في إستحقاق الله وحده للعبادة دون غيره، ومجمل الإتباع للشريعة(2).
__________
(1) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/74، وانظر فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء 1/528
(2) انظر للمزيد مكن التفصيل: رسالة ضوابط التكفير لعبد الله القرني ص 298 _ 326(1/79)
…وأما شرط قيام الحجة على الخلق " فالحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل، فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم أو ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه، كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله، كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً، وهذه أوقات الفترات. (1)"
4_ ومما يجدر ذكره هاهنا أن قيام الحجة يختلف بإختلاف الأحوال والأزمان والأشخاص، كما قال ابن القيم: " إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له.(2) "
5_ كما ينبغي أن يفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: _ " وأصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}[الفرقان، آية 44].
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 20/59، وانظر مجموع الفتاوى 19/71
(2) طريق الهجرتين ص 414(1/80)
وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها نوع آخر، فإن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قول صلى الله عليه وسلم في الخوارج: _ " أينما لقيتموهم فاقتلوهم.(1) " مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم
_________________________________________________ ص (74)
يفهموها.(2) "
ويقول أيضاً: " من المعلوم أن قيام الحجة ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قول تعالى: _ {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الإسراء، آية 46]وقوله: _ {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} [الأنفال، آية 22](3) "
ومقصود الشيخ الإمام من فهم الحجة _ ها هنا _ أي الفهم الذي يقتضي الإنتفاع والتوفيق والإهتداء، كما مثل له بفهم الصديق رضي الله عنه، وأما قيام الحجة فتقضي الإدراك وفهم الدلالة، والإرشاد، وإن لم يتحقق توفيق أو انتفاع، كما قال الله تعالى {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت، آية 17].
__________
(1) أخرجه البخاري، ك استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج . (12/283 ) ح ( 6931 ) ومسلم، ك الزكاة باب ذكر الخوارج، ( 2/741 ) ح ( 64، 1)
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ( الفتاوى ) 3/12،13 .
(3) الدرر السنية 8/79، وانظر كلام الشيخ عبد الله أبي بطين في الدرر السنية 8/213، 214، ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/515(1/81)
ومما يؤكد ذلك ما سطره تلميذه الشيخ حمد بن ناصر بن معمر(1) رحمه الله حيث قال: _ " وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهماً جلياً كما يفهمها من هداه الله ووفقه، وانقاد لأمره، فإن الكفار قد قامت عليه حجة الله مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه.(2) "
___________________________________________________ ص (75)
المبحث الرابع: تكفير المتأول
1_ يطلق التأويل على عدة معان: فيراد به الحقيقة والعاقبة، كما يطلق بمعنى التفسير والبيان، وأما معنى التأويل عند المتأخرين فهو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله اللفظ لدليل يقترن به مع قرينة مانعة من المعنى الحقيقي (3).
…والمقصود بالتأول ها هنا: التلبس والوقوع في الكفر من غير قصد لذلك، وسببه القصور في فهم الأدلة الشرعية، دون تعمد للمخالفة، بل قد يعتقد أنه على حق (4).
…يقول ابن حجر(5) في تعريف للتأويل السائغ: " قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب، وكان له وجه في العلم.(6) "
__________
(1) من كبار علماء نجد، تعلم في الدرعية، بعثه الإمام عبد العزيز الأول سنة 1211هـ إلى مكة ليناظر علماءها، وقد ظهر عليهم وأذعنوا لحجته، تولى القضاء، وله مؤلفات، توفي بمكة سنة 1225 هـ .
انظر: مشاهير علماء نجد ص 2، 2، علماء نجد 1/239 .
(2) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/638، وانظر تعليق محمد رشيد رضا في حاشية الصفحة السابقة، وانظر رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 344، 345 .
(3) انظر: رسالة الإكليل في المتشابه والتأويل لابن تيمية / مجموع الفتاوى 13/270_313 .
(4) انظر: رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 328، 346 .
(5) هو أبو الفضل أحمد بن على بن محمد الكناني العسقلاني، عاش بمصر، محدث، مؤرخ، وأديب، شاعر، له التصانيف النافعة توفي سنة 852 هـ
انظر: شذرات الذهب 7/270، والبدر الطالع 1/87
(6) فتح البارى 12/3،4(1/82)
…والتأويل السائغ والإعذار به له اعتبار في مسألة التكفير، بل في الوعيد عموماً ولذا يقول ابن تيمية: " إن الأحاديث المتضمنه للوعيد يجب العمل بها في مقتضاها، باعتقاد أن فاعل ذلك الفعل متوعد بذلك الوعيد، لكن لحوق الوعيد له متوقف على شروط، وله موانع.
وهذه القاعدة تظهر بأمثلة، منها أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه(1) " وصح عنه من غير وجه أنه قال لمن باع صاعين بصاع يداً بيد: " أوه عين الربا.(2) " كما قال: " البر بالبر
__________________________________________________ ص (76)
ربا، إلا هاء وهاء. (3)" الحديث، وهذا يوجب دخول نوعي الربا: ربا الفضل وربا النسيئة في الحديث.
ثم إن الذين بلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الربا في النسيئة(4) " فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع يداً بيد، مثل ابن عباس رضي الله عنه، وأصحابه... الذين هم من صفوة الأمة علماً وعملاً، لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحداً منهم بعينه، أو من قلده بحيث يجوز تقليده تبلغهم لعنة آكل الربا؛ لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلاً سائغاً في الجملة.(5) "
ويقول أيضاً: " وعمل السلف وجمهور الفقهاء بأن ما استباحه أهل البغي من دماء أهل العدل بتأويل سائغ لم يضمن بقود، ولا دية، ولا كفارة، وإن كان قتلهم وقتلهم محرما ً. (6)"
ويقول ابن تيمية _ في موضع ثالث _:
__________
(1) أخرجه مسلم، ك المساقاة ح (1598) وأحمد 3 / 3،4
(2) أخرجه البخارى، كتاب الوكالة ح (2312 )، ومسلم، كتاب المساقاة ح ( 1594)
(3) أخرجه البخاري، كتاب البيوع ح (2134)، ومسلم، كتاب المساقاة ح ( 1586 )
(4) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة ح (1596)
(5) مجموع الفتاوى 20/263= باختصار يسير، وقد أطنب ابن تيمية في ذكر أمثلة عديدة
انظر مجموع الفتاوى 20/264 _ 268، والاستقامة 2/189
(6) 10) مجموع الفتاوى 20/254(1/83)
" والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً.(1)"
ويقرر ابن حزم العذر بمثل هذا التأويل قائلاً: -
" ومن بلغه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طريق ثابتة، وهو مسلم، فتأول في خلافه إياه، أو ردّ ما بلغه بنص آخر، فما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ، فهو مأجور معذور، لقصده إلى الحق، وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك، فعاند، فلا تأويل بعد قيام
__________________________________________________ ص (77)
الحجة.(2) "
كما يقرر ذلك ابن الوزير حيث يقول: _ قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: _ {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل، آية 106]، ويؤيد أن المتأولين غير كفار؛ لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعاً، أو ظناً، أو تجويزاً، أو احتمالاً.(3) "
ويعلق الشوكاني(4)
__________
(1) 11) مجموع الفتاوى 3/231 وانظر 3/283، 12/523 .
(2) الدرة ص 414، وانظر الفصل 3/296، 297
(3) إيثار الحق على الخلق ص 437
(4) هو محمد بن على الشوكاني، الصنعاني، مفسر، محدث، فقيه، أصولي، ولد سنة 1173 هـ، له مصنفات كثيرة، توفي بصنعاء سنة 1250 هـ
انظر: _ نيل الأوطار 2/297، البدر الطالع 2/214(1/84)
على عبارة صاحب كتاب " الأزهار(1): " والمرتد بأي وجه.. كفر " فيقول: _ أراد المصنف إدخال كفار التاويل اصطلاحاً في مسمى الردة، وهذه زلة قدم يقال عندها لليدين وللفم، وعثرة لا تقال، وهفوة لا تغتفر، ولو صح هذا لكان غالب من على ظهر البسيطة من المسلمين مرتدين.(2) "
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: _
" إن المتأولين من أهل القبلة الذين ضلوا وأخطأوا في فهم ما جاء في الكتاب والسنة، مع إيمانهم بالرسول واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله كان حقاً والتزموا ذلك، لكنهم أخطأوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية، فهؤلاء قد دل الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم من أئمة السلف على ذلك.(3) "
2_ إذا ظهر أن التأويل عذر في المسألة التكفير، فإن هذا لا يعني أن كل من ادعى التأول فهو معذور بإطلاق، بل يشترط في ذلك التأويل أن لا يكون في أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وقبول شريعته؛ لأن هذا الأصل
___________________________________________________ ص (77)
(الشهادتين) لا يمكن تحقيقه مع حصول الشبهة فيه، ولهذا أجمع العلماء على كفر الباطنية _ مثلاً _ وأنهم لا يعذرون بالتأويل؛ لأن حقيقة مذهبهم الكفر بالله تعالى، وعدم عبادة الله وحده، وإسقاط شرائع الاسلام(4).
__________
(1) كتاب الأزهار في فقه الزيدية، وعنوانه كاملاً: _ الأزهار في فقه الأئمة الأخيار " ومؤلفه: أحمد بن يحيي المهدي المتوفي سنة 840 هـ، انظر الأعلام 1/269 .
(2) السيل الجرار 4/373، وانظر أيضاً 4/576 .
(3) الإرشاد في معرفة الأحكام ص 207 .
(4) انظر رسالة ضوابط التكفير ص 369، وانظر فتوى شيخ الاسلام ابن تيمية في شأن الباطنية 35/161، 162 .(1/85)
ومن ثم فليس كل التأويل يعتبرا سائغاً أو عذراً مقبولاً، فهناك من التأويل ما يعتبر سائغاً، ومنه ما ليس كذلك، فلابد من مراعاة ذلك، وعدم الخلط بينهما.
يقول قوام السنة إسماعيل الأصفهاني: -
" المتأول إذا أخطأ وكان من أهل عقد الإيمان، نظر في تأويله، فإن كان قد تعلق بأمر يفضي به إلى خلاف بعض كتاب الله أو سنة يقطع بها العذر، أو إجماع فإنه يكفر ولا يعذر؛ لأن الشبهة التي يتعلق بها من هذا ضعيفة لا يقوى قوة يعذر بها؛ لأن ما شهد له أصل من هذه الأصول، فإنه في غاية الوضوح والبيان، فلما كان صاحب هذه المقالة لا يصعب عليه درك الحق، ولا يغمض عنده بعض موضع الحجة لم يعذر في الذهاب عن الحق، بل عمل خلافه في ذلك على أنه عناد وإصرار، ومن تعمد خلاف أصل من هذه الأصول، وكان جاهلاً لم يقصد إليه من طريق العناد فإنه لا يكفر؛ لأنه لم يقصد اختيار الكفر، ولا رضي به، وقد بلغ جهده، فلم يقع له غيره ذلك، وقد أعلم الله سبحانه أنه لا يؤاخذ إلا بعد البيان، ولا يعاقب إلا بعد الإنذار فقال تعالى: _ {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة، آية 115]. فكل من هداه الله عز وجل، ودخل في عقد الإسلام، فإنه لا يخرج إلى الكفر إلا بعد البيان.(1) "
ويقول ابن حزم: _ " وأما من كان من غير أهل الإسلام من نصراني أو يهودي أو مجوسي، أو سائر الملل، أو الباطنية القائلين بإلهية إنسان من الناس، أو بنوة أحد من الناس، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعذرون بتأويل أصلاً، بل هم كفار مشركون على كل حال.(2) "
ويذكر أبو حامد الغزالي التأويل الغير سائغ ومثاله فيقول: _
___________________________________________________ص (79)
__________
(1) الحجة في بيان المحجة 2/510، 511
(2) الدرة لابن حزم ص 441 وانظر ص 414(1/86)
" ولابد من التنبيه على قاعدة وهو أن المخالف قد يخالف نصاً متواتراً، ويزعم أنه مؤول، مثاله:ما في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها، وعالم بمعنى أنه يعطى العلم لغيره ويخلقه، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره، وأما أن يكون واحداً في نفسه، وموجوداً، وعالماً على معنى اتصافه فلا، وهذا كفر صراح؛ لأن حمل الوحدة على اتحاد الوحدة (1)ليس من التأويل في شيء، ولا تحتمله لغة العرب أصلاً... فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عبر عنها بالتأويلات.(2) "
كما يورد ابن الوزير أمثلة للتأويل المردود، مما لا يمكن أن يكون عذراً لمن تلبس به فيقول: " لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله، كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار.(3) "
__________
(1) لعلها: إعطاء
(2) فيصل التفرقة ص 147
(3) إيثار الحق على الخلق ص 415 وانظر ص 129، والعواصم لابن الوزير 4/177(1/87)
ويقول السعدي موضحاً تباين أهل البدع ممن تلبس بتأويل وشبهة: - " هؤلاء المبتدعة المخالفون لما ثبتت به النصوص الصريحة والصحيحة، أنهم في هذا الباب أنواع، من كان منهم عارفاً بأن بدعته مخالفة للكتاب والسنة فتبعها ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهره، وشاق الله ورسوله من بعد ما تبين له الحق، فهذا لا شك في تكفيره، ومن كان منهم راضياً ببدعته معرضاً عن طلب الأدلة الشرعية، وطلب ما يجب عليه من العلم الفارق بين الحق والباطل ناصراً لها، راداً ما جاء به الكتاب والسنة مع جهله وضلاله، واعتقاده أنه على الحق، فهذا ظالم فاسق بحسب تركه ما أوجب الله عليه، وتجرئه على ما حرم الله تعالى ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم من هو حريص على اتباع الحق واجتهد في ذلك، ولم يتيسر له من يبين له ذلك فأقام على ما هو عليه، ظاناً أنه صواب من القول، غير متجرىء على أهل الحق بقوله، ولا فعله، فهذا ربما كان مغفوراً له خطؤه والله أعلم.(1) "
__________________________________________________ ص (80)
ثم يكشف السعدي الفرق بين أهل التأويل السائغ وغيرهم فيقول: _
" والمقصود أنه لا بد من هذا الملحظ في هذا المقام؛ لأنه وجد بعض التفاصيل التي كفر أهل العلم فيها من اتصف بها، وثم أخر من جنسها لم يكفروه بها، والفرق بين الأمرين أن التي جزموا بكفره بها لعدم التأويل المسوغ وعدم الشبهة المقيمة لبعض العذر، والتي فصلوا فيها القول، لكثرة التأويلات الواقعة فيها.(2) "
__________
(1) الإرشاد في معرفة الأحكام ص 209، ولمعرفة أقوال العلماء _ تفصيلاً . في الحكم على المتأولين انظر الشفا لعياض 2/1051 _ 1065 .
(2) المرجع السابق / نفس الصفحة(1/88)
3_ وإذا تقرر ما سبق ذكره، فإن مما يلحق بهذا المبحث مسألة التكفير بما يؤول ويرجع إليه القول (التكفير بالمآل)، والمقصود به أن يقول قولاً يؤديه سياقه إلى كفر، وهو إذا وقف عليه لا يقول بما يؤديه قوله إليه، كحال بعض أهل البدع والمتأولين(1).
يقول ابن رشد الحفيد(2): _ " ومعنى التكفير بالمآل: أنهم لا يصرحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم.(3) "
وقد بين أهل العلم هذه المسألة، ومن ذلك ما ذكره القاضي عياض حيث قال عند ذكره للمعطلة: _
" فأما من أثبت الوصف، ونفى الصفة فقال: أقول: عالم ولكن لا علم له، ومتكلم ولكن لا كلام له، وهكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزلة، فمن قال بالمآل لما يؤديه إليه قوله، ويسوقه إليه مذهبه كفره، لأنه إذا نفى العلم انتفى وصف عالم، إذ لا يوصف بعالم إلا من له علم، فكأنهم صرحوا عنده بما أدى إليه قولهم.
__________________________________________________ ص (81)
ومن لم ير أخذهم بمآل قولهم، ولا ألزمهم موجب مذهبهم، لم ير إكفارهم، قال: لأنهم إذا وقفوا على هذا، قالوا: لا نقول ليس بعالم، ونحن ننتفي من القول بالمآل الذي ألزمتموه لنا، ونعتقد نحن وأنتم أنه كفر، بل نقول: إن قولنا لا يؤول إليه على ما أصلناه فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل، وإذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك.
__________
(1) انظر الشفا 2/1056
(2) أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، الفيلسوف، اهتم بالطب والفقه، له تصانيف كثيرة، تولى القضاء، توفي بمراكش سنة 595هـ
انظر: سير أعلام النبلاء 21/307، والديباج المذهب 2/257
(3) بداية المجتهد 2/492 .(1/89)
و الصواب: ترك إكفارهم والإعراض عن الحتم عليهم بالخسران، وإجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم، ووراثاتهم، ومناكحتهم، ودياتهم، والصلاة عليهم، ولكنهم يغلظ عليهم بوجيع الأدب، وشديد الزجر والهجر، حتى يرجعوا عن بدعتهم.(1) "
ويبطل ابن حزم الكفر بالمآل فيقول: _
" وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفراً، بل قد أحسن إذ قد فر من الكفر.(2) "
_ إلى أن قال _ " فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله، ونص معتقده، ولا ينفع أحد أن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به قبحه، لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط.(3) "
كما ينفي الشاطبي الكفر بالمآل فيقول: _
" والذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب المحققين من أهل الأصول " إن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال " كيف والكافر ينكر ذلك المآل أشد الإنكار، ويرمي مخالفه به.(4) "
4_ ومما هو قريب من مسألة التكفير بالمآل ما يسمى بالتكفير بلازم القول(5).
_________________________________________________ ص (82)
ومعنى اللازم: ما يمتنع إنفكاكه عن الشيء، وقد يكون هذا اللازم بيناً، وهو الذي يكفي تصوره مع تصور ملزومه في جزم العقل باللزوم بينهما. وقد يكون غير بين، وهو الذي يفتقر جزم الذهن باللزوم بينهما إلى وسط(6).
إن التكفير بلازم القول مطلقاً قد أورث في الأمة تفرقاً واختلافاً... وكما قال الإمام الذهبي (7)
__________
(1) الشفا 2/1084 _ 1086
(2) الفصل 3/294 .
(3) الفصل 3/294
(4) الاعتصام 2/197
(5) أطلق ابن الوزير على مسألة التكفير بالمآل: التكفير بالإلزام، انظر العواصم والقواصم 4/367 .
(6) انظر التعريفات للجرجاني ص 190
(7) هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الامام، الحافظ، المؤرخ ولد سنة 673 هـ بدمشق، له رحلات في طلب العلم، وصاحب مؤلفات كثيرة، وتوفي بدمشق سنة 748 هـ .
انظر: _ طبقات الشافعية 9/100، والبدر الطالع 2/110(1/90)
_ رحمه الله _: _
" لا ريب أن بعض علماء النظر بالغوا في النفي، والرد والتحريف والتنزيه بزعمهم حتى وقعوا في بدعة، أو نعت الباري بنعوت المعدوم.
كما أن جماعة من علماء الأثر، بالغوا في الإثبات(1)، وقبول الضعيف والمنكر ولهجوا بالسنة والإتباع. فحصل الشغب ووقعت البغضاء، وبدع هذا هذا، وكفر هذا هذا ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نكفر مسلماً موحداً بلازم قوله، وهو يفر من ذلك اللازم، وينزه ويعظم الرب.(2) "
وقد بين العلماء هذه المسألة وأحوالها، وسنورد جملة من كلامهم في ذلك على النحو التالي: _ سئل ابن تيمية: هل لازم المذهب مذهب أم لا؟ فكان من جوابه ما يلي:
" الصواب أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه، كانت إضافته إليه كذباً عليه، بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال. ولو كان لازم المذهب مذهباً للزم تكفير كل من قال عن الاستواء وغيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه وصفاته حقيقة.(3) "
__________________________________________________ ص (83)
ويقول في موضع آخر: _ " لازم قول الإنسان نوعان: _
أحدهما: _ " لازم قوله الحق، فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه، فإن لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.
__________
(1) عفا الله عن الإمام الذهبي، فلو سلمنا بأن بعض علماء الأثر بالغوا في الإثبات، فلا يسوى هؤلاء العلماء بأولئك المتكلمين كما يفهم من عبارة الذهبي .
(2) الرد الوافر لابن ناصر الدين ص 48 .
(3) مجموع الفتاوى 20/217 .(1/91)
والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه، إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض، وقد بينت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين، ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له، فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول، لو ظهر له فساده لم يلتزمه، لكونه قد قال ما يلزمه، وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه.
وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب: هل هو مذهب أو ليس بمذهب؟ هو أجود من إطلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله، وما لا يرضاه فليس قوله.(1) "
وقال الشاطبي: _ ((ولازم المذهب: هل هو مذهب أم لا؟ هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضاً أن لازم المذهب ليس بمذهب، فلذلك إذا قرر عليه، أنكره غاية الإنكار.(2))
وأورد السخاوي(3) مقالة شيخه ابن حجر حيث قال: " والذي يظهر أن الذي يحكم عليه بالكفر من كان الكفر صريح قوله، وكذا من كان لازم قوله وعرض عليه فالتزمه.. أما من لم يلتزمه وناضل عنه فإنه لا يكون كافراً ولو كان اللازم كفراً. (4)"
____________________________________________________ ص (84)
__________
(1) القواعد النورانية ص 129،128، وانظر مجموع الفتاوى 5/306، 477، وشرح نونية ابن القيم لابن عيسى 2/394، 395 .
(2) الاعتصام 2/549
(3) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن السخاوي، الشافعي، فقيه، مقرىء، محدث، مؤرخ ولد بالقاهرة سنة 831 هـ، وله مؤلفات كثيرة، توفي بالمدينة سنة 907 هـ
انظر: شذرات الذهب 8/15، والبدر الطالع 2/184
(4) فتح المغيث 1/334، وانظر العلم الشامخ للمقبلي ص 412(1/92)
وذكر الشيخ السعدي تحقيقه في هذه المسأله قائلاً: _ " والتحقيق الذي يدل عليه الدليل أن لازم المذهب الذي لم يصرح به صاحبه ولم يشر إليه، ولم يلتزمه ليس مذهباً؛ لأن القائل غير معصوم، وعلم المخلوق مهما بلغ فإنه قاصر، فبأي برهان نلزم القائل بما لم يلتزمه. ونقوله ما لم يقله، ولكننا نستدل بفساد اللازم على فساد الملزوم، فإن لوازم الأقوال من جملة الأدلة على صحتها وضعفها وعلى فسادها، فإن الحق لازمه حق، والباطل يكون له لوازم تناسبه، فيستدل بفساد اللازم _ خصوصاً اللازم الذي يعترف القائل بفساده _ على فساد الملزوم.(1) "
وخلاصة ما سبق أن يقال: أن لازم أقوال المذاهب والعلماء له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يذكر اللازم للقائل، ويلتزم به فهو يعد قولاً له.
الحالة الثانية: أن يذكر له اللازم، ويمنع التلازم بينه وبين قوله، فهذا ليس قولاً له، بل إن إضافته إليه كذب عليه.
الحالة الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتاً عنه؛ فلا يذكر بالتزام، ولا منع، فحكمه في هذه الحال أن لا ينسب إلى القائل، لأنه يحتمل لو ذكر له أن يلتزم به أو يمنع التلازم، ويحتمل لو ذكر فتبين له لزومه وبطلانه أن يرجع عن قوله(2).
__________
(1) توضيح الكافية الشافية ص 113
(2) انظر القواعد المثلى في صفات الله سبحانه وتعالى وأسمائه الحسنى لمحمد بن عثيمين ص 15 .(1/93)
وبهذا يعلم أنه لا يصح التكفير بلازم المذهب بإطلاق، خاصة إذا كان من تلبس به ينفي ذلك اللازم وينكره، أو كان يجهله، أو يغفل عنه، والله أعلم (1).
____________________________________________________ص (85)
المبحث الخامس
اعتبار المقاصد في نواقض الإيمان
1_ إن مما ينبغي مراعاته في موضوع نواقض الإيمان: _ مسألة اعتبار المقاصد، فينظر إلى قصد ومراد من قد يكون متلبساً بكفر، مع النظر _ في نفس الوقت _ إلى ما ظهر منه من قول أو فعل، فهناك ارتباط وتلازم بين الباطن (القصد) والظاهر _ كما سبق في المبحث الأول _
و مما أورده ابن تيمية في اعتبار المقاصد قوله: _
__________
(1) ذكر المقبلي حكايات لبعضهم، تضمنت التكفير بإلزامات متكلفة، فذكر أن بعض الناس منع أحد هؤلاء المتفقهة نعله، فقل ذاك الفقيه: _ كفرت ؛ لأنك هونت العلماء، وهو تهوين للشريعة، ثم للرسول، ثم المرسل . وفعل بعضهم شيئاً من منكرات الدولة، فقال المظلوم: _ هذا ظلم وحاشا السلطان من الأمر والرضى به، فقال: _ أنا خادم الدولة المنتمية إلى السلطان، فقد نسبت الظلم إلى السلطان، فهونت ما عظمت الشريعة من أمر السلطان فكفرت، فأخذوه وجاؤا به إلى القاضي، وحكم عليه بالردة، ثم جدد إسلامه وفعل ما يترتب على ذلك !!
انظر: العلم الشامخ ص 413(1/94)
…" ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم " من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي(1) " قال له سعد بن معاذ " أنا أعذرك، إن كان من الأوس ضربت عنقه.. " والقصة مشهورة فلما لم ينكر ذلك عليه، دل على أن من آذي النبي صلى الله عليه وسلم وتنقصه يجوز ضرب عنقه، والفرق بين ابن أبيّ وغيره ممن تكلم في شأن عائشة، أنه كان يقصد بالكلام فيها عيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن عليه، وإلحاق العار به، ويتكلم بكلام ينتقصه به، فلذلك قالوا: _ نقتله، بخلاف حسان ومسطح وحمنة، فإنهم لم يقصدوا ذلك، ولم يتكلموا بما يدل على ذلك، ولهذا إنما استعذر النبي صلى الله عليه وسلم من ابن أبيّ دون غيره...(2) "
ويقول أيضاً: _
" فإن سب موصوفاً بوصف أو مسمى باسم، وذلك يقع على الله سبحانه، أو بعض رسله خصوصاً أو عموماً، ولكن قد ظهر أنه لم يقصد ذلك، إما لاعتقاده أن الوصف أو الاسم لا يقع عليه، أو لأنه وإن كان يعتقد وقوعه عليه، لكن ظهر أنه لم يرده لكون الاسم في الغالب لا يقصد به ذلك بل غيره، فهذا القول وشبهه حرام في الجملة، يستتاب صاحبه منه إن لم يعلم أنه حرام، ويعزر مع العلم تعزيزاً بليغاً لكن لا يكفر بذلك ولا يقتل، وإن كان يخاف عليه الكفر.(3) "
__________________________________________________ ص (86)
__________
(1) أخرجه البخاري، ك التفسير، باب " لولا إذ سمعتموه ( 8/453 ) ح ( 4750 ) ومسلم، ك التوبة، باب في حديث الإفك (4/2129) ح (2770 )
(2) الصارم المسلول ص 179، 180، وانظر ص 58، 59
(3) المرجع السابق ص 562 وانظر ص 495 .(1/95)
ويقول في موضع ثالث: _ " إن المسلم إذا عنى معنى صحيحاً في حق الله تعالى، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن خبيراً بدلالة الألفاظ، فأطلق لفظاً يظنه دالاً على ذلك المعنى، وكان دالاً عل غيره أنه لا يكفر... وقد قال تعالى: _ {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} [البقرة، آية 104] وهذه العبارة كانت مما يقصد به اليهود إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون لم يقصدوا ذلك فنهاهم الله تعالى عنها، ولم يكفرهم بها.(1) "
…ولما تحدث السبكي عن مسألة إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بقول أو نحوه، قال: _ " لكن الأذى على قسمين أحدهما: _ يكون فاعله قاصداً لأذى النبي صلى الله عليه وسلم، ولاشك أن هذا يقتضي القتل، وهذا كأذى عبد الله بن أبي في قصة الأفك، والآخر أن لا يكون فاعله قاصداً لأذى النبي صلى الله عليه وسلم مثل كلام مسطح وحمنة في الإفك، فهذا لا يقتضي قتلاً.
ومن الدليل على أن الأذي لابد أن يكون مقصوداً قول الله تعالى: _ {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب، آية 53]. فهذه الآية في ناس صالحين من الصحابة، لم يقتض ذلك الأذى كفراً، وكل معصية ففعلها مؤذي، ومع ذلك فليس بكفر، فالتفصيل في الأذى الذي ذكرناه يتعين.(2) "
2 _ وإذا أشرنا إلى مسألة اعتبار المقاصد في موضوع نواقض الإيمان، فإن هذه المسألة لا تنفك عن مسألة الإرتباط والتلازم بين الظاهر والباطن.
__________
(1) الرد على البكري ص 341، 342، وانظر أعلام الموقعين لابن القيم 3/110
(2) فتاوى السبكي 2/591، 592، وانظر الفروق للقرافي 4/118، 119(1/96)
يقول ابن تيمية موضحاً هذا التلازم: _ " إذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة، كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان، فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً وجود هذا كاملاً، كما لزم من نقص هذا، نقص هذا، إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل، كتقدير موجب بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع. (1)"
________________________________________________ ص (87)
ويقول أيضاً: _ ‘ن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وإن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزءً من الإيمان.(2) "
كما يقرر أن الإيمان القلبي {لما كان له موجبات في الظاهر، فإن الظاهر دليل على إيمان القلب ثبوتاً وانتفاء، كقوله تعالى: _ {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة، آية 22]، وقوله عز وجل {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} [المائدة، آية 81.](3) "
ويقول الشاطبي من هذه المسألة: _ " الأعمال الظاهرة في الشرع دليل على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرما ً، حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه، وسائر الأحكام العاديات، والتجريبيات، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً.(4) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/582 .
(2) مجموع الفتاوى 7/616، وانظر: _ 7/621
(3) شرح الأصفهانية ص 142 .
(4) الموافقات 1/233(1/97)
وهذا التلازم بين الظاهر والباطن، ليس تلازماً بإطلاق، فقد لا يكون العمل الظاهر مستلزماً لإيمان القلب (الباطن) حقيقة، كما هو الشأن في حال المنافقين، ومن ثم فيتعين عدم الخلط بين أحكام الدنيا، وأحكام الآخرة... فالمنافق _ مثلاً _ في أحكام الدين تجري عليه أحكام أهل الإسلام الظاهرة، وإن كان في الحقيقة _ وفي الحكم الأخروي _من الكافرين، وفي الدرك الأسفل من النار، وإليك أقوال أهل العلم في هذه المسألة على النحو التالي: _
يقول الإمام الشافعي: _ وإنما كلف العباد الحكم على الظاهر من القول والفعل، وتولى الله الثواب على السرائر دون خلقه، وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: _ {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ {1}اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون، آية 1، 2](1) "
__________________________________________________ ص (88)
ثم قال: _ " وأحكام الله ورسوله تدل على أنه ليس لأحد أن يحكم على أحد إلا بظاهر، والظاهر ما أقر به، أو قامت به بينة تثبت عليه.(2) "
__________
(1) الأم 1/259
(2) الأم 1/ 260(1/98)
ويقول أيضاً: _ أخبر عز وجل عن المنافقين بالكفر، وحكم فيهم بعلمه من أسرار خلقه ما لا يعلمه غيره بأنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم كاذبون بأيمانهم، وحكم فيهم جلّ ثناءه في الدنيا بأن ما أظهروا من الإيمان، وإن كانوا به كاذبين لهم جنة من القتل، وهم المسرون الكفر المظهرون الإيمان وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم – إذ حقن الله تعالى دماء من أظهر الإيمان بعد الكفر – أن لهم حكم المسلمين من الموارثة والمناكحة وغير ذلك من أحكام المسلمين، فكان بيّنا في حكم الله عز وجل في المنافقين، ثم حكم رسول الله صلى الله عيه وسلم أن ليس لأحد أن يحكم على أحد بخلاف ما أظهر من نفسه، وأن الله عز وجل إنما جعل للعباد الحكم على ما أظهر، لأن أحداً لا يعرف ما غاب إلا ما علمه الله عز وجل.(1) "
ويقول ابن تيميه:- " إن كثيراً من الفقهاء يظن أن من قيل هو كافر، فإنه يجب أن تجرى عليه أحكام المرتد ردةً ظاهرة، فلا يرث ولا يورث، ولا يناكح... وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا " ثلاث أصناف " مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر، وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات، بل من لا يشكون في نفاقه، ومن نزل القرآن ببيان نفاقه – كابن أبيّ وأمثاله – ومع هذا فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات له ميت، آتوهم ميراثه، وكانت تعصم دماءهم، حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته. (2)
ويقول أيضاً:- " وبالجملة فأصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان:-
كفر ظاهر وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم " الكفار، وأما في أحكام الدنيا فقد تجري علي المنافق أحكام المسلمين.(3) "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 89
__________
(1) الأم 6 /157، وانظر 6/ 165، وانظر الشفا لعياض 2/ 540، 961
(2) مجموع الفتاوى 7/617
(3) مجموع الفتاوى 7 / 620، 621(1/99)
ولما عرض ابن تيمية مسألة الحكم على أولاد الكفار أقوال العلماء فيها قال بعد ذلك: _
" ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة: _اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة، فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا، مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم، وحضانة آبائهم لهم، وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم، والموارثة بينهم وبين آبائهم، واسترقاقهم إذا كان آباؤهم محاربين.و غير ذلك، صار من يظن أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به فإذا عرف أن كونهم ولدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعاً لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة.
وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه من لا يعلم المسلمون حاله، إذا قاتلوا الكفار، فيقتلونه، ولا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين، وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة، كما أن المنافقين تجري عليهم أحكام المسلمين، وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، فحكم الدار الآخرة غير حكم الدار الدنيا.(1) "
ويقول الشاطبي _ رحمه الله: _ " إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً أيضاً، فإن سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي، يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه.(2) "
ويقول الحافظ ابن حجر: _
" وقوله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) (3)وهو عام يخص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر فإنه تجرى عليه أحكام الظاهر.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 8/432، 433 .
(2) الموافقات 2/271، وانظر الاعتصام 2/196، وأعلام الموقعين لابن القيم 3/128
(3) أخرجه البخاري، ك استتابة المرتدين، باب حكم المرتد والمرتدة، ( 12/267 ) ح (6922) وأحمد 1/282(1/100)
_ ثم قال: _ وإظهار الإيمان يحصن من القتل، وكلهم أجمعوا على أن
__________________________________________________ ص (90)
أحكام الدنيا على الظاهر، والله يتولى السرائر، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأسامة:- " هل شققت عن قلبه.(1) " وقال للذي ساره في قتل رجل: " أليس يصلي؟: قال:- نعم، قال " أولئك الذين نهيت عن قتلهم ".(2) "
3- وإذا تقرر ما سبق، فإن القصد (الباطن) مع الظاهر في مسألة التكفير، له أحوال متنوعة، فقد يكون القصد مكفراً دون أن يدل عليه العمل الظاهر، ومرة يكون العمل الظاهر قاطعاًً في كفر الباطن، ومرة ثالثة يتلبس المعين بما هو كفر قطعاً لكن يمنع من تكفيره الإحتمال في قصده(3)، وحالة رابعة حيث يأتي المعين بقول مجمل، أو فعل مشكل يحصل التردد في قصده ومراده، مما يوقع تردداً وتوقفاً وإختلافاً بين العلماء في تكفيره (4).
فمثال الحاله الأولى التى يكون فيها القصد مكفراً، لكن لايدل عليه العمل الظاهر، فمثل أعمال المنافقين التي هى في الظاهر طاعات، مع أنهم كفار حقيقة، لعدم إخلاصهم لله تعالى، قال تعالى:- {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة، آية 8]، وإن كانوا في الظاهر تجري عليهم أحكام الإسلام – كما سبق -، ومثال الحاله الثانية التي يكون فيها العمل الظاهر قاطعاً في كفر الباطن فمثل سب الله تعالى، وسب رسوله صلى الله عليه وسلم ونحوها؛ لأن هذا السب لنفس الأمر كفر بذاته؛ ولا يقع من مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا يقول ابن تيمية: _
__________
(1) أخرجه مسلم، ك الإيمان، (1/97 )، ح(158)
(2) فتح الباري 12/272، 273
(3) انظر هذه الحالات الثلاث تفصيلاً في رسالة ضوابط التكفير ص 274 _ 297
(4) انظر هذه الحالة تفصيلاً في الشفا 2/978 _ 985(1/101)
" إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل(1) "
ويقول أيضاً: _ " لو أخذ يلقي المصحف في الحش، ويقول أشهد أن ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبياً من الأنبياء، ويقول أشهد أنه رسول الله، ونحو ذلك
__________________________________________________ ص (91)
من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذباً فيما أظهره من القول.(2) "
ومثال الحالة الثالثة والتي يقوم بالمعين ما هو كفر قطعاً، لكن يمنع من تكفيره الاحتمال في قصده، ما جاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: _ " كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: _ إذ أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فلما مات، فعل به ذلك، فأمر الله والأرض فقال: _ اجمعني ما فيك منه، ففعلت فإذا هو قائم، فقال: _ ما حملك على ما صنعت؟ قال: _ يارب خشيتك، فغفر له.(3) "
ففي هذا الحديث _ وقد سبق ذكره _ نجد أن هذا الرجل قد شك في قدرة الله تعالى، وبعث الأجساد وهذا كفر بالاتفاق، لكن الله تعالى قد غفر له حيث كان مؤمناً واليوم الآخر _ على سبيل الإجمال _ والذي حمله على فعله هو جهله، وخشيته من الله عز وجل.
__________
(1) الصارم المسلول ص 512
(2) مجموع الفتاوى 7/616، وانظر شرح الأصفهانية ص 142، وأعلام الموقعين لابن القيم 3/107
(3) سبق تخريجه ص 63 .(1/102)
ومثال الحالة الرابعة حيث يتلبس المعين بقبول مجمل أو فعل مشكل يحصل التردد في قصده ومراده، ما أورده القاضي عياض حيث قال: _ " وقد اختلف أئمتنا في رجل أغضبه غريمه، فقال له: _ صل على النبي محمد، فقال له الطالب: _ لا صلى الله على من صلى عليه، فقيل لسحنون: _ هل هو كمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم، أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه، قال: _ لا، إذا كان على ما وصفت من الغضب؛ لأنه لم يكن مضمراً الشتم.
وقال أبو إسحاق البرقي، وأصبغ بن الفرج: _ لا يقتل، لأنه إنما شتم الناس، وهذا نحو قول سحنون؛ لأنه لم يعذره بالغضب في شتم النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لما احتمل الكلام عنده، ولم تكن معه قرينة على شتم النبي صلى الله عليه وسلم، أو شتم الملائكة صلوات الله عليهم، ولا مقدمة يحمل عليها
__________________________________________________ ص (92)
كلامه، بل القرينة تدل على أن مراده الناس غير هؤلاء، لأجل قول الآخر له: _
صل على النبي، فحمل قوله وسبه لمن يصلي عليه الآن لأجل أمر الآخر له بهذا عند غضبه.
وذهب الحارث بن مسكين القاضي وغيره في مثل هذا إلى القتل. (1)"
__________________________________________________ ص (93)
الباب الأول
نواقض الإيمان القولية
____________________________________ ص (94)
نواقض الإيمان القولية
قد تقرر أن الكفر قول وعمل، فقد يكون الكفر قولاً ظاهراً باللسان، ولم يختلف أهل العلم بأن في القرآن التسمية بالكفر، والحكم بالكفر على من نطق بأقوال معلومة.(2)
فمن ذلك ما جاء في قوله تعالى: _ {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة، آية 73]وقد غلا قوم إزاء تلك النواقض القولية، فلم يعتدوا بعوارض الأهلية التي اعتبرها الشارع كالخطأ والجهل ونحوهما.
__________
(1) الشفا 2/979، 980، وانظر إعلام الموقعين لابن القيم 3/108
(2) انظر المحلى لابن حزم 13/498(1/103)
و منهم من كفر بلوازم الأقوال وما تؤول إليه، وإن كان المخالف ينكر ذلك اللازم، وفي هذا يقول ابن الوزير: _
" ومن أقبح التكفير ما كان منه مستنداً إلى وجه ينكره المخالف من أهل المذهب مثل تكفير الأشعرية(1) بالجبر الخالص الذي هو قول الجهمية الجبرية وهو ينكرونه والله تعالى يقول: _ {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء، آية 94].(2) " وفي المقابل نجد آخرين قد تساهلوا وفرطوا، فعلقوا تلك النواقض بالاستحلال القلبي الذي لا يمكن الإطلاع عليه، وجعلوا تلك النواقض مجرد علامات على الكفر.
فسب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً ليس كفراً إلا إذا استحل ذلك! وتمادى بعضهم فزعم أن من نطق بصريح الكفر عالماً بذلك فإنه لا يكفر حتى يعتقد الكفر، فلم يكفروا النصارى القائلين إن الله ثالث ثلاثة _ ومع نص القرآن على كفرهم _ إلا بشرط أن يعتقدوا ذلك مع القول.(3)
________________________________________________________ص (95)
وسأورد في هذا الباب جملة من النواقض القولية راجياً من الله تعالى وحده التسديد والتوفيق، دون إفراط أو تفريط.
__________
(1) الأشاعرة: _ فرقة كبيرة تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري ( ت 324 هـ )، وهم من أهل الإثبات مع تعطيل في الصفات، وإرجاء في الإيمان، واضطراب في باب القدر والنبوات . . . إلخ .
انظر: _ الملل والنحل 1/94، وأصول الدين لعبد القاهر البغدادي .
(2) إيثار الحق على الخلق ص 418 .
(3) انظر تفصيلاً لذلك في المرجع السابق ص 418، 419، 437، 438(1/104)
وابتداء نذكر بضرورة مراعاة ما سبق ذكره من ضوابط للتكفير، وننبه إلى أن القول المطلق يشمل قول اللسان، وقول القلب(1)، فالأقوال التي توجب الكفر أن تظهر مطابقة القصد للفظ(2)، فتكون عن اعتقاد، أو تعمد،أو استهزاء أو عناد(3).
وعند ظهور لفظ الكفر فلا يحتاج فيه إلى نية، ولا نظر لاعتقاد(4)، كما قال تعالى: _ {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 66/67].
فأخبر سبحانه وتعالى أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا من غير اعتقاد بل كنا نخوض ونلعب(5). ولذا يقول ابن نجيم: _ " إن من تكلم بكلمة الكفر هازلاً، أو لاعباً كفر عند الكل ولا اعتبار باعتقاده.(6) "
_________________________________________________ ص (96)
الفصل الأول: نواقض الإيمان القولية في التوحيد
المبحث الأول: نواقض الإيمان القولية
في توحيد الربوبية
1_ في مطلع هذا المبحث، نذكر بمفهوم توحيد الربوبية ومعناه: _ وهو الاعتقاد بأن الله سبحانه هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير،و أنه المحيي المميت النافع الضار، المتفرد بإجابة الدعاء عند الضراء، فهو سبحانه وتعالى المتفرد بربوبية خلقه إيجاداً وإمداداً، وخلقاً، وتدبيراً.
وكما يقول ابن القيم في بيان معنى هذا التوحيد: _
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/505 .
(2) انظر إعلام الموقعين 3/107 .
(3) انظر روضة الطالبين 10/64
(4) انظر الاعلام للهيتمي ص 370، 382
(5) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/220، وإعلام الموقعين 3/63 .
(6) البحر الرايق 5/134، وانظر الشفا لعياض 2/48/1 .(1/105)
" أن يشهد صاحبه قيومية الرب تعالى فوق عرشه، يدبر أمر عباده وحده، فلا خالق ولا رازق، ولا معطي ولا مانع، ولا مميت ولا محيي، ولا مدبر لأمر المملكة _ ظاهراً وباطناً _ غيره، فما شاء كان، ما لم يشأ لم يكن، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات، ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاها علمه، وأحاطت بها قدرته، ونفذت بها مشيئته، واقتضتها حكمته.(1) "
وهذا التوحيد يخالفه وينافيه نواقض قولية كثيرة، من أهمها: _ الشرك في هذا التوحيد، ولا ريب أن الشرك أصل كل شر وجماعه، وهو أعظم الذنوب على الإطلاق، حيث إنه الذنب الوحيد الذي نفى الله مغفرته، كما أنه يحبط العمال الصالحة جميعاً، ويوجب لصاحبه الخلود في النار.
قال الله تعالى: _ {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}[النساء، آية 48].
وعن جابر بن عبد الله(2) رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: _ " من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل
__________________________________________________ ص (97)
النار(3) "
يقول ابن القيم _ في بيان شناعة الشرك وقبحه: _
__________
(1) مدارج السالكين 3/510
(2) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، صحابي جليل، أحد المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم، شهد العقبة والكثير من الغزوات، توفي بالمدينة سنة 78 هـ .
انظر: _ الإصابة 1/434، وسير أعلام النبلاء 3/189 .
(3) أخرجه البخاري، ك العلم، (1/227) ح ( 129) .
وأخرجه مسلم، ك الإيمان، ( 1/94 ) ح (152) .(1/106)
" أخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط وهو العدل، ومن أعظم القسط التوحيد، وهو رأس العدل وقوامه، وإن الشرك ظلم كما قال تعالى: _ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لقمان، آية 13. فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل. فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر، وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له، وما كان أشد موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات، فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر بتفاصيله، تعرف به أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين فيما فرضه على عباده، وحرمه عليهم، وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي.
فلما كان الشرك بالله منافياً بالذات لهذا المقصود، كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله الجنة على كل مشرك، وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد، وأن يتخذوهم عبيداً لهم، لما تركوا القيام بعبوديته، وأبى الله سبحانه وتعالى أن يقبل من مشرك عملاً أو يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقبل له فيها رجاء، فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه نداً، وذلك غاية الجهل به...(1) "
و الشرك في الربوبية هو: _ " أن يجعل لغير الله تعالى معه تدبيراً ما.(2) " وله ضروب متعددة: _ فمنه شرك التعطيل كشرك فرعون، ومن شرك التعطيل: _ إنكار ربوبية الله تعالى كما وقع فيه شرذمة من الملاحدة قديما ً وحديثاً، ومن الشرك في الربوبية: _ القول بوحدة الوجود، وهم الذين يزعمون أن الله تعالى هو عين الخلق، تعالى عما يقولون علوا كبيراً.
ومن هذا الشرك شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة، ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي
__________________________________________________ ص (98)
__________
(1) الجواب الكافي ص 172، 173
(2) اقتضاء الصراط المستقيم 2/703، وانظر الإرشاد للسعدي ص 205 .(1/107)
يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته، ومنه شرك من ادعى أن الكواكب العلوية تدبر أمر العالم السفلي كما هو مذهب مشركي الصابئة(1)، إلى آخر ضروب وأنواع هذا الشرك.
وسنقتصر على إيراد مثال واحد وتفصيله، وهو القول بقدم العالم.
2_ حقيقة القول بقدم العالم ومعناه: _ " أن العالم لم يزل موجوداً مع الله تعالى، ومعلولاً له، ومساوقاً له، غير متأخر عنه بالزمان، مساوقة المعلوم للعلة، ومساوقة النور للشمس، وأن تقدم الباري كتقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة، لا بالزمان.(2) "
كما تضمن هذا القول: _ أن الله تعالى علة تامة مستلزمة للعالم،و العالم متولد عنه تولداً لازماً بحيث لا يمكن أن ينفك عنه، لأن العلة التامة مستلزمة لمعلولها (3).
يقول ابن تيمية عن هذا المقالة: _
" القول بقدم العالم قول اتفق جماهير العقلاء على بطلانه، فليس أهل الملة وحدهم تبطله، بل أهل الملل كلهم، وجمهور من سواهم من المجوس وأصناف المشركين: _ مشركي العرب، ومشركي الهند وغيرهم من الأمم، وجماهير أساطين الفلاسفة كلهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن، بل وعامتهم معترفون بأن الله خالق كل شيء.(4) "
ويقول أيضاً _ عن أهل هذه المقالة: _
" وهؤلاء عندهم أن هذه السموات ما زالت هكذا، ولا تزال هكذا، متحركة على هذا الوجه الأزلي إلى الأبد، ولا يزال العقل الأول أو الفعال مقارناً لها ويستحيل عندهم أن تكون السموات مسبوقة سبقاً زمانياً بشيء من الأشياء،
__________
(1) الصابئة: _ الصابىء _ لغة _ الذي يترك دينه إلى دين آخر ويطلق على عباد الكواكب والهياكل .
انظر: الملل والنحل 2/5 _ 57، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص 90
(2) تهافت الفلاسفة للغزالي ص 74، وانظر الفتاوي لابن تيمية 8/84 .
(3) انظر الصفدية لابن تيمية 1/8 .
(4) مجموع الفتاوى 5/565، وانظر الصفدية 1/130 .(1/108)
__________________________________________________ ص (99)
لا بربها، ولا بعرشه، ولا بغير ذلك، فضلاً عن أن تكون مسبوقة بتقدير مقاديرها بخمسين ألف سنة، فهل يمكن أن يكون ما أخبر به الأنبياء مطابقاً لقولهم؟ وأن يكون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أراد بما أخبر به ما يريده هؤلاء بما يذكرونه من فلسفتهم، وهذا مما يعلم كل من فهم الكلامين أنه باطل بالاضطرار، وأن الكلامين متنافيان قطعاً... بل نحن نعلم بالاضطرار أن اليهود والنصارى كفار في دين الإسلام، ونعلم بالاضطرار أنهم أكثر موافقة لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما أمر به من هؤلاء، فكيف يمكن دعوى موافقة هؤلاء له؟ بل هذا من أعظم الجهل والنفاق.(1) "
3_ ولاشك أن القول بقدم العالم من نواقض الإيمان، ووجه كونه ناقضاً عدة اعتبارات نذكر منها ما يلي: _
(أ). تضمن القول بقدم العالم تعطيلاً للرب سبحانه وتعالى، وإنكاراً للخالق عز وجل.
يقول ابن تيمية: _ " وأصل قول هؤلاء (الفلاسفة) أن الأفلاك قديمة أزلية وأن الله لم يخلقها بمشيئته وقدرته في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء.(2) "
ويقول أيضاً: _ " بل حقيقة قولهم أن الحوادث حدثت بلا محدث، وكذلك عدمت بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم.(3) "
ويقول في موضع ثالث: _ _ " وأما جعل المفعول المعين مقارناً للخالق أزلاً وأبداً فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارناً لمفعوله أزلاً وأبداً مخالف لصريح المعقول.(4) "
__________
(1) السبعينية ( بغية المرتاد ) ص 307، 308 .
(2) مجموع الفتاوى 12/42، وانظر مجموع الفتاوى 17/294، 295،.
(3) مجموع الفتاوى 12/43 .
(4) مجموع الفتاوى 18/228 .(1/109)
ويقول: _ " وهؤلاء الفلاسفة يتضمن قولهم في الحقيقة أنه لم يخلق، فإن ما يثبتونه من الخلق إنما يتضمن التعطيل، فإنه على قولهم لم يزل الفلك مقارناً له أزلاً وأبداً، فامتنع حينئذ أن يكون مفعولاً له، فإن الفاعل لابد أن
___________________________________________________ص (100)
يتقدم على فعله.(1) "
و يذكر ابن تيمية أن القائلين بقدم العالم منكرون للخالق تعالى، فيقول: _ " والمشهور عن القائلين بقدم العالم أنه لا صانع له، فينكرون الصانع جل جلاله، وقد ذكر أهل المقالات أن أول من قال من الفلاسفة بقدم العالم أرسطو...
_ ثم قال _ فلهذا لا يوجد في عامة كتب الكلام المتقدمة القول بقدم العالم إلا عمن ينكر الصانع، فلما أظهر من أظهر من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله أن العالم قديم عن علة موجبة بالذات قديمة، صار هذا قولاً آخر للقائلين بقدم العالم، أزالوا به ما كان يظهر من شناعة قولهم من إنكار صانع العالم، وصاروا يطلقون ألفاظ المسلمين من أنه مصنوع ومحدث ونحو ذلك، ولكن مرادهم بذلك أنه معلول قديم أزلي، لا يريدون بذلك أن الله أحدث شيئاً بعد أن لم يكن، وإذا قالوا إن الله خالق كل شيء فهذا معناه عندهم.(2) "
ولما أورد أحمد الدردير المالكي(3) موجبات الردة، ذكر منها: _ القول بقدم العالم، فقال: _ " والقول بقدم العالم؛ لأنه يؤدي إلى أنه ليس له صانع، أو أن واجب الوجود تعالى علة فيه، وهو يستلزم نفي القدرة والإرادة، وهو ظاهر في تكذيب القرآن وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.(4) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 18/229 .
(2) مجموع الفتاوى 5/539، 540 باختصار، وانظر الصفدية 2/230 .
(3) هو أحمد بن محمد العدوي المالكي الخلوتي، فقيه صوفي، ولد بصعيد مصر سنة 1127 هـ، وله مؤلفات، وتوفي سنة 1201 هـ .
انظر: _ الأعلام 1/244، ومعجم المؤلفين 2/67 .
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لأحمد الدردير 4/268 .(1/110)
(ب) أن القول بقدم العالم، وصدور هذا العالم عن الخالق تعالى صدور المعلول عن العلة لهو من أشنع التنقص والشتم لله سبحانه وتعالى، حيث ادعى أصحاب تلك المقالة تولد هذا العالم عن الرب عز وجل، فخرقوا له بنين وبنات بغير علم.
قال تعالى {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ {100} بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام، آية 100، 101].
__________________________________________________ص (101)
ولذا يقول ابن تيمية: _ وقولهم إن النفوس والعقول معلولة له، ومتولدة عنه أعظم كفراً من قول من قال من مشركي العرب: _ إن الملائكة بنات الله.(1) "
ويذكر ابن تيمية أن زعم الفلاسفة صدور المحدثات عن المحدث كصدور المعلول عن علة إنما " هو قول بتولدها عن الله، وهو مما رده الله ونزه نفسه عنه، وكذب قائله، وبين كذبه بقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص، آية 4،3]. وقال تعالى: {أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ {151} وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {152} أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ {153} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {154} أَفَلا تَذَكَّرُونَ {155} أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ {156} فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات، الآيات 151 _ 157](2) "
__________
(1) الصفدية 1/8 .
(2) مجموع الفتاوى 4/127 .(1/111)
ويقول عن مقالتهم: _ " إن قول هؤلاء من أعظم الأقوال منافاة لأقوال الرسل، وأن ذلك من أعظم الكفر في دين الرسل، وأن حقيقته قول من يقول: _ {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {152}} [الصافات، آية 152]. ومن خرق له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون، وحقيقة قوله الذي أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال: _ " يقول الله تعالى يشتمني ابن آدم، وما ينبغي له ذلك، ويكذبني ابن آدم، وما ينبغي له ذلك، فأما شتمه إياي فقوله: _ إني اتخذت ولداً، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: _ لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته.(1) "
وهذا الحديث منطبق على هؤلاء المتفلسفة، فإن قولهم في المبدأ بالتوليد عنه وفي المعاد بعود النفوس إلى عالمها من دون إعادة الخلق، يتضمن من شتم الله وتكذيبه ما أخبر به رسوله، وهذا باب واسع.(2) "
ومما قاله الحافظ ابن حجر في شرح حديث " يشتمني ابن آدم.. ": _
__________________________________________________ ص (102)
" الشتم هو الوصف بما يقتضي النقص، ولا شك أن دعوى الولد لله يستلزم الإمكان المستدعي للحدوث، وذلك غاية النقص في حق الباري سبحانه وتعالى.(3) "
ويقول في موضع آخر: _
" إنما سماه شتماً، لما فيه التنقيص؛ لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله ثم تضعه، ويستلزم ذلك سبق النكاح، والناكح يستدعي باعثاً له على ذلك.(4) "
__________
(1) أخرجه البخاري ك بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى " " وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده " " (6/287 ) ح (3193 )، وأحمد 2/317 .
(2) السبعينية ص 357، 358، وانظر ص 238، وانظر مجموع الفتاوى 17/294 .
(3) فتح الباري 6/291 .
(4) فتح الباري 8/168 وانظر فتح الباري 8/740 .(1/112)
(جـ) إن القول بقدم العالم تكذيب لما اتفقت عليه الرسل عليهم السلام، ونزلت به الكتب، كما تضمن مخالفة ومصادمة للفطر السليمة والعقول الصريحة.
يقول ابن تيمية: _ " وقد استقر في الفطر أن كون الشيء المفعول مخلوقاً يقتضى أنه كان بعد أن لم يكن، ولهذا كان ما أخبر الله به في كتابه من أن خلق السموات والأرض، مما يفهم جميع الخلائق أنهما حدثتا بعد أن لم تكونا وأما تقدير كونهما لم يزالا معه مع كونهما مخلوقين له، فهذا تنكره الفطر ولم يقله إلا شرذمة قليلة من الدهرية (1) كابن سينا وأمثاله(2) "
ويقول ابن القيم: _؛ قوله تعالى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [السجدة، آية 4]. يتضمن إبطال قول الملاحدة القائلين بقدم العالم وأنه لم يزل، وأن الله سبحانه لم يخلقه بقدرته ومشيئته، ومن أثبت منهم وجود الرب جعله لازما ً لذاته أزلاً وأبداً غير مخلوق، كما هو قول ابن سينا والنصير الطوسي وأتباعهما من الملاحدة الجاحدين لما اتفقت عليه الرسل عليهم الصلاة والسلام والكتب، وشهدت به العقول والفطر.(3) "
وقد تضمنت تلك المقالة مناقضة صريحة لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: _ كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء.. "
________________________________________________ ص (103)
الحديث(4).
يقول الحافظ ابن حجر: _ " وفيه أن جنس الزمان ونوعه حادث، وأن الله أوجد هذه المخلوقات بعد أن لم تكن، لا عن عجزه عن ذلك بل مع القدرة (5)"
__________
(1) الدهرية: _ القائلون بقدم الدهر، وإنكار الخالق والبعث وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني
انظر: _ الملل والنحل 2/235
(2) الفتاوى 28/226 .
(3) إجتماع الجيوش الإسلامية ص 95 .
(4) أخرجه البخاري ك بدء الخلق . ( 6/286 )، ح (3191)، وأحمد 2/501 .
(5) فتح الباري 6/290.(1/113)
فكل ما سوى الله تعالى فهو كائن بعد أن لم يكن؛ لأن الله عز وجل هو الأول فليس قبله شيء.
والقول بقدم العالم ترده العقول _ بداهة _ كما يقول ابن تيمية ": _ " إن هؤلاء يقولون بقدم الأفلاك، وأن ذلك لم يزل قديماً أزلياً، وما كان قديماً أزلياً امتنع أن يكون مفعولاً بوجه من الوجوه، ولا يكون مفعولاً إلا ما كان حادثاً، وهذه قضية بدهية عند جماهير العقلاء، وعليها الأولون والآخرون من الفلاسفة، وسائر الأمم، ولهذا كان جماهير الأمم يقولون كل ممكن أن يوجد، وأن لا يوجد، فلا يكون إلا حادثاً(1) "
ويقول أيضاً في بيان فساد مقالتهم: _ " أن يقال قولهم بصدور الأشياء مع ما فيها من الكثرة والحدوث عن واحد بسيط في غاية الفساد.
وإذا كانوا يقولون: _ صدر عنه واحد، وعن ذلك الواحد عقل ونفس وفلك، فيقال إن كان الصادر عنه واحداً من كل وجه، فلا يصدر عن هذا الواحد، إلا واحد أيضاً، فيلزم أن يكون كل ما في العالم إنما هو واحد عن واحد، وهو مكابرة، وإن كان الصادر الأول كثرة ما بوجه من الوجوه، فقد صدر عن الأول ما فيه كثرة ليس واحداً من كل وجه، فقد صدر عن الواحد ما ليس بواحد. (2)"
(د) إن حدوث العالم مما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشرع ومن ثم يكفر المخالف لذلك.(3).
وإليك بعضاً من كلام أهل العلم في هذه المسألة: _
يقول القاضي عياض: _ " كل مقالة صرحت بنفي الربوبية، أو الوحدانية،
_________________________________________________ ص (104)
أو عبادة أحد غير الله، أو مع الله فهو كفر... _ إلى أن قال _ أو ادعى له ولداً، أو صاحبة، أو والدة، أو أنه متولد عن شيء، أو كائن منه، أو أن معه في الأزل شيئاً قديماً غيره، أو أن ثم صانعاً للعالم سواه... أو مدبراً غيره... فذلك كله كفر بإجماع المسلمين.
__________
(1) مجموع الفتاوى 17/286 .
(2) مجموع الفتاوى 17/288 = بتصرف يسير .
(3) انظر المسامرة شرح المسايرة لابن أبي الشريف ص 333 .(1/114)
حتى قال: _ وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم، أو بقائه، أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة والدهرية(1). "
وقال النووى(2) " قال المتولي: _ من اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع.. كان كافراً.(3) "
ويقول ابن حجر الهيتمي(4): _ ومنها القول الذي هو كفر سواء صدر عن اعتقاد، أو عناد، أو استهزاء، فمن ذلك اعتقاد قدم العالم، أو حدوث الصانع. (5)"
ويقول ملا على قارى(6): _ فمن واظب طول عمره على الطاعات
__________________________________________________ ص (105)
والعبادات مع اعتقاد قدم العالم لا يكون من أهل القبلة.(7) "
__________
(1) الشفا 2/604_ 606 وانظر الشرح الصغير للدردير 6/147 وحاشية الدسوقي 4/268، وبلغة السالك لأحمد الصاوي 3/447، وشرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش 4/463 .
(2) هو أبو زكريا يحيي بن شرف بن مري النووي الدمشقي الشافعي، الفقيه، والمحدث، الحافظ، اللغوى، ولد بنوى في الشام سنة 631 هـ، ودرس العلوم، واشتغل بالتدريس، وله مؤلفات كثرة، توفي بنوى سنة 677 هـ .
انظر: _ البداية والنهاية 13/278، وطبقات الشافعية 8/395 .
(3) روضة الطالبين 10/64، وانظر مغنى المحتاج للشربيني 4/134
(4) أبو العباس أحمد بن محمد بن على بن حجر الهيتمي الشافعي، فقيه، ولد عناية بالحديث ولد بمصر سنة 909 هـ، ودرس في الأزهر، له تصانيف كثيرة، تضمن بعضها بدعاً وشططاً وتوفي سنة 974 هـ .
انظر: _ البدر الطالع 1/109، والأعلام 1/234 .
(5) الإعلام بقواطع الإسلام ص 350، وأنظر ص 351 .
(6) هو على بن سلطان الهروي القارى الحنفي، عالم مشارك في أنواع من العلوم وله مؤلفات كثيرة، ولد بالعراق، ورحل إلى مكة واستقر بها حتى توفي سنة 1014 هـ.
انظر: _ البدر الطالع 1/445، ومعجم المؤلفين 7/100 .
(7) شرح الفقه الأكبر ص 230= باختصار .(1/115)
ويقول منصور النهوتي: _ أو اعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع جل وعلا فهو كافر، لتكذيبه للكتاب والسنة والإجماع. (1)"
_________________________________________________ ص (106)
سب الله عز وجل والاستهزاء به
1_ إن الإيمان بالله تعالى مبني على التعظيم والإجلال للرب عز وجل، ولا شك أن سب الله تعالى والاستهزاء به يناقض هذا التعظيم ولا يجامعه.
قال الضحاك(2) عند قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم، آية 90]" يتشققن من عظمة الله عز وجل(3) "
ومما قاله ابن القيم عن منزلة التعظيم: _
" هذا المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب، وأعرف الناس به: _ أشدهم له تعظيماً وإجلالاً، وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، قال تعالى: {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح، 13]"
قال ابن عباس ومجاهد: _ لا ترجون لله عظمة، وقال سعيد بن جبير: _ مالكم لا تعظمون الله حق عظمته "
وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت، فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم، فذلك حقيقة الحمد، والله أعلم "(4) "
ويقول ابن تيمية مبيناً أن سب الله تعالى والإستهزاء به يناقض التوحيد: _
__________
(1) كشاف القناع عن متن الإقناع 6/171، وانظر مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى 6/281 .
(2) أبو محمد الضحاك بن مزاحم الهلالي، صاحب التفسير، ومن أوعية العلم، وثقه أحمد ويحيي بن معين، توفي سنة 102 هـ .
انظر: البداية والنهاية 9/223، وسير أعلام النبلاء 4/598 .
(3) العظمة لأبي الشيخ 1/341
(4) مدرج السالكين 2/495 .(1/116)
" فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه وتعالى، والرسالة لعبده ورسوله، ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام، الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح، بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول، أو الفعل، كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه، وكان ذلك موجباً لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلاً لما فيه من المنفعة والصلاح، إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس وتصلحها فمتى لم توجب زكاة النفس ولا صلاحها، فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ
_________________________________________________ ص (107)
في القلب، ولم تصر صفة ونعتاً للنفس ولا صلاحاً. (1)"
وقد كان أهل العلم يعظمون ربهم، ويسعون إلى تقديره حق قدره، حتى قال عون بن عبد الله (2): _ " ليعظم أحدكم ربه، أن يذكر اسمه في كل شيء، حتى يقول: _ أخزى الله الكلب، وفعل الله به كذا.(3) "
ويقول الخطابي(4): _ " وكان بعض من أدركنا من مشايخنا قل ما يذكر اسم الله تعالى إلا فيما يتصل بطاعة. (5)"
" وكان أبو بكر الشاشي يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم في الله تعالى، وذكر صفاته، إجلالاً لاسمه تعالى، ويقول هؤلاء يتمندلون(6) بالله عز وجل.(7) "
2_ إذا انتقلنا إلى بيان معنى السب ومفهومه، فكما قال الراغب الأصفهاني: _
__________
(1) الصارم المسلول ص 324 .
(2) هو عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي الكوفي، إمام عابد زاهد، وثقه أحمد وغيره، توفي سنة بضع عشرة ومائة .
انظر: حلية الأولياء 4/240، وسير أعلام النبلاء 5/103 .
(3) شأن الدعاء للخطابي ص 18 .
(4) أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم البستي، حافظ لغوي، فقيه وصاحب تصانيف، توفي سنة 388 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 3/282، وسير أعلام النبلاء 17/23 .
(5) شأن الدعاء للخطابي ص 18، 19 .
(6) من المنديل، ويريد الإبتذال والإمتهان .
(7) الشفا 2/1096 .(1/117)
" السب: _ الشتم الوجيع، قال تعالى: _ {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ} [الأنعام، آية 108]، وسبهم لله ليس على أنهم يسبونه صريحاً، ولكنهم يخوضون في ذكره، فيذكرونه بما لا يليق، ويتمادون في ذلك بالمجادلة فيزدادون في ذكره بما تنزه تعالى عنه (1). "
ويقول ابن تيمية: _ _ " السب هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف، وهو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم
__________________________________________________ ص (108)
كاللعن والتقبيح ونحوه، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: _ {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ} [الأنعام، آية 108.](2) "
و يذكر ابن تيمية أن حد السب وضابطه هو العرف، فيقول: _ فما عده أهل العرف سباً وانتقاصاً، أو عيباً، أو طعناً ونحو ذلك فهو من السب.(3) "
ويقول الحافظ ابن حجر: _ " الشتم: _ هو الوصف بما يقتضي النقص(4). فالسب هو الشتم وكل كلام قبيح يوجب الإهانة والنقص.
3_ ولا ريب أن سب الله عز وجل يعد أقبح وأشنع أنواع المكفرات القولية التي تناقض الإيمان، وذلك من عدة أوجه واعتبارات، منها ما يلي: _
__________
(1) المفردات ص 220 .
(2) الصارم المسلول ص 561
(3) المرجع السابق ص 531، وانظر ص 540 .
(4) فتح الباري 6/291 .(1/118)
(أ) أن سب الله عز وجل يناقض الإيمان، فالسب أذى قولي يناقض قول القلب (التصديق)، وعمله من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، كما أنه يناقض الإيمان الظاهر باللسان؛ لأن الإيمان يتضمن تصديقاً لله عز وجل، وانقياداً وخضوعاً له تعالى، وأما السب فكما يقول ابن تيمية: _ " فهو إهانة واستخفاف، والانقياد للأمر إكرام وإعزاز، ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع، واستسلم، أو يستخف به، فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة، امتنع أن يكون فيه انقياد أو استسلام، فلا يكون فيه إيمان، وهذا بعينه كفر إبليس، فإنه سمع أمر الله فلم يكذب رسولاً، ولكن لم ينقد للأمر.(1) "
ويقول ابن تيمية: _ إن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعل فيه استهانة واستخفاف، كما أنه يوجب المحبة والتعظيم، واقتضاؤه وجود هذا، وعدم هذا، أمر جرت به سنن الله في مخلوقاته، كاقتضاء إدراك الموافق للذة وإدراك المخالف للألم، فإذا عدم المعلول كان مستلزماً لعدم العلة، وإذا وجد الضد، كان مستلزماً لعدم الضد الآخر، فالكلام والفعل المتضمن للاستخفاف والاستهانة مستلزم لعدم التصديق النافع، ولعدم الانقياد والاستسلام، فلذلك
___________________________________________________ ص (109)
كان كفراً (2) "
(ب) أن الله تعالى قال: _ {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ {64}وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}[التوبة، الآيات 64 _ 66].
__________
(1) الصارم المسلول ص 519 .
(2) الصارم المسلول ص 524 .(1/119)
يقول ابن تيمية: _ " وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته وبرسوله كفر فالسب المقصود بطريق الأولى.(1) "
ويقول أيضاً: _ " فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب... فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر(2) ""
فإن الله تعالى لم يقل قد كذبتم في قولكم إنما كنا نخوض ونلعب، بل بين أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض. (3)"
وإذا كان الاستهزاء بالله كفراً، سواء استحله أو لم يستحله، فإن السب كفر من باب أولى _ كما ذكر ابن تيمية _ فإن نفس سب الله تعالى كفر، مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجوداً وعدماً (4)_ ومن ثم فإن سب الله تعالى كفر ظاهر وباطن عند جمهور أهل السنة.
يقول ابن تيمية: _ _ " إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.
وقد قال ابن راهوية: _ قد أجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام.. أنه كافر بذلك، وإن كان مقراً بما أنزل الله.
__________________________________________________ ص (110)
وقال القاضي أبو يعلي في " المعتمد ": _ من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر، سواء استحل سبه أو لم يستحله. (5)"
__________
(1) الصارم المسلول ص 31 .
(2) مجموع الفتاوى 7/220، 273 = بتصرف .
(3) انظر الصارم المسلول ص 517، 524 .
(4) انظر الصارم المسلول ص 517
(5) 1لصارم المسلول ص 512، 513 = باختصار .(1/120)
ويقول أيضاً: _ " من سب الله ورسوله طوعاً بغير كره... فهو كافر ظاهراً وباطناً، وإن من قال إن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله، وإنما هو كافر في الظاهر، فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين. (1)"
(جـ) إن في السب تنقصاً لله تعالى، وإنتهاكاً لحرمته، بل إن السب أعظم وأشنع من مجرد الكفر(2) " إذ السب إفراط في العداوة، وإبلاغ في المحادة، مصدره شدة سفه الكافر، وحرصه على فساد الدين وإضرار أهله.(3) "
يقول ابن تيمية: _ " إن الساب مظهر للتنقص والاستخفاف والاستهانه بالله، منتهك لحرمته انتهاكاً يعلم هو من نفسه أنه منتهك مستخف مستهزيء، ويعلم من نفسه أنه قال عظيماً، وأن السموات والأرض تكاد تنفطر من مقالته، وتخر الجبال، وأن ذلك أعظم من كل كفر، وهو يعلم أنه ذلك كذلك.. إن هذا السب مجرد سخرية واستهزاء وإستهانة وتمرد على رب العالمين، تنبعث عن نفس شيطانية ممتلئة من الغضب، أو من سفيه لا وقار لله عنده.
ومما يبين أن السب قدر زائد على الكفر، قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ} [الأنعام، آية 108]ومن المعلوم أنهم كانوا مشركين مكذبين معادين لرسوله، ثم نهي المسلمون أن يفعلوا ما يكون ذريعة إلى سبهم الله، فعلم أن سب الله أعظم عنده من أن يشرك به ويكذب رسوله ويعادى (4).
ويقول ابن تيمية _ أيضاً _: _ " ألا ترى أن قريشاً كانت تقاره عليه الصلاة والسلام على ما كان يقوله من التوحيد وعبادة الله وحده، ولا يقارونه على عيب
________________________________________________ ص (111)
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/557، 558 = باختصار، وانظر الصارم المسلول ص 524، وانظر المحلى لابن حزم 13/498 .
(2) انظر الصارم المسلول ص 564
(3) الصارم المسلول ص 369 .
(4) الصارم المسلول ص 551 = باختصار .(1/121)
آلهتهم، والطعن في دينهم، وذم آبائهم، وقد نهى الله المسلمين أن يسبوا الأوثان، لئلا يسب المشركون الله، مع كونهم لم يزالوا على الشرك، فعلم أن محذور سب الله أغلظ من محذور الكفر به.(1).
(د) أن الله تعالى قال: _ {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا {57}وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب آية 57، 58].
ففي هاتين الآيتين دليل على كفر من سب الله عز وجل من عدة أوجه منها ما يأتي: _
1_ " أنه فرق بين أذي الله ورسوله، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة، وأعد له العذاب المهين، ومعلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجلد، وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل. (2)"
2_ " أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة، وأعد لهم عذاباً مهيناً، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافراً، فإن المؤمن يقرب إليها بعض الأوقات؛ ولا يكون مباح الدم؛ لأن حقن الدم رحمة عظيمة من الله، فلا يثبت في حقه. (3)"
3_ أن الله تعالى قال: _ {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} ولم يجيء إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار، كقوله تعالى: _ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية، آية 9]، وقوله: _ {وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} المجادلة، آية 5، وأما العذاب العظيم فقد جاء وعيداً للمؤمنين..}
__________
(1) الصارم المسلول ص 557 .
(2) الصارم المسلول ص 41
(3) الصارم المسلول ص 41 .(1/122)
كما أن هذا العذاب قد أعد لهم _ ممن آذى الله أو رسوله..._ والعذاب إنما أعد للكافرين، فإن جهنم لهم خلقت؛ لأنهم لابد أن يدخلوها، وما هم منها
__________________________________________________ ص (112)
بمخرجين (1)
(هـ) قد أجمع العلماء على كفر من سب الله تعالى، وإليك أقوالهم في هذه المسألة: _
_ قال إسحاق ابن راهوية: _ " قد أجمع العلماء على أن من سب الله عز وجل، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر.(2) "
_ وقال القاضي عياض: _ " لا خلاف أن ساب الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم.(3) "
_ وقال ابن تيمية: _ " فصل فيمن سب الله تعالى، فإن كان مسلماً وجب قتله بالإجماع؛ لأنه بذلك كافر مرتد، وأسوأ من الكافر، فإن الكافر يعظم الرب، ويعتقد أن ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبة له.(4) "
_ وقال ابن حزم: _ " وأما سب الله تعالى، فما على ظهر الأرض مسلم يخالف أنه كفر مجرد... وهو محكوم عليه بنفس قوله، لا بمغيب ضميره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.(5) "
و يقول في الرد على المخالفين: _ " وأما قولهم: _ إن شتم الله تعالى ليس كفراً وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو دعوى؛ لأن الله تعالى قال: _ {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التوبة، آية 74.](6) "
__________
(1) انظر الصارم المسلول ص 52، 53 .
(2) التمهيد لابن عبد البر 4/226 .
(3) الشفا 2/582 .
(4) الصارم المسلول ص 546 .
(5) المحلى 13/498، وانظر 13/501، 502 .
(6) الفصل 3/244 .(1/123)
" وقال أحمد في رواية عبد الله في رجل قال لرجل يا ابن كذا وكذا _ أعني أنت ومن خلقك _: هذا مرتد عن الإسلام تضرب عنقه.(1) "
__________________________________________________ ص (113)
وفي رواية أخرى قال الإمام أحمد: _ " كل من ذكر شيئاً يعرض به بذكر الرب تبارك وتعالى، فعليه القتل مسلماً كان أو كافراً، وهذا مذهب أهل المدينة.(2) " وسئل أبو محمد بن أبي زيد(3) عن رجل لعن رجلاً ولعن الله، فقال: _ إنما أردت أن ألعن الشيطان فزل لساني.
فأجاب: _ يقتل بظاهر كفره ولا يقبل عذره، وأما فيما بينه وبين الله فمعذور(4).
وقال ابن قدامة: _ " من سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحاً أو جاداً.(5) "
وقال المرداوي(6) في الإنصاف: _ من سب الله.. كفر بلا نزاع في الجملة.(7) "
وقال البهوتي: _ " من سب الله.. كفر، لأنه لا يسبه إلا وهو جاحد(8) "
__________
(1) المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة 2/93، وانظر الصارم المسلول ص 513 .
(2) المرجع السابق 2/93، وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم 2/797، وانظر الصارم المسلول ص 513 .
(3) عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي، إمام قدوة حافظ واشتغل بالتأليف، وكان على طريقة السلف، توفي سنة 386 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 17/10، والديباج المذهب 1/427 .
(4) المعيار المعرب للونشريسي 2/345، وانظر الشفا 2/1092 .
(5) المغنى 10/113 .
(6) هو علي بن سليمان المرداوي الصالحي الحنبلي، ولد بمردا بفلسطين سنة 817 هـ، كان فقيهاً أصوليا ً، انتهت إليه رياسة المذهب الحنبلي له مؤلفات، توفي بدمشق سنة 885 هـ .
انظر: مختصر طبقات الحنابلة ص 76، والبدر الطالع 1/446 .
(7) 10) 10/326 = بتصرف يسير .
(8) 11) كشاف القناع 6/168، وانظر المبدع شرح المقنع 9/171، ومطالب أولي النهي 6/276 .(1/124)
وقال ملا على قاري: _ " من وصف الله بما لا يليق به كفر.(1) "
4_ وأما حكم الاستهزاء بالله تعالى، فهو نفس الحكم فيمن سب الله تعالى، ولكن يمكن أن نضيف إلى ما سبق ما يلي: _
__________________________________________________ ص (114)
(أ) معنى الاستهزاء لغة السخرية (2)، ويقول الراغب الأصفهاني (3): _
" الهزء مزح في خفية، وقد يقال لما هو كالمزح.. والاستهزاء ارتياد الهزوء، وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزوء (4). "
وقال البيضاوي (5): " الاستهزاء السخرية والاستخفاف، يقال هزئت واستهزأت بمعنى، كأجبت واستجبت، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع(6).
(ب) ووجه كون الاستهزاء بالله تعالى ناقضاً من نواقض الإيمان، ما جاء في قول الحق تبارك وتعالى: _
__________
(1) 12) شرح الفقه الأكبر ص 227، وانظر الفتاوى البزازية 3/323، والبحر الرايق لابن نجيم 5/129 .
(2) 13) انظر لسان العرب 1/183، والمصباح المنير ص 787
(3) 14) أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، أديب، لغوي، مفسر، له مؤلفات، توفي سنة 502 هـ .
انظر تاريخ حكماء الإسلام ص 112، ومعجم المؤلفين 4/59 .
(4) المفردات ص 790 .
(5) أبو سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي الشافعي، ناصر الدين، عالم بالفقه والتفسير والعربية، له مصنفات، توفي بشيراز سنة 685 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 8/157، شذرات الذهب 5/392 .
(6) تفسير البيضاوي 1/26، وانظر تفسير المنار 1/163، 164 .(1/125)
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ {64}وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة، الآيات 64_66].
يقول ابن تيمية: _ " وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر(1).
ويقول الفخر الرازي(2) في تفسيره: _ " إن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله، وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف، والعمدة الكبرى في الإيمان
__________________________________________________ ص (115)
تعظيم الله بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال(3) "
ومما قاله ابن العربي(4) عند تلك الآيات: - " لا يخلو أن يكون ما قالوه _ أي المنافقون _ من ذلك جداً أو هزلاً، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الجهل والباطل.(5) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 31، انظر مجموع الفتاوى 15/48 .
(2) هو محمد بن عمر بن الحسين، ابن خطيب الري، من أئمة المتكلمين، برع في علوم كثيرة، واشتغل بعلم الكلام ثم تاب عنه، له مؤلفات كثيرة في سائر الفنون، توفي بهراة سنة 606 هـ .
انظر: البداية والنهاية 13/55، وطبقات الشافعية 8/81 .
(3) التفسير الكبير 16/124 .
(4) أبو بكر محمد بن عبد الله الأندلسي المالكي، اشتغل في علوم كثيرة، وولي القضاء، ودخل بغداد، توفي بفاس سنة 543 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 20/197، والديباج المذهب 2/252 .
(5) أحكام القرآن 2/964، انظر القرطبي 8/197(1/126)
ويقول ابن الجوزي: - " وهذا يدل على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء.(1) "
وأضاف الآلوسي(2) على كلام ابن الجوزي: _ " ولا خلاف بين الأئمة في ذلك(3) "
ويقول السعدي: - " إن الاستهزاء بالله ورسوله كفر يخرج عن الدين؛ لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة.(4) "
إضافة إلى ذلك فإن الاستهزاء يناقض الإيمان؛ لأن الإيمان تصديق بالله عز وجل وانقياد له وخضوع ومن استهزأ بالله، امتنع أن يكون منقاداً لأمره " فإن الانقياد إجلال وإكرام، والاستخفاف إهانة وإذلال، وهذان ضدان، فمتى حصل في القلب أحدهما، انتفى الآخر، فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان
__________________________________________________ ص (116)
منافاة الضد للضد.(5) "
(جـ) وإليك أقوال بعض أهل العلم في هذه المسألة: _
ويقول ابن حزم: " صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر.(6) "
__________
(1) زاد المسير 3/465 .
(2) 10) أبو الثناء محمود بن عبد الله الحسيني، مفسر، محدث، فقيه، أديب تولى الفتيا ببغداد، وله رحلات، وألف في علوم متنوعة، توفي ببغداد سنة 1270 هـ .
انظر: المسك الإذفر ص 64، معجم المؤلفين 12/175 .
(3) 11) روح المعاني 10/131 .
(4) 12) تفسير السعدي 3/259 .
(5) الصارم المسلول لابن تيمية ص 521 .
(6) الفصل 3/299 .(1/127)
ويقول القاضي عياض: _ " وأما من تكلم من سقط القول، وسخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه وأهمل لسانه بما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة مولاه، أو تمثل في بعض الأشياء ببعض ما عظم الله من ملكوته، أو نزع من الكلام لمخلوق بما لا يليق إلا في حق خالقه غير قاصد للكفر والاستخفاف، ولا عامد للإلحاد، فإن تكرر هذا منه، وعرف به، دل على تلاعبه بدينه، واستخفافه بحرمة ربه، وجهله بعظيم عزته وكبريائه، وهذا كفر لا مرية فيه.(1) "
وجاء في كتاب روضة الطالبين للنووي: " ولو قال وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنى باسم الله تعالى، استخفافاً باسم الله تعالى كفر.(2) "
وقال ابن قدامة: _ " ومن سب الله تعالى كفر سواء كان مازحاً أو جاداً، وكذلك من استهزأ بالله تعالى، أو يآياته، أو برسله، أو كتبه، قال الله تعالى: _ {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة، الآيات 65،66]، وينبغي أن لا يكتفى من الهازي بذلك بمجرد الإسلام حتى يؤدب أدباً يزجره عن ذلك.(3) "
وقال ابن نجيم: _ " فيكفر إذا وصف الله بما لا يليق به، أو سخر باسم من أسمائه (4). "
__________________________________________________ ص (117)
المبحث الثاني
نواقض الإيمان القولية في توحيد الأسماء والصفات
__________
(1) الشفا 2/1092 .
(2) 10/67، وانظر مغنى المحتاج للشربيني 4/135 .
(3) المغنى 10/113 وانظر كشاف القناع 6/168، والانصاف 10/326 .
(4) البحر الرايق 5/129، وانظر شرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 227 .(1/128)
في بداية هذا المبحث نذكّر بأن معتقد أهل السنة والجماعة في هذا الباب هو الإيمان بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولاتمثيل.
فأهل السنة وسط في هذا الباب بين المعطلة والممثلة، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فيعطلون أسماءه وصفاته.
يقول الإمام أحمد:- " فعليه الإيمان بها والتسليم مثل:- أحاديث الرؤية كلها، وإن نبت عن الأسماع، واستوحش منها المستمع، وإنما عليه الإيمان بها، وأن لا يردّ منها حرفاً واحداً، وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات (1) "
كما يقول ابن القيمّ:- " لا يستقر للعبد قدم في المعرفة – بل ولا في الإيمان – حتى يؤمن بصفات الرب جل ّ جلاله، ويعرفها معرفة تخرج عن حد الجهل بربه، فالإيمان بالصفات وتعرّفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان، فمن جحد الصفات فقد هدم أساس الإسلام والإيمان، وثمرة شجرة الإحسان (2) "
ويقول أيضا:- " والرسل من أولهم الى خاتمهم – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – أرسلوا بالدعوة إلى الله 000 فعّّّّرفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفاّ مفصّلاً، حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه، وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه، يكلم ملائكته، ويدّبر أمر مملكته، ويسمع أصوات خلقه، ويرى أفعالهم وحركاتهم 000 ويرضى ويغضب، ويحبّ ويسخط، ويميت ويحيي، ويمنع ويعطى، يغفر ذنباً، ويفرج كرباً 000 وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة. (3) "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص118
__________
(1) المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة / جمع الأحمدي 1/277
(2) مدارج السالكين 3 / 347 0
(3) المرجع السابق 3 / 348، 349 = باختصار(1/129)
2_ توحيد الأسماء والصفات يناقضه ويخالفه الشرك والإلحاد في أسمائه وصفاته، فالشرك في الصفات يكون باتخاذ شريك أو ند مع الله تعالى في ذلك، وأما الإلحاد في أسمائه، فكما يقول ابن القيم: _ " الإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها وهو مأخوذ من الميل، كما يدل عليه مادته ل ح د.
والإلحاد في أسمائه تعالى أنواع: _
أحدها: _ أن يسمي الأصنام بها، كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلهاً، وهذا إلحاد حقيقة، فإنهم عدلوا عن أسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.
الثاني: _ تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أباً، وتسمية الفلاسفة له موجباً بذاته، أو علة فاعلة بالطبع ونحو ذلك الثالث: _ وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول أخبث اليهود إنه فقير، وقولهم إنه استراح بعد أن خلق خلقه.
الرابع: _ تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني...
خامسها: _ تشبيه صفاته بصفات خلقه، تعالى الله عما يقول المشبهون علوا كبيراً.(1) "
3_ سنأخذ مثالاً واحداً على تلك النواقض القولية، وهو إنكار اسم أو صفة لله تعالى، والإنكار بمعنى الجحود وعدم الاعتراف كما أن الجهل ضد العرفان، وأصله أن يرد على القلب ما لا يتصوره (2).
و أما معنى الكفر في صفات الله تعالى: _ " فهو إنكار ما علم ثبوته منها بعد
__________________________________________________ ص (119)
البلاغ، أو الإلحاد فيه بتحريفه عن المقصود بدون شبهة يعذر بمثلها.(3)
__________
(1) بدائع الفوائد 1/190_192 = باختصار .
(2) انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/476، ومفردات الأصفهاني ص 770، واللسان 5/732، والمصباح المنير ص 766 ومختار الصحاح ص 679 .
(3) فتاوى اللجنة الدائمة 3/128، ويقول الشيخ محمد بن عثيمين: " إنكار شيء من أسماء الله أو صفاته نوعان: _
الأول: _ إنكار تكذيب، وهذا كفر بلاشك فلو أن أحداً أنكر أسماً من أسماء الله، أو صفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة مثل: _ أن يقول ليس لله يد، فهو كافر بإجماع المسلمين ؛ لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر مخرج عن الملة .
الثاني: _ إنكار تأويل، وهو أن لا يجحدها، ولكن يؤولها، وهذا نوعان: _
1_ أن يكون لهذا التأويل مسوغ في اللغة العربية فهذا لا يوجب الكفر .
2_ أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية، فهذا موجب للكفر، لأنه نفاها نفياً مطلقاً فهو مكذب حقيقة، ولو قال في قوله تعالى: _ " بل يداه مبسوطتان " المائدة، آية 64، المراد بيديه السماوت والأرض فهو كافر، لأنه لا يصح في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية فهو منكر مكذب، لكن إن قال المراد باليد النعمة أو القوة، فلا يكفر ؛ لأن اليد في اللغة تطلق على النعمة . " المجموع الثمين 2/62، 63 .(1/130)
"
وهذا يؤكد أهمية مراعاة ضوابط التكفير _ التي سبق ذكرها في التمهيد_ ولذا نجد أهل العلم يشيرون إلى مثل تلك الضوابط، فها هو القاضي عياض يقول في موضع: _ " وأما من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به، ليس على طريق السب والردة، وقصد الكفر، ولكن على طريق التأويل والاجتهاد والخطأ المفضي إلى الهوى والبدعة من تشبيه، أو نعت بجارحة(1)، أو نفي صفة كمال، فهذا مما اختلف السلف والخلف في تكفير قائله ومعتقده (2). "
جاء في موضع آخر من كتابه ما يلي: _ " فأما من نفى صفة من صفات الله تعالى الذاتية، أو جحدها مستبصراً في ذلك كقوله: _ ليس بعالم، ولا قادر، ولا مريد، ولا متكلم، وشبه ذلك من صفات الكمال الواجبة، فقد نص أئمتنا على الإجماع على كفر من نفى عنه تعالى الوصف بها، وأعراه عنها(3) "
_________________________________________________ ص (120)
4- يعتبر إنكار اسم أو صفة لله تعالى كفراً وناقضاً من نواقض الإيمان لوجوه منها: _
(أ) أن هذا الإنكار لمن بلغته تلك النصوص _ يعد تكذيباً لنصوص الوحيين، ورداً للأخبار الصحيحة في إثبات تلك الأسماء أو الصفات لله تعالى، وقد تضافرت أقوال أهل العلم في تقرير ذلك.
_ " فقد سئل أبو حنيفة(4)
__________
(1) لفظ (( الجارحة )) من الألفاظ المجملة، التي لابد من بيان وتفصيل معانيها .
(2) الشفا 2/1051 .
(3) الشفا 2/1080 .
(4) هو النعمان بن ثابت الكوفي، التيمي بالولاء، إمام المذهب الحنفي، الفقيه، المجتهد، نشأ بالكوفة، ورفض القضاء، له مؤلفات، توفي سنة 150 هـ ببغداد .
انظر: تاريخ بغداد 13/323، وسير أعلام النبلاء 6/390 .(1/131)
_ رحمه الله _ عمن يقول " لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض، فقال: _ قد كفر؛ لأن الله تعالى يقول {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه، آية 5]، وعرشه فوق سماواته، فقيل لأبي حنيفة: _ إنه يقول: _ أقول على العرش استوى، ولكن قال: _ لا يدري العرش في السماء أو في الأرض، قال: _ إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.(1) "
" وقال الإمام الشافعي وقد سئل عن صفات الله وما يؤمن به، فقال الله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه أمته، لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فيما روى عنه العدول، فإن خالف بعد ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يقدر بالعقل، ولا بالروية، والقلب، ولا نكفر بالجهل بها أحداً إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، ونثبت هذه الصفات، وننفي عنها التشبيه كما نفى التشبيه عن نفسه فقال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}،[الشورى، آية 11(2)]"
ويقول الإمام أحمد: _
" وصح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: _ " وكلتا يديه يمين " (3)، فمن لم يؤمن بذلك ويعلم أن ذلك حق، كما قال رسول الله صلى الله
__________________________________________________ ص (121)
عليه وسلم، فهو مكذب برسول الله صلى الله عليه وسلم (4)"
__________
(1) مختصر العلو: للذهبي / الألباني ص 136، وانظر الأربعين في صفات رب العالمين للذهبي ص 93
(2) كتاب إثبات صفة العلو لابن قدامة ص 124، وانظر مختصر العلو ص 177
(3) أخرجه مسلم، ك الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل (3/1458)، ح (1827 ) . وأحمد 2، 160 .
(4) المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة 1/307 .(1/132)
" وقال محمد بن جرير الطبري في كتاب التبصير في معالم الدين له... بعد أن ذكر بعض نصوص الصفات، قال: _ " فإن هذه المعاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله بها نفسه ورسوله مما لا يثبت حقيقة علمه بالفكر والروية، لا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهائها إليه (1). "
_ وقال عثمان بن سعيد الدرامي (2)_ رحمه الله _: _ " نكفر الجهمية بكفر مشهور، وهو تكذيبهم بنص الكتاب، أخبر الله تبارك وتعالى أن القرآن كلامه، وادعت الجهمية أنه خلقه، وأخبر الله تبارك وتعالى أنه كلم موسى تكليماً، وقال هؤلاء لم يكلمه الله بنفسه، وقال الله تبارك وتعالى: _ {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة، آية 64]، وقال هؤلاء الجهمية: _ ليس لله يد، وما خلق آدم بيده، وإنما يداه نعمتاه ورزقاه،فادعوا بين يدي الله أوحش مما ادعته اليهود؛ قالت اليهود يد الله مغلولة، وقالت الجهمية يد الله مخلوقة؛ لأن النعم والأرزاق مخلوقة لاشك فيها، وذاك محال في كلام العرب، فضلاً أن يكون كفراً.(3) "
_ قال أبو العباس السراج (4): _ " من لم يقر ويؤمن بأن الله تعالى يعجب، ويضحك، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: من يسألني فأعطيه، فهو زنديق كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
__________
(1) إجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص 195 .
(2) هو عثمان بن سعيد التميمي الدرامي، إمام حافظ ناقد، نصر مذهب أهل السنة، ورد على المبتدعة، له مؤلفات، توفي سنة 280هـ
انظر: طبقات الحنابلة 1/221، سير أعلام النبلاء 13/319 .
(3) الرد على الجهمية ص 173، 174 = باختصار .
(4) هو محمد بن إسحاق الثقفي مولاهم، النيسابوري، إمام حافظ محدث، كان مجاب الدعوة، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، دخل بغداد، توفي بنيسابور سنة 313هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 14/388، وطبقات الشافعية 3/108 .(1/133)
_______________________________________________ ص (122)
قال الذهبي _ معلقاً _: _ إنما يكفر بعد علمه بأن الرسول صلي الله عليه وسلم قال ذلك، ثم إنه جحد ذلك ولم يؤمن به.(1) "
_ وقال الآجري: _ وكان مما بينه صلى الله عليه وسلم لأمته أنه أعلمهم في غير حديث " إنكم ترون ربكم عز وجل(2) " ورواه جماعة من صحابته رضي الله عنهم، وقبلها العلماء عنهم أحسن القبول، كما قبلوا عنهم علم الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وعلم الحلال والحرام، كذا قبلوا منهم الأخبار أن المؤمنين يرون الله عز وجل ولا يشكون في ذلك، ثم قالوا: _ من رد هذه الأخبار فقد كفر.(3) "
_ ويقول ابن قدامة المقدسي رحمه الله: _ " جحود الاستواء كفر؛ لأنه رد لخبر الله، وكفر بكلام الله، ومن كفر بحرف متفق عليه فهو كافر، فكيف بمن كفر بسبع آيات، ورد خبر الله تعالى في سبعة مواضع من كتابه (4)"
ويقول ابن تيمية: _ " الصواب أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافراً، إذا كان مقراً بما جاء الرسول صلي الله عليه وسلم، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يقتضي كفره إذا لم يعلمه، كحديث الذي أمر أهله بتحريقه ثم تذريته.(5) "
__________
(1) مختصر العلو ص 232، وانظر سير أعلام النبلاء 14/396 0
(2) أخرجه البخارى، ك التوحيد، (13/419)، ح (7434)، ومسلم، ك الإيمان ( 1/163) ح ( 299 )
(3) الشريعه ص 253 .
(4) ذم التأويل ص 26، ت:- بدر البدر 0
(5) 10) مجموع الفتاوى 7/538 .(1/134)
ويقول أيضاً: _ " من قال إن الله لم يكلم موسي تكليماً، فهذا إن كان لم يسمع القرآن، فإن يعرف أن هذا نص القرآن، فإن أنكره بعد ذلك استتيب، فإن تاب وإلا قتل، ولا يقبل منه إن كان كلامه بعد أن يجحد نص القرآن، بل لو قال إن معنى كلامى إنه خلق صوتا في الهواء فأسمعه موسى كان كلامه – أيضا – كفراً، وهو قول الجهمية الذين كفّرهم السلف، وقالوا يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا، ولكن من كان مؤمناً بالله ورسوله مطلقاً، ولم يبلغه من العلم ما يبين له الصواب فإنه لا
___________________________________________________ ص (123)
يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي من خالفها كفر، إذ كثير من الناس يخطىء فيما يتأوله من القرآن، ويجهل مما يرد من معاني الكتاب والسنة، والخطأ والنسيان مرفوعان عن هذه الأمة، والكفر لا يكون إلا بعد البيان.(1) "
ومن خلال تلك النقول يظهر وجه كون إنكار اسم أو صفة لله تعالى كفراً وناقضاً للإيمان، لما فيه من التكذيب للنصوص الشرعية.
(ب) إن في هذا النفي إلحاداً في أسماء الله تعالى، وتعطيلاً لما يجب لله عز وجل من الإثبات المفصل كما يليق بجلاله وعظمته.
__________
(1) مجموع الفتاوى ص 12/523، 524 .(1/135)
فمن أنواع الإلحاد في أسمائه تعالى: _ التعطيل، كما ذكر ذلك ابن القيم عندما قال: _ " تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد، ويقولون: _ لا حياة له، ولا سمع، ولا بصر، ولا كلام، ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعاً ولغة وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها، فكلاهما ملحد في أسمائه، ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب، وكل من جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله فقد ألحد في ذلك فليستقل أو ليستكثر(1) "
ويقول ابن القيم أيضاً: _ " كلما كان الرجل أعظم تعطيلاً، كان أعظم شركاً، وتوحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل من كل وجه، فإن مضمونه إنكار حياة الرب، وعلمه، وقدرته، وسمعه، وبصره، وكلامه، وإنكار وجهه الأعلى ويديه، ومجيئه، وإتيانه ومحبته، ورضاه، وغضبه، وضحكه، وسائر ما أخبر به الرسول عنه، ومعلوم أن هذا التوحيد هو نفس تكذيب الرسول بما أخبر به عن الله. (2)"
__________________________________________________ ص (124)
ويؤكد ابن القيم في نونيته على أن التعطيل هو أصل الزندقة وأساسها فيقول: _
" والله ما قام البناء لدين …………رسل الله بالتعطيل للديان
ما قام إلا بالصفات مفصلاً …………إثباتها تفصيل ذي عرفان
فهي الأساس لديننا ولكل …………دين قبله من سائر الأديان
وكذاك زندقة العباد أساسها …………التعطيل يشهد ذا أولو العرفان
__________
(1) بدائع الفوائد 1/191، 192، وانظر مختصر الصواعق المرسلة 2/110، 111 .
(2) مختصر الصواعق المرسلة 1/243، 244، وانظر الصواعق المرسلة 2/403، ومدارج السالكين 3/347 .(1/136)
والله ما في الأرض زندقة بدت …………إلا من التعطيل والنكران
والله ما في الأرض زندقة بدت …………من جانب الإثبات والقرآن(1) "
كما يقرر ابن القيم في نفس النونية تلازم التعطيل والشرك فيقول: _
" واعلم بأن الشرك والتعطيل …………مذكانا هما لاشك مصطحبان
أبداً فكل معطل هو مشرك …………حتماً وهذا واضح التبيان
فالعبد مضطر إلى من يكشف …………البلوى ويغني فاقة الإنسان
وإليه يصمد في الحوائج كلها …………وإليه يفزع طالب لأمان
فإذا انتفت أو صافه وفعاله …………وعلوه من فوق كل مكان
فزع العباد إلى سواه وكان ذا …………من جانب التعطيل والنكران
فمعطل الأوصاف ذاك معطل …………التوحيد حقاً ذان تعطيلان))(2)
كما أن التعطيل سوء ظن بالله تعالى، يقول ابن القيم: _
" ولم يجئ في القرآن وعيد أعظم من وعيد من ظن به ظن السوء، قال تعالى: _ {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [الفتح، آية 6].
وقال تعالى: _ {وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ {22} وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} [فصلت، آية 22، 23].
______________________________________________ ص (125)
فهؤلاء ظنوا أنه لا يعلم بعض الجزئيات، فكيف بمن ظن أنه لا علم له، ولا سمع، ولا بصر ولا تكلم ولا يتكلم، ولا استوى على عرشه... (3)"
__________
(1) شرح النونية لابن عيسي 2/343 .
(2) شرح النونية 2/448 .
(3) الصواعق المرسلة 4/1356، 1357، وانظر مدارج السالكين 3/347 .(1/137)
وإضافة إلى ما سبق، فإن التعطيل تنقص للرب عز وجل، فالنفاة أنكروا الصفات حتى أوقعهم هذا التعطيل في التمثيل والتشبيه بالجمادات.. بل والمعدومات.
" قال بعض أهل العلم: _ إن الجهمية هم المشبهة، لأنهم شبهوا ربهم بالصنم، والأصم، والأبكم الذي لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، ولا يخلق. (1)"
ويقول ابن تيمية: _ " إن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل، مثلوا أولاً وعطلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى.(2) "
ويقول عن المعطلة _ في موضع آخر _: _ " وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق، وينفون مضمون ذلك، ويكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته، وألحدوا في أسماء الله وآياته وخرجوا عن القياس العقلي والنص الشرعي، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح، ولا منقول صحيح،ثم لابد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات، فإذا أثبتوا البعض ونفوا البعض، قيل لهم: _ ما الفرق بين ما أثبتموه ونفيتموه؟ ولم كان هذا حقيقة، ولم يكن وهذا حقيقة؟ لم يكن لهم جواب أصلاً، وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعاً وقدراً.
وقد تدبرت كلام عامة من ينفي شيئاً مما أثبته الرسل من الأسماء والصفات فوجدتهم كلهم متناقضين... (3) "
__________________________________________________ ص (126)
__________
(1) خلق أفعال العباد للبخاري ص 28 .
