بسم الله الرحمن الرحيم
"نماذج مقترحة للعلاج بالقرآن الكريم"
د. نبيل الجندي
عميد كلية التربية/ جامعة الخليل/ فلسطين
الملخص:
تهدف هذه الورقة لطرح أنموذجين علاجيين من بناء كاتبها لعلاج كثير من الأمراض النفسية في العيادة النّفسية وذلك بتوظيف القرآن الكريم في العلاج النفسيّ.
هذان النموذجان هم خلاصة مجموعة من البحوث وأوراق العمل التي شارك الكاتب فيها في مؤتمرات عربية حول العلاج النفسيّ، كما وقد تم اختبار هذه النّماذج في العيادة النّفسية لعدّة سنوات، وأظهرت فعاليّة لا بأس بها في التّخلص من كثيرٍ من الأمراض والمشكلات النّفسيّة.
الأنموذج الأول أسماه الكاتب (أنموذج النّفاذية إلى النّص)، وهو يهدف إلى الغوص في معاني النّصوص القرآنية والرّبط بينها لغايات استنباط آلياتٍ مناسبة للعلاج بالقرآن الكريم يمكن توظيفها في العلاج النّفسيّ، وهو مكون من ثلاثة مراحل: مرحلة تشرّب النّص- مرحلة التّشبع بالنّص– ومرحلة اتّخاذ القرار.
أما الأنموذج الثّاني فقد أسماه (استراتيجية الرّواقية الانفعالية) وهذا الأنموذج قد تمّ بناؤه بعد الإطلاع على كثيرٍ من الاستراتيجيات العلاجيّة الغربيّة في العلاج النفسي، والكشف عن بعض جوانب الخلل فيها، وهو مكوّن من ثلاثة مراحل: مرحلة استكشاف الموقف المثير – مرحلة إحداث الانفعال – ومرحلة مقعد القلق.
واشتملت الورقة على وصف مقتضب لكلّ من النّموذجين، وكيف تمّ توظيفهما في العلاج النّفسيّ، كما واشتملت على حالات تم التّغلب على مشكلاتها باستخدام هذين النّموذجين.
ما يميّز هذه النّماذج أنّها متكاملة وليست متداخلة، وفيها توظيف لكلام الله جلّ جلاله في علاج حالات مختلفة من الأمراض النّفسيّة مثل الرّهاب والقلق والهوس والاكتئاب والتّعلق الزّائد والشّعور بالسّحر وغيرها من الحالات التي تمّ مواجهتها في العيادة النّفسيّة.(1/1)
هدفت هذه الورقة إلى طرح نموذجين علاجيّين بالقرآن الكريم، وتنطلق هذه النّماذج من تجربة الكاتب في البحث والإرشاد والعلاج النفسي والتعليم الجامعي لعدّة سنوات.
الأنموذج الأول - أنموذج النّفاذية إلى النّص(1):
ينطلق هذا الأنموذج من أبسط الوحدات المعرفيّة (Schemas)، مروراً بتحليل النّصوص القرآنية، وانتهاءً بتحليل مواقف الحياة على اختلاف تعقيداتها باستلهام كلام الله جلّ في علاه، وأخيراً توظيف النّصوص القرآنية في حالات العلاج للأمراض النّفسيّة المختلفة.
كما وتطرح هذه الورقة بعض التّطبيقات من خلال أمثلة مختلفة سواءً في فهم النّص القرآني، أو توظيفه في حالات العلاج النّفسي المختلفة.
يقوم هذا الأنموذج على مجموعة من الرّكائز منها:
1. ثمة معانٍ تكمن في داخل النّص القرآني قد لا تبدو واضحةً للعيان، وهي تحتاج إلى جهد وتفرّس من أجل في فهم النّص، وكلّما زادت درجات التفرّس في النّص كلما كانت النّتائج أكثر صدقاً، استذكر بذلك مقولة العماد الأصفهاني التي مفادها "إِنِّي رَأَيتُ أَنَّهُ لاَ يَكْتُب أَحَدٌ كِتَاباً فِي يَومِهِ إِلاّ قَالَ فِي غَدِه: لَو غُيِّرَ هَذَا لَكَانَ أَحْسَن، وَلَو زِيدَ هَذَا لَكَانَ يُسْتَحسَن، وَلَو قُدِّمَ هَذَا لَكَان أَفْضَل، وَلَو تُركَ هَذَا لَكَانَ أَجْمَل"، فكيف ونحن أمام القرآن الكريم المعجز.
__________
(1) لمزيد من المعلومات يمكن للقارئ العودة إلى: الجندي، نبيل (2006) النص بين التحليل الدلالي والتحليل المفاهيمي بحث مقدم لمؤتمر النص بين التحليل والتأويل، جامعة الأقصى عزة.
وكذلك الجندي، نبيل. (2005) طرق مقترحة لتحليل النصوص – مراجعات تربوية، ندوة اليونكسو الإقليمية، اليونسكو، القاهرة 26-29 نيسان 2005.(1/2)
وتفرّس النّص (Text Perspicacity) هنا مصطلح معرفي يقترحه الكاتب كمصطلح مرتبط بقدرة الباحث على الفهم والتنبؤ بالأبعاد المرتبطة بالمعنى في وحدات النّص(facets) المعرفيّة، الفراسة هنا تقارب كثيراً رؤيا ذلك الأعرابيّ الذي استدل على أن النّاقة التي رَعت محصوله كانت عرجاء عوراء مقطوع ذنبها، فالعَرَج استدل عليه من خطواتها، والعَوَر من أكلها من جانب واحد من الزرع، وقطع الذنب من رتابة روثها على الأرض.
2- يوظّف الإنسان معارفه وخبراته الحياتية المختلفة بشكل متكامل لتحليل النّص ولا تقتصر على فهم النّص بمعزلٍ عن الخلفية الثقافية والنفسية والحضارية.
ولتوضيح ذلك أطرح مثالاً وبإمكان الشّخص المدقّق أن يطرح مئات الأسئلة المماثلة، خصوصاً في فهم القرآن الكريم، المثال:
عندما يتعلّم الطّلبة عن هرم الحاجات عند أبراهام ماسلو، فإنهم يتعلّمون:
1- الحاجات الفسيولوجيّة: الحاجات البيولوجيّة الأساسيّة المهمّة للبقاء.