(2) مجموع الفتاوى 5/27، وانظر مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم 2/111
(3) مجموع الفتاوى 5/209 .(1/138)
ويقول أيضاً: _ " إن هذا الذي فر من أن يجعل القديم الواجب موجوداً، موصوفاً بصفات الكمال، لئلاً يلزم ما ذكره من التشبيه والتجسيم، وجعل نفي هذا اللازم دليلاً على نفي ما جعله ملزوما ً له، لزمه في آخر الأمر ما فر منه من جعله الموجود الواجب جسماً يشبه غيره، مع أنه وصفه بصفات النقص التي يجب تنزيه الرب عنها، ومع أنه جحد الخالق جل جلاله، فلزمه مع الكفر الذي هو أعظم من كفر عامة المشركين، فإنهم كانوا يقرون بالصانع مع عبادتهم لما سواه، ولزمه مع هذا أنه من أجهل بنى آدم وأفسدهم عقلاً ونظراً وأشدهم تناقضاً.
وهكذا يفعل الله بالذين يلحدون في أسمائه وآياته.(1) "
(جـ) يستلزم نفي الأسماء أو الصفات لوازم شنيعة جداً(2)، وقد ذكر ابن القيم عشرة لوازم منها ما يلي: _
أحدها : _ جحد الصانع ونفيه.
الثاني : _ سلب كماله عنه (3) .
الثالث : - وصفه بالنقائص والعيوب.
الرابع : _ تشبيهه بالجمادات الناقصة.
الخامس: _ تشبيهه بالمعدومات، بل بالممتنعات.
السادس: _ الطعن فيما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله.
السابع : _ القدح في علم الرسول أو بيانه أو نصحه.
الثامن : _ إفساد الفطر والعقول وتغييرها عما فطرت عليه، كإفساد الشياطين لها بالشرك واتباع الغي.(4) "
____________________________________________________________ ص (127)
__________
(1) مجموع الفتاوى 5/362، وانظر رسالة منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات للشنقيطي ص 35 .
(2) عندما نورد هذه اللوازم، فلا يعني بالضرورة أن تكون مذهباً لأولئك النفاة، وإنما هو من باب الاستدلال بفساد تلك اللوازم على فساد الملزوم الذي هو التعطيل، لأن لوازم الأقوال من جملة الأدلة على صحتها أو فسادها / انظر توضيح الكافية الشافية للسعدي ص 113 .
(3) نفي الأسماء والصفات هو في الحقيقة نفي للكمال عن الله تعالى .
(4) الصواعق المرسلة 4/1235، وانظر 4/1427، 1429، 3/1144، 1150 .(1/139)
ونورد مثالاً لبعض اللوازم التي تلزم من قال بخلق القرآن، وأنكر كلام الله تعالى.
يقول الدارمي: _ " أخبر الله تبارك وتعالى أن القرآن كلامه، وادعت الجهمية أنه خلقه، وأخبر الله تعالى أنه كلّم موسى تكليماً، وقال هؤلاء: لم يكلمه الله بنفسه، ولم يسمع موسى نفس كلام الله، إنما سمع كلاماً خرج إليه من مخلوق، ففي دعواهم دعا مخلوق موسي إلى ربوبيته، فقال: _ {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه، آية 12]، فقال له موسي في دعواهم: _ صدقت، ثم أتى فرعون يدعوه أن يجيب إلى ربوبية مخلوق كما أجاب موسي في دعواهم، فما فرق بين موسي وفرعون في مذهبهم في الكفر، إذا فأي كفر أوضح من هذا؟.(1) "
ويقول ابن تيمية: -
" اشتهر عند خواص الأمة وعوامها أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإطلاق القول أن من قال إنه مخلوق فقد كفر.
_ ثم أورد ابن تيمية بعض أقوال السلف في ذلك كقول عبد الله بن المبارك: _ من قال {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه، آية 14]مخلوق فهو كافر، ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك.(2) "
ثم قال: _ " ومعنى كلام هؤلاء السلف رضي الله عنهم أن من قال إن كلام الله مخلوق خلقه في الشجرة أو غيرها كان حقيقة قوله إن الشجرة التي قالت لموسى " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني " ومن قال: _ هذا مخلوق قال ذلك، فهذا المخلوق عنده كفرعون الذي قال {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات، آية 24].
__________
(1) الرد على الجهمية ص 174، وانظر الرد على بشر المريسي ( عقائد السلف ) ص 363 _ 365 .
(2) انظرخلق أفعال العباد للبخاري ص 10 .(1/140)
كلاهما مخلوق، وكلاهما قال ذلك، فإن كان قول فرعون كفراً، فقول هؤلاء أيضاً كفر، ولا ريب أن قول هؤلاء يؤول إلى قول فرعون، وإن كانوا لا يفهمون ذلك، فإن فرعون كذب موسي فيما أخبر به أن ربه هو الأعلى، وأنه كلمه كما قال تعالى: _ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر، آية 36، 37]، وهو قد كذب موسي في أن الله كلمه.(1) "
__________________________________________________ ص (128)
5_ في نهاية هذا المبحث نسوق جملة من أقوال أهل العلم في تكفير من أنكر اسماً أو صفة ثابتة لله عز وجل.
" يقول الإمام أحمد: _
_ إذا قال الرجل: _ العلم مخلوق فهو كافر؛ لأنه يزعم أنه لم يكن له علم حتى خلقه، وقال أيضاً: من قال القرآن مخلوق فهو عندنا كافر، لأن القرآن من علم الله عز وجل، قال الله عز وجل: _ {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران، آية 61].(2) "
ويقول رحمه الله: _
من قال إن الله عز وجل لا يرى في الآخرة فهو كافر(3) "
" وقال هارون بن معروف(4): _
من زعم أن الله عز وجل لا يتكلم فهو يعبد الأصنام. (5)"
__________
(1) مجموع الفتاوى 12/509، 510 .
(2) السنة للإمام عبد الله بن الإمام أحمد 1/102، 103، وانظر 2/385، وانظر أصول اللالكائي 3/405، 406، والشريعة للآجري ص 80 .
(3) مسائل الإمام أحمد لأبي داوود ( عقائد السلف ) ص 105، وانظر الشريعة للآجري ص 255
(4) أبو علي هارون بن معروف المروزي البغدادي، وثقة أبو حاتم وغيره مات سنة 231 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 11/129، وشذرات الذهب 2/71 .
(5) هو أبو جعفر، محمد بن مصعب، أحد العباد المشهورين، والقراء المعروفين، أثنى عليه أحمد ابن حنبل ووصفه بالسنة، مات ببغداد سنة 228 هـ .
انظر تاريخ بغداد 3/279 .(1/141)
" وقال محمد بن مصعب العابد(1): _
من زعم أنك لا تتكلم ولا تُرى في الآخرة فهو كافر بوجهك لا يعرفك، أشهد أنك فوق العرش، فوق سبع سماوات، وليس كما يقول أعداء الله الزنادقة(2) "
وقال نعيم بن حماد (3): _
_________________________________________________ ص (129)
من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف به نفسه ورسوله تشبيه(4) "
وقال ابن خزيمة (5): _
" من لم يقر بأن الله على عرشه، استوى فوق سبع سماواته، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على مزبلة لئلا يتأذى يريحه أهل القبلة وأهل الذمة. (6)"
وقال الآجري: _
" باب ذكر الإيمان بأن القرآن كلام الله عز وجل، وأن كلامه جل وعلا ليس بمخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر. "
__________
(1) هو أبو جعفر، محمد بن صعب، أحد العبّاد المشهورين، والقراء المعروفين، أثنى عليه أحمد ابن حنبل ووصفه بالسنة، مات ببغداد سنة 228هـ .
انظر: تاريخ بغداد 3/279.
(2) المرجع السابق 1/173، وقال المحقق: إسناد صحيح، وانظر مختصر العلو للذهبي ص 183
(3) هو نعيم بن حماد الخزاعي الفرضي المروزي، الحافظ، أحد علماء الحديث، له تصانيف، نصر السنة، ومات في محنة القول بخلق القرآن سنة 229 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 10/595، وشذرات الذهب 2/67 .
(4) أصول اللالكائي 3/406، وانظر مختصر العلو للذهبي ص 184 .
(5) محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري الشافعي، إمام الأئمة، صاحب التصانيف، حافظ فقيه، نصر السنة ورد على المبتدعة، توفي سنة 321 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 3/109، وسير أعلام النبلاء 14/365 .
(6) مختصر العلو للذهبي ص 225، وانظر سير أعلام النبلاء 14/373 .(1/142)
_ ثم قال _: _ اعلموا رحمنا الله وإياكم أن قول المسلمين الذين لم تزغ قلوبهم عن الحق ووفقوا للرشاد قديماً وحديثاً؛ أن القرآن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق، لأن القرآن من علم الله تعالى، وعلم الله لا يكون مخلوقاً تعالى الله عز وجل عن ذلك، دل على ذلك القرآن والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم، وقول أئمة المسلمين رحمة الله تعالى عليهم، لا ينكر هذا إلا جهمي خبيث، والجهمية عند العلماء كفار. (1) "
" وقال هارون الفروي (2): _
" لم أسمع أحداً من أهل العلم بالمدينة وأهل السنن إلا وهم ينكرون على من قال القرآن مخلوق ويكفرونه. (3) "
_________________________________________________ ص (130)
وقال النووي: _
" قال المتولي: _ لو نفى ما هو ثابت للقديم(4) بالإجماع، ككونه عالماً قادراً... كان كافراً. (5) "
ويقول ابن تيمية: _
" والذي عليه جمهور السلف أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة فهو كافر، فإن كان ممن لم يبلغه العلم في ذلك، عرف ذلك، كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر. (6) "
ويقول أيضاً: _
" القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك. ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين. (7)"
وجاء في الفتاوى البزازية: _
__________
(1) الشريعة ص 75 .
(2) هارون بن موسي الفروي المدني، روى عنه الترمذي والنسائي وغيرهما، مات سنة 253 هـ . انظر: تهذيب التهذيب 11/13 .
(3) المرجع السابق ص 78 .
(4) لفظ " القديم " من الألفاظ المجملة، والمتعين أن يوصف ربه سبحانه بالألفاظ الشرعية .
(5) روضة الطالبين 10/64 .
(6) مجموع الفتاوى 6/486 .
(7) درء تعارض العقل والنقل 7/26، 27 = باختصار، وانظر 9/396، 370 .(1/143)
" يجب إكفار القدرية في نفيهم كون الشر من خلق الله تعالى، وفي دعواهم أن كل فاعل خالق فعل نفسه. (1) "
و قال المرداوي: _
" من أشرك بالله، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، أو صفة من صفاته كفر بلا نزاع في الجملة. (2)"
__________________________________________________ص (131)
المبحث الثالث
نواقض الإيمان القولية في توحيد العبادة
1_ في مطلع هذا المبحث نشير إلى معنى توحيد العبادة، وبيان أهميته، فتوحيد العبادة هو توحيد الله تعالى بأفعال العباد، وذلك بأن تصرف جميع أنواع العبادة لله وحده لا شريك له، وهذا التوحيد هو أصل الدين، ومن أجله أرسلت الرسل عليهم السلام وأنزلت الكتب.
وسنورد جملة من كلام أهل العلم في تقرير ذلك.
يقول ابن تيمية: _ " إن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده فلا يدعى إلا هو ولا يخشى إلا هو، ولا يتقى إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يكون الدين إلا له، لا لأحد من الخلق، وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم!(3) "
ويقول أيضاً: " أما التوحيد الذي ذكره الله في كتابه، وأنزل به كتبه، وبعث به رسله، واتفق عليه المسلمون من كل ملة، فهو كما قال الأئمة شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما بين ذلك بقوله {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة، آية 163] فأخبر أن الإله إله واحد، ولا يجوز أن يتخذ إله غيره، فلا يعبد إلا إياه.(4) "
__________
(1) الفتاوى البزازية 6/318، 319 .
(2) الإنصاف 10/326، وانظر المبدع شرح المقنع 9/171، والفروع 6/164، وكشاف القناع 6/168، وشرح منتهى الإرادات 3/386 .
(3) منهاج السنة 3/490
(4) التسعينية ( ضمن فتاوى ابن تيمية، ط الكردي ) ص 208 .(1/144)
إلى أن قال: _ " وقال تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل، آية 36] فبين سبحانه أنه بهذا التوحيد بعث جميع الرسل، وأنه بعث إلى كل أمة رسولاً به، وهذا هو الإسلام الذي لا يقبل الله لا من الأولين، ولا من الآخرين ديناً غيره، قال تعالى: _ {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران، آية 83].
فدين الله أن يدينه العباد، ويدينون له، فيعبدونه وحده، ويطيعونه، وذلك هو الإسلام له، فمن ابتغى غير هذا ديناً، فلن يقبل منه، وكذلك قال في
__________________________________________________ ص (131)(1/145)
الآية الأخرى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {18} إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران، آية 18، 19]فذكر أن الدين عند الله الإسلام، بعد إخباره بشهادته، وشهادة الملائكة وأولي العلم أن لا إله إلا هو، والإله هو المستحق للعبادة، فأما من اعتقد في الله أنه رب كل شيء وخالقه، وهو مع هذا يعبد غيره، فإنه مشرك بربه، متخذ من دونه إلهاً آخر، فليست الإلهية هي الخلق، أو القدرة على الخلق، أو القدم، كما يفسرها هؤلاء المبتدعون في التوحيد من أهل الكلام، إذ المشركون الذين شهد الله ورسوله بأنهم مشركون من العرب وغيرهم لم يكونوا يشكون في أن الله خالق كل شيء وربه، فلو كان هذا هو الإلهية لكانوا قائلين إنه لا إله إلا هو، فهذا موضع عظيم جداً، ينبغي معرفته لما قد لبس على طوائف من الناس أصل الإسلام، حتى صاروا يدخلون في أمور عظيمة هي شرك ينافي الإسلام لا يحسبونها شركاً.(1) "
ويؤكد ابن القيم على وجوب صرف جميع أنواع العبادة لله وحده فيقول: _ " فالسجود، والعبادة، والتوكل، والإنابة، والتقوى، والخشية، والتحسب، والتوبة، والنذر والحلف، والتسبيح، والتكبير، والتهليل، والتحميد، والاستغفار، وحلق الرأس خضوعاً وتعبداً، والطواف بالبيت، والدعاء، كل ذلك محض حق الله لا يصلح، ولا ينبغي لسواه من ملك مقرب، ولا نبي مرسل.(2) "
ويبين ابن القيم أهمية هذا التوحيد وعظم الحاجة إليه، فيقول: _
__________
(1) المرجع السابق ص 209 .
(2) الجواب الكافي ص 180، 181 .(1/146)
" اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم، والسجود، والتقرب أعظم من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولابد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه
_________________________________________________ ص (133)
وإكرامه لها.(1) "
ويطنب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بيان معنى توحيد العبادة وتحقيقه، وعظم أمره، وقد أطال في هذا، وأجاد وأفاد، حيث قرر هذا التوحيد، ورد على المخالفين في أكثر كتبه ورسائله.
يقول رحمه الله: _
" إن الله تبارك وتعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلينا على حين فترة من الرسل، فهدى الله به إلى الدين الكامل، والشرع التام، وأعظم ذلك وأكبره وزبدته هو إخلاص الدين لله بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك، وهو أن لا يدعى أحد من دونه من الملائكة والنبيين فضلاً عن غيرهم... وجميع العبادة لا تصلح إلا له وحده لا شريك له، وهذا معنى قول لا إله إلا الله، فإن المألوه هو المقصود المعتمد عليه، وهذا أمر هين عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من يعرفه.(2) "
ويقول أيضاً: _
" توحيد الألوهية هو الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه، وهو توحيد الله بأفعال العباد كالدعاء، والرجاء، والخوف، والخشية، والاستعانة، والاستعاذة، والمحبة، والإنابة، والنذر، والذبح، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والتذلل، والتعظيم.(3) "
__________
(1) طريق الهجرتين 57،58 .
(2) الدرر السنية 2/21 باختصار .
(3) الدرر السنية 2/35، وانظر 2/37، 2/152، 153 .(1/147)
ونلمس الحرص الشديد من الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عندما نجده يؤكد على هذا التوحيد قائلاً: _
" فالله الله يا إخواني، تمسكوا بأصل دينكم، وأوله وآخره وأسه، ورأسه شهادة أن لا إله الله، واعرفوا معناها، وأحبوها، وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت وعادوهم وأبغضوا من أحبهم، أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم، أو قال ما علي منهم، أو قال: ما كلفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله وافترى، فقد كلفه الله تعالى بهم وافترض عليه الكفر
________________________________________________ ص (134)
بهم، والبراءة منهم ولو كانوا إخوانهم وأولادهم، فالله الله تمسكوا بذلك لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئاً، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.(1) "
ومما سطره الشيخ عبد الرحمن السعدي في بيان أهمية توحيد العبادة ومعناه، ما يلي: _
__________
(1) تفسير كلمة التوحيد ( ضمن مجموعة التوحيد ) ص 252 .(1/148)
" أعظم الأصول التي يقررها القرآن ويبرهن عليها توحيد الألوهية والعبادة، وهذا الأصل العظيم أعظم الأصول على الإطلاق، وأكملها وأفضلها، وأوجبها وألزمها لصلاح الإنسانية، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وخلق المخلوقات، وشرع الشرائع لقيامه، وبوجوده يكون الصلاح، وبفقده يكون الشر والفساد، وجميع الآيات القرآنية إما أمر به، أو بحق من حقوقه، أو نهي عن ضده، أو إقامة حجة عليه أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة، أو بيان الفرق بينهم وبين المشركين، ويقال له: _ توحيد الإلهية، فإن الإلهية وصفه تعالى الذي ينبغي أن يؤمن به كل بني آدم، ويوقنوا أنه الوصف الملازم له سبحانه، الدال عليها الاسم العظيم وهو الله، وهو مستلزم جميع صفات الكمال، ويقال له توحيد العبادة باعتبار وجوب ملازمة وصف العبودية بكل معانيها للعبد بإخلاص العبادة لله تعالى، وتحقيقها في العبد أن يكون عارفاً بربه، مخلصاً له جميع عبادته، محققاً ذلك بترك الشرك صغيره وكبيره.(1) "
ويقول في موضع آخر عن هذا التوحيد: _
" وهو الذي خلق الله الخلق لأجله، وشرع الجهاد لإقامته، وجعل الثواب الدنيوي والأخروي لمن قام به وحققه، والعقاب لمن تركه، وبه يحصل الفرق بين أهل السعادة القائمين به، وأهل الشقاوة التاركين له، فعلى العبد أن يبذل جهده في معرفته، وتحقيقه، والتحقق به، ويعرف حده وتفسيره، ويعرف حكمه ومرتبته، ويعرف آثاره ومقتضياته، وشواهده وأدلته، وما يقويه وينميه، وما ينقضه أو ينقصه؛ لأنه الأصل الأصيل لا تصلح الأصول إلا به، فكيف بالفروع!
فأما حده وتفسيره وأركانه فهو أن يعلم العبد ويعترف على وجه العلم واليقين أن الله هو المألوه وحده المعبود على الحقيقة، وأن صفات الإلهية ومعانيها ليست
_________________________________________________ ص (135)
__________
(1) القواعد الحسان ص 192 .(1/149)
موجودة بأحد من المخلوقات، ولا يستحقها إلا الله تعالى.(1) "
2_ وإذا تقرر معنى توحيد العبادة وأهميته، فإننا نشير إلى ما يضاده ويناقضه وهو الشرك، فنوجز الحديث عن تعريفه وخطره على ما يلي: _
يقول ابن تيمية: _ " وأصل الشرك أن تعدل بالله تعالى مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده، فإنه لم يعدل أحد بالله شيئاً من المخلوقات في جميع الأمور، فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك به..(2) "
يقول ابن القيم في نونيته: _
" والشرك فاحذره فشرك ظاهر ………ذا القسم ليس يقابل الغفران
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا كان من حجر ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ………ويحبه كمحبة الرحمن(3) "
ويقول أيضاً: _ " والشرك الأكبر: - لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: _ {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء، آية 97،98]. مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة، كما هو حال أكثر مشركي العالم.(4) "
ويقول إسماعيل الدهلوي(5): _ " إن حقيقة الشرك أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال خصها الله بذاته العلية، وجعلها شعاراً للعبودية، لأحد من الناس
________________________________________________ ص (136)
__________
(1) الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين ص 57 .
(2) الاستقامة 1/344 .
(3) شرح نونية ابن القيم لابن عيسى 2/263
(4) مدارج السالكين 1/339
(5) هو إسماعيل بن عبد الغنى بن عبد الرحيم الدهلوي، كان عالماً مجاهداً، نشأ في الهند، وسافر الى الحرمين، له مصنفات كثيرة، توفي سنة 1246 هـ .
انظر ترجمته في مقدمة كتابه " رسالة التوحيد "(1/150)
كالسجود لأحد،و الذبح باسمه، والنذر له والاستغاثة به في الشدة... كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح الإنسان به مشركاً، وإن كان يعتقد أن هذا الإنسان، أو الملك، أو الجن الذي يسجد له، أو ينذر له، أو يذبح له، أو يستغيث به دون الله شأناً، وأن الله هو الخالق.(1) "
ويقول الشيخ عد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (2): _
" الشرك قد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بتعريف جامع، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: _ أن تجعل لله نداً وهو خلقك.(3) " والند المثل والشبيه، فمن صرف شيئاً من العبادات لغير الله فقد أشرك به شركاً يبطل التوحيد وينافيه.(4) "
ومما كتبه محمد رشيد رضا(5) في بيان هذا الشرك قوله: _
" أن يعتقد المرء أن في الخلق من يشاركه تعالى، أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها ويصده عن بعض بشفاعته عنده، لأجل قربه منه.(6) "
__________
(1) رسالة التوحيد ص 32، 33 = باختصار .
(2) هو عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية سنة 1225 هـ، ودرس في الأزهر مختلف العلوم، وكان عالماً محققاً، له رسائل ومؤلفات وشعر، توفي بالرياض سنة 1293 هـ .
انظر: علماء نجد 1/63، ومشاهير علماء نجد ص 93 .
(3) أخرجه البخاري ك التفسير ( 8/163 ) ح ( 4477 ) وأخرجه مسلم، ك الإيمان ( 1/90 ) ح (141 ) .
(4) الدرر السنية 2/153 .
(5) هو محمد رشيد بن علي رضا القلموني الحسيني، من رجال الاصلاح في هذا العصر، نشأ في طرابلس الشام، ثم رحل إلى مصر، له مؤلفات وفتاوى توفي بالقاهرة سنة 1354 هـ .
انظر: الأعلام 6/126، معجم المؤلفين 9/310 .
(6) تفسير المنار 2/55 .(1/151)
وعرف الشيخ عبد الرحمن السعدي هذا الشرك بتعريف جامع مانع فقال: _ " إن حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله، فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به
_______________________________________________ ص (137)
من الشارع، فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر فعليك بهذا الضابط للشرك الكبر الذي لا يشذ عنه شيء(1).
وأما خطر هذا الشرك وشناعته، فأمر لا يخفى على الموحد، فالشرك أعظم الذنوب عند الله وأشنعها على الإطلاق كما مر في حديث ابن مسعود، والشرك هو الذنب الوحيد الذي يمتنع الله عن مغفرته، وهو الموجب للخلود في النار، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الذنب بقوله: _ لا تشرك بالله شيئاً وإن قطعت أو حرقت. (2)"
يقول السعدي في بيان ذلك: _
" الشرك لا يغفره الله تعالى، لتضمنه القدح في رب العالمين، ووحدانيته وتسوية المخلوق، الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، بمن هو مالك النفع والضر الذي ما من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه، والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات، فمن أعظم الظلم وأبعد الضلال، عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته، وصرف شيء منها للمخلوق، الذي ليس له من صفات الكمال شيء.(3) "
ويقول السعدي عند قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان، آية 13]
" ووجه كونه ظلماً عظيماً، أنه لا أفظع ولا أبشع ممن سوى المخلوق من تراب، بمالك الرقاب، وسوى الذي لا يملك من الأمر شيئاً، بمالك الأمر كله.
__________
(1) القول السديد ص 43، وانظر الحق الواضح المبين ص 59 .
(2) سيأتي تخريجه ص 465
(3) تفسير السعدي 2/165(1/152)
وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه، بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه وسوى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النعم، بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم، ودنياهم، وأخراهم، وقلوبهم، وأبدانهم، إلا منه، ولا يصرف السوء إلا هو.
فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟!
__________________________________________________ ص (138)
وهل أعظم ظلماً، ممن خلق الله تعالى لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسه الشريفة، فجعلها في أخس المراتب؟.(1) "
3_ والآن ننتقل للحديث عن معنى الدعاء والاستغاثة وما في معناهما، ثم نشير إلى أهمية الدعاء، وعظم شأنه، ووجوب صرفه لله تعالى وحده لا شريك له، فمعنى الدعاء: السؤال والطلب.
يقول الفيومي: _
" دعوت الله أدعوه ابتهلت إليه بالسؤال، ورغبت فيما عنده من الخير. (2)" وأما الاستغاثة فهي طلب الغوث، ويقال في النصرة، وأغاثه إذا نصره (3). والاستعاذة هي الالتجاء والاعتصام والتحرز، جاء في اللسان: _ " عاذ به: _ لاذ به ولجأ إليه واعتصم.(4) "
وأما معنى الاستعانة فهي طلب المعونة، والعون: _ الظهير على الأمر (5).
يقول الخطابي: _
" ومعنى الدعاء استدعاء العبد ربه _ عز وجل _ العناية، واستمداده إياه المعونة، وحقيقته: _ إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية، واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله عز وجل، وإضافة الجود، والكرم إليه.(6) "
__________
(1) تفسير السعدي 6/155، 156 .
(2) المصباح المنير ص 231، وانظر لسان العرب 14/257، ومفردات الراغب ص 244، 245، وفتح الباري 11/94 .
(3) انظر المصباح المنير ص 546، ومفردات الراغب ص 550 .
(4) 3/498 وانظر المصباح المنير ص 528، 529، ومفردات الراغب ص 526 .
(5) انظر: المصباح المنير ص 524، ومفردات الراغب ص 528، 529، واللسان 13/298 .
(6) شأن الدعاء ص 4، وانظر شرح العقيدة الطحاوية 2/678 .(1/153)
ومما ينبغي الإشارة إليه أن الدعاء يطلق على عدة معان منها: _ العبادة، والتوحيد، والنداء، والاستغاثة، والسؤال، والاستعانة وغيرها(1).
________________________________________________ ص (139)
وأما الحديث عن أهمية الدعاء وعظم شأنه، فحديث طويل(2)، ولكن حسبنا في هذا المبحث أن نقتصر على ما يلي: _
إن الدعاء من أجل العبادات وأعظمها، ولذا فقد ذكر في القرآن الكريم في نحو ثلاثمائة موضع (3)، وقد سماه الله تعالى عبادة، وتوعد من ترك الدعاء _ استكباراً _ بدخوله جهنم ذليلاً حقيراً.
فقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر آية 60].
وسمى الله تعالى الدعاء ديناً كما في قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت، آية 65].
وقد نهى الله تعالى عن دعاء غيره فقال: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس، آية 106]{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن، آية 18].
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه(4)
__________
(1) انظر: الدعاء المأثور وآدابه للطرطوشي ص 31 _ 33، ونزهة الأعين النواظر لابن الجوزي 1/182، 183، وكتاب الأزهية في أحكام الأدعية للزركشي ص 26، ورسالة الشرك ومظاهره للميلي ص 185 .
(2) انظر رسالة : الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية > ماجستير في الجامعة الإسلامية بالمدينة للباحث جيلاني العروسي، وقد استفدت منها .
(3) انظر الدرر السنية 9/418 .
(4) النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وأول مولود في الإسلام من الأنصار بعد الهجرة، صار قاضياً بدمشق، وأميراً على الكوفة، توفي سنة 65 هـ.
انظر: الإصابة 6/440، وسير أعلام النبلاء 3/411 .(1/154)
قال:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: _ " إن الدعاء هو العبادة " ثم قرأ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر، آية 60](1) "
يقول الشوكاني: _
" قوله " الدعاء هو العبادة " هذه الصفة المقتضية للحصر من جهة تعريف المسند إليه، ومن جهة تعريف المسند، ومن جهة ضمير الفصل تقتضي أن الدعاء
________________________________________________ ص (140)
هو أعلى أنواع العبادة وأرفعها وأشرفها... والآية الكريمة قد دلت على أن الدعاء من العبادة، فإنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه، ثم قال " إن الذين يستكبرون عن عبادتي " فأفاد ذلك أن الدعاء عبادة، وأن ترك دعاء الرب سبحانه وتعالى استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار، وكيف يستكبر العبد عن دعاء من هو خالق له، ورازقه وموجده من العدم، وخالق العدم(2) كله، ورازقه، ومحييه، ومميته، ومثيبه، ومعاقبه، فلاشك أن الاستكبار طرف من الجنون، وشعبة من كفران النعم (3). "
يقول حسين بن مهدي النعمي(4): _ " ومن أمعن النظر في آيات الكتاب، وما قص من محاورات الرسل مع أممهم، وجد أن أس الشأن، ومحط رحال القصد شيوعاً وكثرة، وانتشاراً وشهرة، هو دعاء الله وحده، وإخلاص العبادة له.(5) "
__________
(1) أخرجه أحمد 4/267، وأبو داود ح ( 1479 )، والترمذي ح ( 3372 )، وصححه النووي في الأذكار ص 333، وقال ابن حجر في الفتح ( 1/49 ): _ " إسناد جيد .
(2) لعلها: وخالق العالم .
(3) تحفة الذاكرين ص 25
(4) حسين بن مهدي النعمي التهامي، من أهل صبيا في جنوب غرب الجزيرة العربية، عالم فاضل، له مؤلفات، توفي بصنعاء سنة 1187 هـ .
انظر الأعلام 2/260 .
(5) معارج الألباب ص 214 .(1/155)
ويقول في _ موضع آخر _: _ " ولما كان الدعاء بكيفية الاضطرار والافتقار إلى القوي القهار، العزيز الغفار، وضعاً وضبطاً وصنعاً، وإبداء الفاقة والاحتياج إليه، وعدم الاستغناء عنه، مترجماً عن معنى عبد مملوك مربوب، والمدعو مالكه وربه كان حينئذ قاعدة أفق العبادة، ومنتثل (1)كنانتها، وهذا سر اختصاص الله به، وعدم استحقاق سواه، لتقاضي كيفيته التي وضع بها وبرز فيها: _ أن لا يكون إلا لله تعالى الذي هو أهل لما يستوجبه الدعاء ويلزمه من كون المدعو بالنعت الأكمل، والوصف الأجمل، ولله الأسماء الحسنى، والداعي ذليل له مفتقر إليه، معلق آماله به وعليه، راجياً للنفع منه... فالدعاء بوضعه وطبعه وحاصله: _ كأن يقيم
_______________________________________________ ص (141)
صلاة بتكبير وقراءة وركوع وسجود... (2)"
ومما أورده الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في بيان أهمية عبادة الدعاء... ما قاله: " وأنت ترى كل العبادات الظاهرة والباطنة دالة على الطلب والمسألة على اختلاف المطلوب والمسؤول.
وكان هذا الوجه في التعبير بالدعاء دون العبادة، في أكبر موارد القرآن والسنة، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم " أفضل الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت وهو على كل شيء قدير "(3) (4) "
__________
(1) نثل الكنانة: _ استخرج نبلها فنثرها .
انظر: ترتيب القاموس المحيط 4/323، والمصباح المنير ص 724
(2) المرجع السابق ص 224، 225 .
(3) أخرجه مالك، ك القرآن ( 1/215 ) ح ( 34 )، والترمذي ح (3585 )، وحسنه الألباني في " الصحيحة " ( 1503 ) .
(4) تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس ص 97، 98، وانظر خلاصة تفسير السعدي ص 57، والدرر السنية 9/420 .(1/156)
ويبين الشيخ أحمد بن عيسى(1) ما يتضمنه الدعاء من أنواع العبادة فيقول: " قد تقرر أن الدعاء يجمع من أنواع العبادة كثيرا كإسلام الوجه لمن يدعوه، والرغبة إليه، والاعتماد عليه، والخضوع له، والإطراح والتذلل، فمن أسلم وجهه لغير الله فهو مشرك شاء أم أبى.(2) "
ويقول الشيخ السعدي في بيان عظم الدعاء: _
" قال تعالى {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر، آية 14] فوضع كلمة " الدين " موضع كلمة " الدعاء " وهو في القرآن كثير جداً، يدل على أن الدعاء هو لب الدين وروح العبادة، ومعنى الآية هنا: _ أخلصوا له إذا طلبتم حوائجكم، وأخلصوا له أعمال البر والطاعة.(3)"
____________________________________________ ص (142)
4_ وإذا تقرر أن الدعاء عبادة من أعظم العبادات، وأجل الطاعات، وأنه يجب صرفه لله تعالى وحده لا شريك له، فإن من دعا أو استغاث أو استعان أو استعاذ(4) بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فقد كفر وخرج من الملة، سواء كان هذا الغير نبياً، أو ولياً، أو ملكاً، أو جنياً، أو غير ذلك من المخلوقات.
__________
(1) أحمد بن إبراهيم بن عيسى، ولد بشقراء سنة 1253 هـ، وطلب العلم في الرياض ومارس التجارة، وتولى القضاء، له مؤلفات، توفي سنة 1329 هـ .
انظر: مشاهير علماء نجد ص 125، وعلماء نجد /1/155 .
(2) 10) الرد على شبهات المستعينين بغير الله ص 47 .
(3) 11) القواعد الحسان ص 155 .
(4) يقول ابن تيمية: (( الاستعاذة، والاستجارة، والاستغاثة كلها من نوع الدعاء أو الطلب، وهي ألفاظ متقاربة ))
انظر مجموع الفتاوي 15 / 227(1/157)
كما قال الله تعالى: _ {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ {106} وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس، آية 106، 107].
وقوله تعالى: _ {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت، آية 17].
وقال تعالى: _ {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء، آية 213]، وقال عز وجل: _ {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص، آية 88].
وقال سبحانه: _ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ {5} وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف، آية 5،6].
وقال سبحانه وتعالى: _ {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن، آية 18].
وقال صلى الله عليه وسلم: _ " من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار.(1) " ولذا يقول ابن تيمية: _ " " ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان، أن يدعى غير الله، فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإن الشرك لظلم عظيم، {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف، آية 110].(2) "
__________________________________________________ ص (143)
__________
(1) أخرجه البخاري، ك التفسير ( 8/176 ) ح ( 4497 )، وأحمد 1/374 .
(2) الرد على البكري ص 95 .(1/158)
ويبين ابن القيم شناعة هذا الشرك فيقول: _
" ومن أنواعه (الشرك الأكبر) طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده.(1) "
ويجب أن يعلم أن من قصد غير الله بدعاء أو استعاذة أو استعانة فهو كافر، وإن لم يعتقد فيمن قصده تدبيراً، أو تأثيراً، أو خلقاً، فمشركو العرب الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يقولون عن معبوداتهم أنها تخلق، وترزق، وتدبر أمر من قصدها، بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم في غير موضع من كتابه بل كانوا يدعونها، ويستغيثون بها مع إقرارهم بأن الله هو المدبر الخالق الرزاق...(2)
ولذا يقول ابن تيمية: _ " كان من أتباع هؤلاء (المشركين) من يسجد للشمس والقمر، والكواكب ويدعوها كما يدعو الله تعالى يصوم لها، وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً.
ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك. (3)"
__________
(1) مدارج السالكين 1/346 .
(2) انظر في مناقشة من زعم جواز دعاء الأموات ما دام الداعي يعترف بأن الله هو الخالق: _ تفسير المنار 2/65، والدر النضيد للشوكاني ص 16_ 19، وضوابط التكفير للقرني ص 139 _ 148 .
(3) درء التعارض 1/227، 228 .(1/159)
وقد تمادى دعاة الوثنية في تجويز الاستغاثه بغير الله تعالى بحجة أن هؤلاء المستغيثين لا يعتقدون التأثير لغير الله تعالى، حتى نفوا التأثير وأسقطوا الأسباب، فليس دعاء الأموات سبباً في حصول المطلوب، ولكنه مقترن " فقط " بحصول المطلوب!! (1)
________________________________________________ ص (144)
ويقول حسين بن مهدي النعمي: - " لا يشترط في التنديد: _ أن ينتحل للسوى من الصفات والأسماء والفعال ما يختص به الحميد المجيد، بل هو أن تتكيف لذلك السوى بكيفية العابدية، وتتحقق أنت له بصفة المربوبية، وتقضي له بحالتك التي صنعتها، وصورة نعتك في عبادتك إياه فقط بأنه يربك ويربيك.(2) "
ولذا فقد غلط مرجئة المتكلمين ومن تبعهم عندما زعموا أن الشرك في الدعاء لا يكون شركاً إلا مع اعتقاد شريك مع الله سواء في ذاته أو في صفاته أو في أفعاله(3).
5_ وأما وجه كون دعاء غير الله من نواقض الإيمان، وكذا الاستغاثة والاستعانة والاستعاذة بغيره تعالى من نواقض الإيمان، فمن وجوه عديدة، منها ما يلي: _
(أ) من المعلوم أن الله تعالى هو الإله الحق، وأن معنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله تعالى وحده، فهو سبحانه وحده المستحق لجميع أنواع العبادة، والدعاء من أجل العبادات وأعظمها شأناً، وقد سماه الله تعالى عبادة، كما قال تعالى: _ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر، آية 60].
__________
(1) انظر لمعرفة أقوالهم والرد عليهم في كتاب دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لعبد العزيز العبد اللطيف ص 247 _ 250، ص 270 _ 275 .
(2) معارج الألباب ص 243، وانظر ص 214 .
(3) انظر لمزيد من التفصيل رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 173 .(1/160)
وقال سبحانه وتعالى في شأن إبراهيم عليه السلام {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا {48}فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}[مريم، آية 48، 49].
وقال تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة. وهم عن دعائهم غافلون. وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} [الأحقاف، آية 5، 6].
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: _
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: _ إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر، آية 60](1)"
__________________________________________________ ص (145)
فدعاء الله وحده إيمان وتوحيد، ودعاء غيره كفر وتنديد، فمن استغاث بغير الله تعالى فقد اتخذ مع الله نداً، وقد قال تعالى في حال من أشرك {وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار} [الزمر، آية 8]فكفره تعالى باتخاذ الأنداد، وهم الشركاء في العبادة(2).
وقد قال صلى الله عليه وسلم: _ " من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار.(3) "
وإذا كان الدعاء عبادة لا يجوز صرفها إلا لله وحده، فمن أثبت لغير الله تعالى ما لا يكون إلا لله فهو كافر(4)، وقد تقدم أن حد الشرك الأكبر هو صرف نوع أو فرد من العبادة لغير الله تعالى.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: _
__________
(1) تقدم تخريجه ص 139 .
(2) انظر الدرر السنية 2/95، 96 .
(3) تقدم تخريجه
(4) انظر الرد على البكري لابن تيمية ص 214 .(1/161)
" ومن أنواع العبادة الدعاء، كما كان المؤمنون يدعون الله وحده ليلاً ونهاراً في الشدة والرخاء، ولا يشك أحد أن هذا من أنواع العبادة، فتفكر رحمك الله فيما حدث في الناس اليوم من دعاء غير الله. في الشدة والرخاء، فهذا تلحقه الشدة في البر أو البحر، فيستغيث بعبد القادر أو شمسان أو نبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء أن ينجيه من هذه الشدة، فيقال لهذا الجاهل: _ إن كنت تعرف أن الإله هو المعبود، وتعرف أن الدعاء من العبادة، فكيف تدعو مخلوقاً ميتاً، وتترك الحي القيوم الحاضر الرؤوف الرحيم القدير؟(1) "
وجاء في كتاب التوضيح عن توحيد الخلاق: _
" والداعي غير الله فيما لا يقدر عليه غيره سبحانه وتعالى جاعل لله نداً من خلقه فيما يستحقه تعالى من الألوهية المقتضية للرهبة والرغبة، والاستعاذة، وذلك كفر بإجماع الأمة، لأن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته، فإنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب بالرغبة لديه، والفزع عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر
_________________________________________________ص (146)
بالعبودية مقهور بها، فكيف يصلح أن يكون إلهاً مرغوباً مرهوباً مدعواً؟.(2) "
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن(3)
__________
(1) الدرر السنية 2/54 .
(2) التوضيح عن توحيد الخلاق لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب وآخرين، ص 129 .
(3) هو عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية سنة 1193هـ، وتولى القضاء، وبعد سقوط الدرعية انتقل إلى مصر، ودرس على علمائها، ثم عاد إلى نجد، له مؤلفات، توفي بالرياض سنة 1282 هـ .
انظر: مشاهير علماء نجد ص 78، وعلماء نجد 1/56 .(1/162)
موضحاً أن الطلب من الأموات شرك... " إن الاستمداد بالأموات والغائبين هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الاستمداد عبادة، والعبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله، وذلك أن الاستمداد نتيجته الاعتماد، والاعتماد هو معنى التوكل الذي هو من خصائص الإلهية وأجمعها لأعمال القلوب.
كما أن مورد العبادة القلب واللسان والأركان، والمستمد لا يكون إلا داعياً وراغباً، وراهباً، وخاشعاً، ومتذللاً، ومستعيناً، فإن الاستمداد طلب المدد بالقلب، واللسان، والأركان ولابد، وهذه الأعمال هي أنواع العبادة، فإذا كانت لله وحده، فقد آلهه العبد، فإذا صرف لغير الله تعالى، صار مألوها له.(1) "
ويقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين في هذا الشأن: _
" فمن صرف لغير الله شيئاً من أنواع العبادة، فقد عبد ذلك الغير واتخذه إلهاً، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فر من تسمية فعله ذلك تألهاً وعبادة وشركاً، ومعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسماءها...
فالشرك إنما حرم لقبحه في نفسه، وكونه متضمناً مسبة للرب، وتنقصه وتشبيهه بالمخلوقين، فلا تزول هذه المفاسد بتغيير اسمه، كتسميته توسلاً، وتشفعاً، وتعظيماً للصالحين، وتوقيراً لهم ونحو ذلك، فالمشرك مشرك شاء أم أبى...(2) "
(ب) قد سمى الله تعالى دعاء غيره شركاً وكفراً، وقد جاء هذا في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: _ {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين. بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما
__________________________________________________ ص (147)
تشركون} [الأنعام، آية 40، 41]
__________
(1) الدرر السنية 9/152 = بتصرف يسير .
(2) الدرر السنية 2/143، 144 = بتصرف يسير .(1/163)
وقوله سبحانه وتعالى: _ {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين " قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون} [الأنعام، آية 63، 64].
وقوله عز وجل: _ {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} [الأعراف، آية 37].
وقوله تبارك وتعالى: _ {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} [النمل، آية 53، 54].
وقوله تعالى: _ {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم..} [العنكبوت، آية 65، 66].
وقوله سبحانه: _ {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون} [الروم، آية 35].
وقوله عز وجل: _ {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر، آية 13، 14].
وقوله تعالى: _ {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار} [الزمر، آية 8].
(جـ) إن دعاء المخلوق وقصده هو تشبيه للمخلوق الضعيف العاجز بالخالق القوي القادر، إذ الدعاء حق خالص لله وحده لا شريك له، فمن دعا غير الله فقد تنقص الرب جل وعلا، ووقع في أعظم الظلم وأشنعه كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان، آية 13].
وأيضاً فمن سأل مخلوقاً ما لا يقدر عليه إلا الله فهو من جنس مشركي العرب الذين يدعون الملائكة والأنبياء والتماثيل، ومن جنس سؤال النصارى للمسيح وأمه.(1/164)
وقد وضح ابن القيم حقيقة هذا التشبيه فقال: _
________________________________________________ ص (148)
" حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به هذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعكس من نكس الله قلبه، وأعمى عين بصيرته وأركسه بلبسه الأمر، وجعل التوحيد تشبيهاً، والتشبيه تعظيماً وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق.(1) "
_ إلى أن قال _: " ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والتوكل والاستعانة... كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لله وحده ويمنع عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لغيره، فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه، وتضمنه غاية الظلم، أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة.(2) "
ويذكر ابن القيم المشبهة بقوله: _ " المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة، والتعظيم والخضوع، والسجود له، والاستغاثة به...فهؤلاء هم المشبهة حقاً.(3) "
__________
(1) الجواب الكافي ص 182 .
(2) المرجع السابق ص 182، 183 .
(3) إغاثة اللهفان 2/340، 341 باختصار .(1/165)
ويقول ابن القيم أيضاً: _ " فأما القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه نقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن سوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في الفطر السليمة فوق كل قبيح، يوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده، متأله خاضع، ذليل له والرب تعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والجلال والتأله والخضوع، وهذا خالص
_________________________________________________ ص (149)
حقه، فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره، أو يشرك بينه وبينه فيه.(1) "
وعندما تحدث ابن تيمية عن معنى الواسطة بين الله تعالى وخلقه... كان مما قاله: _
" وإن أثبتم وسائط بين الله وبين خلقه، كالحجاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون الملوك الحوائج للناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبهون لله، شبهوا المخلوق بالخالق، وجعلوا لله أنداداً...(2) "
ويقول _ في موضع آخر _:
" من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية، فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون: _ إنها تماثيل الأنبياء والصالحين وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى.(3) "
ويقول أيضاً: _
__________
(1) الجواب الكافي ص 186 .
(2) مجموع الفتاوى 1/126 .
(3) المرجع السابق 1/134، 135 .(1/166)
" والعجب من ذي عقل سليم يستوحي من هو ميت، ويستغيث به، ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت، فيقول أحدهم إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه، فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ، وهذا كلام أهل الشرك والضلال فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته، ولا يقدر على قضائها وحده، ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك، والله أعلم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، وهو على كل شيء قدير، فالأسباب منه وإليه.(1) "
________________________________________________ ص (150)
ويذكر ابن تيمية أن دعاء غير الله هو من جنس أفعال الكفار فيقول: _
" وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، ويسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضي دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.
وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور، لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء، يستشفعون بهم في مطالبهم، وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، آية 3](2) "
(د) أجمع أهل العلم على أن من دعا غير الله أو استغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فهو كافر خارج من الملة الإسلامية.
يقول ابن تيمية: _
__________
(1) المرجع السابق 18/322 .
(2) المرجع السابق 27/72 بتصرف يسير، وأنظر 27/67، 81_90، 3/275 . وقاعدة جليلة في التوسل ص 49، والرد على البكري ص 55 .(1/167)
" فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين.(1) "
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب(2) معلقاً على هذا الإجماع: _ " وهو إجماع صحيح، معلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو
_________________________________________________ص (151)
كافر، أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادة.(3) "
ويقول ابن تيمية أيضاً: _
" سؤال الميت والغائب نبياً كان أو غيره من المحرمات المنكرة باتفاق المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين أن أحداً منهم كان يقول إذا نزلت به ترة (تبعة)، أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها.(4) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 1/124 وانظر الإنصاف للمرداوي 10/327، وكشاف القناع للبهوتي 6/168، وغاية المنتهى 3/337، والفروع 3/553 .
(2) ولد في الدرعية عام 1200هـ اشتغل بالعلم والتدريس، وله عناية فائقة بالحديث، وتولى القضاء، وله مؤلفات، توفي مقتولاً سنة 1233 هـ
انظر: علماء نجد 1/293، والأعلام 3/129 .
(3) تيسير العزيز الحميد ص 229 .
(4) الرد على البكري ص 231 .(1/168)
ويقول في موضع ثالث: _ " وأما دعاء صفات الله وكلماته فكفر باتفاق المسلمين فهل يقول مسلم يا كلام الله اغفر لي وارحمني، وأغثني، أو أعني، أو يا علم الله، أو يا قدرة الله، أو يا عزة الله، أو يا عظمة الله ونحو ذلك.(1) "
ويقول رحمه الله: _
" إن دعاء غير الله كفر، ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين _ لا الأنبياء ولا غيرهم _ عن أحد من السلف وأئمة العلم، وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين.(2) "
ويقول ابن عبد الهادي(3): " ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به، كان هذا شركاً محرماً بإجماع المسلمين.(4) "
__________________________________________________ ص (152)
6_ والآن نسوق جملة من كلام أهل العلم في هذا المبحث على النحو التالي: _
" قال ابن عقيل(5): لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: _ وهم كفار عندي بهذه الأوضاع، مثل: تعظيم القبور وإكرامها بما نهى الشرع عنه، ومن إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالألواح، وكتب الرقاع فيها: _ يا مولاي إفعل بي كذا وكذا،و أخذ التراب تبركاً.(6) "
ويقول ابن تيمية: _
__________
(1) المرجع السابق ص 79 .
(2) قاعدة جليلة ص 285، وانظر الرد على البكري ص 312 .
(3) أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، مقرىء، فقيه، أصولي محدث، له مؤلفات، توفي بدمشق سنة 744 هـ .
انظر: الدرر الكامنة 3/421، والبدر الطالع 2/108 .
(4) الصارم المنكي ص 436 .
(5) هو أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي الحنبلي، فقيه، أصولي، مقرىء، واعظ، ولد ببغداد سنة 431 هـ، له الفنون في مجلدات كثيرة، توفي سنة 513 هـ .
انظر: ذيل طبقات الحنابلة 1/142، سير أعلام النبلاء 19/443 .
(6) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 455 .(1/169)
" فكل من غلا في حي، أو في رجل صالح... وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان اغفري لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو ارزقني، أو أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال، التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل، وانزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلهاً آخر.(1) "
ويقول أيضاً: _
" فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم لا بلفظ الإستغاثة، ولا بغيرها، ولا بلفظ الإستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وإن ذلك من
_________________________________________________ص (153)
الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، ولم يكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال: _ هذا أصل دين الإسلام(2) "
ويقول الأمير الصنعاني(3): _
__________
(1) مجموع الفتاوى 3/359 باختصار، وانظر قاعدة جليلة ص 243، 300، والرد على الأخنائي ص 61، واقتضاء الصراط المستقيم 2/703، ومختصر الفتاوى المصرية ص 191، 193، 195 .
(2) الرد على البكري ص 376، وانظر مجموعة الرسائل والمسائل 1/29 .
(3) هو محمد بن إسماعيل الصنعاني، محدث فقيه أصولي، من أئمة اليمن، رحل إلى الحرمين له مؤلفات، توفي بصنعاء سنة 1182 هـ .
انظر: البدر الطالع 2/133، ومعجم المؤلفين 9/56 .(1/170)
" من نادى الله ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً خوفاً وطمعاً، ثم نادى معه غيره، فقد أشرك في العبادة، فإن الدعاء من العبادة، وقد سماه الله تعالى عبادة في قوله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر، آية 60]، بعد قوله " ادعوني أستجب لكم. (1)"
ويقول حسين بن مهدي النعمي: _
" هذه العبادة بكيفيتها موضوعة للرب الأحد الصمد، السميع القريب المجيب، مالك الملك، والدعاء هذا مجراه، وهذه منزلته، فدعاء غير الله تعالى إخراج للدعاء عن محله وموضوعه، كقيامه بتلك الصلاة على تلك الكيفية للمقبور والحجر، سواء بسواء، والفصل بين الصلاة والدعاء فصل بين متآخيين، وإلا فليجعلوا للمقبور صلاة وصياماً ونحوهما، يفارق الذم والتشريك، ويكون صالحاً خالياً عن الفساد والمنكر، سبحانك ربنا، هذا بهتان عظيم.
فما بال الدعاء الذي هو العلم المشهور في العبادة، وآيات التنزيل، بل هو في الحقيقة بداية الأمر ومشرعه، وقطب رحاه، سل من مركزه، واستنزل من شوامخ صياصيه، وهو أظهر وأشهر معنى من العبادة، وأكثر تنصيصاً وتعييناً!(2) "
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: _
" فمن دعا غير الله طالباً منه ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب نفع، أو دفع
___________________________________________________ ص (154)
ضر فقد أشرك في عبادة الله، كما قال تعالى: _ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ {5} وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف، آية 6،7].
__________
(1) تطهير الاعتقاد ص 24، وانظر ص 19 .
(2) معارج الألباب ص 225 .(1/171)
وقال تعالى: _ {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ {13} إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر، آية 14، 15]. فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء غير الله شرك، فمن قال يا رسول الله، أو يا عبد الله بن عباس، أو يا عبد القادر، أو يا محجوب زاعماً أنه يقضي حاجته إلى الله تعالى، أو أنه شفيعه عنده أو وسيلته إليه فهو الشرك الذي يهدر الدم، ويبيح المال إلا أن يتوب من ذلك.(1) "
ويقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: _
" لا نعلم نوعاً من أنواع الكفر والردة، ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه والتحذير من فعله والوعيد عليه.(2) "
وقال الشوكاني: _
" وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء والاستغاثة، والرجاء، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه، لا لغيره ولا من غيره {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجن، آية 18]، {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} [الرعد، آية 14](3).
__________
(1) الدرر السنية 2/19 .
(2) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/602 .
(3) الدر النضيد ( ضمن الرسائل السلفية ) ص 17 .(1/172)
ويقول أيضاً: _ " فإن الشرك هو دعاء غير الله الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه، ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكاً بالصنم والوثن والإله لغير الله زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد كما يفعله كثير من المسلمين، بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به سبحانه، سواء أطلق
___________________________________________________ ص (155)
على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية، أو أطلق عليه اسماً آخر، فلا اعتبار بالاسم قط.(1) "
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في هذا المقام: _
" من المستحيل شرعاً وفطرة وعقلاً أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة بإباحة دعاء الموتى، والغائبين والاستغاثة بهم في المهمات والملمات.(2) "
ويقول أيضاً: _
" الأدلة والنصوص متواترة متظاهرة على أن طلب الحوائج من الموتى والتوجه إليهم شرك محرم، وأن فاعله من أسفه السفهاء، وأضل الخلق، وأنه ممن عدل بربه، وجعل له أنداداً وشركاء في العبادة التي لا تصلح لسواه، ولا تنبغي لغيره.(3)"
ويقول محمد رشيد رضا: _
__________
(1) المرجع السابق ص 18 .
(2) دلائل الرسوخ ص 79
(3) مصباح الظلام ص 252 .(1/173)
" فمن دعا إلى عبادة نفسه، فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله، وإن لم ينههم عن عبادة الله... ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء فقد عبد هذه الواسطة من دون الله؛ لأن هذه الوساطة تنافي الإخلاص له وحده، ومتى انتفى الإخلاص انتفت العبادة، ولذلك قال تعالى: _ {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ {2} أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، آية 2، 3] فلم يمنع توسطهم بالأولياء إليه تعالى أن يقول إنهم اتخذوهم من دونه.(1) "
ويقول أيضاًَ: _
" ومن الناس من يسمون أنفسهم موحدين، وهم يفعلون مثل ما يفعل جميع المشركين، ولكنهم يفسدون في اللغة كما يفسدون في الدين، فلا يسمون أعمالهم هذه عبادة، وقد يسمونها توسلاً وشفاعة، ولا يسمون من يدعونهم من دون الله أو مع الله شركاء، ولكن لا يأبون أن يسموهم أولياء وشفعاء وإنما
____________________________________________________ ص (156)
الحساب والجزاء على الحقائق لا على الأسماء.
_ إلى أن قال _ ومن تأمل تعبير الكتاب العزيز عن العبادة بالدعاء في أكثر الآيات الواردة في ذلك وهي كثيرة جداً، يعلم كما يعلم من اختبر أحوال البشر في عباداتهم أن الدعاء هو العبادة الحقيقية الفطرية التي يثيرها الاعتقاد الراسخ من أعماق النفس ولاسيما عند الشدة.(2) "
_________________________________________________ص (157)
الفصل الثاني
المبحث الأول: في الأنبياء عليهم السلام
المطلب الأول: في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
__________
(1) تفسير المنار 3/347 .
(2) المرجع السابق 5/421، 422 = باختصار، وانظر 2/353 .(1/174)
1_ نشير في مقدمة هذا المبحث إلى واجبنا نحو نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، لقد خص الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بخصائص كثيرة فهو سيد ولد آدم، وخاتم النبيين، فقد أرسل للناس كافة، كما قال تعالى: _ {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف، آية 158]كما أنه أول من يعبر على الصراط يوم القيامة، وأول من يقرع باب الجنة ويدخلها، وله المقام المحمود، ولواء الحمد، وهو أول شافع مشفع.
ولاشك أن علينا تجاه هذا النبي الكريم حقوقاً كثيرة يجب القيام بها وتحقيقها، فلابد من تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
وإن من أهم ما يجب علينا تجاه حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم أن نحقق محبته اعتقاداً وقولاً وعملاً، ونقدمها على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
قال تعالى: _ {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة، آية 24].
يقول القاضي عياض عن هذه الآية:
" فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرع سبحانه من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله.(1) "
__________________________________________________ ص (158)
__________
(1) الشفا 2/563 .(1/175)
وعن أنس بن مالك(1) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين (2)"
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان _ وذكر منها _ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما(3) "
ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في صدق وتمام المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للعباس: أن تسلم أحب إليّ من أن يسلم الخطاب؛ لأن ذلك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا. ومن الماء البارد على الظمأ(4).
وكان عمرو بن العاص(5) رضي الله عنه يقول:
" ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه (6)"
يقول ابن تيمية:
_______________________________________________ ص (159)
__________
(1) أنس بن مالك من بني عبد الأشهل، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، روى عن رسول الله أحاديث جمة، توفي سنة 93 هـ .
انظر البداية 9/88 وسير أعلام النبلاء 3/395 .
(2) أخرجه البخاري، ك الإيمان ( 1/58 ) ح ( 15 )، ومسلم ك الإيمان ( 1/67 ) ح ( 69 )
(3) أخرجه البخاري، ك الإيمان ( 1/60 ) ح ( 16 )، ومسلم ك الإيمان ( 1/66) ح (67 )
(4) انظر الشفا للقاضي عياض 2/567_570 .
(5) هو عمرو بن العاص بن وائل القرشي، صحابي جليل، أسلم قبل الفتح، وكان من أمراء الأجناد في الفتوحات، عرف بالدهاء، وحسن التدبير، توفي سنة 43 هـ .
انظر الإصابة 4/653، وسير أعلام النبلاء 3/54 .
(6) أخرجه مسلم، ك الإيمان ( 1/114 )، ح ( 192 )(1/176)
ومن حقه أنه أخبر أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن حقه أن يحب أن يؤثره العطشان بالماء، والجائع بالطعام، وأنه يحب أن يوقى بالأنفس والأموال، كما قال سبحانه وتعالى: _ {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ}[التوبة، آية، 120].
فعلم أن رغبة الإنسان بنفسه أن يصيبه ما يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشقة معه حرام.
وقال تعالى مخاطباً للمؤمنين فيما أصابهم من مشقات الحصر والجهاد: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب، آية 21] (1) "
وإذا كانت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل أعمال القلوب، وأفضل شعب الإيمان، فإن بغضه من أشنع الذنوب وأخطرها، لقد قال الله تعالى {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر، آية 3] فأخبر سبحانه أنه شانئه (أي مبغضه) هو الأبتر، والبتر: القطع، فبين سبحانه أنه هو الأبتر بصيغة الحصر والتوكيد، ومما قاله ابن تيمية عن هذه الآية الكريمة الجامعة: " إن الله سبحانه بتر شانىء رسوله من كل خير، فيبتر ذكره وأهله وماله، فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها، ولا يتزود فيها صالحاً لمعاده ويبتر قلبه فلا يعي الخير، ولا يؤهله لمعرفته ومحبته، والإيمان برسله، ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصراً، ولا عوناً ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة، فلا يذوق لها طعماً، ولا يجد لها حلاوة، وإن باشرها بظاهره، فقلبه شارد عنها.
__________
(1) الصارم المسلول ص 421 .(1/177)
ولذا قال أبو بكر بن عياش: أهل السنة يموتون، ويحي ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم، لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح، آية 4]، وأهل البدعة شنأوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من
_________________________________________________ ص (160)
قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}(1)
كما يتعين علينا نصحه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة، آية 91].
وعن تميم الداري(2) رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الدين النصيحة ثلاثاً قلنا لمن يا رسول الله؟ قال " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (3)"
يقول ابن رجب(4)
__________
(1) مجموع الفتاوى 16/526، 528 باختصار، وانظر بعض العقوبات والمثلات التي وقعت في حق من أبغض الرسول أو تنقصه: الصارم المسلول ص 117، وبستان العارفين للنووي ص 51، وكلمة الحق لأحمد شاكر ص 176، 177 .
(2) هو أبو رقية تميم بن أوس اللخمي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عابداً واعظاً، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي سنة 40 هـ .
انظر: طبقات ابن سعد 7/408، وسير أعلام النبلاء 2/442 .
(3) أخرجه مسلم، ك الإيمان ( 1/74 ) ح (95 )
(4) هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الدمشقي الحنبلي، الحافظ الفقيه الواعظ، ولد ببغداد سنة 736 هـ، وقدم دمشق، له مؤلفات كثيرة، توفي سنة 795 هـ .
انظر: الدرر الكامنة 2/429، والجوهر المنضد لابن عبد الهادي ص 46 .(1/178)
: " وأما النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، فبذل المجهود في طاعته ونصرته ومعاونته، وبذل المال إذا أراده والمسارعة إلى محبته، وأما بعد وفاته فالعناية بطلب سنته، والبحث عن أخلاقه وآدابه وتعظيم أمره ولزوم القيام به، وشدة الغضب، والإعراض عمن تدين بخلاف سنته والغضب على من ضيعها لأثرة دنيا، إن كان متديناً بها، وحب من كان منه بسبيل من قرابة، أو صهر، أو هجرة، أو نصرة، أو صحبة ساعة من ليل أو نهار على الإسلام .(1) "
و من حقه صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف، حتى يأمر هو، وينهى ويأذن، كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
__________________________________________________ ص (161)
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات، آيه 1] (2)
يقول ابن القيم في هذا الصدد:-
"فرأس الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم: كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة بخيال باطل، يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكاً، أو يقدم عليه آراء الرجال، وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل، والإنابة والتوكل (3) "
ويقول أيضاً: - " ومن الأدب معه: أن لا يستشكل قوله، بل تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه، ولا يوقف قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على موافقة أحد. (4) "
ومن حقه صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى أمر بتعزيره وتوقيره، كما قال تعالى ": - {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح، آية 9].
يقول ابن تيمية: -
__________
(1) جامع العلوم والحكم 1/221، 222 .
(2) انظر الصارم المسلول ص 422، ومدارج السالكين 2/389
(3) مدارج السالكين 2/387
(4) المرجع السابق 2/390(1/179)
"التعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار. (1) "
يقول القاضي عياض:
" اعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وتوقيره وتعظيمه لازم، كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثه وسنته، وسماع اسمه وسيرته، ومعاملة آله وعترته، وتعظيم أهل بيته وصحابته "
وقال أبو إبراهيم التجيبي:-
" واجب على كل مؤمن متى ذكره، أو ذكر عنده، أن يخضع ويخشع، ويتوقر، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما
صـ162
أدبنا الله به ".
قال القاضي عياض:-
" وهذه كانت سيرة سلفنا الصالح وأئمتنا الماضين رضي الله عنهم.(2)"
وإذا تقرر وجوب القيام بحقه صلى الله عليه وسلم، وطاعته ومحبته، والنصح له، والتسليم والإنقياد له، كما ظهر وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه.
… فإنه يتعين في نفس الوقت عدم الغلو فيه، ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، فلا يشرك مع الله تعالى في أي نوع من أنواع العبادة … ولا يستغاث به، ولا يجعل قبره وثناً يعبد من دون الله … فهو صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، والحق وسط بين الغالي والجافي.
يقول ابن عبد الهادي:-
" فالتعظيم نوعان: أحدهما: بما يحبه المعظم ويرضاه ويأمره ويثني على فاعله فهذا هو التعظيم في الحقيقة، والثاني بما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله فهذا ليس بتعظيم بل هو غلو مناف للتعظيم، ولهذا لم يكن الرافضة(3)
__________
(1) الصارم المسلول ص 422
(2) الشفا 2/595 .
(3) الرافضة: من أكبر فرق الشيعة، وتقول الرافضة بإمامة علي رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بالنص الظاهر، وجعلوا الإمامة أهم المطالب وأشرف منازل الدين .
انظر: مقالات الإسلاميين 1/88، الملل والنحل 1/162 .(1/180)
معظمين لعلي بدعواهم فيه الإلهية، أو النبوة، أو العصمة ونحو ذلك، ولم يكن النصارى معظمين للمسيح بدعواهم فيه ما ادعوا، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه، فأنكر على معاذ سجوده له وهو محض التعظيم، وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك أن رجلاً قال يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل. (1) "
وقال صلى الله عليه وسلم:
صـ163
" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله(2) "(3)"
ولقد حرص صلى الله عليه وسلم على القيام بتجريد التوحيد وتحقيقه، والنهي عن الشرك والتحذير منه، كما تنوع تحذير الرسول لأمته من الشرك، وسده صلى الله عليه وسلم كل طريق يفضي إلى الشرك، فنهى عن اتخاذ القبور مساجد، وحذر من الغلو فيه، ونهى عن الغلو في قبور الصالحين، وحذر من ألفاظ وأفعال تؤول إلى الشرك.
2- إذا تقرر الواجب نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا إفراط ولا تفريط، فإننا ننتقل إلى الحديث عن سب النبي صلى الله عليه وسلم، فنبدأ أولاً ببيان معنى السب وضابطه، وقد مضى في مبحث سابق(4) أن السب هو الشتم وكل كلام قبيح يوجب الإهانة والنقص والاستخفاف وأما حدة وضابطه فهو العرف، كما قرر ذلك ابن تيمية عندما قال:-
__________
(1) أخرجه أحمد 3/153، وأبو نعيم في الحلية 6/252 .
(2) أخرجه البخاري، ك أحاديث الأنبياء (6/478) ح (3445) .
(3) الصارم المنكي ص 385 .
(4) انظر الفصل السابق، المبحث الأول .(1/181)
" وإذا لم يكن للسب حد معروف في اللغة، ولا في الشرع، فالمرجع فيه إلى عرف الناس، فما كان في العرف سباً فهو الذي يجب أن ننزل عليه كلام الصحابة والعلماء، وما لا فلا.(1) "
ويقول أيضاً:
" والاسم إذا لم يكن له حد في اللغة كاسم الأرض والسماء والبحر والشمس والقمر، ولا في الشرع كاسم الصلاة والزكاة والحج والإيمان والكفر، فإنه يرجع في حده إلى العرف كالقبض والحرز والبيع والرهن والكرى ونحوها، فيجب أن يرجع في الأذى والسب والشتم إلى العرف، فما عده أهل العرف سباً، وانتقاصاً، أو عيباً، أو طعناً، ونحو ذلك فهو من السب "(2) "
وساق ابن تيمية أنواع السب وصوره فقال:-
صـ164
"التكلم في تمثيل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر صفته، وذلك مما يثقل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين، لكن للاحتياج إلى الكلام في حكم ذلك، نحن نفرض الكلام في أنواع السب مطلقاً من غير تعيين، والفقيه يأخذ حظه من ذلك، فنقول السب نوعان:- دعاء وخبر، أما الدعاء، فمثل أن يقول القائل لغيره: لعنة الله، أو قبحه الله، أو أخزاه الله، أو لا رحمه الله، أو لا رضي الله عنه، أو قطع الله دابره، فهذا وأمثاله سب للأنبياء ولغيرهم …
النوع الثاني: الخبر، فكل ما عده الناس شتماً أو سباً أو تنقصاً فإنه يجب به القتل، كالتسمية باسم الحمار أو الكلب، أو وصفه بالمسكنة والخزي والمهانة، أو الإخبار بأنه في العذاب، وأن عليه آثام الخلائق ونحو ذلك، وكذلك إظهار التكذيب على وجه الطعن في المكذب مثل وصفه بأنه ساحر خادع محتال، وأنه يضر من اتبعه، وأن ما جاء به كله زور وباطل ونحو ذلك.(3) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 477 .
(2) الصارم المسلول ص 468، 469 .
(3) الصارم المسلول ص 475 – 477 = باختصار .(1/182)
إلى أن قال: - " والكلام على أعيان الكلمات لا ينحصر، وإن جماع ذلك أن ما يعرف الناس أنه سب فهو سب، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والاصطلاحات والعادات، وكيفية الكلام ونحو ذلك، وما اشتبه فيه الأمر ألحق بنظيره وشبه، والله سبحانه أعلم.(1) "
3- أما حكم سب الرسول صلى الله عليه وسلم (2) فإنه من نواقض الإيمان، التي توجب الكفر ظاهراً وباطناً، سواء استحل ذلك أو لم يستحله.(3)
صـ165
يقول القاضي عياض: " دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة على تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإكرامه، ومن ثم حرم الله تعالى أذاه في كتابه، وأجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا {57}وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} الأحزاب، آية 57. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب، آية 53] (4)
ويقول ابن تيمية:
__________
(1) الصارم المسلول ص 479
(2) ألفت كتاب مفردة في مسألة سب الرسول منها:- الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية، وتنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير الأنام لابن عابدين (مطبوع ضمن رسائله الجزء الأول) والسيف المسلول على من سب الرسول للسبكي (مخطوط في مكتبة عارف حكمت)، والسيف المسلول على الزنديق وشاتم الرسول . لمحي الدين محمد بن قاسم المعروف بالأخوين (ت904هـ)، (مخطوط) .
انظر معجم ما ألف عن الرسول للمنجد ص 359.
(3) انظر في الرد على من علق كفر الساب بالاستحلال: الصارم المسلول ص 452 – 454.
(4) الشفا 2/926، 927 = باختصار .(1/183)
" إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً أو باطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.(1) "
ويقول أيضاً: -
: السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهراً وباطناً، هذا مذهب الفقهاء وغيرهم من أهل السنة والجماعة، خلاف ما يقوله بعض الجهمية والمرجئة القائلين بأن الإيمان هو المعرفة والقول بلا عمل من أعمال القلوب، من أنه ينافيه في الظاهر، وقد يجامعه في الباطن.(2) "
4- إن سب النبي صلى الله عليه وسلم يعد كفراً وناقضاً من نواقض الإيمان لعدة اعتبارات منها:-
جاء في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على كفر شاتم النبي صلى الله عليه وسلم منها:-
1-قوله تعالى:- {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {61} يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ {62} أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ
صـ166
خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة، آية 61 – 63].
__________
(1) الصارم المسلول ص 451 .
(2) المرجع السابق ص 324 .(1/184)
يقول ابن تيمية:- " فعلم أن إيذاء رسول الله محادة لله ورسوله؛ لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة، فيجب أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفاً إذا أمكن أن يقال: أنه ليس بمحاد، ودل ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفر؛ لأنه أخبر أن له نار جهنم خالداً فيها، ولم يقل: هي جزاؤه. وبين الكلامين فرق، بل المحادة هي المعاداة والمشاقة وذلك كفر ومحاربة فهو أغلط من مجرد الكفر، فيكون المؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كافراً عدواً لله ورسوله، محارباً لله ورسوله؛ لأن المحادة اشتقاقها من المباينة بأن يصير كل منهما في حد.
وقد قال تعالى:- {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة، آية 20]. ولو كان مؤمناً معصوماً لم يكن أذل، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} والمؤمن لا يكبت(1) كما كبت مكذبو الرسل قط، ولأنه قد قال تعالى {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة، آية 5] فإذا كان من يواد المحاد ليس بمؤمن، فكيف بالمحاد نفسه؟ (2) "
2- قوله تعالى:- {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ {64}وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة، آيات 64 – 66].
يقول ابن تيمية:-
__________
(1) الكبت: الإذلال والخزي .
(2) الصارم المسلول ص 24، 25 = باختصار .(1/185)
" وهذا نص في أن الاستهزاء بالله، وبآياته وبرسوله كفر، فالسب المقصود بطريق الأولى، وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم جاداً أو هازلاً فقد كفر.(1) "
صـ167
3- وقوله عز وجل:- {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا {57}وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب، آية 57 ,58].
يقول ابن تيمية:- " ودلالة هذه الآيات من وجوه:-
أحدها: أنه قرن أذاه بأذاه، كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصاً عنه، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم، يبين ذلك أن الله تعالى جعل محبة الله ورسوله، وإرضاء الله ورسوله، وطاعة الله ورسوله شيئاً واحداً، وقال تعالى:- {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران، آية 132]. في مواضع متعددة، قال تعالى:- {وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة، آية 62. فوحد الضمير، وقال أيضاً:- {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح، آية 10، وجعل شقاق الله ورسوله ومحادة الله ورسوله، ومعصية الله ورسوله شيئاً واحداً، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال، آية 13 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة، آية 20. وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة، آية 63 وقال: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء، آية 14.
__________
(1) الصارم المسلول ص 28 وانظر الفتاوى 15/48 .(1/186)
وفي هذا وغيره بيان لتلازم الحقين، وأن جهة حرمة الله تعالى ورسوله جهة واحدة، فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله؛ لأن الأمة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة الرسول، ليس لأحد منهم طريق غيره، ولا سبب سواه.
وثانيها: - أنه فرّق بين أذى الله ورسوله، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة وأعد له العذاب المهين.
وثالثها: - أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة، وأعد لهم عذاباً مهيناً، واللعن الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافراً.
وأيضاً فقد قال تعالى:-
{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} ولم يجىء إعداد العذاب المهين في القرآن الكريم إلا في حق الكفار، كقوله تعالى: {فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
صـ168
مُّهِينٌ} [البقرة، آية 90 وقوله {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء، آية 37](1)"
4- قوله سبحانه وتعالى: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات، آية 2 أي حذر أن تحبط أعمالكم.
يقول ابن تيمية:-
" ولا يحبط الأعمال غير الكفر (2)
__________
(1) المرجع السابق ص 35 – 46 = باختصار .
(2) الحبوط نوعان: عام وخاص، فالعام حبوط الحسنات كلها بالردة، والسيئات كلها بالتوبة، والخاص: حبوط السيئات والحسنات بعضها ببعض .
…انظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 66 .(1/187)
- كما دلت على ذلك النصوص – فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي، والجهر له بالقول يخاف من أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر ويحبط عمله بذلك، وأن رفع الصوت قد يشتمل على أذى له، واستخفاف به، وإن لم يقصد الرافع، فإن الأذى والاستخفاف المقصود المتعمد كفر بطريق الأولى.(1) "
وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على كفر الساب له صلى الله عليه وسلم منها:-
1- عن ابن عباس(2) رضي الله عنهما: أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: - فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول (3).
صـ169
__________
(1) الصارم المسلول ص 46 – 48 = باختصار، وانظر الشفا للقاضي عياض 2/946، والمحلى لابن حزم 13/500 .
(2) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، حبر هذه الأمة ، وترجمان القرآن، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كثيراً، كان من علماء الصحابة رضي الله عنهم، واشتهر بالتفسير، وتوفي سنة 68 هـ .
انظر: البداية والنهاية: 8/295، وأسير أعلام النبلاء 3/331 .
(3) المغول: سيف قصير دقيق، انظر معالم السنن للخطابي 4/528، والصارم المسلول ص 68 .(1/188)
فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح، ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس فقال: - أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك، وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ألا اشهدوا أن دمها هدر"(1)
يقول الخطابي:-
" فيه بيان أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم مهدر الدم، وذلك أن السب منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم إرتداد عن الدين، ولا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله.(2) "
2- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المغفر (3) فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه(4).
يقول ابن تيمية:-
وهذا مما استفاض نقله بين أهل العلم، واتفقوا عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دم ابن خطل يوم الفتح فيمن أهدره، وأنه قتل.(5) "
صـ170
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الحدود ، باب الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم (4361) والنسائي في كتاب تحريم الدم باب الحكم في من سب النبي صلى الله عليه وسلم 7/99 .
(2) معالم السنن 4/528 .
(3) المغفر: ما يلبس على الرأس من درع الحديد (عن تعليق محمد فؤاد عبد الباقي على صحيح مسلم) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح (8/15) ح (4286)، ومسلم، ك الحج ، باب جواز دخول مكة بغير إحرام (2/989)، ح (1357)
(5) الصارم المسلول ص 135 .(1/189)
ويقول أيضاً: - " وقد استدل بقصة ابن خطل طائفة من الفقهاء على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين يقتل وإن أسلم حداً.
واعترض عليهم بأن ابن خطل كان حربياً فقتل لذلك، وصوابه أنه كان مرتداً بلا خلاف بين أهل العلم بالسير، وحتم قتله بدون استتابة مع كونه مستسلماً منقاداً قد ألقى السلم كالأسير، فعلم أن من ارتد وسب يقتل بلا استتابة، بخلاف من ارتد فقط.(1) "
3- وعن أبي سعيد الخدري (2) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الذي لمزه في قسمة الذهيبة التي أرسل بها علي رضي الله عنه من اليمن وقال:- " يا رسول الله اتق الله " أنه قال: " إنه يخرج من ضئضيء هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد(3) "
يقول ابن تيمية:-
"فثبت أن كل من لمز النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه أو قسمه فإنه يجب قتله، كما أمر به صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد موته، وأنه إنما عفا عن ذلك اللامز في حياته، كما قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين لما علم أنهم خارجون في الأمة لا محالة، وأن ليس في قتل ذلك الرجل كثير فائدة، بل فيه من المفسدة ما في قتل سائر المنافقين وأشد.(4) "
4- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي " أذهب اضرب
صـ171
__________
(1) المرجع السابق ص 136 .
(2) هو سعد بن مالك الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، من فقهاء الصحابة، شهد الخندق وما بعدها، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توفي سنة 74 هـ .
…انظر: البداية 9/3، سير أعلام النبلاء 3/168.
(3) سبق تخريجه ص 73 .
(4) الصارم المسلول ص 187، 188 .(1/190)
عنقه " فأتاه علي فإذا هو في ركي(1) يتبرد فيها، فقال له علي: اخرج، فناوله يده فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف علي عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه لمجبوب، ما له ذكر(2) "
قال ابن حزم:-
" هذا خبر صحيح، وفيه من آذى النبي صلى الله عليه وسلم وجب قتله، وإن كان لو فعل ذلك برجل من المسلمين لم يجب بذلك قتله (3) "
إلى أن قال:- " فصح بهذا أن كل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فهو كافر مرتد يقتل، ولابد، وبالله تعالى التوفيق.(4) "
والأحاديث في هذه المسألة كثيرة ومعلومة في مظانها(5)
(ج) أجمع العلماء على كفر شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد حكى الإجماع جمع كثير من أهل العلم، نذكرهم على النحو التالي:-
1- فهذا ابن تيمية يورد إجماع الصحابة بقوله:- " وأما إجماع الصحابة فلأن ذلك نقل عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلها ويستفيض، ولم ينكرها أحد منهم فصارت إجماعاً …
فمن ذلك ما ذكره سيف بن عمر التميمي (6) في كتاب " الردة والفتوح " لما رفع إلى الماجر بن أبي أمية – وكان أميراً على اليمامة ونواحيها – أن امرأة مغنية تشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فقطع يدها ونزع ثنيتها، فكتب إليه الصديق
صـ172
__________
(1) الركي: البئر (عن تعليق عبد الباقي على صحيح مسلم 4/2139) .
(2) أخرجه مسلم، ك التوبة، باب براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة (4/2139) ح (2771)، وأحمد 3/281 .
(3) المحلى 13/502 .
(4) المحلى 13/504، وانظر الصارم المسلول ص 59، 60 .
(5) انظر الصارم المسلول حيث أورد ابن تيمية خمسة عشر حديثاً ص 61 – 200، وكذا ابن حزم أورد جملة من الأحاديث، انظر المحلى: 13/501 – 504 .
(6) سيف بن عمر التميمي، كوفي الأصل، مؤرخ، جرحه جمهور المحدثين، له مؤلفات، توفي سنة 200 هـ .
انظر: تهذيب التهذيب 4/295 .(1/191)
رضي الله عنه: بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمزمت بشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فلولا ما قد سبقني لأمرتك بقتلها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو معاهد فهو محارب غادر. وقد ذكر هذه القصة غير سيف.(1) "
2- وقال إسحاق بن راهويه: - " قد أجمع العلماء أم من سب الله عز وجل أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر.(2) "
وبهذا نعلم خطأ المرجئة ومخالفتهم للإجماع، عندما زعموا أن كفر ساب رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالاستحلال.
3-" وقال محمد بن سحنون(3): - أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر.(4) "
4-" ونقل أبو بكر الفارسي (5) أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق المسلمين فلو تاب لم يسقط عنه القتل؛ لأن حد قذفه القتل، وحد القذف لا يسقط بالتوبة(6) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 173 = باختصار
(2) التمهيد لابن عبد البر 4/226، وانظر الصارم المسلول ص5، 451 .
(3) محمد بن سحنون، من فقهاء المالكية، كان عالماً بالآثار والفقه، له مؤلفات كثيرة، وردود على المبتدعة، توفي عند القيروان سنة 256 هـ .
انظر: الديباج المذهب 2/169، سير أعلام النبلاء 13/60 .
(4) الشفا للقاضي عياض 2/933 .
(5) أحمد بن الحسن بن سهل الفارسي، من فقهاء الشافعية، له مصنفات توفي في حدود سنة 350 هـ انظر: طبقات الشافعية 2/184، ومعجم المؤلفين 1/192 .
(6) فتح الباري 12/281، وانظر نيل الأوطار للشوكاني 9/71 .(1/192)
5- ويقول القاضي عياض:- "اعلم – وفقنا الله وإياك – أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم، أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه، أو نسبه، أو دينه، أو خصلة من خصالة، أو عرض به، أو شبهه بشئ على طريق السب له،
صـ173
أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، والعيب له، فهو ساب له، والحكم فيه حكم الساب، وكذلك من لعنه، أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه ما لا يليق على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر، ومنكر من القول وزور، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماع من الصحابة وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا.(1) "
إلى أن قال:-
" ولا نعلم خلافاً في استباحة دمه – يعني ساب الرسول صلى الله عليه وسلم - بين علماء الأمصار وسلف الأمة، وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره.(2) "
6- وقال ابن حزم: " ومن أوجب شيئاً من النكال على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وصفه، وقطع عليه بالفسق، أو بجرحه في شهادته فهو كافر مشرك مرتد كاليهود والنصارى حلال الدم والمال، بلا خلاف من أحد من المسلمين.(3) "
7- ويقول ابن تيمية:- " قد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص له كفر مبيح للدم … ولا فرق في ذلك بين أن يقصد عيبه لكن المقصود شئ آخر حصل السب تبعاً له، أو لا يقصد شيئاً من ذلك، بل يهزل ويمزج، أو يفعل غير ذلك (4) "
8- ويقول السبكي:- " أما سب النبي صلى الله عليه وسلم فالإجماع منعقد على أنه كفر، والاستهزاء به كفر(5) "
صـ174
__________
(1) الشفا 2/932 .
(2) المرجع السابق 2/933 وانظر 2/1069 .
(3) المحلى 2/330 .
(4) الصارم المسلول ص 465 = باختصار، انظر ص 195 .
(5) فتاوى السبكي 2/573 .(1/193)
9- ويقول ابن عابدين(1) - بعد أن ذكر أقوال بعض العلماء في تكفير ساب الرسول صلى الله عليه وسلم -: " وهذه نقول معتضدة بدليلها وهو الإجماع، ولا عبرة بما أشار إليه ابن حزم الظاهري من الخلاف في تكفير المستخف به(2)، فإنه شيء لا يعرف لأحد من العلماء، ومن استقرأ سير الصحابة تحقق إجماعهم على ذلك، فإنه نقل عنهم في قضايا مختلفة منتشرة يستفيض نقلها ولم ينكره أحد، وما حكي عن بعض الفقهاء من أنه إذا لم يستحل لا يكفر زلة عظيمة، وخطأ عظيم لا يثبت عن أحد من العلماء المعتبرين، ولا يقوم عليه دليل صحيح، فأما الدليل على كفره فالكتاب والسنة والإجماع والقياس.(3) "
(د) إن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم يناقض الإيمان وينافيه؛ لأن مما يتضمنه الإيمان: الإجلال والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن السب لا يجتمع مع هذا الإجلال والتعظيم لهذا النبي الكريم، ولو اعتقد هذا الساب أن محمداً رسول الله، أو لم يستحل هذا السب.
كما يتضمن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم الانقياد والاستسلام له صلى الله عليه وسلم، وهذا يوجب الإكرام والإعزاز، وأما السب فهو استهانة واستخفاف، فلا يجتمع إيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم مع سبه وشتمه.
__________
(1) محمد أمين بن عمر الدمشقي الحنفي، ققيه أصولي، له مؤلفات، توفي بدمشق سنة 1242 هـ .
انظر: أعيان القرن الثالث عشر ص36، ومعجم المؤلفين 9/77 .
(2) انظر المحلى: 13/499، 500 .
(3) مجموعة رسائل ابن عابدين "تنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير الأنام" 1/316 .(1/194)
يقول ابن تيمية في هذا الشأن: - إن الإيمان قول وعمل، فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه وتعالى والرسالة لعبده ورسوله، ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح، بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو الفعل، كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه، وكان ذلك موجباً لفساد ذلك الاعتقاد، ومزيلاً لما فيه من المنفعة والصلاح، إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس وتصلحها، فمتى
صـ175
لم توجب زكاء النفس، ولا صلاحها، فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ في القلب.(1) "
ويقول أيضاً:-
" إن اشتقاق الإيمان من الأمن الذي هو الإقرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد، وإذا كان كذلك فالسب إهانة واستخفاف، والانقياد للأمر إكرام وإعزاز، ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع، واستسلم، أو يستخف به، فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة، امتنع أن يكون فيه انقياد أو استسلام، فلا يكون فيه إيمان.(2) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 369، 370 .
(2) المرجع السابق ص 519 وانظر ص 343، ص 211 .(1/195)
(هـ) ومما يؤكد أن سب النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم نواقض الإيمان، ما ذكره ابن تيمية عندما قال:- " إن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق: حق الله سبحانه من حيث كفر برسوله، وعادى أفضل أوليائه، وبارزه بالمحاربة، ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتها موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته، فإن الطعن في الرسول طعن في المرسل وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته، وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم، فإن جميع المؤمنين مؤمنون به، خصوصاً أمته، فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بوساطته وسفارته، فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم، وسب جميعهم كما أنه أحب إليهم من أنفسهم، وأولادهم، وآبائهم والناس أجمعين، وتعلق به حق رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث خصوص نفسه، فإن الانسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، أو أكثر ما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه … فالوقيعة في عرضه قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفرة عنه، وسوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم، ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة.(1) "
5- وإذ ظهر لنا وجه كون سب النبي صلى الله عليه وسلم ناقضاً من نواقض الإيمان، فإننا نورد أقوالاً معدودة لبعض أهل العلم، فإن كلام العلماء – في مثل
صـ176
هذه المسألة بالذات – يصعب حصره، ولكن حسبنا أن نذكر أمثلة لتلك الأقوال:-
قال الإمام أحمد:-
" من شتم النبي صلى الله عليه وسلم، أو تنقصه مسلماً كان أو كافراً فعليه القتل (2) "
__________
(1) المرجع السابق ص 293، 294 .
(2) المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة / جمع عبد الاله الأحمدي 2/95 .(1/196)
قال أبو يوسف (1):- " وأيما مسلم سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كذبه، أو عابه، أو تنقصه فقد كفر بالله، وبانت منه امرأته. (2) "
وقد نقل القاضي عياض بعض أقوال المالكية فكان مما نقله:-
" قال ابن القاسم عن مالك في كتاب ابن سحنون، والمبسوط، والعتبية وحكاه مطرف عن مالك في كتاب ابن حبيب: من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين قتل ولم يستتب.
وقال عبد الله بن الحكم: - من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب.
وقال ابن عتاب:- الكتاب والسنة موجبان أن من قصد النبي صلى الله عليه وسلم بأذى أو نقص، معرضاً أو مصرحاً، وإن قل، فقتله واجب.(3) "
وقال النووي:-
" من قال لا أدري أكان النبي صلى الله عليه وسلم إنسياً أو جنياً، أو قال إنه جن، أو صغر عضواً من أعضائه على الطريق الإهانة كفر (4) "
وقال القاضي أبو يعلى في المعتمد:-
" من سب الله أو رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبه، أو لم يستحله.(5) "
صـ177
وقال المرداوي: - " من سب الله أو رسوله كفر بلا نزاع. (6)"
ثم قال: - " حكم من تنقص النبي صلى الله عليه وسلم حكم من سبه صلوات الله وسلامه عليه، على الصحيح من المذهب.(7) "
ويقول الشنقيطي: - اعلم أن عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم المشعر بالغض منه، أو تنقيصه صلى الله عليه وسلم، والاستخفاف به، أو الاستهزاء رده عن الإسلام، وكفر بالله. (8) "
صـ178
__________
(1) هو أبو يوسف يعقوب بن ابراهيم الأنصاري الكوفي، صاحب أبي حنيفة، كان إماماً مجتهداً، صاحب حديث، وعبادة، له مؤلفات، توفي سنة 182 هـ .
انظر: تاريخ بغداد 14/242، سير أعلام النبلاء 8/535.
(2) الخراج لأبي يوسف ص 293، 294 .
(3) الشفا 2/935 – 942 باختصار .
(4) روضة الطالبين 10/67 .
(5) الصارم المسلول ص 452 .
(6) الإنصاف 10/326 = بتصرف يسير .
(7) المرجع السابق 10/333 .
(8) أضواء البيان 7/617 .(1/197)
المطلب الثاني: سائر الأنبياء عليهم السلام
1- نذكر – ابتداء – بأهمية الإيمان بالأنبياء عليهم السلام، حيث تظهر أهمية الإيمان بالأنبياء بأنه الطريق إلى الإيمان بالله تعالى، فلا يتحقق الإيمان بالله عز وجل بدون الإيمان بالأنبياء عليهم السلام.
وما أروع كلام ابن تيمية عندما يتحدث عن أهمية الإيمان بالأنبياء فيقول:- " الرسالة ضرورية للعباد، لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم، ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله تعالى:- {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام، آية 122] فهذا وصف المؤمن كان ميتاً في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات(1) "
ويقول رحمه الله:-
" وبالجملة فينبغي للعاقل أن يعلم أن قيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلولا الرسل لما عبد الله وحده لا شريك له، ولما علم الناس أكثر ما يستحقه سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، ولا كانت له شريعة في الأرض.(2) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 19/93 ,94 وانظر 19/96 , 97، 99 00
(2) الصارم المسلول ص 249 .(1/198)
ويؤكد ابن القيم على ضرورة وأهمية الإيمان بالأنبياء عليهم السلام فيقول:- " لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى المعرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضي الله ألبته إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق،
صـ179
ليس إلا هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأعمال والأخلاق، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير، وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي " وما لجرح بميت إيلام ".(1) "
إن الإيمان بالرسل عليهم السلام يتضمن تصديقهم، وإجلالهم، وتعظيمهم كما شرع الله تعالى وأنهم أفضل الخلق عند الله تعالى، قد اختصهم الله تعالى بوحيه، وجعلهم وسائط بينه وبين خلقه في تبليغ دينه، وهم أكمل الخلق علماً وعملاً.
2- وأما الأقوال التي تناقض الإيمان بالأنبياء عليهم السلام، فلها صور متعددة، وأمثلة كثيرة، منها سبهم والطعن فيهم، والاستهزاء بهم وتنقصهم، أو إنكار نبوة واحد منهم، أو القول بتفضيل الأئمة عليهم، أو إنكار معجزاتهم وآياتهم.
وإذا أخذنا سبهم – كمثال لتلك النواقض القولية – فإن حكم سب سائر الأنبياء عليهم السلام كالحكم في سب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قد بين ذلك جمع من أهل العلم، ومن ثم فلن نطيل الحديث عن هذه المسألة، حيث تقدم الحديث مفصلاً عن حكم سب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول القاضي عياض:-
__________
(1) زاد المعاد 1/69، وانظر مفتاح دار السعادة 2/2 .(1/199)
" من استخف بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو بأحد من الأنبياء، أو أزرى عليهم، أو آذاهم … فهو كافر بالإجماع.(1) "
ويقول أيضاً:- " وحكم من سب سائر أنبياء الله تعالى … واستخف بهم أو كذبهم فيما آتوا به، وأنكرهم وجحدهم حكم نبينا صلى الله عليه وسلم..
قال تعالى:- {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ
صـ180
وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً {150} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء، آية 150، 151 وقال تعالى:- {كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة، آية 285 (2) "
ولقد بين ابن تيمية حكم هذه المسألة بياناً شافياً حيث قال:-
" " والحكم في سب سائر الأنبياء كالحكم في سب نبينا، فمن سب نبياً مسمى باسمه من الأنبياء المعروفين المذكورين في القرآن أو موصوفاً بالنبوة – مثل أن يذكر في حديث أن نبياً فعل كذا وقال كذا، فيسب ذلك القائل أو الفاعل، مع العلم بأنه نبي، وإن لم يعلم من هو، أو يسب نوع الأنبياء على الإطلاق – فالحكم في هذا كما تقدم(3)؛ لأن الإيمان بهم واجب عموماً، وواجب الإيمان خصوصاً بمن قصه الله علينا في كتابه، وسبهم كفر وردة إن كان من مسلم، ومحاربة إن كان من ذمي.
__________
(1) الشفا 2/1069
(2) المرجع السابق 2/1097 = بتصرف
(3) ، (2) انظر تفصيل ذلك في حكم سب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم(1/200)
وقد تقدم في الأدلة الماضية(1)(2) ما يدل على ذلك بعمومه لفظاً أو معنى، وما أعلم أحداً فرق بينهما، وما كان أكثر كلام الفقهاء إنما فيه ذكر من سب نبينا، فإنما ذلك لمسيس الحاجة إليه، وأنه وجب التصديق له، والطاعة له جملة وتفصيلاً، ولا ريب أن جرم سابه أعظم من جرم ساب غيره، كما أن حرمته أعظم من حرمة غيره، وإن شاركه سائر إخوانه من النبيين والمرسلين في أن سابهم كافر حلال الدم.
فأما إن سب نبياً غير معتقد لنبوته فإنه يستتاب من ذلك، إذا كان ممن علمت نبوته بالكتاب والسنة؛ لأن هذا جحد لنبوته، إن كان ممن يجهل أنه نبي، فإنه سب محض، فلا يقبل قوله: إني لم أعلم أنه نبي.(3) "
ويحكي ابن تيمية الإجماع على كفر ساب نبي من الأنبياء فيقول:-
" من خصائص الأنبياء أن من سب نبياً من الأنبياء قتل باتفاق الأئمة، وكان مرتداً، كما أن من كفر به وبما جاء به كان مرتداً، فإن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.(4) "
صـ181
ويقول أيضاً:- " والمسلمون آمنوا بالأنبياء كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم، فإن الإيمان بجميع النبيين فرض واجب، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلهم، ومن سب نبياً من الأنبياء فهو كافر يجب قتله باتفاق العلماء.(5) "
ويذكر ابن تيمية ما يوجبه الطعن في الأنبياء عليهم السلام من الطعن في توحيد الله تعالى وشرعه، وأن سب الأنبياء هو أصل جميع أنواع الكفر، فيقول:-
__________
(1) الصارم المسلول ص 565 .
(3) الصارم المسلول ص 565 .
(4) الصفدية 1/261 .
(5) الصفدية 2/311 .(1/201)
" الطعن في الأنبياء طعن في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وكلامه ودينه وشرائعه وأنبيائه وثوابه وعقابه عامة الأسباب التي بينه وبين خلقه، بل يقال: إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا بنبوة أو أثر نبوة، وإن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات وليست أمة مستمسكة بالتوحيد إلا أتباع الرسل، قال سبحانه وتعالى:- {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى آية، 13 فأخبر أن دينه الذي يدعو إليه المرسلون كبر على المشركين، فما الناس إلا تابع لهم أو مشرك، وهذا حق لا ريب فيه. فعلم أن سب الرسل والطعن فيهم ينبوع جميع أنواع الكفر، وجماع جميع الضلالات، وكل كفر ففرع منه، كما أن تصديق الرسل أصل جميع شعب الإيمان، وجميع مجموع أسباب الهدى.(1)"
وقد أورد ابن حزم أدلة القائلين بتكفير ساب نبي من الأنبياء عليهم السلام ثم رجح هذا القول.. فكان مما قاله في هذه المسألة:-
" فقوله تعالى في المستهزئين بالله وآياته، ورسوله، أنهم كفروا بذلك بعد إيمانهم (2)، فارتفع الإشكال، وصح يقيناً أن كل من استهزأ بشيء من آيات الله وبرسول من رسله فإنه كافر بذلك مرتد.
وقد علمنا بضرورة المشاهدة أن كل ساب وشاتم فمستخف بالمشتوم مستهزيء به، فالاستخفاف والاستهزاء شيء واحد. ووجدنا الله تعالى قد جعل
صـ182
__________
(1) الصارم المسلول ص 250، 251 = باختصار .
(2) يعني قوله تعالى " " قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " " التوبة، آية 65 .(1/202)
إبليس باستخفافه بآدم عليه السلام كافراً، لأنه إذ قال:- {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} [ص، آية 76]، فحينئذ أمره تعالى بالخروج من الجنة ودحره، وسماه كافراً بقوله:- {وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} [ص، آية 74].(1) "
إلى أن قال:- " فصح بما ذكرنا أن كل من سب نبياً من الأنبياء، أو استهزأ به … فهو بذلك كافر مرتد، له حكم مرتد، وبهذا نقول.(2) "
3- وإذا تقرر ما سبق إيراده، فإننا نذكر جملة من كلام أهل العلم في ختام هذه المسألة:-
يقول القاضي عياض:-
" قال مالك في كتاب ابن حبيب ومحمد، وقال ابن القاسم، وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ وسحنون فيمن شتم الأنبياء، أو أحداً منهم، أو تنقصه قتل ولم يستتب، ومن سبهم من أهل الذمة قتل إلا أن يسلم. وروى سحنون عن ابن القاسم: من سب الأنبياء من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي به كفر، ضرب عنقه، إلا أن يسلم.(3) "
وقال ابن نجيم الحنفي:- " ويكفر بعيبه نبياً بشيء …(4) "
ويقول الدردير المالكي:-
" من سب نبياً مجمعاً على نبوته، أو عرض بسب نبي، بأن قال عند ذكره، أما أنا فلست بزان أو سارق فقد كفر.
وكذا إن الحق بنبي نقصاً، وإن ببدنه كعرج، وشلل، أو وفور علمه، إذ كل نبي أعلم أهل زمانه وسيدهم صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق.(5) "
صـ183
ويقول الشربيني الشافعي:-
__________
(1) المحلى 13/500، 501 = باختصار .
(2) المرجع السابق 13/501، 502 . انظر الفصل 3/299 .
(3) الشفا 2/1098 .
(4) البحر الرايق لابن نجيم 5/130 = بتصرف يسير .
(5) الشرح الصغير على أقرب المسالك 6/149 ,150 = بتصرف، وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/274، وبلغة السالك للصاوي 3/448، ومنح الجليل لعليش 2/276، والفواكه الدواني 2/276 .(1/203)
" من كذب رسولاً أو نبياً، أو سبه أو استخف به أو باسمه.. فقد كفر (1) " ويقول مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي(2):- " من سب رسولاً … كفر. (3) "
صـ184
المبحث الثاني
إدعاء النبوة
1-النبوة منة من الله تعالى، وفضل منه عز وجل، وهي اصطفاء واختيار الله تعالى عبداً من عباده بتبليغ الوحي إليه، قال تعالى لموسى عليه السلام: - {اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} [الأعراف، آية 44].
وقال سبحانه وتعالى:-
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج آية 75].
وقال تعالى حاكياً قول يعقوب لابنه يوسف عليه السلام:-
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [الحج، آية 65]
وقال عز وجل:-
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} [مريم، آية 58].
ولربنا سبحانه وتعالى أن يخلق ما يشاء ويختار، فهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته، كما أنه تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وإذا كانت النبوة تعد اصطفاء واختيار من عند الله تعالى، فهي لا تنال باكتساب أو مجاهدة.
قال السفاريني (4)
__________
(1) مغنى المحتاج 4/134، انظر نهاية المحتاج للرملي 7/395، وقليوبي وعميرة 4/175 .
(2) أحد فقهاء الحنابلة، . وكان محدثاً مؤرخاً أديباً، انتقل إلى القاهرة فكان من أكابر علمائها، وله مصنفات كثيرة، توفي بالقاهرة سنة 1033 هـ .
…انظر: مختصر طبقات الحنابلة ص 108، ومعجم المؤلفين 12/218.
(3) غاية المنتهى 3/335 باختصار، انظر شرح منتهى الارادات للبهوتي 3/386 والمبدع شرح المقنع 9/171، وكشاف القناع للبهوتي 6/168 .
(4) محمد بن أحمد بن سالم السفاريني النابلسي الحنبلي، محدث وفقيه، رحل إلى دمشق، له تصانيف كثيرة، توفي بنابلس سنة 1188 هـ .
انظر: مختصر طبقات الحنابلة ص 140، ومعجم المؤلفين 8/262 .(1/204)
:-
ولا تنال رتبة النبوة ... بالكسب والتهذيب والفتوة
لكنها فضل من المولى الأجل
… ... لما يشاء من خلقه إلى الأجل(1)
……
2- وإذا كان الأمر كذلك، فإن ادعاء النبوة – كذباً وزوراً – من أشنع الكذب
صـ185
وأقبحه، كما يقول ابن أبي العز الحنفي(2) رحمه الله:-
" إن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين، أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما، وتعرف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ (3) "
ويتحدث ابن تيمية عن هذه المسألة قائلاً:-
" معلوم أن مدعي الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم، وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم، ولهذا قال أحد أكابر ثقيف للنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغهم الرسالة ودعاهم إلى الإسلام: "والله لا أقول لك كلمة، إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أرد عليك " فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم، وما أحسن قول حسان (4):-
لو لم تكن فيه آيات مبينة ……كانت بديهته تأتيك بالخبر
__________
(1) لوامع الأنوار البهية 2/267 .
(2) هو علي بن علي بن محمد بن أبي العز الدمشقي، من فقهاء الأحناف تولى القضاء، ونصر السنة، وأصابته محنة، له مؤلفات، توفي سنة 792 هـ .
…انظر: شذرات الذهب 6/326، ومعجم المؤلفين 7/156.
(3) شرح العقيدة الطحاوية 1/140 .
(4) ونسبه ابن تيمية في " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " لعبد الله بن رواحة 4/316، انظر تعليق محقق الطحاوية 1/141 .(1/205)
وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين، إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور، واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز.(1) "
صـ186
ويقول أيضاً:-
" والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب، ولا يتبين صدق الصادق، وكذب الكاذب، من وجوه كثيرة، لا سيما والعالم لا يخلو من آثار نبي من لدن آدم إلى زماننا، وقد علم جنس ما جاءت به الأنبياء والمرسلون وما كانوا يدعون إليه، ويأمرون به، ولم تزل آثار المرسلين في الأرض، ولم يزل عند الناس من آثار الرسل ما يعرفون به جنس ما جاءت به الرسل، ويفرقون بين الرسل وغير الرسل. (2) "
ويذكر ابن كثير الفرق الشاسع بين النبي الصادق والمتنبيء الكذاب، عند تفسيره لقوله تعالى{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس، آية 17].
فيقول:-
" يقول تعالى لا أحد أظلم، ولا أعتى، ولا أشد إجراماً ممن افترى على الله كذباً وتقول على الله، وزعم أن الله أرسله، ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر جرماً، ولا أعظم ظلماً من هذا، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء، فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء؟ فإن من قال هذه المقالة صادقاً، أو كاذباً فلا بد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم، وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى، وبين نصف الليل في حندس الظلام.(3) "
__________
(1) شرح العقيدة الأصفهانية ص 89، وانظر الجواب الصحيح 1/29، 30 .
(2) المرجع السابق ص 91 .
(3) تفسير ابن كثير 2/392، وانظر 3/475 .(1/206)
3- وإدعاء النبوة قد يكون بأن يدعي شخص النبوة لنفسه كذباً وافتراء، إما استقلالاً، أو شركة مع نبي آخر، وقد يكون بتصديق من ادعاها، أو القول بتجويزها بعد ختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو زعم أنه يمكن اكتسابها، أو ادعى أنه يوحى إليه، أو ينكر ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم. فكل هذه الصور – وما يلحق بها من أمثالها – من نواقض الإيمان القولية في النبوات، وذلك لعدة اعتبارات منها ما يلي:-
صـ187
(أ) أن ادعاء النبوة من أظلم الظلم، وأعظم الافتراء والكذب على الله تعالى، فلا أحد أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً ممن افترى على الله كذباً، فزعم أن الله أرسله، وهو ليس كذلك، ولقد قرر القرآن أن هذا الافتراء من صفات الكافرين المكذبين، الذين لا يؤمنون بآيات الله، ومن ثم فلا أحد أشد عقوبة منهم، فقد توعد الله تعالى من ادعى النبوة بالعذاب المهين. وكما قال ابن تيمية:- " ولم يجيء إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار …(1) " وأيضاً قد نفى الفلاح عن هذا الصنف، وقد قال الشنقيطي: - " الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه، وهو الكافر.(2) "
وقد دل على ما سبق استقراء آيات القرآن الكريم، فنسوق بعضها مع كلام المفسرين في بيانها على النحو التالي:-
1- يقول الله تعالى:- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام، آية 21.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:-
" أي لا أظلم ممن تقول على الله، فادعى أن الله أرسله، ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [أي لا يفلح هذا ولا هذا، ولا المفتري، ولا المكذب] (3) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 52 .
(2) أضواء البيان 4/442 .
(3) تفسير ابن كثير 2/120 وانظر تفسير المنار 7/343 , 344، وتفسير السعدي 2/385 .(1/207)
2- ويقول تبارك وتعالى:-
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام، آية 93].
يقول ابن عطية (1):-
صـ188
" هذه ألفاظ عامة، فكل من واقع شيئاً مما يدخل تحت هذه الألفاظ فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه الله بقوله: - {وَمَنْ أَظْلَمُ} [أي لا أحد أظلم … - إلى أن قال:- وقد خصص المتأولون في هذا الآية ذكر قوم قد يمكن أن كانوا أسباب نزولها، ثم هي إلى يوم القيامة، تتناول من تعرض شيئاً من معانيها كطليحة الأسدي، والمختار بن أبي عبيد، وسواهما (2) "
ويقول السعدي:-
" لا أحد أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً، ممن كذب على الله، فإنه نسب إلى الله قولاً أو حكماً، وهو تعالى بريء منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق؛ لأن فيه من الكذب، وتغيير الأديان أصولها وفروعها، ونسبة ذلك إلى الله وهو من أكبر المفاسد، ويدخل في ذلك إدعاء النبوة، وأن الله يوحي إليه وهو كاذب في ذلك، فإنه مع كذبه على الله، وجرأته على عظمته وسلطانه، يوجب على الخلق أن يتبعوه. ويجاهدهم على ذلك، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم.
__________
(1) هو عبد الحق بن غالب المحاربي الغرناطي المالكي، كان فقهياً عالماً بالتفسير والحديث والنحو، تولى القضاء، ورحل إلى المشرق، توفي سنة 541 هـ .
…انظر: الديباج المذهب 2/57، وسير أعلام النبلاء 19/587.
(2) تفسير ابن عطية 6/108 , 109 = بتصرف يسير، وانظر تفسير ابن كثر 2/149، وتفسير البيضاوي 1/321، وانظر الفتاوى لابن تيمية 4/86 .(1/208)
ويدخل في هذه الآية كل من ادعى النبوة كمسليمة الكذاب، والأسود العنسي والمختار وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف. (1) "
3- وقال سبحانه: {وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} [الأنعام، آية 124.
يقول ابن كثير:- " هذا وعيد شديد من الله، وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله، والانقياد له فيما جاءوا به فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار، وهو الذلة الدائمة.(2)
4- ويقول الحق تبارك وتعالى:-
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس، آية 17].
يقول ابن كثير:-
صـ189
" يقول تعالى لا أحد أظلم، ولا أعتى ولا أشد إجراماً ممن افترى على الله كذباً، وتقول على الله، وزعم أن الله أرسله، ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر إجراماً ولا أعظم ظلماً من هذا.(3) "
ومن الآيات القرآنية في هذا الشأن قوله تعالى:- {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل، آية 105].
وقوله سبحانه: - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} [العنكبوت، آية 68].
وقوله تعالى: - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} [الزمر، آية 32].
__________
(1) تفسير السعدي 2/434 .
(2) تفسير ابن كثير 2/165 .
(3) المرجع السابق 2/392 .(1/209)
ولذا يقول ابن تيمية: " ومن ادعى النبوة وهو كاذب، فهو من أكفر الكفار، وأظلم الظالمين، وشر خلق الله تعالى، قال تعالى:- {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [الأنعام، آية 144.
وقال تعالى:-
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر، آية 60](1) "
(ب) أن ادعاء النبوة تكذيب لصريح القرآن الكريم، حيث نص القرآن نصاً قطعياً ظاهراً على أن محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فلا نبي بعده.
يقول تعالى:-
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب، آية 40].
يقول ابن كثير:- " هذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده، فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس.(2)
صـ190
وقال القرطبي (3):-
" قال ابن عطية: - هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفاً وسلفاً متلقاة على العموم التام مقتضية نصاً أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم.(4) "
وقال الشربيني:-
__________
(1) الجواب الصحيح 1/30، 4/272 = بتصرف .
(2) تفسير ابن كثير 3/474 .
(3) هو محمد بن أحمد بن أبي بكر الخزرجي الأندلسي المالكي، المفسر، كان من عباد الله الصالحين، له مؤلفات كثيرة، توفي بمصر سنة 671 هـ .
……انظر: الديباج المذهب 2/308، وشذرات الذهب 5/335 .
(4) تفسير القرطبي 14/196 .(1/210)
" أي آخرهم الذي ختم؛ لأن رسالته عامة، ومعها إعجاز القرآن، فلا حاجة إلى استنباء ولا إرسال، فلا يأتي بعده نبي مطلقاً بشرع جديد، ولا يتجدد بعده مطلقاً استنباء، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار بأن يكون بينه وبين أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية، ولو كانت بعده لأحد لم يكن ذلك إلا لولده.(1) "
ويقول الآلوسي:-
" والمراد بكونه عليه الصلاة والسلام خاتمهم انقطاع حدوث وصف النبوة في أحد من الثقلين بعد تحليه عليه الصلاة والسلام بها في هذه النشأة.(2) "
(ج) أن ادعاء النبوة تكذيب وإنكار لما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبوة ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومنكر هذا المتواتر كافر، فختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم أمر معلوم من الدين بالضرورة (3).
وإذا كان إسحاق بن راهوية يقول:-
" من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته، ثم رده بغير تقيه فهو كافر. (4) "، كما أن ابن الوزير يقول:- " إن التكذيب لحديث رسول
صـ191
الله صلى الله عليه وسلم مع العلم أنه حديث كفر صحيح.(5) "، فما بالك بمن أنكر أحاديث متواترة وصحيحة تقطع بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فلا نبي بعده؟ عدا أن عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية من الأمور الواجبة المعلومة من الدين بالضرورة عند المسلمين.
يقول عبد القاهر البغدادي (6):-
__________
(1) تفسير الشربيني 3/237 , 238 .
(2) روح المعاني 22/34 .
(3) سيأتي إن شاء الله في الفصل الرابع من هذا الباب: إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة .
(4) الإحكام لابن حزم 1/89 .
(5) العواصم والقواصم 2/374 .
(6) هو عبد القاهر بن طاهر البغدادي، أحد أعلام الشافعية، أتقن علوماً متعددة، له مؤلفات كثيرة مات بإسفرايين سنة 429 هـ.
…انظر: طبقات الشافعية 5/136، وسير أعلام النبلاء 17/572.(1/211)
" كل من أقر بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقر بأنه خاتم الأنبياء والرسل، وأقر بتأييد شريعته، ومنع من نسخها.
وقد تواترت الأخبار عنه بقوله: - " لا نبي بعدي" ومن رد حجة القرآن والسنة فهو الكافر.(1) "
ويقول ابن حزم:-
" قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل الكواف التي نقلت نبوته وأعلامه وكتابة أنه أخبر أنه لا نبي بعده … فوجب الإقرار بهذه الجملة، وصح أن وجود النبوة بعده عليه السلام باطل لا يكون ألبته.(2) "
ويقول ابن كثير:-
" قد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل.(3) "
صـ192
ونسوق طرفاً من هذه الأحاديث، فعن ثوبان (4) رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم:- "وإنه سيكون في أمتي كذابون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي.(5) "
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:-
" كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستار والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه فقال: - " أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. (6) "
__________
(1) أصول الدين ص 162، 163 = بتصرف يسير .
(2) الفصل 1/146 .
(3) تفسير ابن كثير 3/475 .
(4) ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحابي جليل، لزم النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ عنه كثيراً من العلم، وطال عمره، واشتهر ذكره، مات بحمص سنة 54 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 3/15، والإصابة 1/413 .
(5) أخرجه أبو داود ح (4252)، والترمذي ح (2219) وأحمد 5/278 .
(6) أخرجه البخاري . ك التعبير (12/375) ح (6990) ومسلم، ك الصلاة (1/348) ح (479) .(1/212)
وعن أبي هريرة (1)رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:-
" كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي (2) " "
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون، ويقولون لولا موضع اللبنة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء.(3) "
صـ193
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.(4)
(ب) أن ادعاء النبوة يتضمن أنواعاً كثيرة من المخالفات المناقضة لدين الله تعالى وآياته ورسوله.
فادعاء النبوة يناقض حقيقة كمال الدين وتمامه، وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة، آية 3]
__________
(1) عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد الحفاظ الأثبات، وأكثر الصحابة حديثاً، قدم يوم خيبر، ولازم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان صاحب صلاة وصيام، واستعمله عمر على البحرين، توفي سنة 57 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 2/578، والإصابة 7/425.
(2) أخرجه البخاري، ك أحاديث الأنبياء (6/495)، ح (3455) ومسلم، ك الإمارة (3/1471)، ح (1842) .
(3) أخرجه البخاري، ك المناقب (6/558) . ح (3534)، ومسلم، ك الفضائل (4/1791)، ح (2287) .
(4) انظر مثلاً كتاب عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد سعد الغامدي ص 30-55، حيث ساق في هذا الموضوع أكثر من ستين حديثاً رواها سبعة وثلاثون صحابياً .(1/213)
يقول ابن كثير: - " هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه.(1) "
يقول ابن حزم:-
" اتفقوا أن دين الإسلام هو الذي لا دين لله في الأرض سواه، وأنه ناسخ لجميع الأديان قبله، وأنه لا ينسخه دين بعده أبداً، وأن من خالفه ممن بلغه كافر مخلد في النار أبداً. (2) "
وادعاء النبوة يناقض كون القرآن حجة على كل من بلغه، حيث قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغ} [الأنعام، آية 19.
فالقرآن نذير لكل من بلغه من العالمين، فمن ادعى النبوة فقد طعن في كون القرآن نذيراً لكل من بلغه من الثقلين، كما أن ادعاء النبوة طعن في حفظ القرآن الكريم عن الزيادة والنقصان، يقول تعالى:- {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر، آية 9].
إضافة إلى ذلك، فإن ادعاء النبوة طعن في عموم الرسالة المحمدية، وقد قال تعالى:- {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف، آية 158]
صـ194
فهو صلى الله عليه وسلم رسول إلى جميع الناس، كما جاءت بذلك الكثير من النصوص والأحاديث الصحيحة، وهو أمر معلوم من دين الإسلام بالضرورة، فالثقلان مطالبون باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم مخالفته، فما بالك بمن افترى على الله كذباً، فزعم أنه نبي يوحي إليه؟
__________
(1) تفسير ابن كثير 2/13 .
(2) مراتب الإجماع 167، 173 .(1/214)
هـ – أن ادعاء النبوة تكذيب للإجماع، فقد أجمع العلماء على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا نبي بعده، كما أجمعوا على تكفير من ادعى النبوة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونورد جملة من أقوال أهل العلم ممن حكى هذا الإجماع على النحو التالي:-
يقول عبد القاهر البغدادي:-
" أجمع المسلمون وأهل الكتاب على أن أول من أرسل من الناس آدم عليه السلام، وآخرهم عند المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم.(1) "
ويقول ابن حزم:-
" واتفقوا على أنه لا نبي مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا بعده أبداً.(2) "
ويقول في موضع آخر:-
" وأما من قال أن بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبياً غير عيسى ابن مريم، فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد.(3) "
ويقول في موضع ثالث:-
" من ادعى نبوة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - حاشا عيسى ابن مريم – فهو كافر، ولا خلاف في ذلك من أحد من أهل الإسلام، وذلك لخلافه القرآن، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4) "
ويقول القاضي أبو يعلى:-
" ونبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، ولا يبعث الله نبياً بعد نبينا،
صـ195
خلافاً لأهل التناسخ، والخرمية (5) في قولهم:
يجوز أن يبعث الله نبياً بعد نبينا، وإن الأنبياء لا ينقطعون عن الخلق أبداً، والدلالة عليه إجماع الأمة أن نبينا خاتم النبيين، وقد قال الله تعالى {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب، آية 40].
__________
(1) أصول الدين ص 159 .
(2) مراتب الاجماع ص 173 .
(3) الفصل 3/293 = بتصرف يسير .
(4) الدرة فيما يجب اعتقاده ص 206، وانظر ص 414، 415 .
(5) الخرمية: أتباع بابك الخرمي الذي ظهر بناحية أذربيجان، وكان يستحل المحرمات، ويظهر الإلحاد، وهم فرقة خارجة عن الاسلام كبقية فرق الباطنية .
انظر: التبصير في الدين ص 135، واعتقادات فرق المسلمين ص 79 .(1/215)
وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:-
" مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأكمله إلا موضع لبنة من زاوية، فقال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين " (1) "
ويقول القاضي عياض:-
" وكذلك من ادعى نبوة أحد مع نبينا صلى الله عليه وسلم، أو بعده كالعيسوية من اليهود، القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب، وكالخرمية القائلين بتواتر الرسل، وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم وبعده، وكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة والرسالة … أو من ادعى النبوة لنفسه، أو جوز اكتسابها، والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها.
وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه، وإن لم يدع النبوة.. فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين لا نبي بعده، وأخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين، وأنه أرسل كافة للناس.
وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره، وأن مفهومه المراد منه دون تأويل ولا تخصيص، فلا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعاً إجماعاً وسمعاً.(2) "
ويقول ابن نجيم:-
صـ196
" إذا لم يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، فليس بمسلم؛ لأنه من الضروريات. (3) "
ويقول ملا علي قاري:- " ودعوى النبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم كفر بالإجماع.(4) "
ويقول الألوسي:-
" وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب، وصدعت به السنة، وأجمعت عليه الأمة، فيكفر مدعي خلافه، ويقتل إن أصر (5) ".
__________
(1) المعتمد في أصول الدين ص 167 .
(2) الشفا 2/1070، 1071 .
(3) الأشباه والنظائر ص 192 .
(4) شرح الفقه الأكبر ص 244 .
(5) روح المعاني 22/41 .(1/216)
4- إذا تقرر وجه كون ادعاء النبوة ناقضاً من نواقض الإيمان القولية في موضوع النبوات، فإننا نسوق طرفاً من كلام العلماء في تقرير هذا الأمر " يقول أحمد الدردير المالكي:- " ويكفر إذا جوز اكتساب النبوة، أي تحصيلها بسبب رياضة؛ لأنه يستلزم جواز وقوعها بعد النبي. (1) "
ويقول محمد عليش المالكي(2):- " ويكفر بأن ادعى شركاً أي شخصاً مشاركاً مع نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لمخالفته قوله تعالى {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب، آية 40] ويكفر إن جوز اكتساب النبوة بتصفية القلب، وتهذيب النفس، والجد في العبادة، لاستلزامه جوازها بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتوهين ما جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. (3) "
وقال النووي: - إذا ادعى النبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، أو صدق مدعياً لها … فكل هذا كفر.(4) "
صـ197
وقال الشربيني:-
" من نفى الرسل، بأن قال لهم لم يرسلهم الله، أو نفى نبوة نبي، أو ادعى النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو صدق مدعيها، أو قال النبوة مكتسبة، أو تنال رتبتها بصفاء القلوب، أو أوحي إليه ولم يدع النبوة …فقد كفر.(5) "
ويقول ابن قدامة:-
__________
(1) الشرح الصغير 6/149 = بتصرف يسير .
(2) هو محمد بن أحمد بن عليش المالكي الأشعري الشاذلي، فقيه، متكلم، نحوي، فرضي، ولد بالقاهرة، وتعلم في الأزهر، وصار شيخ المالكية فيه، له مؤلفات، توفي بالقاهرة سنة 1299 هـ
انظر: معجم المؤلفين 9/12، والأعلام 6/19 .
(3) شرح منح الجليل 4/464 = بتصرف، وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/269 .
(4) روضة الطالبين 10/64، 65 .
(5) مغني المحتاج 4/135 = بتصرف وانظر نهاية المحتاج للرملي 7/395، وقليوبي وعميرة 4/175 .(1/217)
" من ادعى النبوة، أو صدق من ادعاها فقد ارتد؛ لأن مسيلمة لما ادعى النبوة، فصدقه قومه، صاروا بذلك مرتدين، وكذلك طليحة الأسدي ومصدقوه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:- " لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً كلهم يزعم أنه رسول الله "(1) "
ويقول ابن تيمية: - " ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه، أو أخبر عن الله خبراً كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنبئين، فإنه كافر حلال الدم. (2) "
ويقول أيضاً:- " أما من اقترن بسبه – أي للصحابة – دعوى أن علياً إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبرئيل عليه السلام في الرسالة، فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره.(3) "
ويقول منصور البهوتي: - " من ادعى النبوة، أو صدق من ادعاها كفر؛ لأنه مكذب لله تعالى في قوله:- {وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب، آية 40] ولحديث:" لا نبي بعدي "، وفي الخبر: - " لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً كلهم يزعم أنه رسول الله.(4) "
صـ198
المبحث الثالث:
في الكتب المنزلة
__________
(1) المغنى 8/150 .
(2) الصارم المسلول ص 148 .
(3) المرجع السابق ص 518، وأشار ابن تيمية – في عدة مواضع من كتبه – إلى ادعاء ملاحدة الفلاسفة والصوفية إكتساب النبوة ..انظر مثلاً: الصفدية 1/229، 284، ودرء التعارض 1/318،5/22، والرد على المنطقيين ص 487، والأصفهانية ص 106.
(4) شرح منتهى الإرادات 3/386، وانظر المبدع شرح المقنع 9/171، والإقناع للحجاوي 4/297، وغاية المنتهى 3/335 .(1/218)
1- من المعلوم أن الإيمان بالكتب المنزلة من عند الله على رسله عليهم السلام هو أحد أركان الإيمان قال الله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة، آية 136].
وقال سبحانه: {قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [الآية، آل عمران، آية 84].
وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء، آية 136].
وقال تعالى: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ} [الشورى،آية 15].
ووجوب الإيمان بهذه الكتب، يعتبر أمراً بدهياً بالنسبة للمؤمن، فما دام يؤمن بالله تعالى، وقد صدق بما نزل من عنده من الوحي، وما دام أن الله تعالى يخبره في كتابه الكريم أنه قد أنزل كتباً سابقة على الأنبياء والرسل، فالواجب أن يؤمن بهذه الكتب المنزلة، ويعتقد يقيناً أنها منزلة من عند الله تعالى.(1/219)
ومعنى الإيمان بالكتب التصديق بأن جميع هذه الكتب منزلة من عند الله تعالى على رسله عليهم السلام إلى عباده، وأنها كلام الله عز وجل، وأن الإيمان بكل ما فيها من الأحكام كان واجباً على الأمم التي نزلت إليهم تلك الكتب، وكذا الانقياد لها والحكم بما فيها، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة، آية 44].
والإيمان بكتب الله عز وجل يجب إجمالاً فيما أجمل، وتفصيلاً فيما فصل ومما يجب الإيمان به مفصلاً: الإيمان بالقرآن الكريم بتصديقه واتباعه، وتحقيق النصيحة لهذا القرآن العظيم كما قال صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة قلنا
صـ199
لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم (1)"
يقول النووي – في بيان معنى النصيحة لكتابه -: -
" وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى، فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله، ولا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه والدعاء إليه، وإلى ما ذكرنا من نصيحته.(2) "
__________
(1) تقدم تخريجه ص 160 .
(2) صحيح مسلم (بالنووي) 2/38، وانظر: التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص 97 , 98 .(1/220)
ويقول ابن رجب – في شرح معنى النصيحة لكتابه -: " وأما النصيحة لكتابه: فشدة حبه وتعظيم قدره، إذ هو كلام الخالق، وشدة الرغبة في فهمه، وشدة العناية في تدبره، والوقوف عند تلاوته لطلب معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم به له بعد ما يفهمه وكذلك الناصح من العباد يفهم وصية من ينصحه، وإن ورد عليه كتاب منه عني بفهمه ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه، فكذلك الناصح لكتاب ربه يعنى بفهمه، ليقوم لله بما أمره به، كما يحب ربنا ويرضي،ثم ينشر ما فهم في العباد ويديم دراسته بالمحبة له، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه.(1) "
2- إن الأقوال التي تناقض الإيمان بالكتب المنزلة لها صور متعددة، وأمثلة كثيرة يصعب حصرها، منها: - التكذيب والإنكار لهذه الكتب أو بغضها، أو سبها والطعن فيها، أو الاستهزاء بها وانتقاصها والاستخفاف بها، أو الادعاء باختلاقها وافترائها …
وسيكون حديثنا في هذا المبحث قاصراً على مثال من تلك النواقض، وهو الإنكار والاستهزاء بالكتب المنزلة، فأما معنى الإنكار فهو الجحود وعدم الاعتراف، وأما الاستهزاء فهو السخرية والاستخفاف – كما مر ذكره –
صـ200
ووجه كون إنكار الكتب المنزلة أو الاستهزاء بها كفراً وناقضاً من نواقض الإيمان عدة أمور منها:-
(أ) إن هذا الإنكار أو الاستهزاء تكذيب للقرآن، حيث أمر الله تعالى بالاقرار بآياته وتصديقها، وعدم اتخاذها هزواً، وأيضاً فإن الله تعالى قد حكم بالكفر على من جحد آياته، كما توعده بالعذاب المهين (2)وأخبر تعالى أنه لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة …
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص 78 .
(2) وكما قال ابن تيمية:- " ولم يجيء إعداد العذاب المهين إلا في حق الكافر " الصارم المسلول ص 52 .(1/221)
قال تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء، آية 56].
وقال سبحانه:- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام، آية 157].
وقال تبارك وتعالى: - {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف، آية 36].
وقال سبحانه: - {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف، آية 40].
وقال تعالى:- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج، آية 57].
وقال تعالى: - {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ} [العنكبوت، آية 47].
وقال عز وجل: - {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ {27} ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت، آية 27 , 28].
ومن الآيات التي جاءت في شأن المستهزئين، قوله تعالى:- {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية، آية 9].
صـ201(1/222)
وقوله تبارك وتعالى:- {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ {34} ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية، آية 34، 35].
وقوله تعالى:- {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} [الأحقاف، آية 26].
وقال تعالى:- {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65، 66].
يقول ابن تيمية:- " نقل عن الشافعي أنه سئل عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى، أنه قال كافر، واستدل بقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (1) "
ويقول ابن تيمية عن قوله تعالى:- {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر …(2) "
(ب) إن الإيمان بالكتب المنزلة يتضمن الإقرار بها وتصديقها، ولا شك أن إنكارها يناقض هذا الإقرار والتصديق، فإنكار الكتب المنزلة يناقض قول القلب وهو التصديق، كما يناقض قول اللسان وهو الإقرار.
__________
(1) الصارم المسلول ص 513 .
(2) المرجع السابق ص 31، انظر المحلى لابن حزم 13/500 .(1/223)
والإيمان بالكتب المنزلة يتضمن أيضاً وجوب تعظيمها وإجلالها وإكرامها، وإن الاستهزاء بها لا يجتمع مع هذا التعظيم والإجلال، فهو مناقض لعمل القلب، كما أنه يناقض الإيمان الظاهر باللسان.
(ج) إن إنكار الكتب السماوية يتضمن إنكاراً لصفة الكلام الإلهي، ونفي هذه الصفة من الإلحاد في أسماء الله تعالى، وسوء الظن بالله تعالى، وعدم قدر الله تعالى حق قدره.(1)
صـ202
كما أن هذا الإنكار طعن في الرسل عليهم السلام وتنقص لهم، قد سبق بيان أن الطعن في الرسل عليهم السلام وسبهم من نواقض الإيمان.(2)
كما أن هذا الإنكار والاستهزاء هو إنكار واستهزاء بشرائع الدين وأحكامه الإلهية المتلقاة من هذا الوحي، والاستهزاء بالدين كفر (3)؛ لأن أصل الدين قائم على التعظيم (4).
(د) روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المراء في القرآن كفر (5) " ومما قاله الخطابي في بيان هذا الحديث:- " اختلف الناس في تأويله. فقال بعضهم: معنى المراء هنا: الشك فيه، كقوله تعالى {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} [هود، آية 17] أي في شك، ويقال: بل المراء هو الجدال المشكك فيه.
__________
(1) انظر المبحث الثاني من الفصل الأول من هذا الباب .
(2) انظر المبحث الأول من هذا الفصل .
(3) انظر تفسير الرازي 16/124 .
(4) انظر تفسير السعدي 3/259 .
(5) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب النهي عن الجدال 5/8، والحاكم 2/223، وحسنه ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود 7/6،وانظر صحيح الجامع الصغير 6/13، وصحيح الترغيب 1/61 .(1/224)
وتأوله بعضهم على المراء في قراءاته دون تأويله ومعانيه، مثل أن يقول قائل: هذا قرآن قد أنزله الله تبارك وتعالى، ويقول الآخر: لم ينزله الله هكذا، فيكفر به من أنكره، وقد أنزل سبحانه كتابه على سبعة أحرف كلها شاف كاف، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن إنكار القراءة التي يسمع بعضهم بعضاً يقرؤها، وتوعدهم بالكفر عليها لينتهوا عن المراء فيه والتكذيب به.(1) "
فإذا كان الشك في القرآن يعد كفراً، فإن إنكاره أشد كفراً.(2)
صـ203
(هـ) حكى أهل العلم الإجماع على كفر من أنكر الكتب المنزلة أو بعضها – ولو كانت آية واحدة – وكذا أجمعوا على كفر المستهزئ بهذه الكتب المنزلة. فهذا ابن عبد البر يحكي الإجماع قائلاً:- " وأجمع العلماء أن ما في مصحف عثمان وهو الذي بأيدي المسلمين اليوم في أقطار الأرض حيث كانوا، هو القرآن المحفوظ الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه، ولا تحل الصلاة لمسلم إلا بما فيه …
-إلى أن قال – وإنما حل مصحف عثمان رضي الله عنه هذا المحل، لإجماع الصحابة وسائر الأمة عليه، ولم يجمعوا على ما سواه … ويبين لك أن من دفع شيئاً مما في مصحف عثمان كفر. (3) "
وينقل ابن عبد البر الإجماع الذي حكاه إسحاق بن راهوية، حيث قال إسحاق:- " قد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر ".
__________
(1) معالم السنن (مع سنن أبي داود ) 5/9، وانظر جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/91 ومجموع الفتاوى لابن تيمية 14/302 .
(2) ورد عند ابن ماجه من حديث ابن عباس مرفوعاً: " من جحد آية من القرآن فقد حل ضرب عنقه .. " ولكنه حديث ضعيف الإسناد .
انظر: سنن ابن ماجه (ت الأعظمي) 2/83 رقم الحديث (2567) وسلسلة الأحاديث رقم (1416)، وضعيف الجامع الصغير رقم (1552) .
(3) التمهيد 4/278، 279 .(1/225)
فإذا كان دفع شيء أنزله الله كفراً بالإجماع ولو كان مقراً به، فما بالك بمن أنكر هذا الوحي؟.
ويقول القاضي عياض:- " اعلم أن من استخف بالقرآن، أو المصحف، أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحده، أو حرفاً منه أو آية، أو كذب به، أو بشيء منه، أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم، أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع، قال الله تعالى:- {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت 42].
وكذلك إن جحد التوارة والإنجيل وكتب الله المنزلة، أو كفر بها، أو لعنها، أو سبها، أو استخف بها فهو كافر.
وقال أبو عثمان الحداد (1):-
صـ204
" جميع من ينتحل التوحيد متفقون أن الجحد لحرف من التنزيل كفر.(2) "
ويقول ابن حزم:-
" من قال إن القرآن نقص من بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حرف أو زيد فيه حرف، أو بدل منه حرف، أو أن هذا المسموع أو المحفوظ أو المكتوب أو المنزل ليس هو القرآن، وإنما هو حكاية القرآن، وغير القرآن، أو قال إن القرآن لم ينزل به جبريل صلى الله عليه وسلم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنه ليس هو كلام الله – تعالى – فهو كافر، خارج عن دين الإسلام؛ لأنه خالف كلام الله عز وجل، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل الإسلام.(3) "
__________
(1) سعيد بن محمد بن صبيح الحداد المغربي، من فقهاء المالكية، وكان عالماً بالسنن ولغة العرب، له ردود على المبتدعة، وكان عابداً صالحاً، توفي سنة 302 ه .
انظر: - سير أعلام النبلاء 14/205، وشذرات الذهب 2/238 .
(2) الشفا 2/1101 – 1105 = باختصار .
(3) الدرة فيما يجب اعتقاده ص 220 , 221، وانظر قريباً من هذا الكلام في المحلى 1/15 , 16 , 39 والفصل 5/40 .(1/226)
ويقول ابن قدامة: - " ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن من جحد آية، أو كلمة متفقاً عليها أو حرفاً متفقاً عليه أنه كافر.(1) "
3- وإذا تقرر أوجه كون الإنكار أو الاستهزاء بالوحي من نواقض الإيمان، فإننا نسوق طرفاً من كلام العلماء في هذه المسألة كما يلي:-
" قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:- من كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله. (2)
" وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:-
" من كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع.(3) "
" وقال عبد الله بن المبارك:-
" من كفر بحرف من القرآن فقد كفر، ومن قال لا أؤمن بهذه اللام فقد كفر.(4) "
ويقول ابن بطة:-
صـ205
" وكذلك وجوب الإيمان والتصديق بجميع ما جاءت به الرسل من عند الله، وبجميع ما قاله الله عز وجل فهو حق لازم، فلو أن رجلاً آمن بجميع ما جاءت به الرسل إلا شيئاً واحداً، كان برد ذلك الشيء كافراً عند جميع العلماء.(5) "
ويقول أيضاً:-
" من كذب بآية أو بحرف من القرآن، أو رد شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر.(6)"
وقال القاضي عياض:- " وكذلك من أنكر القرآن، أو حرفاً منه، أو غير شيئاً منه، أو زاد فيه كفعل الباطنية والإسماعيلية، أو زعم أنه ليس بحجة للنبي صلى الله عليه وسلم، أو ليس فيه حجة ولا معجزة، كقول هشام الغوطي، ومعمر الضمري، أنه لا يدل على الله، ولا حجة فيه لرسوله … ولا محالة في كفرهما بذلك القول.
وكذلك من أنكر شيئاً مما نص فيه القرآن – بعد علمه – أنه من القرآن الذي في أيدي الناس ومصاحف المسلمين، ولم يكن جاهلاً، ولا قريب عهد بالإسلام …(7) "
وقال ابن نجيم:-
__________
(1) حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة ص 33 .
(2) المرجع السابق ص 33 .
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 2/232 .
(4) فتاوى ابن تيمية 4/182 .
(5) الإبانة الصغرى ص 211 .
(6) المرجع السابق ص 201 .
(7) الشفا 2 / 1076، 1077 = باختصار .(1/227)
" ويكفر إذا أنكر آية من القرآن، أو سخر بآية منه إلا المعوذتين، ففي إنكارهما اختلاف، والصحيح كفره …(1) "
وجاء في الفتاوى البزازية:-
" إدخال القرآن في المزاح، والدعابة كفر؛ لأنه استخفاف به.(2) "
وجمع محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي (3) أقوال الأحناف في هذه المسألة،
صـ206
فكان مما أورده:- " وفي الخلاصة: من قرأ القرآن على ضرب الدف والقضيب يكفر، وكذا من لم يؤمن بكتاب من كتب الله تعالى. أو جحد وعداً أو وعيداً مما ذكره الله تعالى في القرآن، أو كذب شيئاً منه.
وفي يتيمة الفتاوى:- من استخف بالقرآن، أو بالمسجد، أو بنحوه مما يعظم في الشرع كفر.
وفي جواهر الفقه:- من قيل له: ألا تقرأ القرآن، أو ألا تكثر قراءته؟ فقال: شبعت أو كرهت، أو أنكر آيه من كتاب الله، أو عاب شيئاً من القرآن، أو أنكر المعوذتين من القرآن غير مؤول كفر.
وفي الفتاوى الظهيرية:- من قرأ آية من القرآن على وجه الهزل يكفر.(4) "
وذكر النووي أن من جحد آية من القرآن على وجه الهزل يكفر. (5) "
وسئل ابن تيمية عن رجل لعن اليهود، ولعن دينه وسب التوراة فهل يجوز لمسلم أن يسب كتابهم أم لا؟
__________
(1) البحر الرايق 5/131 .
(2) الفتاوى البزازية 3/338 .
(3) هو محمد بن إسماعيل بن محمود، بدر الرشيد، من فقهاء الأحناف، توفي سنة 768 هـ انظر: معجم المؤلفين 9/62 .
(4) تهذيب رسالة البدر الرشيد في الألفاظ المكفرات ص 22، 23 باختصار، انظر شرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 250 – 254
(5) انظر: روضة الطالبين 10/64، وانظر أيضاً مغنى المحتاج للشربيني 4/135، ونهاية المحتاج للرملي 7/395 .(1/228)
فأجاب:- " الحمد لله، ليس لأحد أن يلعن التوراة، بل من أطلق لعن التوراة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن كان ممن يعرف أنها منزلة من عند الله، وأنه يجب الإيمان بها، فهذا يقتل بشتمه لها، ولا تقبل توبته في أظهر قولي العلماء. وأما إن لعن دين اليهود الذي هم عليه في هذا الزمان فلا بأس في ذلك، فإنهم ملعونون هم ودينهم، وكذلك إن سب التوراة التي عندهم بما يبين أن قصده ذكر تحريفها مثل أن يقال: نسخ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر، فهذا الكلام ونحوه حق لا شيء على قائله والله أعلم.(1) "
ويقول – في موضع آخر -: " من زعم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت
صـ207
.. فلا خلاف في كفره.(2) "
كما أن ابن قدامة حكم بالكفر على من استهزأ بآيات الله (3)، كما قال تعالى:- {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65 , 66]
ويقول البهوتي:-
" من جحد كتاباً من كتب الله أو شيئاً منه، أو استهزأ بالله تعالى، أو بكتبه أو رسله فهو كافر، لقوله تعالى {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65 , 66]،
وكذا إن وجد منه امتهان للقرآن أو طلب تناقضه، أو دعوى أنه مختلف أو مقدور على مثله أو إسقاط لحرمته، لقوله تعالى:- {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر، آية 21.
وقوله: - {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء، آية 82]،
__________
(1) مجموع الفتاوى 35/200 .
(2) الصارم المسلول ص 586 = باختصار .
(3) انظر المغنى 10/113 .(1/229)
وقوله:- {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء، آية 88](1) "
صـ208
الفصل الثالث
نواقض الإيمان القولية في سائر المغيبات
المبحث الأول: الملائكة والجن
1- إن الإيمان بالغيب من أهم صفات عباد الله المؤمنين، حيث أثنى الله تعالى عليهم بقوله {الم {1}ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2}الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة، آية 1-5].
يقول الراغب الأصفهاني:-
" والغيب في قوله تعالى {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بدائه العقول، وإنما يعرف بخبر الأنبياء عليهم السلام، وبدفعه يقع على الإنسان اسم الإلحاد.(2) "
ويقول ابن تيمية:-
" وأصل الإيمان هو الإيمان بالغيب، كما قال تعالى {الم {1}ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2}الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة، آية 1- 3].
والغيب الذي يؤمن به ما أخبرت به لرسل من الأمور العامة، ويدخل في ذلك الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، وملائكته، والجنة والنار، فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر يتضمن الإيمان بالغيب …(3) "
__________
(1) كشاف القناع 6/168، 169 بتصرف، وانظر غاية المنتهى 3/339، والمبدع 9/171 .
(2) المفردات، ص 552 .
(3) مجموع الفتاوى (رسالة في عالم الظاهر والباطن) 13/233 .(1/230)
ويقول السعدي عند تفسيره لقوله تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}:- " حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن لخبر الله وخبر رسوله.
صـ209
فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر؛ لأنه تصديق مجرد لله ورسله، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده،أو لم يشاهده، وسواء فهمه وعقله، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه. بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية؛ لأن عقولهم القاصرة المقصرة لهم تهتد إليها، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ففسدت عقولهم، ومرجت أحلاهم (1) "
ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بالملائكة عليهم السلام، والإيمان بالجن، فأما الإيمان بالملائكة فهو الإقرار الجازم بوجودهم، وأنهم من خلق الله تعالى، وهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ {26} لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء، آية 26, 27]، وأنهم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم، آية 6].
والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، فلا يتحقق إيمان عبد حتى يؤمن بوجودهم …وعليه أن يؤمن بمن ورد ذكرهم في القرآن والسنة على وجه التفصيل، كما يجب الإيمان بصفاتهم الخلقية والخلقية، والأعمال التي يقومون بها. يقول محمد رشيد رضا في ثنايا حديثه عن أهمية الإيمان بالملائكة:-
__________
(1) تفسير السعدي 1/41 .(1/231)
" إن الإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحي، ولذلك قدم ذكر الملائكة على ذكر الكتاب والنبيين، قال تعالى: - {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة، آية 177]، فالملائكة هم الذين يؤتون النبيين الكتاب، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر، آية 4]، وقال سبحانه:-{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ {194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء، آية 193] – 195، فليلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي والنبوة وإنكار الأرواح، وذلك يستلزم إنكار اليوم الآخر.(1) "
ويقول السعدي – في نفس المسألة السابقة -:-
" الإيمان بالملائكة أحد أصول الإيمان، ولا يتم الإيمان بالله وكتبه ورسله إلا بالإيمان بالملائكة.(2) "
صـ210
كما يجب الإيمان بوجود الجن في العالم، وأنهم خلق من خلق الله تعالى وأنهم أحياء عقلاء، ومأمورون ومنهيون، وأن ذلك أمراً متواتر معلوم بالاضطرار.(3)
2- وإذا تقرر وجوب الإيمان بالملائكة عليهم السلام والجن، فإن لهذا الإيمان ما يناقضه من الأقوال كإنكار وجود الملائكة، أو الجن، أو سب الملائكة والاستهزاء بهم، ووجه كون تلك الأقوال مناقضة لهذا الإيمان ما يلي:-
__________
(1) تفسير المنار 2/113 .
(2) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن ص 29 .
(3) أفاض القرآن الكريم، والسنة النبوية في الحديث عن الجن وأحوالهم في مواضع كثيرة، فقد ورد ذكرهم في القرآن في مواضع متعددة تقرب من أربعين موضعاً، عدا الآي التي تحدثت عن الشيطان، وهي كثيرة .
انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن ص 179، وعالم الجن للأشقر ص 10، وعالم الجن للعبيدات ص 79 .(1/232)
(أ) أن إنكار وجود الملائكة أو الجن (1) هو تكذيب وجحود للأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة، فقد تواترت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية في الحديث عن الملائكة والجن، ومن ثم فإن وجود الملائكة والجن أمر متواتر ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام.
فمثلاً في شأن الملائكة عليهم السلام يقول الله تعالى: - {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة، آية 286.
ويقول سبحانه:- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
صـ211
وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء. آية 136].
يقول الألوسي في تفسيره لقول تعالى:
__________
(1) ومن أمثلة هذه الإنكار ما يظنه ملاحدة الفلاسفة أنها قوى النفس الصالحة ، والشياطين قوى النفس الخبيثة .
انظر فتاوى ابن تيمية 4/120، 121، 346، 240،280 . والسبعينية ص 220 وأصول اللالكائي 7/1217، والحجة للأصفهاني 2/390، وفتح الباري 6/343، والفصل لابن حزم 1/90، والفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي ص 279.
وانظر أمثلة لهذا الإنكار عند بعض العقلانيين المعاصرين في كتاب عالم الجن لعبد الكريم عبيدات ص 118-169 .(1/233)
{وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ..} الآية:- " أي بشيء من ذلك فإن الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو قد يرجع إلى كل واحد، وقد يرجع إلى المجموع، والتعويل على القرائن، وههنا قد دلت القرينة على الأول؛ لأن الإيمان بالكل واجب، والكل ينتفي بانتفاء البعض …(1) "
وأما الجن فقد أفاض القرآن الكريم والسنة النبوية في الحديث عن الجن وأحوالهم، وانفردت سورة كاملة في الحديث عن نفر من الجن استمعوا للقرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء هذا مفصلاً في سورة " الجن "، قال تعالى: - {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن، آية 1].
يقول ابن بطة:-
" فمن أنكر الجن فهو كافر بالله، جاحد بآياته، مكذب بكتابه.(2) "
ويقول ابن حزم:-
" لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز وجل بصدقهم، مما أبدى على أيديهم من المعجزات … بنص الله عز وجل على وجود الجن في العالم، وجب ضرورة العلم بخلقهم ووجودهم، وقد جاء النص بذلك، وبأنهم أمة عاقلة مميزة متعبدة، موعودة متوعدة متناسلة يموتون … فمن أنكر الجن، أو تأول فيهم تأويلاً يخرجهم به عن هذا الظاهر، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال.(3) "
ويقول القرطبي – في هذا الشأن -:-
" وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن، اجتراء على الله وافتراء، والقرآن والسنة ترد عليهم.(4) "
صـ212
ويقول ابن تيمية:- " وجود الجن ثابت بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتفاق سلف الأمة، وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أهل السنة والجماعة.(5) "
ويقول في موضع آخر:-
__________
(1) روح المعاني للآلوسي 5/170 .
(2) الإبانة الصغرى ص 213 = باختصار
(3) الفصل 5/112 .
(4) تفسير القرطبي 19/6 .
(5) مجموع الفتاوى 24/276، وانظر 24/277، 280، 282 .(1/234)
" إن وجود الجن قد تواترت به أخبار الأنبياء تواتراً معلوماً بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء، فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات، وأعراضاً قائمة بالإنسان أو غيره كما يزعمه بعض الملاحدة. فلما كان أمر الجن متواتراً عن الأنبياء تواتراً ظاهراً تعرفه العامة والخاصة لم يكن لطائفة كبيرة من طوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم.(1) "
ويقول الآلوسي:-
"ونفي الجن كفر صريح كما لا يخفى.(2) "
كما أن إنكار الملائكة والجن مناقض للإيمان بالكتب المنزلة، فالإيمان بالكتب يتضمن الإقرار بها وتصديقها، وإنكار الملائكة والجن هو تكذيب وجحود لآيات الله تعالى، فهو يناقض هذا الإقرار والتصديق، ومن ثم فقد توعد الله تعالى أولئك المنكرين لآياته، المكذبين بها بالعذاب المهين والخلود في نار جهنم.
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ {40}} [الأعراف، آية 40].
وقال تعالى:- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}} [الحج، آية 57].
بل إن صفة الجحود لتلك الآيات لا تقوم إلا في الكفار، كما قال تبارك وتعالى:- {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ} [العنكبوت، آية 47]
صـ213
(ب) أجمع العلماء على كفر من أنكر الملائكة أو الجن، أو استهزأ واستخف بالملائكة، أو سبهم، فيقول القاضي عياض
__________
(1) مجموع الفتاوى (إيضاح الدلالة في عموم الرسالة) 19/10، انظر الرد على المنطقيين ص 489، 490 .
(2) روح المعاني 29/82 .(1/235)
" وحكم من سب سائر أنبياء الله تعالى، وملائكته، واستخف بهم، أو كذبهم فيما أتوا به، أو أنكرهم وجحدهم، حكم نبينا صلى الله عليه وسلم …(1)
قال الله تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً {150} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء، 150، 151]. (2) "
وإذا كان العلماء قد أجمعوا على كفر من أنكر آية من كتاب الله تعالى (3)، فما بالك بمن أنكر آيات كثيرة جداً تثبت وجود الملائكة والجن!
فوجود الملائكة عليهم السلام كما هو ثابت بالكتاب والسنة، فهو ثابت بالإجماع، وكذلك الجن.
يقول ابن حزم: - " واتفقوا أن الملائكة حق، وأن جبريل وميكائيل ملكان رسولان لله عز وجل مقربان عظيمان عند الله تعالى، وأن الملائكة كلهم مؤمنون فضلاً، وأن الجن حق.(4) "
ويذكر ابن حزم أن المسلمين والنصارى والمجوس والصابئين وأكثر اليهود كلهم مجمعون على وجود الجن (5) "
ويقول ابن تيمية:-
" والإقرار بالملائكة والجن عام في بني آدم، لم ينكر ذلك إلا شواذ من بعض الأمم، ولهذا قالت الأمة المكذبة:- {وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً} [المؤمنون، آية 24]
صـ214
__________
(1) ومن المعلوم أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو الاستهزاء به أو إنكاره من نواقض الإيمان بالإجماع .
انظر المبحث الأول من الفصل الثاني في هذا الباب .
(2) الشفا 2/1097 .
(3) انظر الشفا 2/1101، والتمهيد 4/226، وحكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة لابن قدامة ص 33، والإبانة الصغرى ص 211 .
(4) مراتب الإجماع ص 174 .
(5) انظر الفصل 5/112 .(1/236)
حتى قوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون، قال قوم نوح:- {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً} [المؤمنون، آية 24 وقال {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ {13} إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت، آية 13]، 14، وليس في الأمم أمة تنكر ذلك إنكاراً عاماً، وإنما يوجد إنكار ذلك في بعضهم، مثل من قد يتفلسف فينكرهم لعدم العلم لا للعلم بالعدم.(1) "
ويقول – في موضع آخر -:-
" من المعلوم بالاضطرار أن الرسل أخبرت بالملائكة والجن، وأنها أحياء ناطقة قائمة بأنفسها، ليست أعراضاً قائمة بغيرها.(2) "
إلى أن قال:- " فمن أنكر وجود الجن والشياطين وتأثيرهم … كان مبطلاً باتفاق أهل الملل، واتفاق جمهور الفلاسفة، وكان كذبه معلوماً بالاضطرار عند من عرف هذه الأمور بالمشاهدة، أو الأخبار الصادقة.(3)
__________
(1) النبوات ص 21، 22 = باختصار
(2) الصفدية 1/192، 193 – بتصرف يسير، وانظر الصفدية 1/168، وانظر المعتمد في أصول الدين لأبي يعلي ص 171، 172، وآكام المرجان في أحكام الجان للشبلي ص 3 .
(3) الصفدية 1/192، 193 – بتصرف يسير، وانظر الصفدية 1/168، وانظر المعتمد في أصول الدين لأبي يعلي ص 171، 172، وآكام المرجان في أحكام الجان للشبلي ص 3 .(1/237)
(ج) إن الإيمان بالملائكة عليهم السلام يوجب إجلالهم وإكرامهم، فهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولذا فإن سبهم والاستهزاء بهم لا يجتمع مع إجلالهم وإكرامهم، وإن كان مقراً بوجودهم، لما في هذا من عدم تقدير الله تعالى حق قدره، والاستهزاء بآيات الله تعالى، ويقول سبحانه: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65 , 66].
يقول ابن حزم:- " صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو نبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من
صـ215
فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر. (1) "
ويقول أيضاً: - قد علمنا أن الملائكة كلهم رسل الله تعالى، قال تعالى: - {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} [فاطر، آية 1]، وكذلك بضرورة المشاهدة أن كل ساب وشاتم فمستخف بالمشتوم مستهزئ به، فالاستخفاف والاستهزاء شيء واحد … فصح بما ذكرنا أن كل من سب الله تعالى، أو استهزأ به، أو سب ملكاً من الملائكة، أو استهزأ به، أو سب نبياً من الأنبياء، أو استهزأ به، أو سب آية من آيات الله تعالى، أو استهزأ بها، والشرائع كلها، والقرآن من آيات الله تعالى فهو بذلك كافر مرتد، له حكم المرتد، وبهذا نقول، وبالله تعالى التوفيق.(2) "
(د) إن الإيمان بالملائكة عليهم السلام يقتضي محبتهم ومودتهم، وأما سبهم وشتمهم فهو بسبب بغضهم وعداوتهم، وهو ما يناقض الإيمان بهم، كما قال تعالى: - {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة، آية 98].
__________
(1) الفصل 3/299 .
(2) المحلى 13/500 – 502 = باختصار .(1/238)
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:- يقول تعالى من عاداني وملائكتي ورسلي، ورسله تشمل رسله من الملائكة، كما يقول تعالى: - {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج، آية 75].
وقوله تعالى: - {فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} فيه إيقاع المظهر مكان المضمر، حيث لم يقل فإنه عدو، بل قال: فإن الله عدو للكافرين … وإنما أظهر الله هذا الاسم لتقرير هذا المعنى، وإظهاره وإعلامهم أن من عادى ولياً لله، فقد عادى الله، ومن عادى الله، فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة …(1) "
ومما قاله البيضاوي في تفسيره لهذه الآية:-
" وأفرد الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر، والتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر، واستجلاب العداوة من الله تعالى، وأن
صـ216
من عادى أحدهم، فكأنه عادى الجميع، إذ الموجب لعداوتهم ومحبتهم على الحقيقة واحد، ولأن المحاجة كانت فيهما، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنه تعالى عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة والرسل كفر.(2) "
ومما كتبه النسفي (3) في تفسيره لهذه الآية قوله:-
" قوله تعالى {فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} أي لهم جواب الشرط، والمعنى من عاداهم عاداه الله، وعاقبه أشد العقاب، وإيثار الاسمية للدلالة على التحقق والثبات، ووضع الكافرين موضع المضمر للإيذان بأن عداوة المذكورين كفر، وأن ذلك بين لا يحتاج إلى الإخبار به، وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب هو كفرهم المذكور.(4) "
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/126، 27 = باختصار .
(2) تفسير البيضاوي 1/72 .
(3) أبو البركات عبد الله بن أحمد النسفي الحنفي، فقيه أصولي، مفسر، متكلم، له عدة مصنفات، توفي سنة 710 هـ .
انظر: الدرر الكامنة 2/352، ومعجم المؤلفين 6/32 .
(4) تفسير النسفي 1/221، وانظر تفسير القاسمي 1/204 .(1/239)
3- وإذا تقرر أن إنكار وجود الملائكة عليهم السلام أو الجن أو سب الملائكة والاستهزاء بهم من نواقض الإيمان فإننا نسوق أقوالاً مختارة لأهل العلم في هذا الشأن.
يقول ابن نجيم:-
"ويكفر بقوله لغيره رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت عند البعض خلافاً للأكثر، وقيل به إن قاله لعداوته لا لكراهة الموت، وبقوله لا أسمع شهادة فلان وإن كان جبريل أو ميكائيل عليهما السلام، وبعيبه ملكاً من الملائكة أو الاستخفاف به.(1) "
يقول القاضي عياض:- وقال القاضي بقرطبة سعيد بن سليمان في بعض أجوبته: من سب الله وملائكته قتل.
وقال سحنون:- من شتم ملكاً من الملائكة فعليه القتل.
صـ217
وقال أبو الحسن القابسي في الذي قال لآخر:- كأنه وجه مالك الغضبان، لو عرف أنه قصد ذم الملك قتل "
ثم قال القاضي عياض:-
" وهذا كله فيمن تكلم فيهم بما قلناه على جملة الملائكة والنبيين، أو على معين ممن حققنا كونه من الملائكة والنبيين، ممن نص الله عليه في كتابه، أو حققنا علمه بالخبر المتواتر، والمشتهر المتفق عليه بالإجماع القاطع كجبريل وميكائيل، ومالك، وخزنة جهنم والزبانية، وحملة العرش المذكورين في القرآن من الملائكة، ومن سمي فيه من الأنبياء، وكإسرافيل، والحفظة … فأما من لم تثبت الأخبار بتعيينه، ولا وقع الإجماع على كونه من الملائكة كهاروت وماروت.. فليس الحكم في سابهم والكافر بهم كالحكم فيما قدمناه [ممن اتفق على أنه ملك] …(2) "
وقال الدردير المالكي:- " ويكفر إن سب نبياً مجمعاً على نبوته، أو ملكاً مجمعاً على ملكيته، أو ألحق به نقصاً وإن ببدنه كعرج، وشلل …(3) "
ويقول ابن غنيم المالكي (4)
__________
(1) البحر الرايق 5/131 .
(2) الشفا 2/1097 – 1100 = بتصرف
(3) الشرح الصغير 6/149 ,150 = بتصرف يسير، وانظر بلغة السالك للصاوي 3/448 .
(4) هو أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي المالكي، فقيه، مشارك في بعض العلوم، وله مؤلفات، توفي سنة 1125 هـ .
انظر: معجم المؤلفين 2/40 .(1/240)
:- " ومن سب ملكاً مجمعاً على ملكيته، أو لعنه، أو عابه، أو قذفه، أو استخف بحقه، أو غير صفته، أو ألحق به نقصاً في دينه، أو بدنه، أو خصلته، أو غض من مرتبته، أو وفور علمه، أو زهده، أو أضاف له مالا يجوز عليه، أو نسب إليه ما لا يليق به على طريق الذم …قتل (1) حداً ويستعجل بقتله.(2) "
ويقول النووي:-
صـ218
"ولو قال: لو شهد عندي الأنبياء والملائكة بكذا ما صدقتهم كفر "(3).
ويقول ابن حجر الهيتمي معلقاً على هذه العبارة:-
" وهل لو قال الملائكة فقط أو الأنبياء فقط يكفر أيضاً؟ الذي يظهر نعم؛ لأن ملحظ الكفر كما لا يخفى نسبة الأنبياء أو الملائكة إلى الكذب، فإن قلت: جرى خلاف في العصمة؟ قلت: أجمعوا على العصمة عن الكذب ونحوه.(4) "
ويقول ابن قدامة:-
" وإن ارتد بجحود فرض، لم يسلم حتى يقر بما جحده، ويعيد الشهادتين؛ لأنه كذب الله ورسوله بما اعتقده، وكذلك إن جحد ملكاً من ملائكته الذين ثبت أنهم ملائكة الله، أو استباح محرماً فلا بد في إسلامه من الإقرار بما جحده.(5) "
ويقول مرعي بن يوسف الكرمي:-
" من أشرك بالله تعالى، أو سبه، أو رسوله، أو ملكاً له … كفر (6)"
ويذكر البهوتي أن من " جحد الملائكة، أو أحداً ممن ثبت أنه ملك، كفر لتكذيبه القرآن.(7)"
هذا طرف من أقول العلماء فيما يتعلق بالملائكة عليهم السلام، وأما الجن فإن وجودهم ثابت بالإجماع والتواتر، فهو أمر معلوم من الدين بالضرورة، ومن ثم فإن إنكارهم هو إنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة، وهذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله في الفصل القادم.
صـ219
المبحث الثاني:- اليوم الآخر
المطلب الأول:- إنكار البعث
__________
(1) قتل: هو جواب من الشرطية في أول النص .
(2) الفواكه الدواني 2/227 = بتصرف يسير .
(3) روضة الطالبين 10/66، وانظر قليوبي وعميرة 4/175 .
(4) الإعلام ص 358 .
(5) المغني 10/100، 101 = باختصار .
(6) غاية المنتهى 3/335 .
(7) كشاف القناع 6/8 .(1/241)
1- الإيمان باليوم الآخر – كما هو معلوم – أحد أركان الإيمان الستة، وقد حفل القرآن الكريم بذكر هذا اليوم العظيم، واهتم بتقريره في مواضع عديدة، وأكد وقوعه بأساليب كثيرة، وربط الإيمان به بالإيمان بالله عز وجل، كما جاء في قوله تعالى:- {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة، آية 232]، وأكثر القرآن من ذكر اليوم الآخر، وسماه بأسماء متعددة تدل على تحقق وقوع هذا اليوم كالحاقة، والواقعة، والقيامة …
ومعنى الإيمان باليوم الآخر هو التصديق الجازم بإتيانه والعمل بموجب ذلك، ويدخل في ذلك الإيمان بأشراط الساعة وأماراتها، وبالموت وما بعده من فتنة القبر وعذابه ونعيمه، وبالنفخ في الصور، وخروج الخلائق من القبور، وتفاصيل المحشر، ونشر الصحف، ونصب الموازين، وبالصراط، والحوض، والشفاعة، والجنة والنار.
يقول الإمام الطحاوي(1) في عقيدته المشهورة:- " ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين، ونؤمن بعذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وبسؤال منكر ونكير للميت في قبره عن ربه، ودينه، ونبيه على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة والعرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب، والصراط والميزان، والجنة والنار مخلوقتان لا يفنيان أبداً ولا يبيدان.(2) "
وقد ذكر السعدي جملة من ثمرات الإيمان باليوم الآخر. فكان مما قاله:-
صـ220
__________
(1) أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الحنفي، المحدث الفقيه، رحل إلى الشام، وتولى القضاء، له مصنفات، توفي بمصر سنة 321 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 15/27، وشذرات الذهب 2/288 .
(2) عقيدة الطحاوي (ضمن رسائل المجموعة العملية من درر علماء السلف )، ص 25، 26 وانظر العقيدة الواسطية (بشرح محمد خليل هراس) ص 132 – 143 .(1/242)
" إن معرفة ذلك (اليوم) حقيقة المعرفة، يفتح للإنسان باب الخوف والرجاء، اللذين إن خلا القلب منهما، خرب كل الخراب، وإن عمر بهما، أوجب له الخوف والانكفاف عن المعاصي، والرجاء تيسير الطاعة وتسهيلها، ولا يتم ذلك إلا بمعرفة تفاصيل الأمور التي يخاف منها وتحذر، كأحوال القبر وشدته، وأحوال المواقف الهائلة، وصفات النار المفظعة، وبمعرفة تفاصيل الجنة وما فيها من النعيم المقيم، والحبرة والسرور، ونعيم القلب والروح والبدن، فيحدث بسبب ذلك الاشتياق الداعي للاجتهاد في السعي للمحبوب المطلوب، بكل ما يقدر عليه.
ومنها: أن يعرف بذلك، فضل الله وعدله في المجازاة على الأعمال الصالحة والسيئة، والموجب لكمال حمده، والثناء عليه بما هو أهله.
وعلى قدر علم العبد بتفاصيل الثواب والعقاب، يعرف بذلك فضل الله وعدله وحكمته.(1)"
ويقول أيضاً:- إن الإيمان بالبعث والجزاء أصل صلاح القلب، وأصل الرغبة في الخير، والرهبة من الشر اللذين هما أساس الخيرات.(2) "
ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالبعث والنشور، وهو إحياء الله تعالى الخلق بعد موتهم، وقد دل على البعث الكتاب والسنة، والعقل والفطرة، فنؤمن يقيناً بأن الله تعالى يبعث من في القبور، وتعاد الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين. قال تعالى:- {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ {15} ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون، آية 15، 16].
وقد أجمع المسلمون على ثبوته، وهو مقتضى الحكمة حيث تقتضي أن يجعل الله تعالى لهذه الخليقة معاداً يجزيهم فيه على ما كلفهم به على ألسنة رسله.
قال عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون آية 115].
__________
(1) تفسير السعدي 1/29 .
(2) المرجع السابق 1/360 .(1/243)
ويقول تبارك وتعالى:- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
صـ221
لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج، آية 5].
يقول ابن القيم عن هذه الآية:- " يقول سبحانه:- إن كنتم في ريب من البعث، فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون، ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت، والبعث الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى، فهما نظيران في الإمكان والوقوع، فإعادتكم بعد الموت خلقاً جديداً كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها، فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها؟
وقد أعاد سبحانه هذا المعنى وأبداه في كتابه وبأوجز العبارات، وأدلها، وأفصحها، وأقطعها للعذر، وألزمها للحجة، كقوله تعالى:- {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ {58}أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ {59}نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ {60} عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ {61}وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة، آية 58-62]، فدلهم بالنشأة الأولى على الثانية، وأنهم لو تذكروا لعلموا أن لا فرق بينهما في تعلق القدرة بكل واحد منها.(1)"
__________
(1) أعلام الموقعين 1/140، 141 .(1/244)
ويقول السفاريني:- " أعلم أن المعاد الجسماني حق واقع وصدق صادق، دل عليه النقل الصحيح فوجب الإيمان به والتصديق بموجبه؛ لأنه جاء في السماع الصحيح المنقول ودل عليه عند الجمهور صريح المعقول، وهو أن يبعث الله تعالى الموتى من القبور… قال تعالى:- {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس، آية 79]، إلى غير ذلك من النصوص القرآنية القطعية، والأحاديث الساطعة النبوية، وقد أنكره الطبائعيون والدهرية والملحدة، وفيه تكذيب للنقل الصريح والعقل الصحيح على ما قرره المحققون من أهل الملة، وأنكرت الفلاسفة المعاد الجسماني بناء على امتناع إعادة المعدوم بعينه – إلى أن قال –فالمراد بالبعث المعاد الجسماني، فإنه المتبادر عند الإطلاق إذا هو الذي يجب اعتقاده، ويكفر منكره …(1)
صـ222
2-ولا شك أن إنكار البعث مناقض للإيمان، مهما تنوعت صوره وأمثلته، فقد يكون إنكار لبعث الأرواح والأجساد، وقد يكون إنكار لمعاد الأجساد مع الاعتراف بمعاد الأرواح، وتارة يكون إنكار البعث بالقول بتناسخ الأرواح، ونقلها إلى أجسام أخرى، وتارة أخرى يكون هذا الإنكار بإنكار معاد النفوس الجاهلة دون العالمة. ومن صور هذا الإنكار ما زعمه بعضهم أن البعث عبارة عن خلق أبدان جديدة مغايرة تماماً للأبدان الفانية (2).
وسنورد الآن بعضاً من أوجه كون إنكار البعث ناقضاً من نواقض الإيمان على النحو التالي: -
__________
(1) لوامع الأنوار 2/157 = باختصار، وانظر الفتاوى السعدية ص 39، 40 .
(2) انظر توضيحاً لهذه الأمثلة:- الشفا للقاضي عياض 2/1067، الدرة لابن حزم ص 206 الرد على المنطقيين لابن تيمية ص 458، والفتاوى لابن تيمية 9/35،36، 4/283 , 314 الفوائد لابن القيم ص 5، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 2/35 .(1/245)
(أ) أخبر الله عز وجل أن إنكار البعث كفر برب العالمين، فقال تعالى:- {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} [الرعد، آية 2-5].
وقال المؤمن للكافر الذي قال: - {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف، آية 36]. فقال له: - {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف، آية 37](1)
وقال تعالى:- {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا {97} ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء، آية 97 , 98].
وقال سبحانه:- {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة، آية 10].
وقال تعالى:- {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ {38} لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ
صـ223
الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ {39}إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل، آية 38-40].
فإنكار البعث يناقض الإيمان، وينافي تصديق القلب وإقرار اللسان.
__________
(1) انظر إعلام الموقعين لابن القيم 1/147.(1/246)
(ب) تضمن إنكار البعث تعطيلاً لأسماء الله وصفاته ومقتضاها، وإنكاراً لعلم الله تعالى وقدرته وحكمته.
قال الله تعالى:- {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ {115} فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون، آية 115، 116].
يقول ابن القيم عن هذه الآيات:- " " فجعل كمال ملكه، وكونه سبحانه الحق، وكونه لا إله إلا هو، وكونه رب العرش المستلزم لربوبيته لكل ما دونه، مبطلاً لذلك الظن الباطل، والحكم الكاذب.
- إلى أن قال – فإن ملكه الحق يستلزم أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وكذلك يستلزم إرسال رسله، وإنزال كتبه، وبعث المعاد ليوم يجزى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فمن أنكر ذلك فقد أنكر حقيقة ملكه، ولم يثبت له الملك الحق، ولذلك كان منكراً لذلك كافراً بربه، وإن زعم أنه يقر بصانع العالم، فلم يؤمن بالملك الحق الموصوف بصفات الجلال، والمستحق لنعوت الكمال.(1)
ويقول في موضع آخر:- " وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه، وكمال قدرته، وكمال حكمته، فإن شبه المنكرين له كلها تعود إلى ثلاثة أنواع:-
أحدهما:- إختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميز ولا يحصل معها تميز شخص عن شخص.
الثاني:- أن القدرة لا تتعلق بذلك.
الثالث:- أن ذلك أمر لا فائدة فيه، أو إنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئاً بعد شيء، هكذا أبداً كلما مات جيل، خلفه جيل آخر، فأما أن يميت النوع الإنساني كله، ثم يحييه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك، فجاءت براهين المعاد في القرآن مبنية على ثلاثة أصول:-
أحدهما:- تقرير كمال علم الرب سبحانه، كما قال في جواب من قال:- {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ {78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ
صـ224
__________
(1) التبيان في أقسام القرآن ص 101 .(1/247)
عَلِيمٌ} [يس، آية 78, 79]، وقال:- {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق، آية4].
الثاني:- تقرير كمال قدرته، لقوله:- {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس، آية وقوله: - {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة، آية4]، وقوله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج، آية 6]
الثالث:- كمال حكمته، كقوله:- {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان، آية 38]، وقوله: - {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص، آية 27] وقوله:- {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون، آية 115].
ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه، وأنه منزه عما يقوله منكروه، كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنقائص.(1) "
إضافة إلى ذلك فإنكار البعث سوء ظن بالله عز وجل، كما قال ابن القيم:-
" ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صدقه، وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظن به ظن السوء.(2)
وسوء الظن بالله تعالى ذنب عظيم، وعقابه شديد، حتى قال ابن القيم أيضاً:- " ولم يجيء في القرآن وعيد أعظم من وعيد من ظن به ظن السوء.
__________
(1) الفوائد ص 6، 7 .
(2) زاد المعاد 3/230 .(1/248)
قال تعالى:- {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [الفتح، آية 6.. الخ (1) "
صـ225
(ج) أن إنكار البعث تكذيب ظاهر لآيات القرآن الصريحة في إثبات البعث، كما أن هذا الإنكار رد للأخبار الصحيحة في وقوع البعث، وتكذيب لما اتفقت عليه دعوة الرسل عليهم السلام. ونزلت به الكتب السماوية، وقد قال تعالى:-
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء، آية 56].
وقال عز وجل: - {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف، آية 40.
وقال سبحانه: - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج، آية 57]
يقول ابن أبي العز الحنفي:- " الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة، والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على منكريه في غالب سور القرآن.(2) "
وجاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً أن الله تعالى يقول: - " يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني وما ينبغي له، أما شتمه فقوله إن لي ولداً، وأما تكذيبه فقوله لن يعيدني كما بدأني.(3) "
__________
(1) الصواعق المرسلة 4/1356 .
(2) شرح العقيدة الطحاوية 2/589 .
(3) تقدم تخريجه ص 101 .(1/249)
وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه عز وجل على وقوع المعاد ووجوده في ثلاثة مواضع:-
الأول: في سورة يونس في قوله تعالى:- {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [آية 53].
الثاني: في سورة سبأ في قوله تعالى:- {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [آية 3]
الثالث: في سورة التغابن في قوله تعالى:- {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [آية 7].(1).
صـ226
وقد أقسم الله تعالى في مواضع كثيرة على وقوع البعث، كقوله تعالى: - {اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [النساء، آية 86].
وذم سبحانه المكذبين بالمعاد، فقال سبحانه:- {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [يونس، آية 45].
وتوعدهم بالعذاب والضلال البعيد، فقال تبارك وتعالى:- {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ، آية 8].
وقد تنوعت الأدلة، وتعددت البراهين في إثبات المعاد، وصحة وقوعه كما جاء مفصلاً في موضعه.(2)
(د) انعقد الإجماع على إثبات البعث، كما أجمع علماء هذه الأمة على تكفير منكري البعث، وقد حكى هذا الإجماع غير واحد من أهل العلم نذكرهم فيما يلي:-
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير 4/375 , 3/504
(2) انظر مثلاً شرح العقيدة الطحاوية 2/589 – 600، والقواعد الحسان للسعدي ص 24، 25، والقيامة الكبرى للأشقر ص 73 – 91، ومنهج القرآن في الدعوى للإيمان لعلي فقيهي ص 285 – 340 .(1/250)
يقول ابن حزم:- " وأما من زعم أن الأرواح تنتقل إلى أجساد أخر فهو قول أصحاب التناسخ، وهو كفر عند جميع أهل الإسلام.(1) "
ويقول أيضاً:- " واتفقوا أن البعث حق، وأن الناس كلهم يبعثون في وقت تنقطع فيه سكناهم في الدنيا …(2)
ويقول في كتاب ثالث:- " وأن البعث حق والحساب حق … يجمع الله تعالى يوم القيامة بين الأرواح والأجساد، كل هذا إجماع من جميع أهل الإسلام، من خرج عنه خرج عن الإسلام.(3)
ثم يقول أيضاً: - " فمن قال إن الأرواح أعراض فانية، أو قال إنها تنتقل إلى أجسام أخر، فهو منسلخ من إجماع أهل الإسلام، لخلافة القرآن، والسنن الثابتة
صـ227
عن النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع، وهو قول أهل التناسخ، وهو كفر بلا خلاف، وكذلك من أنكر إحياء العظام والأجساد يوم القيامة، وأنكر البعث فخارج عن دين الإسلام بلا خلاف من أحد من الأئمة.(4) "
ويقول في " الفصل ": - " اتفق جميع أهل القبلة على تنابذ فرقهم على القول بالبعث في القيامة، وعلى تكفير من أنكر ذلك.(5) "
ويقول ابن عبد البر:- " وقد أجمع المسلمون على أن من أنكر البعث، فلا إيمان له ولا شهادة، وفي ذلك ما ينبغي ويكفي، مع ما في القرآن من تأكيد الإقرار بالبعث بعد الموت، فلا وجه للإنكار في ذلك.(6) "
ويقول القاضي عياض:- " وكذلك نقطع على كفر من قال بتناسخ الأرواح وانتقالها أبد الآباد في الأشخاص، وتعذيبها أو تنعيمها فيها، بحسب ذكائها وخبثها. وكذلك من أنكر البعث أو الحساب … فهو كافر بإجماع للنص عليه، وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً.(7) "
__________
(1) المحلى 1/31 .
(2) مراتب الإجماع ص 175 .
(3) الدرة فيما يجب اعتقاده ص 206 .
(4) المرجع السابق ص 211 – 215 = باختصار يسير .
(5) 4/137 .
(6) التمهيد 9/116 .
(7) الشفا 2/1067، 1077 = باختصار .(1/251)
ويقول ابن تيمية:- " وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون لا بمعاد الأرواح، ولا الأجساد، وقد تبين الله تعالى في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الأرواح والأجساد، ورد على الكافرين والمنكرين لشيء من ذلك بياناً في غاية التمام والكمال.
وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة، فإنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون هذه أمثال ضربت لنفعهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلف من قول المجوس والصابئة … وهؤلاء كفار يجب قتلهم بإتفاق أهل الإيمان فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك بياناً شافياً قاطعاً للعذر …(1) "
صـ228
ويقول يحيى بن حمزة العلوي (2):- اعلم أنه لا خلاف بين أهل القبلة وغيرهم – إلا شيئاً يحكى عن بعض الفلاسفة … - في صحة المعاد.(3) "
ويقول الإيجي(4):- " أجمع أهل الملل عن آخرهم على جواز حشر الأجساد ووقوعه، وأنكرهما الفلاسفة.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 4/313 = باختصار، وانظر 4/282، 283 .
(2) يحي بن حمزة العلوي، من أئمة الزيدية، عاش في صنعاء، اتقن علوماً كثيرة، له جهود في الرد على المخالفين، وألف كتباً كثيرة، توفي بذمار سنة 745 هـ
انظر: البدر الطالع 2/331، ومعجم المؤلفين 13/195 .
(3) الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام ص 123 .
(4) هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الإيجي الشافعي، عضد الدين، عالم مشارك في علوم كثيرة، له مؤلفات في علم الكلام والأصول، نشأ في شيراز، توفي مسجوناً سنة 756 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 10/46، البدر الطالع 1/326 .
(5) المواقف في علم الكلام ص 372 .(1/252)
ويقول الشوكاني:- " الحاصل أن هذا [أي المعاد] أمر اتفقت عليه الشرائع، ونطقت به كتب الله عز وجل سابقها ولاحقها، وتطابقت عليه الرسل أولهم وآخرهم، ولم يخالف فيه أحد منهم، وهكذا اتفق على ذلك أتباع جميع الأنبياء من أهل الملل، ولم يسمع عن أحد منهم أنه، أنكر ذلك قط، ولكنه ظهر رجل من اليهود زنديق، يقال له موسى بن ميمون اليهودي الأندلسي، فوقع منه كلام في إنكار المعاد، واختلف كلامه في ذلك، فتارة يثبته، وتارة ينفيه، ثم هذا الزنديق لم ينكر مطلق المعاد، إنما أنكر بعد تسليمه للمعاد أن يكون فيه لذات حسية جسمانية، بل لذات عقلية روحانية، ثم تلقى عنه من هو شبيه به من أهل الإسلام كابن سينا فقلده، ونقل عنه ما يفيد أنه لم يأت في الشرائع السابقة على الشريعة الإسلامية إثبات المعاد، وتقليداً لذلك اليهودي الملعون الزنديق، مع أن اليهود قد أنكروا عليه هذه المقالة ولعنوه وسموه كافراً …(1)
3- وإذا تقرر ما سبق ذكره فإننا نشير لطرف من أقوال العلماء في حكم منكر
صـ229
البعث، فهذا ابن نجيم يقرر كفر من أنكر البعث (2)، وكذلك البدر الرشيد (3)
وقال الدردير المالكي:- " ويكفر إذا قال بتناسخ الأرواح، أي إن من قال بأن من يموت تنتقل روحه إلى مثله، أو لأعلى منه إن كانت في مطيع، أو لأدنى منه، أو مثله إن كانت في عاصي فهو كافر؛ لأن فيه إنكار البعث.(4) "
وأورد الدسوقي (5)
__________
(1) إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات ص 32 .
(2) انظر البحر الرايق 5/132 .
(3) انظر رسالته في ألفاظ الكفر ص 53 .
(4) الشرح الصغير 6/147، 148 = بتصرف يسير .
(5) هو محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، عالم مشارك في الفقه والكلام والنحو، عاش في مصر، ودرس بالأزهر، له مؤلفات، توفي سنة 1230 هـ .
انظر: معجم المؤلفين 8/292 .(1/253)
نفس هذا الكلام في حاشيته (1)، وكذا عليش في شرحه (2).
ويقول الغزالي:- " فيجب تكفير من يغير الظاهر بغير برهان قاطع كالذي ينكر حشر الأجساد، وينكر العقوبات الحسية في الآخرة بظنون وأوهام، واستبعادات من غير برهان قاطع، فيجب تكفيره قطعياً، إذ لا برهان على استحالة رد الأرواح إلى الأجساد، وذكر ذلك عظيم الضرر في الدين، فيجب تكفير كل من تعلق به …(3) "
ويذكر الشربيني إنكار البعث ضمن أنواع الردة (4)، وكذا ذكر ذلك قليوبي (5)، وابن حجر الهيتمي(6) "
ويقول البهوتي:- " وإذا جحد البعث كفر، لتكذيبه للكتاب والسنة وإجماع الأمة.(7) "
صـ230
المطلب الثاني
إنكار الوعد أو الوعيد أو الاستهزاء به
الوعد في أصل لغة العرب يستعمل في الخير والشر، ويعدى بنفسه وبالباء، يقال وعدته خيراً. ووعدته شراً، فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير الوعد والعدة، وفي الشر الإيعاد والوعيد، مع العلم أن الوعيد لا يكون إلا بالشر (8).
وقد حوى القرآن الكريم على وعد ووعيد، فالوعد يكون بالمغفرة والرضوان، والتكريم ودخول الجنان ونحو ذلك من أنواع الثواب، والوعيد يكون إما بلعنة أو غضب أو دخول نار … وغير ذلك من أنواع العقاب.
قال الله تعالى:- {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة، آية 68].
وقال سبحانه: - {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التوبة، آية 72].
__________
(1) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/269 .
(2) انظر: شرح منح الجليل 4/464 .
(3) فيصل التفرقة ص 142 .
(4) انظر مغنى المحتاج 4/135 .
(5) 10) انظر قليوبي وعميرة 4/175 .
(6) 11) انظر الإعلام ص 374 .
(7) 12) كشاف القناع 6/136 .
(8) انظر المفردات للأصفهاني ص 826، ولسان العرب 30/463، ومعجم مقاييس اللغة 6/125، والمصباح المنير ص 830، 831، ومختار الصحاح ص 728 .(1/254)
وقال تبارك وتعالى:- {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [التوبة، آية 111].
وقال سبحانه: - {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق، آية 45].
ومما أنعم الله تعالى به على عباده، أنه سبحانه قد أخبر أن من وعده على عمل صالح فهو منجز له، فلا يخلف الله وعده تكرماً وتفضلاً، قال الله تعالى:- {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم، آية 6].
وقال سبحانه وتعالى:- {وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف، آية 16].
وأما الوعيد في حق عصاة المؤمنين فهو تحت مشيئة الله تعالى، فقد يقع هذا الوعيد جزاء وعدلاً، وقد يختلف هذا الوعيد في حق بعض العصاة لانتفاء شرط أو وجود مانع …
صـ231
كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:- " " من وعده الله على عمل ثواباً، فهو منجز له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار.(1) "
وقد جاء عمرو بن عبيد المعتزلي(2) إلى أبي عمرو بن العلاء(3)
__________
(1) أخرجه أبو يعلى في مسنده (2/838)، وابن أبي عاصم في السنة (960)، وقوام السنة الأصفهاني في الحجة (2/71) وحسنه الألباني في " الصحيحة " (2463) .
(2) أبو عثمان عمرو بن عبيد البصري، أحد رؤوس المعتزلة، دعا إلى نفي القدر ، وكان زاهداً عابداً، له مؤلفات، مات سنة 144هـ .
انظر: تاريخ بغداد 12/162، سير أعلام النبلاء 6/104 .
(3) أبو عمر بن العلاء التميمي البصري، المقرئ المشهور، أتقن النحو، وتصدر للتدريس، ونصر السنة، توفي سنة 154 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 6/407، وتهذيب التهذيب 12/178 .(1/255)
فقال: يا أبا عمرو. ويخلف الله ما وعده؟ قال: لا، قال: أفرأيت من أوعده الله على عمل عقاباً، أيخلف الله وعده فيه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء: من العجمة أتيت يا أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تعد عاراً ولا خلفاً أن تعد شراً، ثم لا تفعله، ترى ذلك كرماً وفضلاً، وإنما الخلف أن تعد خيراً ثم لا تفعله. قال: فأوجدني هذا في كلام العرب؟ قال: نعم، أما سمعت إلى قول الأول(1):
وإني وإن أوعدته أو وعدته ………لمخلف إيعادي ومنجز موعدي(2)
وقال يحي بن معاذ:-
" الوعد والوعيد حق، فالوعد حق العباد على الله، ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا، ومن أولى بالوفاء من الله، والوعيد حقه على العباد، قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم، ففعلوا، فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ لأنه حقه، وأولاهما بربنا تبارك وتعالى العفو والكرم إنه غفور رحيم.(3)"
صـ232
وعندما نتحدث عن الواجب تجاه نصوص الوعد والوعيد، فهو الإيمان بجميع تلك النصوص، والتسليم لها، وإجلالها وتعظيمها، فنؤمن بالله تعالى، وما جاء عن الله، على مراد الله تعالى، ونؤمن برسول الله، وما جاء عن الرسول، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن تيمية:-
" لا ريب أن الكتاب والسنة فيهما وعد ووعيد، وقد قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء آية، 10].
__________
(1) البيت لعامر بن الطفيل .
انظر: لسان العرب 3/364 .
(2) انظر الحجة في بيان المحجة لإسماعيل الأصفهاني 2/73، 74 .
(3) المرجع السابق 2/74 .(1/256)
وقال تعالى:- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا {29}وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} [النساء، آية 29، 30] ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، والعبد عليه أن يصدق بهذا وهذا …(1) "
ويقول أيضاً:- ينبغي للمسلم أن يقدر كلام الله ورسوله، فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب، ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه.(2) "
وقد التزم سلف الأمة بهذا التسليم والتعظيم لنصوص الوعد والوعيد، " فهذا رجل يقول للزهري (3): يا أبا بكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس منا من لطم الخدود، وليس منا من لم يوقر كبيرنا " (4) وما أشبه هذا الحديث؟
صـ233
فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 8/270 .
(2) الإيمان ص 33، 34 = باختصار .
(3) هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبد الله القرشي الزهري المدني، الإمام الحافظ ، نزل الشام ودرس العلم، وألف في المغازي، توفي سنة 124 هـ .
انظر: البداية والنهاية 9/340، وسير أعلام النبلاء 5/326 .
(4) سيأتي تخريج هذين الحديثين ص 493 .
(5) السنة للخلال 3/579 .(1/257)
ولما ذكر عبد الله بن المبارك حديث:- " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن(1) فقال فيه قائل ما هذا؟ على معنى الإنكار، فغضب ابن المبارك وقال: - يمنعنا هؤلاء الأنان – أي كثيروا التشكي والكلام – أن نحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا ونلزم الجهل أنفسنا.(2) "
يقول إسماعيل الأصبهاني:- أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله، وفي مسائل القدر، والرؤية، وأصل الإيمان والشفاعة، والحوض، وإخراج الموحدين المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار، وفي الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد …(3)"
2- ومما يتضمنه الإيمان بالوعد والوعيد: الإيمان بالجنة والنار، وهو التصديق بوجودهما، وأنهما مخلوقتان موجودتان، لا تفنيان ولا تبيدان، وقد تواترت الأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة في ذكرهما، وأوصافهما، وأحوالهما … كما أجمع علماء الإسلام على ذلك وحكى الإجماع عدد كبير منهم، فنذكر طرفاً من أقوالهم فيما يلي:-
يقول أبو حنيفة النعمان:- " والجنة والنار مخلوقتان اليوم، لا تفنيان أبداً، ولا تموت الحور العين أبداً، ولا يفنى عقاب الله تعالى وثوابه سرمداً.(4) "
ويقول أبو الحسن الأشعري (5):- " والجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا
صـ234
ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.(6) "
__________
(1) سيأتي تخريج هذا الحديث .
(2) تعظيم قدر الصلاة للمروزي 1/504 , 505 .
(3) الحجة في بيان المحجة 2/217 .
(4) الفقه الأكبر ص 6 .
(5) أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري البصري، إمام متكلم، كان آية في الذكاء، كان معتزلياً ثم تاب، له عدة مؤلفات، توفي سنة 330 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 15/85، وشذرات الذهب 2/303 .
(6) الإبانة ص 21 .(1/258)
ويقول ابن أبي حاتم الرازي (1):- " والجنة حق، والنار حق، وهما مخلوقتان لا يفنيان أبداً، فالجنة ثواب لأوليائه، والنار عقاب لأهل معصيته إلا من رحم "(2) "
يقول ابن أبي زيد القيرواني:- " وأن الله سبحانه قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه، وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم..وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به، وألحد في آياته وكتبه ورسله، وجعلهم محجوبين عن رؤيته.(3) "
ويقول ابن بطة:- " ثم الإيمان بأن الله عز وجل خلق الجنة والنار قبل خلق الخلق، ونعيم الجنة لا يزول، دائم أبداً في النضرة والنعيم، والأزواج من الحور العين، ولا يمتن ولا ينقصن ولا يهرمن، ولا ينقطع ثمارها ونعيمها، كما قال عز وجل:- {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [الرعد، آية 35]، وأما عذاب النار فدائم أبداً، وأهلها فيها مخلدون خالدون من خرج من الدنيا غير معتقد للتوحيد ولا متمسك بالسنة.(4) "
ويقول ابن حزم:- " وأن كل ما في القرآن من خبر عن نبي، أو عن المعاد، أو عن أمة من الأمم، أو عن المسخ فعلى ظاهره، لا رمز في شيء من ذلك، ولا باطن ولا سر، وكذلك كل ما فيه من أمور الجنة من أكل وشرب، وجماع، والحور العين، والولدان المخلدين، ولباس، وعذاب في النار بالزقوم، والحميم، والأغلال. وغير ذلك، فكله حق. (5)
صـ235
__________
(1) هو عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، علامة، حافظ، فقيه، له ردود على المبتدعة، ومؤلفات جمة، وكان صاحب عبادة، وتوفي سنة 327 هـ .
انظر:- طبقات الحنابلة 2/55، وسير أعلام النبلاء 13/263 .
(2) أصل السنة واعتقاد الدين (ضمن روائع التراث) ص 21 .
(3) مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني ص 7 .
(4) الإبانة الصغرى ص 206 – 209 .
(5) الدرة فيما يجب اعتقاده ص 221 .(1/259)
ويقول ابن تيمية:- " الأكل والشراب في الجنة ثابت بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وكذلك الطيور والقصور في الجنة بلا ريب، كما وصف ذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبصقون، لم يخالف من المؤمنين بالله ورسوله أحد، وإنما المخالف في ذلك أحد رجلين: إما كافر، وإما منافق.(1) "
ويقول ابن القيم – في تقرير وجود الجنة الآن -: " لم يزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وتابعوهم وأهل السنة والحديث قاطبة وفقهاء الإسلام وأهل التصوف والزهد على اعتقاد ذلك وإثباته، مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة، وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، فإنهم دعوا الأمم إليها، وأخبروا بها.(2) "
3- وإذا تقرر وجوب الإيمان بالوعد والوعيد، ومنه الإيمان بالجنة والنار … فإن ما يناقض هذا الإيمان له عدة صور وأمثلة، فمنها:- إنكار الوعد والوعيد – ومنه إنكار الجنة والنار -، والقول بأن الوعد والوعيد تخييل للحقائق لكي ينتفع به الجمهور … كما يقول به ملاحدة الفلاسفة. ومن صور هذا الإنكار والاستهزاء، ما يدعيه ملاحدة المتصوفة أن الجنة أو النار معان باطنة يقصد بها نعيم الأرواح أو تألمها فقط … أو ما يزعمه بعضهم أن أهل النار يتنعمون في النار، كما يتنعم أهل الجنة في الجنة …، ومن صور هذا الكفر: السخرية بالوعد والوعيد والاستهزاء بهما … إلى غير ذلك من الأمثلة.(3) "
فمن أمثلة هذه النواقض: إنكار الوعد والوعيد والاستهزاء بهما، ووجه كونه ناقضاً عدة أمور منها ما يلي:-
__________
(1) مجموع الفتاوى 4/313 .
(2) حادي الأرواح ص 17 .
(3) انظر لتفصيل ذلك:- الشفا لعياض 2/1068، فتاوى ابن تيمية 4/314، 13/279، 14/161، 16/242 ، والدرء 1/8, 9،104، 5/4، 241،10/270، الصفدية 1/245 .(1/260)
(أ) أن الإيمان بنصوص الوعد والوعيد يتضمن الإقرار بها وتصديقها، وإجلالها وإكرامها، وهذا الإنكار يناقض هذا الإيمان، فإنكار الجنة والنار – مثلاً –
صـ236
يناقض تصديق القلب، كما يناقض قول اللسان، والاستهزاء بنصوص الوعد الوعيد – ومنها نصوص الجنة والنار – يناقض هذا الإجلال والتعظيم؛ لأنه يناقض عمل القلب الذي يوجب توقير وتعظيم نصوص الوعد والوعيد.
(ب) إن هذا الإنكار أو الاستهزاء بنصوص الوعد والوعيد تكذيب للقرآن الكريم، حيث فرض الله تعالى الإقرار بآياته، وتصديقها، وعدم اتخاذها هزواً، وأيضاً فإن الله تعالى قد حكم بالكفر على من جحد آياته، كما توعده بالعذاب المهين، وأخبر تعالى بأنه لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة …
قال تعالى:- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام، آية 157].
وقال سبحانه:- {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف، آية 40].
وقال تعالى:- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}[الحج، آية 57].
وقال عز وجل:- {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية، آية 9]
وقد سمى الله تعالى الاستهزاء بآياته كفراً فقال:- {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة 65 , 66].(1/261)
(ج) أن إنكار نصوص الوعد والوعيد وصرفها عن ظاهرها، أو الاستهزاء بها يتضمن طعناً في الأنبياء عليهم السلام، وتنقصاً لهم، وأنهم ربما كذبوا لمصلحة الجمهور كما يزعم ملاحدة الفلاسفة، مع أن الأنبياء عليهم السلام صادقون مصدقون، قد بلغوا البلاغ المبين، وأقاموا الحجة على الناس، فهم أفضل الخلق عند الله تعالى، وأكمل الخلق علماً وعملاً، حيث اختصهم الله تعالى بوحيه واصطفاهم من بين سائر الناس.
وإن الطعن في الأنبياء كفر ورده عن الإسلام – كما سبق بيانه (1) - بل إن الطعن
صـ237
فيهم ينبوع جميع أنواع الكفر، وجماع الضلالات – كما قرره ابن تيمية (2)-.
يقول ابن تيمية عن هؤلاء الفلاسفة – في هذا الشأن -:-
" فأهل التخييل هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف ومتفقه، فإنهم يقولون إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع بها الجمهور، لا أنه بين به الحق، ولا هدى به الخلق، ولا أوضح به الحقائق.
ثم هم على قسمين، منهم من يقول: إن الرسول لم يعلم الحقائق على ما هي عليه، ويقولون إن من الفلاسفة من علمها، وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم الأولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة والأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين، وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية: باطنية الشيعة وباطنية الصوفية، ومنهم من يقول بل الرسول علمها، لكن لم يبينها، وإنما تكلم بما يناقضها، وأراد من الخلق فهم ما يناقضها؛ لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق.
__________
(1) انظر في هذا الباب:- المطلب الثاني من المبحث الأول في الفصل الثاني .
(2) انظر في هذا الباب:- المطلب الثاني من المبحث الأول في الفصل الثاني .(1/262)
ويقول هؤلاء يجب على الرسول أن يخبر بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون، مع أن ذلك باطل؛ لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريقة التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد …(1) "
كما يذكر ابن تيمية أن في هذا الإنكار " نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول …(2) "
إضافة إلى ذلك، فإن هذا الإنكار أو الاستهزاء بنصوص الوعد والوعيد، هو تعطيل للشرائع وإبطال للأوامر والنواهي، وتلاعب بالنصوص الشرعية، وتشكيك فيها.
صـ238
(د) أن هذا الإنكار أو الاستهزاء مخالف للإجماع، وتكذيب له، فقد أجمعوا على إثبات الوعد والوعيد والتصديق به – كما سبق ذكره (3) -، وأجمعوا أيضاً على تكفير منكره أو المستهزئ به، كما سنذكره الآن.
يقول ابن عبد البر:- " وأما الإقرار بالجنة والنار فواجب مجتمع عليه، ألا ترى أن ذلك مما يكتب في صدور الوصايا مع الشهادة بالتوحيد، وبالنبي صلى الله عليه وسلم.(4)
ويقول القاضي عياض – " وكذلك من دان بالوحدانية وصحة النبوة، ونبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به، ادعى في ذلك مصلحة بزعمه أو لم يدعها فهو كافر بإجماع، كالمتفلسفين وبعض الباطنية، وغلاة المتصوفة، وأصحاب الإباحة، فإن هؤلاء زعموا أن ظواهر الشرع وأكثر ما جاءت به الرسل من الإخبار عما كان ويكون من أمور الآخرة والحشر والقيامة، والجنة والنار، وليس منها شيء على مقتضى التصريح لقصور أفهامهم، فمضمن مقالاتهم إبطال الشرائع، وتعطيل الأوامر والنواهي، وتكذيب الرسل والارتياب فيما أتوا به.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 5/31 , 32 = باختصار، انظر مجموع الفتاوى 12/337، 352، 17/356، 19/158 والصفدية 1/237 .
(2) مجموع الفتاوى 5/241 .
(3) انظر مقدمة هذا المبحث .
(4) التمهيد 12/190 , 191 .
(5) الشفا 2/1068 .(1/263)
ويقول أيضاً:- وكذلك من أنكر الجنة، أو النار، أو البعث، أو الحساب، أو القيامة فهو كافر بإجماع للنص عليه، وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً، وكذلك من اعترف بذلك، ولكنه قال: إن المراد بالجنة، والنار، والحشر، والنشر، والثواب، والعقاب معنى غير ظاهره وإنها لذات روحيه، ومعان باطنه.(1)
ويقول ابن حزم:- " وأن البعث حق، والحساب حق، والجنة حق، والنار حق، داران مخلوقتان مخلدتان، هما ومن فيهما بلا نهاية، يجمع الله تعالى يوم القيامة بين الأرواح والأجساد، كل هذا إجماع أهل الإسلام، من خرج عنه خرج عن الإسلام.(2)
صـ239
ويقول أيضاً:- " وأن كل ما في القرآن من أمور الجنة من أكل وشرب وجماع، والحور العين، والولدان المخلدين، ولباس وعذاب في النار بالزقوم والحميم، والأغلال وغير ذلك فكله حق … فمن خالف شيئاً من هذا فقد خرج عن الإسلام، لخلافه القرآن والسنن والإجماع (3) "
ويحكي ابن حزم الإجماع قائلاً:- " وأن الجنة حق، وأنها دار نعيم أبداً لا تفنى، ولا يفنى أهلها بلا نهاية، وأنها أعدت للمسلمين والنبيين المتقدمين، وأتباعهم على حقيقة، كما أتوا به قبل أن ينسخ الله أديانهم بدين الإسلام.
وأن النار حق، وأنها دار عذاب أبداً لا تفنى ولا يفنى أهلها أبداً بلا نهاية وأنها أعدت لكل كافر مخالف لدين الإسلام …(4) "
ويقول البقاعي (5)
__________
(1) المرجع السابق 2/1077 .
(2) الدرة ص 207 .
(3) المرجع السابق ص 221 = بتصرف يسير .
(4) مراتب الإجماع ص 173،وانظر ص 176 .
(5) هو إبراهيم بن عمرو بن حسن البقاعي الشافعي، نزيل القاهرة، ثم دمشق، عالم،أديب، مفسر، مؤرخ، له مؤلفات كثيرة، توفي بدمشق سنة 885 هـ .
انظر:- شذرات الذهب 7/339، ومعجم المؤلفين 1/71 .(1/264)
:- " اعلم أنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية وإجماع المسلمين أن قول الله حق، وخبره صدق، ذلك واجب له لذاته سبحانه وتعالى، ومن أنكر أن خبر الله حق، أو أن وعده ووعيده صدق فهو كافر بإجماع المسلمين.(1) "
ومما قاله الشوكاني في هذه المسألة:- " علماء الملة الإسلامية مجمعون على ذلك [يعني على إثبات المعاد الجسماني، وإثبات اللذات الجسمانية والنفسانية في الجنة …]، لا يخالف منهم فيه مخالف، ونصوص القرآن من فاتحته إلى خاتمته مصرحة بإثبات المعاد الجسماني، وإثبات تنعم الأجسام فيه بالمطعم والمشرب والمنكح وغير ذلك، أو تعذيبها بما اشتمل عليه القرآن من تلك الأنواع المذكورة فيه، وهكذا النصوص النبوية المحمدية مصرحة بذلك تصريحاً يفهمه كل
صـ240
عاقل، بحيث لو جمع ما ورد في ذلك منها لجاء مؤلفاً بسيطاً.(2) "
4- والآن نسوق جملة من أقوال أهل العلم في تكفير منكر الوعد أو الوعيد، أو المستهزئ بهما … فذكر ابن نجيم كفر من أنكر الجنة أو النار أو الحساب، كما يكفر من أنكر الوعد والوعيد. (3)
وجاء في الفتاوى البزازية:- " أو أنكر وعداً أو وعيداً يكفر، إذا كان الجزاء ثابتاً بالقطع. (4)
ويقول محمد بن إسماعيل الرشيد:- " وأعلم أن من أنكر القيامة، أو الجنة، أو النار، أو الصراط، أو الحساب، أو الصحائف المكتوبة فيها أعمال العباد كفر …(5) "
__________
(1) تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي ص 159 .
(2) إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع ص 19، مع العلم أن للشوكاني كتاباً مستقلاً بعنوان " المقالة الفاخرة في بيان اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة " وهو غير مطبوع. انظر الشوكاني مفسراً لمحمد الغماري ص 95 .
(3) انظر البحر الرايق 5/129، 132 .
(4) 3/323 .
(5) تهذيب ألفاظ الكفر ص 53، وانظر شرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 297 .(1/265)
وكفّر أبو حامد الغزالي من زعم أن الجنة لذة روحية، وأن النار شقاء نفسي …ثم قال: " والذي نختاره ونقطع به أنه لا يجوز التوقف في تكفير من يعتقد شيئاً من ذلك؛ لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع، والجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها، فوصف الجنة والنار لم يتفق ذكره مرة واحدة أو مرتين، ولا جرى بطريق كناية أو توسع وتجوز، بل بألفاظ صريحة لا يتمارى فيها ولا يستراب. (1) "
وقال الشربيني:- " ويكفر إن أنكر الجنة، أو النار، أو الحساب، أو الثواب، أو العقاب، أو أقر بها، لكن قال المراد بها غير معانيها.(2) "
ويقول ابن تيمية:- " وقد يقول حذاق هؤلاء من الإسماعيلية والقرامطة،
صـ241
وقوم يتصوفون، أو يتكلمون وهم غالية المرجئة: إن الوعيد الذي جاءت به الكتب الإلهية إنما هو تخويف للناس لتنزجر عما نهيت عنه من غير أن يكون له حقيقة … وهؤلاء هم الكفار برسل الله وكتبه واليوم الآخر، المنكرون لأمره، ونهيه، ووعده ووعيده.(3) "
وذكر البهوتي أن ما مما يوجب الردة: السخرية بالوعد، أو الوعيد.(4)
صـ242
الفصل الرابع
إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة
1- ابتداءً نعرف بعنوان الفصل: - " إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة " فالإنكار بمعنى الجحود، وعدم الاعتراف وانتفاء الإقرار، والمقصود بحكم معلوم من الدين بالضرورة (5)
__________
(1) فضائح الباطنية ص 153 .
(2) مغنى المحتاج 4/136 وانظر قليوبي وعميرة 4/175، والإعلام لابن حجر الهيتمي ص 357 , 374 .
(3) مجموع الفتاوى 19/150 .
(4) انظر كشاف القناع 6/170 .
(5) المراد بالضرورة هنا ما لا يقع فيه شك أو شبه، مما هو معلوم ظاهر عند الجميع .
انظر: الإنصاف للباقلاني ص 14، جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/37، أصول الدين لعبد القاهر البغدادي ص 8، الحدود في الأصول للباجي ص 25، التعريفات للجرجاني ص 138، إكفار الملحدين لمحمد الكشميري ص 2، 3 .(1/266)
:- ما كان ظاهراً متواتراً من أحكام الدين معلوماً عند الخاص والعام، مما أجمع عليه العلماء إجماعاً قطعياً مثل وجوب أحد مباني الإسلام كالصلاة والزكاة ونحوهما، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة مثل الربا والخمر وغيرهما (1)
ومن المعلوم أن الإيمان قائم على تصديق حكم الله تعالى، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أهم هذه الأحكام وآكدها:- الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة … ولذا يقول ابن تيمية:- " إن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق.(2) "
ويقول – في موضع آخر -: " الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وليس لأحد أن يخرج عن شيء
صـ243
مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام الناس به، ويجب على المجاهدين الجهاد عليه، ويجب على كل واحد اتباعه ونصره. (3) "
وهكذا الحكم المعلوم من الدين بالضرورة، والذي يعتبر منكره كافراً، له قيود يمكن معرفتها وتحديدها من خلال ما سنورده من كلام أهل العلم فيما يلي:-
__________
(1) ما يجدر التنبيه عليه أن إنكار حكم معلوم من الدين له أمثلة كثيرة – منها ما قد سبق إيراده في الفصول الماضية – سواء كانت أمثلة علمية أو عملية … منها توحيد الله تعالى وتنزيهه عن النقص والولد والشريك في تدبير الكون أو العبادة، وإثبات البعث، وختم النبوة بحمد صلى الله عليه وسلم …ونحو ذلك .
انظر: فتاوى محمد رشيد رضا 6/2539، وتعليقه على مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/517، وإكفار الملحدين لمحمد الكشميري ص 2، 3.
(2) مجموع الفتاوى 12/497، وانظر: الاستقامة 2/186، 194 .
(3) مجموع الفتاوى 35/372 .(1/267)
فهذا الشافعي يبين أن من الأحكام ما هو معلوم عند العامة فضلاً عن الخاصة فلا يسعهم جهله فيقول: - " العلم:- علم عامة لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله، مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا، مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عما حرم عليهم منه.
وهذا الصنف كله من العلم موجود نصاً في كتاب الله، وموجوداً(1) عاماً عند أهل الإسلام، ينقله عوامهم عن من مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم.
وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، لا يجوز فيه التنازع.(2)"
ويقول – في موضع آخر -: " أما ما كان نص كتاب بيّن، أو سنة مجتمع عليها فالعذر مقطوع، ولا يسع الشك في واحد منهما، ومن امتنع من قبوله استتيب.(3) "
ويقرر النووي أن هذه الأحكام ثابتة بالإجماع المعلوم عند العامة فيقول:-
" فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد
صـ244
بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم …
__________
(1) موجوداً: جاءت منصوبة على أنها مفعول لفعل محذوف، تقديره: تجده، أو تراه .
انظر: تعليق أحمد شاكر في الرسالة ص 358 .
(2) الرسالة ص 357 – 359 = بتصرف يسير .
(3) المرجع السابق ص 460 وانظر ص 478 .(1/268)
فأما ما كان الإجماع فيه معلوماً عن طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمداً لا يرث، وأن للجدة السدس وما أشبه ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر، بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة.(1) "
ويقول – في كتاب آخر -: " أطلق الإمام الرافعي القول بتكفير جاحد المجمع عليه، وليس هو على إطلاقه، بل من جحد مجمعاً عليه فيه نص، وهو من أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام كالصلاة، أو الزكاة، أو الحج، أو تحريم الخمر أو الزنا ونحو ذلك فهو كافر، ومن جحد مجمعاً عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب وتحريم نكاح المعتدة، وكما إذا أجمع أهل عصر على حكم حادثة فليس بكافر …(2) "
ويؤكد ابن دقيق العيد (3) على ما قرره النووي، وأن الإجماع الذي يكفر منكره، إنما يكفر لتعلقه بمخالفة النص الظاهر المتواتر، فيقول:-
" فالمسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر عن صاحب الشرع كوجوب الصلاة مثلاً، وتارة لا يصحبها التواتر، فالقسم الأول يكفر جاحده لمخالفته التواتر، لا لمخالفته الإجماع، والقسم الثاني لا يكفر به.(4) "
كما أننا نجد القرافي قد جعل منكر الإجماع كافراً، لكن بشرط أن يكون المجمع عليه مشتهراً في الدين فقال:- " ولا يعتقد أن جاحداً ما أجمع عليه يكفر على الإطلاق، بل لابد أن يكون المجمع عليه مشتهراً في الدين حتى صار ضرورياً،
صـ245
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 1/205 .
(2) روضة الطالبين 2/146، وانظر 10/65، وانظر المجموع 3/16 .
(3) هو محمد بن علي بن وهب الشافعي المالكي، أبو الفتح، تقي الدين، محدث، فقيه، أصولي، ولد سنة 625 هـ، وله عدة مؤلفات، توفي بالقاهرة سنة 702 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 9/207، والدرر الكامنة 4/210 .
(4) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 4/84 .(1/269)
فكم من المسائل المجمع عليها إجماعاً لا يعلمه إلا خواص الفقهاء، فجحد مثل هذه المسائل التي يخفى الإجماع فيها ليس كفراً …(1) "
ولابن تيمية كلام قريب مما سبق إيراده عندما قال:- " وقد تنازع الناس في مخالف الإجماع: هل يكفر؟ على قولين. والتحقيق: أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه، لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به، وأما العلم بثبوت الإجماع في مسألة لا نص فيها فهذا لا يقع، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره.(2) "
وهكذا نلحظ في عبارة ابن تيمية أنه ينفي ثبوت إجماع معلوم في مسألة لا نص فيها … ولذا يقول في موضع آخر:- " فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها،إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به.(3) "
ويقيد العراقي – موافقة لمن مضى ذكرهم – كفر منكر الإجماع بقوله:- " والصحيح في تكفير منكر الإجماع تقييده بإنكار ما علم وجوبه من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس، ومنهم من عبر بإنكار ما علم وجوبه بالتواتر.(4) "
ويوضح ابن الوزير المقصود بالإجماع الذي يعتبر مخالفه كافراً فيقول:- اعلم أن الإجماعات نوعان: أحدهما صحته بالضرورة من الدين بحيث يكفر مخالفة، فهذا إجماع صحيح ولكنه مستغنى عنه بالعلم الضروري من الدين، وثانيها ما نزل عن هذه المرتبة، ولا يكون إلا ظناً، لأنه ليس بعد التواتر إلا الظن، وليس بينهما في النقل مرتبة قطعية بالإجماع(5) "
__________
(1) الفروق 4/117، وانظر الاعتصام للشاطبي 2/797 .
(2) مجموع الفتاوى 19/269، 270، وانظر مجموع الفتاوى 7/38، 39، وانظر إيثار الحق لابن الوزير ص 427 .
(3) المرجع السابق 19/195 وانظر 19/200 – 202، وللشافعي في الرسالة كلام بهذا المعنى ص 471 .
(4) فتح الباري 12/202 .
(5) إيثار الحق على الخلق ص 168، وانظر العواصم والقواصم لابن الوزير 4/171، 174، 178 .(1/270)
2- وإذا اتضح مفهوم إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة، فإننا نشير إلى أن هذا الإنكار له عدة صور وأمثلة، فربما كان إنكاراً صريحاً ظاهراً كأن يقول – مثلاً – بإنكار وجوب الصلاة أو الزكاة … أو يقول بحل الربا، أو الخمر … أو يقول بتحريم ما كان حلالاً بالإجماع كالخبز والماء ونحوهما …، وقد يكون الإنكار عن طريق تأويل فاسد غير سائغ تأباه اللغة العربية، كتأويل الباطنية القائلين أن الفرائض أسماء رجال أمروا بولايتهم والمحرمات أسماء رجال أمروا بالبراءة منهم، فقد أجمع العلماء على كفر أصحاب تلك المقالة (1) وكذلك ما يزعمه ملاحدة الصوفية أن من وصل إلى درجة اليقين فقد سقطت عنه التكاليف.(2)
ومما يلحق بهذا الإنكار – في الحكم بالكفر – أن يعترف شخص ما بهذا الحكم المعلوم من الدين بالضرورة … لكنه يعلن عدم قبوله لهذا الحكم، ويأبى أن يذعن لله تعالى، ويرفض الانقياد لهذا الحكم عناداً واستكباراً، وقد فصل ابن تيمية هذه المسألة تفصيلاً شافياً فقال:-
__________
(1) انظر الشفا لعياض 2/73 .
(2) انظر المرجع السابق، وممجوع فتاوي ابن تيمية 5/82، 10/434، 435 , 149 – 237 والعبودية لابن تيمية ص 65، وأضواء البيان للشنقيطي 3/207 .(1/271)
" إن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه، واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه، فهذا ليس بكافر، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه، أو أنه حرمه، لكن امتنع من قبول هذا التحريم، وأبى أن يذعن لله وينقاد فهو إما جاحد أو معاند، ولهذا قالوا: من عصى الله مستكبراً كإبليس كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفره الخوارج، فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقاً بأن الله ربه، فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق. وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاً فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل، والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهو يكون لخلل في الإيمان بالربوبية، ولخلل في الإيمان بالرسالة، ويكون جحداً محضاً غير مبني على مقدمة، وتارة يعلم أن الله حرمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم، فهذا أشد كفراً ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن
صـ247
من يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء، إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً لغرض النفس، وحقيقته كفر هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به، ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك، ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول أنا لا أقر بذلك، ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق وأنفر عنه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع …(1)
__________
(1) الصارم المسلول ص 521، 522، وانظر مجموع الفتاوى 20/96 .(1/272)
وبهذا يعلم أن مما يعد كفراً ويلحق بإنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة، أن لا يقبل حكم الله تعالى، مع علمه بأنه حكم الله تعالى واعترافه به، فهو يأبى ويمتنع من قبول هذا الحكم، ولذا قال إسحاق بن راهويه:- " وقد أجمع العلماء أن من دفع شيئاً أنزله الله … وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر.(1) " فمناط الكفر – هاهنا – هو الترك والرد والإباء، لا عدم التصديق، ولهذا قرن الله تعالى في كتابه كفر التولي بكفر التكذيب؛ لأنه غيره كما قال سبحانه:- {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة، آية 31 , 32]. وقال تعالى:- {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى {15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل، آية 15 , 16].(2)
3-والآن نورد بعض الاعتبارات التي جعلت إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة كفراً وناقضاً من نواقض الإيمان:-
(أ) إن هذا الإنكار افتراء على الله سبحانه، ولا أحد أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً ممن أفترى على الله تعالى كذباً،كما قال سبحانه:- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام،آية 21]
ويقول عز وجل:- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس، آية 17].
صـ248
__________
(1) التمهيد 4/226 = بتصرف يسير، وانظر فتاوى محمد رشيد رضا 5/1752 .
(2) سيأتي الحديث مفصلاً إن شاء الله عن كفر الإعراض في الباب الثاني .(1/273)
وقال عز وجل: - {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ {59} وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} [يونس، آية 59، 60].
ويقول سبحانه:- {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ {116} مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل، آية 115 – 117]
يقول ابن كثير في تفسير تلك الآيات الأخيرة:- " ثم نهى الله تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك مما كان شرعاً لهم ابتدعوه في جاهليتهم، فقال:- {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئاً مما حرم الله، أو حرم شيئاً مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه … ثم توعد على ذلك فقال:- {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} أي في الدنيا ولا في الآخرة(1)، وأما في الدنيا فمتاع قليل وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم …(2) "
__________
(1) وكما قال الشنقيطي:- " الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر " أضواء البيان 4/242 .
(2) تفسير ابن كثير 2/570 .(1/274)
كما أن إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة اعتراض على شرع الله تعالى، ومشابهة للمشركين القائلين إنما البيع مثل الربا، ولذا يقول ابن تيمية:- " معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها هو من فعل المكذبين للرسل، بل هو جماع كل كفر كما قال الشهرستاني في أول كتابه المعروف بـ (الملل والنحل) ما معناه:- أصل كل شر هو من معارضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع (1)، وهو كما قال …(2) "
صـ249
إضافة إلى ذلك فهذا الإنكار طعن في ربوبية الله تعالى وأسمائه وصفاته، فتصديق أحكام الله تعالى والإقرار بها من مقتضيات إثبات الربوبية لله تعالى وحده، فحقيقة الرضا بالله تعالى رباً يتضمن الإقرار بأمره تعالى الشرعي والكوني، كما قال سبحانه {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف، آية 54].
وهذا الإنكار مناقض لأصل الرضا بربوبية الله عز وجل.
كما أنه طعن في أسماء الله تعالى وصفاته، فهذا الإنكار يناقض إثبات كمال العلم لله تعالى، وينافي كما حكمته عز وجل، ولذا قال ابن تيمية – كما سبق إيراده – " وتارة يعلم أن الله حرمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم فهذا أشد كفراً ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن لم يلتزم التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمه الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته …(3)"
__________
(1) انظر الملل والنحل 1/16 .
(2) درء تعارض العقل والنقل 5/204 .
(3) الصارم المسلول ص 522(1/275)
ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى:- {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة، آية 275]: - " وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا، ويحتمل أن يكون من تمام الكلام رداً عليهم، أي على ما قالوه من الاعتراض مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكماً، وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها، وما ينفع عباده فيبيحه لهم، وما يضرهم فينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل.(1) "
(ب) أن الإيمان يتضمن الإقرار والتصديق، وهذا الإنكار تكذيب وجحود، فهو يناقض الإيمان ولا يجامعه، فإن إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة تكذيب لآيات كتاب الله عز وجل، وقد أمر الله تعالى بتصديق آياته، والإقرار بها، كما حكم الله تعالى بالكفر على من جحد آياته وأنكرها، وتوعدهم بالعذاب المهين (2)، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة.
صـ250
فقال تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف، آية 40].
وقال سبحانه: - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج،آية 57].
وقال تعالى:- {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ} [العنكبوت،آية 47].
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/309 .
(2) قال ابن تيمية:- " ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكافر " الصارم المسلول ص 52، وانظر العواصم لابن الوزير 9/299، 304 .(1/276)
وقال تبارك وتعالى:- {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ {27} ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت، آية 27 , 28]
(ج) إن هذا الإنكار تكذيب ظاهر للأحاديث الصريحة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو طعن في مقام الرسالة، وكما قال ابن تيمية:- والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، تارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية ولخلل في الإيمان بالرسالة …(1) "
وقد قرر العلماء أن من رد حديثاً صحيحاً، أو كذبه فهو كافر.
حتى قال إسحاق بن راهويه " من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته، ثم رده بغير تقية فهو كافر.(2) "
ويقول ابن بطة:- " لو أن رجلاً آمن بجميع ما جاءت به الرسل إلا شيئاً واحداً كان برد ذلك الشيء كافراً عند جميع العلماء.(3) "
وقال ابن الوزير:- " إن التكذيب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم أنه حديثه كفر صريح.(4) "
فإذا كان هؤلاء العلماء الأجلاء قد كفروا من كذب بحديث واحد، فكيف بحال منكر الأحاديث المتواترة؟
صـ251
ويدل على ما سبق حديث البراء بن عازب (5) رضي الله عنه حيث قال:- مر بي عمي الحارث بن عمرو(6)
__________
(1) الصارم المسلول 521 .
(2) الإحكام لابن حزم 1/89 .
(3) الإبانة ص 211 .
(4) العواصم والقواصم 2/374 .
(5) البراء بن عازب الأوسي الأنصاري،صحابي جليل، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، مات بالكوفة سنة 72 هـ
انظر: البداية والنهاية 8/328، والإصابة 1/278 .
(6) هو الحارث بن عمرو الأنصاري، عم البراء بن عازب، ويقال خاله .
انظر: الإصابة: 1/588، تهذيب التهذيب 1/151 .(1/277)
ومعه لواء قد عقده له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فسألته، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب عنق رجل تزوج امرأة أبيه.(1)
فمن المعلوم قطعاً تحريم نكاح زوجات الآباء إجماعاً، ولذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل من تزوج امرأة أبيه؛ لأنه مرتد عن الإسلام، قال تعالى:- {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً} [النساء، آية 22].
يقول ابن كثير – عن هذا النكاح -: - " فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه، فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال.(2)
ويقول ابن جرير في شرح حديث البراء:- " وكان الذي عرس بزوجة أبيه متخطياً بفعله حرمتين، وجامعاً بين كبيرتين من معاصي الله، إحداهما: عقد نكاح على من حرم الله عقد النكاح عليه بنص تنزيله بقوله:- {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء، آية 22]. والثانية:- إتيانه فرجاً محرماً عليه إتيانه، وأعظم من ذلك تقدمه على ذلك بمشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلانه عقد النكاح على من حرم الله عليه عقده عليه بنص كتابه الذي لا شبهة في تحريمها عليه وهو حاضره، فكان فعله ذلك من أدل الدليل على تكذيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما آتاه به عن الله تعالى ذكره، وجحوده آية محكمة في
صـ252
__________
(1) أخرجه أحمد 4/292، وأبو داود ح (4456)، والنسائي (6/90)، وابن ماجه 2/869، وحسنه ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود 6/226، وصححه الألباني في إرواء الغليل 8/18،
وانظر: مجمع الزوائد 6/269 .
(2) تفسير ابن كثير 1/444، وانظر فتاوى ابن تيمية 20/91، 92 .(1/278)
تنزيله … فكان بذلك من فعله حكم القتل وضرب العنق، فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله وضرب عنقه؛ لأن ذلك كان سنته في المرتد عن الإسلام (1) "
وقال الشوكاني: - " والحديث فيه دليل على أنه يجوز للإمام أن يأمر بقتل من خالف قطعياً من قطعيات الشريعة كهذه المسألة، فإن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء، آية 22]، ولكنه لا بد من حمل الحديث على أن ذلك الرجل الذي أمر صلى الله عليه وسلم بقتله عالم بالتحريم وفعله مستحلاً، وذلك من موجبات الكفر.(2) "
4- أجمع العلماء على تكفير من أنكر حكماً معلوماً من الدين بالضرورة، وقد حكى هذا الإجماع عدد كثير من أهل العلم، نذكر منهم ما يلي:-
يقول ابن عبد البر:- " وقد أجمعوا على أن مستحل خمر العنب المسكر كافر رادٌ على الله عز وجل خبره في كتابه، مرتد يستتاب فإن تاب، ورجع عن قوله، وإلا استبيح دمه كسائر الكفار. (3) "
ويقول أيضاً: - " قال إسحاق بن راهوية: - قد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله.(4)
صـ253
__________
(1) تهذيب الآثار 2/148، وانظر تحفة الأحوذي للمباركفوري 4/598 .
(2) نيل الأوطار 8/322 / وقد وردت أحاديث أخرى لا تخلو من مقال منها حديث صهيب مرفوعاً: " ما آمن بالقرآن من استحل محارمه " أخرجه الترمذي وقال هذا حديث ليس إسناده قوي ح (2918) / وانظر ضعيف الجامع الصغير رقم (4977) وحديث عائشة مرفوعاً:- " ستة لعنتهم، وكل نبي مجاب – وذكر منهم – المستحل محارم الله " أخرجه الترمذي، ح (2154) م والحاكم 1/36 وانظر السنة لابن أبي عاصم (تخريج الألباني) 1/24 رقم (44)، ومجمع الزوائد 1/176 وضعيف الجامع الصغير رقم (3248).
(3) التمهيد 1/142، 143 .
(4) المرجع السابق 4 / 226 .(1/279)
ويقول القاضي عياض: - " وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل، أو شرب الخمر، أو الزنا مما حرم الله – بعد علمه بتحريمه، كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة الصوفية.
وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسول، ووقع الإجماع المتصل عليه، كمن أنكر وجوب الخمس الصلوات … وكذلك أجمع المسلمون على تكفير من قال من الخوارج إن الصلاة طرفي النهار.(1) "
ويقول ابن حزم:- " واتفقوا أن من آمن بالله تعالى، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبكل ما آتى به عليه السلام، مما نقل عنه نقل الكافة، وشك في التوحيد، أو في النبوة، أو في محمد صلى الله عليه وسلم، أو في حرف مما أتى به عليه السلام، أو في الشريعة أتى بها عليه السلام، مما نقل عنه نقل كافة، فإن من جحد شيئاً مما ذكرناه، أو شك في شيء منه، ومات على ذلك، فإنه كافر مشرك مخلد في النار أبداً.(2) "
ويقول أيضاً:- " ولا خلاف بين اثنين من الأمة كلها أن من كفر بالصلاة، أو بالزكاة، أو بالحج، أو بالعمرة، أو بشيء مما أجمع المسلمون عليه على أن الله تعالى بينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ونص عليه من أعمال الشريعة فإنه كافر، حابط العمل.(3) "
ويورد أبو يعلى هذا الإجماع بقوله:- " ومن اعتقد تحليل ما حرم الله بالنص الصريح من الله، أو من رسوله، أو أجمع المسلمون على تحريمه فهو كافر، كمن أباح شرب الخمر، ومنع الصلاة والصيام والزكاة، وكذلك من اعتقد تحريم شيء حلله الله وأباحه بالنص الصريح، أو أباحه رسوله، أو المسلمون مع العلم بذلك فهو كافر كمن حرم النكاح والبيع والشراء على الوجه الذي أباحه الله عز وجل، والوجه فيه أن في ذلك تكذيباً لله تعالى، ولرسوله في خبره، وتكذيباً للمسلمين
صـ254
__________
(1) الشفا 2/1073 .
(2) مراتب الإجماع ص 177 .
(3) الدرة فيما يجب اعتقاده ص 337 .(1/280)
في خبرهم، ومن فعل ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين.(1) "
ويحكي ابن قدامة الإجماع في هذه المسألة فيقول:- " ومن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة كلحم الخنزير، والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر … وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك.(2) "
ويورد ابن تيمية إجماع الصحابة والأئمة من بعدهم على هذه المسألة فيقول:-
" اتفق الصحابة على أن من استحل الخمر قتلوه … وهذا الذي اتفق عليه الصحابة، وهو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة كالفواحش، والظلم، والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز واللحم والنكاح، فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.(3)"
ويقول أيضاً: - " والإنسان متى حلل الحرام – المجمع عليه – أو حرم الحلال – المجمع عليه – أو بدل الشرع – المجمع عليه – كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء.(4) "
وذكر ابن الوزير:- " إجماع الأمة على تكفير من خالف الدين المعلوم بالضرورة والحكم بردته.(5) "
__________
(1) المعتمد في أصول الدين ص 271، 272 .
(2) المغني 8/131 .
(3) مجموع الفتاوى 11/404، 405 = باختصار .
(4) المرجع السابق 3/267، 268 .
(5) إيثار الحق على الخلق ص 116، وانظر نفس الكتاب ص 121، 138 .(1/281)
ويقول:- واعلم أن أصل الكفر هو التكذيب المتعمد لشيء من كتب الله تعالى المعلومة، أو لأحد من رسله عليهم السلام، أو لشيء مما جاؤا به، إذا كان ذلك الأمر المكذب به معلوماً بالضرورة من الدين، ولا خلاف أن هذا القدر كفر، ومن صدر عنه فهو كافر إذا كان مكلفاً مختاراً غير مختل العقل، ولا مكره، وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع، وتستر باسم
صـ255
التأويل فيما لا يمكن تأويله كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد …(1) "
ويقول ملا علي قاري:- " لا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، فإنه يستتاب فإن تاب منها، وإلا قتل كافراً مرتداً.(2)
4- ونختم هذا المبحث بإيراد طرف من أقوال العلماء في هذه المسألة:
يقول الإمام أحمد:- " ولا يخرج الرجل من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم أو برد فريضة من فرائض الله عز وجل جاحداً بها.(3) "
ويقول البربهاري (4):- " ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل، أو يرد شيئاً من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم.. فإذا فعل شيئاً من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام.(5) "
ويقول أبو حامد الغزالى: -واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلاً، إلا في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصلاً دينياً علم من الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر.(6) "
__________
(1) المرجع السابق ص 415 .
(2) شرح الفقه الأكبر ص 242 .
(3) طبقات الحنابلة 1/344 .
(4) أبو محمد الحسن بن علي البربهاري، من أئمة الحنابلة، كان قوالاً بالحق، داعية إلى الأثر، لا يخاف في الله لومة لائم، له مصنفات، توفي سنة 329 هـ .
انظر: طبقات الحنابلة 2/18، وسير أعلام النبلاء 15/90 .
(5) شرح السنة للبربهاري ص 31 .
(6) فيصل التفرقة ص 144 .(1/282)
ويقول ابن حزم:- " فمن أحل ما حرم الله تعالى وهو عالم بأن الله تعالى حرمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه، وكل من حرم ما أحل الله تعالى فقد أحل ما حرم الله عز وجل؛ لأن الله تعالى حرم على الناس أن يحرموا ما أحل الله.(1)
صـ256
ويقول ابن نجيم الحنفي:- " والأصل أن من اعتقد الحرام حلالاً، فإن كان حراماً لغيره كمال الغير لا يكفر، وإن كان لعينه فإن كان دليله قطعياً كفر، وإلا فلا، وقيل التفصيل في العالم، أما الجاهل فلا يفرق بين الحلال والحرام لعينه ولغيره، وإنما الفرق في حقه إنما كان قطعياً كفر به، وإلا فلا، فيكفر إذا قال الخمر ليس بحرام، وقيده بعضهم بما إذا كان يعلم حرمتها، لا بقوله الخمر حرام، ولكن ليست هذه التي تزعمون أنها حرام، ويكفر من قال إن حرمة الخمر لم تثبت بالقرآن، ومن زعم أن الصغائر والكبائر حلال، وباستحلاله الجماع للحائض.(2) "
وجاء في الفتاوى البزازية:- " من اعتقد الحلال حراماً، أو على العكس يكفر.(3) "
وقد ساق محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي ألفاظاً كثيرة من كتب الأحناف تتضمن هذه الإنكار، فمن ذلك قوله:- " وفي الظهيرية:- ومن قيل له: كل من الحلال، فقال: الحرام أحب إلي كفر، أو قال يجوز لي الحرام كفر.
وفي الجواهر:- من قال ليت الخمر أو الزنا، أو الظلم، أو قتل الناس كان حلالاً كفر، ومن أنكر حرمة الحرام المجمع على حرمته، أو شك فيهما كالخمر والزنا واللواطة والربا، أو زعم أن الصغائر والكبائر حلال كفر.
وفي اليتيمية:- من قال بعد استيقانه بحرمة شيء أو بحرمة أمر، هذا حلال كفر، ومن أجاز بيع الخمر كفر.(4) "
__________
(1) الفصل 3/245 .
(2) البحر الرايق 5/132، وانظر: - شرح الفقه الأكبر ص 226، والمسامرة شرح المسايرة ص 307 .
(3) 3/321 .
(4) تهذيب رسالة البدر الرشيد ص 45، 46 = باختصار .(1/283)
وذكر الدردير أنه يكفر إذا " أنكر مجمعاً عليه كوجوب الصلاة أو تحريم الزنا، أو حل مجمع على عدم إباحته، مما علم من الدين ضرورة بكتاب الله تعالى، أو سنة متواترة، فلا يكفر بإنكار إعطاء السدس لبنت الابن مع البنت وإن كان مجمعاً عليه لعدم علمه بالضرورة، ولا بإنكار خلافة علي رضي الله عنه ونحوه، أو وجود بغداد؛ لأنه ليس من الدين، ولا يتضمن تكذيب قرآن.(1) " وقيد النووي
صـ257
الكلام السابق – كما مضى ذكره مفصلاً(2) - فذكر أن من جحد مجمعاً عليه معلوم من دين الإسلام ضرورة فهو يكفر إن كان فيه نص (3).
وذكر الشربيني أن من حلل محرماً بالإجماع كفر، كمن استحل الزنا واللواط والظلم وشرب الخمر، ومن هذا لو اعتقد حقية المكس، مع حرمة تسميته حقاً. ويكفر – كما قرر الشربيني – فيما لو حرم حلالاً بالإجماع كالبيع والنكاح، أو نفى وجوب مجمع عليه كوجوب ركعة من الصلوات الخمس، كما يكفر إذا اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع كزيادة ركعة من الصلاة المفروضة، أو وجوب صوم يوم من شوال (4).
ثم قال الشربيني: - " لو قال أو نفى مشروعية مجمع عليه، لشمل إنكار المجمع على ندبه، فقد صرح البغوي في تعليقه بتكفير من أنكر مجمعاً على مشروعيته من السنن كالرواتب وصلاة العيدين، وهو لأجل تكذيب التواتر …(5) "
وقال عميرة (6)
__________
(1) الشرح الصغير 6/148، 149، وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/303، وبلغة السالك للصاوي 2/418، والخرسي على مختصر خليل 7/65 .
(2) روضة الطالبين 10/64 = بتصرف يسير .
(3) انظر: مطلع هذا الفصل .
(4) انظر: روضة الطالبين 10/65 .
(5) مغني المحتاج 4/136، وانظر نهاية المحتاج للرملي 7/415،416 .
(6) شهاب الدين أحمد البرلسي المصري الشافعي، فقيه، أصولي، اشتغل بالتدريس، والفتيا توفي عام 957 هـ .
…انظر: شذرات الذهب 8/316، ومعجم المؤلفين 8/13.(1/284)
: - " ويكفر إذا حلل محرماً بالإجماع لحديث معاوية بن قرة عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم بعث أباه إلى رجل عرس بامرأة أبيه فضرب عنقه، واصطفى ماله (1)، وحمل هذا على أنه استحل ذلك، ويكفر إذا نفى وجوب مجمع عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: - " والتارك لدينه المفارق للجماعة "(2)، (3) "
صـ258
وقال قليوبي (4): - " ويكفر إذا حلل محرماً بإجماع الأئمة الأربعة – وكذا العكس -، ولابد من كونه معلوماً بالضرورة فخرج إنكار أن لبنت الابن السدس مع بنت الصلب، فلا يكفر به ولو من عالم به خلافاً لبعضهم..(5) "
ويقول ابن رجب: - " قد يترك الرجل دينه، ويفارق الجماعة، وهو مقر بالشهادتين، ويدعي الإسلام، كما إذا جحد شيئاً من أركان الإسلام … (6) "
وقرر مرعي بن يوسف الكرمي كفر من "جحد وجوب عبادة من الخمس، ومنها الطهارة، أو حكماً ظاهراً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً، بلا تأويل كتحريم زنى أو لحم – لا شحم – خنزير أو حشيشة أو حل خبز ونحوه، أو شك فيه، ومثله لا يجهله، أو يجهله، وعرف وأصر.(7) "
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (2/870) ح (2608)، وقال البوصيري في الزوائد:- (إسناده صحيح)، وأخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار (2/145، 146)، انظر: إرواء الغليل 8/21 .
(2) سيأتي تخريجه ص 468 .
(3) قليوبي وعميرة 4/175 = بتصرف
(4) أحمد نن أحمد بن سلامة القليوبي الشافعي، عالم مشارك في كثير من العلوم، له مؤلفات، توفي سنة 1069 هـ .
انظر: معجم المؤلفين 1/148، الأعلام 1/92 .
(5) 10) قليوبي وعميرة 4/175 = بتصرف يسير .
(6) 11) جامع العلوم والحكم 1/318 .
(7) غاية الممنتهى 3/335 .(1/285)
وقال البهوتي: - " من استحل الحشيشة المسكرة كفر بلا نزاع، وإن جحد وجوب العبادات الخمس المذكورة في حديث " بني الإسلام على خمس " (1) أو جحد شيئاً منها، ومنها الطهارة من الحدثين كفر، أو جحد حل الخبز واللحم والماء، أو أحل الزنا ونحوه كشهادة الزور واللواط، أو أحل ترك الصلاة، أو جحد شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها كلحم الخنزير والخمر وأشباه ذلك، أو شك فيه ومثله لا يجهله كفر؛ لأنه مكذب لله ولرسوله وسائر الأمة. (2) "
ويعلل البهوتي – في كتاب آخر – السبب في كفر منكر حكم معلوم من الدين بالضرورة، فيقول:- " لمعاندته للإسلام، وامتناعه من قبول الأحكام، غير قابل لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة.(3) "
صـ259
وقال إبراهيم اللقاني (4) " في جوهرة التوحيد
" ومن لمعلوم ضرورة جحد ……من ديننا يقتل كفراً ليس حد
ومثل هذا من نفى لمجمع………أو استباح كالزنا فلتسمع(5)
وقال البيجوري (6) شارحاً لهذين البيتين:-
__________
(1) أخرجه البخاري ك الإيمان (1/49)، ح (8)، ومسلم، ك الإيمان (1/45)، ح (19) .
(2) كشاف القناع 6/139، 140، - باختصار وانظر المقنع لابن قدامة 3/516 .
(3) شرح منتهى الإرادات 3/386، 387 .
(4) إبراهيم بن إبراهيم اللقاني المالكي المصري، من علماء الكلام والفقه، له مؤلفات، توفي سنة 1041 هـ .
انظر: معجم المؤلفين 1-2، الأعلام 1/28 .
(5) شرح جوهرة التوحيد ص 199 .
(6) إبراهيم بن محمد البيجوري الشافعي، أحد شيوخ الأزهر، له مؤلفات كثيرة، توفي سنة 1277 هـ .
…انظر: أعيان القرن الثالث عشر لخليل مردم ص 160، ومعجم المؤلفين 1/84.(1/286)
"من جحد أمراً معلوماً من أدلة ديننا يشبه الضرورة، بحيث يعرفه خواص المسلمين وعوامهم، كوجوب الصلاة والصوم وحرمة الزنا والخمر ونحوها، يقتل لأجل كفره؛ لأن جحده لذلك مستلزم لتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، من نفى حكماً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً، وهو ما اتفق المعتبرون على كونه إجماعاً، بخلاف الإجماع السكوتي، فإنه ظني لا قطعي، وظاهر كلام الناظم أن من نفى مجمعاً عليه يكفر، وإن لم يكن معلوماً من الدين بالضرورة، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وهو ضعيف وإن جزم به الناظم، والراجح أنه لا يكفر من نفى المجمع عليه إلا إذا كان معلوماً من الدين بالضرورة.(1) "
وقال الشوكاني: - " قد تقرر في القواعد الإسلامية أن منكر القطعي وجاحده، والعامل على خلافه تمرداً، أو عناداً، أو استحلالاً، أو استخفافاً كافر بالله، وبالشريعة المطهرة التي اختارها الله لعباده. (2)
صـ260
وقال السعدي: - " ومن جحد وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة أو الصيام أو الحج فهو مكذب لله ورسوله، ولكتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين، وهو خارج من الدين بإجماع المسلمين، ومن أنكر حكماً من أحكام الكتاب والسنة ظاهراً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً كمن ينكر حل الخبز والإبل والبقر والغنم ونحوها مما هو ظاهر، أو ينكر تحريم الزنا أو القذف أو شرب الخمر، فضلاً عن الأمور الكفرية والخصال الشركية، فهو كافر مكذب لكتاب الله وسنة نبيه متبع غير سبيل المؤمنين. (3) "
__________
(1) شرح جوهرة التوحيد ص 199 .
(2) الدواء العاجل في دفع العدو الصائل – ضمن الرسائل السلفية – ص 34 .
(3) الإرشاد إلى معرفة الأحكام ص 206، 207 .(1/287)
ويقول محمد بن إبراهيم آل الشيخ:- إن من الأصول المتقررة المتفق عليها بين أهل العلم أن من جحد أصلاً من أصول الدين، أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعياً، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة.(1) "
ويقول محمد سلطان المعصومي (2): - " إن تحريم الحلال وتحليل الحرام القطعي كفر، وكذا الحكم في الحل والحرمة والمنع والجواز جزافاً بلا دليل، فمن حرم ما حلله الشرع أو عكسه فقد كفر، لقول الله تعالى في سورة النحل:- {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل، آية 116] وأخرج الطبراني في الكبير والسيوطي في الصغير عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه قال: - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أطيعوني ما كنتم بين أظهركم، وعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله، وحرموا حرامه.(3) (4) "
__________
(1) تحكيم القوانين ص14، وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة 1/50، 2/17 .
(2) محمد سلطان المعصومي الخجندي، من بلاد ما وراء النهر، ورحل إلى الحجاز طالباً للعلم، ثم سافر إلى الشام، واشتغل بالفتيا في بلاده، له مؤلفات كثيرة توفي سنة 1379 هـ .
انظر ترجمته الذاتية في مقدمة كتابه حبل الشرع المتين ص 19 .
(3) أخرجه أحمد (2/172) وغيره وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/170): " رجاله موثقون "، وصححه الألباني في الصحيحة (1472)، وانظر صحيح الجامع الصغير (1045) .
(4) حبل الشرع المتين ص 108 = باختصار .(1/288)
نواقض الإيمان القولية والعملية
تأليف
د. عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف
صـ261 الباب الثاني
نواقض الإيمان العملية
صـ262
سيكون الحديث في هذا الباب عن الأعمال التي تناقض الإيمان، ولا تجامعه، وقد سبق – في تمهيد هذا البحث – تقرير أن الإيمان قول وعمل، وأن الكفر كذلك، فكما أن الإيمان ليس تصديقاً فحسب، بل هو قول وعمل، قول القلب وعمله، وقول اللسان وعمل الجوارح، فكذلك الكفر ليس هو التكذيب فقط – كما ظن المرجئة -، كما دلت على ذلك النصوص، مثل قوله تعالى:- {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور، آية 47] فحكم الله تعالى عليهم بالكفر ونفى الإيمان، بسبب توليهم وامتناعهم عن الطاعة، وقال سبحانه: - {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة، آية 31، 32] فهذه الآية الكريمة تبين أن التولي غير التكذيب، فإن التكذيب ضده التصديق، وأما التولي فضد الطاعة والامتثال، فالكفر قد يكون اعتقاداً، وقد يكون قولاً باللسان، وقد يكون عملاً ظاهراً كالسجود للصنم وامتهان المصحف ونحوهما، فهذه الأعمال نواقض للإيمان؛ لأنها واقعة فيما يظهر عن طريق الجوارح، مع أن هذه الأعمال الظاهرة مناقضة لما في القلب من الأعمال الإيمانية كالانقياد والمحبة والتعظيم ونحوها.
صـ263
الفصل الأول
نواقض الإيمان العملية في التوحيد
المبحث الأول:: الشرك في العبادة
1- سبق الحديث بإيجاز عن معنى توحيد العبادة وأهميته، كما مر بنا الحديث عن حد الشرك في توحيد العبادة وضابطه، وعرفنا أن الشرك الأكبر هو أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من العبادة لغير الله تعالى.(1)
__________
(1) انظر : المبحث الثاني من الفصل الأول في الباب الأول(2/1)
وهذا المبحث سيكون موضوعه عن الشرك في العبادة العملية كالذبح لغير الله، والنذر لغير الله تعالى … إلخ، وفي مطلع هذا المبحث سنتحدث باختصار عن وجوب إفراد الله تعالى وحده بهذه العبادات لا شريك له، تحقيقاً للتوحيد الذي يتضمن وجوب صرف جميع أنواع العبادة لله وحده، كما قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة، آية 163]، وقال تعالى: - {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل، آية 36]
(أ) فالذبح إن قصد به التوجه والتقرب إلى الله تعالى وحده فهو من العبادات، ويسمى نسكاً؛ لأن النسك هو العبادة والقربة (1)، وقد فرض الله ذلك بقوله تعالى: - {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162}لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام، آية 162، 163]، والنسك – هاهنا – الذبيحة (2)
يقول ابن عطية في تفسير الآيات: - " وقوله {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي} [الآية]، أمر من الله عز وجل أن يعلن بأن مقصده في صلاته وطاعته من ذبيحة وغيرها
صـ264
وتصرفه مدة حياته وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله عز وجل، وإرادة وجهه وطلب رضاه، وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به، حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عز وجل "(3) "
__________
(1) انظر : المفردات للأصفهاني ص 747 ، ومعجم مقاييس اللغة 5/420 ، والمصباح ص 738 ، واللسان 10/498 .
(2) انظر : تفسير ابن كثير 2/189 ، والدر المنثور للسيوطي 3/410 ، ويقول ابن عطية في تفسيره (6/193) : - " ويحسن تخصيص الذبيحة بالذكر في هذه الآية ، أنها نازلة قد تقدم ذكرها والجدل فيها في السورة "
(3) تفسير ابن عطية 3/192 .(2/2)
ويقول ابن كثير في تفسيره: - " يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله، ونسكه على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى:- {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر، آية 2]، أي أخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام، ويذبحون لها فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى. (1) "
ومما قاله محمد رشيد رضا في تفسيره لهذه الآيات: - " هذا بيان إجمالي لتوحيد الإلهية بالعمل، والمراد بالصلاة جنسها الشامل للمفروض والمستحب، والنسك في الأصل العبادة أو غايتها، والناسك العابد، ويكثر استعماله في القرآن والحديث في عبادة الحج وعبادة الذبائح والقرابين فيه، أو مطلقاً.
- إلى أن قال – والعبادات إنما تمتاز على العادات بالتوجه فيها إلى المعبود تقرباً إليه، وتعظيماً له، وطلباً لمثوبته ومرضاته، وكل من يتوجه إليه المصلي أو الذابح بذلك، ويقصد به تعظيمه فهو معبود له، سواء عبر فاعله عن ذلك بقول يدل عليه أم لا. فالعبادة لا تنبغي إلا لله رب العباد وخالقهم … وكون الصلاة والنسك لا يكونان في الدين الحق إلا خالصين لله وحده أمر ظاهر يعد من ضروريات الدين.(2) "
ويقول سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر، آية 2]
يقول ابن تيمية عن هذه الآية الكريمة: - " أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدته وأمره
صـ265
__________
(1) تفسير ابن كثير 2/189 .
(2) تفسير المنار 8/241 , 243 = باختصار .(2/3)
وفضله، وعكس حال الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة في صلاتهم إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر، وتركا لإعانة الفقراء وإعطائهم، وسوء الظن منهم بربهم، ولهذا جمع الله بينهما في قوله تعالى: - {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام، آية 162]، والنسك هي الذبيحة ابتغاء وجهه، وهو أجل العبادات المالية، وما يجتمع للعبد في نحره من إيثار الله، وحسن الظن به، وقوة اليقين، والوثوق بما في يد الله أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فكان كثير الصلاة لربه، كثير النحر، حتى نحر بيده في حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنه، وكان ينحر في الأعياد وغيرها.(1) "
وبهذا يتقرر أن الذبح لله تعالى وحده عبادة من أجل العبادات، وأعظم الطاعات.
(ب) وأما النذر فهو عبادة لا يكون إلا لله وحده لا شريك له (2)؛ حيث إن الله تعالى مدح الموفين به، فقال سبحانه {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان، آية 7].
يقول ابن حجر عن هذه الآية: - " يؤخذ منه أن الوفاء بالنذر قربة للثناء على فاعله، لكن ذلك مخصوص بنذر الطاعة (3) "
ويقو الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في بيان هذه الآية:- " إن المدح مدح الموفين بالنذر، والله تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب، أو ترك محرم، لا يمدح على فعل المباح المجرد، وذلك هو العبادة.(4) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 16/531 ، 532 = باختصار
(2) النذر عبادة باعتبار الوفاء به ، أما النذر ابتداءً فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال " إنه لا يرد شيئاً " أخرجه الجماعة إلا الترمذي .
(3) فتح الباري 11 / 576 .
(4) تيسير العزيز الحميد ص 203 ، وانظر القول السديد للسعدي ص 47 .(2/4)
ويقول عز وجل: - {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة، آية 270].
صـ266
وقال ابن كثير في تفسيهر لهذه الآية:- " يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه، ورجاء موعوده، وتوعد من لا يعمل بطاعته، بل خالف أمره وكذب خبره، وعبد معه غيره، فقال: - " وما للظالمين من أنصار " أي يوم القيامة، ينقذونهم من عذاب الله ونقمته.(1) "
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بنذر الطاعة فقال:- من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " (2)
وذم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ينذرون ولا يوفون فقال عليه الصلاة والسلام:- " خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم – قال عمران بن حصين رضي الله عنه راوي الحديث: - لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثاً بعد قرنه – ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون لا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن.(3)"
قال ابن بطال: - " سوّى بين من يخون أمانته، ومن لا يفي بنذره، والخيانة مذمومة فيكون ترك الوفاء بالنذر مذموماً.(4) "
ومن خلال ما سيق إيراده، ندرك أن النذر عبادة مدح الله الموفين به، فلا يكون إلا لله وحده.
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/305 .
(2) أخرجه البخاري ، ك الأيمان والنذور (11/581) ح (6696) ، وأحمد 6/41 .
(3) أخرجه البخاري ، ك الأيمان والنذور (11/580) ح (6695) وأحمد 4/440 .
(4) فتح الباري 11/580 .(2/5)
(ج) وأما السجود والركوع فلا شك أنهما عبادتان لله وحده، وهذا أمر ظاهر لاخفاء فيه، ففي السجود والركوع أبلغ معاني الخضوع والتذلل والانقياد، مما لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، ولقد أخبر الله تعالى بانقياد هذا الكون كله لله وحده لا شريك له، وسجوده له تعالى، فقال سبحانه: - {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد، آية 5].
وقال تعالى: - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ
صـ267
عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [الحج، آية 18].
وأمر الله تعالى بالسجود والركوع له تعالى وحده في مواضع كثيرة من كتابه، فقال سبحانه: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج، آية 77].
{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة، آية 43].
{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ {37} فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت، آية 37 , 38].
{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم، آية 62].
كما أخبر سبحانه أن التعبد له بالركوع والسجود من أوصاف المؤمنين فقال تبارك وتعالى:-
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة، آية 55](2/6)
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة، آية 112].
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح، آية 29].
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم، آية 58].
يقول ابن تيمية - في هذا المقام -: - " وبالجملة فالقيام والركوع والسجود حق للواحد المعبود خالق السموات والأرض، وما كان حقاً خالصاً لله لم يكن لغيره منه نصيب...
فالعبادة كلها لله وحده لا شريك له، قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة، آية 5].(1)
وأما الطواف فهو عبادة لله وحده لا شريك له، ولا يكون هذا الطواف إلا بالبيت الحرام، والدليل على ذلك قوله تعالى: - {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج، آية 29] وقال سبحانه: -: - {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة، آية 158].
وإجمالاً فكل هذه العبادات العملية وغيرهما ? مما لم نذكره كالتوبة وحلق الرأس تذللاً وخضوعاً ونحوهما ? يجب أن تصرف لله تعالى وحده لا شريك له، تحقيقاً لأصل التوحيد، كما قال تعالى: - {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء، آية 23].
__________
(1) مجموع الفتاوى 27/93 = باختصار .(2/7)
وقال سبحانه: - {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة، آية 5].
قال المقريزي(1) في هذه الآية: - " بالجملة فالعبادة المذكورة في قوله تعالى: - {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} هي السجود والتوكل والإنابة والتقوى والخشية والتوبة والنذر والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار وحلق الرأس خضوعاً وتعبداً، والدعاء، كل ذلك محض حق الله تعالى.(2) "
ويقول الصنعاني عن هذه الآية أيضاً:- " أمر الله عباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ولا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد العبادة لله تعالى، وإلا كان كاذباً منهياً عن أن يقول هذه الكلمة، إذ معناها: نخصك بالعبادة ونفردك بها دون كل أحد، وهو معنى قوله: - {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت، آية 56]، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة، آية 41] كما عرف من علم البيان، أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي لا تعبدوا إلا الله، ولا تعبدوا غيره، ولا تتقوا غيره...، فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له، والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله وحده، واللجا إلى الله، والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات، من الخضوع والقيام تذللاً لله تعالى، والركوع
صـ269
والسجود والطواف والتجرد عن الثياب، والحلق والتقصير كله لا يكون إلا لله عز وجل.(3) "
__________
(1) أحمد بن علي بن عبد القادر الحسيني المصري الحنفي ، عاش في القاهرة ، كان مؤرخاً محدثاً ، وتولى حسبه القاهرة ، له مؤلفات كثيرة ، توفي بالقاهرة سنة 845 هـ .
انظر شذرات الذهب 7/255 ، البدر الطالع 1/79 .
(2) تجريد التوحيد ، ص 22 .
(3) تطهير الاعتقاد ، ص 28 = باختصار يسير .(2/8)
2- وإذا تقرر أن هذه الأعمال من العبادات، وأنها حق لله وحده لا شريك له سواء كانت ذبحاً أو نذراً أو سجوداً أو ركوعاً أو طوافاً ونحوها، فإن من جعل شيئاً منها لمخلوق كائناً من كان فقد أشرك بالله تعالى في عبادته، واتخذ مع الله أنداداً.
(أ) وبيان ذلك أن الذبح أو النذر لغير الله تعالى شرك بالله تعالى، لأنهما عبادتان يجب صرفهما لله تعالى وحده، فمن صرفهما لغيره فقد أشرك، كما أن هؤلاء الذين ينحرون أو ينذرون لغير الله تعالى سواء كان للأموات، أو للجن، أو للملائكة عليهم السلام، أو لطلعة سلطان ونحوها، إنما يفعلون ذلك عن اعتقاد باطل، فيعتقدون أنها تجلب النفع أو تدفع الضر، ومنهم من يقدم تلك النحائر والنذور إلى هذه المعبودات من أجل أن تقربهم عند الله زلفى...
يقول الله تعالى: - {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة، آية 3].
يقول ابن عطية في تفسير قوله تعالى: - {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ}: - " يعني ما ذبح لغير الله تعالى، وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل، وكذلك النصارى، وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به، فذلك إهلاله.(1) "
__________
(1) تفسير ابن عطية 5/21 .(2/9)
ويقول ابن تيمية: - " قوله تعالى: - {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ} [المائدة، آية 3]. ظاهره أنه ما ذبح لغير الله تعالى، مثل أن يقال هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن، متقربين به إلى الله سبحانه، كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح
صـ270
والزهرة أو قصد به ذلك أولى، وهذا يبين لك ضعف قول من حرم ما ذبح باسم غير الله، ولم يحرم ما ذبح لغير الله، كما قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم، بل لو قيل بالعكس لكان أوجه، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقرباً به إليه لحرم، وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين قد يتقربون إلى الكواكب، بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان.(1) "
ويقول ابن كثير: - " وقوله تعالى: - {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} قال مجاهد وابن جريج: كانت النصب حجارة حول الكعبة، قال ابن جريج: - وهي ثلاثمائة وستون نصباً... فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب، فهو من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وينبغي أن يحمل هذا على هذا.(2) "
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 2/563
(2) تفسير ابن كثير 2/12 = باختصار .(2/10)
ويقول الشوكاني: - " قوله تعالى: - {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا، والفسق الخروج عن الحد، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن الفسق هو أشد الكفر، لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر.(1)"
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: - " ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسؤ إلى شيئاً يكتمه الناس، غير أنه قد حدثني بكلمات أربع، فقيل: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال " لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثاُ، ولعن الله من غير منار الأرض.(2) "
ومما يبين لك أن هؤلاء الذين ينذرون أو يذبحون لغير الله تعالى، إنما هو عن اعتقاد بأنها تجلب النفع أو تدفع الضر، ما يرى من أحوالهم وأوضاعهم، وقد
صـ271
بين العلماء ذلك في كتبهم، فهذا الصنعاني يوضح هذا الأمر فيقول – مناقشاً شبهات من يذبح لغير الله -: " فإن قال إنما نحرت لله، وذكرت اسم الله عليه، فقل إن كان النحر لله فلأي شيء قربت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك تعظيمه؟ إن قال: نعم، فقل له هذا النحر لغير الله تعالى، بل أشركت مع الله تعالى غيره، وإن لم ترد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين؟ إليه أنت تعلم يقيناً أنك ما أردت ذلك أصلاً، ولا أردت إلا الأول، ولا خرجت من بيتك إلا قصداً له.(3) "
__________
(1) فتح القدير 2/10 ، وانظر فتح القدير 1/57 ، وإيثار الحق على الخلق لابن الوزير ص 451 .
(2) أخرجه مسلم ، ك الأضاحي (3/ 1567) ح (1978) ، وأحمد 1/118 .
(3) تطهير الاعتقاد ص 33 .(2/11)
ويقول أيضاً – مبيناً حكم هذه النذور والنحائر -: - " فإن قلت هذه النذور والنحائر ما حكمها " قلت: قد علم كل عاقل أن الأموال عزيزة عند أهلها، يسعون في جمعها، ولو بارتكاب كل معصية، ويقطعون الفيافي من أدني الأرض والأقاصي، فلا يبذل أحد من ماله شيئاً إلا معتقداً لجلب نفع أكثر منه، أو دفع ضرر، فالناذر للقبر ما أخرج ماله إلا لذلك، وهذا اعتقاد باطل، ولو عرف الناذر بطلان ما أرداه، ما أخرج درهماً.(1) "
وكذلك الشوكاني يقرر أن هذه الأعمال الشركية صادرة عن الباطن، وأن أصحابها يعتقدون فيها النفع والضر، فيقول: - " وكذلك النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم، كما أن النحر للنسك وإخراج صدقة المال، والخضوع والاستكانة عبادة لله عز وجل بلا خلاف، ومن زعم أن ثم فرقاً بين الأمرين فليهده إلينا، ومن قال إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم والنذر لهم عبادتهم، فقل له: فلأي مقتضى صنعت هذا الصنع؟ فإن دعاءك للميت عند نزول أمر ربك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عرض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم، فأنت مصاب بعقلك، وهكذا إن كنت تنحر لله، وتنذر لله، فلأي معنى جعلت ذلك للميت وحملته إلى قبره، فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض وفعلك وأنت عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته، أو أمر قد أردته..(2) "
صـ272
ويعلل صاحب كتاب " التوضيح عن توحيد الخلاق "(3)
__________
(1) المرجع السابق ، وانظر سبل السلام للصنعاني 4/225 .
(2) الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد (ضمن الرسائل السلفية) ص 20 ، 21 .
(3) اشترك في تأليف هذا الكتاب كل من : الشيخ الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ، وحمد بن معمر ، ومحمد بن غريب .
انظر للتحقيق في هذا التوثيق / كتاب دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للكاتب ص 59 ، 60 .(2/12)
كون النذر لغير الله تعالى من الشرك الاعتقادي قائلاً: - " لأن الناذر لم ينذر هذا النذر الذي لغير الله إلا لاعتقاده في المنذور له أن يضر وينفع، ويعطي ويمنع، إما بطبعه، وإما بقوة سببية فيه، ويجلب الخير والبركة ويدفع الشر والعسرة، والدليل على اعتقاد هؤلاء الناذرين وشركهم حكيهم وقولهم أنهم قد وقعوا في شدائد عظيمة،فنذروا نذراً لفلان، وفلان، … فانكشفت شدائدهم واستراحت خواطرهم، فقد قام في نفوسهم أن هذه النذور هي سبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم، ومن تأمل القرآن وسنة المبعوث به صلى الله عليه وسلم، ونظر أحوال السلف الصالح، علم أن هذا النذر نظير ما جعلته المشركون لآلهتهم في قوله تعالى: - {هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} [الأنعام، آية 136].(1) "
ويتحدث مبارك الميلي (2) عن واقع أولئك الناس الذين يذبحون لغير الله تعالى، ويبين أنهم إنما يفعلون ذلك عن اعتقاد وطلب للقربى من تلك المعبودات... فكان مما قاله: - " إن كل من خالط العامة، يجزم بأن قصدهم بذبائح الزردة (3)التقرب من صاحب المزار، ويكشف عن ذلك أشياء: - أحدها: أنهم
صـ273
__________
(1) التوضيح ص 382 ، 383 = باختصار ، وانظر فتح المنان تتمة منهاج التأسيس لمحمود الآلوسي ص 418 – 421 .
(2) مبارك بن محمد الميلي ، من علماء الجزائر ، عاش في قسنطينة ، وولي أمانة سر جمعية علماء الجزائر ، له مؤلفات ، توفي حوالي سنة 1357 هـ .
انظر : معجم المؤلفين 8/175 .
(3) هكذا تسمى الذبائح التي ذبحت لغير الله باسم " الزردة" أو " النشرة " في بعض جهات الجزائر ، بينما يسمون ما ينذرون لغير الله بالغفارة (انظر رسالة الشرك ومظاهره لمبارك الميلي ص 225 ، 256 ، 269 ) ، وفي اليمن يسمون تلك الذبائح بالجلبة ، وأما النذور فيطلقون عليها " التلم " (انظر الدرر السنية 8/286 ، وتطهير الإعتقاد للصنعاني ص 37) .(2/13)
يضيفون الزردة إلى صاحب المزار، فيقولون: زردة سيدي فلان، أو طعام سيدي عبد القادر مثلاً.
ثانيها: - إنهم يفعلونها عند قبره، وفي جواره، لا يرضون لها مكاناً آخر.
ثالثها: - إنهم إن نزل المطر إثرها، نسبوه إلى سر المذبوح له، وقوى اعتقادهم فيه، وتعويلهم عليه.
رابعها: - أنهم لو تركوها فأصيبوا بمصيبة، نكسوا على رؤوسهم، وقالوا إن وليهم غضب عليهم، لتقصيرهم في جانبه.(1) "
وفي ختام مسألة الذبح أو النذر لغير الله تعالى، ننبه إلى عدم الخلط بين ما يذبح لغير الله تعالى تقرباً أو تعظيماً فهذا من باب العبادات والقربات، وبين ما يذبح عادة بقصد الأكل أو إكرام ضيف ونحوهما.
ولما ساق النووي كلام بعض علماء الشافعية في هذا الشأن قائلاً:- " وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً، أفتى أهل بخاري بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله تعالى، قال الرافعي هذا إنما يذبحونه استبشاراً بقدومه كذبح العقيقة لولادة المولود، وقيل هذا لا يوجب التحريم، والله أعلم (2) "
فقد عقب الميلي على ما سبق إيراده فقال: - " ونقله عن الرافعي غير مخالف لفتوى أهل بخارى إلا بالقصد،فهو خلاف في حال. فمن قصد التقرب إلى الأمير، صدقت عليه الفتوى، ومن قصد مجرد السرور أفتى بقول الرافعي.(3) "
وقال سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب معلقاً على هذه المسألة:- " إن كانوا يذبحونه استبشاراً كما ذكر الرافعي فلا يدخل في ذلك، وإن كانوا يذبحونه تقرباً إليه، فهو داخل في الحديث يعني حديث لعن الله من ذبح لغير الله} .(4) "
صـ274
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره ص 257 .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 13/141 وانظر روضة الطالبين للنووي 3/205 .
(3) رسالة الشرك ومظاهرة ص 253 .
(4) تيسير العزيز الحميد ص 192 ، وقد أشار الشاطبي في الموافقات إلى هذا التفريق 2/210 .(2/14)
كما يجب التفريق بين النذر الشركي المخرج من الملة، وبين نذر المعصية فيما دون ذلك، ونبين ذلك من خلال نص في كتاب " التوضيح عن توحيد الخلاق " حيث جاء فيه ما يلي:- "والنذر غير الجائز قسمان " :-
أحدهما: - نذر فعل معصية، كشرب الخمر، وقتل المعصوم، فيحرم الوفاء به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:- " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه "؛ ولأن معصية الله تبارك وتعالى لا تباح في حال من الأحوال...
الثاني:- النذر لغير الله تعالى كالنذر لإبراهيم الخليل، أو محمد النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، أو ابن عباس، أو عبد القادر، أو الخضر فلا خلاف بين من يعتد به من علماء المسلمين أنه من الشرك الاعتقادي.(1) "
ومن جانب آخر، فقد لبس خصوم عقيدة التوحيد في هذه المسألة، فزعموا أن الذبح لغير الله، وكذا النذر لغيره، إنما هي من المحرمات التي دون الشرك..، وذلك بسبب سوء فهمهم للنصوص الشرعية، وكلام أهل العلم، بل ربما نسبوا هذا التلبيس لبعض أئمة السلف.(2)"
وقد قام الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بكشف هذا التلبيس، وبيان الحق في هذه القضية فكتب جواباً في الرد على ابن سحيم، حين زعم الأخير أن النذر لغير الله حرام ليس بشرك، فقال الشيخ في الرد عليه:-
__________
(1) التوضيح ص 382 ، 383 .
(2) كما فعل ذلك داود بن جرجيس النقشبندي ، فزعم أن ابن تيمية وابن القيم لا يرون كفر من ذبح أو نذر لغير الله ... وحرف بعض كلامهما ، وبتر البعض الآخر ، وأساء الفهم والقصد في هذه المسألة ، وقد قام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ بالرد عليه في كتاب تحت عنوان (منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس) وأتمه محمود شكري الآلوسي .(2/15)
" فدليلك قولهم أن النذر لغير الله حرام بالإجماع، فاستدللت بقولهم حرام على أنه ليس بشرك فإن كان هذا قدر عقلك، فكيف تدعي المعرفة؟ يا ويلك ما تصنع بقول الله تعالى:- {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [ الأنعام، آية 151]، فهذا يدل على أن الشرك حرام ليس بكفر يا هذا الجاهل الجهل المركب، ما تصنع بقول الله تعالى: - {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ
صـ275
رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف، آية 33]، إلى قوله: {وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الأعراف، آية 33].
هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه؟ يا ويلك في أي كتاب وجدته إذا قيل لك هذا حرام، أنه ليس بكفر، فقولك أن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر، كذب وافتراء على أهل العلم، بل يقال ذكر أنه حرام، وأما كونه كفر فيحتاج إلى دليل آخر، والدليل عليه أنه مصرح في " الإقناع " أن النذر عبادة، ومعلوم أن لا إله إلا الله معناها لا يعبد إلا الله، فإذا كان النذر عبادة وجعلتها لغيره، كيف لا يكون شركاً؟ (1) "
ويورد الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاعدة مهمة أثناء جوابه على من ادعى أن الذبح للجن منهي عنه فهو معصية وليس ردة.. حيث قال الشيخ:-
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 5/229 .(2/16)
" قوله: - الذبح للجن منهي عنه، فاعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي أن لفظ " التحريم والكراهة " وقوله " لا ينبغي " ألفاظ عامة تستعمل في المكفرات، والمحرمات التي هي دون الكفر، وفي كراهة التنزيه التي هي دون الحرام، مثل استعمالها في المكفرات قوله: لا إله إلا الذي لا تنبغي العبادة إلا له (1)، وقوله {وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم، آية 92]، ولفظ التحريم مثل قوله تعالى: - {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا}[الأنعام، آية 151]، وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم:-
" يحرم كذا " لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر، وقولهم " يكره " كقوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء، آية 23]، إلى قوله: - {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء، آية 38]، وأما كلام الإمام أحمد في قوله: - " أكره كذا " فهو عند أصحابه على التحريم، إذا فهمت هذا فهم صرحوا أن الذبح للجن ردة تخرج (2)، وقالوا الذبيحة حرام ولو سمي عليها، قالوا: لأنها يجتمع فيها مانعان، الأول: - أنها مما أهل به لغير الله، والثاني: أنها ذبيحة مرتد
صـ276
والمرتد لا تحل ذبيحته، وإن ذبحها للأكل وسمى عليها.(3) "
(ب)وإذا انتقلنا إلى حكم السجود أو الركوع لغير الله تعالى، فهذا من الشرك الظاهر، فلا ريب أن السجود والركوع عبادتان لله وحده لا شريك له، فمن سجد أو ركع لغير الله تعالى فقد أشرك.
__________
(1) يقول ابن القيم : - " وإنما تجيء لا ينبغي في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم للذي هو في غاية الامتناع شرعاً " الجواب الكافي ص 179 ، وانظر تجريد التوحيد للمقريزي ص 21 .
(2) أي تخرج من الملة .
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ 3/66 ، 67 ، وانظر منهاج التأسيس للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ابن حسن آل الشيخ ص 239 , 245 .(2/17)
يقول الله تعالى: - {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت، آية 37]، أي لا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به (1) "
" قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية: إن من أراد أن يكون عبداً لله خالصاً، فلا يسجد إلا له سبحانه، ولا يسجد للشمس والقمر، نبه بهما على غيرهما من المخلوق العلوي، فالسفلي من الأحجار والأشجار والضرائح ونحوها بالأولى. وقد دلت هذه الآية على أن ديننا، هو أن السجود حق الخالق، فلا يسجد لمخلوق أصلاً كائناً ما كان، فإن المخلوقية يتساوى فيها الشمس والقمر، والولي والنبي، والحجر والمدر، والشجر ونحوها.(2) "
وأيضاً فإن الله تعالى قال – بعد الآية السابقة -: - {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت، آية 38]، فمن سجد لله وحده، فقد خضع وانقاد لله وحده، وحقق كمال الذل والمحبة لله تعالى، وضده من استكبر عن إفراد الله بالعبادة – ومنها السجود -، وقد توعد الله تعالى هؤلاء المستكبرين بالعذاب المهين (3) فقال سبحانه: - {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(4) [غافر، آية 60].
صـ277
ويقول القرطبي: - " وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوف عادة في سماعهم، وعند دخولهم على مشايخهم، واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه، يسجد للأقدام لجهله سواء كان للقبلة أم غيرها جهالة منه، ضل سعيهم وخاب عملهم.(5) "
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير 4/104 .
(2) الدين الخالص 2/53 .
(3) وسبق مراراً أن ذكرنا قول ابن تيمية : - " ولم يجيء إعداد العذاب المهين إلا في حق الكافر " الصارم المسلول ص 52 .
(4) أي صاغرين حقيرين .
(5) تفسير القرطبي 1/294 .(2/18)
ويقول ابن القيم في بيان هذا الشرك: - " ومن أنواع الشرك: - سجود المريد للشيخ، فإنه شرك من الساجد والمسجود له، والعجب أنهم يقولون: - ليس هذا سجود، وإنما هو وضع الرأس قدام الشيخ احتراماً وتواضعاً، فيقال لهؤلاء ولو سميتموه ما سميتموه، فحقيقة السجود: - وضع الرأس لمن يسجد له، وكذلك السجود للصنم، وللشمس، وللنجم، وللحجر، كله وضع الرأس قدامه.
ومن أنواعه: - ركوع المتعممين بعضهم لبعض عند الملاقاة، وهذا سجود في اللغة، به تفسير قوله تعالى: - {ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} [البقرة، آية 58] أي منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول بالجبهة على الأرض، ومنه قول العرب: سجدت الأشجار إذا أمالتها الريح.(1) "
ويقول أيضاً:- " جاء شيوخ الضلال والمزاحمون للربوبية فزينوا لمريديهم حلق رؤوسهم لهم، كما زينوا لهم السجود لهم وسموه بغير اسمه، وقالوا هو وضع الرأس بين يدي الشيخ، ولعمر الله إن السجود لله تعالى هو وضع الرأس بين يديه سبحانه، وزينوا لهم أن ينذروا لهم، ويتوبوا لهم، ويحلفوا بأسمائهم، وهذا هو اتخاذهم أرباباً وآلهة من دون الله، قال تعالى: - {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ {79} وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران، آية 79، 80].
صـ278
__________
(1) مدارج السالكين 1/344 ، 345 ، وانظر الجواب الكافي لابن القيم ص 178 ، وتجريد التوحيد للمقريزي ص 21 .(2/19)
وأشرف العبودية عبودية الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة، فأخذ الشيوخ منها أشرف ما فيها، وهو السجود، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوع، فإذا لقي بعضهم بعضاً ركع له، كما يركع المصلي لربه سواء، وأخذ الجبابرة منهم القيام، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبودية لهم، وهم جلوس، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل، فتعاطيها مخالفة صريحة له، فنهى عن السجود لغير الله وقال: " لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد (1) " وتحريم هذا معلوم من دينه بالضرورة، وتجويز من جوزه لغير الله مراغمة لله ورسوله، وهو من أبلغ أنواع العبودية، فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر، فقد جوز العبودية لغير الله، وأيضاً فالانحناء عند التحية سجود، ومنه قوله تعالى: - {وادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} [البقرة، آية 58]، أي منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه …
والمقصود أن النفوس الجاهلة الضالة أسقطت عبودية الله سبحانه، وأشركت فيها من تعظمه من الخلق، فسجدت لغير الله، وركعت له، وقامت بين يديه قيام الصلاة وحلفت لغيره، ونذرت لغيره، وحلقت لغيره، وذبحت لغيره، وطافت لغير بيته … وسوت من تعبده من المخلوقين برب العالمين، وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرسل، وهم الذين بربهم يعدلون. قال تعالى {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء، آية 97، 98] (2) "
__________
(1) لم أعثر على هذا الحديث بهذا اللفظ ، وقد ورد بمعناه عند أحمد في المسند 5/277 وابن ماجة في سننه ح (1853) ، والحاكم في المستدرك 4/171 ،172 .
(2) زاد المعاد 4/159 –161 = باختصار ، وانظر أعلام الموقعين 3/117 ، 155 وشرح الشروط العمرية ص 94 .(2/20)
وإذا تقرر كون السجود لغير الله تعالى شركاً بالله تعالى، فينبغي أن نفرق بين سجود العبادة، وسجود التحية، فأما سجود العبادة فقد سبق الحديث عنه، وأما سجود التحية فقد كان سائغاً في الشرائع السابقة، ثم صار محرماً على هذه الأمة، فهو معصية لله تعالى، فمن المعلوم أن سجود العبادة القائم على الخضوع والذل والتسليم والإجلال لله وحده هو من التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل، وإن صرف لغيره فهو شرك وتنديد، ولكن لو سجد أحدهم لأب أو عالم ونحوهما
صـ279
وقصده التحية والإكرام فهذه من المحرمات التي دون الشرك، أما إن قصد الخضوع والقربة والذل له فهذا من الشرك، ولكن لو سجد لشمس أو قمر أو قبر فمثل هذا السجود لا يتأتى إلا عن عبادة وخضوع وتقرب فهو سجود شركي، وإليك توضيح ذلك من خلال النصوص التالية:-
يقول الله تعالى:- {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا} [يوسف، آية 100].
يقول ابن عطية – في معنى السجود -: - " واختلف في هذا السجود، فقيل: كان كالمعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض، وقيل: بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه، مهما كان سيره تحياتهم للملوك في ذلك الزمان، وأجمع المفسرون أن ذلك السجود – على أي هيئة كان – فإنما كان تحية لا عبادة، قال قتادة: - هذه كانت تحية الملوك عندهم.(1) "
ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:- " وقد كان سائغاً في شرائعهم، إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة، وجعل السجود مختصاً بجناب الرب سبحانه وتعالى، هذا مضمون قول قتادة وغيره – إلى أن قال: - والغرض أن هذا كان جائزاً في شريعتهم؛ ولهذا خروا له سجداً.(2) "
__________
(1) تفسير ابن عطية 9/377 ،378 ، وانظر تفسير القرطبي 1/293 ، 9/265 .
(2) تفسير ابن كثير 2/491 = باختصار .(2/21)
ويقول محمد رشيد رضا عند تفسيره لقوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} [البقرة، آية 34]: - " وهو سجود لا نعرف صفته، ولكن أصول الدين تعلمنا أنه ليس سجود عبادة إذ لا يعبد إلا الله تعالى، والسجود في اللغة التطامن والخضوع والانقياد، وأعظم مظاهره الخرور نحو الأرض للأذقان، ووضع الجبهة على التراب، وكان عند القدماء من تحية الناس للملوك والعظماء، ومنه سجود يعقوب وأولاده ليوسف عليهم السلام (1) "
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر،
صـ280
لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " (2).
وعن قيس بن سعد (3) رضي الله عنه قال: - " أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم (4)، فقلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: - إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدن لمرزبان لهم، فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك، قال: أرأيت لو مررت على قبري أكنت تسجد له، قال: لا، قال: - فلا تفعلوا، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من الحق.(5) "
__________
(1) تفسير المنار 1/265 .
(2) أخرجه أحمد 3/158 ، وكذا البزار كما في مجمع الزوائد (9/4) وقال الهيثمي : - " رجاله رجال الصحيح غير حفص بن أخي أنس ، وهو ثقة " ووافقه الألباني في الإرواء 7/55 .
(3) هو قس بن سعد عبادة الخزرجي ، صحابي جليل ، أمير مجاهد ، كان يطعم الناس ، وصاحب دهاء ، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد ، مات سنة 85 هـ .
انظر : الإصابة 5/473 ، وسير أعلام النبلاء 3/102 .
(4) أي الفارس الشجاع .
(5) أخرجه أبو داود ح (2140) ، والحاكم (2/187) ، والبيهقي (7/291) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي .(2/22)
"قال الطيبي (1):-
" أي اسجدوا للحي الذي لا يموت، ولمن ملكه لا يزول، فإنك إنما تسجد لي الآن مهابة وإجلالاً، فإذا صرت رهين رمس، امتنعت عنه.(2) "
ويبين ابن تيمية هذه المسألة فيقول: -
" أما تقبيل الأرض، ووضع الرأس، ونحو ذلك مما فيه السجود، مما يفعل قدام بعض الشيوخ، وبعض الملوك، فلا يجوز، بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضاً، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: " الرجل منا يلقى أخاه، أينحني له؟
صـ281
قال لا …(3) "
وأما فعل ذلك تديناً وتقرباً فهذا أعظم المنكرات، ومن اعتقد مثل هذا قربة وتديناً فهو ضال مفتر، بل يبين له أن هذا ليس بدين ولا قربة، فإن أصر على ذلك استتيب، فإن تاب وإلا قتل.(4) "
ويقول أيضاً:-
" وأما وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم، أو تقبيل الأرض ونحو ذلك، فإنه مما لا نزاع فيه بين الأئمة في النهي عنه، بل مجرد الانحناء بالظهر لغير الله عز وجل منهي عنه.(5) "
ويقول في موضع ثالث: - وحجرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وحجرة الخليل، وغيرهما من المدافن التي فيها نبي ورجل صالح، لا يستحب تقبيلها ولا التمسح بها باتفاق الأئمة، بل منهي عن ذلك، وأما السجود لذلك فكفر.(6) "
__________
(1) هو الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي ، من علماء الحديث والتفسير ،له ردود على المبتدعة ، كان كريماً جواداً ، له مؤلفات ، توفي سنة 743 هـ .
…انظر الدرر الكامنة 2/156، والبدر الطالع 1/229.
(2) عون المعبود 6/187 .
(3) أخرجه أحمد 3/198 ، والترمذي وحسنه ح ( 2728) ، وابن ماجه ح ( 3702) .
(4) مجموع الفتاوى 1/372 = باختصار .
(5) المرجع السابق 27/92 .
(6) المرجع السابق 27/136 ، وانظر تهذيب رسالة البدر الرشيد في الألفاظ المكفرات ص 50 ، 51 .(2/23)
(ج) وإذا انتقلنا إلى الطواف، فإن المراد بالطواف الذي يكون شركاً هو الطواف بغير الكعبة مع قصد التقرب لغير الله تعالى، كالطواف بالقبور والمشاهد ونحوها، فالطواف عبادة لقوله تعلى:- {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج، آية 29]، وصرف العبادة أو شيء منها لغير الله شرك، وأما لو طاف بتلك القبور بقصد التقرب إلى الله تعالى فهذا محرم، وبدعة منكرة، ووسيلة لعبادة تلك القبور "
يقول ابن تيمية في هذه المسألة:-
" وأما الرجل الذي طلب من والده الحج، فأمره أن يطوف بنفس الأب، فقال: طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط، فهذا كفر بإجماع المسلمين، فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمره الله به رسوله، وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين، ومن اعتقد ذلك دينا فهو كافر، سواء طاف ببدنه أو بقبره.(1) "
صـ282
ويقول أيضاً:-
" ليس في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة، ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة … فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلي إليها فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل مع أنها كانت قبلة لكن نسخ ذلك، فكيف بمن يتخذها مكاناً يطاف به كما يطاف بالكعبة؟ والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال …(2) "
3-وإذا تقرر حكم هذه الأعمال … فيمكن إيجاز أوجه كون هذه الأعمال كفر بما يلي:-
__________
(1) المرجع السابق 2/308 .
(2) المرجع السابق 27/10 = باختصار .(2/24)
(أ) أن هذه الأعمال شرك يناقض توحيد العبادة، فإذا كان الذبح والنذر، وكذا السجود والركوع والطواف عبادات لا يجوز صرفها إلا لله تعالى وحده، فمن أثبت لغير الله تعالى ما لا يكون إلا لله فهو كافر (1)؛ لأن الشرك الأكبر – كما سبق ذكره – هو صرف نوع أو فرد من العبادة لغير الله تعالى، والعبادة الشرعية تتضمن غاية الذل لله تعالى، مع غاية المحبة له.(2) "
وكما يقول ابن تيمية:-
" فالإله هو الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم، والإجلال والإكرام، والخوف والرجاء ونحو ذلك.(3) " ومن المعلوم أن الذبح والنذر والسجود والركوع والطواف ونحوها … عبادات تجمع بين الخضوع والخوف والإجلال، والرجاء والمحبة والقرب، فإذا صرفت هذه العبادات لله وحده فهذا إيمان وتوحيد، وإذا صرفت لغيره فهذا كفر وتنديد.
وقد غلط مرجئة المتكلمين ومن تبعهم عندما زعموا أن شرك التقرب والنسك ليس شركاً بإطلاق، مالم يتضمن عندهم الشرك في التوحيد العلمي الخبري؛ لأنهم حصروا التوحيد في الربوبية والأسماء الصفات من ثم فالشرك
صـ283
عندهم هو الشرك في هذا التوحيد.(4)
ومثال ذلك ما توهمه بعضهم بأن السجود لغير الله تعالى لا يكون كفراً إلا إذا اعتقد الربوبية فيمن سجد له(5)، والصحيح أن السجود لغير الله تعالى شرك يناقض توحيد العبادة، وإذا انضم إلى ذلك اعتقاد الربوبية فيمن سجد له، فهذا شرك في توحيد الربوبية.
__________
(1) انظر الرد على البكري لابن تيمية ص 214 .
(2) انظر العبودية لابن تيمية ص 44 .
(3) العبودية ص 51 .
(4) انظر : لمزيد من التفصيل رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 173 ، 174 .
(5) انظر : تهذيب الفروق والقواعد السنية لمحمد على بن حسين المالكي (بهامش الفروق للقرافي ) 1/137 ، وانظر السيل الجرار للشوكاني 4/580 ، وقارنه بكلامه في الدر النضيد ص 34 ، 35 .(2/25)
ومنهم من قال إن السجود للصنم أو الشمس ونحوهما علامة الكفر (1) وإن لم يكن في نفسه كفر، وهذا ليس بصحيح، بل السجود للصنم أو الشمس في حد ذاته كفر وشرك بالله تعالى في العبادة، فهو خضوع ورجاء وتذلل لغير الله تعالى، ولا تقوم عبودية الله تعالى إلا بتحقيق السجود له سبحانه، كما قال تعالى:- {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت، آية 37].
(ب) أن من قصد بتلك العبادات غير الله تعالى، وصرفها لغيره سبحانه، فقد شبه المخلوق الضعيف العاجز بالخالق القوي القادر.
ولذا يقول ابن القيم:- " ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونها: - غاية الحب، مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله، فقد شبهه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع … - إلى أن قال – فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، ومنها التوكل فمن توكل على غيره فقد شبهه به، ومنها التوبة فمن تاب لغيره فقد شبهه به.(2) "
صـ284
ويقول – في كتاب آخر -: " ومن أسباب عبادة الأصنام: - الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه، وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم، والذي أبطله الله سبحانه، وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله.
__________
(1) انظر أصول الدين لعبد القاهر البغدادي ص 266 ، والشفا لعياض 2/1072 .
(2) الجواب الكافي ص 183 = باختصار .(2/26)
فأهل الشرك غلوا فيمن يعظمونه، ويحبونه، حتى شبهوه بالخالق، وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الآلهة إلهاً واحداً، وقالا {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص، آية 6]، وصرحوا بأنه إله معبود يرجى ويخاف، ويعظم ويسجد له، وتقرب له القرابين، إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى، فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبهه به من كل وجه.(1) "
ويقول ابن القيم أيضاً: - " وقوله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [فصلت، آية 11] إنما قصد به نفي أن يكون معه شريك، أو معبود يستحق العبادة والتعظيم، كما يفعله المشبهون والمشركون. وهذا التشبيه الذي أبطله الله سبحانه هو أصل شرك العالم، وعبادة الأصنام.. فإن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة، والتعظيم، والخضوع، والنذر له والسجود له وحلق الرأس له، والاستغاثة به.(2) "
ومما قاله المقريزي – في شأن هذا التشبيه -: - " إن المشرك شبه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، وهي التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق تعالى. وسوى بين التراب ورب الأرباب، فأي فجور وذنب أعظم من هذا.
واعلم أن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة له وحده عقلاً وشرعاً وفطرة، فمن جعل ذلك لغيره فقد شبه الغير بمن لا شبيه له، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم، أخبر من كتب على نفسه الرحمة أنه لا يغفره أبداً …
صـ285
__________
(1) إغاثة اللهفان 2/322 ،323 = باختصار .
(2) المرجع السابق 2/329 – 341 = باختصار .(2/27)
ومن خصائص الإلهية للسجود، فمن سجد لغيره فقد شبهه به، ومنها الذبح له فمن ذبح لغيره قد شبهه به، ومنها حلق الرأس إلى غير ذلك.(1).
ويتحدث أحمد الدهلوي (2) عن هذا التشبيه قائلاً:- " حقيقة الشرك أن يعتقد إنسان في بعض المعظمين من الناس أن الآثار العجيبة منه إنما صدرت لكونه متصفاً بصفة من صفات الكمال مما لم يعهد في جنس الإنسان بل يختص بالرب جل مجده، لا يوجد في غيره إلا أن يخلع هو خلعة الألوهية على غيره، فيتذلل عنده أقصى التذلل، ويعامل معه معاملة العباد مع الله تعالى. (3)
إضافة إلى ذلك فإن هذا التشبيه من أظلم الظلم وأشنعه، ولذا يقول إسماعيل الدهلوي:-
" قال الله تعالى: - {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان، آية 13] وقد هدت لقمان الحكمة العميقة التي أكرمه الله وخصه بها، إلى أن أفحش الظلم أن يجود الانسان على أحد بحق غيره، فمن أعطى حق الله لأحد خلقه فقد عمد إلى حق أكبر كبير، فأعطاه أذل ذليل، وكان كرجل وضع تاج الملك على مفرق إسكاف، وأي جور أكبر من هذا الجور، وأي ظلم أفحش من هذا الظلم.(4) "
__________
(1) تجريد التوحيد ص 27 , 28 = باختصار ، وكلام المقريزي هاهنا يكاد يطابق كلام ابن القيم في الجواب الكافي ص 182 , 183
(2) هو ولي الله بن أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي ، نشأ بدلهي في الهند ، ورحل إلى الحجاز ، وصار من كبار العلماء ، وأتقن علوماً كثيرة ، وله مؤلفات جمة وجهود إصلاحية متعددة ، توفي سنة 1180 هـ .
انظر : معجم المؤلفين 4/292 . ومقدمة كتابه الفوز الكبير في أصول التفسير
(3) حجة الله البالغة 1/61= بتصرف يسير .
(4) رسالة التوحيد ص 48 ، 49 .(2/28)
(ج) أجمع العلماء على أن من صرف عبادة لغير الله تعالى فهو كافر – كما تقدم – وكما يقول ابن تيمية: - " فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب،
صـ286
وهداية القلوب وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين.(1) "
ولذا علق الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب على هذا الإجماع قائلاً:- "وهو إجماع صحيح، معلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر، أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادة.(2) "
كما أن حرمة مثل هذا الشرك من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، كما وضحه ابن تيمية بقوله: - " فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحد من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين …، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نهى عن كل هذه الأمور، وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله.(3) "
كما يقول أيضاً:- " كان من أتباع هؤلاء (المشركين) من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعوها كما يدعو الله تعالى، ويصوم لها وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول إن هذا ليس بشرك،وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك.(4) "
4- وفي ختام هذا المبحث، نسرد مجموعة من أقوال العلماء في هذه المسألة:-
يقول ابن نجيم الحنفي: - " والسجود للجبابرة كفر إن أراد به العبادة، إن أراد به التحية على قول الأكثر.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 1/124 .
(2) تيسير العزيز الحميد ص 229 .
(3) الرد على البكري ص 376 ، وانظر مجموعة الرسائل والمسائل 1/29 .
(4) درء التعارض 1/227 ، 228 .
(5) البحر الرايق 5/134 .(2/29)
وجاء في الفتاوى البزازية: - " والسجدة لهؤلاء الجبابرة كفر؛ لقوله تعالى مخاطباً للصحابة رضي الله عنهم: - {أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران، آية 80]، نزلت حين استأذنوا في السجود له عليه الصلاة والسلام (1) ولا يخفى
صـ287
أن الاستئذان لسجود التحية بدلالة: {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} ومع اعتقاد جواز سجدة العبادة لا يكون مسلماً، فكيف يطلق عليهم بعد إذ أنتم مسلمون "، وقيل لا يكفر لقصة إخوة يوسف عليه السلام، والقائل الأول يدعي نسخة بتلك الآية، وبقوله تعالى: - {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن، آية 18]، وقيل إن أراد العبادة كفر، وإن أراد التحية لا، وهذا موافق لما ذكر في فتاوى الأصل.(2) "
وقال محمد علاء الدين الحصكفي (3) فيمن نذر لغير الله:-
" واعلم أن المنذر الذي يقع للأموات من أكثر العوام وما يؤخذ من الدراهم والشموع والزيت ونحوها إلى ضرائح الأولياء الكرام تقرباً إليهم فهو بالإجماع باطل وحرام.(4) "
وقال ابن عابدين شارحاً لما سبق:-
__________
(1) أخرجه عبد بن حميد عن الحسن ، وانظر الدر المنثور للسيوطي 2/250 .
(2) الفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى الهندية) 6/343 ، وانظر كلام صنع الله الحلبي الحنفي في تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب ص 207 ، وفتح المنان للآلوسي ص 420 ، ورسالة في تحريم اتخاذ الضرائح المصنوعة من الخشب لمحمد الآبادي ص 25 – 28 ، : - وروح المعاني للآلوسي 17/212 ، ونصاب الاحتساب لعمر السنامي ص 317 .
(3) محمد بن علي بن محمد الحصكفي الدمشقي الحنفي ، فقيه ، أصولي ، مفسر ، نحوي ، رحل إلى القدس ، وتولي إفتاء الأحناف ، له مؤلفات ، توفي بدمشق سنة 1088 هـ .
…انظر : معجم المؤلفين 11/56.
(4) الدر المختار (مع حاشية ابن عابدين) 2/439 .(2/30)
" قوله باطل وحرام لوجوه: - منها أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق، ومنها أن المنذور له ميت، والميت لا يملك، ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى، واعتقاده ذلك كفر.(1) "
ويقول ابن عبد البر عند شرحه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2):-
صـ 288
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله، الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجداً، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم امتثال طرقهم.(3) "
ويقول القاضي عياض:- " وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر … كالسجود للصنم، وللشمس، والقمر، والصليب، والنار.(4) "
ويقول النووي:- " اعلم أن الذبح للمعبود وباسمه، نازلة منزلة السجود له، وكل واحد منهما نوع من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة، فمن ذبح لغيره من حيوان، أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة، لم تحل ذبيحته، وكان فعله كفراً، كمن سجد لغيره سجدة عبادة.(5) "
ويقول أيضاً: - والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح كالسجود للصنم، أو الشمس …(6) "
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2/439 .
(2) أخرجه مالك (1/172) ح (172) وأحمد 2/246 \ ، والحميدي ح (1025) وصححه الألباني في " تحذير الساجد " ص 25 .
(3) التمهيد 5/45 .
(4) الشفا 2/1072 .
(5) روضة الطالبين 3/205 ، 206 وانظر روضة الطالبين 1/326 .
(6) المرجع السابق 10/64 ، وانظر مغني المحتاج للشربيني 4/136 .(2/31)
ولما أورد الرملي (1) أنواع الردة … كان مما قاله: - " السجود لصنم أو شمس، أو مخلوق آخر؛ لأنه أثبت لله شريكاً، نعم إن دلت قرينة قوية على عدم دلالة الفعل على الاستخفاف كسجود أسير في دار الحرب بحضرة كافر خشية منه فلا كفر. – إلى أن قال – وإن قصد تعظيم مخلوق بالركوع كما يعظم الله به فلا
ص289
فرق بينهما في الكفر حينئذ. (2) "
ويقول البريهاري: - "ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل، أو يرد شيئاً من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يصلي لغير الله، أو يذبح لغير الله، وإذا فعل شيئاً من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام. (3) ".
__________
(1) محمد بن أحمد بن حمزة الرملي المصري الشافعي ، تولى إفتاء الشافعية بمصر ، وصنف شروحاً وحواشي كثيرة ، توفي سنة 1004 هـ .
انظر :الأعلام 6/7 ، ومعجم المؤلفين 8/255 .
(2) نهاية المحتاج 7/417 ، وانظر قليوبي وعميرة 4/176 ، وتنبيه الغافلين لابن النحاس ص 403 ، والإعلام لبن حجر الهيتمي ص 348 .
(3) شرح السنة للبربهاري ص 31 .(2/32)
ويقول ابن تيمية – في مسألة السجود لغير الله ووسائلها -: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وقال: - "فإنها تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار " (1)، ونهى عن تحري الصلاة في هذا الوقت، لما فيه من مشابهة الكفار في الصورة، وإن كان المصلي يقصد السجود لله لا للشمس، لكن نهى عن المشابهة في الصورة لئلا يفضي إلى المشاركة في القصد، فإذا قصد الإنسان السجود للشمس وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، كان أحق بالنهي والذم والعقاب، ولهذا يكون كافراً، كذلك من دعا غير الله، وحج إلى غير الله هو أيضاً شرك، والذي فعله كفر. (2) ".
ويبين ابن تيمية أن السجود الشركي من الأمور المتفق على تحريمها عند الرسل عليهم السلام، فيقول: -
"أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله، كما قال سبحانه وتعالى {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}[الزخرف، آية 45](3) "
ص290
ومما سطره هذا الإمام في مسألة النذر الشركي قوله رحمه الله: - "ولا يجوز أن ينذر أحد إلا طاعة، ولا يجوز أن ينذرها إلا لله، فمن نذر لغير الله فهو مشرك. كمن صام لغير الله، وسجد لغير الله، ومن حج إلى قبر من القبور فهو مشرك. (4) "
__________
(1) أخرجه البخاري ك بدء الخلق (6/335) ح (3273) ، ومسلم ك صلاة المسافر (1/567) ح (827) .
(2) الرد على الأخنائي ص 61 ، وانظر مجموع الفتاوي لابن تيمية 27/11 ، 23 ، 11/502 ، واقتضاء الصراط المستقيم ، 2/768 .
(3) إقتضاء الصراط المستقيم 1/192 .
(4) منهاج السنة 2/440(2/33)
ويقول أيضاً: - " وأما النذر للموتى من الأنبياء والمشائخ وغيرهم، أو لقبورهم أو المقيمين عند قبورهم، فهو نذر شرك ومعصية لله تعالى، سواء كان النذر نفقة أو ذهباً أو غير ذلك، وهو شبيه بمن ينذر للكنائس والرهبان وبيوت الأصنام. (1) "
ويؤكد ابن تيمية على إزالة مثل تلك النذور فيقول: -:وكل ما ينذر له، أو يعظمه من الأحجار أو الأشجار، ونحوها، يجب أن يزال؛ لأنه يحصل للناس به ضرر عظيم في دينهم، كما كسر الخليل عليه السلام الأصنام، وكما حرق موسى عليه السلام العجل، وكما كسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصنام وحرقها لما فتح مكة.. (2) - إلى أن قال – ومن قال أنه يشفى بمثل نذره لهذه الأشياء فهو كاذب، بل يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإنه مكذب لله ورسوله... (3)"
وأرد الشاطبي مثال من ذبح لغير الله تعالى – مع أمثلة أخرى – على مسألة قررها بقوله: - "كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل...؛ لأن الأخذ في خلاف مقاصد الشريعة مشاقة ظاهرة، والله تعالى يقول: - {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء، آية 115]، كما أن القاصد لخلاف الشرع مستهزىء بآيات الله وأحكامه، والله تعالى يقول {وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا} [ البقرة، آية 231] (4) "
ص291
__________
(1) مجموع الفتاوي 11/504
(2) أخرجه البخاري بمعناه ، ك المغازي ، ح (4287) ، ومسلم ، ك الجهاد ، ح (1781)
(3) مختصر الفتاوي المصرية ص 551، وانظر الفتاوي 33/123 ، واقتضاء الصراط المستقيم 2/644- 646 .
(4) انظر : الموافقات 2/333 – 335 = باختصار .(2/34)
وذكر مرعي بن يوسف الكرمي أن السجود للحكام بقصد العبادة كفر، وبقصد التحية كبيرة (1).
ومما قاله أحمد الفاروقي السرهندي (2) في مكتوباته: - "والتبري من الكفر شرط الإسلام، والاجتناب عن شائبة الشرك توحيد، والاستمداد من الأصنام والطاغوت في دفع الأمراض والأسقام، كما هو شائع فيما بين جهلة أهل الإسلام عين الشرك والضلالة، وطلب الحوائج من الأحجار المنحوته نفس الكفر – إلى أن قال – وما يفعلونه من ذبح الحيوانات المنذورة للمشائخ عند قبور المشائخ المنذورة لهم جعله الفقهاء داخلاً في الشرك، وألحقوه بجنس ذبائح الجن الممنوع عنها شرعاً. (3)"
ويقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب في هذا الشأن: - "والعبادة أنواع كثيرة، لكني أمثلها بأنواع ظاهرة لا تنكر، من ذلك السجود فلا يجوز لعبد أن يضع وجهه على الأرض ساجداً إلا لله وحده لا شريك له، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لولي، ومن ذلك الذبح فلا يجوز لأحد أن يذبح إلا لله وحده، كما قرن الله بينهما في القرآن في قوله تعالى: - {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162}لاَ شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام، آية 162] ,163 والنسك هو الذبح، وقال {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر، آية 2] فتفطن لهذا، واعلم أن من ذبح لغير الله من جني أو قبر، فكما لو سجد له، وقد لعنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بقوله: "لعن الله من ذبح لغير الله" (4) "
__________
(1) انظر : غاية المنتهى 3/337 ، وانظر كشاف القناع للبهوتي 6/137
(2) أحمد بن عبدالأحد السرهندي ، النقشبندي ، من علماء الهند ، دعا إلى نبذ البدع ، اشتغل بالتدريس ، له مؤلفات ، توفي سنة 1034 هـ .
…انظر : الأعلام 1/142، معجم المؤلفين 1/259.
(3) المنتخبات من المكتوبات للسرهندي ص 220 .
(4) الدرر السنية 2/54 .(2/35)
ومما كتبه الشوكاني عن مفاسد البناء على القبور قوله: - " ومن المفاسد البالغة إلى حد يرمي بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام: أن كثيراً منهم يأتي بأحسن ما يملكه من الأنعام، وأجود ما يحوزه من المواشي فينحره عند ذلك القبر، متقرباً به
ص292
إليه، راجياً ما يضمر حصوله منه، فيهل به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأوثان، إذ أنه لا فرق بين نحر النحائر لأحجار منصوبة يسمونها وثناً، وبين قبر لميت يسمونه قبراً...
- إلى أن قال – ولا شك أن النحر نوع من أنواع العبادة التي تعبد الله العباد بها، كالهدايا والفدية والضحايا، فالمتقرب بها إلى القبر والناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه، واستدفاع الشر به، وهذا عبادة لا شك فيها، وكفاك من شر سماعه. (1) "
ومما قاله الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبو بطين – في هذا الموضوع -: - "فالدين كله داخل في العبادة، فإذا علم الإنسان وتحقق معنى الإله، وأنه المعبود، وعرف حقيقة العبادة، تبين له أن من جعل شيئاً من العبادة لغير الله، فقد عبده واتخذه إلهاً، وإن فر من تسميته معبوداً أو إلهاً، فتغير الاسم لا يغير حقيقة المسمى، ولا يزيل حكمه
ولما سمع عدي بن حاتم (2) - وهو نصراني – قول الله تعالى: - {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} [التوبة، آية 31]. قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى، قال: فذلك عبادتهم (3) ".
__________
(1) شرح الصدور بتحريم رفع القبور ص20 = باختصار
(2) عدي بن حاتم بن عبدالله الطائي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسلم في سنة تسع ، شهد فتح العراق ، وكان جواداً ، مات سنة 68 هـ .
…انظر : الإصابة 4/472، وسير أعلام النبلاء 3/162.
(3) سيأتي تخريجه ص 299(2/36)
فعدي ما كان يحسب أن موافقتهم فيما ذكر عبادة منهم لهم، فأخبره صلى الله عليه وسلم أن ذلك عبادة منهم لهم، مع أنهم لا يعتقدونه عبادة لهم. وكذلك ما يفعله عباد القبور من دعاء أصحابها، والتقرب إليهم بالذبائح والنذور، عبادة منهم للمقبورين، وإن كانوا لا يسمونه ولا يعتقدونه عبادة. (1) "
ص293
ويقول الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب – في توجيهه القول بأن النذر لغير الله شرك -: " وذلك لأن الناذر لله وحده قد علق رغبته به وحده، لعلمه بأنه تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فتوحيد القصد هو توحيد العبادة، ولهذا ترتب عليه وجوب الوفاء فيما نذره طاعة لله، والعبادة إذا صرفت لغير الله صار ذلك شركاً بالله لالتفاته إلى غيره تعالى فيما يرغب فيه أو يرهب، فقد جعله شريكاً لله في العبادة (2) "
ص294
المبحث الثاني:
الحكم بغير ما أنزل الله
لا شك أن تنحية شرع الله تعالى، وعدم التحاكم إليه في شؤون الحياة من أخطر وأبرز مظاهر الانحراف في مجتمعات المسلمين، ولقد كانت عواقب الحكم بغير ما أنزل الله في بلاد المسلمين ما حل بهم من أنواع الفساد وصنوف الظلم والذل والمحق.
ونظراً لأهمية وخطورة هذه المسألة من جانب، وكثرة اللبس فيها من جانب آخر، فنفصل هذه المسألة على النحو التالي: -
__________
(1) الانتصار ص 33، 34 = باختصار .
(2) قرة عيون الموحدين ص 85 وانظر جواب الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ عن الذبح لغير الله تعالى في الدرر السنية 8/286 ، وجواب الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ عن الذبح لغير الله وكذا النذر لغير الله في فتاويه 1/105 – 107 وانظر فتاوي ابن باز 3/322 والمجموع الثمين لابن عثيمين 1/41 ، وفتاوي اللجنة الدائمة 1/89 ، 110 ، 112 – 116 ، 127 ، 132 ، 220 ، 258 .(2/37)
1 - منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين: فرض الله تعالى الحكم بشريعته، وأوجب ذلك على عباده، وجعله الغاية من تنزيل الكتاب، فقال سبحانه: - {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} [البقرة، آيه 213]، وقال تعالى: - {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ} [النساء، آية 105].
وبين سبحانه اختصاصه وتفرده بالحكم، فقال: - {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام، آية 57]، وقال سبحانه: - {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف، آية 40]، وقال عز وجل: - {له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون} [القصص، آية 70]، وقال سبحانه: - {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى، آية 42].(2/38)
وجاءت الآيات القرآنية مؤكدة على أن الحكم بما أنزل الله من صفات المؤمنين، وأن التحاكم إلى غير ما أنزل الله (وهو حكم الطاغوت والجاهلية) من صفات المنافقين. قال سبحانه: - {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {47}وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ {48} وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ {49}أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {50} إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور، آية 47 – 51].(2/39)
وقال تعالى: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {60}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا {61}فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء، آية 59 – 62].
يقول ابن تيمية عن هذه الآيات: -
"ذم الله عز وجل المدعين الإيمان بالكتب كلها، وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله كما يصيب ذلك كثيراً ممن يدعي الإسلام وينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم، أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك وغيرهم، وإذا قيل لهم تعالوا إلى كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضاً، وإذا أصابتهم مصيبة في عقولهم ودينهم ودنياهم بالشبهات والشهوات، أو في نفوسهم وأموالهم عقوبة على نفاقهم، قالوا إنما أردنا أن نحسن بتحقيق العلم بالذوق، ونوفق بين الدلائل الشرعية والقواطع العقلية التي هي في الحقيقة ظنون وشبهات. (1)"
__________
(1) مجموع الفتاوي 12/339 ، 340 = بتصرف يسير(2/40)
ويقول أيضاً: - " ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما حكم ويسلموا تسليماً. (1) "
ويقول محمد رشيد رضا عند تفسيره لقوله تعالى: -
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ..} الآية: - "والآية ناطقة بأن من صد وأعرض عن حكم الله ورسوله عمداً ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقاً لا يعتد بما يزعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام. (2) "
ص296
ويمكن أن نحدد أهمية إفراد الله تعالى بالحكم، وبيان منزلة الحكم بما أنزل الله من خلال العناصر التالية: -
منزلته من توحيد العبادة: - إن الحكم بما أنزل الله تعالى وحده هو إفراد لله تعالى بالطاعة، والطاعة نوع من أنواع العبادة، فلا تصرف إلا لله وحده لا شريك له، قال تعالى: - {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف، آية 40].
وقال سبحانه: - {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص، آية 70]
فعبادة الله تعالى تقتضي إفراده عز وجل بالتحليل والتحريم، حيث قال سبحانه: - {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، آية 31].
__________
(1) مجموع الفتاوي 7/37 ، 38 .
(2) تفسير المنار 5/227 .(2/41)
وتحقيق هذه الطاعة، وإفراد الله تعالى بالحكم والانقياد لشرعه هو حقيقة الإسلام، وكما قال ابن تيمية: - "فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده، وطاعته وحده. (1)
ويقول أيضاً: - "فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه وإن خالف أمر الله ورسوله، فقد جعله نداً... وهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى: - {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة آية 165] (2)"
ويقول ابن القيم: - "وأما الرضا بدينه، فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم تسليماً، ولو كان مخالفاً لمراد نفسه، أو هواها، أو قول مقلدة وشيخه وطائفته. (3) "
ص297
وفي المقابل فإن من أشرك مع الله في حكمه، فهو كالمشرك في عبادته لا فرق بينهما، كما قال الشنقيطي: - "الإشراك بالله في حكمه، والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد، لا فرق بينهما البتة، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله، وتشريعاً غير تشريع الله، كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن، ولا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه، فهما واحد، وكلاهما مشرك بالله. (4) "
__________
(1) مجموع الفتاوي 3/91 وانظر النبوات ص 69 ، 70
(2) مجموع الفتاوي 10/267 .
(3) مدارج السالكين 2/118
(4) الحاكمية في تفسير أضواء البيان لعبدالرحمن السديس ص 52 ، 53 = باختصار ، وانظر أضواء البيان للشنقيطي 7/162 .(2/42)
ويقول أيضاً: - " ويفهم من هذه الآية: - {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله: - {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون بطاعتهم، وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى، هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى: - {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {60}وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس، آية 60، 61] وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم، آية 44] (1) "
وتحقيقاً لتوحيد العبادة القائم على نفي الإلهية عما سوى الله تعالى، وإثباتها لله تعالى وحده، فإنه يجب الكفر بالطاغوت، كما قال تعالى: - {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} [البقرة، آية 256].
وقد سمى الله تعالى الحكم بغير شرعه طاغوتاً، حيث قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء، آية 61]
والطاغوت عام. فكل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة من معبود، أو متبوع،
ص298
__________
(1) أضواء البيان 4/83 ، وانظر أضواء البيان 3/440(2/43)
أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله، فهو طاغوت. (1)
(ب) منزلته من التوحيد العلمي الخبري: - الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية، لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أرباباً لمتبعيهم، فقال سبحانه: - {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، آية 31]. (2) "
وكما يقول محمد رشيد رضا – في بيان معنى الشرك في الربوبية -: -
"هو إسناد الخلق والتدبير إلى غير الله تعالى معه، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم عن غيره، أي غير كتابه ووحيه الذي بلغه عنه رسله. (3)
ويقول ابن حزم – عند قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ...}الآية -: - "لما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم، ويحلون ما أحلوا، كانت هذه ربوبية صحيحة، وعبادة صحيحة، وقد دانوا بها، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله وعبادة، وهذا هو الشرك بلا خلاف. (4) "
__________
(1) انظر : أعلام الموقعين 1/49 ، 50 وانظر رسالة معنى الطاغوت لمحمد بن عبدالوهاب (مجموعة التوحيد) ص 260 ، وفتاوي اللجنة الدائمة 1/542 .
(2) انظر المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين 1/33
(3) تفسير المنار 2/55 ، وانظر تفسير المنار 3/326 .
(4) الفصل 3/266(2/44)
ويقول ابن تيمية – في هذا الشأن -: - " وقد قال الله تعالى: - {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، آية 31]، وفي حديث عدي بن حاتم – وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذي وغيرهما – وكان قد قدم على النبي صلى الله علي وسلم وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية، قال: فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم
ص299
الله فتحلونه؟ قال فقلت: بلى قال: فتلك عبادتهم "(1) وكذلك قال أبو البختري: أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله، فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية...