2- الحاجة إلى الأمن: الحاجة للحماية من الخطر.
3- الحاجات الاجتماعيّة: كالحاجة للحبّ, والانتماء للجماعة.
4- الحاجة إلى التّقدير: الحاجة لاحترام الذّات, الثّقة, السّلطة والاحترام من الآخرين.
5- الحاجة إلى تحقيق الذات: الحاجة للإنجاز.
غير أنه عندما يقرأ في سورة قريش (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)
فإنه يدرك أن الحاجات عند الإنسان هي على نوعين: حاجات فسيولوجية، وحاجات إلى الأمن، وعندما تتحقق هاتان الحاجتان، فإن بقية الحاجات التي يدعو لها ماسلو محققة تلقائياً.
هل فعلاً عندما تتحقق الحاجات الفسيولوجية وحاجات الأمن تتحقق بقية الحاجات تلقائيا؟(1/3)
الجواب نعم، إذ بإمكان المتأمل أن يفسّر بقيّة الحاجات، مثلاً لماذا يحتاج الإنسان إلى الحب؟ أليس في جزء منه إشباع لحاجات فسيولوجيّة غريزيّة، ولن نذهب بعيداً في هذا المنظور الفرويدي، ألا يحتاج الطّفل مثلاً إلى محبّة والديه للشّعور بالأمن والحماية له؟
وحتى لو نظرنا إلى رأس الهرم عند (ماسلو)، لماذا نحن نحتاج إلى تحقيق ذواتنا؟ وأي القوى تلك التي تحركنا نحو الإنجاز؟
ألا تبدو في جزء منها لغايات ماديّة أو معنويّة تضمن لنا تحقيق الحاجات الفسيولوجية، وحاجات الحماية والأمن. إن الحديث عن هذا الموضوع يحتاج إلى ورقة منفصلة لتناوله.
3- يعتمد هذا الأنموذج على تصوّر مقترح لتشقيق النّص، إذ يصعب على أي باحث أن يفهم أي نص، أو يحلله دون فهم لمعاني المفردات سواء كانت هذه المفردات ملموسة في دلالتها أو مجرّدة، ومن هنا تعرّف هذه الورقة التشقيق النصّي: بأنه قراءات هادفة للنّص تبدأ بالقراءات الأولى من أجل فهمه بطريقة استقرائية، أي أن ينطلق الباحث من خصوصيّة الكلمة إلى عموميّة المعنى، ثم يلجأ إلى الطّريقة الاستنباطيّة في المرحلة التّالية، بمعنى أنه يكوّن صورة عقلية عن النّص العام، ويبدأ باستنباط دلالات جزئية لمعاني النّصوص. بل لعلّ الصّعوبات التي تواجه الأطفال في حفظ القرآن الكريم ربما تعود - في جزء منها- إلى أنّ المعلمات تركّز على التّحفيظ دون إعطاء الطّفل الوقت الكافي لفهم واكتساب معاني المفردات، سيّما أنّ تفكير الطّفل يكون حسيّاً في مرحلة ما، وهو غير قادر على استيعاب المفاهيم المجرّدة، ونرى هنا أنّ هذه الصّعوبات تعود في غالبيتها إلى عدم قدرة المعلّمات على تشقيق النّص القرآني ومقاربة المعنى للطّفل، إذ أن كثيراً من المعلمات ما زالت تلجأ إلى الطّريقة التلقينية في جعل الطّفل يحفظ السّور القصيرة من القرآن الكريم.(1/4)
4- تقوم هذه الطّريقة على أساس بناء أنموذج عقلي (Mental model) يمكن استخدامه في تحليل النّصوص، وهو لا ينفي الطّرق الأخرى، ولا يتعارض معها، غير أن هذا الأنموذج ربما يفتح مجالاً أوسع في عمليّات التّحليل من حيث أنه يكامل بين أكثر من طريقة، ويفسح المجال أمام استثمار ذكاء وفطنة الباحث لتوظيف أي طريقة منطقيّة غير متحيّزة من أجل الإجابة عن أسئلة الدّراسة.
هذه الطريقة تفسح المجال لاستخدام أكثر من طريقة بمعنى قد يكامل الباحث بين استخدام الطريقة السميولوجية(1)(Semiology) في تحليل نصّ ما، وفي الوقت نفسه قد يستخدم طريقة ماير (1982Mayer, ) المُسماة (Idea unit) التي تقوم على وحدة الفكرة وتحسب التّكرارات والنّسب المئوية لظهور مفهوم معين.
خطوات النّفاذية إلى النّص القرآني
تتم هذه الاستراتيجية على ثلاثة مراحل:
1- مرحلة تشرّب النّص القرآني(Text Absorption)
يقوم الفرد في هذه المرحلة بقراءة النّص قراءة واعية متأنّية الهدف منها -عدا عن الفهم
-تقسيم النّص إلى وحدات معرفية صغيرة (Facets of Knowledge) منفصلة عن بعضها وذات دلالة معرفيّة معيّنة، بحيث يحصر الباحث مرامي تفكيره (Thinking Shots) وفقاً للغرض من التّحليل، بمعنى أنه ليس بمقدور الباحث، وليس بالضرورة من أهدافه أن يرصد جميع الوحدات المعرفية(facets) الموجودة في نصّ ما وإنما يوجّه تفكيره نحو تحديد الوحدات المعرفيّة الصغيرة ذات العلاقة بموضوع البحث، وقد اقترح الكاتب مصطلح مرامي التفكير(Thinking shots) للدلالة على التفكير الموجه باتجاهات متباعدة نحو غاية محددة.
إن من أهم المهام في هذه المرحلة مهمتين:
__________
(1) وضع هذا المصطلح الفرنسي فردينالد دوسي سير(1857-1913)، ويقابله بالعربية السيميائية ويعني علم المُشار والمُشار إليه ويهتم بدراسة العلامات والإشارات داخل المجتمع.(1/5)
? تحديد الوحدات المعرفيّة البسيطة (Facets of knowledge) المختلفة في النّص بالاعتماد على الغرض من الدّراسة، والغاية من التحليل، ويكون ذلك من خلال تفكيك المركبات اللفظية والمعنوية إلى أساسيات يسلّم بها المرء دون البحث عن قابليتها للتفكيك.
? تكوين صورة عقليّة عن كل وحدة معرفيّة (Concept Image) الغاية منها فهم الوحدات المعرفيّة المختلفة، وهذه الصّور العقلية تأخذ بعين الاعتبار "البراجماتيك" أي تأثير السيّاق على المعنى، إذ قد نقول لشخص "أهلا" وتحمل معنى الترحيب، أو قد تحمل معنى الإهانة، وفقاً لنبرة الصوت، وقد نقول " أمس أفضل من اليوم" فتحمل مفردة "أمس" معنى يوماً واحداً، أو سنوات عديدة، فمفردة من نوع "أمس، أنا، أنتم، الآن، غداً" (تسمّى Deictics) تتسم بها النّصوص المتعلّقة بالسّياق، وقد تحمل أكثر من معنى في التّأويل.
ثانيا: مرحلة التشبع بالنّص القرآنيText saturation
في هذه المرحلة يقوم الباحث بالبحث عن العلاقات المستهدفة (Target Relations) بين الصّور العقليّة (Concept Images) التي كوّنها عن الوحدات المعرفيّة التي وجدها في النص القرآني، وهنا يقترح الكاتب مصطلح العلاقات المستهدفة، لأن هناك عدداً كبيراً جداً من العلاقات التّبادلية التي قد ينشئها الباحث بين مختلف الصّور العقليّة النّاجمة عن الوحدات المعرفيّة سواء على شكل علاقات ثنائية متبادلة بين صورتين عقليتين لوحدتين معرفيتين، أو على شكل علاقات ثلاثيّة بين ثلاثة صور عقليّة لثلاثة وحدات معرفيّة، وهلمّ جرّاً.
لذا فإن الباحث يبحث عن علاقات يشعر- اعتماداً على ما اصطلحنا عليه سابقاً فراسته (Perspicacity)- أنها مرتبطة بموضوع التّحليل، ويتفق هذا المنظور مع ما يسميه برونر (1986) "وقوف مؤقت بين الأقواس"(1)
__________
(1) لمزيد من الإطلاع يمكن العودة إلى: Bruner, J. (1986) Models of the learner. Educational Horizons, 64 (4), 197 200(1/6)
ويوضح الشّكل (2) بعض أشكال العلاقات المستهدفة بين الصّور العقليّة للوحدات المعرفيّة التي يكوّنها الباحث من خلال ربطه بين النّصوص القرآنية.
الشكل (2)
يوضح بعض أشكال العلاقات المستهدفة
ثالثا: مرحلة اتخاذ القرار (Decision making)
يحتاج الباحث في هذه المرحلة أن يوفّر جهداً عقليّاً وقدرات ذهنيّة كبيرة، سيما وأنّه أمام نصّ ربانيّ معجز، وأن ينوّع بين طرائق تفكيره، كالتفكير التقاربيّ والتباعديّ والنّاقد، وأن يعطي وقتاً كافياً للتفكير من أجل الاستنتاج والبناء على المقدّمات والصّور المعرفيّة التي تكوّنت لديه، فقد يبني خرائط معرفيّة، أو أشكال بيانيّة، أو رسومات، أو يعود إلى دلالات لغويّة، أو جذور تاريخيّة، وقد يعود إلى السّياقات العلميّة والفلسفيّة والاجتماعيّة والفكريّة والإنسانيّة... الخ، بما يخدم الوصول إلى نتائج تحظى بحدٍ مُعيّن من الدّلالات المقبولة في فهم النّصوص القرآنيّة.
إن من العيوب المرتبطة القضايا المتعلّقة بتحليل المضمون أنّها مُستنزِفة للوقت (Time consuming)، إذ يتم استهلاك وقت طويل في رصد الأفكار أو المفاهيم الأكثر تكراراً لمجموعة طويلة من النّصوص، خصوصاً إذا تم التّحليل بطريقة يدويّة، يؤدي إلى التّساؤل عن قيمة النتائج بمعيار الوقت المبذول للوصول إليها.
وفي المقابل نستطيع أن نقول في هذا المقام إن هناك مشكلةً من نوع آخر، وهي مشكلة التسرّع في الحكم واتّخاذ القرار، وهو ما يسميه الكاتب أعراض التسرّع والهَوَج (Reckless Syndrome)، إذ عندما يقوم الباحث بتحليل نصّ ما، ويحاول أن يخلص إلى نتيجة ما، فقد يتعب من التّفكير- سطحياً كان أم عميقاً- فإنه يُسارع لإطلاق الحكم والوصول إلى النّتيجة متحرراً من ضغط المُثير النّاجم عن سؤال الدّراسة.(1/7)
إلا أنه يمكن لنا أن نضيف مفهوماً جديداً أسمّيه هنا مفهوم اللّحظة الحرجة (Critical moment)، ويقصد الكاتب بها اللحظة التي يستطيع الباحث عندها أن ينطلق إلى اتخاذ القرار أو الوصول إلى النتيجة، ولتوضيح ذلك: لنفرض أن شخصاً لمح من نافذة بيته سيّارة تنطلق مسرعة، وعندما سئل عنها قال: استنتجُ أنها سيّارة ذاهبة إلى المستشفى، إلا أنه لو انتظر قليلاً لشاهد سيّارة الشّرطة تلاحقها، ليغيّر من نتيجته التي توصّل إليها، ولكن هل مطلوب من الإنسان أن يفني عمره متأملاً في نصّ قصير باحثاً عن وحدات معرفيّة أو مكوناً لصور عقليّة لها، أو باحثاً عن علاقات محتملة بين الصّور العقليّة التي يكوّنها عن الوحدات المعرفيّة، الجواب لا، فالباحث عندما يوظّف قدراته العقليّة بشكل منظّم هادف، يحسّ بالوقت الملائم للخروج بالنتائج، وعادة ما يشعر براحة وفرحة تشبه فرحة (يوريكا Eureka) التي اعترت أرخميدس عندما توصل إلى نظريته المعروفة، أو يحسّ بالأثر الذي تركته حبة الفتاح السّاقطة على رأس نيوتن!!
لتوضيح ذلك نسوق هنا مجموعة من الحالات والأمثلة من واقع العيادة النفسية:
حالة (1): سيدة تعاني من الاكتئاب حضرت للعيادة النفسية، قام كاتب هذه الورقة باستخدام استراتيجية النفاذية إلى النص لمواجهة الحالة.