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون الله، فهذه عبادة الرجال، وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله: - {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) "
كما أن حقيقة الرضا بالله رباً توجب إفراد الله تعالى بالحكم، واختصاصه تعالى بالخلق والأمر، حيث قال سبحانه: - {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف، آية 54]، وقال سبحانه: - {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [ آل عمران، آية 154]، فالأمر كله لله تعالى وحده، سواء كان هذا الأمر أمراً كونياً قدرياً، أو شرعياً دينيا. (3)
__________
(1) أخرجه الترمذي ح (3095) ، والبيهقي ( 10/116) وحسنه الألباني في "غاية المرام" (6)
(2) مجموع الفتاوى 7/67
(3) انظر : تحكيم الشريعة لصلاح الصاوي ص 18-21 ، ورسالة ضوابط التكفير ص116(2/45)
يقول العز بن عبدالسلام (1): - " وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه... وكذلك لا حكم إلا له. (2) "
ويقول عبدالرحمن السعدي: - " فإن الرب، والإله هو الذي له الحكم القدري، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي، وهو الذي يؤله ويعبد وحده لا
ص300
شريك له، ويطاع طاعة مطلقة فلا يعصى بحيث تكون الطاعات كلها تبعاً لطاعته.(3) "
إضافة إلى ذلك، فإن " الحكم " من أسماء الله تعالى الحسنى، فقد قال صلى الله عليه وسلم:- " إن الله هو الحكم وإليه الحكم.(4) "
وقال تعالى: - {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام، آية 114].
وقال سبحانه: - {فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف، آية 87].
وقال عز وجل:- {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين، آية 8 ].
وإن الإيمان بهذا الاسم يوجب التحاكم إلى شرع الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: - {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف، آية 26]، وقال سبحانه: - {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى، آية 10].
وقد بين الله تعالى – في آيات كثيرة – صفات من يستحق أن يكون الحكم له... كما قال الشنقيطي مبيناً ذلك:-
__________
(1) هو أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام السلمي الدمشقي الشافعي ، سلطان العلماء الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر ، كان فقيهاً مفسراً ، ولي الخطابه بدمشق ، له مؤلفات ، توفي بالقاهرة سنة 660 هـ .
انظر : طبقات الشافعية 8/209 ، البداية والنهاية 13/235 .
(2) قواعد الأحكام 2/134 ،135 .
(3) القول السديد ص 102 .
(4) أخرجه أبو داود ح (4955) ، والنسائي (8/226 ، 227) والبيهقي (10/145)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (8/237).
انظر : زاد المعاد 2/335 .(2/46)
" فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع، قوله تعالى: - {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ثم قال مبيناً صفات من له الحكم:- {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {10}فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى، آيات 10-12].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومخترعهما، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً...؟
ص301
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقلبوا تشريعاً من كافر خسيس حقير جاهل.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:- {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف، آية 26].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السموات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات، وبصره بكل المبصرات؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:- {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص، آية 88].(2/47)
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد وأن كل شيء هالك إلا وجهه؟ وأن الخلائق يرجعون إليه؟ تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته.
ومنها قوله تعالى:-
{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام، آية 57]. فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين؟.
ومنها قوله تعالى:-
{قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس، آية 59].
فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه؟ لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم؟
سبحانه جل وعلا أن يكون له شريك في التحليل والتحريم.(1) "
(ج) منزلته من توحيد الاتباع - والمقصود بتوحيد الاتباع تحقيق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوحيد الاتباع هو توحيد الرسول بالتحكيم والتسليم.
ص302
والإنقياد والإذعان (2)، وإذا كان الأمر كذلك فلا شك أن الحكم بما أنزل الله هو توحيد الاتباع.
قال الله تعالى:- {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء، آية 65].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: - " يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهراً وباطنه.(3) "
__________
(1) أضواء البيان 7/163 – 168 = باختصار .
(2) انظر شرح العقيدة الطحاوية 1/228 .
(3) تفسير ابن كثير 3/211 .(2/48)
ويقول ابن القيم عن هذه الآية:- " أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم، وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض.(1)
كما أن الحكم بما أنزل الله تعالى هو تحقيق للرضى بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبياً، ولذا يقول ابن القيم:- " وأما الرضى بنبيه رسولاً: فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبته، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان، ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، ولا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه.(2) "
بل إن الحكم بما أنزل الله تعالى هو معنى شهادة أم محمداً رسول الله، وكما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: " ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا
ص303
بما شرع.(3) "
__________
(1) التبيان في أقسام القرآن ص 270 .
(2) مدارج السالكين 2/172 ، 173 .
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/190 ، وانظر تيسير العزيز الحميد لسليمان السليمان بن عبد الله ص 554 ، 555.(2/49)
ولذا يقرر الشيخ محمد بن إبراهيم أن تحكيم شرع الله تعالى وحده هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله بقوله: - " " وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتبع المحكم ما جاء به فقط، ولا جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع.(1) "
(د) منزلته من الإيمان:- يقول عز وجل: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {60}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا {61}فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء، آية 59 – 62].
ويقول سبحانه: - {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء، آية 65].
__________
(1) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (رسالة تحكيم القوانين) 12/251 .(2/50)
من خلال هذه الآيات الكريمات ندرك منزلة تحكيم شرع الله تعالى من الإيمان، فلقد عد الشارع هذا التحكيم إيماناً كما قال تعالى: - {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}
يقول ابن حزم: - " فسمى الله تعالى تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم إيماناً، وأخبر الله تعالى أنه لا إيمان إلا ذلك، ومع أن لا يوجد في الصدر حرج مما قضي، فصح يقيناً أن الإيمان عمل وعقد وقول؛ لأن التحكيم عمل، ولا يكون
ص304
إلا مع القول، ومع عدم الحرج في الصدر وهو عقد (1) "
ويقول ابن تيمية: - " فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة، أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما شجر بينهم من أمور الدين أو الدنيا، وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه.(2)
__________
(1) الدرة ص 338 .
(2) مجموع الفتاوى 28/471 ، وانظر مجموع الفتاوى 35/363 ، 407 .(2/51)
ويقول الشوكاني عند تفسيره لقوله تعالى:- {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ... الآية}:- " وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود، وترجف له الأفئدة، فإنه أولاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال:- {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ} فضم إلى التحكيم أمراً آخر. وهو عدم وجود حرج: أي حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس، ثم لم يكتف بهذا كله، بل ضم إليه قوله {وَيُسَلِّمُواْ} [أي يذعنوا وينقادوا ظاهراً وباطناً، ثم لم يكتف بذلك، بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال} {تَسْلِيمًا} فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضى عليه، ويسلم لحكم الله وشرعه تسليماً لا يخالطه رد، ولا تشوبه مخالفة.(1) "
وتحكيم شرع الله تعالى ورد النزاع إلى نصوص الوحيين شرط في الإيمان، كما قال الله تعالى:- {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء، آية 59].
ولذا يقول ابن القيم:-
" إن قوله {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقة وجله، جليه وخفيه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافياً لم يأمر بالرد إليه، إذ
ص305
__________
(1) فتح القدير للشوكاني 1/484 .(2/52)
من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع ومنها أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإن انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم، وأن عاقبته أحسن عاقبة.(1) "
ويقول ابن كثير:-
"فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله، وشهد له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى:- {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر.(2) "
وإذا كان التحاكم إلى شرع الله تعالى شرطاً في الإيمان، فإن التحاكم إلى غير هذا الشرع – وهو حكم الطاغوت والجاهلية – ينافي الإيمان، وهو من علامات النفاق، وقد سبق أن أوردنا كلام محمد رشيد رضا حيث يقول عند قوله تعالى:- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء، آية 60]:-
" والآية ناطقة بأن من صد وأعرض عن حكم الله ورسوله عمداً، ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقاً لا يعتد بما يزعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام.(3) "
__________
(1) أعلام الموقعين 1/49 ، 50 .
(2) تفسير ابن كثير 3/209 .
(3) تفسير المنار 5/227 .(2/53)
ويقول الشيخ السعدي – في هذا الصدد -: " الرد إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان.. فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما جاء في الآية: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ..} الآية، فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه، في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن، واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك.(1) "
ص306
ويؤكد سيد قطب (2) على أن عدم تحكيم الشريعة الإسلامية لا يجتمع مع الإيمان، فيقول رحمه الله عند وقوفه على قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة، آية 43]: - " فهي كبيرة مستنكرة أن يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم بشريعة الله، وعندهم – إلى جانب هذا – التوارة فيها شريعة الله فيتطابق حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عندهم في التوارة، مما جاء القرآن مصدقاُ ومهيمناً عليه، ثم يتولون من بعد ذلك ويعرضون، سواء كان التولي بعدم التزام الحكم، أو بعدم الرضا به. ولا يكتفي السياق بالاستنكار، ولكن يقرر الحكم الإسلامي في مثل هذا الموقف {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [فما يمكن أن يجتمع الإيمان، وعدم تحكيم شريعة الله، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة، والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم " مؤمنون، ثم لا يحكمون بشريعة الله في حياتهم، أو لا يرضون حكمها إذا طبق عليهم.. إنما يدعون دعوى كاذبة، وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} .(3) "
__________
(1) تفسير السعدي 2/90 = باختصار .
(2) سيد قطب بن إبراهيم ، مفكر إسلامي كبير ، وأديب بليغ ، له جهود ظاهرة في الإصلاح ، وصاحب مؤلفات ، توفي مقتولاً سنة 1387 هـ .
انظر الأعلام 3/147 .
(3) في ظلال القرآن 2/894 ،895 .(2/54)
ومما كتبه الشيخ محمد بن إبراهيم في هذا المقام قوله: - " إن قوله تعالى: - {يَزْعُمُونَ} تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه.(1) "
ويقرر الشنقيطي أن متبعي المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، ويسوق الأدلة على ذلك، ومنها قوله: - " ومن أصرح الأدلة في هذا أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله،
ص307
يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب، وذلك في قوله تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ...} الآية.(2) "
إضافة إلى ذلك فإن الإيمان قول وعمل، فهو يتضمن تصديقاً وانقياداً، فكما يجب على الخلق أن يصدقوا الرسل عليهم السلام فيما أخبروا، فعليهم أن يطيعوهم فيما أمروا، كما قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [النساء، آية 64].
ولذا يقول محمد بن نصر المروزي في تعريف الإيمان: " الإيمان بالله: أن توحده، وتصدق به بالقلب واللسان، وتخضع له، ولأمره، باعطاء العزم للأداء لما أمره، مجانباً للاستنكاف، والاستكبار، والمعاندة، فإذا اتبعت ما جاء به، أديت الفرائض، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في الخيرات.(3) "
__________
(1) رسالة تحكيم القوانين ص 2 .
(2) أضواء البيان 4/83 وانظر الحاكمية في أضواء البيان للسديس ص 58 .
(3) تعظيم قدر الصلاة 1/392 ، 393 .(2/55)
ولا شك أن تحكيم الشريعة انقياد وخضوع لدين الله تعالى، وإذا كان كذلك فإن عدم تحكيم هذه الشريعة كفر إباء ورد وامتناع وإن كان مصدقاً بها، فالكفر لا يختص بالتكذيب فحسب كما زعمت المرجئة.
(هـ) وفي ختام هذا العرض نشير إلى أن تحكيم الشريعة استجابة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ففيه الحياة والصلاح والخير، كما قال الله تعالى:- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال، آية 24].
يقول الشيخ السعدي: - " قوله: {إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} وصف ملازم، لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلوب والروح، والروح بعبودية الله تعالى، ولزوم طاعته، وطاعة رسوله على الدوام.(1) "
ص308
وإن رفض هذه الشريعة وعدم الاستجابة لها اتباع للهوى، فهو ضلال شنيع في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة، يقول تعالى:- {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص، آية 50].
ويقول سبحانه: - {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص آية 26].
ويقول عز وجل: - {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء، آية 14].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: -
__________
(1) تفسير السعدي 3/125 .(2/56)
" أي لكونه غير ما حكم الله به، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.(1) "
ولقد جاءت نصوص الوحيين محذرة من التحاكم إلى غير ما أنزل الله تعالى، فقال سبحانه:- {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة، آية 49].
يقول الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الأزهري (2): - فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله فيه، ونهاه عن اتباع أهوائهم لما فيه من مخالفة المنزل إليه، وحذره أن يفتنوه فيحولوا بينه وبين بعض ما أنزل عليه، وأعلمه أنهم إن تولوا عن الحكم الذي أنزله الله إليه فإنما يريد أن يصيبهم ويبتليهم بسبب بعض ذنوبهم. فعلم منه أن التولي عن حكم الله وحكم رسوله إلى
ص309
حكم الأهواء سبب لإصابة الله بالمصائب (3) "
ويحكي ابن القيم شيئاً من عواقب تنحية حكم الله تعالى فيقول: -
__________
(1) عمدة التفسير 3/125 .
(2) هو أبو هبة الله إسماعيل بن إبراهيم الخطيب الحسني الأسعردي الأزهري السلفي ، لم أعثر له على ترجمة ، ولكنه كان معاصراً لمحمد منير بن عبده آغا الدمشقي (ت1367 هـ)
انظر : نموذج من الأعمال الخيرية لمحمد منير آغا ص 291 ، والأعلام 7/310 .
(3) تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن ص 40 ، وانظر ص 22 ، وانظر مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم 2/53 .(2/57)
" لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربى فيها الصغير وهرم عليها الكبير...(1)
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:- " يا معشر المهاجرين: خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلن بكم – وذكر منها -: - وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم.(2) "
وفي رواية: - " وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر (3) "
وفي هذا يقول ابن تيمية: - " وإذا خرج ولاة الأمر عن هذا (حكم الكتاب والسنة) فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم، قال صلى الله عليه وسلم:- " ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم " وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول / كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا، ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيده الله ونصره، ويحتسب مسلك من خذله الله وأهانه.(4) "
ص310
__________
(1) الفوائد ص 42 ، 43 .
(2) أخرجه ابن ماجه 2/1333 ح (4019) ، والحاكم (4/540) ، والبيهقي (3/346) وقال البوصيري في (الزوائد) :- :هذا حديث صالح للعمل به .." وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب " (1/321) . وانظر الصحيحة (106)
(3) أخرجه الطبراني في الكبير وقال المنذري : - " وسنده قريب من الحسن ، وله شواهد " وحسنه الألباني في صحيح الترغيب " (1/321) .
(4) مجموع الفتاوى 35/387 .(2/58)
وصدق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الناظر إلى واقع المسلمين – الآن – يرى ما وقع في تلك البلاد من المصائب والشرور، ومن الفرقة والعداوة فيما بينهم، وكذا التقاتل والتناحر، كما ظهر الفقر والتدهور الاقتصادي، مع أن في بلاد المسلمين – كما هو معلوم – أعظم الثروات وبمختلف الأنواع، وأعظم سبب في ذلك هو تنحية شرع الله، والتحاكم إلى الطاغوت والله المستعان.(1)
ص311
2- متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله تعالى ناقضاً من نواقض الإيمان؟
إذا تقرر أن التشريع من خصائص ربوبية الله تعالى، فالحلال ما حلله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله رسوله، فليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرع في دين الله تعالى، بل الواجب اتباع هذه الشريعة. قال تعالى: - {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف، آية 3].
كما يتعين الكفر بالطاغوت، وذلك بعدم التحاكم إليه واعتقاد بطلانه والبراءة منه. قال تعالى:- {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} [البقرة، آية 256].
إن الإيمان اليقيني يوجب الانقياد لحكم الله تعالى الذي هو أحسن الأحكام على الإطلاق كما هو حال المؤمنين الصادقين الموقنين، قال تعالى: - {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة، آية 50].
وقال عز وجل: - {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب، آية 36].
__________
(1) انظر مثلاً لمعرفة آثار هذه القوانين : رسالة الكتاب والسنة يجب أن يكون مصدر القوانين في مصر للشيخ أحمد شاكر ، وبحث " وجوب تطبيق الشريعة " للشيخ مناع القطان .(2/59)
وأما من تحاكم إلى الطاغوت أو حكم الجاهلية، وهو يدعي الإيمان، فهذه دعوى كاذبة كما هو شأن المنافقين المذكورين في قوله تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء، آية 60].
وقد سمى الله تعالى الذين يحكمون بغير شرعه كفاراً، وظالمين، وفاسقين.
فقال سبحانه: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة، آية 44].
وقال تعالى: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة، آية 45].
وقال عز وجل: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [ المائدة، آية 47].
ص312
ويكون الحكم بغير ما أنزل الله تعالى كفراً ناقلاً عن الملة، وناقضاً من نواقض الإيمان في عدة صور وحالات، نتحدث عن بعضها على النحو التالي:-
(أ) من شرع غير ما أنزل الله تعالى:-
قد تقرر- بداهة – وجوب إفراد الله تعالى بالحكم والتشريع {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف، آية 54]، فإذا كان الله تعالى هو المتفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة لا شريك له في هذه الصفات، فهو سبحانه – أيضاً – وحده المتفرد بالتشريع والتحليل والتحريم، فالدين لا يكون إلا ما شرعه الله تعالى، وليس لأحد أن يشرع شيئاً ما جاء عن الله تعالى، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالتشريع حق خالص لله وحده لا شريك له. من نازعه في شيء منه فهو مشرك، لقوله تعالى: - {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى، آية 21].(2/60)
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: - " أي هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم والعبادات الباطلة والأموال الفاسدة.(1) "
وسمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء (2)، فقال سبحانه: - {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [ الأنعام، آية 137].
وقال عز وجل: - {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، آية 31].
فهؤلاء الأحبار والرهبان الذين شرعوا غير تشريع الله تعالى كفار، ولا شك في
ص313
كفرهم؛ لأنهم نازعوا الله تعالى في ربوبيته، وبدلوا دين الله وشرعه.(3)
وإذا كانت متابعة أحكام المشرعين غير ما شرعه الله، تعتبر شركاً، وقد حكم الله على هؤلاء الأتباع بالشرك، كما قال سبحانه: - {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام، آية 121](4) فكيف بحال هؤلاء المشرعين؟
ويقول عز وجل: - {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ} [التوبة، آية 37].
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/113 .
(2) انظر : أضواء البيان للشنقيطي 4/83 ، 7/173 .
(3) انظر : الشريعة الإلهية ص 179- 182 .
(4) انظر : تفسير ابن كثير 2/163 ، فتاوى ابن تيمية 7/70 ، أضواء البيان للشنقيطي 3/440 .(2/61)
يقول ابن حزم عن هذه الآية: " وبحكم اللغة التي نزل بها القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون ألبته إلا منه لا من غيره، فصح أن النسيء كفر، وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله. (1) " وهؤلاء المشرعون ما لم يأذن به الله تعالى، إنما وضعوا تلك الأحكام الطاغوتية لاعتقادهم أنها أصلح وأنفع للخلق وهذه ردة عن الإسلام، بل إن اعتبار شيء من تلك الأحكام ولو في أقل القليل عدم رضا بحكم الله ورسوله، فهو كفر ناقل عن الملة (2) إضافة إلى أن هذا التشريع يعد تجويزاً وتسويغاً للخروج على الشرع المنزل، ومن سوغ الخروج على هذه الشريعة فهو كافر بالإجماع. (3)
" إن طواغيت البشر – قديماً وحديثاً – قد نازعوا الله في حق الأمر والنهي والتشريع بغير سلطان من الله تعالى، فادعاه الأحبار والرهبان لأنفسهم فأحلوا به الحرام، وحرموا به الحلال، واستطالوا به على عباد الله، وصاروا بذلك أرباباً من دون الله، ثم نازعهم الملوك في هذا الحق حتى اقتسموا السلطة مع هؤلاء الأحبار والرهبان، ثم جاء العلمانيون فنزعوا الحق من هؤلاء وهؤلاء، ونقلوه إلى هيئة تمثل الأمة أو الشعب، أطلق عليها اسم البرلمان، أو مجلس النواب... (4) "
ص314
__________
(1) الفصل 3/245
(2) انظر : فتاوى الشيخ محمد بن ابراهيم 12/500 ، والمجموع الثمين لابن عثيمين 1/36
(3) انظر : فتاوى ابن تيمية 27/58 ، 59 ، 28/524 ، البداية لابن كثير 13/119
(4) نظرية السيادة ، وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية لصلاح الصاوي ص 19 ،20(2/62)
وغالب الأنظمة التي تحكم بلاد المسلمين – من خلال استقراء دساتيرها – إنما هو انسلاخ من عقيدة إفراد الله تعالى وحده بالتشريع، حيث جعلت التشريع والسيادة للأمة أو الشعب، وربما جعلت الحاكم مشاركاً في سلطة التشريع، وقد يستقل بالتشريع في بعض الأحوال، وكل ذلك تمرد على حقيقة الإسلام التي توجب الانقياد والقبول لدين الله تعالى، والله المستعان. (1)
يقول د. صلاح الصاوي – عن تلك الأوضاع -: -
" إن الحالة التي تواجهها مجتمعاتنا المعاصرة هي حالة الإنكار على الإسلام أن تكون له صلة بشؤون الدولة، والحجر عليه ابتداء أن تتدخل شرائعه لتنظيم هذه الجوانب، وتقرير الحق في التشريع المطلق في هذه الأمور للبرلمانات والمجالس التشريعية.
إننا أمام قوم يدينون بالحق في السيادة العليا والتشريع المطلق للمجالس التشريعية، فالحلال ما أحلته، والحرام ما حرمته، والواجب ما أوجبته، والنظام ما شرعته، فلا يجرم فعل إلا بقانون منها، ولا يعاقب عليه إلا بقانون منها، ولا اعتبار إلا للنصوص الصادرة منها...
هذه المحنة التي نواجهها اليوم، والتي لا يصلح لدفعها ترقيع جزئي بإلغاء بعض المواد، والنص على اخرى، وإنما يصلحه أن نبدأ بتقرير السيادة المطلقة والحاكمية العليا للشريعة الإسلامية، والنص على أن كل ما يتعارض معها من القوانين أو اللوائح فهو باطل. (2) "
لقد وصل امتهان الشريعة الإلهية ونبذها – في بعض تلك الدساتير – إلى حد أنهم جعلوا هذه الشريعة الربانية مصدراً ثانوياً من مصادر القانون، فتأتي الشريعة متأخرة بعد التشريع الوضعي، والعرف، كما أنهم يجاهرون صراحة بحق التشريع لغير الله تعالى، بحيث أن نصوص الشريعة لا تكتسب صفة القانون عندهم لو أرادوا العمل بتلك النصوص إلا بصدورها عمن يملك حق التشريع، وهي السلطة التى يمنحها الدستور الاختصاص بذلك!
ص315
__________
(1) انظر المرجع السابق ص 12-16
(2) تحكيم الشريعة ودعاوي العلمانية لصلاح الصاوي ص 81(2/63)
أما كون هذه الشريعة منزلة من عند الله تعالى فلا يعطيها صفة القانون عندهم فضلاً أن تكون حاكمة ومهيمنة، بل إن العرف يلغي أي مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية! (1)
كما أن هذه القوانين والدساتير الطاغوتية عند أصحابها قد صار لها من الحرمة والتعظيم كما لو كانت شريعة إلهية، يبين ذلك الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله – فيقول: -
" هذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداء الإسلام... هي في حقيقتها دين آخر جعلوه ديناً للمسلمين بدلاً من دينهم النقي السامي، لأنهم أوجبوا عليهم طاعتها وغرسوا في قلوبهم حبها وتقديسها والعصبية لها، حتى لقد تجري على الألسنة والأقلام كثيراً من الكلمات " تقديس القانون "، " قدسية القضاء "، "حرم المحكمة "، وأمثال ذلك من الكلمات... ثم صاروا يطلقون على هذه القوانين ودراساتها كلمة " الفقه الفقيه "، " والتشريع " و" المشرع "...وما إلى ذلك من الكلمات التي يطلقها علماء الإسلام على الشريعة وعلمائها.(2) "
إن شريعة الله تعالى يجب أن تكون وحدها حاكمة ومهيمنة على غيرها، وأن تكون المصدر الوحيد للتشريع، فلا ننخدع بما يقوله بعضهم بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، لما تتضمنه هذه العبارة الشركية من الإقرار والرضا بمصادر أخرى للتشريع، ولو كانت مصادر فرعية.(3)
يقول الله تعالى:- {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} [المائدة، آية 49].
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في كتاب حد الإسلام وحقيقة الإيمان لعبد المجيد الشاذلي ص 365 – 377 .
(2) عمدة التفسير لابن كثير 3/124 = باختصار .
(3) انظر : ضوابط التكفير لعبد الله القرني ص 115 ، 116 ، وأضواء على ركن من التوحيد لعبد العزيز بن حامد ص 20.(2/64)
(ب) أن يجحد أو ينكر الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى أحقية حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في رواية لابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة، آية 44]
ص316
حيث قال: - " من جحد ما أنزل الله فقد كفر "(1) "
وهو اختيار ابن جرير في تفسيره.(2) "
إن جحود حكم الله تعالى هو اعتراض على شرح الله تعالى، وتكذيب لنصوص الوحيين، وقد أجمع العلماء على تكفير من أنكر حكماً معلوماً من الدين بالضرورة، وحكى هذا الإجماع جمع كثير من أهل العلم كما جاء مفصلاً فيما مضى.(3)
فمن ذلك ما قاله أبو يعلى: -
" ومن اعتقد تحليل ما حرم الله بالنص الصريح، أو من رسوله، أو أجمع المسلمون على تحريمه فهو كافر، كمن أباح شرب الخمر ومنع الصلاة والصيام والزكاة، وكذلك من اعتقد تحريم شيء حلله الله وأباحه بالنص الصريح، أو أباحه رسوله أو المسلمون مع العلم بذلك، فهو كافر كمن حرم النكاح والبيع والشراء على الوجه الذي أباحه الله عز وجل، والوجه فيه أن في ذلك تكذيباً لله تعالى ولرسوله في خبره، وتكذيباً للمسلمين في خبرهم، ومن فعل ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين.(4) "
__________
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره 6/149 .
(2) انظر : الموضع السابق ، وتفسير ابن كثير 2/58 .
(3) انظر : الفصل الرابع من الباب الأول وعنوان هذا الفصل : " إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة "
(4) المعتمد في أصول الدين ص 271 ، 272 .(2/65)
ويقول ابن تيمية: - " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً بالإتفاق.(1)"
ويقول الشنقيطي: - " من لم يحكم بما أنزل الله معارضة للرسل، وإبطالاً لأحكام الله، فظلمه وفسقه وكفره كلها مخرج عن المللة.(2) "
ص317
ولا يغيب عنا أن هذا الجحود في حد ذاته يعد كفرا، ولو لم يكن معه تحكيم لغير الشريعة، فالجاحد كافر سواء حكم بغير ما أنزل الله أو لم يحكم.
وعندما ساق ابن القيم أقوال العلماء في تأويل قوله تعالى: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة، آية 44]، كان مما قاله – في هذا الشأن – " ومنهم من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو قول عكرمة، وهو تأويل مرجوح، فإن نفس جحوده كفر، سواء حكم به أو لم يحكم.(3) "
(ج) أن يفضل حكم الطاغوت على حكم الله تعالى، سواء كان هذا التفضيل مطلقاً، أو مقيداً في بعض المسائل.
وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذه الحالة ضمن نواقض الإسلام، فقال: - " من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هدية، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر.(4) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 3/267 ، وانظر فتاوى محمد بن إبراهيم (رسالة تحكيم القوانين) 12/288 ، وكتاب حد الإسلام للشاذلي ص 437 ، ومقال " تحكيم الشريعة " لمناع القطان ، مجلة البحوث العدد الأول ، ص 67 ، ورسالة ضوابط التكفير للقرني ص 19 ، 20.
(2) أضواء البيان 2/104 .
(3) مدارج السالكين 1/336 .
(4) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/386 .(2/66)
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم: - " من اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمة وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقاً، أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال، فلا ريب أنه كفر لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان، وصرف نحاتة الأفكار على حكم الحكيم الحميد.(1) "
لقد قام التتار – بعد إسقاطهم لدولة الخلافة العباسية – بإظهار هذا الكفر، وذلك بتقديم حكم الياسق وفرضه على المسلمين ونبذ حكم الله تعالى، وقد أشار ابن كثير إلى هذا الواقع عند تفسيره لقوله تعالى،: - {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة، آية 50].
ص318
فقال: - " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم سنكز خان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير...(2) "
__________
(1) فتاوى محمد بن إبراهيم (رسالة تحكيم القوانين) 12/288 ، وانظر تفسير المنار 6/404 ، 407 وفتاوى ابن باز 1/273 ، والمجموع الثمين لابن عثيمين 1/36 .
(2) عمدة التفسير 4/171 – 173 وانظر البداية لابن كثير 13،119 = باختصار .(2/67)
ويقول محمود الآلوسي في تفسيره: - " لاشك في كفر من يستحسن القانون ويفضله على الشرع ويقول هو أوفق بالحكمة وأصلح للأمة، ويتميز غيظاً ويتقصف غضباً إذا قيل له في أمر: أمر الشرع فيه كذا، كما شاهدنا ذلك في بعض من خذلهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم...
فلا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بيّن المخالفة للشرع منها (أي القوانين) ويقدمه على الأحكام الشرعية منتقصاً لها.(1) "
ويتحدث إسماعيل الأزهري عما يزعمه من لا خلاق له من الإيمان، ممن يتهمون هذه الشريعة الكاملة بالنقص... فكان مما قاله:-
" من ظن أن هذه الشريعة الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها، فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر غير رسولهم الذي يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث.
وكذلك من ظن أن شيئاً من أحكام الكتاب والسنة النبوية الثابتة الصحيحة بخلاف السياسة والمصلحة التي يقتضيها نظام الدنيا فهو كافر قطعاً (2) "
ص319
ويحكي محمود شاكر هذه الحالة فيقول: - " والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتياج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل أسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها.(3) "
__________
(1) روح المعاني 28/20 ، 21 = باختصار .
(2) تحذير أهل الإيمان ص 80، 81 ، وانظر ص 22 .
(3) عمدة التفسير لابن كثير 4/157 .(2/68)
لقد سلك خصوم هذا الدين مسالك متنوعة في سبيل استنقاص الشريعة الإسلامية (1)، وتفضيل حكم الطاغوت على حكم الله تعالى، فتراهم يصفون الإسلام بأنه ديانة روحية، فلا علاقة له بشؤون الحياة الأخرى كالمعاملات والقضاء والسياسة والحدود ونحوها.
يقول أحمد شاكر (2) عن هؤلاء القوم وحكم الله تعالى فيهم:- " والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة، في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم وأحكام القتال والغنائم والأسرى وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص فمن زعم أنه دين عبادة فقط (3) فقد أنكر كل هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أو تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه، وما قال هذا مسلم ولا يقوله، ومن قاله فقد خرج عن الإسلام جملة، ورفضه كله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.(4) "
ص320
كما يزعم هؤلاء الخصوم أن في تحكيم الشريعة إقرار للاستبداد السياسي، والإرهاب الفكري، ويستدلون على ذلك بما حصل لأوروبا أثناء تسلط رجال الكنيسة، وتارة ينعقون بدعوى جمود الشريعة، وعدم مواكبتها للحياة المتطورة المتجددة، وربما وصفوا أحكام الحدود والقصاص بالقسوة التي لا تلائم إنسانية هذا العصر.
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في : الإسلام والعلمانية ليوسف القرضاوي ، والعلمانية لسفر الحوالي وتهافت العلمانية في الصحافة العربية لسالم البهنساوي ، وتحكيم الشريعة لصلاح الصاوي .
(2) أحمد بن محمد شاكر ، من علماء الحديث في هذا العصر ، التحق بالأزهر ، وتولى القضاء ، واشتغل بتأليف الكتب ، توفي سنة 1377 هـ .
انظر : الأعلام 1/253 .
(3) أي لا صلة له بشؤون الحياة الأخرى كالمعاملات والحدود .. إلخ .
(4) الكتاب والسنة يجب أن يكون مصدر القوانين في مصر ، ص 98 ، وانظر : - عمدة التفسير لابن كثير (تعليق لأحمد شاكر) 2/171 ، 172 ، وانظر : موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين لمصطفى صبري 4/292 .(2/69)
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم في هذا الشأن: - " وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته، باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصاً، أو ظاهراً، أو استنباطاً أو غير ذلك، علمه من علمه، وجهله من جهله.(1) "
ويقول الشنقيطي في هذا الصدد:-
"وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض، فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض، كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث، وكل دعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان ونحو ذلك.
فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها، وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً.(2)
ومما يلحق بمسألة تفضيل حكم الجاهلية على حكم الله تعالى: من لم يحكم بما أنزل الله تعالى استخفافاً واستهانة بحكم الله تعالى، واحتقاراً له (3)، فمن وقع في ذلك فقد خرج عن الملة؛ لأن ذلك استهزاء بدين الله تعالى، ومن ثم فهو ردة عن الإسلام، كما هو ظاهر في النصوص التالية:-
ص321
يقول تعالى: - {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65، 66].
__________
(1) فتاوي محمد بن إبراهيم (رسالة تحكيم القوانين) 12/288 .
(2) أضواء البيان 4/84 ، 85 .
(3) غالباً ما يكون هناك تلازم بين من يفضل حكم الطاغوت على حكم الله ، وبين من يستهين بالشريعة أو يستهزئ بها .(2/70)
يقول الفخر الرازي:- " إن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله، وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف، والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال.(1)
ويقول تعالى: - {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة، آية 12].
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: - " استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين إذ هو كافر، والطعن أن ينسب إليه مالا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين، لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه.(2) "
ويقول ابن أبي العز الحنفي: - " إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر (3) "
ومما قاله أبو السعود (4) عند تفسيره لقوله تعالى: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة، آية 44]:-
" ومن لم يحكم بما أنزل الله كائناً من كان دون المخاطبين خاصة، فإنهم مندرجون فيه اندراجاً أولياً أي من لم يحكم بذلك مستهيناً منكراً... فأولئك هم الكافرون لاستهانتهم به.(5) ”
ص322
__________
(1) التفسير الكبير 16/124 .
(2) تفسير القرطبي 8/82 ج
(3) شرح العقيدة الطحاوية 2/446 .
(4) هو محمد بن محمد العمادي الحنفي ، فقيه ، مفسر ، شاعر ، تقلد القضاء ، والفتيا في تركيا ، له مصنفات كثيرة ، توفي بالقسطنطينية سنة 982 هـ .
انظر : شذرات الذهب 8/398 ، البدر الطالع 1/361 .
(5) تفسير أبي السعود 2/64 ، وانظر : تفسير البيضاوي 1/276 ، ومحاسن التأويل للقاسمي 6/215 .(2/71)
(د) من ساوى بين حكم الله تعالى وحكم الطاغوت، واعتقد التماثل بينهما، فهذا كفر ناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق والمناقضة والمعاندة لقوله تعالى: - {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى، آية 11](1)
ولقوله عز وجل:- {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة آية 22]
إن دعوى المساواة بين الحكم الإلهي والحكم الوضعي تنقص للرب جل جلاله، وغلو وطغيان في أحكام البشر، وشرك بالله تعالى، لما في هذه المساواة من اتخاذ الأنداد مع الله تعالى، يقول، تعالى: - {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل، آية 74].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: - " أي لا تجعلوا له أنداداً وأشباهاً وأمثالاً، " إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون " أي أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو، وأنتم بجهلكم تشركون به غيره.(2)
ويقول تبارك وتعالى: - {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} [البقرة، آية 165]. فمن أحب من دون الله شيئاً، كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً فهذا ند في المحبة، لا في الخلق والربوبية، فإن أحداً من أهل الأرض لم يثبت هذا الند.(3)
وإذا كان الأمر كذلك فلا أضل ولا أسوأ حالاً من هؤلاء الذين ساروا بين حكم الله تعالى الذي لا معقب لحكمه، وبين حكم البشر العاجزين القاصرين.
__________
(1) انظر فتاوى محمد بن إبراهيم (رسالة تحكيم القوانين) 12/289 ، ومقالة تحكيم الشريعة للقطان ، مجلة البحوث ، العدد الأول ، ص 68 .
(2) تفسير ابن كثير 2/559 .
(3) انظر : مدارج السالكين 3/20 ، وطريق الهجرتين ص 239 ، 240 .(2/72)
يقول ابن تيمية:- " من طلب أن يطاع مع الله، فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، والله سبحانه أمر أن لا يعبد إلا إياه، وأن لا يكون الدين إلا له.(1) "
وأخبر تعالى عن أهل النار أنهم يقولون – وهم في النار – لآلهتهم: - {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء، آية 97، 98].
ص323
يقول ابن القيم عن هذه الآية: - " ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق والإماتة والإحياء والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوى من خلق من تراب برب الأرباب؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب؟ وكيف يسوي الفقير بالذات الضعيف بالذات، العاجز بالذات، المحتاج بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم، بالغني بالذات، القادر بالذات الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟ فأي ظلم أقبح من هذا؟ وأي حكم أشد جوراً منه؟ (2) " فإذا كانت التسوية بين الله تعالى وبين خلقه في عبادة من العبادات يعتبر شركاً وتنديداً يناقض توحيد العبادة، فكيف بمن سوى حكم الله تعالى بحكم البشر؟
وعلى كل فإن الرضا بالله تعالى رباً يوجب إفراد الله تعالى بالحكم واختصاصه تعالى بالأمر – قدراً أو شرعاً – كما قال سبحانه: - {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف، آية 54]، فالحكم بالطاغوت ولو في أقل القليل ينافي هذا التوحيد، فما بالك بمن سوى حكم البشر بالحكم الإلهي المنزل؟
__________
(1) مجموع الفتاوى 14/329 .
(2) الجواب الكافي ص 177 ، وانظر مفتاح دار السعادة 2/20 ، وطريق الهجرتين ص 296 .(2/73)
(هـ) أن يجوز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله، أو يعتقد أن الحكم بما أنزل الله تعالى غير واجب، وأنه مخير فيه، فهذا كفر مناقض للإيمان، لتجويزه ما علم بالنصوص الصريحة القطعية تحريمه، حيث لم يعتقد وجوب إفراد الله تعالى بالحكم، وهو إن لم يكن جاحداً لحكم الله، لكن ما دام أنه لا يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله تعالى وحده، وذلك بتجويز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، فهذا كفر ناقل عن الملة.(1)
- يقول القرطبي: - " إن حكم بما عنده على أنه من عند الله تعالى، فهو تبديل له يوجب الكفر.(2) "
ص324
ويوضح ابن تيمية هذه المسألة قائلاً: - " ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله كسواليف البادية، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر.
فإن كثيراً من الناس أسلموا، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالاً.(3) "
__________
(1) انظر : فتاوى محمد بن إبراهيم 12/288 ،280 ، وأضواء على ركن من التوحيد لعبد العزيز بن حامد ص 43 ، وعمدة التفسير لابن كثير (تعليق لمحمود شاكر) 4/158 ، وفتاوى ابن باز 1/275 ، 137 .
(2) تفسير القرطبي 6/191 ، وانظر تفسير الطبري 6/146 .
(3) منهاج السنة النبوية 5/130 .(2/74)
وبتأمل هذا النص لمهم، يظهر لنا أن من جوزوا الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وقد عرفوا ذلك فلم يلتزموا، فإن هذا يعتبر استحلالاً وردة عن الإسلام، ولو لم يتضمن تكذيباً.(1)
ويقول أيضاً: - " ومن حكم بما يخالف شرع الله ورسوله، وهو يعلم ذلك، فهو من جنس التتار الذي يقدمون حكم الياسق على حكم الله ورسوله.(2)
وإذا كان هذا الصنف من جنس التتار..، فكذلك هم من جنس اليهود عندما حكموا بما يخالف حكم الله تعالى وهم يعلمون ذلك، كما جاء مبيناً في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه حيث قال: - مُرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً (3) مجلوداً فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوارة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكن كثر في أشرافنا، فكنا إذا
ص325
__________
(1) انظر رسالة ضوابط التكفير ص 228 .
(2) مجموعة الفتاوى 35/407، وانظر الفتاوى 27/58 ، 59 ، 28/524 .
(3) أي مسوداً الوجه ، من الحممة : الفحمة .(2/75)
أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يقول أئتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروه، فأنزل الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} في الكفار كلها.(1)
فمناط الكفر – هاهنا – ما تلبس به هؤلاء اليهود من تجويز الحكم بغير ما أنزل الله وتبديل حكم الله تعالى، فاليهود كفروا لتغييرهم حكم الله تعالى، فجعلوا التحميم والجلد بدلاً من الرجم، وهم يعلمون خطأهم.(2)
ويقول ابن القيم – عن هذه الحالة -: - " إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر.(3) "
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: - " من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر.(4) "
__________
(1) أخرجه مسلم ، ك الحدود (3/1327) ح (1700) ، وأحمد (4/286) .
(2) انظر : رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 219 ، وحد الإسلام للشاذلي ص 381 ، 382 .
(3) مدارج السالكين 1/337 ، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 2/446 .
(4) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/387 .(2/76)
وإضافة إلى ذلك فإن تجويز الحكم بما يخالف حكم الله تعالى هو قبول للأحكام والتكاليف من غير الله تعالى ولو كان في بعضها، أو اليسير منها...، وهذا مناقض لحقيقة الإسلام لله وحده، فمن استسلم لله تعالى ولغيره كان مشركاً، والاستسلام لله وحده، يتضمن عبادته وحده، وطاعته وحده. (1)
ص326
وتوضيحاً لذلك فنورد ما سطره الأستاذ محمد قطب من أمثلة في تجويز الحكم بما يخالف حكم الله تعالى، حيث يقول: -
" كيف نزعم لأنفسنا أننا آمنا بأنه لا إله إلا الله – أي لا معبود (2) إلا الله، ولا حاكم إلا الله – إذا كنا نقول – بلسان الحال أو بلسان المقال – إنك يا رب قد قلت إن الربا حرام، أما نحن فنقول إنه مدار الحياة الاقتصادية المعاصرة، ولا يقوم الاقتصاد إلا به، ولذلك فنحن نقره ونتداوله، ونجعله هو الأصل في تداول المال! وإنك يا رب قد قلت إن الزنا حرام، وحددت له عقوبة معينة في كتابك المنزل، وفي سنة رسولك صلى الله عليه وسلم، أما نحن فنرى أنه ليس هناك جريمة تستحق العقاب أصلاً إذا تم الأمر برضى الطرفين ولم تكن المرأة قاصراً، وإذا وقعت – من وجهة نظرنا – جريمة فعقوبتها عندنا أمر آخر غير ما قررت! وإنك قد قلت يا رب إن عقوبة السرقة قطع اليد، أما نحن فنرى أن هذه عقوبة وحشية بربرية، إنما عقوبة السرقة عندنا هي السجن، وهي عقوبة مهذبة تليق بإنسان القرن العشرين! (3) "
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/91 ومجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب (التفسير) 4/344 .
(2) يقصد : أي لا معبود بحق إلا الله تعالى .
(3) حول تطبيق الشريعة ص 20 ، 21(2/77)
(و) من لم يحكم بما أنزل الله تعالى إباء وامتناعاً فهو كافر خارج عن الملة، وإن لم يجحد أو يكذب حكم الله تعالى(1)، وإذا كانت الحالة السابقة تجويز وقبول الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، فهذه الحالة لا تعدو أن تكون في المقابل من تلك الحالة.
فمن المعلوم – عند السلف الصالح – أن الإيمان قول وعمل، وتصديق وانقياد، فكما يجب على الخلق أن يصدقوا الرسل عليهم السلام فيما أخبروا، فعليهم أن يطيعوهم فيما أمروا، فلا يتحقق الإيمان مع ترك الانقياد والطاعة، قال تعالى:- {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} [النساء، آية 64]، فالإيمان ليس مجرد التصديق – كما زعمت المرجئة -، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة
ص327
والانقياد. (2)
كما أن الكفر عدم الإيمان – باتفاق المسلمين (3) -، ومن ثم ليس تكذيباً فحسب، بل قد يكون امتناعاً عن اتباع الرسول مع العلم بصدقه... (4)، وقد يكون هذا الكفر إعراضاً أو شكاً، وعلى هذا يكون من ترك الحكم بما أنزل الله إباءً ورداً فهو كافر مرتد، وإن كان مقراً بهذا الحكم، لأن الإيمان يقتضي وجوب الانقياد والطاعة والإذعان لحكم الله تعالى ونوضح ذلك من خلال ما يلي: -
- مما أورده ابن جرير رحمه الله عند شرحه لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه: مر بي عمي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فسألته، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب عنق رجل تزوج امرأة أبيه (5) "
__________
(1) وهذه الحالة تعتبر مثالاً على كفر الإباء والاستكبار ، حيث يعد هذا الكفر هو الغالب على الأمم الكافرة بالرسل عليهم السلام . انظر مدارج السالكين 1/337
(2) انظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 54
(3) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 20/86
(4) انظر السنة لعبدالله بن أحمد بن حنبل 1/347 ,348 ، درء تعارض النقل والعقل 1/242 .
(5) سبق تخريجه ص 251(2/78)
حيث يقول ابن جرير: -: فكان فعله (أي نكاحه زوجة أبيه) من أدل الدليل على تكذيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أتاه عن الله تعالى ذكره، وجحوده آية محكمة في تنزيله... فكان بذلك من فعله حكم القتل وضرب العنق، فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله وضرب عنقه؛ لأن ذلك كان سنته في المرتد عن الإسلام. (1) "
ومما قاله الطحاوي في شرح هذا الحديث: - "إن ذلك المتزوج فعل ما فعل على الاستحلال، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، فصار بذلك مرتداً،فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل به ما يفعل بالمرتد. (2) "
فتأمل – رحمك الله – نص هذا الحديث وما قرره ابن جرير والطحاوي... عندما بينا أن الجحود أو الاستحلال قد يظهر في عمل من الأعمال.. وهذا
ص328
كفر رد وإباء، فليس الجحود أو الاستحلال (القلبي) واقعاً بنطق اللسان فقط. (3)
حتى قال محمد رشيد رضا: - " إن حقيقة الجحد هو إنكار الحق بالفعل. (4) "
ويقول ابن حزم بعبارة شاملة: - " كل من خرج إلى الكفر بوجه من الوجوه، فلابد من أن يكون مكذباً بشيء مما لا يصح الإسلام إلا به، أو رد أمراً من أمور الله عز وجل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب بذلك الشيء الذي رده أو كذب به.. (5) "
__________
(1) تهذيب الآثار 2/148 وانظر الفتاوى لابن تيمية 20/91
(2) شرح معاني الآثار 3/149
(3) قارن ما سبق ذكره .. بما تراه واقعاً مشاهداً في مجتمعات المسلمين ، عندما "جوزت" تلك الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين أوكار الربا والزنا والخمر ونحوها من المحرمات الظاهرة ، ومنحت التراخيص لتلك الموبقات ، بل "فرضت" تلك المحرمات القطعية ، وقامت على رعايتها وحمايتها ، ليس هذا فحسب ، بل و"سوغت" تلك الأنظمة موالاة الكفار باسم المصالح المشتركة والتعايش السلمي " .. والله المستعان .
(4) مجلة المنار مجلد 25 ، جزء 1 ، ص 21
(5) الفصل 3/266(2/79)
إضافة إلى ذلك فإن من رد وامتنع عن قبول حكم الله تعالى فهو كافر بالإجماع، وإن كان مقراً بهذا الحكم، يقول إسحاق بن راهويه: - " وقد أجمع العلماء على أن من دفع شيئاً أنزله الله.. وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر (1) "
يقول الجصاص (2) في تفسير قوله تعالى: - {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء، آية 65]: -
" وفي هذه الآية دلالة على أن من ردّ شيئاً من أوامر الله تعالى، أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من خارج من الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم...(3) "
ص329
كما يقرر ابن تيمية اتفاق العلماء على وجوب قتال الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، وإن كانت مقرة بتلك الشريعة، فيقول:-
" كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة... فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة... فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملاً بالكتاب والسنة.(4)
__________
(1) التمهيد لابن عبد البر = 4/226 = باختصار .
(2) أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي ، فقيه مجتهد ، استوطن بغداد ، رفض القضاء ، صاحب تعبد وزهد ، له مؤلفات ، توفي سنة 370 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 16/340 ، شذرات الذهب 3/71 .
(3) أحكام القرآن للجصاص 2/213 ، 214 .
(4) مجموع الفتاوي 28/502 .(2/80)
-إلى أن قال -: - " فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال والخمر، والزنا، والميسر، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء.(1) "
ويفصل ابن تيمية هذه المسألة تفصيلاً شافياً عندما بين أن من أبى وامتنع عن حكم الله تعالى – وإن كان مقراً بهذا الحكم – فهو أشد كفراً ممن جحد هذا الحكم، فيقول:-
" إن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه، واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه، فهذا ليس بكافر، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه، أو أنه حرمه، لكن امتنع من قبول هذا التحريم، وأبى أن يذعن لله وينقاد، فهو إما جاحد أو معاند، ولهذا قالوا: من عصى الله مستكبراً كإبليس كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفره الخوارج، فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقاً بأن الله ربه، فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق، وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاً فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل، والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في
ص330
__________
(1) مجموع الفتاوي 28/502 وانظر الفتاوى 28/519 .(2/81)
الإيمان بالربوبية، ولخلل في الإيمان بالرسالة، ويكون جحداً محضاً غير مبني على مقدمة، وتارة يعلم أن الله حرمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم، فهذا أشد كفراً ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء، إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً لغرض النفس، وحقيقته كفر، هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقر بذلك، ولا ألتزمه وأبغض هذا الحق وأنفر منه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع.(1) "
وتأكيداً لما قرر ابن تيمية، نورد ما قاله النسفي في تفسيره لقوله تعالى: - {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} [الأحزاب، آية 36]: -
" فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق.(2) "
ومما يمكن إلحاقه بالإباء والامتناع: الإعراض والصدود عن حكم الله تعالى، ونوضح ذلك بما يلي: -
__________
(1) الصارم المسلول ص 521 ، 522 ، وانظر مجموع الفتاوي 20/97 .
(2) تفسير النسفي (ضمن كتاب مجموعة من التفاسير) 4/119 .(2/82)
يقول تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {60}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء، آية 60، 61].
يقول ابن تيمية: - " بين سبحانه أن من دُعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فصد عن رسوله كان منافقاً، وليس بمؤمن... فالنفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره.(1)
ص331
ويقول ابن القيم: - " فجعل الإعراض عما جاء به الرسول، والالتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق، كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدور بحكمه، والتسليم لما حكم رضىً واختياراً ومحبة، فهذا حقيقة الإيمان، وذلك الإعراض حقيقة النفاق.(2) "
ويقول البيضاوي في تفسيره لقوله تعالى: - {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران، آية 32]: - " وإنما لم يقل لا يحبهم لقصد العموم، والدلالة على أن التولي كفر، وأنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله، وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين.(3) "
ويقول ابن تيمية عند قوله تعالى: - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام، آية 157]:-
" فذكر سبحانه أنه يجزي الصادف (4)
__________
(1) الصارم المسلول ص 33 = باختصار .
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/353 .
(3) تفسير البيضاوي 1/156 ، وانظر تفسير ابن كثير 1/338 .
(4) صدف عنه : أي أعرض إعراضاً شديداً ،
انظر : مفردات الأصفهاني ص 408 .(2/83)
عن آياته مطلقاً – سواء كان مكذباً أو لم يكن – سوء العذاب بما كانوا يصدفون، يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سواء اعتقد كذبه أو استكبر عن الإيمان به، أو أعرض عنه اتباعاً لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذب بما جاء به فهو كافر. (1) "
(ز) من ضمن الحالات التي يكون الحكم بغير ما أنزل الله تعالى كفراً، ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم: -
" وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع (2) ومكابرة لأحكامه،
ص332
ومشاقة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً ومراجع ومستندات.
فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 1/56 .
(2) قول الشيخ رحمه الله عن اتخاذ تلك المحاكم الوضعية .. " وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع .. " وذلك لما يتضمنه إنشاء محاكم غير شرعية من الأضرار المتعدية ، والشرور العامة ، والانحرافات الشاملة ، والتي غلبت على المسلمين بسبب إقامة تلك المحاكم القانونية ، إضافة إلى ذلك فإن اتخاذ تلك المحاكم الجاهلية قد يوقع في أكثر من ناقض من نواقض الإيمان من تلك الحالات التي سبق ذكرها ، ومن ثم كانت هذه الحالة أشمل وأعظم من قبلها .(2/84)
فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة؟(1) "
ومما يلحق بهذه الحالة – ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم – أيضاً:-
" ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها " سلموهم " يتوارثون ذلك فيهم، ويحكمون به، ويحملون على التحاكم إليه عند النزاع بقاء على أحكام الجاهلية، وإعراضاً ورغبة عن حكم الله ورسوله.(2) "
(ح) من خلال عرض الحالات السابقة الموجبة للردة، يظهر حكم المشرع – كما في الحالة الأولى – والحاكم بغير ما أنزل الله – كما في بقية الحالات – ويبقى موضوع المحكوم بتلك القوانين الطاغوتية، فإن كفره متعلق بقبوله لغير شريعة الله، ورضاه بها، إضافة إلى ذلك فإن متابعة هذا المحكوم وقبوله لغير الشريعة من خلال تحاكمه إلى غير ما أنزل الله تعالى، لا يخلو من امتناع عن قبول حكم الله وحده، أو تجويز للحكم بالطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، أو تفضيل لحكم الطاغوت على حكم الله تعالى، أو التسوية بينهما...
ص333
__________
(1) فتاوى محمد بن إبراهيم " رسالة تحكيم القوانين " 12/289 ، 290 .
(2) المرجع السابق 12/290 ، 291 ، وانظر 12/ 280 ، 281 ، 292 ، والدرر السنية 8/241 ، 271 – 275 .(2/85)
يقول الله تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {60}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء، آية 60، 61].
ومما قاله أبو السعود في تفسير هذه الآية: - " التعجيب والاستقباح على ذكر إرادة التحاكم {إلى الطاغوت} دون نفسه (أي التحاكم) للتنبيه على أن إرادته مما يقضي منه العجب، ولا ينبغي أن يدخل تحت الوقوع فما ظنك بنفسه؟(1) "
كما دلت الآية على أن إرادة التحاكم إلى الطاغوت إيمان بهذا الطاغوت، ومن ثم فهو كفر بالله تعالى، حيث إن الله تعالى قد فرض على عباده الكفر بالطاغوت، والإيمان به تعالى، حيث قال سبحانه: - {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} [البقرة، آية 256].
ويقول عز وجل: - {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، آية 31].
يقول ابن تيمية – في معنى هذه الآية -:-
" هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين: -
__________
(1) تفسير أبي السعود 1/724 .(2/86)
أحدهما: - أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله، فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله(1) اتباعاً لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً – وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم – فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك، دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.
ص334
والثاني: - أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما ثبت في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: - " إنما الطاعة في المعروف " (2) "(3) "
وأمر آخر وهو أن المحكوم بتلك القوانين راضياً بها فهو كافر، لأن الراضي بالكفر كفاعله يدل على ذلك قوله تعالى: -
{وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} [النساء، آية 140].
__________
(1) مما يجدر التنبيه عليه هاهنا : أن هذا الاستحلال أو الجحود ليس تكذيباً باللسان فقط – كما هو عند المرجئة – فإن هذا الاستحلال أو الجحود يعتبر في حد ذاته كفراً ، وإن لم يكن هناك متابعة أو طاعة لأولئك الأرباب ، ومناط الكفر – هاهنا – هو القبول والمتابعة في هذا التبديل ...
(2) أخرجه البخاري ، ك الأحكام (13/122) ح (7145) ومسلم ، ك الإمارة (3/1469) ح (1840) .
(3) مجموع الفتاوي 7/70.(2/87)
يقول القرطبي: - " قوله تعالى: - {فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره} أي غير الكفر {إنكم إذاً مثلهم} فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر...(1) "
ويقول محمد رشيد رضا: - " إنكم إذاً مثلهم " هذا تعليل للنهي أي إنكم إن قعدتم معهم تكونون مثلهم، وشركاء لهم في كفرهم؛ لأنكم أقررتموهم عليه ورضيتموه لهم، ولا يجتمع الإيمان بالشيء، وإقرار الكفر والاستهزاء به ويؤخذ من الآية أن إقرار الكفر بالاختيار كفر، ويؤخذ منه أن إقرار المنكر والسكوت عليه منكر وهذا منصوص عليه أيضاً، وأن إنكار الشيء يمنع فُشّوه بين من ينكرونه حتماً، فليعتبر بهذا أهل هذا الزمان، ويتأملوا كيف يمكن الجمع بين الكفر والإيمان، أو بين الطاعة والعصيان، فإن كثيراً من الملحدين في البلاد المتفرنجة يخوضون في آيات الله، ويستهزئون بالدين، ويقرهم على ذلك ويسكت لهم من لم يصل إلى درجة كفرهم، لضعف الإيمان والعياذ بالله تعالى.(2)
ص335
ويقول تعالى: - {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور، آية 47].
يقول النسفي – في تفسيرها -: - {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي المخلصين، وهو إشارة إلى القائلين آمنا وأطعنا، لا إلى الفريق المتولي وحده، وفيه إعلام من الله بأن جميعهم منتفٍ عنهم الإيمان لاعتقادهم ما يعتقد هؤلاء، والإعراض، وإن كان من بعضهم فالرضا بالإعراض من كلهم.(3)
وقال ابن تيمية: - " إن من الرضا ما هو كفر، كرضا الكفار بالشرك، وقتل الأنبياء وتكذيبهم، ورضاهم بما يسخطه الله ويكرهه.
__________
(1) تفسير القرطبي 5/418 ، وانظر تفسير البيضاوي 1/251 .
(2) تفسير المنار 5/464 .
(3) تفسير النسفي (ضمن مجموعة من التفاسير ) 4/409 .(2/88)
قال تعالى: - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد، آية 28]. فمن اتبع ما يسخط الله برضاه وعمله فقد أسخط الله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: - (إن الخطيئة إذا عملت في الأرض كان من غاب عنها ورضيها كمن شهدها، ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب عنها وأنكرها)(1)
3-متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أصغر؟
يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أصغر إذا حكم الحاكم أو القاضي بغير ما أنزل الله تعالى في واقعة ما (2)مع اعتقاده وجوب الحكم بما أنزل الله تعالى في هذه القضية المعينة فعدل عنه عصياناً وهوى وشهوة، مع اعترافه بأنه آثم في ذلك، مستحق للعقوبة.
ونسوق جملة من كلام أهل العلم في هذه المسألة:-
ص336
يقول القرطبي: - " إن حكم به (أي بغير ما أنزل الله) هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين. (3) "
ويقول ابن تيمية: - " أما من كان ملتزماً لحكم الله ورسوله باطناً وظاهراً، لكن عصى واتبع هواه، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة. (4) "
__________
(1) الاستقامة 2/121 , 122 .
(2) فهو ليس منهجاً ثابتاً أو قانوناً دائماً ، فمثل هذا يعد إباءً ورفضاً لحكم الشريعة – كما سبق توضيحه ، بل هو ملتزم لشرع الله في الجملة كما قال ابن تيمية ... ، وكما يقول الشيخ محمد بن إبراهيم : - " وأما الذي قيل فيه كفر دون كفر ، إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاص وأن حكم الله هو الحق ، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها، أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر ، وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل " أ . هـ من فتاوي محمد بن إبراهيم 12/280 ،وانظر : فتاوي محمد بن إبراهيم 6/189 .
(3) تفسير القرطبي6/191
(4) منهاج السنة 5/131(2/89)
يقول ابن القيم: - " إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. (1) "
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم: - "وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يخرج عن الملة.. وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى. وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة فإن معصيته عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس وغيرها، فإن معصيةً سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمها كفراً. (2) "
ويقول الشنقيطي: - " من لم يحكم بما أنزل الله معتقداً أنه مرتكب حراماً، فاعل قبيحاً، فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة. (3) "
وعلى مثل هذه الحالة – التي ذكرت آنفاً – يحمل ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعطاء وطاووس وأبي مجلز رحمهم الله تعالى.
ص337
__________
(1) مدارج السالكين 1/336 ، وانظر شرح الطحاوية 2/446
(2) فتاوى محمد بن ابراهيم ، (رسالة تحكيم القوانين) 12/291
(3) أضواء البيان 2/104 ، وانظر الأضواء 2/109 ، وانظر : تحكيم الشريعة للصاوي ص 71 ورسالة ضوابط التكفير للقرني ص 217 ، ومقال وجوب تحكيم الشريعة لمناع القطان ، مجلة البحوث ع "1" ص 69 ، وكتاب أضواء على ركن من التوحيد لعبدالعزيز بن حامد ص 42 . 43 ، ومختصر الغياثي لمحمد الحسني ص 56 .(2/90)
فقد جاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة، آية 44]، أنه قال: - " ليس بالكفر الذي يذهبون إليه؟ "(1) وفي رواية أنه قال:- " كفر لا ينقل عن الملة. " (2) وقال عطاء (3): - "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. (4)
وقال طاووس (5): - " ليس بكفر ينقل عن الملة. " (6)
" وعندما جاء نفر من الإباضية لأبي مجلز (7)، فقالوا له: يقول الله " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ "، "فأولئك هم الظالمون "، " فأولئك هم الفاسقون"، قال أبو مجلز: - إنهم يعملون بما يعملون بما يعملون – يعني الأمراء – ويعلمون أنه ذنب... (8) "
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/313 ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/521
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/313 ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/522
(3) أبو محمد عطاء بن أبي رباح القرشي مولاهم ، المكي ، من خيار التابعين ، فقيه مفسر ، كان مفتي مكة ، صاحب عبادة وزهد ، مات بمكة سنة 115 هـ .
انظر : البداية والنهاية 9/306، سير أعلام النبلاء 5/78.
(4) أخرجه ابن جرير في تفسيره 6/148 ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/522
(5) أبو عبدالرحمن طاووس بن كيسان اليمني ، من سادات التابعين ، جمع بين العلم والعبادة ، ولازم ابن عباس رضي الله عنهما ، توفي سنة 106 هـ .
…انظر : البداية والنهاية 9/235، سير أعلام النبلاء 5/38.…
(6) أخرجه ابن جرير في تفسيره 6/148 ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/522
(7) لاحق بن حميد السدوسي البصري ، تابعي ثقة ، قدم خراسان ، روى عن نفر من الصحابة ، مات سنة 106 هـ .
انظر : تهذيب التهذيب 11/172
(8) أخرجه ابن جرير في تفسيره 6/146(2/91)
ومما يجدر التذكير به – في هذا المقام – أن هناك من حمل مقالة ابن عباس رضي الله عنهما – وغيرها من الآثار السابقة – ما لا تحتمله، فأساؤا فهمها، والمراد منها، ولذا فلابد من التنبيه على ما يلي: -
ص338
(أ) أن ظاهر سياق تلك الآيات في قوله تعالى: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وما بعدها يدل على أن المعنى المقصود أصلاً بالكفر والظلم والفسق فيها هو الكفر الأكبر، والظلم الأكبر، والفسق الأكبر (1)
كما يوضح ذلك سبب نزولها، حيث أنها نزلت في اليهود – كما سبق بيانه - (2) ثم إن هؤلاء الأئمة كابن عباس وغيره عمموا بها غير الكفار (3)، وقالوا: كفر دون كفر، مع أن سياق الآيات يدل على أنها في الكفار، كما جاء في آخر رواية البراء بن عازب رضي الله عنه – في سبب نزول تلك الآيات -: - " في الكفار كلها "
(ب) أن ما قاله أبو مجلز رحمه الله للإباضية (4)، كان جواباً عما أرادوه من إلزامه بتكفير الأمراء؛ لأنهم في معسكر السلطان...، ولأنهم ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عنه..
ومما قاله محمود شاكر – في المقصود من كلام أبي مجلز -: -
__________
(1) ويؤكد ذلك أن الكفر – ها هنا – جاء معرفاً باللام ، وفرق بين الكفر المعرف باللام ، وبين كفر منكر ..
انظر : اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1/208
(2) انظر مجموع الروايات في سبب نزول تلك الآيات في تفسير ابن جرير 6/140 – 148
(3) انظر ما كتبه الشاطبي في الموافقات 3/285 في بيان سر تعميم السلف لمثل هذه الآية ونحوها ...
(4) 10) الإباضية : - فرقة من فرق الخوارج ، تنسب إلى عبدالله بن إباض التميمي ، وهم خوارج في الاعتقاد ، لكنهم يقولون إن مرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة أو كفر نفاق – على خلاف بينهم – وهم طوائف متعددة .
…انظر : مقالات الإسلاميين 1/183، والملل والنحل 1/134.(2/92)
" اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة. وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون الكفر شريعة في بلاد الإسلام، فلما وقف على هذين الخبرين (1)، اتخذهما رأياً يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها، والعامل بها.
ص339
- إلى أن قال – لم يكن سؤالهم (2) عما احتج به مبتدعة زماننا، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير الله في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه...
ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة، ملزمة للقضاء بها، هذه واحدة، وأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة.(3) "
__________
(1) يعني قول أبي مجلز ، والذي جاء في روايتين عند الطبري في تفسيره
(2) أي النفر من الإباضية
(3) عمدة التفسير لابن كثير لأحمد شاكر 4/156 , 157 = باختصار .(2/93)
ولعل مما يؤكد ذلك: " ما أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي مجلز: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: نعم، قالوا: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قال: نعم، قالوا: فهؤلاء يحكمون بما أنزل الله؟ قال: نعم، هو دينهم الذي به يحكمون، والذي به يتكلمون، وإليه يدعون، فإذا تركوا منه شيئاً، علموا أنه جور منهم، إنما هذه اليهود والنصارى والمشركون الذين لا يحكمون بما أنزل الله.(1) "
فينبغي أن يفهم كلام أبي مجلز – وكذا كلام ابن عباس رضي الله عنهما – على ظاهره، وحسب مناسبته بلا غلو، ولا جفاء، فلا نكون كالخوارج الذين جعلوا مطلق المخالفة الشرعية كفراً أكبر، وفي نفس الوقت لا نكون مع الطرف المقابل لهم ممن جعلوا رفض الشريعة وتنحيتها والإعراض عنها كفراً أصغر، فلم يقصد ابن عباس – وكذا أبو مجلز – من أبى وامتنع عن الالتزام بشرع الله تعالى، وتحاكم إلى قوانين الجاهلية، فلم يكن في تلك القرون السابقة من يفعل مثل ذلك،
ص340
فكلام السلف الصالح – في معصية كفر دون كفر – يدور حول قضية مفردة، أو واقعة معينة في الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، عن هوى وشهوة، مع اعتقاد حرمة هذا الفعل وإثمه، وليس منهجاً عاماً، وهذا أمر ظاهر توضحه مقالة ابن تيمية – التي سبق ذكرها -: - " أما من كان ملتزماً لحكم الله ورسوله باطناً وظاهراً، لكن عصى واتبع هواه، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة.(2)"
__________
(1) الدر المنثور للسيوطي 3/88 .
(2) منهاج السنة 5/131 .(2/94)
وكذا ما قاله ابن القيم:- " إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر.(1) "
4- من خلال العرض السابق، نذكر – بإيجاز – أوجه كون الحكم بغير ما أنزل الله تعالى ناقضاً من نواقض الإيمان على النحو التالي:-
(أ) لا يصح الإيمان إلا بالكفر بالطاغوت، فمن لم يكفر بالطاغوت، لم يؤمن بالله تعالى، وقد سمىّ الله تعالى الحكم بغير شرعه طاغوتاً، ومن ثم فالكفر بهذا الطاغوت وغيره من الطواغيت شرط الإيمان.(2)
يقول تعالى: - {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} [البقرة، آية 256].
ويقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء، آية 60].
إضافة إلى ذلك، فقوله تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ..} الآية، يدل على أن من تحاكم إلى غير ما أنزل الله تعالى فهو منافق لا يعتد بما يزعمه من الإيمان.
ص341
__________
(1) مدارج السالكين 1/336 ، ولمزيد من التفصيل في هذه المسألة . انظر : - رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 217 ، وأضواء على ركن من التوحيد لعبد العزيز بن حامد ص 36 – 43 ، وحد الإسلام وحقيقة الإيمان لعبد المجيد الشاذلي ص 406 – 414 ، ومختصر الغياثي لمحمد الحسني ص 46 – 60 ، وتحكيم الشريعة للصاوي ص 70 – 83 .
(2) انظر : مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/376 ، وتيسير العزيز الحميد ص 556 ، وأضواء البيان للشنقيطي 7/165 .(2/95)
(ب) أن اتباع أحكام المشرعين غير ما شرعه الله تعالى شرك بالله تعالى؛ لأن عبادة الله تقتضي إفراده عز وجل بالتحليل والتحريم، حيث يقول سبحانه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، آية 31]، فذكر الله أن متابعتهم وموافقتهم للأحبار بتحليل الحرام وتحريم الحلال شرك بقوله تعالى: - {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
وأمر آخر وهو أن إفراد الله عز وجل بالحكم والاتباع لشرعه هو معنى الاستسلام لله وحده. والانقياد له بالطاعة، فمن استسلم له تعالى ولغيره صار مشركاً، وقد سمى الله تعالى متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله مشركين... كما جاء في قوله تعالى: - {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام، آية 121]، فصرح وأكد بأنهم مشركون بطاعتهم واتباعهم لتشريع مخالف لما شرعه الله عز وجل.
كما أن الحكم بغير ما أنزل الله يناقض التوحيد العلمي الخبري، فإن لله تعالى وحده الخلق والأمر، يقول تعالى: - {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف، آية 54]، فالأمر كله لله وحده سواء كان أمراً كونياً قدرياً، أو أمراً شرعياً دينياً،
يقول الشنقيطي رحمه الله: - " لما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أو كونية قدرية، من خصائص الربوبية... كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع رباً، وأشركه مع الله.(1)
__________
(1) أضواء البيان 7/169 .(2/96)
و" الحكم " من أسماء الله تعالى الحسنى، والحكم بالطاغوت إلحاد في هذا الاسم، وتعطيل لتلك الصفة...(1).
(ج) أن الله عز وجل قد نفى الإيمان حتى يتحقق التحاكم إلى شرع الله وحده..قال تعالى: - {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء، آية 65].
يقول ابن حزم: - " فنص تعالى نصاً جلياً لا يحتمل تأويلاً، وأقسم تعالى
ص342
بنفسه أنه لا يؤمن أحد إلا من حكّم رسوله صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينه وبين غيره، ثم يسلم لما حكم به عليه السلام، ولا يجد في نفسه حرجاً مما قضى.(2) "
ولذا جعله تعالى شرطاً في الإيمان، فقال سبحانه: - {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء، آية 59].
وحيث إن الإيمان قول وعمل، فهو متضمن للتصديق والانقياد، فتحكيم الشريعة إيمان؛ لأنه انقياد وخضوع لدين الله تعالى، ورفض تحكيم هذه الشريعة والامتناع عن قبولها هو كفر إباء ورد. وهذا الإباء والامتناع يعود إما إلى خلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، وعدم التصديق بصفة من صفاته تعالى، أو إلى بغض وكره لحكم الله تعالى، يقول عز وجل: - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد، آية 9]، ويقول تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد، آية 28].
__________
(1) انظر : المبحث الثاني من الفصل الأول في الباب الأول : (إنكار اسم أو صفة لله عز وجل) .
(2) الفصل 3/263 وانظر : كتاب العقيدة وأثرها في بناء الجيل لعبد الله عزام ص 78 – 81 .(2/97)
يقول ابن حزم: - " أخبرنا تعالى أنه قد أحبط أعمالهم باتباعهم ما أسخطه وكراهيتهم رضوانه.(1) "
إضافة إلى أن الامتناع عن قبول حكم الله تعالى، هو رد ودفع لما أنزله الله تعالى، يقول إسحاق بن راهويه: - وقد أجمع العلماء على أن من دفع شيئاً أنزله الله... وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر.(2) "
(د) لا شك أن الحكم بغير ما أنزل الله تعالى معصية لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم.. يقول تعالى {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء، آية 14].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: - " أي لكونه غير ما حكم الله به، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.(3) "
ص343
ويقول ابن تيمية: -
" ولم يجيء إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار، كقوله تعالى: - {فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة، آية 90] (4) "
(هـ) أن إنكار حكم الله تعالى وجحوده هو اعتراض على شرع الله تعالى، وتكذيب لنصوص الوحيين، وإنكار لحكم معلوم من الدين بالضرورة كما سبق بيانه.(5)
(ز) أن تفضيل وتقديم حكم الطاغوت على حكم الله تعالى، طعن في أحكام الشريعة الإلهية وتنقص لهذه الشريعة الربانية الكاملة، كما لا يخلو هذا التفضيل من استهانة بآيات الله واستهزاء بهذا الدين، والاستهزاء بالدين، أو بشيء من القرآن، أو السنة كفر ناقل عن الملة، كما قال تعالى: -
__________
(1) الفصل 3/262 .
(2) التمهيد لابن عبد البر = باختصار 4/226 .
(3) عمدة تفسير ابن كثير ، لأحمد شاكر 3/125 .
(4) الصارم المسلول ص 46 .
(5) انظر : الفصل الرابع من الباب الأول : (إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة) .(2/98)
{قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65، 66]. كما أ، التسوية بين حكم البشر، وحكم رب البشر من أشنع أنواع الشرك والتنديد، حيث أخبر اتعالى عن أهل النار أنهم يقولون – وهم في النار – لآلهتهم: - {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء، آية 97، 98]. فإذا كانت التسوية بين الله تعالى وبين خلقه في عبادة من العبادات تعتبر شركاً يناقض التوحيد، فكيف بمن سوى حكم البشر بحكم الله تعالى؟
(ح) أن المحكوم بتلك القوانين الطاغوتية عن رضى واختيار هو كافر بذلك؛ لأن الراضي بالكفر كفاعله، كما قال تعالى: - {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء، آية 140].
يقول القرطبي: - فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي، ذ ظهر منهم منكر، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر.(1) "
ص344
المبحث الثالث
الإعراض التام عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به
1- نذكر في مطلع هذا المبحث، بأن الإيمان يتضمن طاعة وانقياداً، وتسليماً وقبولاً...كما قال محمد بن نصر المروزي – في معنى الإيمان:-
" الإيمان بالله: - أن توحده، وتصدق به بالقلب واللسان، وتخضع له ولأمره، بإعطاء العزم للأداء لما أمره، مجانباً للاستنكاف، والاستكبار، والمعاندة، فإذا فعلت ذلك لزمت محابه، واجتنبت مساخطه.
__________
(1) تفسير القرطبي 5/418 .(2/99)
- إلى أن قال – وإيمانك بمحمد صلى الله عليه وسلم إقرارك به، وتصديقك إياه، واتباعك ما جاء به، فإذا اتبعت ما جاء به، أديت الفرائض، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في الخيرات.(1) "
ويقول ابن تيمية:-
" من الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة، والصيام والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار، كقوله تعالى: - {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {42} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم، آية 42، 43] (2).
وإذا كان الإيمان يعد خضوعاً واستجابة وقبولاً لدين الله تعالى، فإن الإعراض ينافي ذلك ويضاده كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
2-نشرع في الحديث عن الإعراض... فنورد معناه في اللغة، ويقال: أعرض عنه، أي صد عنه وتولى عنه (3)
ص345
يقول الراغب الأصفهاني: - " وإذا قيل: أعرض عني، فمعناه ولى مبدياً عرضه.(4)
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة 1/392 ، 393 .
(2) مجموع الفتاوى 7/611 .
(3) انظر : اللسان 7/182 ، وترتيب القاموس للزاوي 3/196 ، ومختار الصحاح ص 425 ، ونزهة الأعين النواظر لابن الجوزي 1/216 ، 2/1 ، ومفردات الراغب ص 406 ، 408 ، 838 .
(4) المفردات ص 495 .(2/100)
" يقول الفيومي: - أعرضت عنه: أضربت ووليت عنه، وحقيقة جعل الهمزة للصيرورة أي أخذت عرضاً، أي جانباً غير الجانب الذي هو فيه.(1) (2)
__________
(1) المصباح المنير ص 478 .
(2) وبهذا يعلم أن الإعراض في اللغة هو بمعنى التولي والصدود .. وبعضهم يجعل الإعراض أشد وأبلغ من التولي (انظر تفسير المنار 3/266) ، والإعراض يكون بمعنى الترك ، لأن ترك الطاعة يعتبر تولياً ، كما قال تعالى : - " " قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين " " آل عمران ، آية 32 ، ولعل هذا يؤكد أن الإعراض ناقض عملي ، فإنه إذا كان تركاً فهو يعتبر فعلاً كما هو مقرر عند أهل الأصول . وأمر آخر يحسن هاهنا ذكره وهو أن ننبه على عدم الخلط بين الإعراض ، والاعتراض ، فالاعتراض إعراض مع مناقضة ومصادمة للنصوص الشرعية ، وصد عن سبيل الله تعالى ، يقول ابن القيم في بيان ذلك : - " إن الله سبحانه وصف المعرضين عن الوحي المعارضين له بعقولهم وآرائهم بالجهل والضلال والحيرة الشك والعمى والريب ، فلا يجوز وصفهم بالعلم والعقل والهدى ، ومنشأ ضلال هؤلاء من شيئين أحدهما : الإعراض عما جاء به الرسول ، والثاني معارضته بما يناقضه فمن ذلك نشأت الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة ، فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإيمان بالله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر أو غير ذلك فقد ناقضه وعارضه ... وهذا حال أهل الجهل المركب، ومن أعرض عما جاء به الرسول ولم يعرفه، ولم يتبينه، ولا عارضه بمعقول أو رأي فهو من أهل الجهل البسيط ، وهو أصل المركب " أ . هـ من الصواعق المرسلة 3/1131 ولما كان الاعتراض أعظم إثماً وأعم ضرراً من الإعراض ، كانت عاقبته أشد ، وعذابه أسوأ ، كما قال تعالى : - " " فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون " " الأنعام ،آية 157 . فمن أظهر الأقوال في معنى هذه الآية – كما يقول ابن كثير – ما قاله السدي : - " أي لم ينتفع بما جاء به الرسول ، ولا اتبع ما أرسل به ، ولا ترك غيره ، بل صدف عن اتباع آيات الله أي صرف الناس وصدهم عن ذلك "أهـ" من تفسير ابن كثير 2/184 ويدل على ذلك قوله تعالى : - " " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب " " النحل ، آية 8.(2/101)
"
والمقصود بالإعراض – هاهنا – والذي يعد ناقضاً من نواقض الإيمان العملية، والإعراض التام عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به، وهو التولي عن طاعة
ص346
الرسول والامتناع عن الإتباع، والصدود عن قبول حكم الشريعة، فإذا كان جنس العمل الظاهر من أصل الإيمان، فإن تركه وعدم الالتزام به إعراض كلي عن هذا العمل، ومن ثم فهو كفر مخرج عن الملة.
لكن يجب أن يعلم أن الإعراض ليس كله مما يخرج عن الملة، بل منه ما هو مخرج من الملة – كما ذكرنا – وهو الإعراض عن جنس العمل (الطاعة) والذي يعد شرطاً في صحة الإيمان، كما وضحه ابن تيمية قائلاً: -
" وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة، ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات.(1) "
وهناك إعراض لا يخرج من الملة، كأن يكون معه أصل الإيمان، لكنه يعرض عن فعل واجب من الواجبات الشرعية، وبهذا ندرك الفرق بين الإعراض الكلي عن جنس العمل الظاهر (2) (الطاعة أو الاتباع)، وبين الإعراض الجزئي عن بعض العمل، فالأول ينقض الإيمان وينفيه بالكلية، والآخر ينقص الإيمان، لكن لا ينفيه بالكلية.(3)
فهذا الإعراض الكلي أو التام مخرج عن الملة، ومن تلبس بهذا الإعراض فهو كافر، وإن كان يحسب أنه يحسن صنعاً، لأن من كان متمكناً ثم فرّط فأعرض عما جاء به الرسول فهو تارك للواجب.
يقول ابن تيمية – في هذه المسألة -: -
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/621 .
(2) ويلحق بهذا الإعراض ما دل الدليل على أن تاركه يكفر ... كالصلاة ، كما سيأتي تفصيلاً إن شاء الله .
(3) انظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/315 ،والدرر السنية 8/258 ، وإرشاد الطالب لابن سحمان ص 11 ، ومنهاج أهل الحق لابن سحمان ص 63 ، 64 ، ورسالة ضوابط التكفير للقرني ص 195 – 201 .(2/102)
" وأصل ضلال هؤلاء (الرافضة والجهمية) الإعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة، وابتغاء الهدى في خلاف ذلك، فمن كان هذا أصله فهو بعد بلاغ الرسالة كافر لا ريب فيه.(1) "
ص347
ويذكر ابن القيم الفرق بين المعرض المفرط وبين العاجز قائلاً:-
" كل من اعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلابد أن يقول يوم القيامة: - {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف، آية 38]
فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلاله إذا كان يحسب أنه على هدى، كما قال تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف، آية 30].
قيل لا عذر لهذا وأمثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى، فإذا ضل فإنما أتى من تفريطه وإعراضه،وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر، والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول، وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه...(2) "
ويقول أيضاً: - " إن العذاب يستحق بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إراداتها والعمل بها وبموجبها...(3) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 12/497 .
(2) مفتاح دار السعادة 1/43 ، 44 , وانظر هذه المسألة أكثر تفصيلاً وبياناً في طريق الهجرتين ص 412 .
(3) طريق الهجرتين ص 414 .(2/103)
ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى: - {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا {99} مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا {100} خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} [طه، آية 99- 101]: - " وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم وأهل الكتاب وغيرهم، كما قال: - {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام، آية 19] فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع، فمن اتبعه هدي، ومن خالفه وأعرض عنه ضل وشقي في الدنيا والنار موعده يوم القيامة...(1) "
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: -
" وأما من أعرض عن الهدى ودين الحق، ولم يرفع به رأساً بعد معرفته، أو مع تمكنه من معرفته، فالأدلة القرآنية والأحاديث النبوية دالة على دخول هؤلاء في الوعيد. قال تعالى: - {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى {123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه، آية 123 , 124](2) "
3-والآن نوجز حكم الإعراض عن دين الله تعالى، بأنه ينافي الإيمان ويضاده، كما قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور، آية 47].
والإعراض عن دين الله وشرعه هو حقيقة النفاق. يقول تعالى: - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء، آية 61].
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/160 .
(2) منهاج التأسيس ص 227 ، 228 .(2/104)
يقول ابن القيم عن هذه الآية: - " فجعل الإعراض عما جاء به الرسول والإلتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق، كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدور بحكمه، والتسليم لما حكم به رضىً واختياراً ومحبة، فهذا حقيقة الإيمان، وذلك الإعراض حقيقة النفاق.(1)
ويقول محمد رشيد رضا – في تفسير هذه الآية: - " والآية ناطقة بأن من صد وأعرض عن حكم الله ورسوله عمداً ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقاً لا يعتد بما يزعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام.(2) "
إضافة إلى ذلك، فإن المؤمنين أهل طاعة وانقياد، وأصحاب استجابة وتسليم أما الإعراض عن دين الله تعالى فهو من صفات الكافرين، وخصال المنافقين، كما جاء ذلك مفصلاً في آيات كثيرة من القرآن.
يقول الله تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} [آل عمران، آية 23].
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {47}وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} [النور، آية 47 , 48].
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف، آية 3].
ص349
{وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} [القمر، آية 3].
{فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى {14} لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى {15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل، آية، 14-16].
4- إن الإعراض عما جاء به الرسول ذنب عظيم، وإثم كبير، ولذا فإن له عواقب وخيمة، وآثار سيئة، نذكر منها ما يلي:-
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/353 .
(2) تفسير المنار 5/227 .(2/105)
(أ) يقول تعالى: -}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا {61}فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء، آية 61]، 62.
ويقول سبحانه: - {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة، آية 49].
فعلم من خلال هاتين الآيتين أن الإعراض عن دين الله سبب في وقوع البلايا والمصائب.(1)
(ب) ويقول عز وجل: - {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران، آية 63]. يقول البيضاوي في تفسير هذه الآية: - " وعيد لهم، ووضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن التولي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدين والاعتقاد المؤدي إلى فساد النفس، بل وإلى فساد العالم.(2) "
(ج) يقول تعالى:- {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا {125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه، آية 123 – 126].
يقول ابن تيمية:- " من أعرض عنه [أي الوحي} وإن لم يكذب به فإنه يكون يوم القيامة في العذاب المهين، وأن معيشته تكون ضنكا في هذه الحياة، وفي البرزخ، والآخرة، وهي المضنوكة النكدة المحشوة بأنواع الهموم والغموم والأحزان، كما أن الحياة الطيبة هي لمن آمن وعمل صالحاً.
__________
(1) انظر مختصر الصواعق لابن القيم 2/353 .
(2) تفسير البيضاوي 1/165 ، وانظر تفسير أبي السعود 1/498 .(2/106)
- إلى أن قال – وقد أمر آدم وبنوه من حين أهبط باتباع هداه الذي يوحيه إلى الأنبياء، فثبت أن علة الشرك كان من ترك اتباع الأنبياء والمرسلين فيما أمروا به من
ص350
التوحيد والدين.(1)
ويقول ابن كثير: - قوله : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غير هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} في الدنيا فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد.(2) "
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن هذه الآية -: - " ذكر الله لمن أعرض عن القرآن عقوبتين إحداهما: المعيشة الضنك، وفسرها السلف بنوعين، أحدهما: ضنك الدنيا، وهو أنه إن كان غنياً، سلط عليه خوف الفقر، وتعب القلب والبدن في جميع الدنيا حتى يأتيه الموت ولم يتهن بعيش.
الثاني: - الضنك في البرزخ وهو عذاب القبر، وفسر الضنك في الدنيا أيضاً بالجهل، فإن الشك والحيرة لهما من القلق وضيق الصدر ما لهما.(3) "
(د) يقول تعالى:- {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور، آية 63].
ومعنى يخالفون: - يعرضون ويصدون.(4)
ومما قاله ابن كثير في تفسير هذه الآية: - قوله تعالى {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}
أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو زندقة. " أو يصيبهم عذاب أليم " أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 20/107 = باختصار وانظر : 20/109 ، 112 .
(2) تفسير ابن كثير 3/164 .
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 4/266 ، 267 .
(4) انظر تفسير البيضاوي 2/136 ، وأضواء البيان 6/252 .
(5) تفسير ابن كثير 3/297 .(2/107)
(هـ) وقد أورد الشنقيطي جملة من عواقب الإعراض، عند تفسيره لقوله تعالى: - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف، آية 57].
فكان مما قاله رحمه الله: -
ص351
" وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أن الإعراض عن التذكرة بآيات الله من أعظم الظلم، قد زاد عليه في مواضع أخر بيان أشياء من العواقب الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن التذكرة، فمن نتائجه السيئة: ما ذكره هنا في أن صاحبه من أعظم الناس ظلماً، ومن نتائجه السيئة جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق، وعدم الاهتداء أبداً، فقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف، آية 57]، ومنها انتقام الله جل وعلا من المعرض عن التذكرة، كما قال تعالى: - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة، آية 22]، ومنها كون المعرض كالحمار كما قال تعالى {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ {49}كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} [المدثر، آية 49]، ومنها الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود كما قال تعالى: - {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [ فصلت، آية 13]، منها تقييض القرناء من الشياطين كما قال تعالى: - {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف، آية 36]. (1) "
5- وأما وجه كون هذا الإعراض من نواقض الإيمان فذلك لجملة من الاعتبارات نذكر منها ما يلي:-
__________
(1) أضواء البيان 4/142 ، 143 = باختصار .(2/108)
(أ)أن الله تعالى نفى الإيمان عمن أعرض وتولى عن دين الله عز وجل، يقول تعالى {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {47}وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} [النور، آية 47، 48].
يقول ابن حزم عن هذه الآيات: - " هذه الآيات محكمات لم تدع لأحد علقة يشغب بها، قد بين الله فيها صفة فعل أهل زماننا فإنهم يقولون: نحن المؤمنون بالله وبالرسول ونحن طائعون لهما، ثم يتولى طائفة منهم بعد هذا الإقرار فيخالفون ما وردهم عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، أولئك بنص حكم الله تعالى ليسوا مؤمنين.(1) "
ص352
ويقول ابن تيمية عن هذه الآيات وأمثالها: - " فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل وإن كان قد أتى بالقول، وقال تعالى: - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور، آية 62].
وقال: - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال، آية 2] ففي القرآن والسنة من نفى الإيمان لم يأت بالعمل مواضع كثيرة...(2) "
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام 1/92 .
(2) مجموع الفتاوى 7/142 ، وانظر 7/221 .(2/109)
ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآيات: - " يخبر تعالى عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، يقولون قولاً بألسنتهم: - {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}، أي يخالفون أقوالهم بأعمالهم فيقولون ما لا يفعلون، ولهذا قال تعالى: - {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية، أي إذا طلبوا إلى اتباع الهدى فيما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه.
- إلى أن قال – وأياً كان فهو كفر محض والله عليم بكل منهم وما هو منطو عليه من الصفات.(1)
مع أن بعض المفسرين يرى أن معنى الآية أبلغ مما سبق ذكره، حيث يقررون بأن الجميع منتف عنهم الإيمان، وإن كان الإعراض والتولي من بعضهم، وذلك بسبب تحقق الرضا بالإعراض من جميعهم، كما قال النسفي: -
" قوله {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي المخلصين، وهو إشارة إلى القائلين آمنا وأطعنا، لا إلى الفريق المتولي وحده، وفيه إعلام من الله بأن جميعهم منتف عنهم الإيمان، لاعتقادهم ما يعتقد هؤلاء، والإعراض وإن كان من بعضهم، فالرضا بالإعراض من كلهم.(2) "
إضافة إلى ذلك، فمن الأدلة على أن الإعراض عن دين الله تعالى ينافي الإيمان، قوله تعالى {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا {125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى {126} وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه، آية 124-128].
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/288 = باختصار .
(2) تفسير النسفي 4/409 ، وانظر تفسير أبي السعود 4/134 .(2/110)
وكما قال أبو السعود: - " قوله تعالى [وَكَذَلِكَ} [أي مثل ذلك الجزاء الموافق للجناية، {نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} بالانهماك في الشهوات، {وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ} [بل كذبها وأعرض عنها] …(1)"
(ب) إذا كان الإيمان يتضمن طاعة وانقياداً، وتسليماً وقبولاً، واستجابة وخضوعاً لدين الله تعالى، فإن الإعراض يضاد ذلك وينافيه، فهو تول وصدود، وترك وامتناع، وهو إعراض عن الهدى، وعدم إرادته والعمل به وبموجبه، وقد تقرر – عند أهل السنة – أن الإيمان ليس تصديقاً قلبياً فحسب،بل لابد فيه من الخضوع والانقياد.
وكما يقول ابن تيمية: - " لا بد أن يقترن بالعلم في الباطن مقتضاه من العمل الذي هو المحبة والتعظيم والانقياد ونحو ذلك، كما أنه لابد أن يقترن بالخبر الظاهر مقتضاه من الاستسلام والانقياد لأهل الطاعة، فهؤلاء الذين يعلمون الحق الذي بعث الله به رسوله، ولا يؤمنون به، ويقرون به يوصفون بأنهم كفار، وبأنهم جاحدون ويوصفون بأنهم مكذبون بألسنتهم، وأنهم يقولون بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم، وقد أخبر الله في كتابه أنهم ليسوا بمكذبين بما عملوه، أي مكذبين بقلوبهم وإن لم يكونوا مؤمنين مقرين مصدقين، إذ العبد يخلو في الشيء الواحد عن التصديق والتكذيب. والكفر أعم من التكذيب فكل من كذب الرسول كافر، وليس كل كافر مكذباً، بل من يعلم صدقه، ويقر به وهو مع ذلك يبغضه أو يعاديه كافر، أو من أعرض فلم يعتقد لا صدقه ولا كذبه كافر وليس بمكذب..(2) "
وأيضاً فإن المعرض عن دين الله تعالى لا يحب هذا الدين ولا يبغضه، ولا يصدق بالنبي ولا يكذبه، ولذا فهو معرض عن الطاعة والاتباع، بسبب خلو القلب من هذا الحب أو الإرادة؛ ومن المعلوم أن هذا الحب أو الإرادة الصادقة لو كانت موجودة لظهر لازمها من الطاعة والانقياد.
__________
(1) تفسير أبي السعود 3/675 .
(2) التسعينية 5/166 .(2/111)
قال ابن تيمية:- " محبة الله بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما أن
صـ354
التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين. (1) "
(ج) ذكر الله تعالى أن الإعراض والتولي عن طاعة الله كفر، فقال تعالى: - {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران، آية 32].
يقول ابن كثير في تفسيره: - {فإِن تَوَلَّوْاْ} [أي تخالفوا عن أمره، " فإن الله لا يحب الكافرين " فدل على أن مخالفته في الطريق كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين.(2)
ويقول البيضاوي: - " وإنما لم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على أن التولي عن الطاعة كفر، وأنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين.(3) "
ويقول أبو السعود: - " وإيثار الإظهار على الإضمار لتعميم الحكم لكل الكفرة والإشعار بعلته، فإن سخطه تعالى عليهم بسبب كفرهم والإيذان بأن التولي عن الطاعة كفر.(4) "
ومما يدل على أن الإعراض عن دين الله والتولي عن طاعته كفر، أن الله تعالى توعد من أعرض وتولى بالصلي المطلق في النار، وهو المكث فيها والخلود الدائم، كما قال تعالى: - {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى {14} لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى {15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل، آية 14-16]، فالمتولي عن الطاعة كافر، ويشمله هذا الوعيد الشديد، كما أن المكذب كافر، وداخل في هذا الوعيد أيضاً.
__________
(1) التحفة العراقية في أعمل القلوب ص 57 .
(2) تفسير ابن كثير 1/338
(3) تفسير البيضاوي 1/156 .
(4) تفسير أبي السعود 1/466 ، وانظر تفسير روح المعاني للآلوسي 3/130 .(2/112)
يقول الشوكاني في تفسير الآيات السابقة: - {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى} [أي يصلاها صلياً لازماً على جهة الخلود إلا الأشقى وهو الكافر، وإن صليها غيره من العصاة فليس صليه كصليه … ثم الأشقى فقال: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}
صـ355
أي كذب بالحق الذي جاءت به الرسل، وأعرض عن الطاعة والإيمان.(1) "
(د) قرر القرآن الكريم أن الإعراض عن دين الله تعالى من صفات المنافقين، وأن التولي عن طاعته من النفاق.
يقول الله تعالى: - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء، آية 61].
يقول ابن حزم عند هذه الآية: - " فليتق الله – الذي إليه المعاد – امرؤ على نفسه ولتوجل نفسه عند قراءة هذه الآية، وليشتد إشفاقه من أن يكون مختاراً للدخول تحت هذه الصفة المذكورة المذمومة الموبقة الموجبة للنار، فإن من ناظر خصمه في مسألة من مسائل الديانة وأحكامها التي أمرنا بالتفقه فيها فدعاه خصمه إلى ما أنزل الله تعالى، وإلى كلام الرسول، فصد عنهما، ودعاه إلى قياس أو إلى قول فلان وفلان، فليعلم أن الله عز وجل قد سماه منافقاً.(2) "
ويقول ابن تيمية – في هذه الآية السابقة -: " فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول، وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول سمعنا وأطعنا، فالنفاق يثبت، ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره. (3) "
وقال عز وجل: - {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} [التوبة، آية 127].
__________
(1) فتح القدير 5/453 .
(2) الإحكام في أصول الأحكام 1/91 .
(3) الصارم المسلول ص 33 .(2/113)
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: - " هذا إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم " نظر بعضهم إلى بعض " أي تلفتوا، " هل يراكم من أحد ثم انصرفوا " أي تولوا عن الحق وانصرفوا، وهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق، ولا يقبلونه، ولا يفهمونه، لقوله تعالى: - {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ {49}كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ {50}فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر، آية 49 – 51].(1) "
صـ356
بل إن عاقبة الإعراض عن طاعة الله تعالى هي الوقوع في النفاق، كما قال تعالى: - {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ {75} فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ {76} فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} [التوبة، آية 75 – 77].
ومما قاله الشوكاني في تفسير هذه الآيات: - " قوله " وتولوا " أي أعرضوا عن طاعة الله وإخراج صدقات ما أعطاهم الله من فضله " و" الحال أنهم معرضون " في جميع الأوقات قبل أن يعطيهم الله ما أعطاهم من الرزق وبعده، قوله: " فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه " الفاعل هو الله سبحانه، أي فأعقبهم الله بسبب البخل الذي وقع منهم والإعراض نفاقاً كائناً في قلوبهم، متمكناً منها، مستمراً فيها.(2) "
__________
(1) تفسير ابن كثير 2/385 .
(2) فتح القدير 2/384 , 385 .(2/114)
6-وفي نهاية هذا المبحث نورد جملة من كلام أهل العلم في هذا الناقض يقول القرطبي عند قوله تعالى: - {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى {14} لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى {15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل، آية 14-16]: " وتولى: أعرض عن الإيمان، قال قتادة: - كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله وقال الفراء: لم يكن كذب برد ظاهر، ولكنه قصر عما أمر به من الطاعة، فجعل تكذيباً …(1) "
ويقول ابن تيمية: - " قال تعالى: - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام 157].
فذكر سبحانه أنه يجزي الصادف عن آياته مطلقاً – سواء كان مكذباً أو لم يكن – سوء العذاب بما كانوا يصدفون، يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سواء اعتقد كذبه، أو استكبر عن الإيمان به، أو أعرض عنه اتباعاً لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذب بما جاء به فهو كافر، وقد يكون كافراً من لا يكذبه إذا لم يؤمن به.(2) "
صـ357
ويعرف ابن القيم كفر الإعراض مع ذكر مثاله، فيقول: -
" وأما كفر الإعراض فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به ألبته، كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم: " والله أقول لك كلمة إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أرد عليك، وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أكلمك.(3) (4) "
__________
(1) تفسير القرطبي 20/86 ، 87 = باختصار .
(2) الدرء 1/56 .
(3) انظر سيرة ابن هشام 2/444، 445 ، والبداية لابن كثير 3/135 . ولفظهما : - " والله لا أكلمك أبداً ، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ، وما ينبغي لي أن أكلمك ."
(4) مدارج السالكين 1/338 .(2/115)
ويقول – في موضع آخر عند ذكره لأنواع الكفر … " وكفر إعراض محض لا ينظر فيما جاء به الرسول، ولا يحبه، ولا يبغضه، ولا يواليه، ولا يعاديه، بل هو معرض عن متابعة ومعاداته.(1) "
ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} [آل عمران، آية 23].
" يقول تعالى منكراً على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم وهما التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم تولوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد.(2) "
وأورد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الإعراض ضمن نواقض الإسلام فقال: - " الإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة، آية 22].(3) "
ص358
المبحث الرابع
مظاهرة المشركين على المسلمين
1- في بداية هذا المبحث، نذكر – بإيجاز – نبذة عن أهمية عقيدة الولاء والبراء، ومعناها فنقول: -
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/94 .
(2) تفسير ابن كثير 1/336 .
(3) مجموعة التوحيد (رسالة نواقض الإسلام ) ص 272 ، وانظر إرشاد الطالب لابن سحمان ص 11 ، وهاتف الأمن لعبد العزيز بن راشد ص 98 – 104 .(2/116)
إن الولاء والبراء شرط في الإيمان، كما قال سبحانه: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ {80} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة، آية 83 – 84].
يقول ابن تيمية عن هذه الآية: - " فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط، وجد المشروط بحرف " لو " التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال: -} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه …(1) "
والولاء والبراء أوثق عرى الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: - " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله " (2) "
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: -
" فهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد، أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في دين الله والبغض في الله، والمعاداة في الله والموالاة في الله، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة، ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء، لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.(3) "
صـ359
__________
(1) الإيمان ص 14 .
(2) أخرجه أحمد 4/286 وابن أبي شيبه في كتاب الإيمان ح (110) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/480 ، وحسنه الألباني في " الصحيحة " حديث رقم (1728) .
(3) رسالة أوثق عرى الإيمان ص 38 .(2/117)
ويقول الشيخ حمد بن عتيق (1):-
"فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب ذلك، وأكد إيجابه وحرم موالاتهم وشدد فيها، حتى أنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد، وتحريم ضده.(2) "
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل العظيم، فعن جرير بن عبد الله البجلي (3)(4) رضي الله عنه قال: - أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله ابسط يدك حتى أبايعك واشترط علي فأنت أعلم قال: " أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين.(5) "
وجاء من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده (6)
__________
(1) حمد بن علي بن عتيق ، من علماء نجد ، ولد في الزلفي سنة 1227 هـ ، وتولى القضاء في عدة بلدان ، له مؤلفات ، توفي بالأفلاج سنة 1301 هـ .
انظر : علماء نجد 1/228 ، ومشاهير علماء نجد ص 244 .
(2) النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الاشراك (ضمن مجموعة التوحيد ) ص 363 .
(3) النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الاشراك (ضمن مجموعة التوحيد ) ص 363 .
(4) جرير بن عبد الله البجلي ، من أعيان الصحابة ، كان بديع الحسن ، كامل الجمال ، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الخلصة فهدمها ، سكن الكوفة ، مات سنة 51 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 2/530 ، الاصابة 1/475 .
(5) أخرجه أحمد 4/365 ، والنسائي 7/148 ، والبيهقي 9/13 وصححه الألباني في " الصحيحة " (936) .
(6) هو معاوية بن حيدة القشيري ، جد بهز بن حكيم ، صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، نزل البصرة ، أخرج له أصحاب السنن .
انظر : الاصابة 6/149 .(2/118)
: - " قلت يا نبي الله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عددهن – لأصابع يديه – ألا آتيك، ولا آتي دينك، وإني كنت امرءاً لا أعقل شيئاً إلا ما علمني الله ورسوله، وإني أسألك بوجه الله عز وجل بما بعثك ربك إلينا؟ قال: - بالإسلام، قال: قلت: وما آيات الإسلام؟ قال: أن تقول: أسلمت وجهي إلى الله عز وجل وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي
صـ360
الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعدما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين.(1) "
وما أجمل تلك العبارة التي سطرها أبو الوفاء بن عقيل قائلاً:-
" إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري عليهما لعائن الله ينظمون وينثرون كفراً … وعاشوا سنين، وعظمت قبورهم، واشتريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب.(2) "
وأما معنى الولاء فهو المحبة والمودة والقرب، والبراء هو البغض والعداوة والبعد، والولاء والبراء من أعمال القلوب، لكن تظهر مقتضياتهما على اللسان والجوارح.