ففي المرحلة الأولى: مرحلة تشرّب النّص بحث الكاتب عن مفردة (الحَزَن) في القرآن الكريم ليجد عشرين آية كريمة وردت فيها ككلمة ومستقلة أو كجزء من كلمة، فمن هذه الآيات الكريمة:
(وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون) سورة الزمر آية 61
(فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة الأعراف آية 35.
(وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة الأعراف الآية 48.
((1/8)
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة المائدة الآية 69.
(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة الأحقاف الآية 12.
(ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) سورة آل عمران الآية 139
(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة يونس الآية 62.
(قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) سورة البقرة الآية 38.
تم رصد الوحدات المعرفية المختلفة التي تضمنتها الآيات الكريمة السابقة مثل ( اتقى الله – فمن آمن – استقاموا- مؤمنين- تبع هداي) وهذه النماذج من المفردات مرتبطة جميعها بمفهوم الحزن من المنظور القرآني الكريم.
وفي المرحلة الثانية أي مرحلة التّشبع بالنص درس الكاتب العلاقات المتبادلة بين الوحدات المعرفية وذلك عن طريق ربط الصّور العقليّة التي تمّ تكوينها عن السّياقات المختلفة التي وردت فيها كلمة الحَزَن، لنجد أنّ هناك علاقة بين الحَزن وكلّ من التقوى والاستقامة والولاية لله والاستقامة وإتّباع الهدى.
وفي المرحلة الثّالثة أي مرحلة اتخاذ القرار توصّل كاتب الورقة إلى قرار أن المشترك بين هذه الآيات هو أربعة محاور كشروط للتّغلب على مشكلة الاكتئاب:
1. تقوى الله تعالى.
2. الإيمان بالله تعلى.
3. الولاية لله تعالى.
4. الاستقامة لله تعالى.
أما مشكلة تلك السّيدة فهي تتلخص باكتئاب حاد كشفت عنه اختبارات كلّ من (زنك) و(بيك) للاكتئاب، وهذه السّيدة فقدت حتى شعورها بالأمومة تجاه أطفالها وفقدت شعورها بكونها زوجة، وتردت حالتها الصحيّة بشكل ملفت انعكس في نقص الوزن وقلة النوم والاضطرابات السّلوكية بشكل عام.(1/9)
خضعت تلك السّيدة لكثير من جلسات العلاج العادية المرتبطة بالإرشاد النفسي، وبالتّزامن مع الجلسات العلاجيّة طلب من المريضة أن تقرأ هذه الآيات وتنفد إلى مفرداتها ومعانيها، وقد تم حثّها على تطبيق كلمات الله في حياتها بمعنى تم حثّها على أن تكون تقية لله، ومؤمنة به، مسلّمة أمرها له، مبتعدة عن المعاصي، وقد تحسّنت حالتها بشكل ملفت، ويرى كاتب هذه الورقة أنّ درجة التّحسّن مرتبطة بدرجة التقوى والإيمان والولاية لربّ العباد، وبالقدر الذي نكون نحن فيه أقرب إلى الله نكون أبعد ما نكون عن المرض النفسي.
حالة (2): في محاولة سابقة للباحث لدراسة التّدرج في القرآن الكريم نسوق مثالاً عن التّدرج وكيف تم توظيف الآيات الكريمة في سورة الأنعام في العلاج النفسي.
فقد ورد في التّنزيل الحكيم في سورة الأنعام:
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(87) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (79) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (80))(1/10)
استخدمت استراتيجية النفاذية للنّص لتحليل مضمون الآيات الكريمة، فقد يبدأ الباحث في المرحلة الأولى (تشرّب النّص) بتقسيم الآيات الكريمة إلى وحدات معرفيّة من نوع الكوكب، القمر، الشّمس، فاطر السّماوات والأرض ثم يمضي في تكوين صورة عقليّة (Concept image)عن التّدرّج الماثل في الآيات القرآنية السّابقة، وفي المرحلة الثّانية (التشّبع بالنّص) يكوّن الباحث صورة عن التّدرّج من الكوكب الصّغير، ثم إلى القمر الأكبر من الكوكب، ثم إلى الشمس الأكبر من القمر، ثم إلى الخالق الكبير، ثم يوظّف الباحث قراءاته وإطلاعه على القرآن الكريم، ليجد أن سيدنا إبراهيم عليه السلام، كان يسوق الأمثلة لقومه، للتوضيح لهم بأنّ ما يعبدونه من أصنام لا يجدي نفعاً، بل إن طريقته فيها إعمال للعقل، وحث على استخدام العقل، فالكوكب يغيب، والقمر الأكبر منه يغيب، والشّمس الأكبر من الكوكبين السّابقين تغيب، فلماذا تعبدون أشياء تغيب!! مما يُحِدثُ لدى المخاطب تنافراً معرفيّا، فيقوم بالبحث عن بديل آخر، غير أنّ سلسلة البدائل التي لجأ إليها سيدنا إبراهيم عليه السّلام، بدأت بالصّغير نحو الكبير، ليقود المخاطب إلى البحث عن الأكبر من كل هذه البدائل جميعها وهو رب العالمين، جلّ في علاه.
... هذه الآلية يطلق عليها العلماء نظريّة التّنافر المعرفي (Cognitive Dissonance ) المنسوبة إلى (Festinger, 1957)، ويرون أنّه يمكن تطبيقها في جميع أوضاع وحالات تكوين الاتجاهات، أو المعتقدات أو التّعديل عليها، وهي تقوم على إحداث تنافر معرفيّ بين وضع قائم ووضع منشود، مما يجعل المفحوص يُعمٍِلُ عقله للتّخلي عن الموقف القائم نحو الموقف المنشود إذ يبدو أنّه أكثر إقناعاً له.(1/11)
إن استراتيجيّة البدائل المضلّلة التي استخدمها سيّدنا إبراهيم مع قومه قد تمّ توظيفها في العيادة النّفسيّة نوجزها في السّطور القادمة وقد أطلق عليها الكاتب استراتيجيّة البدائل المضللة (The three misleading alternatives) وهذه الآليّة تم استخدامها مع المرضى الذين يعانون من حالات التعلّق الزّائد.
في السّطور القادمة وصف لإحدى الحالات التي تعاني من التّعلق الزّائد التي تمّ علاجها باستخدام استراتيجيّة البدائل المضللة:
طالب في الصّف العاشر كان يعاني من مشكلات أسريّة سببها أحد المطربين، حضر والده وقال بأن هذا الصبي رغم كونه الأول على صفه، إلا أنّه يعلّق على جدران غرفته صور المغني كاظم الساهر، وهو يقتني كلّ الأشياء المتعلقة بهذا المغني ابتداءً من معطفه الطّويل وانتهاء بمسبحة استخدمت مثلها إحدى النّساء التي ظهرت في إحدى أغنياته، مروراً بتربية الحمام قرب بيتهم لأنّه شاهد هذا المغني يعلف الحمام في إحدى أغنياته، ونظراً لخوف الأب من أن تتردى معدلات هذا الابن، حاول معه مرة بالإقناع وأخرى بتمزيق الصّور، وأخرى بالضرب !! غير أنه فشل تماماً.
تمت مقابلة هذا المعتاد(1)(المسترشد) في مقابلات إرشادية، لم تزد عن ستّ جلسات، تمّ التّركيز في الجلستين الأولى والثّانية على معرفة دوافع هذا الطّالب في تعلّقه بهذا المطرب، وقُبيل الجّلسة الثّالثة قام المرشد النّفسي (الكاتب) بإعداد بيانات عن جوانب الإبداع لمغني آخر، وفي الجلسة الإرشادية أصبح المرشد ينظّر لهذا المطرب كما لو كان يحبّه بصورة أكبر من محبة المعتاد (المسترشد) لكاظم السّاهر، ثم حثّ المسترشد أن يسمع لهذا المغني، وأعطاه مجموعة جيدة من أغنياته.
__________
(1) . كلمة المعتاد هي من اشتقاق الباحث وقد أجاز رؤساء مجالس اللغة العربية اشتقاقها، في مؤتمر الذخيرة العربية الذي عقد في الجزائر 2005، وهي هنا تعني الشخص الذي يزور العيادة النفسية لغايات العلاج والاسترشاد.(1/12)
بعد فترة أسبوعين تقريباً عقدت الجّلسة الرّابعة، وبعد أن أخذ المرشد من المسترشد تغذية راجعة عن رأيه في هذا المغني، ووجد أنه لاقى استحساناً لسماعه تلك الأغنيات، بدأ المرشد (الكاتب) ينّظِرُ لمغني ثانٍِ، كما لو كان هذا المغني أفضل من حيث أغنياته من المغني الأول، وحثه على أن يستمع إليه، وأعطاه مجموعة من أغنياته، طالباً منه أن يستمع لها بشغف شديد، وفي الجلسة الخامسة التي عقدت بعد أسبوعين تقريباً، طرح المرشد مغنيّا ثالثاً، وبدأ ينظّر لهذا المغني، حاثاً المسترشد على أن يستمع إليه بشغف شديد، وأن يتأمّل معاني كلماته، وأعطاه مجموعة من أغنياته ليسمعها.
في الجّلسة السّادسة التي عقدت بعد أسبوعين، حث المرشد المسترشد أن يسمع لما يريد من المغنيين، وأنّه لم يعد متشجعاً لأحد من المغنيين بشكل كبير، لأن ما يعنيه بالدّرجة الأولى هو نجاحه في عمله(1)وترك للمعتاد (المسترشد) الأفق مفتوحاً على هذا الصّعيد، وأغلق ملف المسترشد، ليعود والده بعد شهر تقريباً سائلاً عن الوصفة السّحرية التي جعلت الطّفل المراهق يتخلّى عن الصّور في غرفته، ليعلق بدلاً منها شفافيات بحث باللغة الإنجليزية فاز به على مستوى المدينة ويتعلق بمفهوم (Euthanasia) (قتل الرحمة).
كان الهدف من عرض المثال السّابق هو كيف أنّ المعالج بالقرآن يقوم بتقسيم النّص القرآني الكريم إلى وحدات معرفيّة، ويكوّن صوراً عقليّة عنها، ويحاول فهم كلّ وحدة معرفيّة على حدة ثم الرّبط بين تلك الوحدات المعرفيّة، ومن ثم الوصول إلى القرار المتعلّق بالنتائج التي يتوصّل إليها.
الأنموذج الثاني:
__________
(1)
. يلاحظ أن المعالج قد أعطى ثلاثة بدائل من المغنيين ذوي الشهرة بشكل متدرج، ثم منح المفحوص الحرية في اختيار ما يريد منوها ًإلى أن جميع البدائل المطروحة ليست جيدة، وإن المطلوب هو إعمال الفكر وهذا مطابق تماما لما فعله سيدنا إبراهيم عليه السلام.(1/13)
استراتيجية الرواقية الانفعالية ( (Emotional Stoicism
وضع جوزيف ولبي (1973 ) طريقة للاسترخاء مكوّنة من ستّ جلسات يصاحبها تمرينات يوميّة في المنزل هدفها خفض الحساسيّة التدريجي والتخفيف من درجات القلق، والمخاوف النفسية، وتتلخص في تدريب المفحوص على الاسترخاء في مكان هادئ لا مشتتات فيه ومعتم نوعاً ما، وقبل البدء بإعطاء التعليمات للمسترشد يطلب منه الاستلقاء على سرير أو مقعد مريح. ويبدأ في تمارين الاسترخاء التي تشمل جميع أجزاء الجسم على الترتيب.
إن الاستراتيجية السابقة شأنها شأن غالبية الاستراتيجيات الغربيّة المستخدمة في علاج بعض الأمراض النفسيّة تقوم على أساس الاسترخاء، غير أن المرضى سرعان ما يعودون إلى المشكلة التي يعانون منها، ولعل ذلك يعود في جزء منه إلى أن تلك الطرق لم تنبش الجرح من جهة، ولم تقدم من جهة أخرى ضماناً يمنع المرضى من العودة إلى حالاتهم المرضيّة.
لقد حفز هذا الأمر كاتب هذه الورقة لتطوير استراتيجيّة تقوم على ربط المخاوف والحالات المرضيّة التي يعاني منها المفحوص بآيات القرآن الكريم تكون ناجعة وذات أثر على الأشخاص الذين يعانون من أثر السّحر أو الأشخاص الذين يعانون من المخاوف (الرهاب- الفوبيا).