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ:-
" وأصل الموالاة الحب، وأصل المعادة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداةكالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال. (3) "
__________
(1) أخرجه أحمد (5/4) ، والحاكم (4/600) وصححه ، ووافقه الذهبي ، وحسن الألباني إسناده في الصحيحة (369) .
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح 1/268 .
(3) الدرر السنية 2/157 .(2/119)
والولاء لا يكون إلا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين قال سبحانه: - {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة، آية 55].
فالولاء للمؤمنين يكون بمحبتهم لإيمانهم، ونصرتهم،والنصح لهم، والدعاء لهم، والسلام عليهم، وزيادة مريضهم، وتشييع ميتهم، وإعانتهم، والرحمة بهم، وغير ذلك.(1)
صـ361
والبراءة من الكفار تكون ببغضهم – ديناً – ومفارقتهم، وعدم الركون إليهم، أو الإعجاب بهم، والحذر من التشبه بهم، وتحقيق مخالفتهم شرعاً، وجهادهم بالمال واللسان والسنان، ونحو ذلك من مقتضيات العداوة في الله (2) "
2- ولما كانت موالاة الكفار تقع على شعب متفاوتة، وصور مختلفة، لذا فإن الحكم فيها ليس حكماً واحداً، فإن من هذه الشعب والصور ما يوجب الردة، ونقض الإيمان بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من المعاصي.(3) "
__________
(1) انظر : تفصيل ذلك في رسالة أوثق عرى الإيمان لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 49 – 51 وكتاب الولاء والبراء لمحمد القحطاني ، والموالاة والمعاداة لمحماس الجلعود .
(2) انظر : تفصيل ذلك في رسالة أوثق عرى الإيمان لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 49-51 وكتاب الولاء والبراء لمحمد القحطاني ، والموالاة والمعادة لمحماس الجلعود .
(3) انظر : الدرر السنية 7/155 , 159 , 220 ، ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/10، 31 ، 38 ، 57 .(2/120)
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: - " ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة.(1) "
وهذا الموالاة التي تناقض الإيمان، قد تكون اعتقاداً فحسب، وقد تظهر في أقوال وأعمال. والذي يهمنا في هذا المبحث الموالاة العملية، حيث سنورد مسألة مظاهرة الكفار على المسلمين كمثال لتلك الموالاة، وقبل أن نفصل الحديث عن تلك المسألة، فإننا نوضح – باختصار – جملة من الأمثلة على تلك الموالاة العملية، نظراً لعظم خطرها، وسعة انتشارها، وكثرة الوقوع فيها، فنذكر منها ما يلي:-
(أ) من أقام ببلاد الكفر رغبة واختياراً لصحبتهم، فيرضى ما هم عليه من الدين، أو يمدحه، أو يرضيهم بعيب المسلمين، فهذا كافر عدو لله ورسوله، لقوله تعالى: - {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران، آية 28].(2)
صـ368
يقول ابن رشد (3)
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/7 .
(2) انظر : الدفاع عن أهل السنة والاتباع لحمد بن عتيق ص 12 ، والدرر السنية 7/202 .
(3) أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي ، فقيه ، ولي الإفتاء والقضاء ، صاحب عبادة وزهد ، توفي سنة 520 هـ .
انظر : الديباج المذهب 2/248 ، وسير أعلام النبلاء 19/501.(2/121)
- " فصل: - فإذا وجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر، ويلحق بدار المسلمين ولا يثوي بين المشركين، ويقيم بين أظهرهم لئلا تجري عليه أحكامهم، فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلادهم حيث تجري علينا أحكامهم في تجارة أو غيرها، وقد كره مالك رحمه الله تعالى أن يسكن أحد ببلد يسب فيه السلف فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن، وتعبد فيه من دونه الأوثان، ولا تستقر نفس أحد على هذا إلا وهو مسلم سوء، مريض الإيمان.(1)"
ومما حرره ابن حزم في هذه المسألة قوله: - " قد علمنا أن من خرج عن دار الإسلام إلى دار الحرب فقد أبق عن الله تعالى، وعن إمام المسلمين وجماعتهم، ويبين هذا حديثه صلى الله عليه وسلم أنه بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين (2) وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر، قال تعالى: - {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة، آية 71].
قال أبو محمد: - فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها من وجوب القتل عليه، متى قدر عليه، ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه وغير ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم. وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعانهم عليه، ولم يجد في المسلمين من يجيره فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره.(3) "
ويقول في موضع آخر: - " من لحق بأرض الشرك بغير ضرورة فهو محارب، هذا أقل أحواله إن سلم من الردة بنفس فراقه جماعة الإسلام، وانحيازه إلى أرض الشرك.(4) "
صـ363
__________
(1) مقدمات ابن راشد 2/612 , 613 .
(2) أخرجه أبو داود ح (2645) ، والترمذي ح (1605) ، وأورد الألباني في صحيح الجامع (1474).
(3) المحلى 13/138 ، 139 .
(4) المرجع السابق 13/31 .(2/122)
ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء، آية 97].
"هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع.(1) "
ولما سئل أحمد بن يحي الونشريسي (2) عن قوم من الأندلسيين هاجروا من بلادهم الأندلس – وقد كانت دار شرك – إلى دار الإسلام في بلاد المغرب …
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/514 .
(2) أبو العباس أحمد بن النشريسي التلمساني ، فقيه مالكي استوطن فاس ، له مؤلفات كثيرة ، توفي بفاس سنة 914 هـ .
انظر : الأعلام 1/269 ، معجم المؤلفين 2/205 .(2/123)
ثم ندموا على تلك الهجرة، وسخطوا وصرحوا بذم دار الإسلام، ومدح دار الكفر وأهله … فكتب رحمه الله جواباً مبسوطاً عن هذه النازلة، بعنوان: " أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر (1)7) " فأورد النصوص الشرعية في تحريم الموالاة الكفرية، ووجوب الهجرة إلى دار الإسلام ثم قال: - " وتكرار الآيات في هذا المعنى وجريها على نسق وتيرة واحدة مؤكد للتحريم، ورافع للاحتمال المتطرق إليه، فإن المعنى إذا نص عليه وأكد بالتكرار فقد ارتفع الاحتمال لا شك، فتتعاضد هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والاجتماعات القطعية على هذا النهي، فلا تجد في تحريم هذه الإقامة، وهذه الموالاة الكفرانية مخالفاً من أهل القبلة المتمسكين بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فهو تحريم مقطوع به من الدين … ومن خالف الآن في ذلك أو رام الخلاف من المقيمين معهم والراكنين إليهم، فجوز هذه الإقامة واستخف أمرها واستسهل حكمها، فهو مارق من الدين، ومفارق لجماعة المسلمين، ومحجوج بما
صـ364
لا مدفع فيه لمسلم، ومسبوق بالإجماع الذي لا سبيل إلى مخالفته وخرق سبيله.(2) "
__________
(1) انظر المعيار المعرب 2/119 – 135 .
(2) المعيار المعرب 2/123 ، 124 = باختصار .(2/124)
وجاء في آخر فتواه، قوله للسائل: - " وما ذكرت عن هؤلاء المهاجرين من قبيح الكلام وسب دار الإسلام، وتمني الرجوع إلى دار الشرك والأصنام، وغير ذلك من الفواحش المنكرة التي لا تصدر إلا من اللئام، يوجب لهم خزي الدنيا والآخرة وينزلهم أسوأ المنازل، والواجب على من مكنه الله في الأرض ويسره لليسرى أن يقبض على هؤلاء وأن يرهقهم العقوبة الشديدة، والتنكيل المبرح ضرباً وسجناً حتى لا يتعدوا حدود الله؛ لأن فتنة هؤلاء أشد ضرراً من فتنة الجوع والخوف ونهب الأنفس والأموال، وذلك أن من هلك هنالك فإلى رحمة الله تعالى وكريم عفوه، ومن هلك دينه فإلى لعنة الله وعظيم سخطه، فإن محبة الموالاة الشركية، والمساكنة النصرانية والعزم على رفض الهجرة والركوب إلى الكفار، والرضى بدفع الجزية إليهم، ونبذ العزة الإسلامية، والطاعة الإمامية، والبيعة السلطانية، وظهور السلطان النصراني عليها وإذلاله إياها فواحش عظيمة مهلكة قاصمة للظهر يكاد أن تكون كفراً والعياذ بالله.(1) "
__________
(1) المعيار المعرب 2/132 ، وانظر ما كتبه الونشريسي من مفاسد الإقامة في ديار الكفر في كتابه المعيار 2/137 –141 .(2/125)
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: - " الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض، ودين الإفرنج ونحوهم من المعطلة للربوبية والإلهية، وترفع فيها شعائرهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين أظهرهم والحالة هذه لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين … بل لا يصدر عن قلب رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فإن الرضى بهذه الأصول الثلاثة قطب الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وفي قصة إسلام جرير عبد الله أنه قال يا رسول الله بايعني واشترط، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم " تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي
صـ365
الزكاة وأن تفارق المشركين " أخرجه أبو عبد الرحمن النسائي(1)، وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام ودعائمه العظام. (2) "
(ب) من أطاع الكفار في التشريع والتحليل والتحريم، فأظهر الموافقة في ذلك، فهو كافر وخارج عن الملة، وسنورد بعض النصوص القرآنية في هذا الشأن.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران، آية 100].
ومما قاله أبو السعود في تفسير هذه الآية: - " وتعليق الرد بطاعة فريق منهم للمبالغة في التحذير عن طاعتهم وإيجاب الاجتناب عن مصاحبتهم بالكلية، فإنه في قوة أن يقال لا تطيعوا فريقاً … (3) "
__________
(1) الدرر السنية 7/165 , 166 = باختصار .
(2) سبق تخريجه ص 359 .
(3) تفسير أبي السعود 1/523 .(2/126)
وتأمل قوله تعالى: - {إِن تُطِيعُواْ..} [فإن هذا الفعل جاء مطلقاً، فحذف المتعلق المعمول فيه، ليفيد تعميم المعنى (1)، فالآية الكريمة تحذر أيما تحذير عن طاعة أهل الكتاب – فضلاً عن غيرهم من أصناف الكفار – في جميع الأحوال وسائر شؤون الحياة.
ويقول عز وجل: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} [آل عمران، آية 149].
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: - عند هذه الآية " أخبر تعالى أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار فلا بد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام، فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر، وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرة، ولم يرخص في مواقفهم وطاعتهم خوفاً منهم. وهذا هو الواقع فإنهم لا يقتنعون ممن وافقهم إلا بشهادة أنهم على حق وإظهار العداوة والبغضاء للمسلمين.(2) "
صـ366
ويقول سبحانه وتعالى: - {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام، آية 121].
فصرح تعالى بأنهم مشركون في طاعة أولئك الكفار، حينما وافقوهم في تحليل أو تحريم. (3)
__________
(1) انظر توضيح هذه النكته في كتاب القواعد الحسان لتفسير القرآن / لعبد الرحمن السعدي ص 46-51 .
(2) الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك ص 33 .
(3) انظر أضواء البيان للشنقيطي 4/83 .(2/127)
وقال تبارك وتعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ {25} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد، آية 25 , 26].
فهذا النوع من الموالاة كان سبباً في ردة أولئك القوم (1)، ولذا يقول ابن حزم: - " فجعلهم مرتدين كفاراً بعد علمهم الحق، وبعد أن تبين لهم الهدى بقولهم للكفار ما قالوا فقط، وأخبرنا تعالى أنه يعرف إسرارهم.(2) "
ويقول القاسمي (3) في تفسيره: - " " ذلك إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم، " بأنهم " أي لسبب أنهم " قالوا " أي المنافقون " الذين كرهوا ما نزل الله "
أي اليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم " سنطيعكم في بعض الأمر " أي بعض أموركم، أو ما تأمرون به … كما أوضح ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} [الحشر، آية 11].(4) "
صـ367
__________
(1) انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية 28/193 .
(2) الفصل 3/262 .
(3) جمال الدين بن محمد سعيد القاسمي ، من كبار علماء الشام في القرن الماضي ، عاش في دمشق ، واشتغل بالتدريس ، رحل إلى مصر والحجاز ، له مؤلفات كثيرة ، توفي بدمشق سنة 1332 هـ .
انظر : الأعلام 2/135 ، ومعجم المؤلفين 3/157 .
(4) تفسير القاسمي 15/56 .(2/128)
فتلك الآيات الكريمات قد قررت أن بعضاً من الطاعة لأولئك الكفار هي ردة عن دين الإسلام، كموافقتهم في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو المظاهرة على محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء مفصلاً في كتب التفسير (1)"
ولذا عاقبهم الله تعالى بحبوط الأعمال، كما جاء في الآيات التالية: -
{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ {27} ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد، آية 27 , 28]
ومما سطره يراع الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمهم الله – عند قوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا … " الآية
" أخبر تعالى أن سبب ما جرى عليهم من الردة وتسويل الشيطان والإملاء لهم هو قولهم للذين كرهوا ما نزل الله، سنطيعكم في بعض الأمر فإذا كان من وعد المشركين الكارهين لما نزل الله بطاعتهم في بعض الأمر كافراً، وإن لم يفعل ما وعدهم به، فكيف بمن وافق المشركين واظهر أنهم على هدى.(2) "
ويمكن أن نلحق بطاعة ومتابعة الكفار في التحليل والتحريم، وموافقتهم في التشريع، ما قد أفتى به بعض علماء هذا العصر في مسألة التجنس بجنسية أمة غير مسلمة (3)
وقد سئل الشيخ محمد رشيد رضا عن تجنس المسلم بجنسية تنافي الإسلام – كما هو حاصل في بلاد تونس آنذاك – وما يتضمنه هذا التجنس من إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، والوقوف مع الكفار عسكرياً لقتال المسلمين.. الخ.
فكان من جوابه: -
__________
(1) انظر : زاد المسير لابن الجوزي 7/409 وفتح القدير للشوكاني 5/39 ، وتفسير النسفي 5/512 .
(2) الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك 50 ، 51 .
(3) كتب الشيخ محمد النيفر بحثاً في هذه المسألة ، كما بحثها الشيخ محمد السبيل ، وكلا البحثين منشوران في مجلة المجمع الفقهي – العدد الرابع .(2/129)
" إذا كانت الحال كما ذكر في هذا السؤال، فلا خلاف بين المسلمين في أن قبول الجنسية ردة صريحة، وخروج من الملة الإسلامية، حتى أن الاستفتاء فيها يعد غريباً في مثل البلاد التونسية التي يظن أن عوامها لا يجهلون حكم ما في السؤال
صـ368
من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة …
-إلى أن قال – إن قبول المسلم لجنسية ذات أحكام مخالفة لشريعة الإسلام خروج من الإسلام فإنه رد له، وتفضيل لشريعة الجنسية الجديدة على شريعته، ويكفي في هذا أن يكون عالماً بكون تلك الأحكام التي آثر غيرها عليها هي أحكام الإسلام فلا يعامل معاملة المسلمين، وإذا وقع من أهل بلد أو قبيلة وجب قتالهم عليه حتى يرجعوا.(1) "
وجاء في فتوى لجنة مصر برئاسة الشيخ علي محفوظ (2):-
" إن التجنس بجنسية أمة غير مسلمة على نحو ما في السؤال (3) هو تعاقد على نبذ أحكام الإسلام عن رضا واختيار، واستحلال لبعض ما حرم الله، وتحريم لبعض ما أحل الله، والتزام لقوانين أخرى يقول الإسلام ببطلانها، وينادي بفسادها، ولا شك أن شيئاً واحداً من ذلك لا يمكن تفسيره إلا بالردة، ولا ينطبق عليه حكم إلا حكم الردة، فما بالك بهذه الأربعة مجتمعة في ذلك التجنس الممقوت؟(4) "
__________
(1) مجلة المنار ، مجلد 25 ، جزء 1 ، ص 22 .
(2) علي محفوظ ، فقيه واعظ ، تخرج من الأزهر ، ثم كان من أعضاء كبار العلماء ، وله مؤلفات ، توفي سنة 1361 هـ .
انظر : الأعلام 4/323 ، ومعجم المؤلفين 7/175 .
(3) خلاصة السؤال : - ما قول العلماء في مسلم تجنس بجنسية أمة غير مسلمة اختياراً منه ، والتزم أن تجري عليه أحكام قوانينها بدل أحكام الشريعة … ويدخل في هذا الالتزام أن يقف في صفوفها عند محاربتها ولو لأمة إسلامية ، كما هو الشأن في التجنس بالجنسية الفرنسية الآن في تونس ؟
(4) التجنس بجنسية دولة غير إسلامية لمحمد السبيل ، بحث في مجلة المجمع الفقهي ، العدد الرابع ، ص 156 ، 157 .(2/130)
ولما استفتي الشيخ يوسف الدجوي (1) عن هذه المسألة، كان من جوابه ما يلي: - " إن التجنس بالجنسية الفرنسية، والتزام ما عليه الفرنسيون في كل شيء
صـ369
حتى الأنكحة والمواريث والطلاق ومحاربة المسلمين والانضمام إلى صفوف أعدائهم معناه الانسلاخ من جميع شرائع الإسلام،ومبايعة أعدائه على ألا يعودوا إليه ولا يقبلوا حكماً من أحكامه بطريق العهد الوثيق، والعقد المبرم.(2) "
إلى أن قال: -
" وإنا نرى شبهاً كبيراً بين من يختار أن يسير على شريعة الفرنسيين دون شريعة المسلمين وبين جبلة بن الأيهم الغساني حين لطم الفزاري، فأراد عمر رضي الله عنه أن يقتص منه، فلم يرض بحكم الدين وفر إلى الشام مستبدلاً الإسلام بالمسيحية.(3) "
ولعل من أخطر التبعات المترتبة على هذا التجنس – مما يتعلق بمبحثنا – ما يفرض على أولئك المتجنسين من التجنيد العسكري، وجعلهم جنوداً لتلك الدولة الكافرة، وفي مواجهة المسلمين، فيصير بذلك مظاهراً لأولئك الكفار ضد المسلمين، (4) وقد قال الله تعالى: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51].
__________
(1) يوسف بن أحمد الدجوي ، مدرس من علماء الأزهر ، وفقيه مالكي له مؤلفات كثيرة ، توفي سنة 1365 هـ .
…انظر : الأعلام 4/323، معجم المؤلفين 7/175.
(2) التجنس بجنسية دولة غير إسلامية لمحمد السبيل ، بحيث في مجلة المجمع الفقهي ، العدد الرابع ، ص 150 ، 151 .
(3) المرجع السابق ، ص 153 ، وانظر مجالس العرفان ومواهب الرحمن لمحمد جعيط 2/66 .
(4) يقول الشيخ محمد الشاذلي النيفر في بحثه عن التجنس بجنسية غير إسلامية : - " وقد تورط في الجندية للدولة غير الإسلامية كثير من المسلمين حاربوا في صفوف أعداء الإسلام مما أدى إلى انهزام الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى انظر مجلة المجمع الفقهي ، العدد الرابع ، ص 233 .(2/131)
ومع ذلك فإن نازلة " التجنس بجنسية أمة غير مسلمة " لها ملابسات مختلفة لا تنفك عنها،عند تحديد مناط حكم هذه النازلة، فأحوال أولئك المتجنسين متفاوتة، ولذا ينبغي التفصيل عند الحكم على واقع أولئك المتجنسين، فمن نال تلك الجنسية عن رغبة في بلاد الكفر، وانتماء إلى الكفار، ورضا بأحكامهم الطاغوتية، وتبعية لأنظمتهم الوضعية، فهذا لا شك أنه كافر خارج عن الملة، فهذا النوع من الناس لا يستوي بمن اضطر على مثل هذا التجنس بسبب أنظمة طاغوتية استولت على بلاد المسلمين فأذاقت أهلها سوء العذاب، وأنواع
صـ370
الافتتان، مما اضطر بعض أولئك المسلمين إلى ترك ديارهم، والإقامة في ديار الكفر، والتجنس بجنسيتهم، وهم مع ذلك مبغضون للكفر وأهله، قائمون بدينهم حسب الاستطاعة.
كما أن هناك عوامل أخرى لابد من مراعاتها عند الحكم في هذه المسألة، منها الظروف المختلفة التي يعيشها المقيمون في تلك البلاد، ونوعية تلك الديار كأن تكون دار حرب أو عهد … ونوعية التجنس، وأسبابه ودوافعه، والتوقيت الزمني لتلك النازلة.. الخ.
(ج) من الموالاة العملية التي تناقض الإيمان: - التشبه المطلق بهم، أو التشبه بهم فيما يوجب الكفر والخروج عن الملة.
إن المشاركة للكفار في الهدي الظاهر – وإن كان مباحاً – تؤول إلى مشاركة ومشابهة في الأخلاق، وموالاة في الباطن، وفي المقابل فإن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة عن الكفر وأسبابه، وتحقق عداوة وبراءة من الكفار.
فالموالاة وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومجانبتهم (1)، ولذا فإن جنس المخالفة للكافرين أمر مقصود للشارع.
وننبه إلى " أن المخالفة للكفار لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه بالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا، شرع ذلك.
__________
(1) انظر : إقتضاء الصراط المستقيم 1/79 – 81 ، 159 ، 488 .(2/132)
ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدى الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمورهم، لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة.(1) "
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالكفار فقال: - " من تشبه
صـ371
بقوم فهو منهم " (2)
يقول ابن تيمية عن هذا الحديث:-
" وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51].
فقد يحمل هذا على التشبيه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم، في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً، أو معصية أو شعاراً لهم، كان حكمه كذلك. وبكل حال يقتضي تحريم التشبه.(3) "
وقد أورد العلماء أمثلة عديدة، وصوراً متنوعة في التشبه الذي يوجب الكفر، نختار منها ما يلي: -
يقول القاضي عياض: - " وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحاً بالإسلام مع فعله ذلك كالسعي إلى الكنائس والبيع (4)
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 1/418 .
(2) أخرجه أبو داود 4/314 ، ح (4031) ، وأحمد 2/50 وقال عنه ابن تيمية في الاقتضاء 1/236 : " إسناده جيد " ، وحسنه الألباني في الجامع الصغير (6025) .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم 1/237 ، 238 .
(4) الكنيسة والبيعة يقالان لمعابد اليهود والنصارى ، وقيل الأول عام والثاني مخصوص بالنصارى .
انظر : المعجم الوسيط 1/79 ، 2/806 .(2/133)
مع أهلها بزيهم، من شد الزنانير، وفحص (1) الرؤوس، فقد أجمع المسلمون أن هذا الفعل لا يوجد إلا من كافر. (2) "
ويقول ابن تيمية: - " وإذا زار أهل الذمة كنيسة بيت المقدس فهل يقال لهم يا حاج مثلاً؟ لا ينبغي أن يقال ذلك تشبيهاً بحاج البيت الحرام، ومن اعتقد أن زيارتها قربة فقد كفر، فإن كان مسلماً فهو مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإن جهل أن ذلك محرم عرف ذلك، فإن أصر فقد كفر وصار مرتداً.(3) "
صـ372
ويقول أيضاً: - " وأما زيارة " معابد الكفار " مثل الموضع المسمى " بالقمامة " أو بيت لحم " أو " صهيون " أو غير ذلك، مثل كنائس النصارى، فمنهي عنها، فمن زار مكاناً من هذه الأمكنة معتقداً أن زيارته مستحبة، والعبادة فيه أفضل من العبادة في بيته فهو ضال خارج عن شريعة الإسلام، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.(4) "
ويقول الخرشي (5): - " وكذلك يكون مرتداً إذا شد الزنار في وسطه؛ لأن هذا فعل يتضمن الكفر … ومثله فعل شيء مما يختص بزي الكفار، ولا بد أن ينضم إلى ذلك المشي إلى الكنيسة ونحوه، وقيد أيضاً بما إذا فعله في بلاد الإسلام.(6) "
__________
(1) أي حلق أوساطها ، وهو من شعائرهم .
(2) الشفا 2/1072 ، 1073 .
(3) مختصر الفتاوى المصرية ص 514 .
(4) مجموع الفتاوى 27/14 .
(5) محمد بن عبد الله الخرشي المالكي ، أول من تولى مشيخة الأزهر ، كان فقيهاً ورعاً ، له مؤلفات ، توفي بالقاهرة سنة 1101 هـ.
انظر الأعلام 6/240 ، ومعجم المؤلفين 10/210 .
(6) الخرشي على مختصر خليل 7/63 ، وانظر : الفروق للقرافي 4/264 ، وتبصرة الحكام لابن فرحون 2/282 ، والشرح الصغير للدردير 6/146 ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/301 .(2/134)
وقال ابن نجيم:- " ويكفر بوضع قلنسوة المجوسي على رأسه على الصحيح، إلا لضرورة دفع الحر أو البرد، وبشد الزنار في وسطه إلا إذا فعل ذلك خديعة في الحرب.(1) "
وقال ابن حجر الهيتمي: - " ولو شد على وسطه زناراً، ودخل دار الحرب للتجارة كفر …(2) "
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء في حكم لبس الصليب: - " إذا بين له حكم لبس الصليب وأنه شعار النصارى، ودليل على أن لابسه راض بانتسابه إليهم
صـ373
والرضا بما هم عليه وأصر على ذلك، حكم بكفره لقوله عز وجل: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة، آية 51] والظلم إذا أطلق يراد به الشرك الأكبر، وفيه إظهار لموافقة النصارى على ما زعموه من قتل عيسى عليه السلام، والله سبحانه قد نفى ذلك في كتابه فقال: - {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء، آية 157](3) "
ومن أخطر صور التشبه بالكفار، وأشدها ضرراً، وأكثرها انتشاراً بين المسلمين ألا وهو مشاركة الكفار في أعيادهم، ولذا فلا بد من وقفة يسيرة مع هذه القضية.
__________
(1) البحر الرايق 5/133 ، وانظر : الفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى الهندية) 3/332 ، وشرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 280 ، ورسالة البدر الرشيد في ألفاظ الكفر ص 42 ، 43 .
(2) الإعلام بقواطع الإسلام ص 363 ، وذكر النووي أن الصواب عدم كفره ، انظر روضة الطالبين 10/69 .
(3) فتاوى اللجنة الدائمة 2/78 .(2/135)
إن مشاركة الكفار في أعيادهم محرمة على أقل الأحوال، لما فيه من الموافقة لهم فيما ليس من ديننا، وعلى خلاف منهج سلفنا الصالح، عدا أن تلك الأعياد من البدع المحدثة (1)، وقد أثنى الله تعالى على عبادة المؤمنين، فوصفهم بقوله سبحانه: - {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان آية 72]، قال بعض السلف: - " الزور: أعياد المشركين.(2) "
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: - ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما، يوم الأضحى ويوم الفطر.(3) "
يقول ابن تيمية في بيان معنى الحديث:-
" فوجه الدلالة: أن العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: - " إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين " والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل
صـ374
والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما.(4) "
وقد اتفق المسلمون على منع أهل الكتاب من إظهار أعيادهم في دار الإسلام، كما جاء في الشروط العمرية، لما فيه من الفساد، ولإظهار شعائر الكفر.(5)
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: - " اجتنبوا أعداء الله في عيدهم " (6)
__________
(1) انظر اقتضاء ، الصراط المستقيم 1/425 ، 426 .
(2) انظر تفسير ابن جرير 19/29 ، والدر المنثور 6/282 ، وانظر : اقتضاء الصراط 1/426 .
(3) أخرجه أبو داود ح (1134) ، وأحمد (3/103) ،) ، والنسائي (3/146) ، وصححه ابن تيمية في الاقتضاء 1/432 وقال ابن حجر في الفتح (2/442) : - " إسناده صحيح "
(4) اقتضاء الصراط المستقيم 1/432 , 433 .
(5) انظر المرجع السابق 1/454 .
(6) أخرجه البيهقي 9/234 .(2/136)
وعن عبد الله بن عمرو (1)رضي الله عنهما قال:- "من بنى ببلاد الأعاجم، فصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة. (2) "
ويعلق ابن تيمية على أثر عبد الله بن عمرو فيقول: - " وهذا يقتضي أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار، وإن كان الأول ظاهر لفظه، فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية؛ لأنه لو لم يكن مؤثراً في استحقاق العقوبة لم يجز جعله جزءاً من المقتضى …(3) "
وقد ساق ابن تيمية جملة من الاعتبارات المهمة في هذه المسألة منها قوله: -
"إن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك، التي قال الله سبحانه: - {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج، آية 67]، كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة (4) في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها
صـ375
من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر، وأظهر شعائره، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه.(5) "
__________
(1) عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي ، صحابي جليل ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ، أسلم قبل أبيه ، مات بالشام سنة 65 هـ.
انظر : الإصابة 4/193 ، وسير أعلام النبلاء 3/79 .
(2) أخرجه البيهقي 9/234 .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم 1/459 .
(4) في الكتاب : فوافقه ، ولعل الصحيح ما أثبته كما يدل على ذلك سياق الجملة التي تليها .
(5) المرجع السابق 1/471 .(2/137)
ويقول أيضاً: - " إنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس، وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس، بل عيداً، حتى يضاهى بعيد الله، بل قد يزاد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر، كما قد سوله الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام، فيما يفعلونه في أواخر صوم النصارى، من الهدايا والأفراح، والنفقات وكسوة الأولاد، وغير ذلك مما يصير به مثل عيد المسلمين.(1) "
ويقول في موضع ثالث: - " وإذا كانت المشابهة في القليل ذريعة ووسيلة إلى بعض القبائح كانت محرمة، فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله، من التبرك بالصليب والتعميد في المعمودية (2)، أو قول القائل: المعبود واحد، وإن كانت الطرق مختلفة، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن إما كون الشريعة النصرانية واليهودية المبدلتين المنسوختين موصلة إلى الله، وإما استحسان بعض ما فيها، مما يخالف دين الله، أو التدين بذلك، أو غير ذلك مما هو كفر بالله وبرسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك، وأصل ذلك المشابهة والمشاركة.(3) "
وإذا تقرر ما سبق إيراده، فنسوق طرفاً من كلام أهل العلم في حكم المشاركة في أعياد الكفار..
يقول ابن تيمية: - " وأما إذا فعل المسلمون معهم (أي أهل الكتاب) أعيادهم مثل صبغ البيض، وتحمير دوابهم بمغرة (4) وبخور، وتوسيع النفقات، وعمل طعام
صـ376
__________
(1) المرجع السابق 1/473 ، 474 .
(2) " المعمودية - عند النصارى – أن يغمس القس الطفل في ماء ، يتلو عليه بعض فقر من الإنجيل ، وهو آية التنصير عندهم "
انظر : المعجم الوسيط 2/632 .
(3) اقتضاء الصراط 1/481 ، 482 .
(4) المغرة : لون ليس بناصع الحمرة ، انظر ترتيب القاموس المحيط 4/266 .(2/138)
فهذا أظهر من أن يحتاج إلى سؤال، بل قد نص طائفة من العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك على كفر من يفعل ذلك، وقال بعضهم: من ذبح بطيخة في عيدهم فكأنما ذبح خنزيراً.
فليس للمسلم أن يخص خميسهم الحقير لا بتجديد طعام الرز والعدس والبيض المصبوغ وغير ذلك، ولا بالتجمل بالثياب، ولا بصبغ دواب، ولا بنشر ثياب ولا غير ذلك، ومن فعل ذلك على وجه العبادة والتقرب به واعتقاد التبرر به فإنه يعرّف دين الإسلام، وأن هذا ليس منه بل هو ضده، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل. وأما ذبح المسلم لنفسه في أعيادهم إلى وجه القربة فكفر بيّن كالذبح للنصب.(1) "
ويقول الذهبي: - " وقد أوجب الله عليك – يا هذا المسلم – أن تدعو الله تعالى كل يوم وليلة سبع عشرة مرة بالهداية إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
فكيف تطيب نفسك بالتشبه بقوم هذه صفتهم، وهم حطب جهنم؟ ولو قيل لك: تشبه بمسخرة لأنفت من ذلك وغضبت وأنت تشبه بأقلف عابد صليب في عيده، وتكسوه صغارك، وتفرحهم، وتصبغ لهم البيض، وتشتري البخور، وتحتفل بعيد عدوك كاحتفالك بعيد نبيك صلى الله عليه وسلم!
فأين يذهب بك إن فعلت ذلك إلا إلى مقت الله وسخطه إن لم يغفر الله لك إن علمت أن نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم كان يحض على مخالفة أهل الكتاب في كل ما اختصوا به (2) "
ويقول محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي:-
" وفي الخلاصة: من أهدى بيضة إلى المجوس يوم النيروز كفر.
__________
(1) مختصر الفتاوى المصرية ص 517 ، 518 = باختصار .
(2) تشبه الخسيس بأهل الخميس للذهبي ص 21-23 .(2/139)
وفي الفتاوى الصغرى: - وإن اشترى يوم النيروز شيئاً ولم يكن يشتريه قبل ذلك، إن أراد به تعظيم النيروز كفر، وإن اتفق الشراء ولم يعلم أن هذا اليوم يوم النيروز لا يكفر.(1)"
صـ377
(د) من الموالاة العملية التي تناقض الإيمان: - إقامة مؤتمرات وتنظيم ملتقيات من أجل تقرير وحدة الأديان، وإزالة الخلاف العقدي، وإسقاط الفوارق الأساسية فيما بين تلك الديانات، وذلك من أجل توحيد هذه الملل المختلفة على أساس الاعتراف بعقائدهم وصحتها، وقد يطلقون على هذه الوحدة المزعومة بين الديانات الثلاث (الإسلام والنصرانية واليهودية) ما يسمى بالديانة الإبراهيمية، أو الديانة العالمية.
وقد نشأت هذه الدعوات المضللة في أحضان التنصير، والصهيونية العالمية (2) كما كان للبهائية مشاركة في إيجاد دين يوافق عليه الجميع! (3) "
ويذكر أن من أشهر دعاة وحدة الأديان في العصر الحديث جمال الدين الفارسي، والمشهور بالأفغاني (4)
__________
(1) رسالة ألفاظ الكفر ص 43 ، 45 ، وانظر البحر الرايق لابن نجيم 5/133 ، وشرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 282 ، والفتاوى البزازية 3/333 ، 334 .
(2) انظر الاتجاهات الوطنية لمحمد محمد حسين 2/318 – 320 والإسلام والأديان لمحمد عوض ص 35 .
(3) انظر الاتجاهات الوطنية لمحمد محمد حسين 2/321 .
(4) جمال الدين بن صفدر بن علي المشهور بالأفغاني ، واسع الإطلاع على مختلف العلوم ، ورحل إلى عدة بلدان ، واشتغل بالسياسة ، له مؤلفات ، ذو شخصية غامضة ، صاحب أفكار منحرفة ، توفي بتركيا سنة 1314 هـ .
انظر : - معجم المؤلفين 3/154 ، الإسلام والحضارة الغربية لمحمد محمد حسين ص 63 .(2/140)
، فقد كان له دور خطير في السعي إلى توحيد الأديان الثلاثة (1)، وتلقف هذه الدعوة من بعده تلميذه محمد عبده (2) فقد كان له مشاركة في التوفيق بين الإسلام والنصرانية (3).
ومن الدعاة لهذه العقيدة الضالة في السنوات الأخيرة: - رجاء جارودي
صـ378
كما هو واضح في رسالته المسماة بـ " وثيقة أشبيلية " (4)
وهذه الفكرة الخبيثة قد وجدت قديماً عند ملاحدة الصوفية كابن سبعين (5) وابن هود (6) والتلمساني (7)، وقد أشار إلى ذلك ابن تيمية رحمه الله في أكثر من موضع في كتبه، فمن ذلك قوله:-
__________
(1) دعوة الأفغاني في ميزان الإسلام لمصطفى غزال ص 241 .
(2) محمد عبده بن حسن آل التركماني ، فقيه ، مفسر ، متكلم ، مارس التعلم ، واشتغل بالسياسة والقضاء ، له مؤلفات ، صاحب نزعة عقلية ، وميول غربية ، توفي بالإسكندرية سنة 1323 هـ .
انظر : معجم المؤلفين 10/272 ، الإسلام والحضارة الغربية لمحمد محمد حسين ص 63 .
(3) الاتجاهات الوطنية لمحمد محمد حسين 2/319 والإسلام والحضارة الغربية لمحمد محمد حسين ص 197 ، 198 .
(4) انظر كتاب : لا لجارودي ووثيقة أشبيلية لسعد ظلام، والإسلام والأديان لمحمد عوض ص 11-20 .
(5) عبد الحق بن إبراهيم بن محمد الرقوطي ، اشتغل بالفلسفة فأصابه إلحاد ، وجاور بغار حراء راجياً النبوة ، هلك عام 669هـ.
انظر : البداية والنهاية 13/261 ، شذرات الذهب 5/329 .
(6) حسن بن علي المغربي الأندلسي ، متصوف فيلسوف ، له صلة باليهود ، صاحب شطح وذهول ، هلك عام 699 هـ .
انظر شذرات الذهب 5/446 ، الأعلام 2/203 .
(7) أبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله العابدي ، شاعر نحوي ، نسب إليه حلول واتحاد وزندقة ، له مؤلفات ، هلك عام 690 هـ
انظر : البداية والنهاية 13/326 ، وشذرات الذهب 5/412 .(2/141)
" كان هؤلاء كابن سبعين ونحوه يجعلون أفضل الخلق " المحقق " عندهم، وهو القائل بالوحدة، وإذا وصل إلى هذا فلا يضره عندهم أن يكون يهودياً أو نصرانياً، بل كان ابن سبعين وابن هود والتلمساني وغيرهم يسوغون للرجل أن يتمسك باليهودية والنصرانية كما يتمسك بالإسلام، ويجعلون هذه طرقاً إلى الله بمنزلة مذاهب المسلمين.(1) "
كما وجدت عند التتار، يقول ابن تيمية في ذلك: - " وكذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى، وأن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين.(2) "
صـ379
ولما كانت الدعوة إلى وحدة الأديان كفراً بواحاً، وردة ظاهرة، يدركها العوام فضلاً عن الخواص، لذا فقد حرص أعداء هذا الدين على إيجاد ذرائع مبطنة واستحداث وسائل مقنعة للوصول إلى مآربهم في هذه القضية، ولذا نجدهم – ابتداء – يجاهرون بضرورة التعايش بين الأديان، والحوار فيما بينها، ثم ينعقون بالحاجة الملحة إلى زمالة الأديان والتقارب فيما بينها من أجل مواجهة قوى الإلحاد والتيارات المادية.
ويأتي " النظام الدولي الجديد " عاملاً رئيساً في إحياء تلك الشجرة الخبيثة، كما هو ظاهر في مثل هذه الأيام القريبة، من كثرة المؤتمرات والملتقيات التي تسعى إلى وحدة و" خلط " الديانات.
إن الدعوة إلى وحدة الأديان كفر صريح، لما تتضمنه من تكذيب للنصوص الصحيحة الظاهرة، والتي تقرر – قطعياً – بأن دين الإسلام الكامل، والذي أتم الله به النعمة، ورضيه لنا ديناً، أنه هو الناسخ لما سبقه من ديانات اعتراها التحريف والتبديل، قال تعالى: - {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران، آية 85]، كما أن هذا القرآن حجة على كل من بلغه.
__________
(1) الصفدية 1/268 ، وانظر : الصفدية 1/98 ، 99 ، والرد على المنطقيين ص 282 ومجموع الفتاوى 14/165 .
(2) مجموع الفتاوى 28/523 .(2/142)
يقول تعالى: - {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغ} [الأنعام، آية 19] كما أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم للثقلين كافة، قال تعالى: - {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف، آية 158].
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء، آية 107].
كما أن الدعوة إلى وحدة الأديان عبارة عن إنكار لأحكام كثيرة معلومة الدين بالضرورة، منها: - استحلال موالاة الكفار، وعدم تكفيرهم، وإلغاء الجهاد في سبيل الله تعالى وتوابعه.. الخ.
وقد حرم الله تعالى موالاة الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، فقال سبحانه: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} [المائدة، آية 51].
وخص سبحانه الولاية بقوله تعالى: - {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} [المائدة، آية 55]. وقد شهد الله تعالى عليهم بالكفر في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران، آية 70].
صـ380
وقال تعالى: - {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة، آية 1].
يقول ابن حزم: - " واتقوا على تسمية اليهود والنصارى كفاراً، واختلفوا في تسميتهم مشركين.(1) "
ويقول القاضي عياض: - " ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك.(2) "
__________
(1) مراتب الإجماع ص 119 ، 120 .
(2) الشفا 2/1071 .(2/143)
وتتضمن دعوة وحده الأديان تجويزاً وتسويغاً لاتباع غير دين الإسلام، وهذا كفر يناقض الإيمان، فمن اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر.
يقول ابن تيمية: - " ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، او اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب.(1) "
وفي نهاية هذه المسألة نقول: - " إن من يحدّث نفسه بالجمع أو التقريب بين الإسلام واليهودية والنصرانية كمن يجهد نفسه في الجمع بين النقيضين بين الحق والباطل وبين الكفر والإيمان وما مثله إلا كما قيل:-
أيها المنكح الثريا سهيلا……عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت……وسهيل إذا استقل يمان(2)
ص381
3-وأما مظاهرة الكفار على المسلمين، فالمقصود بها أن يكون أولئك أنصاراً وظهوراً وأعواناً للكفار ضد المسلمين، فينضمون إليهم، ويذبون عنهم بالمال والسنان والبيان، فهذا كفر يناقض الإيمان.(3) "
وهذا ما يسميه بعض العلماء بـ " التولي " ويجعلونه أخص من عموم الموالاة، كما هو عند بعض أئمة الدعوة السلفية في نجد (4) مع أن جمهوراً من المفسرين يفسرون التولي بالموالاة، فعلى سبيل المثال نذكر ما يلي: -
يقول ابن عطية عند تفسيره لقوله تعالى: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة، آية 23]: - " أي والاهم واتبعهم في أغراضهم.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 28/524 ،وانظر مختصر الفتاوى المصرية ص 507 .
(2) فتاوى اللجنة الدائمة 2/85 .
(3) انظر : تفسير الطبري 3/140 ، ومجموعة التوحيد ص 38 ، والدرر السنية 7/201 ، وفتاوى ابن باز 1/272 .
(4) انظر : الدرر السنية 7/201 ، وعقود الجواهر المنضدة لابن سحمان ص 146 .
(5) تفسير ابن عطية 8/152 .(2/144)
ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله عز وجل: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ..} [الممتحنة، آية 13].
" ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة، كما نهى عنها في أولها فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا..} فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء. (1) "
ويقول البيضاوي عند تفسيره لقوله سبحانه: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51] " أي من والاهم منكم، فإنه في جملتهم، وهذا للتشديد في وجوب مجانبتهم. (2) "
وما يؤكد أن التولي يكون بمعنى المولاة، ما جاء في لغة العرب، فإن التولي والموالاة من مادة واحدة وهي: ولي بمعنى قرب، والولي: الناصر ضد العدو.(3)
صـ382
ولذا فإن شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى – في عدة مواضع من تفسيره – يفسر معنى اتخاذ الكفار أولياء بمعنى جعلهم أنصاراً (4)، وهو بمعنى توليهم.
وإذا كان التولي بمعنى الموالاة، فكما أن موالاة الكفار ذات شعب متفاوتة، منها ما يخرج من الملة كالموالاة المطلقة لهم، ومنها ما دون ذلك … فإن تولي الكفار مثل موالاتهم، فهناك التولي المطلق التام الذي يناقض الإيمان بالكلية، وهناك مراتب دون ذلك.(5)
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/356 .
(2) تفسير البيضاوي 1/279 ، وانظر البيضاوي 2/462 ، وتفسير الآلوسي 28/32 ، وتفسير الشوكاني 5/192 ، وتفسير القاسمي 6/331 .
(3) انظر : معجم مقاييس اللغة لابن فارس 6/141 ، وترتيب القاموس المحيط 4/658 ، والمصباح المنير ص 841 ، ومفردات الراغب ص 837 ، ومختار الصحاح للرازي ص 736 ، ونزهة الأعين النواظر لابن الجوزي 2/208 .
(4) انظر : تفسير الطبري 5/195 ، 6/159 ، 166 , 182 , 28/34 .
(5) أنظر : بدائع الفوائد لابن القيم 4/19 ، ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/7 .(2/145)
ولذا يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي عند تفسيره لقوله تعالى:-
{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة، آية 9]: - " وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان تولياً تاماً، كان ذلك كفراً مخرجاً عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب، ما هو غليظ وما هو دونه.(1) "
ويقول عند تفسيره لقوله تعالى: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51].
" إن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم، والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئاً فشيئاً حتى يكون العبد منهم.(2) "
وعلى كل، فلا مشاحة في الاصطلاح، فالمهم أن مظاهرة الكفار، ونصرتهم والذب عنهم، يناقض الإيمان سواء سمي ذلك تولياً أم موالاة.
إن مظاهرة الكفار ضد المسلمين خيانة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، قال تعالى:- {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ {80} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة، آية 80، 81].
صـ383
فتولى الكفار موجب لسخط الله تعالى، الخلود في عذابه، ولو كان متوليهم مؤمناً ما فعل ذلك.
يقول الطبري عند تفسيره لقوله تعالى: - {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران، آية 28].
__________
(1) تفسير السعدي 7/357 .
(2) المرجع السابق 2/304 .(2/146)
" ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهوراً وأنصاراً، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر.(1) "
وتضمنت رسالة " الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك " للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم تعالى أكثر من عشرين دليلاً في النهي عن موالاة الكفار، فكان مما قاله الشيخ سليمان:-
" قوله تعالى: - {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر، آية 11]
فإذا كان وعد المشركين في السر – بالدخول معهم ونصرتهم والخروج معهم إن جلوا – نفاقاً وكفراً وإن كان كذباً، فكيف بمن أظهر لهم ذلك صادقاً، وقدم عليهم، ودخل في طاعتهم، ودعا إليها، ونصرهم وانقاد لهم، وصار من جملتهم وأعانهم بالمال والرأي؟ هذا مع أن المنافقين لم يفعلوا ذلك إلا خوفاً من الدوائر كما قال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} [المائدة، آية 52].(2)
__________
(1) تفسير الطبري 3/140 .
(2) الدلائل في حكم مولاة أهل الإشراك ص 52 .(2/147)
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – عن هذه المسألة -: " وأما قوله {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51] وقوله: - {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة، آية 22 وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة، آية 57]. فقد فسرته السنة وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة …(1) "
وقد يخلط البعض بين مسألة تولي الكفار ومظاهرتهم، وبين مسألة الاستعانة بهم في قتال الكفار … فالمسألة الأولى خروج عن الملة، ومحاربة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومفارقة لسبيل المؤمنين، يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ عن ذلك: - " وأكبر ذنب وأصله وأعظمه منافاة لأصل الإسلام ونصرة أعداء الله ومعاونتهم، والسعي فيما يظهر به دينهم، وما هم عليه من التعطيل والشرك والموبقات العظام.(2) "
وأما مسألة الاستعانة بهم في قتال كفار آخرين … فهي مسألة خلافية بين أهل العلم، فهناك من منعها، وهناك من أجازها بشروط كأن يحتاج إليهم، وتؤمن خيانتهم، وأن لا يكونوا أصحاب صولة وشوكة … الخ (3)، وأما الاستعانة بالكفار على بغاة المسلمين فهذه ممنوعة عند جماهير علماء الإسلام.(4)
ونورد كلاماً لابن حزم في هذه القضية حيث يقول:-
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/7 .
(2) المرجع السابق 3/57 .
(3) انظر المرجع السابق 3/66 , 67 ، وكتاب الاستعانة بغير المسلمين لعبد الله الطريقي ص 262 – 271 .
(4) انظر كتاب الاستعانة بغير المسلمين لعبد الله الطريقي ص 272 – 274 .(2/148)
" قد علمنا أن من خرج عن دار الإسلام إلى دار الحرب، فقد أبق عن الله تعالى، وعن إمام المسلمين وجماعتهم، ويبين هذا حديثه صلى الله عليه وسلم أنه برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر (1)، قال تعالى : - {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة، آية 71].
صـ385
فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها، من وجوب القتل عليه، متى قدر عليه ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه وغير ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم. وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعانهم عليه ولم يجد في المسلمين من يجيره،فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره.(2) "
-إلى أن قال – وأما من حملته الحمية من أهل الثغر من المسلمين فاستعان بالمشركين الحربيين، وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين، أو على أخذ أموالهم أو سبيهم، فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كأتباع فهو هالك في غاية الفسوق، ولا يكون بذلك كافراً؛ لأنه لم يأت شيئاً أوجب به عليه كفراً: قرآن أو إجماع، وإن كان حكم الكفار جارياً عليه فهو بذلك كافر، فإن كانا متساويين لا يجري حكم أحدهما على الآخر فما نراه بذلك كافراً والله أعلم.(3) "
4 - والآن نورد جملة من الاعتبارات التي تجعل مظاهرة الكفار على المسلمين ناقضاً من نواقض الإيمان:-
(أ) يقول الله تعالى: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة، آية 51].
__________
(1) مراد ابن حزم – هاهنا - : أن يلحق المسلم بدار الحرب مختاراً محارباً – كما سيأتي تمام كلامه بعد قليل - ، انظر للمزيد من التوضيح المحلى 13/140 .
(2) المحلى 13/138 ، 139 .
(3) المرجع السابق 13/140، 141 .(2/149)
فبين الله تعالى أن من فعل ذلك فهو منهم أي من أهل دينهم وملتهم، فله حكمهم.
يقول الطبري في تفسير هذه الآية: - " من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه.(1)
صـ386
ويقول الطبري في تفسيرها: - " قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ} فإنه أي يعضدهم على المسلمين {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} بين أن حكمه حكمهم، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابن أبي، ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة.(2) "
ويقول ابن حزم: - " صح أن قوله تعالى {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51]، إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين.(3) "
ويقول القاسمي في تفسيره: - {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}: أي جملتهم، وحكمه حكمهم، وإن زعم أنه مخالف لهم في الدين، فهو بدلالة الحال منهم لدلالتها على كمال الموافقة.(4) "
إضافة إلى ذلك فإن الله تعالى ذكر بعد هذه الآية، قوله سبحانه {إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة، آية 51].
وفي آية أخرى يقول عز وجل {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة، آية 23] والظلم إذا أطلق يراد به الشرك الأكبر (5)، فدل هذا على أن مظاهرة الكفار على المسلمين خروج عن الملة.
__________
(1) تفسير الطبري 6/160 .
(2) تفسير القرطبي 6/217 ، وانظر تفسير البيضاوي 1/279 ، وتفسير الشوكاني 2/50 .
(3) المحلى 13/35 .
(4) تفسير القاسمي 6/240 .
(5) انظر فتاوى اللجنة الدائمة 2/78 .(2/150)
(ب) ولا ريب أن مظاهرة الكفار على المسلمين تناقض الإيمان، وتنافيه بالكلية، فمثل هذه الموالاة تتضمن بغضاً لدين الله تعالى، وحرباً لعباد الله الصالحين، ونصرة للكفار … ولا شك أن الإيمان لا يمكن أن يجتمع مع هذه الموالاة كما قال تعالى: -
{تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ {80} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة، آية 80، 81]
صـ387
فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان؛ لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم، كما سجل على من تولى الكافرين بالمذمة وحلول السخط عليهم والخلود في العذاب.(1) "
يقول ابن تيمية عن هذه الآيات: - " فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف " لو" التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال:-} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله وما أنزل إليه.
__________
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم 1/490 ، والدرر السنية 7/84 .(2/151)
ومثله قوله تعالى: - {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51]، فإنه أخبر في تلك الآيات أن متوليهم لا يكون مؤمناً، وأخبر هنا أن متوليهم هم منهم، والقرآن يصدق بعضه بعضاً.(1) "
ويقول الشيخ سليمان عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في ذلك: -
" قوله تعالى: - {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة، آية 22].
أخبر تعالى أنك لا تجد من يؤمن بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، وأن هذا مناف للإيمان مضاد له، لا يجتمع هو والإيمان إلا كما يجتمع الماء والنار.(2) "
(ج) جاء النص القرآني مقرراً براءة الله تعالى ممن ظاهر الكفار، فقال تعالى: - {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران، آية 28].
ويقول البيضاوي عند هذه الآية: - {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} [أي اتخاذهم أولياء، {فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ} أي من ولايته في شيء يصح أن يسمى ولاية، فإن موالاة المتعاديين لا يجتمعان.(3) "
__________
(1) الإيمان ص 13 ، 14 ، وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/17 , 542 .
(2) تفسير البيضاوي 1/155 ، وانظر تفسير ابن كثير 1/357 .
(3) الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك ص 56 ، وانظر ص 39 .(2/152)
ويقول الشوكاني في تفسير هذه الآية: - " قوله {لاَّ يَتَّخِذِ} فيه النهي عن موالاة الكفار لسبب من الأسباب … وقوله: {مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ} في محل الحال: أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالاً أو اشتراكاً … ومعنى قوله {فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ} أي من ولايته في شيء من الأشياء، بل هو منسلخ عنه بكل حال.(1) "
(د) إن مظاهرة أعداء الله تعالى كفر نفاق، وقد حكم الله تعالى بذلك في قوله عز وجل: - {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً {88} وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ…} [النساء، آية 88 , 89].
وذلك أن قوماً كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا إن لقينا أصحاب محمد عليه السلام فليس علينا منهم بأس، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله أو كما قالوا تقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا، ويتركوا ديارهم، تستحل دماؤهم وأموالهم لذلك، فكانوا كذلك فئتين … فنزلت الآية تقرر نفاقهم وكفرهم وأن الله تعالى أركسهم أي ردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم (2).
صـ389
__________
(1) فتح القدير 1/331 وانظر رسالة أوثق عرى الإيمان ص 28 ، والدلائل ص 32 كلاهما للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب .
(2) انظر : تفصيل ذلك : في تفسير الطبري 5/113 .(2/153)
إن مظاهرة الكفار على المسلمين خصلة من خصال المنافقين، وشعبة من شعب النفاق، كما جاء بيان ذلك في كثير من نصوص القرآن الكريم.
قال تعالى: - {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {138} الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} [النساء، آية 138، 139].
وقال سبحانه: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {14} أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة، آية 14، 15].
وقال عز وجل: - {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر، آية 11].
وقال سبحانه: - {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} [المائدة، آية 52].
يقول ابن جرير في تفسير الآية الأخيرة: - " هذا خبر عن ناس من المنافقين كانوا يوالون اليهود والنصارى، ويغشون المؤمنين، ويقولون نخشى أن تدور دوائر إما لليهود والنصارى، وإما لأهل الشرك من عبدة الأوثان، أو غيرهم على أهل الإسلام، أو تنزل بهؤلاء المنافقين فيكون بنا إليهم حاجة، وقد يجوز أن يكون ذلك كان من قول عبد الله بن أبي، ويجوز أن يكون كان من قول غيره، غير أنه لا شك أنه من قول المنافقين.(1) "
__________
(1) تفسير الطبري 6/161 .(2/154)
وسئل الشيخ سليمان ين عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عمن أظهر علامات النفاق ممن يدعي الإسلام، هل يقال عنه أنه منافق أم لا؟
فأجاب رحمه الله: - " من ظهرت منه علامات النفاق الدالة عليه كارتداده عند التحزيب على المؤمنين وخذلانهم عند اجتماع العدو، كالذين قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وكونه إذا غلب المشركون التجأ إليهم، ومدحه للمشركين بعض الأحيان، وموالاتهم من دون المؤمنين، وأشباه هذه العلامات التي ذكر الله أنها علامات للنفاق، وصفات للمنافقين، فإنه يجوز إطلاق النفاق عليه وتسميته
صـ390
منافقاً …(1) "
5. ونختم هذا المبحث بإيراد جملة من كلام أهل العلم في هذه المسألة:-
يقول ابن تيمية: - " فمن قفز منهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار، فإن التتار فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة. (2) "
يقول ابن القيم: - " إنه سبحانه قد حكم، ولا أحسن من حكمه أن من تولى اليهود والنصارى فهو منهم {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم. (3) "
وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – مظاهرة الكفار ضد المسلمين ضمن نواقض الإسلام، فقال: -
الناقض الثامن: - مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة، آية 51](4) "
__________
(1) الدرر السنية 7/79 ، 80 .
(2) مجموع الفتاوى 28/534 ، وانظر مجموع الفتاوى 28/530 ، 531 ، ومختصر الفتاوى المصرية ص 507 ، 508 ، ومجموعة الرسائل والمسائل 1/41 – 43 .
(3) أحكام أهل الذمة 1/67 .
(4) مجموعة التوحيد ص 38 .(2/155)
ويقول الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ (1):-
" التولي كفر يخرج من الملة، وهو كالذب عنهم وإعانتهم بالمال والبدن والرأي.(2)
صـ391
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز: - " وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم، كما قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51](3)
ص392
الفصل الثاني
نواقض الإيمان العملية في النبوات
في هذا الفصل سنورد مثالاً واحداً على ما يناقض الإيمان بالنبوات، وهو الاستهانة بالمصحف.
ونذكر ابتداء بما هو معلوم عند كل مسلم من وجوب الإيمان بالقرآن الكريم وتصديقه واتباعه، فالقرآن كلام الله تعالى، ولا يماثل شيئاً من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، فيجب تعظيمه وإجلاله، وتلاوته حق تلاوته، والذب عنه أمام تحريف الغالين وانتحال المبطلين.
فهذا القرآن العظيم هو كلام الله عز وجل {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة، آية 6]،
وقال تعالى: - {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [النساء، آية 122، وهو حق، ونزل بالحق قال سبحانه {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء، آية 105].
__________
(1) هو عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ، من علماء نجد في هذا العصر ، نشأ في الأحساء ، ودرس في الرياض ، وتتلمذ على يديه خلق كثير ، له بعض الفتاوى والرسائل، توفي في الرياض سنة 1339هـ .
انظر : علماء نجد 1/78 ، والدرر السنية 12/98 .
(2) الدرر السنية 7/201 .
(3) فتاوي ابن باز 1/274 .(2/156)
وقال تعالى: - {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} [يونس، آية 13]
وهذا القرآن قول فصل، لا باطل ولا لعب: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ {13} وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق، آية 13]
ومن ثم فيتعين توقير هذا الكتاب والقيام بإجلاله وتقديره تحقيقاً للإيمان بالقرآن، وتنفيذاً للنصيحة لكتابه تعالى.
والاستهانة بالمصحف تناقض هذا الإيمان، وتنافيه بالكلية، والمقصود بالاستهانة – هاهنا – الاستخفاف والاستهزاء والاحتقار.(1) والاستهانة بالمصحف قد تكون أقوالاً (2)، وقد تكون أعمالاً.
صـ393
والاستهانة العملية بالقرآن الكريم أن يفعل عامداً ما يتضمن احتقاراً أو استخفافاً بهذا القرآن، أو إسقاطا لحرمته، ولهذه الاستهانة عدة أمثلة منها: - أن يضع المصحف تحت قدمه، أو يلقيه في القاذورات، أو يسعى إلى تغييره وتبديله بزيادة أو نقصان.
وسنتحدث بشيء من التفصيل عن مسألة التبديل في آيات الكتاب إما بزيادة أو نقصان، نظراً لظهور هذا الكفر ووقوعه وانتشاره عند الفرق المنحرفة، كالباطنية مثلاً والتي تنتسب للإسلام زوراً وبهتاناً.
لقد تكفل الله تعالى بحفظ كتابه عن كل ما لا يليق من زيادة، أو نقصان، أو تصحيف أو تحريف ونحوه، ومن ثم فإن هذا القرآن لا اختلاف فيه ولا اضطراب ولا تعارض.
ولذا فإن المناسب أن نورد بعض النصوص الشرعية التي تقرر حفظ الله تعالى لكتابه العزيز، ونسوق أقوالاً مختارة لبعض الأئمة في ذلك.
يقول الله تعالى:-
__________
(1) انظر : اللسان 13/438 ، والمصباح المنير ص 795 ، ومختار الصحاح للرازي ص 2 , 7 .
(2) انظر أمثلة على تلك الأقوال الكفرية : شرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 249 – 254 ، والفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى الهندية) 3/338 ، والإعلام للهيتمي ص 359 .(2/157)
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء، آية 82]
يقول ابن جرير في تفسير هذه الآية:-
" يعني جل ثناؤه بقوله أفلا يتدبرون القرآن، أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله فيعملوا حجة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم لاتساق معاينة، وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضاً بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض.(1)
ويقول ابن عطية:-
" قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} هذا أمر بالنظر والاستلال ثم عرف تعالى، بمواقع الحجة، أي لو كان من كلام البشر لدخله ما في كلام البشر من القصور وظهر فيه تناقض والتنافي الذي لا يمكن جمعه، إذ ذلك موجود
صـ394
في كلام البشر والقرآن منزه عنه إذ هو كلام المحيط بكل شيء علماً.
فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافاً في شيء من كتاب الله، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل من هو أعلم منه.(2) "
ويقول محمد رشيد رضا:-
" وإن تعجب فعجب أن تمر السنون والأحقاب، وتكر القرون والأجيال، وتتسع دوائر العلوم والمعارف، وتتغير أحوال العمران ولا تنقض كلمة من كلمات القرآن، لا في أحكام الشرع، ولا في أحوال الناس وشؤون الكون، ولا في غير ذلك من فنون القول.(3) "
ويقول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر، آية 9].
__________
(1) تفسير ابن جرير 5/6, 1 ، وانظر تفسير ابن كثير 1/1 , 5 ، 2 , 5
(2) تفسير ابن عطية 4/187 ، 188 .
(3) تفسير المنار 5/289 .(2/158)
يقول ابن جرير في تفسير هذه الآية:- " يقول تعالى ذكره إنا نحن نزلنا الذكر وهو القرآن وإنا له لحافظون من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه (1) "
ويقول أبو السعود: - {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من كل ما لا يليق به فيدخل فيه تكذيبهم له واستهزاؤهم به دخولاً أولياً، فيكون وعيداً للمستهزئين، وأما الحفظ عن مجرد التحريف والزيادة والنقص وأمثالها فليس بمقتضى المقام، فالوجه الحمل على الحفظ من جميع ما يقدح فيه من الطعن فيه، والمجادلة في حقيته، ويجوز أنه يراد حفظه بالإعجاز دليلاً على التنزيل من عنده تعالى، إذ لو كان من عند غير الله لتطرق عليه الزيادة والنقص والاختلاف.(2)
ويقول الآلوسي: - {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، أي من كل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك، حتى إن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان ويقول من كان: الصواب كذا.
صـ395
ولم يحفظ سبحانه كتاباً من الكتب كذلك، بل استحفظها جل وعلا الربانيين والأحبار فوقع فيها ما وقع، وتولى حفظ القرآن بنفسه سبحانه فلم يزل محفوظاً أولاً وآخراً.(3) "
وعقد الإمام البخاري (4)
__________
(1) تفسير ابن جرير 14 / 6 ، وانظر تفسير ابن كثير 2/528 ، والقرطبي 10/5 .
(2) تفسير أبي السعود 3/296 ، وانظر فتح القدير للشوكاني 3/122 .
(3) روح المعاني 14/16 = باختصار .
(4) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي ، أمير المؤمنين في الحديث ، صاحب الصحيح ، الحافظ ، الفقيه ، المؤرخ ، له رحلات كثيرة ، ومؤلفات جمة ، توفي سنة 256 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 12/391 ، ومقدمة فتح الباري .(2/159)
- في صحيحه – باباً بعنوان: " باب من قال لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما بين الدفتين "وساق بسنده إلى عبد العزيز بن رفيع حيث قال: - " دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس رضي الله عنهما، فقال شداد بن معقل: أترك النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم من شيء؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين (1)؛ قال: ودخلنا على محمد بن الحنفية (2) فسألناه، فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين. (3)
يقول الحافظ ابن حجر: - " وهذه الترجمة للرد على من زعم أن كثيراً من القرآن ذهب لذهاب حملته، وهو شيء اختلقه الروافض لتصحيح دعواهم أن التنصيص على إمامة علي، واستحقاقه الخلافة عند موت النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابتاً في القرآن وأن الصحابة كتموه، وهي دعوى باطلة؛ لأنهم لم يكتموا مثل: - " أنت عندي بمنزلة هارون من موسى " (4) وغيرها من الظواهر التي قد يمسك بها من يدعي إمامته.(5)
صـ396
ويقول الشاطبي: - " إن هذه الشريعة المباركة معصومة، كما أن صاحبها معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة.
ويتبين ذلك من وجهتين:-
أحدهما: - الأدلة الدالة على ذلك تصريحاً وتلويحاً، كقوله تعالى: - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر آية 9، وقوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود، آية 1]
__________
(1) اللوحتين ، والمراد به المصحف .
(2) محمد بن علي بن أبي طالب ، من كبراء التابعين ، كان ورعاً كثير العلم ، وهو من سادات قريش ، كان شجاعاً قوياً ، مات بالمدينة سنة 81 هـ .
…انظر : البداية والنهاية 9/38، سير أعلام النبلاء 4/110.
(3) أخرجه البخاري ، ك فضائل القرآن (9/64) ح (5019) .
(4) أخرجه البخاري ، ك فضائل الصحابة (7/71) ، ح (3706) ، ومسلم ، ك فضائل الصحابة (4/1871) ، ح (2404) .
(5) فتح الباري 9/65 .(2/160)
والثاني: - الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وذلك أن الله عز وجل وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة، والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل.
أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلاً عن القراء الأكابر.(1) "
وتحدث ابن حزم عما يجب اعتقاده في مسألة حفظ الله تعالى لكتابه فقال:-
" إن القرآن المقروء المكتوب في المصاحف حق نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كلام الله عز وجل، حقاً لا مجازاً، وهو علم الله تعالى، وأنه محفوظ لم يغير منه شيء ولا حرف، ولا زيد فيه حرف فما فوقه، ولا نقص منه حرف فما فوقه، قال الله عز وجل: - {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء، آية 193 , 194]، وقال تعالى:- {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت، آية 49].
وقال تعالى:- {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ {77} فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ {78} لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ {79} تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة، آية 77-79].
وقال تعالى: - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر، آية 9].
فمن قال إن القرآن نقص منه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حرف، أو زيد فيه حرف، أو بدل منه حرف، أو أن هذا المسموع أو المحفوظ أو المكتوب أو المنزل ليس هو القرآن، أو قال: إن القرآن لم ينزل به جبريل صلى الله عليه وسلم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنه ليس هو كلام الله تعالى
صـ397
فهو كافر، خارج عن دين الإسلام؛ لأنه خالف كلام الله عز وجل، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل الإسلام.(2)
__________
(1) الموافقات 2/58 , 59 = باختصار .
(2) الدرة فيما يجب اعتقاده ص 218 – 221 = باختصار يسير .(2/161)
3. إن الاستهانة بالقرآن ناقض من نواقض الإيمان لجملة من الاعتبارات نذكر منها ما يلي:-
(أ) أن الاستهانة بالمصحف تناقض الإيمان، فالإيمان مبني على إجلال الله تعالى وتعظيم كلامه، والاستهانة استخفاف واستهزاء، يقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ} [التوبة، آية 65 , 66] والإيمان انقياد وخضوع، والاستهانة بالمصحف لا تجتمع مع هذا الانقياد والخضوع، فمن استهان بالمصحف، امتنع أن يكون منقاداً لأمر الله تعالى.
يقول ابن تيمية: - " إن الانقياد إجلال وإكرام، والاستخفاف إهانة وإذلال، وهذان ضدان، فمتى حصل في القلب أحدهما، انتفى الآخر فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد.(1) "
(ب) أن الله تعالى توعد من اتخذ آياته هزواً بالعذاب المهين، ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار.(2)
كما توعد أولئك المستهينين بآياته بالخلود في النار. فقال تعالى: - {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية، آية 9]
وقال سبحانه: - {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ {34} ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية، آية 34 , 35].
(ج) أن الاستهانة بالمصحف تكذيب لله تعالى في خبره، ومناقضة لما أمر الله تعالى به من تعظيم كلامه عز وجل، والاستهانة بالقرآن استهانة بمن تكلم به تعالى.(3)
يقول الله تعالى: - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر، آية 9]
صـ398
__________
(1) الصارم المسلول ص 521 .
(2) انظر المرجع السابق ص 52 .
(3) انظر مغني المحتاج للشربيني 4/136 .(2/162)
ويقول سبحانه: - {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا {82}} [النساء، آية 82].
وقال تعالى: - {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء، آية 88].
وقال سبحانه: - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج، آية 52] فأخبر تعالى أنه يحفظ آياته، ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل (1)
فمن استهان بالمصحف سواء كان بتحريف، أو تصحيف أو زيادة، أو نقص فهو مكذب بمثل الآيات الكريمة التي سبق ذكرها، ولقد حكم الله تعالى – ولا معقب لحكمه – لكفر على من جحد آياته، وأخبر تعالى بأنه لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة، كما سبق إيراده.(2) "
يقول الحليمي (3): - إن الله حفظ القرآن، فقال عند ذكره {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر آية 9]. وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ {41}لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت، آية 42].
__________
(1) انظر الموافقات للشاطبي 2/58 .
(2) انظر المبحث الثالث من الفصل الثاني في الباب الأول .
(3) أبو عبد الله الحسين بن الحسن البخاري الشافعي ، محدث متكلم عاش في بلاد ما وراء النهر ، كان ذكياً سيال الذهن ، له مؤلفات ، توفي سنة 403 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 17 / 231 ، طبقات الشافعية 4/333 .(2/163)
فمن أجاز أن يتمكن أحد من زيادة شيء في القرآن أو نقصانه منه، أو تحريفه أو تبديله، فقد كذب الله في خبره، وأجاز الوقوع فيه، وذلك كفر.(1) "
ويقول القرطبي:-
" لا خلاف بين الأمة ولا بين الأئمة أهل السنة أن القرآن اسم لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معجزة له، وأنه محفوظ في الصدور،
صـ399
مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف، معلومة على الاضطرار سوره وآياته، مبرأ من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته، فلا يحتاج في تعريفه بحد، ولا في حصره بعد، فمن ادعى زيادة عليه أو نقصاناً منه فقد أبطل الإجماع، وبهت الناس، ورد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن المنزل عليه، ورد قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء، آية 88]، وأبطل آية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا ذاك يصير القرآن مقدوراً عليه، حين شيب بالباطل، ولما قدر عليه لم يكن حجة ولا آية، وخرج عن أن يكون معجزاً.(2) "
(د) أن الاستهانة بالمصحف – تحريفاً أو تبديلاً – استهانة بالدين، وهدم لأصول هذه الشريعة وفروعها، وهو طعن في تمام دين الإسلام وكماله.
ولذا يقول ابن حزم: - " والدين قد تم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه، ولا يبدل.
قال تعالى: - {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة، آية 3]
وقال تعالى: - {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ} [يونس، آية 64}، والنقص والزيادة تبديل.(3) "
__________
(1) المنهاج في شعب الإيمان 1/320 .
(2) تفسير القرطبي 1/80 ، 81 .
(3) المحلى 1/31 .(2/164)
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: - " ومن اعتقد عدم صحة حفظه {أي المصحف} من الإسقاط، واعتقد ما ليس منه أنه منه قد كفر، ويلزم من هذا رفع الوثوق بالقرآن كله، وهو يؤدي إلى هدم الدين، ويلزمهم عدم الاستدلال به، والتعبد بتلاوته، لاحتمال التبدل، ما أخبث قول قوم يهدم دينهم.(1) "
وعندما تحدث محمود شكري الآلوسي (2) عن القرآن الكريم، وأنه محفوظ
صـ400
عن الزيادة والنقصان، ثم ذكر معتقد الإثني عشرية في القرآن … قال بعد ذلك:- " والحق ما ذهب إليه أهل السنة وجمهور الفرق الإسلامية أنه ليس في القرآن تحريف ولا نقصان، وذلك لأن الله تعالى قال: - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر، آية 9].
وإذا كان الله تعالى الحافظ له، كيف يتمكن أحد من تحريفه، لأن تبليغ القرآن كان واجباً على الرسول عليه الصلاة والسلام إلى كافة الناس، أو بمن اتبعه …
ولم يزل المسلمون يتعبدون بتلاوته آناء الليل، وأطراف النهار، ويرون ذلك من أفضل الطاعات والأعمال من زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى زمننا هذا، وكل ما في هذا شأنه لا يمكن تغييره ولا إسقاط شيء منه، ولأنه لو كان فيه تحريف بتغيير أو نقصان لم يبق وثوق بالأحكام.(3) "
__________
(1) رسالة في الرد على الرافضة ص 14 .
(2) أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله الآلوسي الحسيني ، عالم بالشرع ، والتاريخ والأدب ولد في بغداد سنة 1273 هـ ، له جهود في الرد على المبتدعة ، وألف كتباً كثيرة ، توفي ببغداد سنة 1342 هـ .
انظر : - كتاب تلميذه محمد بهجت الأثري " أعلام العراق " ص 36 ، الأعلام 7/172 .
(3) السيوف المشرقة ومختصر الصوامق المحرقة ، (مخطوط) ، ق 129 = باختصار .(2/165)
(هـ) أجمع العلماء على كفر من استهان بالمصحف، وخروجه عن الملة، وقد نقل هذا الإجماع جماعة من أهل العلم (1) ونورد هاهنا ما يلي:-
ذكر ابن حزم أن العلماء اتفقوا على: " أن كل ما في القرآن حق، وأن من زاد فيه حرفاً من غير القراءات المروية المحفوظة المنقولة نقل الكافة، أو نقص حرفاً، أو بدل منه حرفاً مكان حرف، وقد قامت عليه الحجة أنه من القرآن فتمادى متعمداً لكل ذلك عالماً بأنه بخلاف ما فعل فإنه كافر.(2) "
ويقول أيضاً: - " إن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم وهو أن كل من بدل آية من القرآن عامداً وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك، أو أسقط كلمة عمداً كذلك، أو زاد فيها كلمة عامداً فإنه كافر بإجماع الأمة كلها.(3) "
ويقول القاضي عياض: - " اعلم أن من استخف بالقرآن، أو المصحف، أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحده، أو حرفا منه، أو آية، أو كذب به، أو بشيء
صـ401
منه، أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه فهو كافر عند أهل العلم بإجماع، قال تعالى: - {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت، آية 42].(4) "
4.وفي نهاية هذا الفصل نذكر جملة من كلام العلماء في هذه المسألة:-
يقول ابن حزم – في الرد على اعتراض النصارى بأن الروافض يزعمون أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بدلوا القرآن …:- " وأما قولهم في دعوى الروافض تبديل القرآن، فإن الروافض ليسوا من المسلمين.(5) "
__________
(1) وقد سبق ذكر شيء من ذلك فيما مضى ، مما هو قريب من موضوع هذا الفصل ، انظر : - المبحث الثالث من الفصل الثاني في الباب الأول .
(2) مراتب الإجماع ص 174 .
(3) الفصل 3/296 ، وانظر : المحلى 1/39 ، والإحكام في أصول الأحكام 1/86 .
(4) الشفا 2/1101 ، وانظر 2/1076 .
(5) الفصل 2/213 ، وانظر المحلى 1/15 .(2/166)
وقال محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي:_ " من استخف بالقرآن أو بالمسجد أو بنحوه مما يعظم في الشرع كفر، ومن وضع رجله على المصحف حالفاً استخفافاً كفر.(1) "
وذكر الدردير أن من موجبات الردة:: " إلقاء مصحف أو بعضه ولو كلمة، وكذا حرقه استخفافاً لا صوناً، ومثل إلقائه، وتركه بمكان قذر، ولو طاهراً كبصاق أو تلطيخه به … ومثل المصحف الحديث، وأسماء الله تعالى وكتب الحديث، وكذا كتب الفقه إن كان على وجه الاستخفاف بالشريعة.(2) "
وقال النووي:- " الأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كإلقاء المصحف في القاذورات.(3) "
وقال قليوبي شارحاً قول النووي: - " إلقاء مصحف بقاذورة ": - " قوله كإلقاء مصحف بقاذورة " بالفعل أو بالعزم والتردد فيه ومسه بها كإلقائه فيها، وألحق بعضهم به وضع رجله عليه ونوزع فيه، والمراد بالمصحف ما فيه قرآن ومثله
صـ402
الحديث، وكل علم شرعي وما عليه اسم معظم، قال شيخنا الرملي: ولا بد في غير القرآن من قرينة تدل على الإهانة وإلا فعلا، وشملت القاذورة الطاهرة كبصاق ومخاط ومني.(4) "
__________
(1) رسالة في ألفاظ الكفر ص 22 ، ويقول ملا علي قاري معلقاً على الجملة الأخيرة : - " ولا يخفى أن قوله حالفاً قيد واقعي فلا مفهوم له . " شرح الفقه الأكبر ص 250
(2) الشرح الصغير 6/145 , 146 ، وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/301 ، وبلغة السالك 2/416 ، والخرشي على مختصر خليل 7/62 , 63 .
(3) روضة الطالبين 10/64 ، وانظر مغني المحتاج للشربيني 4/136 ، ونهاية المحتاج للرملي 7/416 .
(4) قليوبي وعميرة 4/176 ، وانظر الأعلام للهيتمي ص 349 .(2/167)
وعد البهوتي من نواقض الإسلام ما يلي: - " أو وجد منه امتهان القرآن، أو طلب تناقضه، أو دعوى أنه مختلف، أو مقدور في مثله، أو إسقاط حرمته كفر؛ لقوله تعالى: - {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر، آية 21] وقوله: - " {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء، آية 82] وقوله {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [ الإسراء، آية 88]. (1)
صـ403
الباب الثالث:
نواقض الإيمان المختلف فيها القولية والعملية
صـ404
في البابين السابقين كان الحديث شاملاً للنواقض القولية والعملية المتفق عليها بين أهل السنة.
وفي هذا الباب سنتحدث عن أمثلة مهمة على نواقض الإيمان المختلف فيها بين أهل السنة أيضاً، وسيظهر من خلال عرض أكثر تلك المسائل أن الخلاف فيها يسير، وذلك عند تحقيق معاني تلك النواقض، ومعرفة تفاصيل مجملها، وتنوع احتمالاتها.
صـ405
الفصل الأول: النواقض القولية
المبحث الأول: (سب الصحابة رضي الله عنهم)(2)
1- في مطلع هذا المبحث نشير إلى ما يجب علينا نحو الصحابة رضي الله عنهم، فالواجب علينا أن نحبهم ونجلهم ونترضى عنهم، وننزلهم المنزلة اللائقة بهم من غير إفراط ولا تفريط، كما ينبغي أن تسلم قلوبنا وألسنتنا نحوهم، وأن نمسك عما شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
__________
(1) كشاف القناع 6/137 ، وانظر شرح منتهى الإرادات 3/387 ، وغاية المنتهى لمرعي الكرمي 3/339 .
(2) في هذا المبحث استفدت مما كتبه الأخ محمد الوهيبي في بحث نشر في مجلة البيان ع ، 25، 26 بعنوان (اعتقاد أهل السنة في الصحابة).(2/168)
يقول الله تعالى:- {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة، آية 100]
ويقول سبحانه: - {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح، آية 29].
ويقول عز وجل: - {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر، آية 8 , 9] وقال صلى الله عليه وسلم: - " لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحداً أنفق مثل
صـ406(2/169)
أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه (1) "
وقد قرر علماء أهل السنة في مؤلفاتهم – اتباعاً لما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم - الواجب نحو الصحابة رضي الله عنهم وإليك أمثلة من تقريراتهم على النحو التالي:-
فذكر الحميدي رحمه الله تعالى أن من السنة: - " الترحم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم فإن الله عز وجل قال: - {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر، آية 10]، فلم نؤمر إلا بالاستغفار لهم، فمن سبهم أو تنقضهم، أو أحداً منهم فليس على السنة، وليس له في الفيء حق، أخبرنا بذلك غير واحد عن مالك بن أنس.(2) "
وقال الطحاوي في عقيدته المشهورة: - " ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بالخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.(3) "
__________
(1) أخرجه البخاري ، ك فضائل الصحابة (7/21) ح ( 3673) ، ومسلم ، ك فضائل الصحابة (4/1967) ح (2540) ، انظر ما ورد في فضل الصحابة في الكتاب والسنة : - كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل ، وفضائل الصحابة للنسائي ، والصواعق المحرقة للهيتمي ، ودر السحابة في مناقب الصحابة للشوكاني ، وإتحاف ذوي النجابة لمحمد العربي ، وكتاب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيادة الكبيسي 149 ? 176 .
(2) أصول السنة للحميدي (بذيل مسنده) 2/546 .
(3) شرح العقيدة الطحاوية 2/689 .(2/170)
ويقول ابن بطة – في هذه المسألة: - " ويشهد لجميع المهاجرين والأنصار بالجنة والرضوان والتوبة والرحمة من الله، ويستقر علمك وتوقن بقلبك أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم وشاهده وآمن به واتبعه ولو ساعة من نهار أفضل ممن لم يره، ولم يشاهده ولو أتى بأعمال الجنة أجمعين، ثم الترحم على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرهم وكبيرهم، وأولهم وآخرهم، وذكر محاسنهم ونشر فضائلهم، والاقتداء بهديهم، والاقتفاء لآثارهم.(1) "
صـ407
ويذكرهم ابن بطة المسلك الصحيح تجاه النزاع بين الصحابة، فيقول: -
" ونكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل، فقد غفر الله لهم، وأمرك بالإستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولا تنظر في كتاب صفين والجمل، ووقعه الدار وسائر المنازعات التي جرت بينهم، ولا تكتبه لنفسك، ولا لغيرك، ولا تروه عن أحد، ولا تقرأ على غيرك، ولا تسمعه ممن يرويه، فعلى ذلك اتفاق سادات علماء هذه الأمة من النهي عما وصفناه.(2) "
ويقول أبو نعيم (3): " فالواجب على المسلمين في أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم إظهار ما مدحهم الله تعالى به وشكرهم عليه من جميل أفعالهم، وجميل سوابقهم، وأن يغضوا عما كان منهم في حال الغضب والإغفال وفرط منهم عند استزلال الشيطان إياهم.
__________
(1) الإبانة الصغرى ص 263 – 265 .
(2) المرجع السابق = باختصار ص 268 , 269 .
(3) أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني الشافعي ، محدث مؤرخ ، صاحب تصوف له مؤلفات ، توفي بأصبهان سنة 430هـ .
انظر : طبقات الشافعية 4/18 ، البداية والنهاية 12/45 .(2/171)
ونأخذ في ذكرهم بما أخبر الله تعالى به فقال تعالى: - {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر، آية 10]، فإن الهفوة والزلل والغضب والحدة والإفراط لا يخلو منه أحد، وهو لهم غفور، ولا يوجب ذلك البراءة منهم، ولا العداوة لهم، ولكن يحب على السابقة الحميدة، ويتولى للمنقبة الشريفة.
-إلى أن قال –: فلا يتتبع هفوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزللهم، ويحفظ عليهم ما يكون منهم في حال الغضب والموجدة إلا مفتون القلب في دينه.(1) "
صـ408
ومما سطره شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني (2) في رسالته " عقيدة أصحاب الحديث ":- " ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم ونقصاً فيهم، ويرون الترحم على جميعهم، والموالاة لكافتهم، وكذلك يرون تعظيم قدر أزواجه رضي الله عنهن والدعاء لهن، ومعرفة فضلهن، والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين.(3) "
__________
(1) الإمامة ص 341 , 342 ، 344 ، وانظر ص 208 – 211 .
(2) إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الصابوني الشافعي ، محدث فقيه ، مفسر واعظ ، نصر السنة في خراسان ، ولقب بشيخ الإسلام ، توفي سنة 449 هـ .
انظر : طبقات الشافعية 4/271 ، وسير أعلام النبلاء 18/40 .
(3) عقيدة السلف أصحاب الحديث ص 93.(2/172)
وجاء في " العقيدة الواسطية " ما يلي:- " ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله تعالى: - {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر، آية 10]، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه (1) " ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم.(2) "
ثم قال: - " ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم، منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذرون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. (3) "
-إلى أن قال – " ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما
صـ409
من الله عليهم به من الفضائل علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله.(4) "
__________
(1) سبق تخريجه ص 406 .
(2) شرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل هراس ص 157 , 158 .
(3) المرجع السابق ص 164 .
(4) المرجع السابق ص 167 .(2/173)
وبهذا يعلم عظم منزلة الصحابة رضي الله عنهم، وأنه لا يعدلها شيء، وأن حبهم طاعة وإيمان وبغضهم معصية ونفاق، وأن من أصول أهل السنة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي المقابل فإن بغض الصحابة أو سبهم من صفات المبتدعة كما هو ظاهر – مثلاً – عند الرافضة والخوارج.
2 - وإذا تقرر واجبنا تجاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإننا ننتقل إلى الحديث عن حكم سب الصحابة رضي الله عنهم.
وابتداء نذكر بمعنى السب، فهو الشتم وكل كلام قبيح يوجب الإهانة والتنقص والاستخفاف.(1) "
واختلف العلماء فيمن سب الصحابة رضي الله عنهم، وهل يكفر بذلك؟(2)
وذلك أن سب الصحابة ليس على مرتبة واحدة، بل له مراتب متفاوتة، فإن سب الصحابة أنواع ودركات، فمنها سب يطعن في عدالتهم، ومنها سب لا يوجب الطعن في عدالتهم، وقد يكون السب لجميعهم، وأكثرهم وقد يكون لبعضهم، وهناك سب لمن تواترت النصوص بفضله، ومنهم دون ذلك.
وسنورد جملة من أنواع سب الصحابة رضي الله عنهم مما يعد ناقضاً من نواقض الإيمان على النحو التالي:-
أ - إن كان مستحلاً لسب الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر (3)، فمن المعلوم أن جميع الصحابة رضي الله عنهم عدول، وقد أجمع العلماء على عدالتهم، لما جاء في الكتاب والسنة من الثناء الحسن عليهم، المدح لهم ونقل هذا الإجماع
صـ410
جمع كثير من العلماء، منهم النووي حيث يقول:-
" وكلهم عدول رضي الله عنهم، ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شيء من ذلك أحداً منهم عن العدالة …
__________
(1) انظر مسألة سب الله تعالى في المبحث من الفصل الأول في الباب الأول .
(2) انظر : الشفا للقاضي عياض 2/1108 – 1114 ، والصارم المسلول ص 567 – 587 ، وصحابة رسول الله لعيادة الكبيسي ص 334 – 346 .
(3) انظر الصارم المسلول لابن تيمية ص 569 ، 571 .(2/174)
-إلى أن قال – ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم، وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين.(1) "
ويقول ابن الصلاح (2) في مقدمته: - " للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه، لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة.
-إلى أن قال – ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحساناً للظن بهم، نظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه أتاح الإجماع على ذلك، لكونهم نقلة الشريعة والله أعلم.(3) "
ويقول ابن كثير: - " والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل، والجزاء الجميل.(4) "
وقد تقرر أن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بالكتاب والسنة، قال تعالى:- {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات، آية 12].
قال ابن تيمية: - " وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتاباً.(5) "
وقال عز وجل: - {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران، آية 119].
صـ411
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 15/149 .
(2) أبو عنمر عثمان بن صلاح الدين بن عبد الرحمن الكردي الشهرزوري الشافعي ، إمام ، محدث ، درس وأفتى ، صاحب هيبة ووقار ، أتقن علوماً كثيرة ، توفي سنة 643 هـ.
انظر : طبقات الشافعة 8/326 ، وسير أعلام النبلاء 23/140 .
(3) مقدمة ابن الصلاح ص 427 ، 428 .
(4) الباعث الحثيث ص 205 .
(5) الصارم المسلول ص 571 .(2/175)
قال ابن تيمية: - " ومحبة الشيء كراهته لضده، فيكون الله يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار، والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة.(1) "
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.(2) "
فسب الصحابة كبيرة من كبائر الذنوب، لما ترتب عليه من الوعيد باللعنة (3)، واستحلال سبهم إنكار لما علم تحريمه من الدين بالضرورة، ومن ثم فهو خروج عن الملة.(4) "
ولذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب:-
" فإذا عرفت أن آيات القرآن تكاثرت في فضلهم والأحاديث المتواترة بمجموعها ناصة على كمالهم … فمن اعتقد حقية سبهم وإباحته، أو سبهم مع اعتقاد حقية سبهم، أو حليته فقد كفر بالله تعالى ورسوله فيما أخبر من فضائلهم …
- إلى أن قال – فإن اعتقد حقية سبه أو إباحته فقد كفر، لتكذيبه ما ثبت قطعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكذبه كافر.(5) "
(ب) ومما يناقض الإيمان: - أن يسب جميع الصحابة، أو جمهورهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم، كأن يرميهم بالكفر، أو الفسق، أو الضلال، وبيان ذلك من خلال النقول الآتية:-
يقول القاضي عياض: - " وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قولاً يتوصل به إلى
صـ412
تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة، كقول الكميلية (6)
__________
(1) المرجع السابق ص 574 .
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (12/142) ، وابن أبي عاصم في السنة (2/483) وأبو نعيم في الحلية " (7/103) وحسنه الألباني في (الصحيحة) (2340) .
(3) انظر تعريف الكبيرة في شرح العقيدة الطحاوية 2/526 ، ومجموع فتاوى ابن تيمية 11/650 .
(4) انظر في هذه الرسالة : - الفصل الرابع من الباب الأول : "إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة "
(5) الرد على الرافضة ص 18، 19 .
(6) الكميلية : ولعلها الكاملية ، وهم أصحاب أبي كامل ، وهم فرقة من غالية الشيعة ، أكفروا جميع الصحابة ، وقالوا بالتناسخ والحلول .
انظر : الملل والنحل 1/174 ، واعتقادات فرق المسلمين ص 60 .(2/176)
من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم … لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن، إذ ناقلوه كفرة على زعمهم، وإلى هذا – والله أعلم – أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة.(1) "
ويقول ابن تيمية: - " وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب في كفره؛ لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران، آية 110]، وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفاراً أو فساقاً، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام.(2) "
ويقول السبكي: - " إن سب الجميع لا شك أنه كفر … وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول الطحاوي: وبغضهم كفر، فإن بغض الصحابة بجملتهم لا شك أنه كفر. (3) "
ويقول ابن كثير: - " ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك [أي كتمان الوصية لعلي بالخلافة …] فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطؤ على معاندة، رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضادته في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام …(4) "
صـ413
ويقول ابن حجر الهيتمي: - " إن تكفير جميع الصحابة كفر؛ لأنه صريح في إنكار جميع فروع الشريعة الضرورية فضلاً عن غيرها …(5) "
__________
(1) الشفا 2/1072 = باختصار .
(2) الصارم المسلول ص 586 ، 587 .
(3) فتاوى السبكي 2/575 .
(4) البداية والنهاية 5/252 .
(5) الإعلام ص 380 .(2/177)
ويذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن القول بارتداد الصحابة عدا خمسة أو ستة نفر هو: " هدم لأساس الدين؛ لأن أساسه القرآن والحديث، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر، وقع الشك في القرآن والأحاديث.(1) "
ويقول أيضاً: -: ومن نسب جمهور أصحابه صلى الله عليه وسلم إلى الفسق والظلم، وجعل اجتماعهم على الباطل فقد أزرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وازدراؤه كفر.(2) "
ويقول محمد العربي بن التباني المغربي (3):-
" كيف يؤمن بنصوص القرآن من يكذب بوعده تعالى لهم بالحسنى، وبإعداده لهم المنازل الرفيعة في الجنة، وبرضاه عنهم بزعمه أنهم قد كفروا وارتدوا عن الإسلام، فعقيدة هذه الطائفة [يعني الرافضة] في جل سادات هذه الأمة لا تخرج عن أمرين: - إما نسبة الجهل إليه تعالى، أو العبث في هذه النصوص التي أثنى بها على الصحابة رضوان الله عليهم، تقدس ربنا وتعالى عن ذلك علواً كبيراً … ولا خلاف بين كل من يؤمن بالقرآن وله عقل سليم أن نسبة الجهل أو العبث إليه تعالى كفر بواح.(4) "
ويمكن أن نلحق بهذا النوع من السب – وإن كان أشنع مما سبق – فيما لو سب الصحابة رضي الله عنهم من أجل صحبتهم ونصرتهم لدين تعالى، ولو كان
صـ414
واحداً..، وإليك ما يبين ذلك من كلام أهل العلم.
__________
(1) الرد على الرافضة ص 13 .
(2) المرجع السابق ص 8 وانظر ص 17 .
(3) أبو عبد الله محمد العربي التباني الجزائري ثم المكي، عالم معاصر ، أصولي ، مفسر ، محدث ، مؤرخ ، درس في الحرم المكي ، وكذا في مدرسة الفلاح بمكة ، له مؤلفات جمة، كان حياً عام 1374 هـ .
انظر : مقدمة كتابه تحذير العبقري من محاضرات الخضري (1/9) .
(4) إتحاف ذوي النجابة ص 75 .(2/178)
يقول ابن حزم: - " ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه وجد الحرج في نفسه مما قضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من إظهار الإيمان بأيديهم، ومن عادى علياً لمثل ذلك فهو أيضاً كافر.(1) "
ويقول السبكي: - " إن سب الجميع بلا شك أنه كفر، وهكذا إذا سب واحداً من الصحابة حيث هو صحابي؛ لأن ذلك استخفاف بحق الصحبة، ففيه تعرض إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك في كفر الساب.
-إلى أن قال – ولا شك أنه لو أبغض واحداً منهما (أي الشيخين أبي بكر وعمر) لأجل صحبته فهو كفر، بل من دونهما في الصحبة، إذا أبغضه لصحبته كان كافراً قطعاً.(2)
ومما أورده الحافظ ابن حجر عند شرحه لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: - " آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار " (3) حيث قال رحمه الله: - " فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة – وهي كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم - أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق، ويقرب هذا زيادة أبي نعيم في المستخرج في حديث البراء بن عازب: - " من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم (4) "، وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد رفعه: - " لا يبغض الأنصار رجل يؤم بالله واليوم الآخر " (5)، (6) "
صـ415
__________
(1) الفصل 3/300 .
(2) فتاوى السبكي 2/575 .
(3) أخرجه البخاري ، ك الإيمان (1/62) ح (17) ، ومسلم ، ك الإيمان (1/85) ح (74) .
(4) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة ح(1411) ، والنسائي في فضائل الصحابة ح (225) ، وقال الهيثمي في المجمع (10/39) : " رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، غير أحمد بن حاتم وهو ثقة " انظر "الصحيحة " للألباني ح (991) .
(5) أخرجه مسلم ، ك الإيمان (1/86) ح (77) ، وأحمد (2/419) .
(6) فتح الباري 1/62 .(2/179)
ويوضح العيني (1) هذا المعنى فيقول: - " المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار وبيان فضلهم لما كان منهم من إعزاز الدين، وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصرة، وغير ذلك، وهذا جار في أعيان الصحابة كالخلفاء وبقية العشرة، والمهاجرين، بل في كل الصحابة، إذ كل منهم له سابقة وسالفة وغناء في الدين وأثر حسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان، وبغضهم محض النفاق.(2) "
ويقول الصاوي: - " وأما من كفر جميع الصحابة فإنه يكفر باتفاق، كما في الشامل؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وكذب الله ورسوله.(3) "
(ج) من أنواع سب الصحابة الذي يناقض الإيمان: - " أن يسب صحابياً تواترت النصوص بفضله، فيطعن في دينه وعدالته، وذلك لما فيه من تكذيب لهذه النصوص المتواترة، والإنكار والمخالفة لحكم معلوم من الدين بالضرورة.
وإليك جملة من كلام أهل العلم في تقرير ذلك: -
قال مالك (4) رحمه الله: - " من شتم أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال كانوا على ضلال وكفر قتل.(5)
صـ416
__________
(1) بدر الدين محمود بن أحمد بن موسى العيني الحلبي ثم القاهري الحنفي ، فقيه ، محدث مفسر ، لغوي ، أجاد علوماً جمة ، له رحلات ومؤلفات ، ولي التدريس والحسبة والقضاء في مصر ، توفي بالقاهرة سنة 855 هـ .
انظر : - شذرات الذهب 7/286 ، البدر الطالع 2/294 .
(2) عمدة القارئ 1/173 وانظر : الصارم المسلول لابن تيمية ص 581 .
(3) الشرح الصغير للدردير بحاشية الصاوي 6/160 ، وانظر الرد على الرافضة لمحمد بن عبد الوهاب ص 19 .
(4) أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي ، إمام دار الهجرة ، وأحد الأئمة الأربعة ، كان صلباً في دينه ، له مؤلفات ، توفي في المدينة المنورة سنة 179 هـ .
…انظر : الديباج المذهب 1/82، سير أعلام النبلاء 8/48.
(5) الشفا 2/1107 .(2/180)
" وسئل الإمام أحمد عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة، فقال: ما أراه على الإسلام، وسئل عمن يشتم عثمان، فقال رحمه الله: - هذه زندقة.(1) "
" وقال محمد بن يوسف الفريابي (2) وسئل عمن شتم أبا بكر، فقال: كافر، قيل: فيصلي عليه؟ قال: لا، وسأله: كيف يصنع به وهو يقول لا إله إلا الله؟ قال: لا تمسوه بأيديكم، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته.(3) "
وجاء في الفتاوى البزازية: - " ومن أنكر خلافة أبي بكر فهو كافر في الصحيح، ومنكر خلافة عمر رضي الله عنه فهو كافر في الأصح، ويجب إكفار الخوارج بإكفار عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم.
وفي الخلاصة: الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر.(4) "
وقال الخرشي:- " إن رمى عائشة بما برأها الله منه بأن قال زنت، أو أنكر صحبة أبي بكر أو إسلام العشرة أو إسلام جميع الصحابة، أو كفر الأربعة، أو واحداً منهم كفر.(5) "
__________
(1) المسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة للأحمدي 2/358 ، 363 ، وانظر السنة للخلال ص 493 .
(2) أبو عبد الله محمد بن يوسف بن واقد الفريابي ، إمام حافظ ، عابد ، من أكبر شيوخ البخاري ، وثقة جمهور المحدثين ، له ردود على المبتدعة ، مات سنة 212 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 10/114 ، وتهذيب التهذيب 9/335 .
(3) السنة للخلال ص 499 .
(4) الفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى الهندية) 6/318 وانظر البحر الرايق لابن نجيم 5/131 .
(5) الخرشي على مختصر خليل 7/74 ، وعلل العدوي ذلك في حاشيته على الخرشي (7/74) : "لأن إسلام الصحابة صار معلوماً من دين الله بالضرورة . "(2/181)
ويقول السبكي: - " احتج المكفرون للشيعة والخوارج بتكفيرهم لأعلام الصحابة رضي الله عنهم، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في قطعه لهم بالجنة، وهذا عندي احتجاج صحيح فيمن ثبت عليه تكفير أولئك، وأجاب الآمدي بأنه إنما يلزم أن لو كان المكفر يعلم بتزكية من كفره قطعاً على الإطلاق إلى مماته بقوله صلى الله عليه وسلم: - أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان
صـ417
في الجنة، وعلي في الجنة(1) إلى آخرهم، وإن كان هذا الخبر ليس متواتراً لكنه مشهود مستفيض، وعضده إجماع الأمة على إمامتهم وعلو قدرهم وتواتر مناقبهم أعظم التواتر الذي يفيد تزكيتهم فبذلك نقطع بتزكيتهم على الإطلاق إلى مماتهم لا يختلجنا شك في ذلك.(2) "
ويقول أيضاً: - " وأما الرافضي فإنه يبغض أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لما استقر في ذهنه بجهله وما نشأ عليه من الفساد عن اعتقاد ظلمهما لعلي، وليس كذلك ولا علي يعتقد ذلك، فاعتقاد الرافضي ذلك يعود على الدين بنقض؛ لأن أبا بكر وعمر هما أصل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مأخذ التكفير ببغض الرافضة لهما، وسبهم لهما.(3) "
ويقول في موضع ثالث:- " وتحريم سب الصديق رضي عنه معلوم من الدين بالضرورة بالنقل المتواتر على حسن إسلامه، وأفعاله الدالة على إيمانه وأنه دام على ذلك إلى أن قبضه الله تعالى هذا لا شك فيه.(4) "
وهذه المسألة فيها خلاف، فهناك من لا يعد هذا السب كفراً، بل يجعله فسقاً، يوجب التأديب والتعزير.
__________
(1) أخرجه الترمذي ح (3748) ، (3757) ، وقال الترمذي : " حسن صحيح " ، وأحمد (1/193) ، والنسائي في فضائل الصحابة ، ح(91) ، وابن أبي عاصم في السنة " (2/618) وصححه الألباني في الجامع الصغير ح (3905) .
(2) فتاوى السبكي 2/569 .
(3) المرجع السابق 2/576 .
(4) المرجع السابق 2/587 ، وانظر : 2/589 وانظر الإعلام للهيتمي ص 352 ، 363 ، 380 .(2/182)
ولا شك أن هذا السب فسق بالاتفاق، بل إن القائلين بعدم تكفير من سب الصحابة مجمعون على ذلك، كما قال السبكي:-
" وأجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة أنهم فساق.(1)
ويذكر ابن تيمية أن أقل ما يفعل بشاتم الصحابة: التعزير ويعلل ذلك بقوله: - " لأنه [أي التعزير] [مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة، وقال صلى الله
صـ418
عليه وسلم:- " انظر أخاك ظالماً أو مظلوماً "(2) وهذا مما لا يعلم فيه خلافاً بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، وسائر أهل السنة والجماعة، فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والترحم عليهم والترضي عنهم، واعتقاد محبتهم، وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول.(3) "
وإليك طرفاً من أقوال العلماء القائلين بعدم التكفير في هذا السب.
سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عمن شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أرى أن يضرب … وقال: ما أراه إلا على الإسلام.(4) "
ويقول القاضي عياض: - " قد اختلف العلماء في هذا، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع، قال مالك رحمه الله: - من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل، ومن شتم أصحابه أدب.
وقال ابن حبيب (5)
__________
(1) المرجع السابق 2/580 .
(2) أخرجه البخاري ، ك المظالم (5/98) ح (2443) ، وأحمد (3/99)
(3) الصارم المسلول ص 578 .
(4) انظر : المسائل المروية عن الإمام أحمد ، للأحمدي 2/363 ، وانظر الإنصاف للمرداوي 10/323 ، 324 .