قادت الاستراتيجيات الغربيّة كاتب هذه الورقة (الجندي، 2005) لاقتراح أنموذج جديد يتلاءم مع البيئة العربية المسلمة ويستلهم القرآن الكريم في بنائه وقد أسماه الكاتب استراتيجية الرواقية الانفعالية(Emotional Stoicism)(1)
__________
(1) لمزيد من المعلومات يمكن العودة إلى الجندي، نبيل (2003). قلق الموت لدى أطفال محافظة الخليل وعلاقته ببعض المتغيرات الديموجرافية والنفسية. مؤتمر الصحة النفسية الأول، جمعية الجليل- شفا عمرو.(1/14)
في العلاج النفسي بحيث يمكّن تطبيقها من مساعدة الأشخاص الذين يعانون من المشكلات النفسيّة، وقد أوصى باستخدامها كاستراتيجية بديلة عن استراتيجيات الاسترخاء العضلي والعقلي، سيما أنّ الأشخاص الذين تطبّق عليهم استراتيجيات الاسترخاء سرعان ما يعودون إلى المواقف المقلقة ذاتها بعد فترة من الزّمن، وذلك لان تلك الاستراتيجيات لم تتعمق في مسببات القلق والمخاوف ومثيراتها، ولم توظّف ما يمنع المرضى من العودة إلى حالاتهم السابقة.
ويرى الكاتب (الجندي، 2005) أن استخدام كلمة الرواق(1)(مقاربة لرواق البيت الذي قد يفضي إلى داخله) تأتي من أن ما يحدث من انفعالات تبدأ على شكل سلسلة من الانفعالات الهامشية تتصاعد تدريجياً نحو الهدف في وضع المفحوص في صميم الموقف المقلق، بمعنى حمل المفحوص في نهاية السّلسلة إلى أن يتمثل الموقف المقلق فيتكيف معه، أو يكيفه وصولاً لحالة الاتّزان النّاجمة عن تكوين الألفة بين المفحوص والموقف المقلق والمسبب للانزعاج.
ويرى الكاتب أنّ الاتزان الذي اقترحه (جان بياجيه)(2)في نظريته المعرفية لا يمكن أن يتحقق دون شرط الإيمان بالله تعالى والتوكّل عليه وتفويض الأمر له.
مراحل استراتيجية الرواقية الانفعالية
في السّطور القادمة وصف مقتضب لهذه المراحل:
1-مرحلة استكشاف المثيرات المقلقة Diagnosing Anxious Stimulators
__________
(1) ليس للتسمية علاقة مباشرة بالفلسفة الرواقية التي اقترحها زينون 335- 265 ق. م، وإن كانت تتشارك هذه الاستراتيجية بما دعت إليه تلك الفلسفة بأن الإنسان الحكيم هو القادر على أن يتحرر من الألم والخوف والآثام بإدراك أنهم يعيشون في تناغم وانسجام مع الغرض الإلهي.
(2) لمزيد من المعلومات حول نظرية بياجيه يمكن الإطلاع على:
SATTERLY, D (1987) "Piaget and Education" in R L Gregory (ed.) The Oxford Companion to the Mind Oxford, Oxford University Press(1/15)
ويتم في هذه المرحلة الإصغاء للمفحوص في غرفة الإرشاد وجعله يتداعى تداعياً حراً أو موجهاً ثم تسجيل استجابات المفحوص (إما بالصوت أو الصورة ) ثم رصد مجموعة المثيرات التي يتوقع المرشد أنّها سبب في حالة القلق وفقاً لما يستنتجه أو يفترضه من استجابات وتداعيات المفحوص.
2-مرحلة إحداث الانفعال Inducing Emotions
وتتم هذه المرحلة على خطوتين:
أ . الإعداد: يقوم المعالج بعد تحليل المقابلات التي تمت بترتيب مثيرات الانفعال التي استنتجها من خلال تلك المقابلات الاستكشافية بشكل تصاعدي أي يرتّب المرشد المثيرات بدءاً بالمثير الهامشي وانتهاءً بالمثير الذي يتوقع أنّه جوهري وحاسم، ثم يقوم ببناء ايحاءات تخيليّة تساعد المفحوص على أن يتدرّج في تخيّل المواقف المقلقة بشكل تصاعدي لغاية الوصول إلى النّقاط الحرجة.
ب . تنفيذ إحداث الانفعال:
يتم تنفيذ المقابلة بإتباع شروط المقابلات العلاجيّة المعروفة، إلا أنّ الجديد في هذه المقابلات أنّ الفاحص يقوم بِحَث المفحوص ويقدم له الإيحاءات التخيّلية بالتدريج بحيث تبدأ من مثيرات انفعالية بسيطة، تتدرج نحو مثيرات انفعالية حرجة، وعلى المعالج أن يلاحظ النّقطة الحرجة التي ربّما يستطيع المفحوص تحمّلها ويستطيع المعالج أن يكتشفها من خلال متابعة استجابات المفحوص، وفي هذه الحالة على المعالج أن يقوم بتقديم إيحاءات انفعالية بالاتجاه المعاكس، من أجل إعادة المفحوص إلى الحالة التي بدأ منها ثم يعيد المعالج السّلسلة ذاتها غاية الوصول بالمفحوص إلى وضعيّة يكون فيها في صميم وجوهر المثير المسبب لحالة القلق أو الانزعاج.
3- مرحله مقعد القلق Anxious Bench(1/16)
إذا استطاع المعالج أن يضع المفحوص في الموقف المقلق، فإنّه يستخدم إستراتيجيات التّكرار والتّوكيد على حدوث المثير في المواقف الاعتيادية بحيث لا يعود يشكل مصدراً من مصادر الشّعور بالرّهبة أو الضّعف ومن ثمّ مساعدة المفحوص للوصول إلى حالة الاتزان أو الألفة مع مصدر التّهديد ويكون ذلك عن طريق حث المفحوص على تقبّل الموقف المثير عبر توكيد بعض الجّوانب غير المثيرة في الموقف أو تعزيز فكرة أنّ الموقف المثير لا يستحق كل هذا العناء، أو أي تعليقات مدروسة من شأنها أن تساعد المفحوص على تقبّل المثير، وجعل المفحوص يتخيل أن هذا الموقف المثير لا يستحق كل هذه الرهبة ما دام أنّه حكم خارج استطاعته (مثلاً هو ابتلاء من الله)، ومن ثمّ تحفيز المفحوص على تلاوة الآيات القرآنية وأن يتمثل مفرداتها، وأن يتيقن المفحوص بأنّ في كلام الله شفاء لعلته، وأن يتوكل على الله في أمره.