(5) أبو مروان عبد الملك بن حبيب السلمي الأندلسي المالكي ، من أوائل فقهاء المالكية ، كان موصوفاً بالحذق في الفقه ، له مؤلفات كثيرة ، تولى الفتيا في قرطبة ، مات سنة 238 هـ .
انظر : الديباج المذهب 2/8 ، سير أعلام النبلاء 12/102 .(2/183)
: - " من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدباً شديداً، ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد، ويكرر ضربه، ويطال سجنه حتى يموت، ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال سحنون (1): - من كفر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
صـ419
علياً أو عثمان أو غيرهما، يوجع ضرباً.(2) "
وقال السبكي: - " وأما أصحابنا [الشافعية] [فقد قال القاضي حسين (3) في تعليقه في باب اختلاف نية الإمام والمأموم: - من سب النبي صلى الله عليه وسلم يكفر بذلك، ومن سب صحابياً فسق، وأما من سب الشيخين أو الختنين (4) ففيه وجهان، أحدهما يكفر؛ لأن الأمة اجتمعت على إمامتهم، والثاني يفسق ولا يكفر.(5) "
ويقول الرملي: - " ولا يكفر بسب الشيخين أو الحسن والحسين إلا في وجه حكاه القاضي {حسين}.(6) "
__________
(1) أبو سعيد عبد السلام بن حبيب التنوخي القيرواني المالكي ، برع في الفقه ، وتفقه به عدد كثير صاحب ورع وكرم ، تولى القضاء ، توفي القضاء ، توفي سنة 240هـ.
انظر : الديباج المذهب 2/30 ، وسير أعلام النبلاء 12/63 .
(2) الشفا 2/1108 ، وانظر : الشرح الصغير للدردير 6/160 ، والخرشي على مختصر خليل 7/74 ، وفتح العلي المالك لعليش 2/286 ، وبلغة السالك لأقرب المسالك 2/420 .
(3) هو أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد المروروذي الشافعي شيخ الشافعية في زمانه ، كان غواصاً في دقائق الفقه ،له مؤلفات ، توفي سنة 462 .
انظر : طبقات الشافعية 4/356 ، شذرات الذهب 3/310 .
(4) يعني عثمان وعلياً رضي الله عنهما ، وفي الأصل المطبوع : الحسين ، والتصحيح من كتاب الإعلام لابن حجر ص 352 .
(5) فتاوى السبكي 2/577 ، وانظر فتح الباري 7/36 .
(6) نهاية المحتاج 7/426 ، وانظر قليوبي وعميرة 4/175 .(2/184)
ويقول ابن عابدين: - " نقل في البزازية عن الخلاصة أن الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر، وإن كان يفضل علياً عليهما فهو مبتدع.أ. هـ
على أن الحكم عليه بالكفر مشكل، لما في الاختيار: اتفق الأئمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم، وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفراً، ولكن يضلل … الخ.
وذكر في فتح القدير أن الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويكفرون الصحابة حكمهم عند جمهور الفقهاء وأهل الحديث حكم البغاة.
-إلى أن قال – فعلم أن ما ذكره في الخلاصة من أنه كافر قول ضعيف مخالف للمتون والشروح …(1) "
صـ420
ومما يستدل به القائلون بعدم كفر ساب الصحابة رضي الله عنهم بأن مطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر؛ لأن بعض من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما سب بعضهم بعضاً، ولم يكفر أحد بذلك (2).
والجواب عن استدلالهم أن يقال: إن سب الصحابة نوعان، أحدهما سب يقدح في دين الصحابة وعدالتهم، كأن يرمي صحابياً بالكفر مثلاً ممن تواترت النصوص بفضله، فهذا من الكفر، لما يتضمنه من تكذيب للآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة الدالة على تزكيتهم وفضلهم، ولأن هذا السب إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومن ظن أن مثل هذا السب لا يعد كفراً، فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع (3). والآخر أن يسب صحابياً – وإن كان ممن تواترت النصوص بفضله – سباً لا يقدح في إسلامه ودينه، مثل وصفه بالبخل، أو الجبن، أو قلة معرفة بالسياسة ونحو ذلك، فهذا لا يعتبر كفراً، ولكن يستحق فاعله التأديب والتعزير.(4)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4/237 ، وانظر مجموعة رسائل ابن عابدين 1/342 – 345 .
(2) انظر : الصارم المسلول ص 579 .
(3) سيأتي إن شاء الله بيان أوجه كون سب الصحابة كفراً
(4) انظر : الصارم المسلول ص 571 ، 589 .(2/185)
وكذا لو سب صحابياً لم يتواتر النقل بفضله سباً يطعن في دينه، فلا يكفر بهذا السب، لعدم إنكاره معلوماً من الدين بالضرورة (1).
ولا شك أن ما قد وقع بين بعض الصحابة من سبا ليس من النوع الأول، ويشهد لذلك أن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال: - كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه.(2)
فقد جاءت رواية توضح وتبين حقيقة هذا السب، فقد روى الإمام أحمد بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: - كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا
صـ421
بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: - دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده … الحديث (3) "
وبهذا التفصيل والتفريق بين نوعي السب يمكن اجتماع القولين، كما يحصل التوفيق بين الأقوال المختلفة، فمثلاً الرواية السابقة عن الإمام أحمد: ما أراه إلا على الإسلام يمكن أن نضمها إلى الرواية الأخرى عن الإمام أحمد حيث قال: - ما أراه على الإسلام (4)"
__________
(1) انظر : رسالة الرد على الرافضة لمحمد بن عبد الوهاب ص 18 ، 19 .
(2) سبق تخريجه ص 406 .
(3) مسند الإمام أحمد 3/266 وقال الهيثمي في المجمع (10/15) : - " ورجاله رجال الصحيح " وانظر البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف لابن حمزة الحسيني 3/304 ، 305 .
(4) انظر المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد ، للأحمدي 2/363 ، 364 .(2/186)
وقد قال القاضي أبو يعلى في الجمع بين تلك الروايتين المتعارضتين عن الإمام أحمد "يحتمل أن قوله " ما أراه على الإسلام " إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف، ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك، بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي، قال: ويحتمل قوله " ما أراه على الإسلام " على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله: ظلموا، وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا الأمر بغير حق، ويحمل قوله في إسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم، نحو قوله " كان فيهم قلة علم، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة …(1) "
ويقول ابن تيمية – في هذا الصدد -: - " وأما من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك، فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم .(2) "
وكذا يمكن التوفيق بين الروايات المختلفة عن الإمام مالك، فالرواية السابقة عن مالك: من شتم الصحابة أدب، لا تعارض ما جاء في الرواية الأخرى عنه حيث قال: - " من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قتل،
صـ422
وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً.(3)
فهذه الرواية تبين ما أجمل في الرواية الأولى، فمن شتم الصحابة – ممن تواترت النصوص بفضلهم – شتماً يقدح في دينهم فهو كافر يجب قتله، ومن شتمهم بغير هذا فليس بكفر، ويتعين تعزيره وتأديبه.
وأيضاً فرواية مالك: - " من سب أبا بكر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: - من رماها فقد خالف القرآن.(4) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 571 .
(2) المرجع السابق ص 586 .
(3) الشفا 2/1108 .
(4) المرجع السابق 2/1109 .(2/187)
فمراده – والله أعلم – أن يسب الصديق رضي الله عنه سباً لا يقدح في دينه، وذلك لما ورد عنه رحمه الله من القول بالقتل فيمن شتم من هو دون الصديق – كما سبق ذكره –
يوضح ذلك ما قاله السبكي: - " فيتلخص أن سب أبي بكر رضي الله عنه على مذهب أبي حنيفة وأحد الوجهين عند الشافعية كفر، وأما مالك فالمشهور أنه أوجب الجلد، فيقتضي أنه ليس كفراً، ولم أر عنده خلاف ذلك، إلا في الخوارج فتخرج عنه أنه كفر، فتكون المسألة عنده على حالتين: إن اقتصر على السب من غير تكفير لم يكفر، وإن كفر كفر.(1)
ويقول أيضاً: - " القائل بأن الساب لا يكفر لم نتحقق منه أن يطرده فيمن يكفر أعلام الصحابة رضوان الله عليهم، فأحد الوجهين عندنا إنما اقتصرنا على مجرد السب دون التكفير، وكذلك أحمد إنما جبن عن قتل من لم يصدر منه إلا السب.(2) "
وإذا تقرر نوعا السب والطعن في حق الصحابة رضي الله عنهم، فإن من أنواع السب ما لا يمكن القطع بإلحاقه في أحد النوعين السابقين، بل يكون محل تردد، وهذا النوع هو ما قال عنه ابن تيمية:-
صـ423
" وأما من لعن وقبح مطلقاً، فهذا محل الخلاف فيهم، لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد.(3) "
(ك) من قذف إحدى أمهات المؤمنين، فإن كنت عائشة رضي الله عنها فهو كافر بالإجماع ومن قذف غيرها من أمهات المؤمنين فهو أيضاً كافر على أصح الأقوال.
وبيان ذلك أن قذف عائشة رضي الله عنها تكذيب ومعاندة للقرآن، فإن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله تعالى.
قال تعالى: - {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [ النور، آية 17].
__________
(1) فتاوى السبكي 2/590 .
(2) المرجع الساب نفس الجزء والصفحة .
(3) الصارم المسلول ص 586 ، وانظر فتاوى السبكي 2/579 .(2/188)
كما قال الإمام مالك: - من سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن.(1) "
قال ابن حزم معلقاً على مقالة مالك: - " قول مالك هاهنا صحيح، وهي ردة تامة، وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها.(2) "
وذكر ابن بطة عائشة رضي الله عنها، وأنها: " مبرأة طاهرة خيرة فاضلة وصاحبته في الجنة، وهي أم المؤمنين في الدنيا والآخرة، فمن شك في ذلك، أو طعن فيه، أو توقف عنه، فقد كذب بكتاب الله، وشك فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه من عند غير الله عز وجل، قال الله تعالى: - {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [النور آية 17]، فمن أنكر هذا فقد برىء من الإيمان.(3) "
إضافة إلى ذلك، فإن قذف عائشة رضي الله عنها يعد تنقصاً للرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء له، ولذا قال السبكي: - " وأما الوقيعة في عائشة رضي الله عنها والعياذ بالله فموجبة للقتل لأمرين:-
أحدهما: أن القرآن الكريم يشهد ببراءتها، فتكذيبه كفر، والوقيعة فيها تكذيب له.
صـ424
الثاني: أنها فراش النبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة فيها تنقيص له، وتنقيصه كفر. (4) "
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: - " من قذف عائشة بالفاحشة … فقد جاء بكذب ظاهر واكتسب الإثم، واستحق العذاب، وظن بالمؤمنين سوءاً وهو كاذب، وأتى بأمر ظنه هيناً وهو عند الله عظيم، واتهم أهل بيت النبوة بالسوء، ومن هذا الاتهام يلزم نقص النبي صلى الله عليه وسلم .(5) "
إضافة إلى ذلك، فقد أجمع العلماء على أن من قذفها بما برأها الله تعالى منه فهو كافر.
__________
(1) انظر : الشفا 2/1109 .
(2) المحلى 13/504 .
(3) الإبانة الصغرى ص 270 .
(4) فتاوى السبكي 2/592 .
(5) الرد على الرافضة ص 24 = بتصرف يسير .(2/189)
يقول ابن تيمية رحمه الله: - " ذكر غير واحد من العلماء اتفاق الناس على أن من قذفها بما برأها الله تعالى منه فقد كفر؛ لأنه مكذب للقرآن.(1) "
ويقول ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور، آية 23]: -
" وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن. (2) "
وأما من قذف سائر أمهات المؤمنين، فهل يكفر من قذفهن أم لا؟ على قولين أصحهما أنه يكفر.
والقول الآخر أنه لا يكفر، وقالوا: إن القرآن قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها، فمن خالف ذلك وأنكره، فهو مكذب للقرآن، ومن ثم فهو كافر بالله تعالى، ولم يرد مثل هذا في بقية أمهات المؤمنين.
والجواب عن ذلك أن يقال: - المقذوفة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى إنما غضب لها؛ لأنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم،
صـ425
فهي وغيرها منهن سواء.(3) "
كما أن جميع أمهات المؤمنين فراش للنبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة في أعراضهن تنقص ومسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن سب المصطفى صلى الله عليه وسلم كفر وخروج عن الملة بالإجماع (4).
وقد اختار القول الأول جمع من المحققين، كابن حزم (5)، والقاضي عياض (6)، وابن تيمية (7)، والسبكي (8) وغيرهم.
__________
(1) الرد على البكري ص 340 .
(2) تفسير ابن كثير 3/267 ، وقد حكى ابن كثير هذا الإجماع أيضاً في البداية 8/92 ، وانظر مجموعة رسائل ابن عابدين 1/345.
(3) انظر : البداية لابن كثير 8/92 .
(4) انظر فتاوى السبكي 2/592 ، وطرح التثريب للعراقي 8/69.
(5) انظر المحلى 13/504 .
(6) انظر الشفا 2/1113 .
(7) انظر الصارم المسلول ص 567 .
(8) انظر فتاوي السبكي 2/592 .(2/190)
ويقول ابن تيمية: - " والأصح أن من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها؛ لأن هذا منه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن.(1) "
ويدل على هذا قوله تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور، آية 23].
فهذه الآية الكريمة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة، في قول كثير من أهل العلم كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين.
وكذا روي عن أبي الجوزاء، والضحاك، والكلبي وغيرهم (2) "
يقول ابن تيمية عن هذه الآية: - لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه وسلم، فلعن صاحبه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال ابن عباس: - ليس له توبة؛ لأن مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاماً جديداً، وعلى هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به
صـ426
أذى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أذاهن بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة.(3) "
ومما قاله أبو السعود في تفسير هذه الآية:-
" والمراد بها عائشة الصديقة رضي الله عنها، والجمع باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين، لاشتراك الكل في العصمة والنزاهة والانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: - {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء، آية 105]، ونظائره، وقيل أمهات المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولاً أولياً.
__________
(1) الصارم المسلول ص 567 .
(2) انظر : تفسير الطبري 18/74 ، وابن كثير 3/268 ، والدر المنثور للسيوطي 6/164 .
(3) الصارم المسلول ص 47 .(2/191)
وأما ما قيل من أن المراد هي الصديقة، والجمع باعتبار استتباعها للمتصفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة، فيأباه، أن العقوبات المترتبة على رمي هؤلاء عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين، ولا ريب في أن رمي غير أمهات المؤمنين ليس بكفر، فيجب أن يكون المراد إياهن على أحد الوجهين، فإنهن قد خصصن من بين سائر المؤمنات، فجعل رميهن كفراً إبرازاً لكرامتهن على الله عز وجل، وحماية في صاحب الرسالة من أن يحوم حوله أحد بسوء.(1) "
3- ومن خلال عرض أنواع سب الصحابة التي تخرج عن الملة، فإنه يمكن أن نسوق جملة من الأوجه في كون هذا السب ناقضاً من نواقض الإيمان، على النحو التالي:-
أ- أن في سب الصحابة رضي الله عنهم تكذيباً للقرآن الكريم، وإنكاراً لما تضمنته الآيات القرآنية من تزكيتهم والثناء الحسن عليهم.
ولذا يقول ابن تيمية: - " إن الله سبحانه رضي عنهم رضى مطلقاً بقوله تعالى:- {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [ التوبة، آية 100] فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان، ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان، وقال تعالى: - {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح، آية 18]، والرضى من الله صفة قديمة (2)، فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات
صـ427
الرضى، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً "
__________
(1) تفسير أبي السعود 4/104 ، 105 .
(2) الرضى من صفات الله تعالى الفعلية التي تتعلق بمشيئة واختاره .(2/192)
- إلى أن قال – فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة، وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح، فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو علم أن يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك (1) "
ويقول ابن حجر الهيتمي: - " ومنها قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح، آية 18]، فصرح تعالى برضاه عن أولئك وهم ألف ونحو أربعمائة، ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر، لأن العبرة بالوفاة على الإسلام، فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام، وأما من علم موته على الكفر، فلا يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه رضي عنه، فعلم أن كلا من هذه الآية وما قبلها صريح في رد ما زعمه وافتراه أولئك الملحدون الجاحدون حتى للقرآن العزيز، إذ يلزم من الإيمان به الإيمان بما فيه، وقد علمت أن الذي فيه أنهم خير الأمم، وأنهم عدول خيار، وأن الله لا يخزيهم وأنه رضي عنهم، فمن لم يصدق بذلك منهم فهو مكذب لما في القرآن، ومن كذب بما فيه مما لا يحتمل التأويل كان كافراً جاحداً ملحداً مارقاً.(2) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 572 ، 573 ، وانظر سير أعلام النبلاء للذهبي 5/117 .
(2) الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة ص 316 .(2/193)
وقد استنبط بعض الأئمة من نصوص قرآنية كفر من سب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. فقال الإمام مالك بن أنس: - " من تنقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه غل، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا قوله تعالى: - {مَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [حتى أتى قوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الآية " الحشر، آية 7- 10]، فمن تنقصهم أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له في الفيء حق.(1) "
صـ428
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (2):-
"لاحظ للرافضي في الفيء والغنيمة لقول الله حين ذكر آية الفيء في سورة الحشر، فقال {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ..} [الآية (3) "
" وقال أبو عروة – رجل من ولد الزبير: - كنا عند مالك، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية: - {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء} [حتى بلغ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ} [الفتح، آية 29] فقال مالك: من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية.(4) "
قال القرطبي – معلقاً على قول مالك -: -
__________
(1) الحلية لأبي نعيم 6/327 ، وانظر : السنة للخلال ص 493 ، وأصول اللالكائي 7/1268 .
(2) أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله ، إمام حافظ ، صاحب التصانيف ، ولي قضاء طرطوس ، وقدم بغداد ، ألف في غريب الحديث واللغة ، نصر السنة ورد على المبتدعة ، توفي بمكة سنة 124 هـ .
انظر : طبقات الحنابلة 1/259 ، وسير أعلام النبلاء 10/490 .
(3) السنة للخلال ص 498 .
(4) الحلية لأبي نعيم 6/327 .(2/194)
" لقد أحسن مالك في مقالته، وأصاب في تأويله، فمن تنقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته، فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين.(1) "
ولما ذكر أبو المعالي الآلوسي هذه الآية {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ …} قال: " قال العلماء هذه الآية ناصة على أن الرافضة كفرة؛ لأنهم يكرهونهم، بل يكفرونهم والعياذ بالله تعالى.(2) "
وننبه هاهنا إلى أن قول مالك رحمه الله: - من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية، إنما يحمل على غيظ سببه ما كان عليه الصحابة من الإيمان والقوة والكثرة، قال تعالى: - {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح، آية 29].
فكثرهم الله تعالى وقواهم ليكونوا غيظاً للكافرين، فمن غاظه حال الصحابة رضي الله عنهم لإيمانهم فهو كافر، كمن سبهم طعناً في دينهم وعدالتهم، وأما إن وقع الغيض من غير هذه الجهة، فليس بكفر، فقد جرت حروب بين الصحابة، ووقع من بعضهم غيظ وبغض لبعض، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بكفر أو نفاق.
وتوضيحاً لذلك نورد ما قاله العيني، ونقله عن القرطبي (3)
__________
(1) تفسير القرطبي 16/96 ، 297 .
(2) السيوف المشرقة (مخطوط) ، ق 238 .
(3) أبو العباس أحمد بن عمرو بن إبراهيم القرطبي المالكي ، محدث ، فقيه ، رحل إلى المشرق ، له مؤلفات ، توفي بالإسكندرية سنة 656 هـ .
انظر : الديباج المذهب 1/240 ، وشذرات الذهب 5/273 .(2/195)
صاحب المفهم.. عند شرحه لحديث: - " آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار " " حيث يقول العيني:- " المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار، وبيان فضلهم لما كان منهم من إعزاز الدين وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصر وغير ذلك … فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان وبغضهم محض النفاق.
وقال القرطبي: - وأما من أبغض والعياذ بالله أحداً منهم من غير تلك الجهة لأمر طارئ من حدث وقع لمخالفة غرض، أو لضرر ونحوه، لم يصر بذلك منافقاً ولا كافراً، فقد وقع بينهم حروب ومخالفات، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام.(1) "
وبهذا ندرك خطأ ما قاله ابن حزم عند خطأ من حمل الآية: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..} على ما استنبطه الإمام مالك (2)، فابن حزم لم يفرق بين الغيظ الذي يوجب خروجاً عن الملة، وبين الغيظ فيما دون ذلك.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: - " فمن سبهم فقد خالف ما أمر الله من إكرامهم، ومن اعتقد السوء فيهم كلهم أو جمهورهم فقد كذب الله تعالى
صـ430
فيما أخبر من كمالهم وفضلهم ومكذبه كافر.(3) "
وإذا تقرر أن سب الصحابة رضي الله عنهم تكذيب للقرآن الكريم، فإن القول بكفر جمهور الصحابة رضي الله عنهم، أو فسقهم يؤول إلى الشك في القرآن الكريم، والطعن في ثبوته وحفظه؛ لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول، ولذا فإن الرافضة لما كفروا جمهور الصحابة، اتبعوا ذلك بدعوى تحريف القرآن الكريم وتبديله.
(ب) أن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم نسبة الجهل إلى الله تعالى، أو العبث في تلك النصوص الكثيرة التي تقرر الثناء الحسن على الصحابة، وتزكيهم.
ويبين ذلك الشيخ محمد العربي بن التباني المغربي حيث يقول:-
__________
(1) عمدة القارئ 1/173 = باختصار ، وانظر فتح الباري 1/63 .
(2) انظر : الفصل 3/294 .
(3) الرد على الرافضة ص 17 .(2/196)
" كيف يؤمن بنصوص القرآن من يكذب بوعده تعالى لهم بالحسنى، وبإعداده لهم المنازل الرفيعة في الجنة، وبرضاه عنهم، ورضاهم عنه بزعمه أنهم قد كفروا وارتدوا عن الإسلام، فعقيدة هذه الطائفة {أي الرافضة} في جل سادات هذه الأمة لا تخرج عن أمرين: - إما نسبة الجهل إليه تعالى، أو العبث في هذه النصوص التي أثنى بها على الصحابة رضوان الله عليهم وتقدس ربنا وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وكلاهما مصيبة كبرى، وذلك لأنه تعالى إن كان عالماً بأنهم سيكفرون فيكون وعده لهم بالحسنى ورضاه عنهم عبثاً، والعبث في حقه تعالى محال،{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان، آية 38]، وإن كان تعالى غير عالم بأنهم سيكفرون ومع ذلك أثنى عليهم ووعدهم بالحسنى فهو جهل، والجهل عليه تعالى محال، ولا خلاف بين كل من يؤمن بالقرآن وله عقل سليم أن نسبة الجهل أو العبث إليه تعالى كفر بواح.(1) "
(ج) من سب الصحابة رضي الله عنهم، ورماهم بالكفر أو الفسق، فقد تنقص الرسول صلى الله عليه وسلم وآذاه؛ لأنهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم، ومن المعلوم أن تنقص الرسول صلى الله عليه وسلم كفر وخروج عن الملة.(2) "
صـ431
أخرج الخطيب البغدادي – بسنده – عن أبي زرعة (3)
__________
(1) إتحاف ذوي النجابة بما في القرآن والسنة من فضائل الصحابة ص 75 = باختصار .
(2) انظر : أصول اللالكائي (حاشية المحقق) 7/1238 ، فتاوي السبكي 2/575 ، والرد على الرافضة لمحمد بن عبد الوهاب ص 8 ، وصحابة الرسول للكبيسي ص 337 .
(3) أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي ، الإمام الحافظ ، نشأ في الري ، له رحلات ، ومؤلفات جمة ، من أحفظ الناس للحديث ، وأعلمهم به وكان صاحب عبادة وزهد ، توفي سنة 264هـ .
انظر : طبقات الحنابلة 1/199 ، وسير أعلام النبلاء 13/65 .(2/197)
قال: - " إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة.(1) "
ومن أشنع أنواع السب: أن يقذف إحدى أمهات المؤمنين، لما في الوقيعة في أعراضهن من التنقص والمسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم - كما سبق ذكره ? -
ساق اللالكائي (2) بسنده أن الحسن بن زيد (3)، ولما ذكر رجل بحضرته عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فأمر بضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور، آية 26].
فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه، فضربوا عنقه.(4) "
صـ432
__________
(1) الكفاية في علم الرواية ص 63 ، 64 .
(2) أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري الرازي الشافعي ، إما حافظ له مصنفات ، نصر السنة ، توفي في الدينور سنة 418 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 17/419 ، شذرات الذهب 3/211 .
(3) الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل العلوي ، ظهر سنة 250 هـ ، وكثر جيشه ، واستولى على جرجان ، واستفحل أمره ، توفي سنة 270 هـ .
انظر : البداية والنهاية 11/6 ، وسير أعلام النبلاء 13/136 .
(4) انظر : أصول اللالكائي 7/1269 .(2/198)
وأخرج اللالكائي ? بسنده ? عن محمد بن زيد (1) أنه قدم عليه من العراق رجل ينوح بين يديه فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود، وضرب به دماغه فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا وممن يتولانا، فقال: - هذا سمى جدي قرنان (2) استحق عليه القتل فقتلته (3).
إضافة إلى ذلك فإن هذا السب يستلزم اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم ينجح في دعوته، ولم يحقق البلاغ المبين، وقد زعم من لا خلاق له من الدين والعلم، أن جمهور الصحابة رضي الله عنهم قد ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت على الإيمان إلا القليل، وقد يؤول هذا الأمر إلى اليأس من إصلاح البشر، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن المعلوم قطعاً أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.
(د) أن سب الصحابة رضي الله عنهم، والطعن في دينهم، هو طعن في الدين، وإبطال للشريعة، وهدم لأصله، لعدم توافر النقل المأمون له.
وإليك هذه القصة التي تبين ذلك: -
قال عمر بن حبيب (4)
__________
(1) هو محمد بن زيد بن محمد العلوي ، تولى الحكم بعد وفاة أخيه الحسن بن زيد عام 270هـ ، كانت في أيامه حروب وفتن ، وكان شجاعاً ، أديباً ، حسن السيرة ، توفي مقتولاً بجرجان 287 هـ .
انظر : - الكامل لابن الأثير 7/504 ، والأعلام 6/132 .
(2) في الأصل : قرتان ، وقال المحقق : لم يتبين لي معناها (اللالكائي 7/1270) والصحيح ما أثبته كما نقله ابن تيمية في الصارم المسلول ص 67 ومعنى قرنان : - " هو الذي يشارك في امرأته كأن يقرن به غيره ، وهو نعت سوء في الرجل الذي لا غيرة له " لسان العرب13/338 .
(3) انظر أصول اللالكائي 7/1270 .
(4) عمر بن حبيب العدوي البصري ، ولي قضاء البصرة ، ومات بها سنة 207 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 9/490 ، شذرات الذهب 2/17 .(2/199)
: - " حضرت مجلس هارون الرشيد، فجرت مسألة تنازعها الحضور، وعلت أصواتهم، فاحتج أحدهم بحديث رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع بعضهم الحديث، وزادت المدافعة
صـ433
والخصومة، حين قال قائلون منهم: - لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: هذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة صحيح النقل، صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، فنظر إليّ الرشيد نظر مغضب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه بيده والسيف، وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب، ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابه كذابين، فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، وأمر لي بعشرة آلاف درهم.(1) "
__________
(1) تهذيب الكمال 2/1004 ، 1005 .(2/200)
وقال ابن عقيل الحنبلي في هذا المقال: " الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن في أصل الدين والنبوة، وذلك أن الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر غائب عنا، وإنما نثق في ذلك بنقل السلف، وجودة نظر الناظرين إلى ذلك منهم... فإذا قال قائل: - إنهم أول ما بدأوا بعد موته بظلم أهل بيته في الخلافة، وابنته في إرثها، وما هذا إلا لسوء اعتقاد في المتوفي.
فإن الاعتقادات الصحيحة سيما في الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما في أهليهم وذريتهم.
فإذا قالت الرافضة: إن القوم استحلوا هذا بعده، خابت آمالنا في الشرع؛ لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم. فإذا كان هذا محصول ما حصل لهم بعد موته خبنا في المنقول، وزالت ثقتنا فيما عولنا عليه من اتباع ذوي العقول،
صـ434
ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا ما يوجب اتباعه، فراعوه مدة الحياة، وانقلبوا عن شريعته بعد الوفاة، ولم يبقى على دينه إلا الأقل من أهله، فطاحت الاعتقادات، وضعفت النفوس عن قبول الروايات في الأصل، فهذا من أعظم المحن على الشريعة.(1) "
وقال الذهبي: - " فمن طعن فيهم أو سبهم، فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين؛ لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم، وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم، وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم وبيان فضائلهم ومناقبهم وحبهم...
إلى أن قال ? والطعن في الوسائط طعن الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول، هذا ظاهر لمن تدبره، وسلم من النفاق، ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته...(2) "
__________
(1) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 107 , 108 .
(2) الكبائر ص 285 .(2/201)
وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن القول بارتداد الصحابة عدا خمسة أو ستة نفر: - " هدم لأساس الدين؛ لأن أساسه القرآن والحديث، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر، وقع الشك في القرآن والأحاديث... فهؤلاء أشد ضراراً على الدين من اليهود والنصارى، وفي هذه الهفوة الفساد من وجوه، فإنها توجب إبطال الدين والشك فيه، وتجوز كتمان ما عورض به القرآن، وتجوز تغيير القرآن...(1) "
ويقول محمد صديق حسن خان (2): - " والعجب كل العجب من علماء الإسلام وسلاطين هذا الدين كيف تركوهم {أي الرافضة} على هذا المنكر البالغ في القبح إلى غايته ونهايته، فإن هؤلاء المخذولين لما أرادوا رد هذه الشريعة المطهرة ومخالفتها، طعنوا في أعراض الحاملين لها، الذين لا طريق لنا إليها إلا من
صـ435
طريقهم، واستذلوا أهل العقول الضعيفة والإدراكات الركيكة بهذه الذريعة الملعونة والوسيلة الشيطانية، فهم يظهرون السب واللعن لخير الخليقة، ويضمرون العناد للشريعة ورفع أحكامها عن العباد.(3) "
(هـ) إن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم تضليل الأمة المحمدية، ويتضمن أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام.(4) "
كما أن سبهم إنكار لما قام الإجماع عليه، قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم ومصادمة للنصوص المتواترة من الكتاب والسنة في بيان علو مقامهم وعظيم شأنهم.(5) "
صـ436
__________
(1) الرد على الرافضة ص 13 = باختصار .
(2) محمد صديق بن حسن الحسيني البخاري القنوجي ، عالم ، أمير ، نشأ في الهند ، وشارك في أنواع من العلوم ، وله مؤلفات كثيرة ، توفي سنة 1307 هـ .
انظر : التاج المكلل ص 541 ، ومعجم المؤلفين 10/90 .
(3) الدين الخالص 3/404 .
(4) انظر الصارم المسلول ص 587 ، والأعلام لابن حجر الهيتمي ص 380 .
(5) انظر صحابة الرسول للكبيسي ص 337 .(2/202)
المبحث الثاني
الاستهزاء بالعلماء والصالحين
1- في مطلع هذا المبحث نشير إلى منزلة العلماء والصالحين، وواجبنا نحوهم فالعلماء لهم المنزلة اللائقة بهم، فقد رفعهم الله تعالى وميزهم عن غيرهم، فقال سبحانه: - {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة، آية 11] وقال تعالى: - {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر، آية 9] واستشهد سبحانه بأولي العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيده، فقال تعالى: - {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران، آية 18].
وعن أبي الدرداء (1) رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ افر.(2) "
__________
(1) أبو الدرداء عويمر الخزرجي ، صحابي جليل ، شهد أحداً ، ولاه معاوية قضاء الشام في خلافة عمر ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مات سنة 32هـ .
انظر : الإصابة 4/747 ، وسير أعلام النبلاء 2/335 .
(2) أخرجه أحمد 2/407 وأبو داود ح (3641) والترمذي ح(2646) وابن ماجه ح (223) ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب للمنذري 1/33 .(2/203)
قال ابن القيم: - " قوله: - {إن العلماء ورثة الأنبياء} هذا من أعظم المناقب لأهل العلم فإن الأنبياء خير خلق الله، فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته، إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء، كانوا أحق الناس بميراثهم، وفي هذا تنبيه على أنهم أقرب الناس إليهم، فإن الميراث إنما يكون
صـ437
لأقرب الناس إلى الموروث، وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدرهم والدينار، فكذلك هو في ميراث النبوة، والله يختص برحمته من يشاء، وفيه أيضاً إرشاد وأمر للأمة بطاعتهم واحترامهم وتعزيرهم وتوقيرهم وإجلالهم... وفيه تنبيه على أن محبتهم من الدين وبغضهم مناف للدين، كما هو ثابت موروثهم، وكذلك معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله كما هو في موروثهم، قال علي رضي الله عنه: - محبة العلماء دين يدان به.(1) "
ومما قاله ابن رجب في شرح حديث أبي الدرداء و?-الذي سبق ذكره -: -
"وإنما يبغض المؤمن والعالم عصاة الثقلين؛ لأن معصيتهم لله اقتضت تقديم أهوائهم على محبة الله وطاعته، فكرهوا طاعة الله وأهل طاعته، ومن أحب الله وأحب طاعته، أحب أهل طاعته، وخصوصاً من دعا إلى طاعته وأمر الناس بها وأيضاً فإن العلم إذا ظهر في الأرض وعمل به درت البركات، ونزلت الأرزاق، فيعيش أهل الأرض كلهم، حتى النملة وغيرها من الحيوانات ببركته...
وقد ظهر بهذا أن محبة العلماء العاملين من الدين، وفي الأثر المعروف:-
" كن عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، أو محباً لهم، ولا تكن الخامسة فتهلك.(2) "
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/66 = باختصار يسير .
(2) قال الهيثمي : - أخرجه الطبراني في الثلاثة والبزار ، ورجاله موثقون "
انظر : مجمع الزوائد (1/122) .(2/204)
قال بعض السلف: سبحان الله! لقد جعل الله لهم مخرجاً، يعني أنه لا يخرج عن هذه الأربعة الممدوحة إلا الخامس الهالك، وهو من ليس بعالم، ولا متعلم، ولا مستمع، ولا محب لأهل العلم وهو الهالك، فإن من أبغض أهل العلم، أحب هلاكهم، ومن أحب هلاكهم فقد أحب أن يطفأ نور الله في الأرض، ويظهر فيها المعاصي والفساد، فيخشى أن لا يرفع له مع ذلك عمل، كما قال سفيان الثوري وغيره من السلف.(1) "
صـ438
واحترام العلماء وتوقيرهم هو إجلال لله تعالى كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري (2) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: - " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط.(3) "
وعن عبادة بن الصامت (4)رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: - " ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه (5) "
__________
(1) شرح حديث أبي الدرداء ص 30 – 32 = باختصار .
(2) هو عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري ، صحابي جليل ، وكان من قراء الصحابة ، وولي الإمارة والقضاء في خلافة عمر ، وشارك في الفتوحات ، صاحب صيام وصلاة، توفي سنة 42 هـ .
انظر : الإصابة 4/211 ، وسير أعلام النبلاء 2/380 .
(3) أخرجه أبو داود ح (4843) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/44 .
(4) عبادة بن الصامت بن قيس الخزرجي الأنصاري ، صحابي جليل ، أحد النقباء يوم العقبة ، شهد المشاهد كلها بعد بدر ، وحضر الفتوحات ، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ، تولى الإمارة والقضاء في الشام ، مات بالرملة سنة 34 هـ .
انظر : الإصابة 3/625 ، وسير أعلام النبلاء 2/5.
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/122) ، وحسنه الألباني .
انظر : صحيح الجامع الصغير (5319) ، وصحيح الترغيب والترهيب 1/45 .(2/205)
وقال طاووس رحمه الله: - من السنة أن يوقر العالم (1)
وما أجمل ما كتبه الآجري في وصف العلماء حيث قال رحمه الله:-
" إن الله عز وجل وتقدست أسماؤه اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان كما اختص من سائر المؤمنين من أحب، فتفضل عليهم، فعلمهم الكتاب والحكمة، وفقههم في الدين، وعلمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان، رفعهم بالعلم وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، فضلهم عظيم، وخطرهم (2) جزيل، ورثة الأنبياء،
صـ439
وقرة عين الأولياء حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكرون الغافل، ويعلمون الجاهل، ولا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف عنهم غائلة، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، هم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا.(3) "
وأما الصالحون فهم أولياء الله تعالى من المقتصدين أصحاب اليمين والسابقين المقربين، قال الله تعالى في وصفهم وجزائهم: - {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {62}الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ {63}لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس، آية 62، 64]
فهؤلاء الأولياء تجب محبتهم ومودتهم ونصرتهم كما قال تعال:- {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} [المائدة، آية 55].
__________
(1) انظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر وفضله 1/129 .
(2) خطرهم : أي شرفهم وقدرهم ،
انظر : المصباح المنير ص 208 ومختار الصحاح ص 180 .
(3) أخلاق العلماء ص 81 – 83 = باختصار .(2/206)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى قال: - " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه " (1)
يقول ابن رجب في شرح هذا الحديث:- " قوله عز وجل " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب " يعني فقد أعلمته بأني محارب له، حيث كان محارباً لي بمعادة أوليائي... فأولياء الله تجب موالاتهم، وتحرم معاداتهم، كما أن أعداءه تجب معاداتهم، وتحرم موالاتهم، قال تعالى: - {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة، آية 1] وقال:- {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة، آية 55، 56]، ووصف أحباءه الذين يحبهم
صـ440
ويحبونه بأنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين (2) "
وبهذا يعلم أن الواجب تجاه العلماء والصالحين هو محبتهم ومودتهم، وتوقيرهم وإجلالهم، كما جاءت به الشريعة، دون غلو وإفراط.
2- ولا شك أن الاستهزاء بالعلماء أو الصالحين يضاد محبتهم وإجلالهم، فالاستهزاء بهم يعني السخرية بهم والاستخفاف بهم.(3) "
__________
(1) أخرجه البخاري ، ك الرقاق (11/340) . ح (6502)
(2) جامع العلوم والحكم 2/334 = باختصار .
(3) انظر : لسان العرب 1/183 ، والمصباح المنير ص 787 .(2/207)
قال الآلوسي: - " الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، وذكر الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وبالإشارة والإيماء... وأصل هذه المادة الخفة، يقال: ناقة تهزأ به أي: تسرع وتخف.(1) "
إن الاستهزاء بأهل العلم والصلاح صفة من صفات الكافرين، وخصلة من خصال المنافقين، كما قرر ذلك القرآن في آيات كثيرة.
يقول الله تعالى: - {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة، آية 212].
وقال سبحانه: - {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ {103} تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ {104} أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ {105} قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ {106} رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ {107} قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ {108} إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ {109} فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ {110} إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون، آية 103، 111].
__________
(1) روح المعاني 1/158 = باختصار .(2/208)
وقال سبحانه:- {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ {29} وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ {30}وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ {31}وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ {32} وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين، آية 29- 33].
صـ441
وقال تعالى في شأن المنافقين: - {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ {14} اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة، آية 14،? 15].
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة، آية 79].
ولقد حرص أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وأذنابهم من منافقي هذا الزمان على تشويه سمعة العلماء، وزعزعة مكانتهم في نفوس الأمة المسلمة.
فمما جاء في البروتوكول السابع عشر من بروتوكولات اليهود:-
" وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين من الأمميين (غير اليهود) في أعين الناس، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤوداً في طريقنا، وإن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يوماً فيوماً.(1) "
__________
(1) بروتوكولات حكماء صهيون / ترجمة محمد خليفة التونسي ص 187 .(2/209)
وسعى هؤلاء في سبيل ذلك سعياً حثيثاً، فشنوا الحملات المسعورة، وأعدوا المخططات الرهيبة من أجل الكيد لهذا الدين والصد عنه، عن طريق الطعن في حملة الإسلام ودعاته وعلمائه، وقد آتت هذه المؤامرات ثمارها النكدة كما هو مشاهد في واقع الأمة، وتولت وسائل الإعلام في بلاد المسلمين وغيرها كبر هذه الهجمة الشرسة على علماء الأمة (1)، فظهر الاستهزاء بالعلماء والصالحين على وسائل الإعلام المختلفة، وتطاول الأقزام من أهل الشبهات والشهوات على مقامات أهل العلم والصلاح باسم حرية الرأي والفكر!، واستهزئ بأهل الصلاح والديانة تحت مظلة محاربة التطرف والتشدد!
وساعد على استفحال هذا المنكر أسباب كثيرة، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره، نذكر أيضاً من تلك الأسباب:-
غلبة الجهل بدين الله تعالى بين المسلمين، سواء كان الجهل بحرمة المسلم وعظيم حقه ومنزلته، أو الجهل بحكم الاستهزاء بأهل العلم والصلاح. وسبب
صـ442
آخر وهو تنحية شرع الله تعالى في بلاد المسلمين... فلو أن حد الردة? مثلاً? أقيم على من يستحقه... فلن يتطاول سفيه على فتاوى أهل العلم، كما هو واقعنا الآن، ولن يسخر مريض قلب من استقامة أهل الديانة وطهرهم، والله حسبنا ونعم الوكيل.
إن الاستهزاء بالعلماء والصالحين على ضربين:-
__________
(1) انظر : - المشايخ والاستعمار لحسني عثمان ، والقول المبين في حكم الاستهزاء بالمؤمنين لعبد السلام آل عبد الكريم ، والاستهزاء بالدين وأهله لمحمد القحطاني .(2/210)
أحدهما:- الاستهزاء بأشخاصهم، كمن يستهزئ بأوصافهم الخلقية أو الخلقية، وهذا محرم لقوله تعالى: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات، آية 11].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: - " ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال " الكبر بطر الحق وغمص الناس (1) " ويروى وغمط الناس.
والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله تعالى، وأجب إليه من الساخر منه المحتقر له... (2) "
والضرب الآخر: - الاستهزاء بالعلماء لكونهم علماء، ومن أجل ما هم عليه من العلم الشرعي، فهذا كفر؛ لأنه استهزاء بدين الله تعالى، وكذا الاستهزاء بأهل الصلاح من أجل استقامتهم على الديانة، واتباعهم للسنة، فالاستهزاء ? هاهنا ? متوجه إلى الدين والسنة.
ومن المناسب هاهنا أن نورد تعقيباً لابن حجر الهيتمي على ما قاله أحد علماء الأحناف ? عند ذكره لنواقض الإيمان ? فقال هذا الحنفي (3)
أو قال: إيش مجلس الوعظ، او العلم لا يثرد (4)، أو وعظ على سبيل
صـ443
__________
(1) أخرجه مسلم ك الإيمان (1/93) . ح (91)
(2) تفسير ابن كثير 4/213 .
(3) لم يذكر ابن حجر الهيتمي اسم هذا العالم .
(4) لا يثرد من قولهم " ثرد الخبز : أي فتنه ثم بله بمرق (انظر اللسان 3/102) ، وظاهر العبادة السابقة : العلم لا يثرد ... الاستهزاء بالعلم واحتقاره .(2/211)
الاستهزاء، أو ضحك على وعظ العلم، أو قال: إيش هذا القبيح الذي خففت شاربك، أو قال بئسما أخرجت السنة.(1) " أهـ كلامه
فعقب ابن حجر قائلاً:- " ما ذكره في إيش مجلس الوعظ.. الخ، إنما يتجه إن أراد الاستهزاء، وكذا إن أطلق على احتمال قوي فيه لظهور هذا اللفظ في الاستخفاف بمجلس الوعظ والعلم.
وما ذكره في الوعظ استهزاء إنما يتجه إن أراد الاستهزاء بالواعظ وكذا بالوعظ من حيث هو وعظ، أما لو أراد الاستهزاء بالواعظ، أو بكلماته، لا من حيث كونه واعظاً فلا يتجه الكفر حينئذ، وكذا يقال في الضحك على الوعظ.(2) "
ولما كان الاستهزاء بالعلماء والصالحين محتملاً للضربين المذكورين آنفاً، صار محلاً للخلاف (3)، وبهذا التفريق بينهما يزول الإشكال، ويرتفع الخلاف.
3- وأما وجه كون هذا الاستهزاء يناقض الإيمان، فلما يلي:-
(أ) أن الله عز وجل جعل الاستهزاء بالمؤمنين استهزاء بالله تعالى وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم(4)، فقال تبارك وتعالى:-
{قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65، 66].
فقد جاء في سبب نزول هذه الآيات عن عبد الله بن عمر (5) رضي الله عنهما قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً (6)
__________
(1) الإعلام لابن حجر ص 372 ، 373 .
(2) الإعلام لابن حجر ص 372 ، 373 .
(3) انظر روضة الطالبين للنووي 10/68 ، والإعلام لابن حجر ص 362 .
(4) انظر فتاوي اللجنة الدائمة 2/14، 15 .
(5) عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي ، صحابي جليل ، أسلم مع أبيه ، روى أحاديث كثيرة ، عرف بالزهد والورع ، وكثرة التعبد وتحري السنة ، مات سنة 73 هـ .
انظر : الإصابة 4/181 ، وسير أعلام النبلاء 3/203 .
(6) أي : أوسع بطوناً ،
انظر : الفائق في غريب الحديث للزمخشري 2/69 .(2/212)
، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس:
صـ444
كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقاً بحقب (1) ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنكبه الحجارة، وهو يقول: - يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}(2) "
ونورد جملة من كلام أهل العلم في بيان ذلك: -
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله ? في هذا الشأن " وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو بعمل يعمل به... ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله وعدم احترامهم لأجله.(3) "
وسئل الشيخ حمد بن عتيق- رحمه الله - عن معنى قول الفقهاء: من قال يا فقيه بالتصغير يكفر.. فكان من جوابه: - " اعلم أن العلماء قد أجمعوا على أن من استهزأ بالله، أو رسوله، أو كتابه فهو كافر، وكذا إذا أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء، واستدلوا بقوله تعالى: - {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65، 66].
__________
(1) الحقب : حبل يشد به رحل البعير إلى بطنه .
انظر : المرجع السابق 1/300 .
(2) أخرجه الطبري في تفسيره 10/104 ، وانظر الصحيح المسند من أسباب النزول لمقبل الوادعي ص 77 .
(3) قرة عيون الموحدين ص 217 .(2/213)
وسبب النزول مشهور، وأما قول القائل: فقيه، أو عويلم، أو مطيويع ونحو ذلك، فإذا كان قصد القائل الهزل، أو الاستهزاء بالفقه أو العلم أو الطاعة، فهذا كفر أيضاً ينقل عن الملة فيستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً.(1) "
صـ445
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم (2): - " قوله تعالى: - {أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ..} الآيات أي فليس لكم عذر؛ لأن هذا لا يدخله الخوض واللعب، وإنما تحترم هذه الأشياء وتعظم ويخشع عندها إيماناً بالله ورسوله، وتعظيماً لآياته، وتصديقاً وتوقيراً، والخائض واللاعب منتقص لها، ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله، وعدم احترامهم، أو الوقيعة فيهم لأجله.(3) "
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة ما يلي:-
" سب الدين والاستهزاء بشيء من القرآن والسنة، والاستهزاء بالمتمسك بها نظراً لما تمسك به كإعفاء اللحية وتحجب المسلمة، هذا كفر إذا صدر من مكلف، وينبغي أن يبين له أن هذا كفر، فإن أصر بعد العلم فهو كافر، قال الله تعالى: - {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65، 66](4) "
(ب) ذكر الله عز وجل أن الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين سبب في دخول نار جهنم، وعدم الخروج منها.
فعندما ينادي أهل النار قائلين:- {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون، آية 107].
__________
(1) الدرر السنية 8/242 = باختصار يسير .
(2) عبد الرحمن بن محمد قاسم العاصمي القحطاني ، من علماء نجد المعاصرين ، له مؤلفات كثيرة ، جمع فتاوى ابن تيمية ، ورتب فتاوى علماء نجد ، توفي عام 1392 هـ .
انظر : علماء نجد 2/414 .
(3) حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد ، ص 323 .
(4) فتاوى اللجنة الدائمة 1/256 ، 257 .(2/214)
يقول الله تعالى جواباً عنهم:- {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ {108} إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ {109} فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون، آية 108،? 110].
وتوضيحاً لذلك نسوق أقوال بعض المفسرين لهذه الآيات
فمما قاله أبو السعود رحمه الله: - " وقوله تعالى: - {إنه} تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي أن الشأن {كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي} [وهم المؤمنون.. {يقولون} في الدنيا {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ {109} فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم ربنا الخ؛ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين بقولهم ربنا آمنا الخ، وتتشاغلون باستهزائهم " حتى أنسوكم " أي الاستهزاء بهم {ذكري} من فرط اشتغالكم باستهزائهم {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} وذلك غاية الاستهزاء.(1)
ويقول الآلوسي: - قيل: التعليل على معنى إنما خسأناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتكم؛ لأنكم استهزأتم غاية الاستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكري بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم.
وقيل: - خلاصة معنى الآية إنه كان فريق من عبادي يدعون، فتشاغلتم بهم ساخرين، واستمر تشاغلكم باستهزائهم إلى أن جركم إلى ترك ذكري في أوليائي فلم تخافوني في الاستهزاء بهم.
وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم، كما نبه عليه أولاً في قوله تعالى {مِّنْ عِبَادِي} وختمه بقوله تعالى {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ} إلى قوله تعالى: - {هُمُ الْفَائِزُونَ} (2)
__________
(1) تفسير أبي السعود 4/87 = باختصار يسير .
(2) روح المعاني 18/69 = باختصار يسير .(2/215)
ومما سطره الشنقيطي عند تفسيره لهذه الآيات: - {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ..} إلى قوله تعالى {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} حيث قال رحمه الله:-
" قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، أن " إن " المكسورة المشددة من حروف التعليل كقولك: عاقبه إنه مسيء: أي لأجل إساءته، وقوله في هذه الآية {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي} الآيتين. يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة على أن من الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن الذي يقول: - {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله، والإيمان به فيدخلون بذلك النار...
وحتى في قوله: {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي..} حروف غاية، لاتخاذهم إياهم سخرياً أي لم يزالوا كذلك، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به، فكان مأواهم
صـ447
النار والعياذ بالله.(1) "
(ج) أن الاستهزاء بالعلماء والصالحين لأجل ما هم عليه من العلم الشرعي، واتباعهم للقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، هو في حقيقته استهزاء بآيات الله تعالى، وسخرية بشرائع دين الله عز وجل، ولا شك أن هذا الاستهزاء كفر يناقض الإيمان، يقول الله تعالى: - {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية، آية 9]، ولم يجيء إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار.(2) "
يقول ابن حزم: - " صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر.(3) "
__________
(1) أضواء البيان 5/827 ، 828 = باختصار .
(2) انظر الصارم المسلول لابن تيمية ص 52 .
(3) الفصل 3/299 ، وانظر المحلى 13/00 5 – 502 .(2/216)
4- ونختم هذا المبحث بجملة من أقوال العلماء في تلك المسألة.
يقول القرطبي عند تفسيره لقوله تعالى: - {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا..} الآية {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي اشتغلتم بالاستهزاء عند ذكري {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} استهزاء بهم، وأضاف الإنساء إلى المؤمنين؛ لأنهم كانوا سبباً لاشتغالهم عن ذكره، وتعدى شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم..
ويستفيد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء، والمساكين، والاحتقار لهم، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يعني، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل.(1) "
وجاء في الفتاوى البزازية: - " والاستخفاف بالعلماء لكونهم علماء استخفاف بالعلم، والعلم صفة الله تعالى منحه فضلاً على خيار عباده ليدلوا خلقه على شريعته نيابة عن رسله، فاستخفافه بهذا يعلم أنه إلى من يعود.(2) "
صـ448
وجاء أيضاً:- " رجل يجلس على مكان مرتفع أو لا يجلس عليه، لكن يسألونه عن مسائل بطريق الاستهزاء، ويضربونه بما شاؤا وهم يضحكون كفروا.(3) "
" ويقول ابن نجيم: - " ويكفر بجلوسه على مكان مرتفع والتشبه بالمذكرين ومعه جماعة يسألون من المسائل ويضحكون منه، ثم يضربونه بالمخراق (4)، وكذا يكفر الجميع لاستخفافهم بالشرع، وكذا لو لم يجلس على مكان مرتفع، ولكن يستهزئ بالمذكورين ويتمشى والقوم يضحكون، وبقوله لا تذهب وإن ذهبت تطلق امرأتك استهزاء بالعلم والعلماء جواباً لمن قال إلى مجلس العلم، جواباً أين تذهب.(5) "
ويقول أيضاً:- " ولو صغر الفقيه أو العلوي قاصداً الاستخفاف بالدين كفر، لا إن لم يقصده.(6) "
__________
(1) تفسير القرطبي 12/154 = باختصار .
(2) الفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى العالمكيرية) 6/336 .
(3) المرجع السابق 6/337 .
(4) المخراق : - المنديل يلف ليضرب به
انظر : مختار الصحاح ص 173 .
(5) البحر الرايق 5/132 .
(6) المرجع السابق 5/134 .(2/217)
ويقول ? في كتاب آخر -: - " الاستهزاء بالعلم والعلماء كفر.(1) "
ويقول ملا علي قاري: - " وفي الظهيرية من قال لفقيه أخذ شاربه: ما أشد قبحاً قص الشارب ولف طرف العمامة تحت الذقن يكفر؛ لأنه استخفاف بالعلماء يعني وهو مستلزم لاستخفاف الأنبياء عليهم السلام؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم السلام، وقص الشارب من سنن الأنبياء عليهم السلام فتقبيحه كفر بلا اختلاف بين العلماء.
وفي الخلاصة من قال: قصصت شاربك وألقيت العمامة على العاتق استخفافاً يعني بالعالم أو بعلمه فذلك كفر.
ونقل عن الأستاذ نجم الدين الكندي بسمرقند أن من تشبه بالمعلم على وجه السخرية، وأخذ الخشبة، وضرب الصبيان كفر، يعني لأن معلم القرآن من جملة علماء الشريعة فلاستهزاء به وبمعلمه يكون كفراً.
ص449
وفي المحيط ذكر أن فقيهاً وضع كتابه في دكان وذهب، ثم مر على ذلك الدكان، فقال صاحب الدكان: ههنا نسيت المنشار، فقال الفقيه عندك كتاب لا منشار، فقال صاحب الدكان: النجار بالمنشار يقطع الخشب، وأنتم تقطعون به حلق الناس، أو قال حق الناس، فشكى الفقيه إلى الإمام الفضلي يعني الشيخ محمد بن الفضل، فأمر بقتل ذلك الرجل؛ لأنه كفر باستخفاف كتب الفقه.
وفي التتمة: من أهان الشريعة أو المسائل التي لا بد منها كفر، ومن ضحك من المتيمم كفر. (2) "
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن بعض الناس يسخرون بالملتزمين بدين الله ويستهزئون بهم فما حكم هؤلاء؟
__________
(1) الأشباه والنظائر ص 191.
(2) شرح الفقه الأكبر ص 260 – 262 = باختصار ، وانظر تهذيب ألفاظ الكفر لمحمد اسماعيل الرشيد ص 26(2/218)
فأجاب: - " هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق، فإن الله قال عن المنافقين: - {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ التوبة، آية 79].
ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع، فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر، أما إذا كانوا يستهزئون بهم يعنون أشخاصهم، وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة فإنهم لا يكفرون بذلك؛ لأن الإنسان قد يستهزىء بالشخص نفسه بقطع النظر عن عمله وفعله لكنهم على خطر عظيم. (1)
__________
(1) المجموع الثمين 1/65 ، وانظر الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة للدوسري ص 63 ، والمنافقون في القرآن لعبدالعزيز الحميدي ص 384 .
* الترك يعد فعلاً وعملاً ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة ، قال تعالى : " " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الأثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون " " المائدة ، آية 63 فسمى الله عز وجل عدم نهي الربانيين والأحبار لهم صنيعاً ، والصنع فعل . وقال تعالى : " " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " " فسمى عدم تناهيهم عن المنكر فعلاً . وقال صلى الله عليه وسلم : " عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها ، فوجدت في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق ، ووجدت في مساويء أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن " أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب النهي عن البصاق في المسجد ، في الصلاة وغيرها 1/390 ، رقم الحديث (553) .
انظر تفصيل هذه المسألة : - روضة الناظر لابن قدامة ص 54 ، والموافقات للشاطبي 4/58، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 42، والقواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ص 62، وشرح الروضة للشنقيطي ص 38، وأفعال الرسول لمحمد الأشقر 2/47-50.(2/219)
"
ص450
الفصل الثاني
النواقض العملية
المبحث الأول " ترك الصلاة*
1 - في مستهل هذا المبحث نشير بإيجاز إلى أهمية شأن الصلاة، وعظيم منزلتها، وخصائصها، ولقد كفانا الإمام محمد بن نصر المروزي مؤنة الحديث عن منزلة الصلاة، حيث ألف رحمه الله كتاباً مستقلاً بعنوان "تعظيم قدر الصلاة" (1)، ولذا سنورد جملة من كلامه في هذا المقام.
يقول الإمام محمد بن نصر: - " ومما دل الله تعالى به على تعظيم قدر الصلاة ومباينتها لسائر الأعمال؛ إيجابه إياها على أنبيائه، ورسله، وإخباره عن تعظيمهم إياها، فمن ذلك أنه جل وعز قرب موسى نجياً، وكلمه تكليماً، فكان أول ما افترض عليه بعد افتراضه عبادته إقام الصلاة، ولم ينص له فريضة غيرها، فقال، تبارك وتعالى مخاطباً لموسى بكلماته ليس بينه وبينه ترجمان: - {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى {13} إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه، آية 13]. فدل
ص451
ذلك على عظم قدر الصلاة، وفضلها على سائر الأعمال، إذ لم يبدأ مناجيه وكليمه بفريضة أول منها. (2) "
ويقول أيضاً:- " ومدح الله عباده المؤمنين، فبدأ بذكر الصلاة قبل كل عمل، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1}الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون، آية 1 , 2] فمدحهم في أول نعتهم بالخشوع فيها، ثم أعاد ذكرها في آخر القصة إعظاماً لقدرها، في القربة إليه، ولما أعد للقائمين بها، المحافظين عليها من جزيل الثواب، ونعيم المآب فقال: - {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {9} أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ {10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون آية 9 – 11].
__________
(1) طبع هذا الكتاب سنة 1406 هـ في مجلدين ، بتحقيق الدكتور عبدالرحمن الفريوائي
(2) تعظيم قدر الصلاة 1/96(2/220)
ولم نجد الله عز وجل مدح أحداً من من المؤمين بمواظبته على شيء من الأعمال مدح من واظب على الصلوات في أوقاتها، ألا تراه كيف ذكرها مبتدأة من بين سائر الأعمال،
قال تعالى: - {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج، آية 19-21] ثم لم يبرئ أحداً من هذين الخلقين المذمومين من جميع الناس قبل المصلين، فقال: - {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ {22} الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج، آية 22، 23].
ثم أعاد ذكرهم في آخر الآية، بذكر آخر فقال: - {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {34} أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} [المعارج، آية 34، 35].
وقال {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [فاطر، آية 29]، في كل ذلك يبدأ بمدح الصلاة قبل سائر الأعمال، تبعها ما تبعها من سائر الطاعات، فكرر الثناء عليهم، ومدحهم بالمحافظة عليها، ليدوموا عليها، كل ذلك تأكيداً لها وتعظيماً لشأنهما (1) "
ويقول أيضاً: - " إن الصلاة لم تزل مفتاح شرائع دين الإسلام وعقده لا تزول عنه أبداً، ولم تزل مقرونة بالإيمان في دين الملائكة والأنبياء والخلق أجمعين، لم يكن لله عز وجل دين بغيرها قط، وسائر الفرائض ليس كذلك.
-إلى أن قال – فهي أشهر معالم التوحيد مناراً بين ملة الإسلام، وملة الكفر، لن يستحق دين الإسلام ومشاركة أهل الملة، ومباينة ملة الكفر إلا بإقامتها، فإن تركتها العامة انطمس منار الدين كله، فلا يبقى للدين رسم، ولا علم يعرف به.(2) "
__________
(1) المرجع السابق 1/135 , 136 .
(2) المرجع السابق 2/1002 ، 1003 .(2/221)
ومما دونه ابن القيم في هذا الصدد:- " إن الصلاة قد اختصت من سائر الأعمال بخصائص ليست لغيرها، فهي أول ما فرض الله من الإسلام، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم نوابه ورسله أن يبدؤوا بالدعوة إليها بعد الشهادتين فقال لمعاذ: " ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة (1) "، ولأنها أول ما يحاسب عليها العبد من عمله، ولأن الله فرضها في السماء ليلة المعراج، ولأنها أكثر الفروض ذكراً في القرآن، ولأن أهل النار لما يسألون: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر، آية 42]لم يبدؤوا بشيء غير ترك الصلاة، ولأن فرضها لا يسقط عن العبد بحال دون حال ما دام عقله معه بخلاف سائر الفروض، فإنها تجب في حال دون حال، ولأنها عمود فسطاط الإسلام، وإذا سقط عمود الفسطاط وقع الفسطاط، ولأنها آخر ما يفقد من الدين، ولأنها فرض على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والحاضر والمسافر، والصحيح والمريض، والغني والفقير...(2)"
2- وإذا انتقلنا إلى مسألة ترك الصلاة، فينبغي أن يعلم أن هذا الترك له ضروب متعددة، فمنه ما هو كفر، ومنه ما ليس بكفر، ومنه ما هو مختلف فيه فمن ترك الصلاة نسياناً فلا يكفر بإجماع الأمة (3)، وأما الترك الذي يعد كفراً، فمنه ما يلي:-
(أ) من ترك الصلاة جاحداً لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين، وكذا إن جحد
صـ453
وجوبها ولم يترك فعلها.(4)
__________
(1) أخرجه البخاري ، ك الزكاة (3/357) ، ح (1496) ومسلم ، ك الإيمان (1/50) ، ح (19) .
(2) كتاب الصلاة ص 31 , 32 ، وانظر رسالة الصلاة للإمام أحمد بن حنبل ص 14 – 22 ، ومجموع الفتاوي لابن تيمية 3/427.
(3) انظر معالم السنن للخطابي 7/45 ، والمجموع للنووي 3/16 .
(4) انظر مقدمات ابن رشد ص 100 ، والمجموع للنووي 3/16 ، والمغني لابن قدامة 3/351 ، ومجموع فتاوي ابن تيمية 20/96 ، 22/40 .(2/222)
(ب) من ترك الصلاة استكباراً أو حسداً... فهذا كافر بالاتفاق.
وقد بين ابن تيمية هذه الحالة بياناً كافياً فقال:-
" أن لا يجحد وجوبها، لكنه ممتنع من التزام فعلها كبراً، أو حسداً، أو بغضاً لله ولرسوله، فيقول أعلم أن الله أوجبها على المسلمين، والرسول صادق في تبليغ القرآن، لكنه ممتنع عن التزام الفعل استكباراً، أو حسداً للرسول، أو عصبية لدينه، أو بغضاً لما جاء به الرسول، فهذا كافر بالاتفاق، فإن إبليس لما ترك السجود المأمور به لم يكن جاحداً للإيمان، فإن الله تعالى باشره بالخطاب، وإنما أبى واستكبر وكان من الكافرين، وكذلك أبو طالب كان مصدقاً للرسول فيما بلغه، لكنه ترك اتباعه حمية لدينه، وخوفاً من عار الانقياد، واستكباراً عن أن تعلو أسته رأسه، فهذا ينبغي أن يتفطن له. ومن أطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها فيكون الجحد عنده متناولاً للتكذيب بالإيجاب، ومتناولاً للامتناع عن الإقرار والالتزام، كما قال تعالى:- {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام، آية 63]، وقال تعالى: - {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل، آية 14]. وإلا فمتى لم يقر ويلتزم فعلها قتل وكفر بالاتفاق.(1) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 20/97 ، 98 ، وانظر : الصارم المسلول ص 521 ، 522 .(2/223)
(ج) من ترك الصلاة استخفافاً واستهانة بها فهو كافر، " فقد سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن الرجل يدع الصلاة استخفافاً ومجوناً، فقال: سبحان الله إذا تركها استخفافاً ومجوناً فأي شيء بقي، فقيل له: إنه يسكر ويمجن، قال: هذا تريد تسأل عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: - " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة (1) " قلت: - ترى أن تستيبه، فأعدت عليه، فقال: إذا تركها استخفافاً ومجوناً فأي شيء بقي.(2) "
صـ454
وقال الإمام أحمد في رسالة الصلاة:- " فكل مستخف بالصلاة مستهين بها هو مستخف بالإسلام مستهين به، وإنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة.(3) "
(د) من ترك الصلاة وأصر على تركها حتى يقتل فهو كافر اتفاقاً، فإن من امتنع من الصلاة حتى يقتل، لم يكن في الباطل مقراً بوجوبها، ولا ملتزماً بفعلها.
وقد فرض متأخرو الفقهاء مسألة يمتنع وقوعها، وهو أن الرجل إذا كان مقراً بوجوب الصلاة، فدعي إليها وامتنع واستتيب مع تهديده بالقتل فلم يصل حتى قتل هل يموت كافراً أو فاسقاً؟ على قولين.
فهذا فرض باطل، فإنه يمتنع في الفطرة أن يكون الرجل معتقداً لفرضية الصلاة وعقوبة تاركها، ومع ذلك يصبر على القتل ولا يسجد لله سجدة.(4)
يقول ابن تيمية – عن هذه المسألة وأشباهها:-
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد ، جمع عبد الإله الأحمدي 2/37 .
(3) ص 15 ، 16 .
(4) انظر مجموع فتاوي ابن تيمية 7/219 ، 22/48 ، 35/106 .(2/224)
" وهي فروع فاسدة، فإن كان مقراً بالصلاة في الباطن، معتقداً لوجوبها، يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل، وهو لا يصلي، هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم، ولهذا لم يقع هذا قط في الإسلام، ولا يعرف أن أحداً يعتقد وجوبها، ويقال له إن لم تصل وإلا قتلناك، وهو يصر على تركها، مع إقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قط في الإسلام.(1) "
وتحدث ابن تيمية – في موضع آخر – عن هذه المسألة المفترضة، وبيان صلتها بالإرجاء فقال: - " لا يتصور في العادة أن رجلاً يكون مؤمناً بقلبه، مقراً بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزماً لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع، حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمناً في الباطن قط، ولا يكون إلا كافراً، ولو قال أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها، كان هذا القول مع هذه الحال كذباً منه...
فهذا الموضع ينبغي تدبره، فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن، زالت عنه الشبهة من هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن
صـ455
الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإدارة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في " مسألة الإيمان "، وأن الأعمال ليست من الإيمان.(2) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 22/48 .
(2) مجموع الفتاوى 7/615 = باختصار .(2/225)
ويستنكر ابن القيم عدم تكفير من تلبس بهذه الحالة، فيقول:-" ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها، ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ وهو يرى بارقة السيف على رأسه، ويشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له: - تصلي، وإلا قتلناك، فيقول: - اقتلوني، ولا أصلي أبداً، ومن لا يكفر تارك الصلاة، يقول: هذا مؤمن مسلم يغسل، ويصلي عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، وبعضهم يقول: إنه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، أفلا يستحي من هذا قوله من إنكاره تكفير من شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة.(1) "
(هـ) من ترك الصلاة معرضاً عنها، لا مقراً بوجوبها، ولا منكراً فهو كافر، كما بين ذلك ابن تيمية بقوله:-
" أن يتركها {أي الصلاة} ولا يقر بوجوبها، ولا يجحد وجوبها، لكنه مقر بالإسلام من حيث الجملة، فهل هذا من موارد النزاع، أو من موارد الإجماع؟ ولعل كلام كثير من السلف متناول لهذا، وهو المعرض عنها لا مقراً ولا منكراً، وإنما هو متكلم بالإسلام فهذا فيه نظر، فإن قلنا: يكفر بالاتفاق، فيكون اعتقاد وجوب هذه الواجبات على التعيين من الإيمان لا يكفي فيها الاعتقاد العام، كما في الخبريات من أحوال الجنة والنار، والفرق بينهما أن الأفعال المأمور بها، المطلوب فيها الفعل لا يكفي فيها الاعتقاد العام، بل لابد من اعتقاد خاص بخلاف الأمور الخبرية، فإن الإيمان المجمل بما جاء به الرسول من صفات الرب وأمر المعاد يكفي فيه مالم ينقض الجملة بالتفصيل... بخلاف الشرائع المأمور بها فإنه لا يكتفي فيها بالجمل، بل لابد من تفصيلها علماً وعملاً.(2) "
صـ456
3 - أما من تعمد ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً، وهل هو كافر أو مسلم؟ ففيه قولان، وهذه المسألة محل خلاف طويل بين أهل العلم، وسنورد أقوالهم وأدلتهم ومناقشتها على النحو التالي:-
__________
(1) كتاب الصلاة ص 62 ، 63 .
(2) مجموع الفتاوى 20/98 , 99 .(2/226)
القول الأول:- قال بتكفير تارك الصلاة جمع من الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين وكثير من أئمة العلم وأهله.
يقول محمد بن نصر المروزي عن هذا القول: - " وهذا مذهب جمهور أصحاب الحديث.(1)
ويقول ابن حزم: - " فروينا عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ومعاذ بن جبل وابن مسعود وجماعة من الصحابة – رضي الله عنهم – وعن ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية رحمة الله عليهم، وعن تمام سبعة عشر رجلاً من الصحابة، والتابعين ضي الله عنهم، أن من ترك صلاة فرض عامداً ذاكراً حتى يخرج وقتها، فإنه كافر ومرتد، وبهذا يقول عبد الله بن الماحشون صاحب مالك، وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي وغيره.(2) "
وقال ابن قدامة: - واختلفت الرواية هل يقتل لكفره أو حداً؟ فروي أنه يقتل لكفره كالمرتد، فلا يغسل ولا يكفن ولا يدفن بين المسلمين، ولا يرثه أحد، ولا يرث أحداً، اختارها أبو إسحاق بن شاقلا، وابن حامد، وهو مذهب الحسن، والنخعي، والشعبي، وأيوب السختياني، والأوزاعي، وابن المبارك، وحماد بن زيد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن...(3) "
وقال النووي: - " من تركها بلا عذر تكاسلاً وتهاوناً فيأثم بلا شك، ويجب قتله إذا أصر، وهل يكفر؟ فيه وجهان، حكاهما المصنف {الشيرازي} وغيره، أحدهما يكفر، قال العبدري: وهو قول منصور الفقيه من أصحابنا وحكاه
صـ457
المصنف في كتابه في الخلاف عن أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا.(4) "
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة 2/ 636 .
(2) الفصل 3/274 ، وانظر المحلى 2/326 ، 327 ، والشريعة للآجري ص 133 – 135 وأصول اللالكائي 2/816 – 829 ، والإبانة الكبرى لابن بطة 2/669 – 683 ، والتمهيد لابن عبد البر 4/225 .
(3) المغني 3/354 ، وانظر الإنصاف للمرداوي 1/404 ، 405 .
(4) المجموع 3/17 .(2/227)
وقال ابن تيمية: - " وإن كان التارك للصلاة واحداً فقد قيل إنه يعاقب بالضرب والحبس حتى يصلي، وجمهور العلماء على أنه يجب قتله إذا امتنع من الصلاة بعد أن يستتاب، فإن تاب وصلى، وإلا قتل، وهل يقتل كافراً أو مسلماً فاسقاً؟ فيه قولان، وأكثر السلف على أنه يقتل كافراً، وهذا كله مع الإقرار بوجوبها.(1)
وأما القائلون بعدم تكفير تارك الصلاة فكثير من الفقهاء.
قال ابن قدامة: - " والرواية الثانية: يقتل حداً، مع الحكم بإسلامه، كالزاني المحصن، وهذا اختيار أبي عبد الله ابن بطة، وأنكر قول من قال إنه يكفر... وهذا قول أكثر الفقهاء، وقول أبي حنيفة ومالك، والشافعي.(2) "
وقال النووي – عن هذا القول -: - " وهو الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور.(3) "
(أ) أدلة الفريق الأول:-
استدل القائلون بتكفير تارك الصلاة بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب:-
1. فقوله تعالى: - {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ {35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {36} أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ {37} إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ {38}أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [– إلى قوله – {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {42} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم، آية 35 – 43].
صـ458
__________
(1) مجموع الفتاوى 28/308 ، وانظر 28/359 ، 360 ، 7/303 ، 611 ، 20/97 – وكتاب الصلاة لابن القيم ص 33 ، وجامع العلوم والحكم لابن رجب 1/147 .
(2) المغني 3/355 ، وانظر الإنصاف للمرداوي 1/404 ، 405 .
(3) المجموع 3/17 ، وانظر طرح التثريب شرح التقريب للعراقي 2/147 ، ومقدمات ابن رشد ص 101 ، والتمهيد لابن عبد البر 4/230 .(2/228)
يقول ابن تيمية: - " إنما يصف سبحانه بالامتناع عن السجود الكفار، كقوله {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {42} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} (1) "
ويقول ابن القيم: - " فوجه الدلالة من الآية: - أنه سبحانه أخبر أنه لا يجعل المسلمين كالمجرمين، وأن هذا الأمر لا يليق بحكمته، ولا بحكمه، ثم ذكر أحوال المجرمين الذين هم ضد المسلمين، فقال: - " يوم يكشف عن ساق " وأنهم يدعون إلى السجود لربهم – تبارك وتعالى – فيحال بينهم وبينه، فلا يستطيعون السجود مع المسلمين عقوبة لهم على ترك السجود له مع المصلين في دار الدنيا، وهذا يدل على أنهم مع الكفار والمنافقين الذين تبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون كصياصي البقر (2)، ولو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين.(3) "
2 - قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ {38}إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ {39}فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ {40}عَنِ الْمُجْرِمِينَ {41}مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {42}قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ {43}وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ {44} وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ {45} وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ {46}حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر، آية 38 – 47]
يقول محمد بن نصر المروزي: - أولا تراه أبان أن أهل المعاد إلى الجنة المصلين، وأن المستوجبين للإياس من الجنة المستحقين للتخليد في النار من لم يكن من أهل الصلاة بإخباره تعالى عن المخلدين في النار حين سئلوا {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {42}قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر، آية 42].(4)
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/611 .
(2) صياصي البقر : أي قرونها . انظر اللسان 7/52 ، ومفردات الأصفهاني ص 429 .
(3) كتاب الصلاة ص 37 ، 38 .
(4) تعظيم قدر الصلاة 2/1007 .(2/229)
وقال ابن القيم: - " قد جعل الله سبحانه المجرمين ضد المسلمين، وتارك الصلاة من المجرمين السالكين في سقر، وقد قال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ {47}يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر، آية 47 , 48]
وقال تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}
صـ459
[المطففين، آية 29]، فجعل المجرمين ضد المؤمنين المسلمين.(1) "
3- قوله تعالى:- {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم، آية 59].
ومعنى أضاعوا الصلاة أي تركوها، كما اختاره ابن جرير وغيره (2)، وأما المقصود بغي، فقد ساق الإمام محمد بن نصر بسنده عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن صخرة زنة عشر عشروات (3) قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفاً، ثم تنتهي إلى غي وأثام،
فقلت: وما غي وأثام؟ قال: - بئران في أسفل جهنم، يسيل فيها صديد أهل جهنم.(4) "
__________
(1) كتاب الصلاة 38 .
(2) انظر تفسير ابن جرير 16/66 ، وابن كثير 3/125 ، وفتح القدير للشوكاني 3/339 .
(3) عشروات : - جمع عشراء : وهي الناقة التي أتى عليها من وقت الحمل عشرة أشهر . (انظر اللسان 4/572 ، ومختار الصحاح ص 434) .
(4) تعظيم قدر الصلاة 1/119 ، 120 ، وأخرجه الطبري (16/75) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/389) : " وفيه ضعفاء قد وثقهم ابن حبان وقال يخطئون " وقال المنذري في الترغيب (4/231) : - " رواه الطبراني والبيهقي مرفوعاً ، ورواه غيرهما موقوفاً عن أبي أمامة وهو أصح . " وقال محقق كتاب تعظيم قدر الصلاة – الفريوائي – (1/121) وله شاهد من حديث أبي هريرة ، وبريدة ، وأبي موسى ، وأنس ، وخلاصته أن الحديث صحيح لشواهده . "
وانظر " الصحيحة للألباني (1612) .(2/230)
يقول ابن القيم: - " فوجه الدلالة من الآية أن الله سبحانه جعل هذا المكان من النار لمن أضاع الصلاة، واتبع الشهوات، ولو كان مع عصاة المسلمين، لكانوا في الطبقة العليا من طبقات النار، ولم يكونوا في هذا المكان الذي هو في أسفلها، فإن هذا ليس من أمكنة أهل الإسلام، بل من أمكنه الكفار، ومن الآية دليل آخر وهو قوله تعالى: - {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا {59} إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} فلو كان مضيع الصلاة مؤمناً، لم يشترط في توبته الإيمان، وأنه يكون تحصيلاً للحاصل.(1)"
صـ460
4- قوله عز وجل: - {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة، آية 11].
فمفهوم هذه الآية أنهم إن لم يقيموا الصلاة لم يكونوا من إخوان المؤمنين، ومن انتفت عنهم أخوة المؤمنين، فهم من الكافرين؛ لأن الله تعالى يقول: - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات، آية 10]، فالأخوة الدينية لا تنتفي بالمعاصي وإن عظمت، ولكن تنتفي بالخروج عن الإسلام.(2)
5- قوله سبحانه وتعالى: - {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة، آية
31, 32].
يقول محمد بن نصر المروزي: - " فالكذب ضد التصديق، والتولي ترك الصلاة وغيرها من الفرائض، ثم أوعده وعيداً بعد وعيد فقال: - {أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى} [القيامة 34، 35].(3) "
__________
(1) كتاب الصلاة ص 41 .
(2) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/613 ، وكتاب الصلاة لابن القيم ص 41 ، 42 ، وأضواء البيان للشنقيطي 4/311 ، ورسالة الطهارة والصلاة لابن عثيميين ص 58 .
(3) تعظيم قدر الصلاة 1/129 .(2/231)
ويقول ابن القيم – عن هذه الآيات -: - " فلما كان الإسلام تصديق الخبر، والانقياد للأمر، جعل سبحانه له ضدين: عدم التصديق، وعدم الصلاة، وقابل التصديق بالتكذيب، والصلاة بالتولي فقال: - "} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فكما أن المكذب كافر، فالمتولي عن الصلاة كافر، فكما يزول الإسلام بالتكذيب يزول بالتولي عن الصلاة.(1) "
6.قوله تبارك وتعالى: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون، آية 9].
قال عطاء بن أبي رباح: - " هي الصلاة المكتوبة.(2) "
يقول ابن القيم: - " ووجه الاستدلال بالآية أن الله حكم بالخسران المطلق لمن ألها ماله وولده عن الصلاة، والخسران المطلق لا يحصل إلا للكفار، فإن
صـ461
المسلم ولو خسر بذنوبه ومعاصيه، فآخر أمره إلى الربح، يوضحه أنه سبحانه وتعالى – أكد خسران تارك الصلاة في هذه الآية بأنواع من التأكيد:
الأول: إتيانه به بلفظ الاسم الدال على ثبوت الخسران ولزومه دون الفعل الدال على التجدد والحدوث.
الثاني: - تصدير الاسم بالألف واللام المؤدية لحصول كمال المسمى لهم فإنك إذا قلت: زيد العالم الصالح، أفاد ذلك إثبات كمال ذلك، بخلاف قولك عالم صالح.
الثالث: - إتيانه – سبحانه – بالمبتدأ والخبر معرفتين،وذلك من علامات انحصار الخبر في المبتدأ كما في قوله تعالى: - {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة، آية 5]، وقوله تعالى - {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة، آية 254].
__________
(1) كتاب الصلاة ص 42 ، وانظر فتاوى ابن تيمية 7/612 ، 613 .
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/7 = 76) ، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/129) ، وانظر الدر المنثور للسيوطي (8/180).(2/232)
الرابع: - إدخال ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر، وهو يفيد مع الفصل فائدتين أخريين: قوة الإسناد، واختصاص المسند إليه بالمسند، كقوله تعالى:-
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحج، آية 64] وقوله: - {وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [ المائدة، آية 76]. (1) "
7. قوله تعالى: - {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ {46}وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ {47}وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ {48} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات، آية 46 – 49].
يقول ابن القيم: - " توعدهم على ترك الركوع، وهو الصلاة إذا دعوا إليها، ولا يقال إنما توعدهم على التكذيب، فإنه سبحانه وتعالى إنما أخبرهم عن تركهم لها، وعليه وقع الوعيد.
على أنا نقول: لا يصر على ترك الصلاة إصراراً مستمراً من يصدق بأن الله سبحانه أمر بها أصلاً، فإنه يستحيل – في العادة والطبيعة – أن يكون الرجل مصدقاً تصديقاً جازماً أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مصر على تركها، هذا من المستحيل قطعاً، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبداً، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمره بها، فليس في قلبه شيء من الإيمان.
صـ462
__________
(1) كتاب الصلاة ص 42 ، 43 .(2/233)
ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها، وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد، والجنة والنار، وأن الله فرض عليه الصلاة، وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته، وعدم الموانع المانعة له من الفعل،و هذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق، وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم، وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة، ولا ترك معصية.(1) "
8- قوله تعالى: - {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم، آية 31].
فبين عز وجل أن علامة أن يكون من المشركين ترك إقامة الصلاة.(2) "
وأما أدلتهم من السنة فنوردها كما يأتي:-
1- ساق الإمام مسلم (3) بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة.(4) "
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحد بين الإسلام والكفر ترك الصلاة، فمن أدى الصلاة فهو مسلم، ومن تركها فهو كافر.
يقول البيهقي (5): - " ليس من العبادات بعد الإيمان الرافع للكفر عبادة سماها الله
صـ463
__________
(1) المرجع السابق ، ص 43 ، 44 .
(2) انظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/1005 ، 1006 ، وفتح الباري 2/7 .
(3) أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ، الإمام ، الحافظ ، صاحب " الصحيح " ، كان من أوعية العلم ، له مصنفات ، توفي بنيسابور سنة 261 هـ .
انظر سير أعلام النبلاء 12/557 ، طبقات الحنابلة 1/337 .
(4) سبق تخريجه .
(5) أبو بكر أحمد بن الحسين الخراساني ، الحافظ الفقيه ، صاحب المصنفات الكثيرة ، كان متقناً لعلوم جمة ، وزاهداً ورعاً ، مات سنة 458 هـ .
انظر طبقات الشافعية 4/8 ، وسير أعلام النبلاء 18/163 .(2/234)
عز وجل إيماناً، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تركها كفراً إلا الصلاة.(1) "
وقد جاء الكفر – في هذا الحديث – معرفاً، فدل على التخصيص والعهد، وكما قال ابن تيمية:-
" ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافراً الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً، حتى يقوم به أصل الإيمان، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: - " ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة " وبين كفر منكر في الإثبات.(2) "
ويقول الشوكاني: - - في بيان حكم تارك الصلاة – والحق أنه كافر يقتل، أما كفره فلأن الأحاديث قد صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم، وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الإسم عليه هو الصلاة، فتركها مقتض لجواز الإطلاق.(3) "
ويقول الشنقيطي عن هذا الحديث: - " وهو واضح في أن تارك الصلاة كافر؛ لأن عطف الشرك على الكفر فيه تأكيد قوي لكونه كافراً.(4) "
2- وعن بريدة بن الحصيب (5)رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : - " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر "(6) "
صـ464
__________
(1) شعب الإيمان للبيهقي 3/33 .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم 1/208
(3) نيل الأوطار 2/13 .
(4) أضواء البيان 4/311 .
(5) بريدة بن الحصيب بن عبد الله الأسلمي ، صحابي جليل ، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة ، وغزا خراسان في زمن عثمان ، ومات في مرو سنة 63 هـ .
انظر : الإصابة 1/286 ، وسير أعلام النبلاء 2/469.
(6) أخرجه أحمد 5/346 ، والترمذي في الإيمان ح (2621) وقال " هذا حديث حسن صحيح غريب " ، والنسائي في الصلاة (1/187) ، وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/6) ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/226) . وانظر : تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/877 – 880) .(2/235)
يقول العراقي في شرح هذا الحديث: - " الضمير في قوله " وبينهم " يعود على الكفار أو المنافقين، معناه بين المسلمين والكافرين والمنافقين ترك الصلاة... والمراد أنهم ما داموا يصلون فالعهد الذي بينهم وبين المسلمين من حقن الدم باق...(1) "
ومما قاله المباركفوري (2) في شرح هذا الحديث: - " والمعنى أن العمدة في إجراء أحكام الإسلام عليهم تشبههم بالمسلمين في حضور صلاتهم، ولزوم جماعتهم، وانقيادهم للأحكام الظاهرة، فإذا تركوا ذلك كانوا هم والكفار سواء.(3) "
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة حداً يميز المسلمين عن غيرهم من الكفار، ويشهد لهذا ما جاء في الحديث الآخر عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً قال: - " بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك (4) "
3- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: - " من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها، لم تكن له نوراً، ولا برهاناً، ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف (5) "
صـ465
__________
(1) طرح التثريب شرح التقريب 2/145 .
(2) محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري ، من علماء الحديث في بلاد الهند ، قرأ في العلوم المختلفة ، وله مؤلفات ، توفي سنة 1353 هـ .
…انظر : معجم المؤلفين 5/166.
(3) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 7/369 .
(4) أخرجه اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (4/822) وقال : إسناده صحيح على شرط مسلم ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/227) ، وانظر : تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/879 ، 880 ) .
(5) أخرجه أحمد (2/169) وابن حبان ح (1448) ، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/292) إلى الطبراني في الكبير والأوسط ، وقال : - " رجال أحمد ثقات .(2/236)
قال ابن القيم: - " وإنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر لأنهم من رؤوس الكفرة، وفيه نكتة بديعة، وهو أن تارك المحافظة على الصلاة... إما أن يشغله ماله، أو ملكه، أو رئاسته، أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رئاسة وزارة فهو مه هامان، ومن شغله عنها تجارته مع أبي بن خلف.(1) "
وقال الشنقيطي: " وهذا الحديث أوضح دلالة على كفر تارك الصلاة؛ لأن انتفاء النور والبرهان والنجاة، والكينونة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف يوم القيامة أوضح دليل على الكفر كما ترى.(2)"
4 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بسبع: - لا تشرك بالله شيئاً، وإن قطعت أو حرقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمداً، فمن تركها عمداً فقد برئت منه الذمة (3) "
يقول ابن القيم: - " ولو كان باقياً على إسلامه، لكانت له ذمة الإسلام.(4) "
5- وجاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الطويل، قوله صلى الله عليه وسلم: - " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد.(5) "
__________
(1) كتاب الصلاة ص 46 ، 47
(2) أضواء البيان 4/313 .
(3) أخرجه ابن ماجه في الأشربة ، ح (4034) ، واللالكائي 2/823 ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/885 – 891 ، وقال البوصيري : " إسناده حسن ، وشهر بن حوشب [أحد رجال هذا الحديث] مختلف فيه " ، وصححه الألباني لشواهده في صحيح الترغيب والترهيب 1/227 – 229 .
(4) كتاب الصلاة ص 487 .
(5) أخرجه أحمد (5/231) ، والترمذي ح (2616) وقال " حسن صحيح " ، وابن ماجه ح (3973) وصححه ابن القيم في كتاب الصلاة (ص47) ، وصححه الألباني في تخريجه لكتاب الإيمان لابن أبي شيبة (1) ، وصحيح الجامع الصغير (5012) .(2/237)
يقول الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله -: - "ألست تعلم أن الفسطاط (1) إذا سقط عموده، سقط الفسطاط، ولم تنتفع بالطنب ولا بالأوتاد، وإذا قام عمود
صـ466
الفسطاط انتفعت بالطنب والأوتاد؟(2) "
6- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا.(3) "
فهذا دليل على أن من لم يصل صلاتنا، ويستقبل قبلتنا فليس بمسلم.(4)
وقال ابن القيم – عن هذا الحديث -: -
" ووجه الدلالة فيه من وجهين:-
أحدهما: أنه إنما جعله مسلماً بهذه الثلاثة، فلا يكون مسلماً بدونها.
الثاني:- أنه إذا صلى إلى الشرق، لم يكن مسلماً حتى يصلي إلى قبلة المسلمين، فكيف إذا ترك الصلاة بالكلية.(5) "
7- وعن محجن الديلي (6) رضي الله عنه: أنه كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى، ثم رجع ومحجن في مجلسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ قال بلى يا رسول الله، ولكني قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جئت فصل مع الناس، وإن كنت قد صليت.(7)
__________
(1) الفسطاط : بيت الشعر (المصباح المنير ص 567) .
(2) رسالة الصلاة ص 16 ، وانظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 48 ، وجامع العلوم والحكم 1/146 ، 2/146 .
(3) أخرجه البخاري ، ك الصلاة (1/496) ح (391) .
(4) انظر التمهيد لابن عبد البر 4/1228 .
(5) كتاب الصلاة ص 48 ، 49 .
(6) محجن بن أبي محجن الديلي ، صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعد من أهل المدينة
انظر : الإصابة 5/779 .
(7) أخرجه مالك في الموطأ (1/132) ، وأحمد (4/34) ، والنسائي (2/87) والحاكم (1/244)، وصححه الألباني في الجامع الصغير ح (480) .(2/238)
يقول ابن عبد البر: - " في هذا الحديث وجوه من الفقه: أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم لمحجن الديلي: ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ وفي هذا – والله أعلم – دليل على أن من لا يصلي ليس بمسلم، وإن كان
ص467
موحداً، وهذا موضع اختلاف بين أهل العلم، وتقرير هذا الخطاب في هذا الحديث: أن أحداً لا يكون مسلماً إلا أن يصلي، فمن لم يصل فليس بمسلم (1) "
ويقول ابن القيم: - " فجعل الفارق بين المسلم والكافر الصلاة، وأنت تجد تحت ألفاظ الحديث أنك لو كنت مسلماً لصليت، وهذا كما تقول: مالك لا تتكلم ألست بناطق؟ ومالك؛ لا تتحرك ألست بحي؟ ولو كان الإسلام يثبت مع عدم الصلاة، لما قال لمن رآه لا يصلي: ألست برجل مسلم. (2) "
8 - وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - " إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء. (3) "
وفي رواية المسلم (4): " قالوا: - كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم (5) بهم (6) ألا يعرف خيله؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: - فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض "
يقول ابن تيمية: - فدل ذلك على أن من لم يكن غراً محجلاً، لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون من أمته. (7) "
__________
(1) التمهيد 4/224
(2) كتاب الصلاة ص 50
(3) أخرجه البخاري ، ك الوضوء (1/235) . ح (136) ، ومسلم ، ك الطهارة (1/216) ح (246) .
(4) ك الطهارة (1/218) ح (249)
(5) دهم : جمع أدهم وهو الأسود
(6) بهم : قيل السود ، وقيل : الذي لا يخالط لونه لوناً سواه ، بل يكون خالصاً .
(7) مجموع الفتاوى 7/612(2/239)
9 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث على بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة في أديم مقروظ (1) لم تحصل من
ص468
ترابها (2) وقال فقسمها بين أربعة نفر بين عينية بن حصن، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، وعلقمة بن علاثة، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: - ألا تأمونني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً، قال فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة (3)، كث اللحية محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله، فقال: " ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله " قال ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد: - يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: - لا لعله أن يكون يصلي (4) "
وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: - " إني نهيت عن قتل المصلين (5) "
__________
(1) في أديم مقروظ : أي في جلد مدبوغ بالقرظ ، والقرظ حب معروف يخرج في غلف كالعدس من شجر العضاء ، (عن تعليق محمد فؤاد عبدالباقي على صحيح مسلم 2/742)
(2) لم تحصل من ترابها : أي لم تميز ولم تصف من تراب معدنها . (المصدر السابق)
(3) ناشر الجبهة : أي مرتفعها (المصدر السابق)
(4) أخرجه البخاري ، ك المغازي (8/67) ، ح (4351) ومسلم ، ك الزكاة (2/742) ، ح (1064) .
(5) أخرجه أبو داود ك الأدب ، ح (4928) ، والدار قطني 2/54 ، 55 ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/918 ، وصححه الألباني في الجامع الصغير 1/332 رقم (2502) .(2/240)
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الصلاة مانعاً من قتل من همّ الصحابة بقتلهم لما رأوا فيهم من احتمال كفرهم، ولو لم يكونوا مقيمين للصلاة لم يمنع الصحابة من ذلك، كما هو ظاهر الحديثين، ولكان قتلهم إياهم لأجل أنهم كفار ليس لدمائهم عصمة، ولا يقال هنا أن تارك الصلاة يقتل حداً لا كفراً، بدلالة هذين الحديثين السابقين، فإنهما لا يدلان على ذلك، وإنما يدلان على خلافه، والذي يبين ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: - " لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة. (1) "
ص469
وليس تارك الصلاة من أصحاب الحدود من المسلمين، بل لا يكون ذلك إلا في الزاني المحصن وليس قاتل نفس، فلم يبق إلا أن يكون إباحة دم تارك الصلاة من أجل ردته. (2)
10 - عن عوف بن مالك (3) رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: - " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويعلنونكم، قيل: - يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة … (4) "
وعن أم سلمة (5)
__________
(1) أخرجه البخاري ، ك الديات (12/201) ح (6878) ، ومسلم . ك القسامة ، (3/1302) ، ح (1676) .
(2) انظر ضوابط التكفير لعبدالله القرني ص 206، 207
(3) عوف بن مالك الأشجعي ، صحابي جليل ، أسلم عام خيبر ، وشهد الفتح ، ونزل حمص ، مات سنة 73هـ .
…انظر : الإصابة 4/743، وسير أعلام النبلاء 2/487.
(4) أخرجه مسلم ك الإمارة (3/1481) ح (1855) ، وأحمد (6/24 ، 28)
(5) أم سلمه هند بنت أبي أمية المخزومية ، أم المؤمنين ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، من المهاجرات الأول ، ولها أولاد صحابيون ، توفيت سنة 68 هـ .
…انظر : سير أعلام النبلاء 2/201، الإصابة 8/221.(2/241)
رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: - " إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: - لا، ما صلوا (1) "
و" ما " في قوله " ما صلوا " مصدرية ظرفية، أي لا تقاتلوهم مدة كونهم يصلون، ويفهم منه أنهم إن لم يصلوا قوتلوا. (2)
وجاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: - " دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن
ص470
تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان. (3) "
فدل مجموع هذه الأحاديث أن ترك الصلاة كفر بواح عليه من الله برهان؛ لأنه إذا لم يجز الخروج على الأئمة إلا إذا كفروا كفراً بواحاً، ثم جاز الخروج عليهم إذا تركوا الصلاة، دل ذلك على أن ترك الصلاة من ذاك الكفر.(4) "
11- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
" إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: يا ويلي، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار.(5) "
__________
(1) أخرجه مسلم ، ك الإمارة (3/148) ح (1854) ، والترمذي ، ك الفتن ، ح (2265)
(2) انظر أضواء البيان للشنقيطي 4/315
(3) أخرجه البخاري ك (الفتن (13/5) ح (7055، 7056) ، ومسلم ك الإمارة (3/1470) ح (1709) .
(4) انظر أضواء البيان للشنقيطي 4/311، 315 ، وضوابط التكفير للقرني ص 208 .
(5) أخرجه مسلم ، ك الإيمان (1/87) ح (81) ، وأحمد 2/443 .(2/242)
" قال إسحاق [بن راهويه] : واجتمع أهل العلم على أن إبليس إنما ترك السجود لآدم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان في نفسه خيراً من آدم عليه السلام، فاستكبر عن السجود لآدم فقال - {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف، آية 12].
فالنار أقوى من الطين، فلم يشك إبليس في أن الله قد أمره، ولا جحد السجود، فصار كافراً بتركه أمر الله تعالى، واستنكافه أن يذل لآدم بالسجود له، ولم يكن تركه استنكافاً عن الله تعالى، ولا جحوداً منه لأمره، فاقتاس قوم ترك الصلاة على هذا.
قالوا: تارك السجود لله تعالى، وقد افترضه عليه عمداً، وإن كان مقراً بوجوبه، أعظم معصية من إبليس في تركه السجود لآدم؛ لأن الله افترض الصلوات على عباده، اختصها لنفسه، فأمرهم بالخضوع لهم بها دون خلقه، فتارك الصلاة أعظم معصية، واستهانة من إبليس حين ترك السجود لآدم عليه السلام، فكما وقعت استهانة إبليس، وتكبره عن السجود لآدم موقع الحجة، فصار بذلك كافراً، فكذلك تارك الصلاة، عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر.(1)
صـ471
وأما دلالة الإجماع على كفر تارك الصلاة، فإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فعن سليمان بن يسار قال: أن المسور بن مخرمة أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ طعن، دخل عليه هو وابن عباس رضي الله عنهم، فلما أصبح من غد، فزعوه، فقالوا: الصلاة، ففزع، فقال: نعم، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى والجرح يثعب دماً.(2) "
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة 2/934 .
(2) أخرجه مالك في الموطأ (1/40) ، والآجري في الشريعة (ص134) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/892 – 896) ، واللالكائي (2/825) ، وصححه الألباني في تحقيقه وتخريجه لكتاب الإيمان لابن أبي شيبة رقم (103) .(2/243)
يقول ابن القيم: - " فقال هذا بمحضر من الصحابة، ولم ينكروه عليه.(1)"
وقال محمد بن نصر المروزي: - " ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها، وإخراجه إياه من الملة، وإباحة قتل من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك.(2) "
وعن عبد الله بن شقيق العقيلي (3) قال: - " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.(4) "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: - " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه غير الصلاة.(5)
صـ472
قال الشوكاني معلقاً على أثر عبد الله بن شقيق " والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة؛ لأن قوله: " كان أصحاب رسول الله، جمع مضاف، وهو من المشعرات بذلك.(6) "
__________
(1) كتاب الصلاة ص 50 . ويقول الشيخ ابن عثيمين في رسالته عن الطهارة والصلاة (ص59) : " والحظ النصيب وهو هنا نكرة في سياق النفي ، فيكون عاماً لا نصيب لا قليل ولا كثير . "
(2) تعظيم قدر الصلاة 2/925 .
(3) أبو عبد الرحمن عبد الله بن شقيق العقيلي ، تابعي جليل من أهل البصرة ، وثقه جمع من المحدثين ، وكان رجلاً صالحاً مجاب الدعوة ، مات سنة 108 هـ .
انظر : تهذيب التهذيب 5/253 ، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 5/81 .
(4) أخرجه الترمذي ، ك : الإيمان ح (3622) ، وأخرجه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (2/905) ، وقال النووي في المجموع (3/19) : "إسناده صحيح " ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/227) رقم (564)
(5) أخرجه الحاكم (1/7) وقال الذهبي : - إسناده صالح " ، وانظر أصول اللالكائي 4/829 .
(6) نيل الأوطار 2/16 .(2/244)
" وقال إسحاق بن راهوية: - قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة عمداً كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر.(1) "
(ب) أدلة الفريق الآخر:-
واستدل القائلون بعدم تكفير تارك الصلاة بجملة من الأدلة، نذكرها على النحو التالي:-
1- قوله تعالى: - {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء، آية 48].
2- وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - " خمس صلوات افترضهن الله، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه.(2) "
وفي رواية: " فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن.. الحديث (3) "
وهذا الدليل أجود ما اعتمدوا – كما يقول ابن تيمية (4)-
صـ473
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر 2/930 ، وانظر التمهيد لابن عبد البر 4/226 .
(2) ،4 أخرجه أحمد 5/319 ، ومالك في الموطأ ، صلاة الليل ، باب الأمر بالوتر (1/123) وأخرجه أبو داود ، ك الصلاة ، الوتر ح (325) وأخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/951 – 956) ، وصححه النووي في المجموع (3/20) ، وقال العراقي في طرح التثريب (2/148) " إسناده " صحيح ، وصححه الألباني في الجامع الصغير، ح (3238) .
(4) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/614 .(2/245)
قال الطحاوي: - " دل أنه لم يخرج بذلك عن الإسلام فيجعله مرتداً مشركاً؛ لأن الله تعالى لا يدخل الجنة من أشرك به لقوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} [المائدة، آية 73]، ولا يغفر له لقوله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء، آية 48].(1) "
وقال ابن عبد البر عن هذا الحديث: - " وفيه دليل على أن من لم يصل من المسلمين في مشيئة الله، إذا كان موحداً مؤمناً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مقراً، وإن لم يعمل.(2) "
وقال الزرقاني (3): " وفيه – يعني حديث عبادة المذكور – أن تارك الصلاة لا يكفر ولا يتمتم عذابه، بل هو تحت المشيئة بنص الحديث.(4) "، ولو كان كافراً لم يدخله تحت المشيئة (5).
3- وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مرفوعاً:- يدرس الإسلام كما يدرس وشي (6) الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله، فنحن نقولها.
قال صلة بن زفر لحذيفة: - ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفه، ثم ردها عليه ثلاثاً،
صـ474
__________
(1) مشكل الآثار 4/226 .
(2) التمهيد 23/290 .
(3) أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي ، محدث ، فقيه ، أصولي عاش في القاهرة ، له مؤلفات ، توفي بالقاهرة سنة 1122هـ .
انظر / معجم المؤلفين 10/124 .
(4) شرح الموطأ 1/255 .
(5) انظر المغني لابن قدامة 3/357 ، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 7/614 ، وأضواء البيان للشنقيطي 4/318 .
(6) كما يدرس وشي .. : - أي كما يمحي ويزول نقش الثوب
انظر : المصباح المنير ص 228 ، 826 .(2/246)
كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة! تنجيهم من النار ثلاثاً.(1) "
4- وعن أبي ذر الغفاري (2) رضي الله عنه قال: - قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي من صلاة العشاء، فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحاب له يصلون فلما رأى قيامهم وتخلفهم، انصرف إلى رحله، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه، فصلى فجئت خلفه، فأومأ إلي بيمينه، فقمت عن يمينه، ثم جاء ابن مسعود، فقام خلفي وخلفه، فأومأ إليه بشماله، فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل رجل منا بنفسه، ويتلو من القرآن ما شاء الله أن يتلو، فقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة، فبعد أن أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة، فقال ابن مسعود: - لا أسأله عن شيء حتى يحدث إليّ، فقلت بأبي أنت وأمي، قمت بآية من القرآن ومعك القرآن، لو فعل هذا بعضنا وجدنا عليه (3)، قال دعوت لأمتي، قال: فماذا أجبت؟ قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة … الحديث (4) "
__________
(1) أخرجه ابن ماجه ح (4049) وقال البوصيري : - إسناده صحيح ، والحاكم 4/473 وصححه ووافقه الذهبي ، وقال عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (13/16) : سنده قوي " وصححه الألباني في " الصحيحة " (87) .