إنّ درجة توكّل المفحوص على الله في هذه المرحلة- إذا استطاع المعالج أن يغرسها في نفس المفحوص - تدل بصورة إيجابية على درجة التقدم في حل المشكلة التي يعاني منها المفحوص.
لقد نجحت هذه الاستراتيجية في علاج العشرات من الحالات التي زارت كاتب هذه الورقة في العيادة النفسية التابعة للجامعة التي يعمل فيها، هذه الحالات كانت تعاني من الشّعور بالذّنب، والفوبيا (الرهاب)، والهوس الخفيف، والسيكاثينا والبارانويا، والشّعور بأثر السّحر.
سيتم وصف لحالتين تم علاجهما باستخدام هذا الأنموذج:
الحالة الأولى:
سيّدة فلسطينية حضرت إلى العيادة النّفسية وكانت تخاف من رؤية أيّ طائر أسود يطير في الجو، إذ تتصاعد مخاوفها وتأخذ شكل النّوبات الهستيرية عند رؤية الطّيور السوداء.
مرّت السّيدة بمراحل استراتيجية الرّواقية الانفعالية المقترحة في هذه الورقة كما يأتي:
أولا- مرحلة استشكاف المثيرات المقلقة:(1/17)
خضعت السّيدة لسلسلة من المقابلات وقد تمّ توجيهها للتّداعي الحر والحديث عن المؤرّقات والمنغّصات في حياتها ومصادر التّهديد التي تتعرض لها، وقد تمّ تسجيل المثيرات والعوامل التي توقع المعالج أنّها ذات أثر على مشكلة تلك السّيدة.
- مرحلة الإعداد:
قام المعالج بتحليل الأفكار والبيانات التي سجّلها عن حالة السّيدة، والمتعلقة بمثيرات الانفعال التي استنتجها من خلال المقابلات، وقام بمساعدة السّيدة على تخيّل هذه المواقف المزعجة والمثيرة للمخاوف والقلق.
- تنفيذ إحداث الانفعال:
بدأ المعالج بعد تحديد المواقف المقلقة لتلك السّيدة بتقديم الإيحاءات التّخيلية بالتدريج، إذ قدم لها في البداية صوراً لحيوانات ثم صوراً لطيور ملوّنة وأخيراً صوراً لطيور سوداء، وعندما كانت تبدأ السّيدة بالانفعال يعيد المعالج عرض صور لأشياء جميلة أفادت بأنها تحبّها قبل تقديمها لها في هذه الجلسة، وهكذا تم عرض الصّور بشكل متعاقب بين صورٍ تحبّها وصورٍ تسبب لها المخاوف لغاية تكوين ألفة بينها وبين الموقف أو المثير المقلق.
- مرحلة مقعد القلق:
استطاع المعالج (الكاتب) أن يضع تلك السّيدة في الموقف المقلق لها، وقد كانت منفعلة بشكل كبير مع تدرّج في عرض الصّور أمامها وأخيراً تم عرض طائر (غراب) في قفص ليضعه في غرفة العلاج وطلب منها أن تسلّط نظرها على هذا الطائر.
كانت السيدة منفعلة وتبكي وقد منح المعالج الفرصة لتلك السّيدة لتتلو سورة قريش، والآية 55 من سورة النور (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).(1/18)
كما وتلت السّيدة مجموعة أخرى من الآيات الكريمة المرتبطة بالخوف والحَزَن، كان المعالج قد حدّدها بشكل مسبق وطلب من السّيدة أن تحفظها وتتمثل معانيها، وعندما كانت السّيدة تنتهي من القراءة يطلب منها أن تتداعى، وفي هذه المرحلة صرّحت السّيدة بأن ما كانت تراه ليس طائراً بل طائرة (أباتشي) إسرائيلية كانت قد ضربت بيت أحد جيرانها في العام 2001، وكانت أول من وصل إلى البيت المهدّم، وكانت أول من لاحظ جثّة أحد الشّهداء الذي وجدت أنّ أحد أعمدة البيت قد انهارت عليه، وقد وصل المعالج بالسّيدة إلى مرحلة تسليم الأمر لله والتوكل عليه مما جعلها تتيقن من أنّها لم تعد تخاف من رؤية الطّيور السّوداء، أو الطائرات، وأن ما حدث لذلك الشهيد يحدث للعشرات من أبناء الشعب الفلسطيني، وأن الله قد كتب له الشهادة، وأنها لن تعود إلى الخوف من الطائرات ولا من الطيور السوداء، وفي آخر المطاف وقفت قرب القفص وكانت تعلف الطائر الموجود بداخله، ولم تعد إلى تلك الحالة نهائياً. ويرى كاتب الورقة أن شفاء تلك السّيدة يعود بالدرجة الأولى إلى تكوين ألفة بينها وبين الموقف المقلق والعامل الأهم في تكوين هذه الألفة هو تمثّل تلك السّيدة لآيات القرآن الكريم التي تعنى بالخوف والقلق والفزع، وتوكلها على الله، وتسليم الأمر له.