(2) هو جندب بن جنادة الغفاري ، صحابي جليل ، كان زاهداً ، صادق اللهجة ، من السابقين الأوائل إلى الإسلام ، توفي بالربذة سنة 31 هـ .
انظر : الإصابة 7/125 ، وسير أعلام النبلاء 2/46 .
(3) وجدنا عليه : - أي غضبنا عليه ،
انظر : المصباح المنير ص 803 .
(4) أخرجه أحمد (5/170) ، وأخرج بعضه النسائي ، ك الافتتاح ، باب ترديد آية (2/138) . وابن ماجة ، ح(1350) ، وقال الهيثمي في المجمع (2/273) : - " رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات "(2/247)
5- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- " الدواوين عند الله ثلاث: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله عز وجل: - {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} [المائدة، آية 73].
صـ475
وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها، فإن الله – عز وجل – يغفر ذلك، ويتجاوز عنه إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً، فظلم العباد بعضهم بعضاً القصاص لا محالة.(1) "
6- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضي بين الناس في الدماء (2) "
وجاء من حديث أبي هريرة قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - " إن أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإن أتمها، وإلا نظر هل له من تطوع، فإن كان له تطوع، أكملت الفريضة من تطوعه، ثم ترفع سائر الأعمال على ذلك.(3) "
__________
(1) أخرجه أحمد (6/240) ، والحاكم (4/575) وقال : صحيح الإسناد .
(2) أخرجه النسائي ، ك تحريم الدم (7/77) ، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/209) ، وصححه الألباني في " الصحيحة " (1748) .
(3) أخرجه أحمد 2/290 ، وابن ماجة ، ك : إقامة الصلاة ، باب ما جاء في أول ما يحاسب به العبد الصلاة (1/458) ، وأخرجه البغوي في شرح السنة (4/159) (رقم 1019) وقال " حديث حسن " ، وصححه الألباني في " الصحيحة " (1358) .(2/248)
يقول الشوكاني: - أثناء شرحه لهذا الحديث – " والحديث يدل على أن ما لحق الفرائض من النقص كملته النوافل، وأورده المنصف [المجد ابن تيمية] في حجج من قال بعدم الكفر؛ لأن نقصان الفرائض أعم من أن يكون نقصاً في الذات، وهو ترك بعضها، أو في الصفة وهو عدم استيفاء أذكارها، أو أركانها وجبرانها بالنوافل، شعر بأنها مقبولة مثاب عليها، والكفر ينافي ذلك.(1) "
ويقول الشنقيطي: - " وجه الاستدلال بالحديث المذكور على عدم كفر تارك الصلاة أن نقصان الصلوات المكتوبة وإتمامها من النوافل يتناول بعمومه ترك بعضها عمداً، كما يقتضيه ظاهر عموم اللفظ كما ترى. (2) "
صـ476
7- وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر! إنه سيكون بعدي أمراء، يميتون الصلاة (3)، فصل الصلاة لوقتها، فإن صليت لوقتها كانت لك نافلة، وإلا كنت قد أحرزت صلاتك (4) (5) " فهذا دليل على أن تارك الصلاة حتى يخرج وقتها غير كافر.
__________
(1) نيل الأوطار 2/18 , 19 .
(2) أضواء البيان 4/319 .
(3) يميتون الصلاة : - أي يؤخرونها فيجعلونها كالميت الذي خرجت روحه )تعليق محمد فؤاد عبد الباقي على صحيح مسلم 1/448) .
(4) أحرزت صلاتك : أي حصلتها وصنتها لها (المرجع السابق) .
(5) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب كراهية تأخير الصلاة عن وقتها المختار ( 1/448 رقم _648) ، والترمذي الصلاة ح (1760) ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة ، باب ذكر الأخبار التي احتجت به هذه الطائفة التي لم تكفر بترك الصلاة 2/939 – 951 .(2/249)
8- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسئل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فجلد جلدة واحدة فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه أفاق، قال: علام جلدتموني؟ إنك صليت صلاة واحدة بغير طهور، ومررت، على مظلوم فلن تنصره.(1) "
قال الطحاوي: " في هذا الحديث ما قد دل أن تارك الصلاة لم يكن بذلك كافراً؛ لأنه لو كان كافراً، لكان دعاؤه باطلاً، لقوله تعالى: {وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر، آية 50](2) "
9- وعن أبي شميلة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء فاستقبله رهط من الأنصار يحملون جنازة على باب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: مملوك لآل فلان كان من أمره، قال: أكان يشهد أن لا إله إلا الله؟ قالوا نعم ولكن كان وكان، فقال: أما كان يصلي فقالوا: كان يصلي ويدع: فقال لهم:
صـ477
ارجعوا به فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه وادفنوه، والذي نفسي بيده لقد كادت الملائكة تحول بيني وبينه.(3) "
10- وعن أبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " إن للإسلام صوى (4)
__________
(1) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار 4/231 ، وقال المنذري في الترغيب (3/190) : - " رواه أبو الشيخ بن حبان في كتاب التوبيخ . " وانظر التمهيد لابن عبد البر 23/299 .
(2) مشكل الآثار 4/231 .
(3) أخرجه الخلال في جامعه ، كما قاله ابن قدامة في المغني 3/357 .
(4) الصوى جمع صوة وهي أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي يستدل بها على الطريق .
انظر : لسان العرب 14/472 مادة " صوو" .(2/250)
، ومناراً كمنار الطريق، منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئاً، فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن تركهن كلهن فقد ولى الإسلام ظهره.(1) "
11- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا، فوالذي نفسي بيده ما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار.
قال: يقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويحجون معنا، ويجاهدون معنا فأدخلتهم النار.
قال: فيقول اذهبوا، فأخرجوا من عرفتم منهم. فيأتونهم، فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم … فيخرجون منها بشراً كثيراً، فيقولون ربنا قد أخرجنا من أمرتنا.
قال: ثم يعودون فيتكلمون، فيقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا. ثم يقول: ارجعوا فمن كان في قلبه وزن نصف دينار، فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا حتى يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة، فيخرجون خلقاً كثيراً.
صـ478
قال: فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خير، قال ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين. قال: فيقبض قبضة من النار – أو قال قبضتين – ناساً لم يعملوا لله خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حمماً.
__________
(1) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الإيمان (3) ، وأخرجه الحاكم (1/27) وقال : هذا حديث صحيح عل (شرط البخاري ، وصححه الألباني في " الصحيحة " (333) .(2/251)
قال: فيؤتى بهم إلى ماء ما يقال له: الحياة، فيصب عليهم … - إلى أن قال صلى الله عليه وسلم -: فيقال لهم: ادخلوا الجنة … الحديث (1) "
قال الشيخ ناصر الدين الألباني عن هذا الحديث: - " فالحديث دليل قاطع على أن تارك الصلاة إذا مات مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله، أنه لا يخلد في النار مع المشركين، ففيه دليل قوي جداً أنه داخل تحت مشيئة الله تعالى في قوله: - {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء، آية 48] (2) "
12- واحتجوا بجملة من عمومات الأحاديث: - كقوله صلى الله عليه وسلم: - " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل.(3) "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - " أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.(4) "
وما جاء في معناهما …(5)
صـ479
__________
(1) أخرجه أحمد ( 3/94) ، والنسائي (998) ، ابن ماجة ح (60) ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة ح (276) . وقال الألباني : " إسناده صحيح على شرط الشيخين ، وللحديث متابعات كثيرة .
انظر رسالة حكم تارك الصلاة للألباني ص 30 – 32 ، والشفاعة للوادعي ص 130 – 158 .
(2) حكم تارك الصلاة للألباني ص 35 .
(3) أخرجه البخاري ، ك أحاديث الأنبياء (6/474) ح (3435) ومسلم ، ك الإيمان (1/57) ح (28) .
(4) أخرجه البخاري ، ك العلم (10/93) ، ح (99) .
(5) انظر : التمهيد لابن عبد البر 23/296 – 299 ، والمغني لابن قدامة 3/356 ، والمجموع للنووي 3/20 ، وطرح التثريب للعراقي 2/148 ، ونيل الأوطار للشوكاني 2/19 .(2/252)
13- واحتجوا بالإجماع قائلين:- " لا نعلم في عصر من الأعصار أحدا من تاركي الصلاة ترك تغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا منع ورثته ميراثه، ولا منع هو ميراث مورثه، ولا فرق بين زوجين لترك صلاة من أحدهما، مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافراً لثبتت هذه الأحكام كلها، ولا نعلم بين المسلمين خلافاً في أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتداً لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام.(1) "
وأجاب هذا الفريق عن أدلة مكفري تارك الصلاة بأجوبة منها:-
1- قالوا: تحمل أحاديث تكفير تارك الصلاة على كفر النعمة، كقوله صلى الله عليه وسلم: - " من تعلم الرمي، ثم تركه، فهي نعمة كفرها (2) "
وقوله: -: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (3)
وقوله: - " من حلف بغير الله فقد كفر " (4)
وبعضهم يقول – كالشوكاني – إن كفر تارك الصلاة إنما هو كفر دون كفر، فلا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة.(5) "
2- إن الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة كحديث جابر وبريدة رضي الله عنهما إنما هي على سبيل التغليظ والزجر الشديد لا على الحقيقة، فظاهرها غير مراد (6)
ص480
__________
(1) المغنى 3/357 , 358 ، وانظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/956 ، والمجموع للنووي 3/20 .
(2) أخرجه أبو داود ح ( 2513) ، والنسائي (6/185) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (18 , 6) .
(3) تقدم تخريجه .
(4) أخرجه الترمذي وحسنه ح (1535) ، وأبو داود ح (3251) ، والحاكم (1/18 ، 4/297) وصححه ووافقه الذهبي .
(5) انظر هذا الجواب : مشكل الآثار للطحاوي 4/227 ، وكتاب الصلاة لابن القيم ص 51 – 53 ، والعواصم لابن الوزير 9/79 ، ونيل الأوطار 2/20 .
(6) انظر هذا الجواب : المغني لابن قدامة 3/358 ، فتح الباري 2/32 ، وأحكام القرآن لابن العربي 1/41 .(2/253)
3- إن مثل هذه النصوص محمولة على أنه شارك الكافر في بعض أحكامه وهو وجوب القتل. قال النووي: - وهذا التأويل متعين للجمع بين نصوص الشرع وقواعده.(1) "
4- المراد من هذه الأحاديث من استحل ترك الصلاة، أو تركها جحوداً بلا عذر.(2)
(ج) أجوبة المكفرين عن أدلة الآخرين:-
وقد أجاب القائلون بتكفير تارك الصلاة عن أدلة الآخرين بما يلي:-
1- أما حديث عبادة بن الصامت: - " خمس صلوات.. الحديث " فهذا الوعد الكريم إنما هو بالمحافظة عليها، والمحافظة: فعلها في أوقاتها كما أمر، قال تعالى: - {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة، آية 238] وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق، فأنزل الله آية الأمر بالمحافظة عليها وعلى غيرها من الصلوات.
وقد دل الكتاب والسنة، واتفاق السلف على الفرق بين من يضيع الصلاة فيصليها بعد الوقت، والفرق بين من يتركها. ولو كانت بعد الوقت لا تصح بحال، لكان الجميع سواء ,
فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفي المحافظة يقتضي أنهم صلوا، ولم يحافظوا عليها (3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: - " ومن لم يفعل فليس له على الله عهد.. " معناه: أنه لم يأت بهن على الكمال، وإنما أتى بهن ناقصات من حقوقهن، كما جاء مفسراً في بعض الروايات: " ومن جاء بهن، وقد انتقص من حقهن شيئاً، جاء وليس له عند الله
ص481
__________
(1) المجموع 3/20 ، وانظر هذا الجواب : مسلم بالنووي 2/71 ، وأحكام القرآن لابن العربي 1/41 ، وطرح التثريب للعراقي 2/147 .
(2) انظر : هذا الجواب : التمهيد لابن عبد البر 4/236 ، ومسلم بالنووي 2/71 ، وطرح التثريب للعراقي 2/147
(3) انظر الفتاوى لابن تيمية 7/614 , 615 ، 22/19 .(2/254)
عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء رحمه (1) "
قال محمد بن نصر المزوري: - "فمن أتى بذلك كله كاملاً على ما أمر به، فهو الذي له العهد عند الله تعالى بأن يدخله الجنة، ومن أتى بهن، لم يتركهن، وقد انتقص من حقوقهن شيئاً، فهو الذي لا عهد له عند الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهذا بعيد الشبه من الذي يتركها أصلاً لا يصليها. (2) "
2- وأما حديث حذيفة – والذي جاء فيه -: "تنجيهم لا إله إلا الله " فهو محمول على زمن الفترات، حيث تضمن هذا الحديث الإخبار عما يحصل في آخر الزمان من محو الإسلام، ورفع القرآن حتى لا يبقى منه آية، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، فيغفر الله لهؤلاء مالا يغفر لغيرهم ممن قامت عليهم الحجة، وظهرت آثار الرسالة في وقتهم، وقد أشار ابن تيمية إلى زمانه، وما كان عليه الكثير من الناس من الوقوع في أنواع الكفر فقال – عنهم -: -
"وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات، وأمكنه الفترات، يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لمم تقم الحجة عليه، ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف: " يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة، ولا صياماً ولا حجاً.. الحديث (3) "
فإذا كان هؤلاء معذورين مع وجود أهل العلم، ووجود القرآن والسنة بين أظهرهم...فكيف لا يعذر بترك الصلاة ونحوها من كان في زمان يمحى فيه الإسلام، ويرفع فيه القرآن فلا يبقى منه في الأرض آية؟
__________
(1) أخرجه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة 2/968 ، وانظر بقية الروايات الأخرى في نفس الكتاب 2/968 – 971 ، وانظر التمهيد لابن عبدالبر 23/293 و294
(2) تعظيم قدر الصلاة 2/971
(3) مجموع الفتاوى 35/165 .(2/255)
فينبغي مراعاة أحوال الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ولعل مما يؤكد ما ذكرناه أن راوي الحديث السابق حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما رأى رجلاً لا يتم
ص482
الركوع والسجود، قال: - " ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً صلى الله عليه وسلم (1) "
يقول ابن حجر: - " واستدل به على تكفير تارك الصلاة؛ لأن ظاهره أن حذيفة نفى الإسلام عمن أخل ببعض أركانها، فيكون نفيه عمن أخل بها كلها أولى (2)"
فتأمل تنوع الجوابين لاختلاف الزمان والحال والله أعلم
3- وأما استدلالهم بحديث أبي ذر مرفوعاً:- " إنه سيكون بعدي أمراء يميتون الصلاة.. الحديث "، فقد أجاب محمد بن نصر عن استدلالهم بما يلي: - " ليس في هذه الأخبار التي احتججتم بها دليل على أن تارك الصلاة عمداً، حتى يخرج وقتها لا يكفر، متعمدين لتركها حتى يذهب وقتها. إنما قال في حديث عبادة (3) يكون عليكم أمراء يشغلهم أشياء عن الصلاة، فإنما أخروها عن الوقت الذي كانت تصلى فيه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين... فكانوا يؤخرونها عن وقت الاختيار إلى وقت أصحاب العذر.. ولا يؤخرونها حتى يخرجوا من وقت أصحاب العذر كله، فلم يكونوا يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت كله، إنما كانوا يؤخرونها عن وقت الاختيار، ويصلون في آخر وقت العذر، فلذلك لم يثبت عليهم الكفر.(4) "
__________
(1) أخرجه البخاري ك الأذان (2/275) ح (791) .
(2) فتح الباري 2/275 ، ويجب التنبيه هاهنا أن قول الصحابي : سنة محمد أو فطرته له حكم الرفع – على القول الراجح كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح 2/275 -
(3) حديث : - إنه سيكون بعدي أمراء " رواه اكثر من صحابي
(4) تعظيم قدر الصلاة 2/957 – 963 = باختصار .(2/256)
وأجاب ابن تيمية قائلاً: " وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، " صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة (1) " وهم إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر، والعصر إلى وقت الاصفرار، وذلك مما هو مذمومون عليه، ولكن ليسوا كمن تركها أو فوتها حتى غابت الشمس، فإن هؤلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم،
ص483
ونهى عن قتال أولئك، فإنه لما ذكر أنه سيكون أمراء يفعلون ويفعلون، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: - " لا، ما صلوا "وقد أخبر عن هذه الصلاة التي يؤخرونها، وأمر أن نصلي في الوقت، وتعاد معم نافلة، فدل على صحة صلاتهم، ولو كانوا لم يصلوا لأمر بقتالهم. (2)"
- واستكمالاًً لأجوبة القائلين بتكفير تارك الصلاة، نضيف ما يلي: -
4- أما استدلالهم بقوله تعالى: - {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية، فقد تقرر بالأدلة أن ترك الصلاة كفر وشرك، كما جاء في حديث جابر مرفوعاً: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة "، فيكون ترك الصلاة داخلاً في عموم الآية من جهة الدلالة على أن ذلك مما لا يغفره الله تعالى، وبهذا نصدق بجميع تلك النصوص، ويتحقق إعمالها دون إهمالها. (3)
5- وأما احتجاجهم بحديث أبي ذر مرفوعاً: "لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة " ففي سنده قدامة بن عبدالله بن عبدة البكري، قال عنه ابن حجر: - "مقبول (4) "، وفي سنده جسرة بنت دجاجة، قال البيهقي: فيها نظر، وقال البخاري في تاريخه: - وعند جسرة عجائب (5).
__________
(1) أخرجه مسلم ك المساجد ومواضع الصلاة ، (1/449) ح (648)
(2) منهاج السنة النبوية 5/210 ، 211 ، وانظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 26
(3) انظر لمزيد من التفصيل في الجواب عن الاستدلال بهذه الآية : - رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 209 .
(4) تقريب التهذيب 2/124
(5) انظر ميزان الاعتدال للذهبي 1/399(2/257)
وقد أورد ابن خزيمة هذا الحديث بصيغة تشعر بعدم صحته، فعقد باباً بعنوان: - " باب إباحة ترديد الآية الواحدة في الصلاة مراراً عند التدبر والتفكر في القرآن إن صح الخبر "، ثم ساق الحديث المذكور (1)
ويمكن أن يقال: أن الحديث علق ترك الصلاة بأمر ممتنع لا يمكن الاطلاع عليه، فمن المعلوم أن "لو" حرف امتناع لامتناع، وبهذا نعلم أن هذه الرواية قد قيدت بوصف يمتنع معه ترك الصلاة.
ص484
6. وأما احتجاجهم بحديث عائشة: - "الدواوين ثلاثة... ففيه صدقة بن موسى وقد ضعفه الجمهور (2). " قال يحي بن معين: - ليس حديثه بشيء. وقال أبو حاتم: لين الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به، ليس بالقوي (3) "
وفيه يزيد بن بابنوس، قال عنه الذهبي: فيه جهالة. (4)
وضعف الألباني هذا الحديث. (5)
ولو صح الحديث فيحمل على من يقع أحياناً في ترك صلوات، دون أن يتركها بالكلية، ويشهد لذلك لفظ الحديث حيث جاء فيه: "" من صوم يوم تركه أو صلاة تركها "
7- وكذا يقال بالنسبة لحديث عبدالله بن مسعود: " أول ما يحاسب به العبد الصلاة.. الحديث "فإن مناط التكفير لتارك الصلاة إنما هو الترك المطلق، بحيث يترك الصلاة جملة، وأما ترك بعض الصلوات فلا يكون كفراً، كما يدل عليه ظاهر الحديث، وسيأتي مزيد تفصيل – إن شاء الله – لهذه المسألة.
__________
(1) انظر صحيح ابن خزيمة 2/124
(2) انظر : مجمع الزوائد للهيثمي 10/348
(3) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 4/432
(4) انظر الحاكم مع التلخيص 4/575 ، 576 ، وانظر التهذيب 11/316
(5) انظر : شرح العقيدة الطحاوية ص 367(2/258)
بل إن بعض مرويات هذا الحديث تكاد تشهد بكفر تارك الصلاة، فعن أنس مرفوعاً "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله. (1) "
فجعل صلاح الصلاة وصحتها شرطاً في صلاح سائر الأعمال وصحته، وأن فسادها شرط في فساد باقي الأعمال.
ولذا قال الإمام أحمد بن حنبل: - " وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: - " أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه
ص 485
الصلاة (2) " وجاء في الحديث " إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن تقبلت منه تقبل من سائر عمله، وإن ردت عليه صلاته رد سائر عمله. (3) " فصلاتنا آخر ديننا، وهي أول ما نسئل عنه غداً من أعمالنا، فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين، فإذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام، فكل شيء يذهب آخره فقد ذهب جميعه... (4) "
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط 2/512 ح (1880) ، وقال الألباني في "الصحيحة" (1358) : - "وأخرجه الضياء في المختارة 2/209 ... وهو حديث صحيح بمجموعة طرقه . " وانظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي 1/213 رقم (185) والهيثمي في المجمع 1/291 ، 292 .
(2) أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق ص 28 ، والضياء في المختارة 1/495 ، وصححه الألباني في الصحيحة (1739)
(3) لم أعثر عليه بهذا اللفظ ، وقد جاءت أحاديث كثيرة بمعناه ، انظر مجمع الزوائد 1/291 ، 292
(4) رسالة الصلاة ص 17 ، وانظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 32(2/259)
8- وأما حديث: " أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة.. الحديث (1) " ففي سنده عاصم بن بهدلة تكلموا في حفظة... (2) وقال ابن حجر: - " صدوق، وله أوهام (3) " وفيه: جعفر بن سليمان الضبعي، صدوق زاهد، لكنه كان يتشيع. (4)
إضافة إلى ذلك، فقد جاء في رواية هذا الحديث: - صليت صلاة واحدة بغير طهور " فهو إذن ليس تاركاً للصلاة بالكلية بتركه الوضوء، وإنما هي صلاة واحدة بغير طهور " فهو إذن ليس تاركاً للصلاة بالكلية بتركه الوضوء، وإنما هي صلاة واحدة...وهناك فرق ظاهر بين من تركها بالكلية... ومن ترك صلاة واحدة وقد يفعل بعض المسلمين ذلك، فيصلي بغير وضوء، فيكون مستحقاً للذم والعقاب، وقد يفعله مع اعترافه بالذنب فلا يكفر، كما ظن بعض الأحناف عندما أطلقوا كفر من صلى بغير طهارة (5)، ولكن لو فعله على سبيل الاستهانة والاستخفاف
ص486
فهو كافر (6) فكيف بحال هذا الرجل الذي كان مداوماً على الوضوء والصلاة.. لكنه صلى صلاة واحدة بغير وضوء؟ وأما قوله: - إن دعاء الكافرين داخل في قوله تعالى: - {وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر، آية 50] فلا يستجاب لهم، فهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، فقد يدعو الكافر ربه فيستجاب له، كما جاء ذلك في آيات كثيرة من القرآن.
__________
(1) هذا الحديث أورده المنذري في الترغيب (3/190) بصيغة التمريض ، وكذا الذهبي في الكبائر ص 147
(2) انظر التهذيب 5/38 - 49
(3) التقريب 1/383
(4) انظر : التهذيب 2/95 – 98 ، والتقريب 1/131
(5) انظر مثلاً رسالة البدر الرشيد الحنفي في الألفاظ المكفرات ص 29
(6) انظر منهاج السنة النبوية 5/204 ، وانظر حكم تارك الوضوء في كتاب الصلاة لابن القيم ص 27 ، 28 .(2/260)
قال تعالى: - {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {40}بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام، آية 40، 41].
وقال سبحانه: - {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت، آية 65]
وأما دعاء الكافرين لغير الله تعالى فهو ضلال، كما هو ظاهر الآية التالية: - {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [الرعد، آية 14].
كما ينبغي مراعاة الفرق بين حياة البرزخ كما جاء في الحديث الذي استدلوا به، ودخول دار الجزاء (الجنة أو النار) كما في الآية: - {وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر، آية 50] ففي البرزخ قد يقع التكليف كما في سؤال الملكين، وكذا في عرصات القيامة يدعون إلى السجود، وأما بدخول دار الجزاء فينقطع التكليف، كما في الآية. (1)
إضافة إلى ذلك فهذا الحديث – المتكلم على سنده ومتنه – معارض لحديث صحيح صريح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: -
" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: - صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده (2) "
صـ487
__________
(1) انظر مختصر الفتاوي المصرية لابن تيمية ص 645 ، 646
(2) أخرجه مسلم ، ك الوصية (3/1255) ح (1631) ، والترمذي ح (1376)(2/261)
9- وأما الحديث الذي أخرجه الخلال وفيه أن مولى للأنصار مات وكان يصلي ويدع، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله والصلاة عليه ودفنه.. فهذا الحديث في سنده مقال.. فأبو شميلة مختلف في صحبته...
وقد ذكر الذهبي وابن حجر وغيرهما قصة تدل على صحبته، لكن في سندها محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن. (1)
وفيه عبدالوهاب بن عطاء، قال عنه ابن حجر: - صدوق، ربما أخطأ (2)
وضعف الألباني هذا الحديث في "الضعيفة". (3)
ولو صح الحديث فلا دلالة فيه على أن الترك المطلق للصلاة لا يعد كفراً، وهذا المولى كان يصلي ويدع، فلم يكن تاركاً للصلاة بالكلية، وفرق بين من يحافظ على تركها، ومن يصلي ويدع فهو غير محافظ على فعلها والله أعلم.
10 - وأما حديث " إن للاسلام صوى ومناراً كمنار الطريق... الحديث. "فليس في دلالة ظاهرة على عدم كفر تارك الصلاة... ولقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن من ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن المعلوم أن تلك "المنارات" متفاوته، فمنها ما تركه يناقض الملة كالإيمان بالله تعالى، ومنها ما تركه ينافي كمال الإيمان الواجب كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها ما تركه يعد تفويتاً لكمال الإيمان المستحب كالسلام.
__________
(1) انظر الإصابة 7/208 ، وتجريد الصحابة للذهبي 2/178
(2) انظر : التهذيب 6/451 – 453 ؛ والتقريب 1/528
(3) انظر : كتابه : - " حكم تارك الصلاة " ص 64 ، حيث ذكر أنه ضعيف ، وفي سلسلة الأحاديث الضعيفة (6036)(2/262)
11 – وأما استدلالهم بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الشفاعة، وكذا عمومات الأحاديث الأخرى.. فهذه من نصوص الوعد، التي لابد من الإيمان بها، وضمها إلى ما يقابلها من نصوص الوعيد، فالذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بالوعد والوعيد، فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب، قد تبين سبحانه أنه مشروط بأن لا يتوب، فإن تاب، تاب الله عليه، وبأن لا يكون له حسنات تمحو ذنوبه، فهكذا الوعد له تفسير وبيان فمن قال بلسانه: لا إله إلا الله وكذب
ص488
الرسول فهو كافر باتفاق المسلمين، وكذلك إن جحد شيئاً مما أنزل الله... (1)
فاستدلالهم بعموم الأحاديث التي فيها من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وما جاء في معناها، ولم يشترط إقامة الصلاة لذلك... لا دلاله فيها على أن تارك الصلاة لا يكفر؛ لأن المراد بقول لا إله إلا الله تحقيق شروطها وترك نواقضها، وقد تقرر بالأدلة أن ترك الصلاة كفر، فلا اعتبار بمجرد الإقرار بالشهادتين مع عدم أداء الصلاة. (2)
ومثل هذه الأحاديث التي قد يكون فهمها مشكلاً أو مشتبهاً على البعض، فإنه يجب ردها إلى الأحاديث الواضحة المحكمة، فنصوص الكتاب والسنة يصدق بعضها بعضاً.
ويقال – أيضاً – إن هذه العمومات يمكن تخصيصها بأحاديث كفر تارك الصلاة. (3)
يقول ابن الوزير: - " ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه، وعليه عمل علماء الإسلام في أدلة الشريعة، ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع، واضطر إلى التحكم والتلون من غير حجة بينة. (4) "
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 8/270 ، 271 = باختصار يسير ، وانظر كتاب التوحيد لابن خزيمة 2/869 .
(2) انظر تفصيلاً : نيل الأوطار 2/20 ، وضوابط التكفير للقرني ص 209 ، 210
(3) انظر : أضواء البيان للشنقيطي 4/320 ورسالة في الطهور والصلاة لابن عثيمين ص 60
(4) إيثار الحق على الخلق ص 383(2/263)
وقد عقد إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله في كتاب التوحيد باباً بعنوان: - " باب ذكر الدليل أن جميع الأخبار التي تقدم ذكري لها إلى هذا الموضع في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إخراج أهل التوحيد من النار إنما هي ألفاظ عامة مرادها خاص. " ثم أورد أدلته على ذلك (1)
بل إن في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره من أحاديث الشفاعة لعصاة الموحدين ما يدل على أن تارك الصلاة كافر... فقد قال صلى الله عليه وسلم
ص489
وسلم: - " حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده، وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود. (2) "
فعلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله. (3)
وقد استنبط ابن أبي جمرة من هذا أن من كان مسلماً، ولكنه كان لا يصلي لا يخرج إذ لا علامة له. (4)
وإن كانوا يحتجون برواية " لم يعملوا خير قط " على عدم كفر تارك الصلاة، في نفس الوقت يدفعون توهم من زعم أن المراد بالخير المنفي تجويز إخراج غير الموحدين من النار، كما قال ابن حجر: - " ورد ذلك بأن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين، كما تدل عليه بقية الأحاديث (5) "
فكذا يقال أيضاً أن هذا الخير المنفي ما زاد على فعل الصلاة كما جاءت بذلك النصوص.
وقال ابن خزيمة: - " هذه اللفظة" لم يعملوا خيراً قط " من الجنس الذي يقول العرب: ينفي الاسم عن الشيء لنقصه على الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل، لم يعملوا خيراً قط، على التمام والكمال.. (6) "
__________
(1) انظر : كتاب التوحيد 2/727 - 734
(2) أخرجه البخاري ك الأذان (2/293) ح (806)
(3) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/612
(4) انظر فتح الباري 11/457
(5) المرجع السابق 13/429
(6) كتاب التوحيد 2/732(2/264)
12 - وأما دعواهم الإجماع – على فرض صحتها – فهي منقوضة ومردودة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم كما نقله أبو هريرة رضي الله عنه، وعبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله، فالإجماع على مراتب، وأقواها إجماع الصحابة رضي الله عنهم. (1).
ص490
وقولهم لا نعلم بين المسلمين خلافاً لا يعد إجماعاً (2)، ونفي العلم ليس علماً بالنفي.
إضافة إلى ذلك فإنه قد يصعب القطع بأن فلاناً لا يصلي تماماً، خاصة أن من ادعى أنه صلى في أهله وبيته، قبل منه، كما دل عليه حديث محجن – وقد تقدم – وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لمحجن: - " ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ قال محجن: بلى يا رسول الله، ولكني صليت في أهلي "
وقد استنبط ابن عبدالبر من هذا الحديث أن من أقر بالصلاة وإقامتها أنه يوكل إلى ذلك إذا قال إني أصلي؛ لأن محجناً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد صليت في أهلي، فقبل منه. (3)
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: - " من قيل أنه لا يصلي فكذبهم صدق. (4) "
وقال النووي: - " إذا أراد السلطان قتله، فقال: صليت في بيتي ترك (5) "
إن الترك للصلاة – والذي يعد ناقضاً من نواقض الإيمان – لا يتحقق في المعين إلا بالإصرار على تركها، والأصل في المسلم فعل الصلاة حتى يثبت ما يناقض ذلك، فمن أظهر أداء الصلاة فهو المسلم حكماً وظاهراً، وقد يكون مؤمناً عند الله، وقد يكون منافقاً كافراً، فليس كل من قيل عنه أنه كافر، تجرى عليه أحكام الكفر. (6)
__________
(1) انظر المغني في أصول الفقه للخبازي ص282 ، وفتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم 3/7
(2) انظر أعلام الموقعين لابن القيم 1/30 ، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 90
(3) انظر : التمهيد 4/224
(4) الأم 1/390
(5) روضة الطالبين 2/147
(6) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/617(2/265)
يقول ابن تيمية: - " إن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين علي الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً، ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام. (1) "
ص491
وأما قولهم: إن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتداً لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام..
فقد أجاب عند محمد بن نصر المروزي بقوله: -
" إن الكافر الذي أجمعوا على أنه لا يؤمر بقضاء ما ترك من الصلاة هو الكافر الذي لم يسلم قط، ثم أسلم، فإنهم أجمعوا على أنه ليس عليه قضاء ما ترك من الصلاة في حال كفره... فأما من أسلم ثم ارتد عن الإسلام، ثم رجع فإنهم قد اختلفوا فيما ضيع في ارتداده من صلاة وصيام وزكاة وغير ذلك، فكان الشافعي يوجب عليه قضاء جميع ذلك. (2) "
ثم قال: - " فإذا ترك الرجل صلاة متعمداً حتى يذهب وقتها فعليه قضاؤها، لا نعلم في ذلك اختلافاً، إلا ما يروى عن الحسن، فمن أكفره بتركها استتابه، وجعل توبته، وقضاءه إياها رجوعاً منه إلى الإسلام، ومن لم يكفر تاركها ألزمه المعصية، وأوجب عليه قضاءها. (3) "
وقال أبو الوفاء ابن عقيل: - " من كان كفره بترك الصلاة، لا بترك كلمة الإسلام، فهو إذا عاود فعل الصلاة صارت معاودته للصلاة إسلاماً. (4) "
وقال ابن تيمية: - " من كفر بترك الصلاة: الأصوب أن يصير مسلماً بفعلها، من غير إعادة الشهادتين؛ لأنه كفره بالامتناع كإبليس. (5) "
والآن ننتقل إلى مناقشة أجوبة القائلين بعدم التكفير لأدلة الفريق الأول.
__________
(1) مجموع الفتاوي 7/716 ، وانظر مجموع الفتاوى 6/429 ، 24/287
(2) تعظيم قدر الصلاة 2/980
(3) المرجع السابق 2/996
(4) بدائع الفوائد لابن القيم 3/212
(5) الاختيارات الفقهية ص 32(2/266)
1- فأما حملهم أحاديث تكفير تارك الصلاة على كفر النعمة، فهذا غير مستقيم، ولا يخفى ما فيه من تكلف..فهل يسوغ أن يكون معنى حديث جابر بين الرجل وبين كفر النعمة ترك الصلاة؟ لقد بين الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله فساد هذا القول عند أهل اللغة، ثم علل ذلك قائلاً: - " وذلك أنهم (أي العرب) لا يعرفون كفران النعم إلا بالجحد لأنعام الله وآلائه، وهو كالمخبر عن
ص492
نفسه بالعدم، وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم وقد منّ الله عليه بالسلامة وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ونشر المصائب فهذا الذي تسميه العرب كفراناً إن كان ذلك فيما بينهم وبين الله، أو كان من بعضهم لبعض إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه، ينبئك عن ذلك مقالة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: - " إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير – يعني الزوج – وذلك أن تغضب إحداكن فتقول: - ما رأيت منك خيراً قط (1) "
فهذا ما في كفر النعمة (2) "
وأما قولهم إنه كفر دون كفر، فقد سبق بيان أن الكفر جاء معرفاً كما في حديث جابر مما أفاد التخصيص والعهد، وفرق بين هذا وبين كفر منكر...
إضافة إلى ذلك فإن حديث بريدة مرفوعاً "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " قد جعل الصلاة حداً فاصلاً بين المسلمين عن غيرهم، ولا يتصور أن يكون كفراً دون كفر؛ لأنه لا يكون حداً فاصلاً بين المسلمين والكافرين، فهناك من المسلمين من يقع في مثل هذا الكفر، وإن لم يكن مؤمناً بإطلاق. (3)
2- وأما قولهم إن الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة إنما هي على سبيل التغليظ والزجر الشديد لا على الحقيقة فظاهرها غير مراد.
__________
(1) أخرجه البخاري ك الإيمان (1/83) ح (29) ، ومسلم ك الإيمان (1/86) ح _79)
(2) الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 88
(3) انظر رسالة ضوابط التكفير ص 203(2/267)
فالجواب أن يقال: هذا كلام فيه إجمال وإيهام، فلا شك أن هذه الأحاديث فيها تغليظ وتخويف، وهي على الحقيقة، نؤمن بذلك ولا نكذب، ونمرها كما جاءت ونأخذ بظاهرها المفهوم منها، وإذا كان عامة السلف الصالح يقرون أحاديث الوعيد – فيما دون الكفر – ويمرونها كما جاءت، ويكرهون أن تتأول تأويلات تخرجها عن مقصود قائلها صلى الله عليه وسلم (1)، فكيف ساغ لهؤلاء صرف نصوص تكفير تارك الصلاة عن ظاهرها، وجعله وعيداً لا حقيقة له!
إن الإيمان بالنصوص الشرعية – ومنها نصوص الوعيد – يوجب التسليم لها والانقياد، كما يقتضي إجلالها وتعظيمها، وقد التزم سلف الأمة هذا النهج،
ص493
" فقد قال الرجل للزهري: يا أبا بكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " ليس منا من لطم الخدود (2)، " وليس منا من لم يوقر كبيرنا (3) " وما أشبه هذا الحديث؟ فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه فقال: - من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. (4) "
__________
(1) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 7/674
(2) أخرجه البخاري ، ك الجنائز ، (3/166) ، ح (1297) ، ومسلم ، ك الإيمان ، (1/99) ، ح (165)
(3) أخرجه الترمذي ، وقال حسن غريب ، ك البر والصلة ، باب ما جاء في رحمة الصبيان ، حديث (1921) ، وابن ماجة ، ك الأدب ، باب في الرحمة ، حديث (4943) ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/44 و45)
(4) السنة للخلال 3/579 ، وانظر تعظيم قدر الصلاة 1/487(2/268)
" ولما ذكر عبدالله بن المبارك – رحمه الله – حديث: - " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن... (1)، فقال فيه قائل: ما هذا! على معنى الإنكار، فغضب ابن المبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان (2) أن نحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا. (3) "
ومما يحسن إيراده في هذا الموضع ما قاله ابن تيمية: -
" ينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله ورسوله.. فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد انه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصودة معرفة ما أراده الرسول بكلامه. (4) "
ص494
وعلى كل فإن الاسترسال مع قول من قال إن هذا وعيد للتغليظ ولا حقيقة له، قد يؤؤل إلى تعطيل الشريعة وإبطال العقاب... (5)
وقد نبه جمع من أهل العلم لخطورة ذلك.
فقال أبو عبيد القاسم بن سلام – جواباً عمن حمل نصوص الوعيد على التغليظ: - " وأما القول المحمول عل التغليظ فمن أفظع ما تأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيداً لا حقيقة له، وهذا يؤول إلى إبطال العقاب؛ لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها، كان ممكناً في العقوبات كلها.(6) "
__________
(1) أخرجه البخاري ، ك المظالم (5/119) ، ح (2475) ، ومسلم ، ك الإيمان (1/76) ح (100)
(2) أي كثيرو الكلام والتشكي (لسان العرب 13/28)
(3) تعظيم قدر الصلاة 1/504 ، 505
(4) مجموع الفتاوي 7/36 ، 37 = باختصار
(5) انظر مجموع الفتاوي لابن تيمية 19/150
(6) الإيمان لأبي عبيد ص 88(2/269)
وقال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: - " المرجئة كلما سمعوا حديثاً فيه تخويف قالوا: هذا تهديد، وإن المؤمن من يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده، ويرجو وعده. وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده، ولا يرجو وعده. (1)"
وقال ابن حزم: - " وأما من استجاز أن يكون ورود الوعيد على معنى التهديد لا على معنى الحقيقة، فقد اضمحلت الشريعة بين يديه، ولعل وعيد الكفار أيضاً كذلك، ومن بلغ هذا المبلغ فقد سقط الكلام معه؛ لأنه يلزمه تجويز ترك الشريعة كلها إذ لعلها ندب، ولعل كل وعيد ورد إنما هو تهديد، وهذا مع فراقه المعقول خروج عن الإسلام؛ لأنه تكذيب لله عز وجل. (2) "
وقال القاسمي – معلقاً على ما قاله الزمخشري عن حديث: " آية المنافق ثلاث وإن صام وصلى.. (3) ": للتغليظ: -
" قول الزمخشري " فللتغليظ" يوجد مثله لثلة من شراح الحديث وغيرهم وقد بحث فيه بعض محققي مشايخنا بقوله: - هذا الجواب لا يرتضيه من عرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنهم غفلوا عما يستلزمه هذا الجواب مما لا يرتضيه
ص495
أدنى عالم أن ينسب إليه، وهو الإخبار بخلاف الواقع لأجل الزجر. انتهى، وقال بعض المحققين: عليك أن تقر الأحاديث كما وردت، لتنجو من معرة الخطر. (4) "
3 - وأما قولهم: إن مثل هذه النصوص محمولة على أن شارك الكافر في بعض أحكامه وهو وجوب القتل... فالجواب أن يقال: - ما المسوغ لاستحلال دم تارك الصلاة وهو ليس بكافر عندكم؟
لقد تقرر – شرعاً – أن قتل المسلم لا يستباح إلا بإحدى ثلاث:- ترك دين، وإراقة الدم المحرم، وانتهاك الفرج المحرم.
__________
(1) السنة لعبدالله بن الإمام أحمد 1/377
(2) الإحكام لابن حزم 1/283
(3) أخرجه البخاري بمعناه ك الإيمان (1/89) ح (33) ، ومسلم ك الإيمان (1/78) ح (107)
(4) تفسير القاسمي 3/536 ،537(2/270)
فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث: - الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة (1) "
فتارك الصلاة ليس قاتلاً، ولا زانياً محصناً، فلم يبق إلا أن يكون إباحة دمه من أجل ردته.
يقول ابن حزم – وهو ممن يرى عدم كفر تارك الصلاة – جواباً عن القائلين بقتل تارك الصلاة دون كفره:-
" أما مالك والشافعى فإنهما يريان تارك الصلاة مسلماً؛ لأنهما يورثان ماله، وولده، ويصليان عليه، ويدفنانه مع المسلمين... فإذا ذلك كذلك فقد سقط قولهما في قتله؛ لأنه لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو نفس بنفس، وتارك الصلاة متعمداً لا يخلو أن يكون كافراً. أو يكون غير كافر، فإن كان كافراً فهم لا يقولون بذلك... فإذا ليس كافراً، ولا قاتلاً، ولا زانياً محصناً.. فدمه حرام بالنص.(2) "
4 - أما قولهم إن المراد بهذه الأحاديث من استحل ترك الصلاة، أو تركها جحوداً... فجوابه أن يقال:- إن هذه الأحاديث – كحديث جابر وبريدة ونحوهما... قد علقت الكفر بترك الصلاة، فمناط الحكم بالكفر فيها ترك الصلاة، وقد يكون هذا الترك جحوداً، أو تهاوناً وكسلاً.
ص496
__________
(1) سبق تخريجه ص 468
(2) المحلى 13/438 = خص .(2/271)
فمن قال إن تارك الصلاة لا يكفر إلا إذا كان جاحداً لوجوبها، فقد جعل مناط الحكم في هذه المسألة غير ما حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه على هذا التأويل لا فرق بين الصلاة وغيرها، فلا تكون إقامتها عهداً وحداً يعرف به المسلم من الكافر؛ لأن من ترك شيئاً من شعائر الإسلام وفرائضه الظاهرة جحوداً لوجوبها فهو كافر بالإجماع، فجحد الوجوب لا يختص بالصلاة وحدها، مع أن الصحابة رضي الله عنهم قد جعلوا ترك الصلاة هو مناط الكفر دون بقية الأعمال، كما حكى ذلك عنهم أبو هريرة رضي الله عنه وعبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله.(1)
ومن المناسب – في خاتمة هذه المناقشة – أن نشير إلى أن بعض القائلين بعدم تكفير تارك الصلاة، قد سلكوا في بعض استدلالهم مسلك الإرجاء.
فهم يقولون – مثلاً – إن الكفر جحود التوحيد، وإنكار الرسالة والمعاد وجحد ما جاء به الرسول، وهذا يقر بالوحدانية شاهداً أن محمد رسول الله، مؤمناً بأن الله يبعث من في القبور، فكيف يحكم بكفره؟ والإيمان هو التصديق، وضده التكذيب، لا ترك العمل، فكيف يحكم للمصدق بحكم المكذب الجاحد؟(2)
وجواباً عن ذلك نقول: - قد تقرر عند أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، فليس تصديقاً فحسب، ومن ثم فإن مقابله هو الكفر قول وعمل، فقد يكون الكفر قولاً قلبياً، وقد يكون عملاً قلبياً، وتارة قولاً باللسان، وتارة عملاً بالجوارح كما سبق تفصيله وبيانه بالأدلة (3)
ويقول أيضاً: - يلزم من تكفير تارك الصلاة أن يكفر القاتل والشاتم للمسلم، وأن يكفر الزاني، وشارب الخمر...(4)
ص497
__________
(1) انظر تفصيل هذا الجواب : - الفتاوى لابن تيمية 7/614 ،والدرر السنية 4/102 ، ورسالة ضوابط التكفير للقرني ص 205 .
(2) انظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 37 .
(3) انظر : المبحث الأول من تمهيد الرسالة .
(4) انظر التمهيد لابن عبد البر 4/236 .(2/272)
والجواب: - أن هذا اللازم يلزم المبتدعة عموماً... سواء كانوا وعيدية أو مرجئة والذين جعلوا الكفر خصلة واحدةً، بناء على ظنهم الفاسد أن الإيمان شيء واحد يزول كله بزوال بعضه، وقد دلت النصوص أن الكفر مراتب وشعب متفاوتة، كالإيمان، فمن شعب الكفر ما يخرج من الملة، ومنها مالا يخرج من الملة.
(د) الترجيح: -
بعد هذا العرض التفصيلي لأدلة الفريقين واستدلالاتهم ومناقشتها، يظهر أن أدلة القائلين بتكفير تارك الصلاة أصح وأقوى. (1)
إلا أن الراجح – في نظري – ولعله القول الوسط بين الطرفين، وبه تجتمع الكثير من أدلة الفريقين، وهو أن يقال: إن ضابط ترك الصلاة الذي يعد كفراً – ها هنا – هو الترك المطلق الذي هو بمعنى ترك الصلاة من حيث الجملة الذي يتحقق بترك الصلاة بالكلية، أو بالإصرار على عدم إقامتها، أو بتركها في الأعم الأغلب، وليس مناط التكفير – ها هنا – مطلق الترك للصلاة بحيث يلزم أن نكفر كل من ترك صلاة واحدة أو بعض صلوات (2)
ويشهد لذلك جملة من الأدلة، منها ما يلي: -
قوله تعالى: - {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم، آية 59]
فالمراد من تضييع الصلاة – هاهنا – تركها بالكلية كما قاله محمد بن كعب القرظي وزيد بن أسلم والسدي واختاره ابن جرير. (3)
2 - وقوله صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم -: - "خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة" فهذا الحديث صريح في الفرق بين الترك المطلق، وبين مطلق الترك.. يقول ابن تيمية رحمه الله: -
ص498
__________
(1) انظر : أضواء البيان للشنقيطي 4/322
(2) انظر : رسالة ضوابط التكفير ص 211
(3) انظر : تفسير الطبري 16/66 ، وتفسير ابن كثير 3/125(2/273)
"فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفي المحافظة يقتضي أنهم صلوا ولم يحافظوا عليها... (1) "
ثم قال: - " فإن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهرة... (2) "
ويقول في موضع آخر: - " فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلماً، لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن حديث عبادة بن الصامت – ثم ساق الحديث المذكور - (3) "
3- قوله صلى الله عليه وسلم: - " إن أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإن أتمها، وإلا نظر هل له من تطوع، فإن كان له تطوع، أكملت الفريضة من تطوعه (4) "
والانتقاص هنا عام يتناول ترك الأداء لبعض الصلوات... وهذا من مطلق الترك الذي لا يعد كفراً، ومن ثم صارت مقبولة، وأكملت بالتطوع، والله أعلم.
ص499
المبحث الثاني
السحر وما يلحق به
1 - من المعلوم يقيناً عند أهل الإيمان أن النفع والضر بيد الله تعالى، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو سبحانه المتفرد بالخلق والتدبير والنفع والضر، فلا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.
__________
(1) مجموع الفتاوي 7/615
(2) المرجع السابق 7/616
(3) المرجع السابق 22/49 ، وانظر مجموع الفتاوى 6/429 ، والصارم المسلول ص 554
(4) تقدم تخريجه(2/274)
قال سبحانه: - {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام، آية 59]
وقال عز وجل: - {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {85}قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86}سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون، آية 84 – 89]
ومن ثم فلا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له، فالدعاء والسجود والخوف والرجاء وسائر الطاعات كلها لله وحده لا شريك له.
قال تعالى: - {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162}لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [ الأنعام، آية 162].
وفي هذا المبحث سنتحدث عن السحر وما يلحق به؛ لأنه يضاد الإيمان وينافيه، وهو محل خلاف بين أهل العلم هل يعد كفراً أم لا؟
ومما يؤكد أهمية هذا الموضوع وجود ظاهرة السحر بأنواعه المختلفه في غالب الأمم، كما دل ذلك قوله تعالى: - {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات، آية 52].
ولذا يقول ابن تيمية: - " اسم الساحر معروف في جميع الأمم... (1) "
__________
(1) النبوات ص 272 ، وانظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 210 ت : محمد الأصفر(2/275)
فقد وجد السحر عند أهل فارس، وعند قدماء المصريين، وكذا في الهند، وبلاد اليونان، كما أن اليهود لما انحرفوا فأعرضوا عن كتاب الله تعالى... أقبلوا
ص500
على السحر، واتبعوا ما تتلو الشياطين كما قال سبحانه: -
{وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ....} [ البقرة، آية 101، 102].
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله -: - " لما كان من العوائد القدسية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه وأمكنه الانتفاع به ولم ينتفع، ابتلي بالاشتغال بما يضره، فمن ترك عبادة الرحمن، ابتلي بعبادة الأوثان، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاه، ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان ومن ترك الذل لربه، ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل.
كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلو الشياطين وتختلق من السحر... (1) "
وبالفعل هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله تعالى، وانحرفوا عن عبادة الله وحده، عوقبوا بعبادة الشيطان عن طريق السحر، فتعرضوا للخذلان والحرمان، وأنواع الضنك والشقاء في الدنيا والآخرة، وقد أشار إلى ذلك ابن تيمية بقوله:-
__________
(1) تفسير السعدي 1/118(2/276)
" إن الكثيرين من أرباب السحر ممن يدخل فى الباطل الخفي الدقيق، ويحتاج إلى أعمال عظيمة، وأفكار عميقة، وأنواع من العبادات والزهادات والرياضات، ومفارقة الشهوات والعادات، ثم آخر أمرهم الشك بالرحمن، وعبادة الطاغوت والشيطان، والفساد في الأرض، والقليل منهم من ينال غرضه، الذي لا يزيده من الله إلا بعداً، وغالبهم محروم مأثوم، يتمنى الكفر والفسوق والعصيان، وهو لا يحصل إلا على نقل الأكاذيب وتمنى الطغيان، سماعون للكذب، أكالون للسحت، عليهم ذلة المفترين.(1)
ص501
وفي هذا العصر، عصر التقدم المادي... تزداد ظاهرة السحر نفوذاً وانتشاراً، فأكثر شعوب العالم تقدماً مادياً تجري فيها طقوس السحر على نطاق واسع وبطرق متنوعة كأمريكا وفرنسا وألمانيا، بل إن السحر قد واكب هذا التطور المادي، فأقيمت الجمعيات والمعاهد لتعليم السحر سواء عن طريق الانتظام، أو الانتساب، كما نظمت المؤتمرات والندوات في هذا المجال.
إضافة إلى ذلك فإن بلاد المسلمين – عموماً – تنتشر فيها مظاهر السحر وأنواعه بسبب ضعف الإيمان بالله تعالى، وظهور الجهل بأحكام الشريعة، وسذاجة الكثير من المسلمين وجهلهم بحل هؤلاء السحرة المشعوذين، وتعطيل أحكام الله تعالى في هؤلاء السحرة (2).
2- السحر في لغة العرب هو كل ما لطف مأخذه ودق، وأصل السحر: صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، وسحره بمعنى خدعه، وسحره بكلامه: استماله برقته، وحسن تركيبه (3)
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 5/62 ، 63 = باختصار يسير ، وانظر مجموع الفتاوى 29/384 ، 385 .
(2) انظر لمعرفة أحوال السحرة في هذا العصر :-
عالم السحر والشعوذة لعمر الأشقر ص 55 –68 ، وتكملة المجموع لمحمد المطيعي 21/90 , 91 والسحر والمجتمع لسامية الساعاتي ، والعرافون الدجالون لياسين العجرمي .
(3) انظر اللسان 4/348 ، والمصباح المنير ص 317 ، وترتيب القاموس المحيط 2/528 ، ومختار الصحاح ص 288 .(2/277)
وأما تعريفه اصطلاحاً فإن السحر ليس نوعاً واحداً يمكن حده بحد يميزه عن غيره وقد أشار الشافعي رحمه الله إلى ذلك بقوله: - " والسحر اسم جامع لمعان مختلفة.(1) "
وكما قال الشنقيطي: - " واعلم أن السحر في الاصطلاح لا يمكن حده بحد جامع مانع لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعاً لها مانعاً لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافاً متبايناً.(2) "
فعرف أبو بكر الجصاص السحر بقوله: - " كل أمر خفي سببه، وتخيل
ص502
على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع.(3) "
وقال ابن العربي – في معنى السحر -: - " كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى، وتنسب إليه في المقادير والكائنات.(4) "
وقال ابن قدامة: - " السحر هو عقد ورقى وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه، أو عقله.(5) "
إلى غير ذلك من التعريفات المختلفة.(6)
وسبب ذلك الاختلاف: كثرة أنواع السحر، واختلاف صوره.. حتى جعله الفخر الرازي ثمانية أقسام (7)، وبعضهم جعله أكثر من ذلك (8).
__________
(1) الأم 1/391 .
(2) أضواء البيان 4/444 .
(3) أحكام القرآن للجصاص 1/42 .
(4) أحكام القرآن لابن العربي 1/31 ، وانظر الشرح الصغير للدردير 6/146 ، والخرشي على خليل 7/63.
(5) المغني 8/150 ، وانظر المبدع في شرح المقنع 9/188 ، وشرح منتهى الإرادات 3/394 .
(6) انظر كتاب السحر بين الحقيقة والخيال لأحمد الحمد ص 13 – 16 .
(7) انظر تفسير الرازي 3/228 – 236 ، وانظر المفردات للراغب ص 331 .
(8) انظر : - الفروق للقرافي 4/137 – 149 ، ومفتاح دار السعادة لطائش كبري زاده 1/340 – 346 ، وأضواء البيان للشنقيطي 4/452 –455 ، وكتاب السحر للحمد ص 18-36 .(2/278)
إضافة إلى توسع بعض العلماء في إطلاق السحر على كثير من الأحوال استناداً للمعنى اللغوي، فبعضهم يطلق السحر على النميمة، والكلام البليغ، وكذا الحركات القائمة على خفة اليد ومهارة الأداء.
وأمر ثالث أوجب هذا الاختلاف، وهو تنوع السحر من ناحية حقيقته أو تخييله، من ثم فبعض العلماء يقول: إن السحر حقيقة، ومنهم من يقول إنه تخييل، والصحيح في ذلك: - أن منه ما هو حقيقة، فيفرق بين المرء وزوجه، ولذا أمر الله تعالى بالاستعاذة به سبحانه من السواحر، فدل ذلك على أن للسحر حقيقة، وبعض السحر تخييل لا حقيقة له. (1).
وقد نبه الإمام القرافي رحمه الله إلى ضرورة تحديد معنى السحر وتمييزه عن غيره فقال: - " أطلق المالكية وجماعة الكفر على الساحر، وأن السحر كفر،
ص503
ولا شك أن هذا قريب من حيث الجملة، غير أنه عند الفتيا في جزئيات الوقائع يقع فيهم الغلط العظيم المودي إلى هلاك المفتي، والسبب في ذلك أنه إذا قيل للفقيه ما هو السحر وما حقيقته حتى يقضي بوجوده على كفر فاعليه يعسر عليه ذلك جداً، فإنك إذا قلت له السحر والرقى والخواص والسيميا والهيميا وقوى النفوس شيء واحد، وكلها سحر، أو بعض هذه الأمور سحر، وبعضها ليس بسحر، فإن قال: الكل سحر، يلزمه أن سورة الفاتحة سحر؛ لأنها رقية إجماعاً، وإن قال: لكل واحدة من هذه خاصية تختص بها، فيقال: بين لنا خصوص كل واحد منها، وما به تمتاز، وهذا لا يكاد يعرفه أحد من المتعرضين للفتيا. وأنا طول عمري ما رأيت من يفرق بين هذه الأمور، فكيف يفتي أحد بعد هذا بكفر شخص معين أو بمباشرة شيء معين بناء على أن ذلك سحر، وهو لا يعرف السحر ما هو (2) "
__________
(1) انظر تفصيل هذه المسألة في كتاب السحر لأحمد الحمد ص 37 - 88
(2) الفروق للقرافي 4/135(2/279)
إلى أن قال: - " إن الكتب الموضوعة في السحر، وضع فيها هذا الاسم [السحر] على ما هو كذلك كفر ومحرم، وعلى ما ليس كذلك، وكذلك السحرة يطلق لفظ السحر على القسمين، فلابد من التعرض لبيان ذلك. (1) "
ثم قال أيضاً: - " وللسحر فصول كثيرة في كتبهم يقطع من قبل الشرع بأنها ليست معاصي ولا كفراً، كما أن لهم ما يقطع بأنه كفر فيجب حينئذ التفصيل كما قال الشافعي رضي الله عنه، أما الإطلاق بأن كل ما يسمى سحراً كفر فصعب جداً. (2) "
وصدق رحمه الله تعالى، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلابد للناظر في هذه المسألة أن يفصل ويميز ويفرق بين السحر الذي يعد كفراً، وما ليس كذلك... وبهذا التفصيل والتمييز يزول الإشكال ويرتفع الخلاف كما سيأتي إن شاء الله.
3 – قبل أن نورد الخلاف، يجب أن نتذكر أن السحر – بمعناه الاصطلاحي – محرم بالكتاب والسنة والإجماع.(3)
ص504
قال تعالى: - {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة، آية 102].
وقال سبحانه: - {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه، آية 69].
__________
(1) المرجع السابق 4/137
(2) المرجع السابق 4/141
(3) انظر الفتاوى لابن تيمية 35/171 ، ومختصر الفتاوى المصرية ص 151 ، والإعلام للهيتمي ص 391 ، وحاشية ابن عابدين 4/240(2/280)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: - " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. (1) "
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - " ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، مصدق بالسحر (2) "
وعن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كان لداود نبي الله عليه السلام من الليل ساعة يوقظ فيها أهله، فيقول: - يا آل داود قوموا فصلوا فإن هذه ساعة يستجيب الله فيها الدعاء إلا لساحر أو عشار (3) (4) "
وإليك الخلاف في مسألة كفر الساحر، وأقوال العلماء فيها، والتحقيق في ذلك
ص505
قال ابن هبيرة (5)
__________
(1) أخرجه البخاري ، ك الوصايا (5/393) ح (2766) ومسلم ، ك الإيمان (1/92) ح (89)
(2) أخرجه أحمد (4/399) ، وقال الهيثمي في المجمع (5/74) : - " رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات " "
(3) العشار : - هو الذي يأخذ من أموال الناس ضريبة باسم العشر على عادة الجاهلية (عن الفتح الرباني وشرحه بلوغ الأماني لأحمد البنا)
(4) أخرجه أحمد (4/22) ، وانظر المسند (4/218) ، وقال المنذري في الترغيب (4/31) : - "رواه أحمد عن علي بن زيد عنه ، وبقية رواته محتج بهم في الصحيح ، واختلف في سماع الحسن من عثمان " وقال أحمد البنا في الفتح الرباني (15/16) : - " أخرجه الطبراني في الأوسط ، وقال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح إلا أن فيه على بن زيد وفيه كلام وقد وثق "
(5) أبو المظفر يحي بن محمد بن هبيرة الشيباني العراقي الحنبلي ، صاحب التصانيف الوزير العادل ، كان ديناً خيراً عاقلاً كريماً ، توفي سنة 560هـ.
…انظر: ذيل طبقات الحنابلة 1/251، وسير أعلام النبلاء 20/426.(2/281)
: - " اختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: - يكفر بذلك، إلا أن من أصحاب أبي حنيفة من فصل ذلك، فقال إن تعلمه ليتقه أو ليتجنبه فلا يكفر بذلك، وإن تعلمه معتقداً لجوازه أو معتقداً أنه ينفعه فإنه يكفر، ولم ير الإطلاق، وإن اعتقد أن الشياطين تفعل ما يشاء فهو كافر، وقال الشافعي: - إذا تعلم السحر قلنا له صف سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر بمثل ما اعتقد أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحته فهو كافر (1) "
أما القائلون بتكفير الساحر، فنورد أمثلة من أقوالهم على النحو التالي:-
يقول ملا علي قاري الحنفي: - " ثم قول بعض أصحابنا بأن السحر كفر مؤول، فقد قال الشيخ أبو منصور الماتريدي القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ يجب البحث عنه، فإن كان رد ما لزمه في شرط الإيمان (2) فهو كافر وإلا فلا، فلو فعل ما فيه هلاك إنسان، أو مرضه، أو تفريق بينه وبين امرأته، وهو غير منكر لشيء من شرائط الإيمان لا يكفر، لكنه يكون فاسقاً ساعياً في الأرض بالفساد. (3) " ويقول الدردير المالكي: - " فقول الإمام (4) رضي الله عنه: - إن تعلم السحر وتعليمه كفر، وإن لم يعمل به، ظاهر في الغاية إذ تعظيم الشياطين ونسبة الكائنات
ص506
__________
(1) الإفصاح عن معاني الصحاح 2/226 ، وانظر المحلى لابن حزم 13/469 ، وتفسير القرطبي 2/47 ، 48 .
(2) يعني بشرط الإيمان : إقرار اللسان ، لأن القول الظاهر – عند أبي منصور – شرط لثبوت أحكام الدنيا ، والإيمان هو التصديق فحسب .
انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/510 وشرح العقيدة الطحاوية 2/459 .
(3) شرح الفقه الأكبر ص 220
(4) لعله الإمام مالك بن أنس رحمه الله(2/282)
إليها لا يستطيع عاقل يؤمن بالله أن يقول فيه: إنه ليس بكفر (1) "
وقال الخرشي: - " والمشهور أن تعلم السحر كفر، وإن لم يعمل به (2).
وقال ابن قدامة: - " إن تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم، قال أصحابنا: ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، وروي عن الإمام أحمد ما يدل على أنه لا يكفر (3) (4) "
وقال مرعي الكرمي: - " فساحر يركب المكنسة فتسير به في الهواء، أو يدعي أن الكواكب تخاطبه كافر، كمعتقد حله، لا من يسحر بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر، ويعزر بليغاً. (5) "
وجاء في الإنصاف: - "الساحر الذي يركب المكنسة، فتسير به في الهواء ونحوه، كالذي يدعي أن الكواكب تخاطبه يكفر ويقتل، هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب... وعنه: لا يكفر..
فأما الذي يسحر بالأدوية، والتدخين، وسقي شيء يضر، فلا يكفر ولا يقتل، ولكن يعزر. هذا المذهب...(6) "
وأما الفريق الآخر، فهذا الإمام الشافعي – رحمه الله – يقول: - " والسحر اسم جامع لمعان مختلفة، فيقال للساحر صف السحر الذي تسحر به، فإن كان ما يسحر به كلام كفر صريح استتيب منه، فإن تاب وإلا قتل وأخذ ماله فيئاً، وإن كان ما يسحر به كلاماً لا يكون كفراً، وكان غير معروف ولم يضر به أحد نهي عنه، فإن عاد عزر، وإن كان يعمل عملاً إذا عمله إذا قتل المعمول به، وقال عمدت قتله، قتل به
ص507
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/302 ، وانظر الشرح الصغير 4/146 ، وبلغة السالك 6/146.
(2) الخرشي على مختصر خليل 7/63.
(3) غالب الروايات عن الإمام أحمد تنص على قتل الساحر ، ومنها روايات تنص على كفره وروايات أخرى لا تكفره
انظر : المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة 2/60 ، 69 ، 101 – 107
(4) المغنى 8/150
(5) غاية المنتهى 3/344 وانظر : المبدع 9/188 ، وشرح منتهى الإرادات 3/394
(6) الإنصاف للمرداوي 10/349 ، 350 = باختصار .(2/283)
قوداً، إلا أن يشاء أولياؤه أن يأخذوا ديته...(1) "
وإذا تأملنا القولين فلا اختلاف معنوي بينهما، فعند التفصيل يزول الاشكال وتجتمع الأدلة، وكما قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمهم الله – " وعند التحقيق ليس بين القولين اختلاف، فإن من لم يكفر لظنه أنه يتأتى بدون الشرك وليس كذلك بل لا يأتي السحر الذي من قبل الشياطين إلا بالشرك وعبادة الشيطان والكواكب، ولهذا سماه الله كفراً في قوله: - {إنما نحن فتنة فلا تكفر} [البقرة، آية 102]
وأما سحر الأدوية والتدخين ونحوه فليس بسحر، وإن سمي سحراً فعلى سبيل المجاز كتسمية القول البليغ والنميمة سحراً، ولكنه يكون حراماً لمضرته، ويعزر من يفعله تعزيراً بليغاً.(2) "
وقال الشنقيطي: - " التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل، فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر فهو كفر بلا نزاع، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة البقرة فإنه كفر بلا نزاع،كما دل عليه قوله تعالى: - {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها، فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر.(3) "
وللإمام النووي رحمه الله تعالى عبارة جامعة في حكم السحر حيث قال: -
" قد يكون (السحر) كفراً، وقد لا يكون كفراً بل معصيته كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر كفر، وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام فإن تضمن ما يقتضي الكفر كفر وإلا فلا، وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر واستتيب...(4) "
ص508
__________
(1) الأم 1/391 ، 392 .
(2) تيسير العزيز الحميد ص 384 = باختصار .
(3) أضواء البيان 4/456
(4) صحيح مسلم بالنووي 14/176 .(2/284)
وإن السحر الذي يعد كفراً، قد يقع قولاً باللسان، أو اعتقاداً بالقلب، أو عملاً بالجوارح، ونورد أمثلة على ذلك:
فمنه السحر الذي لا يتأتى إلا عن طريق الشياطين، كأن يستغيث بهم، ويدعوهم فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وينطق بكلمة الكفر من أجل رضاهم والاستماع بهم، أو يعتقد نفعهم وضرهم بغير إذن الله تعالى، أو يذبح لتلك الشياطين ونحوهم ويتقرب إليهم، أو يهين ما أوجب الله تعظيمه من الكتاب العزيز وغيره، أو يدعي لنفسه أو لشياطينه علم الغيب ومشاركة الله في ذلك.
4 - وأما وجه كون هذا السحر كفراً فذلك لعدة اعتبارات منها:-
(أ) قوله تعالى: - {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [البقرة، آية 102، 103].
فيستدل بهذه الآيات على كفر الساحر من وجوه:-
1 - قوله تعالى: - {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}(2/285)
فظاهر هذا أنهم إنما كفروا بتعليمهم السحر؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بعليته، فصرحت الآية بكفر الشياطين منوطاً بتعليم السحر للناس.(1)
2 - قوله تعالى: - {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَق} يعني من حظ ولا نصيب.
يقول الشيخ حافظ الحكمي (2) " – في ذلك –: " وهذا الوعيد لم يطلق إلا فيما هو كفر لا بقاء للإيمان معه، فإنه ما من مؤمن إلا ويدخل الجنة، وكفى بدخول الجنة خلاقاً، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة.(3) "
3 - قوله تعالى: - {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا..}
يقول الجصاص – عن هذه الآية -: " فجعل ضد هذا الإيمان فعل السحر؛ لأنه جعل الإيمان في مقابلة فعل السحر، وهذا يدل على أن الساحر كافر، فإذا ثبت كفره، فإن كان مسلماً قبل ذلك، فقد كفر بفعل السحر، فاستحق القتل.(4) "
يقول ابن كثير: - " وقد استدل بقوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا..} من ذهب إلى تكفير الساحر (5)
__________
(1) انظر : تفسير القرطبي 2/43 ، فتح الباري 10/225 ، الزواجر لابن حجر الهيتمي ص 104 ، ومعارج القبول للحكمي 1/514 – 516 ، وكتاب السحر للحمد ص 158 .
(2) حافظ بن أحمد الحكمي ، من علماء الجزيرة العربية في هذا العصر ، نِشأ في منطقة جيزان واشتغل بالعلم بتوجيه من الشيخ عبد الله القرعاوي ، وألف حافظ مؤلفات جمه، ومارس التدريس ، توفي بمكة سنة 1377 هـ .
انظر : ترجمته في مقدمة كتابه معارج القبول ، الأعلام 2/159 .
(3) معارج القبول 1/517 ، وانظر أضواء البيان للشنقيطي 4/442 .
(4) أحكام القرآن 1/53 .
(5) تفسير ابن كثير 1/137 .(2/286)
ويقول الحكمي – عن هذا الدليل -: " وهذا من أصرح الأدلة على كفر الساحر، ونفي الإيمان عنه بالكلية، فإنه لا يقال للمؤمن المتقي: ولو أنه آمن واتقى، وإنما قال تعالى ذلك لمن كفر، وفجر، وعمل بالسحر، واتبعه، وخاصم به رسوله، ونبذ الكتاب وراء ظهره.(1) "
(ب) قوله تعالى: - {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه، آية 69]
ومما قاله الشنقيطي – رحمه الله – في هذه الآية:-
" إن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم... فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ} [الآية يعم نفي جميع أنواع الفلاح عن الساحر، وأكد ذلك بالتعميم في الأمكنة بقوله {حَيْثُ أَتَى} وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر.
ص510
ويدل على ذلك أنه عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظة {لا يفلح} يراد بها الكافر كقوله تعالى في سورة يونس: - {قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {68} قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [يونس، آية 68 – 70].
وقوله في الأنعام " – {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [آية، 21]..(2) "
(ج) أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن السحر بالشرك، وفي بعض الأحاديث سماه شركاً، وحكم صلى الله عليه وسلم بالكفر على من أتى ساحراً فصدقه، كما تبرأ صلى الله عليه وسلم من الساحر والمسحور.
__________
(1) معارج القبول 1/518 .
(2) أضواء البيان 4/441 – 443 = باختصار ، وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 35/193 .(2/287)
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - " اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر.. الحديث (1) "
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه (2) "
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: - " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك.(3)
ص511
" والتولة ضرب من السحر، قال الأصمعي: - وهو الذي يحبب المرأة إلى زوجها.(4) "
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: - " من أتى عرافاً، أو ساحراً، أو كاهناً فسأله فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.(5)
وعن عمران بن حصين (6)
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) أخرجه النسائي 7/103 وقال المنذري في الترغيب 4/51 " وراه النسائي من رواية الحسن عن أبي هريرة ولم يسمع منه عند الجمهور " وحسنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/78) ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير 5/221 رقم (5714)
(3) أخرجه أحمد (1/381) ، وأبو داود ، ح (3883) وابن ماجه ح (3530) وأخرجه الحاكم (4/417، 418) وصححه على شرط الشيخين .
(4) انظر شرح السنة للبغوي 12/158 .
(5) أخرجه البيهقي (8/36) ، وقال المنذري في الترغيب (4/53) : رواه البزار وأبو يعلى باسناد جيد موقوفاً ، وقال الهيثمي في المجمع (5/118) : " رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح خلا هبيرة بن مريم وهو ثقة . " ، وقال ابن كثير في التفسير (1/137) : " وهذا إسناد صحيح " وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (10/217) : - وسنده جيد ، ومثله لا يقال بالرأي "
(6) أبو نجيد عمران بن حصين الخزاعي ، صحابي جليل أسلم عام خيبر ، وغزا عدة غزوات ، وبعثه عمر إلى البصرة معلماً ، وكان مجاب الدعوة ، مات سنة 52 هـ .
انظر : الإصابة 1/509، 511، وسير أعلام النبلاء 3/175.…(2/288)
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له.. " الحديث (1)
(د)أن الصحابة رضي الله عنهم أمروا بقتل أولئك السحرة، وقد تقرر شرعاً أن دماء المسلمين محظورة إلا ما استثناه الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.(2) "
وليس الساحر زانياً محصناً، ولا قاتل نفس، فتعين أن يكون كافراً مرتداً.
يقول ابن تيمية: - " أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله، وقد ثبت قتل الساحر عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وحفصة بنت عمر، وعبد الله
ص512
بن عمر، وجندب بن عبدالله... (3) "
فمن هذه الآثار ما جاء " عن بجالة بن عبدة (4) أنه قال: - كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر. (5) "
يقول ابن قدامة – معلقاً على هذا الأثر -: - " وهذا اشتهر فلم ينكر، فكان إجماعاً. "
__________
(1) وقال المنذري في الترغيب (4/52) : - " رواه البزار وإسناده جيد " ، وقال الهيثمي في المجمع (5/117) : - " رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن إبراهيم وهو ثقة "
(2) تقدم تخريجه .
(3) مجموع الفتاوي 29/384 ، وانظر المنتقى للباجي 7/117 ، والمغني لابن قدامة 8/153
(4) بجالة بن عبدة التميمي البصري ، كان كاتباً لجزء بن معاوية في خلافة عمر ، وثقه جمع من العلماء وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلك ولم يره .
انظر : تهذيب التهذيب 1/417 ، والإصابة 1/339
(5) أخرجه أبو داود ح (3043) . وأحمد (1/190، 191) والبيهقي 8/136 ، وابن حزم في المحلى وصححه 13/470 ، 473(2/289)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، فقال أن أم المؤمنين حفصة(1) رضي الله عنها سحرتها جارية لها، فأقرت بالسحر، وأخرجته، فقتلتها، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فغضب، فأتاه ابن عمر رضي الله عنه، فقال: جاريتها سحرتها أقرت بالسحر وأخرجته، قال: فكف عثمان رضي الله عنه، قال إنما كان غضبه لقتلها إياها بغير أمره. (2) "
وعن جندب الخير(3) رضي الله عنه قال: - " حد الساحر ضربة بالسيف.(4) "
ص513
وقتل جندب بن عبد الله البجلي (5) رضي الله عنه ساحراً كان عند الوليد بن عقبه (6).
__________
(1) حفصه بنت عمر بن الخطاب ، أم المؤمنين ، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة ثلاث من الهجرة ، روت عنه عدة أحاديث ، كانت صوامة قوامة ، توفيت بالمدينة سنة 41 هـ .
انظر : الإصابة 7/580، وسير أعلام النبلاء 3/175.…
(2) أخرجه مالك (2/871) ، والبيهقي (8/136) ، وقال الهيثمي في المجمع (6/280) رواه الطبراني من رواية إسماعيل بن عياش عن المدنيين وهي ضعيفة ، وبقية رجاله ثقاث . "
(3) أبو عبدالله جندب بن عبدالله الأزدي ، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، قدم دمشق ، ويقال له جندب الخير .
انظر : الإصابة 1/509 ، 511 ، وسير أعلام النبلاء 3/175 .
(4) 10) أخرجه الترمذي ح (1460) ك الحدود ، باب ما جاء في حد الساحر ، وذكر الترمذي أنه لا يصح رفعه ، والبيهقي 8/136 ، والحاكم 4/360 وصححه ووافقه الذهبي .
(5) أبو عبد الله جندب بن عبد الله البجلي ، صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، ونزل الكوفة والبصرة ، وله عدة أحاديث ، بقى إلى حدود سنة سبعين .
انظر : الإصابة 1/509 ، وسير أعلام النبلاء 3/174 .
(6) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير 2/222 ، والبيهقي 8/136 .(2/290)
وأما ما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما عندما باعت جارية مدبرة (1) سحرتها، فيحمل على أن سحرها من قبيل الأدوية الضارة، والتدخينات المؤذية، كي تموت أم المؤمنين، فيتحقق عتقها، ولذا أمرت عائشة رضي الله عنها بعقاب تلك الجارية بنقيض قصدها، كما هو ظاهر في الحديث التالي:-
فعن عمرة قالت: - اشتكت(2) عائشة فطال شكواها، فقدم إنسان المدينة يتطبب (3) فذهب بنو أخيها يسألونه عن وجعها، فقال: والله إنكم تنعتون نعت امرأة مطبوبة (4)، قال هذه امرأة مسحورة سحرتها جارية لها، فقالت: نعم(5) أردت أن تموتي فأعتق، قال وكانت مدبرة، قالت: فبيعوها في أشد العرب ملكة (6)، واجعلوا ثمنها في مثلها.(7) "
وقد أجاب الإمام الشافعي عن هذا الأثر قائلاً:-
" وأما بيع عائشة الجارية ولم تأمر بقتلها، فيشبه أن تكون لم تعرف ما السحر
ص514
فباعتها؛ لأن لها بيعها عندنا، وإن لم تسحرها، ولو أقرت عند عائشة أن السحر شرك، ما تركت قتلها إن لم تتب، أو دفعتها إلى الإمام ليقتلها (8)"
__________
(1) التدبير : هو تعليق العتق بالموت .
(2) اشتكت : أي مرضت )عن الفتح الرباني وشرحه بلوغ الأماني لأحمد البنا 14/159)
(3) يتطبب : أي يعاني الطب ولا يجيده (عن المرجع السابق) .
(4) مطبوبة : أي مسحورة (عن المرجع السابق) .
(5) هذا جواب عن سؤال لم يذكر في الحديث ، وكأن عائشة سألتها هل قول الطبيب صحيح ؟ فقالت نعم أردت أن تموتي فأعتق (عن المرجع السابق) .
(6) أي للأعراب الذين لا يحسنون إلى المماليك (عن المرجع السابق) .
(7) أخرجه أحمد (الفتح الرباني 14/159) الحاكم (4/219 ، 220) ، وصححه ، والبيهقي (8/137) ، وصححه الألباني في إرواء الغليل (6/178) رقم (1757) .
(8) 10) الأم 1/392 ، وقد أورد البيهقي هذا الحديث تحت عنوان : - " باب من لا يكون سحره كفراً ولم يقتل به أحداً لم يقتل " ،
انظر : سنن البيهقي 8/137(2/291)
(هـ) أن السحر الذي يعد كفراً يتضمن أنواعاً كثيرة من المكفرات الاعتقادية والقولية والعملية، كأن يعتقد نفع الشياطين وضررهم بغير إذن الله تعالى، أو يعتقد أن الكواكب مدبرةًً لأمر العالم، أو ينطق بكلمة الكفر كسب الله تعالى، أو الاستهزاء برسوله صلى الله عليه وسلم.
كما يتضمن هذا السحر شركاً في توحيد العبادة، فمن ذلك أن يدعو غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو يستعيذ بالشياطين أو يذبح لهم، أو يتقرب إليهم بالنذور.
وقد أورد القرافي أمثلة للكفر التي يتضمنها هذا السحر فقال: -
" هذه الأنواع قد تقع بلفظ هو كفر، أو اعتقاد هو كفر، أو فعل هو كفر، فالأول كالسب المتعلق بمن سبه كفر، والثاني كاعتقاد انفراد الكواكب أو بعضها بالربوبية، والثالث كإهانة ما أوجب الله تعالى تعظيمه من الكتاب العزيز وغيره، فهذه الثلاثة متى وقع شيء منها في السحر، فذلك السحر كفر لا مرية فيه. (1) "
ويذكر بن حجر الهيتمي أنواعاً من الكفر تندرج في هذا السحر فيقول:-
" إن اشتمل (السحر) على عبادة مخلوق كشمس، أو قمر، أو كوكب أو غيرها، أو السجود له، أو تعظيمه كما يعظم الله تعالى، أو اعتقاد أن له تأثيراً بذاته، أو تنقيص نبي، أو ملك... كان كفراً وردة. (2)"
ويتبين الشيخ السعدي وجه إدخال السحر في الشرك قائلاً: -
"السحر يدخل في الشرك من جهتين: - من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم، وربما تقرب إليهم بما يحبون ليقوموا بخدمته ومطلوبه، ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب، ودعوى مشاركة الله في علمه وسلوك
ص515
الطرق المفضية إلى ذلك، وذلك من شعب الشرك والكفر. (3) "
__________
(1) الفروق 4/140
(2) الإعلام ص 391
(3) القول السديد ص 74 ، 75(2/292)
5 - واستكمالاً لهذا المبحث نورد جملة من كلام العلماء في معنى السحر وحكمه. وهمزه ووسوسته، ويتلقاه الساحر بتعليمه إياه، ومعونته عليه، فإذا تلقاه عنه، استعمله في غيره بالقول والنفث في العقد. (1) "
وقال شيخ الإسلام الصابوني: - " ومن سحر منهم واستعمل السحر، واعتقد انه يضر أو ينفع بغير إذن الله فقد كفر بالله جل جلاله، وإذا وصف ما يكفر به استتيب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وإن وصف ما ليس بكفر، أو تكلم بما لا يفهم نهي عنه، فإن عاد عزر، وإن قال السحر ليس بحرام، وأنا اعتقد إباحته وجب قتله؛ لأنه استباح ما أجمع المسلمون على تحريمه. (2) "
ويقول ابن العربي: - " إن الله سبحانه قد صرح في كتابه بان السحر كفر؛ لأنه تعالى قال: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} من السحر، {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بقول السحر، " وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ " به وبتعليمه، وهاروت وماروت يقولان " إنما نحن فتنة فلا تكفر " وهذا تأكيد للبيان (3) "
وقال ابن الشاط: - " فالذي يستقيم في هذه المسألة: ما حكاه الطرطوشي عن قدماء أصحابنا أنا لا نكفره حتى يثبت أنه من السحر الذي كفر الله تعالى به، أو يكون سحراً مشتملاً على كفر كما قال الشافعي. (4) "
ويقول القرطبي: - " قوله تعالى: - {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} تبرئة من الله لسليمان، ولم يتقدم في الآية أن أحداً نسبه إلى الكفر، ولكن اليهود نسبته إلى السحر، ولما كان السحر كفراً صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر، ثم قال " ولكن الشياطين كفروا " فأثبت كفرهم بتعليم السحر. (5) "
ص516
__________
(1) شرح السنة للبغوي 12/188
(2) عقيدة السلف أصحاب الحديث ص 96
(3) أحكام القرآن 1/31
(4) تهذيب الفروق 4/157
(5) تفسير القرطبي 2/43(2/293)
وقال النووي: - " والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح... كالسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها... (1) "
ويقول ابن تيمية: - " إذا تقرب صاحب العزائم وكتب الروحانيات السحرية وأمثال ذلك إلى الشياطين بما يحبون من الكفر والشرك، صار ذلك كالرشوة لهم، فيقضون بعض أغراضه، كمن يعطي غيره مالاً ليقتل له من يريد قتله... ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة، وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل، إما حروف الفاتحة، وإما حروف قل هو الله أحد وإما غيرهما.. فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين، أعانتهم على بعض أغراضهم... (2) "
ويقول السبكي: - وأما مذهب الشافعي فحاصله أن السحر له ثلاثة أحوال: حال يقتل كفراً، وحال يقتل قصاصاً، وحال لا يقتل أصلاً بل يعزر، أما الحالة التي يقتل فيها كفراً، فقال الشافعي رحمه الله: - أن يعمل بسحره، ما يبلغ الكفر، وشرح أصحابه ذلك بثلاثة أمثلة: - أحدهما أن يتكلم بكلام هو كفر ولا شك في أن ذلك موجب للقتل.
المثال الثاني: - أن يعتقد ما اعتقده من التقريب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل بأنفسها فيجب عليه أيضاً القتل،
المثال الثالث: - أن يعتقد أنه يقدر به على قلب العيان، فيجب عليه القتل كما قاله القاضي حسين والماوردي. (3) "
ويقول الذهبي: - " إن الساحر لابد وأن يكفر، قال الله تعالى: - {وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة، آية 102]، وما للشيطان الملعون غرض في تعليمه الإنسان السحر إلا ليشرك به.
فترى خلقاً كثيراً من الضلال يدخلون في السحر ويظنون أنه حرام فقط، وما
ص517
__________
(1) روضة الطالبين 10/ 64 . وانظر مغني المحتاج للشربيني 4/136
(2) مجموع الفتاوي 19/34 ، 35 - بتصرف
(3) فتاوي السبكي 2/324(2/294)
يشعرون أنه الكفر، فيدخلون في تعلم السيمياء (1) وعملها، وهي محض السحر، وفي عقد المرء عن زوجته وهو سحر، وفي محبة الزوج لامرأته وفي بغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة أكثرها شرك وضلال. وحد الساحر القتل؛ لأنه كفر بالله أو ضارع الكفر... فليتق العبد ربه ولا يدخل فيما يخسر به الدنيا والآخرة. (2) "
ويقول البيضاوي: - " قوله تعالى {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} تكذيب لمن زعم ذلك، وعبر عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر، وأن من كان نبياً كان معصوماً عنه.. (3) "
وقال الحافظ ابن حجر: - " وقد استدل بهذه الآية: - {وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ} على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه... كالتعبد للشياطين، أو للكواكب، وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلاً.
- إلى أن قال – وفي إيراد المصنف [البخاري] هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر لقوله فيها: - {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الآية على لسان الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر، فيكون العمل به كفراً، وهذا كله واضح على ما قررته من العمل ببعض أنواعه، وقد زعم بعضهم أن السحر لا يصح إلا بذلك، وعلى هذا فتسميته ما عدا ذلك سحراً مجاز. (4) "
ص518
__________
(1) السيمياء : - أحد علوم السحر ، وهو عبارة عما تركب من خواص توجب بعض التخيلات
انظر : ، ومقدمة ابن خلدون 3/1159 ، والفروق للقرافي 4/137 ، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 29/389 ، ومفتاح السعادة لطاش كبري 1/317 ، أبجد العلوم لمحمد صديق حسن 2/332 ، وأضواء البيان 4/452
(2) الكبائر للذهبي ص 41
(3) أنوار التنزيل 1/73
(4) فتح الباري 10/224 ، 225 = باختصار يسير(2/295)
وقال الدردير: - " وسحر فيكفر بتعلمه، وهو كلام يعظم به غير الله تعالى، وينسب إليه المقادير، ثم إن تجاهر به فيقتل إن لم يتب، وإن أسره فحكم الزنديق، يقتل بدون استتابة، وشهر بعضهم عدم الاستتابة مطلقاً. (1) "
وذكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب السحر من نواقض الإسلام فقال: -
"السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر. (2) "
6 - ما يلحق بالسحر:
مما يلحق بالسحر: التنجيم، وهو أحد أقسام الكهانة، ولذا يسمي بعضهم المنجم كاهناً (3)، والكاهن " هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن. (4) "
يقول القاضي عياض – ذاكراً أنواع الكهانة –
"كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب: - أحدها أن يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء، وهذا القسم باطل من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: - أنه يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده.
الثالث: - المنجمون، وهذا الضرب يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي
ص519
__________
(1) الشرح الصغير 6/146 وانظر بلغة السالك 2/416 ، وتبصرة الحكام لابن فرحون 2/288 ، والخرشي علي خليل 7/63
(2) مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب (رسالة نواقض الإسلام) 1/386 وانظر فتاوي محمد بن إبراهيم 1/163 ، وفتاوي اللجنة الدائمة 1/364 ، وفتاوي ابن باز 2/119 ، والمجموع الثمين من فتاوي ابن عثيمين 2/130
(3) انظر شرح السنة للبغوي 12/177 ، ومجموع الفتاوي لابن تيمية 35/172 ، 193
(4) معالم السنن للخطابي 4/225 ، وانظر النهاية لابن الأثير 4/214 ، وشرح السنة للبغوي 12/182 ، وفتح الباري 10/216 ، ومفردات الراغب ص 665 ، وشرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 221 ، ومفتاح السعادة لطاش كبري 1/340 ، وبلوغ الأرب للآلوسي 3/269 ، وفتاوي اللجنة الدائمة 1/393 .(2/296)
يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها، وقد يعتضد بعض هذا الفن ببعض في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وأسباب معتادة، وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة وقد أكذبهم الشرع ونهى عن تصديقهم، وإتيانهم والله أعلم. (1)
وأما تعريف التنجيم فهو مأخوذ من النجم والمراد به: الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، بمعنى أن المنجم يربط ما يقع في الأرض بالنجوم بحركاتها، وطلوعها، وغروبها واقترانها وتفرقها (2)
وهذا التنجيم إنما كان سحراً لقوله صلى الله عليه وسلم: - " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد (3) "
يقول ابن تيمية: - " فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر، وقد قال الله تعالى {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه آية 69] وهكذا الواقع فإن الاستقراء يدل على أن أهل النجوم لا يفلحون، لا في الدنيا ولا في الآخرة. (4) " والتنجيم الذي يعد سحراً له أنواع منها: -
(أ) عبادة النجوم كما كان يفعل الصابئة، اعتقاداً منهم بأن الموجودات في العالم السفلي مركبة على تأثير تلك النجوم، ولذا بنوا هياكل لتلك النجوم، وعبدوها وعظموها، زاعمين أن روحانية تلك النجوم تتنزل عليهم فتخاطبهم
ص520
__________
(1) صحيح مسلم بالنووي 14/223 ، وانظر معالم السنن للخطابي 4/225 ، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 2/217 ، وفتح الباري 10/217 ، وفتاوي ابن باز 2/120 ، والمجموع الثمين من فتاوي ابن عثيمين 2/138 .
(2) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 35/192 ، وتيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبدالله ص 441 ، والمجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين 2/138
(3) أخرجه أحمد (1/227) ، وأبو داود ح (3905) ، وابن ماجه ح (3726) وصححه النووي في رياض الصالحين ح (1673) ، والعراقي في تخريج أحاديث الإحياء 4/117
(4) مجموع الفتاوى 35/193(2/297)
وتقضي حوائجهم. (1). ولا شك أن هذا كفر بالإجماع. (2)
(ب) أن يستدل بحركات النجوم وتنقلاتها على ما يحدث في المستقبل من الحوادث والوقائع، فيعتقد أنه لكل نجم منها تأثيرات في كل حركاته منفرداً أو مقترناً بغيره. (3)
وفي هذا النوع دعوى لعلم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج من الملة؛ لأنهم بهذا يزعمون مشاركة الله في صفة من صفاته الخاصة وهي علم الغيب، ولأنه تكذيب لقوله تعالى {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [ النحل، آية 65] وهذا من أقوى أنواع الحصر؛ لأنه بالنفي والاستثناء.
كما أنه تكذيب لقوله سبحانه: - {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [ الأنعام، آية 59] (4)
__________
(1) انظر : أحكام القرآن للجصاص 1/51، ومجموع الفتاوي لابن تيمية 35/171 ، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 2/191 ، ومقدمة ابن خلدون 3/1149 وتيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبدالله ص 441 ، ومعارج القبول للحكمي 1/522 ، والمجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين 2/143 .
(2) انظر الفتاوي لابن تيمية 35/177 ، وشرح العقيدة الطحاوية 2/775 ، وشرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 223 ، وتيسير العزيز الحميد ص 441
(3) انظر : معالم السنن للخطابي 4/226 ، والفتاوي لابن تيمية 35/171 ، وتيسير العزيز الحميد ص 442 ، ومعارج القبول 1/524 ، والمجموع الثمين من فتاوي ابن عثيمين 2/143 .
(4) انظر تيسير العزيز الحميد ص 442 ، والقول السديد للسعدي ص 77 ، 78 ، 84 ، وأضواء البيان للشنقيطي 2/197 ، وفتاوي ابن باز 2/120 ، والمجموع الثمين من فتاوي ابن عثيمين 1/143 .(2/298)
3 - ومن أنواع هذا التنجيم: - " ما يفعله من يكتب حروف أبي جاد، ويجعل لكل حرف منها قدراً من العدد معلوماً، ويجري على ذلك أسماء الآدميين والأزمنة والمكنة وغيرها، ويجمع جمعاً معروفاً عنده، ويطرح منه طرحاً خاصاً، ويثبت إثباتاً خاصاً، وينسبه إلى الأبراج الإثني عشر المعروفة عند أهل الحساب، ثم يحكم على تلك القواعد بالسعود والنحوس وغيرها مما يوحيه إليه الشيطان. (1) "
ص521
" قال بن عباس رضي الله عنهما في قوم يكتبون أباجاد، وينظرون في النجوم: - ما أدري من فعل ذلك له عند الله خلاق. (2) "
وهذا النوع أيضاً يتضمن دعوى مشاركة الله في علم الغيب الذي انفرد به سبحانه. (3)
يقول السعدي في هذا المقام: - " إن الله تعالى المنفرد بعلم الغيب، فمن ادعى مشاركة الله في شيء من ذلك بكهانة أو عرافة أو غيرها، أو صدق من ادعى ذلك، فقد جعل الله شريكاً فيما هو من خصائصه، وقد كذب الله ورسوله... (4) "
ويقول الشنقيطي: - " لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله، كان جميع الطرق التى يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين... (5) "
إن هذه الأنواع من التنجيم وما شابهها كفر أكبر يناقض الإيمان.. فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى التنجيم سحراً.. وقد سبق بيان وجه كون السحر كفراً.
__________
(1) معارج القبول 1/523 ، وانظر تفصيل الحديث عن علم تلك الحروف في مقدمة ابن خلدون 3/1159 – 1196 ، وأبجد العلوم لمحمد صديق حسن 2/236
(2) أخرجه عبدالرازق 11/26 ، والبيهقي 8/139
(3) ومما يحسن ذكره ها هنا أن ما يسمى بحساب الجمل ، والذي يستفاد منه في تيسير حفظ أزمان الأحداث والوقائع ... فهذا ليس ممنوعاً ؛ لأنه لا يتضمن شيئاً مما نهى عنه الشارع
(4) القول السديد ص 77 ، 78
(5) أضواء البيان 2/197 ، وانظر الموافقات للشاطبي 4/84(2/299)
إن هذا التنجيم يناقض الإيمان، لما فيه من اعتقاد أن تلك النجوم تنفع وتضر بغير إذن الله تعالى، ولما فيه من دعوى الغيب، ومنازعة الله تعالى فيما اختص به سبحانه من علم الغيب، كما قال سبحانه: - {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن، آية 26]، كما أن هذا السحر يحوي شركاً في العبادة، ودعاء لتلك النجوم وتعظيماً وتقربا لها.
إضافة إلى ذلك فإن التنجيم إذا كان نوعاً من الكهانة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - " من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على
ص522
محمد صلى الله عليه وسلم. (1) "
وفي رواية: - " من أتى كاهناً فصدقه بما يقول.. فقد بريء مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. (2) "
فهذه الأحاديث دليل على كفر من سأل الكهان مصدقاً لهم، فإذا كان هذا حال السائل فكيف بالمسؤول؟
يقول ابن تيمية – ذاماً هؤلاء المنجمين -: - " فإن هؤلاء الملاعين يقولون الإثم ويأكلون السحت بإجماع المسلمين، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الصديق عنه أنه قال: - " إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه " (3)وأي منكر أنكر من عمل هؤلاء الأخابث، سوس الملك، وأعداء الرسل، وأفراخ الصابئة عباد الكواكب؟!!
__________
(1) أخرجه أحمد 2/429 ، والحاكم 1/8 وصححه على شرط الشيخين ، والبيهقي 8/135 وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (5815)
(2) أخرجه أحمد 2/408 ، وأبو داود ح (3904) ، والترمذي ح (135) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (5818)
(3) أخرجه أحمد (91) ، . والترمذي ح (2168) وصححه ، وأبو داود ح (4338) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (1970)(2/300)
فهل كانت بعثة الخليل صلاة الله وسلامه عليه إمام الحنفاء إلا إلى سلف هؤلاء – فإن نمرود بن كنعان كان ملك هؤلاء، وعلماء الصابئة هم المنجمون ونحوهم – وهل عبدت الأوثان في غالب الأمر إلا عن رأي هذا الصنف الخبيث، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله؟!! (1) "
ومما يلحق بالسحر أيضاً: العيافة، والطرق، والطيرة، لما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: - " العيافة والطرق والطيرة من الجبت (2) "
والجبت هو السحر عند جمع من أهل العلم – كما سيأتي بيانه –
والمقصود بالعيافة: زجر الطير والحيوان، والاستدلال بأصواتها وحركاتها
ص523
وسائر أحوالها على الحوادث، واستعلام ما غاب عنهم. (3)
وأما الطرق فهو الخط في الأرض. وقال بعضهم: الضرب بالحصى، ويسمى علم الرمل حيث يستدلون بأشكال الرمل على أحوال المسألة حين السؤال. (4)
والطيرة: التشاؤم، وأصله أن العرب في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر، فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع (5)
والجبت هو السحر، قال الله تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء، آية 51].
__________
(1) مجموع الفتاوى 35/195 ، وانظر شرح العقيدة الطحاوية 2/763
(2) أخرجه أحمد (3/477) وأبو داود (3907) ، وحسن النووي إسناده في "رياض الصالحين" ح (1672) ، وكذا ابن تيمية في مجموع الفتاوي (35/192)
(3) انظر ترتيب القاموس المحيط 3/357 ، والمصباح المنير للفيومي ص 527 ، وشرح السنة للبغوي 12/177 ، وبلوغ الأرب للآلوسي 3/307 .
(4) انظر ترتيب القاموس المحيط 3/71 ، وشرح السنة للبغوي 12/177 ، ومختصر سنن أبي داود للمنذري 5/374 ومفتاح السعادة لطاش كبري زاده 1/336
(5) انظر ترتيب القاموس المحيط 3/116 ، والمصباح المنير للفيومي ص 454 ، والفروق للقرافي 4/238 ، وفتح الباري 10/212(2/301)
والجبت هو السحر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " الجبت السحر، والطاغوت الشيطان " (1)
وهكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن والضحاك والسدي (2).
ووجه كون العيافة والطرق والطيرة سحراً، لما فيها من دعوى علم الغيب، ومنازعة الله تعالى في ربوبيته، فإن علم الغيب من صفات الربوبية التي استأثر الله تعالى بها دون من سواه، إضافة إلى أن بعضهم يعتقد أن تلك الأشياء تنفع أو تضر بغير إذن الله تعالى.
ص524
خاتمة
من خلال ما سبق عرضه في هذا المبحث، يمكن أن نشير إلى بعض الأمور التالية:
1- التأكيد على أهمية وخطورة دراسة نواقض الإيمان، وضرورة الاعتناء بها، وتحرير مسائلها بعلم وعدل، والحذر من مسلك ردود الأفعال، وما يؤول إليه من غلو أو إرجاء.
2- إن دراسة موضوع نواقض الإيمان، لا تنفك عن دراسة مقابله وهو الإيمان، ولذا فإن اللبس والخطأ في فهم حقيقة الإيمان يورث – بطبيعة الحال – لبساً وخطاً في دراسة الكفر، كما هو ظاهر حال المبتدعة من الوعيدية والمرجئة.
3- إذا كان الإيمان قولاً وعملاً، قول القلب وعمله، وقول اللسان وعمل الجوارح، فهذا النواقض إما أنها تضاد قول القلب أو عمله، أو تضاد قول اللسان أو عمل الجوارح. وحيث إن الإيمان تصديق وإقرار، وانقياد والتزام بطاعة الله تعالى ظاهراً وباطناً، فالكفر عدم الإيمان وهو تكذيب وجحود، وإباء واستكبار، وامتناع وإعراض.
4- ضرورة مراعاة ضوابط التكفير، وعوارض الأهلية والتي سبق الاشارة إلى بعضها، فإن الاعتناء بمثل ذلك يوجب توسطاً واعتدالاً بين الإفراط والتفريط.
__________
(1) أخرجه البخاري تعليقاً (8/251) ، وابن جرير موصولاً (3/13) وقال الحافظ ابن حجر : - " إسناده قوي " ، انظر الفتح 8/252
(2) انظر تفسير ابن كثير 1/485 ، وفتح الباري 8/251 ، 252 ، والدر المنثور للسيوطي 2/564 ، 565(2/302)
5- الاعتناء بالتفصيل والتوضيح عند دراسة تلك النواقض، وتحقيق حدودها وتعريفاتها شرعاً ولغة وعرفاً، والحذر من الإجمال والإطلاق.
6- تضمن هذا البحث جملة من نواقض الإيمان، كان من أهمها: الشرك في العبادة، فتحدثت – ابتداءً – عن وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة وحدة لا شريك له، ثم ذكرت حقيقة الشرك في العبادة، سواء كانت العبادة قولية أو عملية، ووضحت الفرق بين تلك المظاهر الشركية وما دونها من المعاصي،
ص525
كالفرق – مثلاً – بين السجود الشركي وسجود التحية، والفرق بين النذر الشركي، ونذر المعصية....، ثم أوردت عدة اعتبارات في كون تلك الممارسات ناقضاً من نواقض الإيمان.
7- ظهر من خلال عرض مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، أهمية وضرورة التحاكم إلى شرع الله تعالى وحده، وعظم منزلته من الدين، ثم ذكرت جملة من الحالات التي يكون فيها الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى خراجاً عن الملة، كمن جحد حكم الله تعالى، أو فضل حكم الطاغوت على حكم الله تعالى، أو ساوى بينهما، أو جوز الحكم بما يخالف شرع الله تعالى، أو لم يحكم بما أنزل الله إباء وامتناعاً. وأما المحكوم فإن كفره متعلق بقبوله لغير شريعة الله تعالى، ورضاه بها.
8- حوى هذا البحث مسألة تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً... فبسطت أدلة الفريقين واستدلالاتهم، مع المناقشة والترجيح. ولعل القول الراجح في هذه المسألة أن ترك الصلاة الذي يعد كفراً هو الترك المطلق الذي هو بمعنى ترك الصلاة بالكلية أو في الأعم الأغلب والله أعلم.
9- إن لنواقض الإيمان أمثله كثيرة جداً لا يمكن حصرها والإحاطة بها، وقد كثر كلام العلماء في هذا النواقض، وكثرت تفصيلاتهم، وإيراد أنواع وأفراد من المكفرات، وربما تركوا ما هو نظير تلك الأفراد، أو آكد منها، والأولى في هذا أن تذكر أجناس الأشياء والأصول التي ترجع إليها، لأجل إذا ذكرت الأشياء تفصيلاً، كان تمثيلاً لا حصراً. (1)
__________
(1) انظر الإرشاد للسعدي ص 203(2/303)
وفي الختام أسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا الجهد، وأن يبارك فيه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(2/304)