الحالة الثانية:
طالبة في المرحلة الثانوية عادت من المدرسة بعد أن فقدت الوعي وأصبحت تقول كلاماً دون معنى وتشتم معلماتها بطريقة بشعة، قامت بزيارة كاتب هذه الورقة في العيادة النفسية، وقد استخدم الكاتب استراتيجية الرواقية الانفعالية لمواجهة حالة هذه الطالبة.(1/19)
في مرحلة استكشاف المثيرات المقلقة حظيت الطّالبة بمجموعة من الجلسات، وأخيراً تم الاتفاق على زيارتها في بيتها بعد جمع المعلومات عن أسرة الطالبة، تم الطلب منها أن تسترخي على أريكة بحضور والدها ووالدتها، تم استخدام استراتيجية الاسترخاء العقلي والبدني التي اقترحها جوزيف ولبي، وطلب منها أن تتحدث عن حالتها قالت وهي في حالة من الاسترخاء وإغماض العيون، قالت كنت أنكش في الحديقة وإذ بي أجد (حجاباً(1) (
__________
(1) الحجاب هنا - ما يطلقه الفلسطينيون على رزمة من القماش تحتوي على أوراق أو مواد يكتبها أحد العرافين لغايات تدمير شخص أو إسعاده، ويدفع الذي يطلبها من العراف مبالغ مادية مقابل ذلك، وقد ترمى أمام بيت الشخص المستهدف أو تذوب له في الماء أو الشاي الخ..(1/20)
أي العمل السحري ) وبدأت تتأثر قليلاً، وهنا بدأت مرحلة إحداث الانفعال إذ تم الإيعاز لها بأن تتداعى وتعبر عن كل ما يمكن أن يؤرقها، كما وطلب منها قراءة المعوذتين، وتعيد قراءتها بصوت خافت، وأن تتسلح بكلام الله سبحانه وتعالى، وتم التوكيد لها بأن كلام الله تعالى سيشفيها من الحالة التي تعاني منها، كما طلب منها أن لا تخرج (الحجاب- العمل السحري) من أمام مخيلتها، إذ أننا سنتغلب عليه بالقرآن الكريم، وكلما كانت تنتهي من قراءة المعوذتين يطلب منها أن تدلي بمعلومات إضافية عن (الحجاب- العمل السحري)، وأخيراً استطاع المعالج أن يدخل الطالبة في مرحلة مقعد القلق إذ طلب منها أن تفتح ذلك العمل السحري من خلال ما تتذكره من ملامح ذلك العمل، وهنا بدأت أوداجها بالانتفاخ بشكل ملفت أضطر والدها لفك المنديل الذي تلبسه، وقد شعرت بالاختناق، بدعوى أن رائحة ما بداخله خانقة، وفي غفلة منها طلب من أمّها أن تحضر شيئاً من عطور ابنتهم المفضلة ثم طلب منها أن تشم تلك العطور لتفيد أن الرائحة التي تشمها هي نفس رائحة الآسنة التي تشمها من داخل (الحجاب)، وفي كل مرة طلب منها أن تتسلح بالمعوذتين، وتعيد قراءتها بصوت خافض وأن تكون على يقين بأن الله سوف يشفيها بآياته العطرة.
وفي المرحلة الأخيرة طلب من الطالبة أن تسترخي، وقد أكد المعالج لها أن ما شمته ما هو إلا عطور من عطورها، وقد استرخت الطالبة على سريرها لمدة خمس دقائق لتفيق بعدها بشكل صاخب وهي تصرخ لقد عرفتها لقد عرفتها (أي من وضع لي العمل السحري)، سوف أخنقها.. سوف أخنقها.. اتركوني الحق بها، وأعلنت أن تلك المرأة التي وضعت لها ذلك العمل السحري قد قالت لها لقد غلبتني وأنّها ولت هاربة ولن تعود، وهنا صرحت لأسرتها بأنها شفيت وعادت إلى طبيعتها في جو مفرح وقد بكى جميع أفراد الأسرة فرحا لشفاء ابنتهم.(1/21)
إن النّماذج السّابقة هي حالات من واقع العيادة النفسية التي حظيت بتوظيف القرآن الكريم في حالات العلاج النفسي، مع العلم أنّ هناك عشرات الحالات التي تم علاجها، إما بشكل كامل أو بشكل جزئي.
إن طرح هذه النماذج هو فقط لغايات الاستئناس بها في العلاج أو التطوير عليها لغايات مواجهة الأمراض النفسية وعلاجها بالقرآن الكريم، رغم إقرار الكاتب أنّ هذه النماذج تحتاج إلى مزيد من الاختبار والتجريب.
المراجع
الجندي، نبيل. (2005) بناء بطارية اختبار للكشف عن القلق النفسي، الخليل، دار الهدى للطباعة والنشر.
الجندي، نبيل. (2006) النص بين التحليل الدلالي والتحليل المفاهيمي، مؤتمر النص بين التحليل والتأويل، جامعة الأقصى- غزة.
الجندي، نبيل (2005). طرق مقترحة لتحليل النصوص – مراجعات تربوية، الندوة الإقليمية التابعة لليونسكو، القاهرة 26-29 نيسان 2005
الجندي، نبيل (2003). قلق الموت لدى أطفال محافظة الخليل وعلاقته ببعض المتغيرات الديموجرافية والنفسية. مؤتمر الصحة النفسية الأول، جمعية الجليل- شفا عمرو، فلسطين.
Abernethy, A. M., & Franke, G. R. (1996).The information content of advertising: a meta-analysis. Journal of Advertising, Summer 25 (2),1-18.
Berelson, B. (1971). Content analysis in communication research. New York: Hafner Publishing Company.
Bruner, J. (1986) Models of the learner. Educational Horizons, 64 (4), 197 200
Carley, K. (1990). Content analysis. In R.E. Asher (Ed.), The Encyclopedia of Language and Linguistics. Edinburgh: Pergamon Press.
Carley, K., & Palmquist, M. (1992). Extracting, representing and analyzing mental models. Social Forces, 70 (3), 601-636.
Dale, E. (1969). Audio-visual methods in teaching. New York: Dryden, 3rd edition.(1/22)
Festinger, L. (1957). A Theory of Cognitive Dissonance. Stanford, CA: Stanford University Press
Irving B. Weiner. (1998). Principals of Rorschach Interpretation. New Jersey, Lawrence Erlbaum Associates, Inc.
Kirk.J. & Miller. M. (1985). Reliability and Validity in Qualitative Research. USA, Sage Publications, Inc.
Mayer, R. E. (1982) Memory for algebra story problems. Journal of Educational psychology, 74, 199-216.
Palmquist, M. E. (1990). The lexicon of the classroom: language and learning in writing class rooms. Doctoral dissertation, Carnegie Mellon University, Pittsburgh, PA.
Quilliam. S. (2004). Body Language, New York, Fire Fly Book inc.
Roberts, C.W. (1989). Other than counting words: A linguistic approach to content analysis. Social Forces, 68, 147-177.
Satterly, D (1987) "Piaget and Education" in R L Gregory (ed.) The Oxford Companion to the Mind Oxford University Press
Vinner, S. (1983). The concept definition, concept image, and the notation of function. International Journal of Mathematics Education in Science,6 (2).
Wolpe, J. (1973). My philosophy of psychotherapy. Journal of Contemporary Psychotherapy, 6, 59–62. Woodford,(1/23)