نظرية الذمة في الشريعة والقانون وعلاقتها بالميراث والوصية
إذا كانت الملكية استخلافًا إلهيًّا ومنحةً ربانيةً فإن الذمةَ كذلك منحةٌ أكرمنا الله سبحانه وتعالى بها، وجعلها قطب الرحى في الحقوق، فصار الإنسان بالذمة أهلاً لوجوب الحقوق له وعليه، فلا يُخلَق الإنسان إلا وله هذه الذمة وهذا العهد، فما معنى مصطلح الذمة؟ ومتى تبدأ؟ ومتى تنتهي؟ وما خصائصها؟ وما الفرق بين الذمة في الفقه الإسلامي والذمة في الفقه الغربي والقانون الوضعي؟! وما علاقتها بأحكام الميراث والوصية؟!
هذا ما سأتناوله فيما يلي:
المبحث الأول: نظرية الذمة(1) في الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالميراث والوصية
المطلب الأول: تعريف الذمة
* الفرع الأول: تعريف الذمة لغةً:
جاء في (تاج العروس): "والذمام والمذمة: الحق والحرمة، جمع أذمة، ويُقال الذمام، كل حرمة تلزمك إذا ضيعتها المذمة، ومن ذلك الذمة- بالكسر- العهد، ورجل ذِمي أي له عهد، والذمة: الكفالة والضمان"(2)، وقال الزمخشري: "ولفلان ذمة وذمام ومذمَّة: عهد يلزم الذم مضيعه".
ويوصف به المكان فيقال: هذا المكان مذمَّم: محرم له ذمة وحرمة"(3)، وفي مختار الصحاح(4): والذِّمام: الحرمة، وأهل الذمة: أهل العقد، وجاء أيضًا: الذمة الأمان في قوله- صلى الله عليه وسلم-: "ويسعى بذمتهم أدناهم"(5)، وجاء في التعريفات: "الذمة لغةً: العهد؛ لأن نقضه يوجب الذم"(6).
وفي لسان العرب(7) ".. الذِّمة والذِّمام وهما بمعنى العهد والأمان والضمان والحرمة والحق..".
وقال الفيروز آبادي(8): "والذمة- بالكسر- العهد والكفالة".
ومنه يتبيَّن لي أن الذمة تطلق عند علماء اللغة على معاني عدة منها: العهد، الحرمة، الضمان والكفالة، كما يطلقونها على الحق ذاته، رغم أنها- كما سيتبين لي بعد عرض التعريف الاصطلاحي- محلّ الحق وليست الحق ذاته.
* الفرع الثاني: تعريف الذمة اصطلاحًا:(1/1)
أُشكل تعريف الذمة على كثيرٍ من الفقهاء، خاصةً المتقدمين منهم؛ وذلك لالتباسها مع ما يُسميه الفقهاء والأصوليون بأهلية الوجوب، أو أهلية المعاملة، وإلى هذا أشار القرافي حين قال: "اعلم أن الذمة أُشكلت معرفتها على كثيرٍ من الفقهاء، وجماعة يعتقدون أنها أهلية المعاملة.."(9)، ثم إن القرافي عرف الذمة فقال: "العبارة الكاشفة عن الذمة أنها معنى شرعي مقدَّر في المكلف قابل للالتزام واللزوم"(10)، وأشار إلى شروطها، فقال: "وهذا المعنى جعله الشرع مسببًا على أشياء خاصة منها البلوغ ومنها الرشد، فمَن بلغ سفيهًا لا ذمة له..."(11)، وإلى هذا ذهب تاج الدين السبكي حين قال: "قال علماؤنا الذمة معنى مقدَّر في المكلف قابل للالتزام واللزوم، وهذا المعنى جعله الشرع مبنيًا على أمور، منها البلوغ، فلا ذمة للصغير ومنها الرشد فمَن بلغ سفيهًا لا ذمة له.."(12).
وجاء في التعريفات: "ومنهم مَن جعلها وصفًا، فعرَّفها بأنها وصفٌ يصير الشخص به أهلاً للإيجاب له وعليه، ومنهم من جعلها ذاتًا فعرَّفها بأنها نفسٌ لها عهد، فإن الإنسان يولد وله ذمة صالحة للوجوب له وعليه، عند جميع الفقهاء بخلاف سائر الحيوانات"(13).
ومن المحدثين عرفها مصطفى الزرقاء: "هي محل اعتباري في الشخص تشغله الحقوق التي تتحقق عليه" (14)، وعرفها أبو زهرة: "أمر فرضي اعتباري، يُفرض ليكون محلاًّ للالتزام و الإلزام"(15).
وجاء في أحد شروح مجلة الأحكام العدلية(16) أن الذمة اصطلاحًا بمعنى النفس والذات، ثم قال المؤلف: "ولهذا فسَّرت المادة 612 الذمة بالذات، وفي اصطلاح علم أصول الفقه وصف يصير به الإنسان أهلاً لماله وما عليه- ومثل الشارح لذلك فقال-: إذا اشترى شخص مالاً كان أهلاً لتملك منفعة ذلك المال، كما أنه يكون أيضًا أهلاً لتحمل مضرة دفع ثمنه المجبر على أدائه".(1/2)
إلى أن يقول -حول سعة نطاق الذمة- : "والذمة وإن لم تك هي نفس عقل الإنسان فللعقل دخل فيها و لذا فالحيوانات العجم لا توصف بالذمة".
وعرفها عبد الوهاب خلاف: "الذمة هي الصفة الفطرية الإنسانية التي بها ثبت للإنسان حقوق قبل غيره، ووجبت عليه واجبات لغيره"(17)، وقال عنها الخضري بك- في معرض الحديث عن أهلية الوجوب- "وأهلية الوجوب تكون بالذمة وهي الوصف الشرعي الذي يكون الإنسان محلاً لأن يجب له وعليه"(18).
وإلى هذا المعنى نفسه ذهب السنهوري حين قال: "الذمة في الفقه الإسلامي هي وصف شرعي يفترض الشارع وجوده في الإنسان ويصير به أهلاً للإلزام والالتزام، أي صالحًا لأن يكون له حقوق وعليه واجبات"(19).
وهذا التعريف الأخير اختاره محمد زكي عبد البر(20) وعرف به الذمة- أي نقله عن السنهوري- وحول نطاق الذمة ذهب أيضًا مذهب السنهوري فقال: "والذمة في الفقه الإسلامي لا تقتصر على ما في الإنسان من الصلاحية للتملك والكسب، أي على نشاطه الاقتصادي فحسب، بل هي وصف تصدر عنه الحقوق و الواجبات جميعها، سواء كانت غير مالية كالصلاة..أو كانت مالية ذات صبغة دينية كالزكاة..ومن ثم كان نطاق الذمة واسعا في الفقه الإسلامي...".
وفي إحدى تعليقات محمد الخضر حسين على الموافقات جاء ما يلي:
"الذمة كون الإنسان قابلاً للزوم الحقوق والتزامها شرعًا"، واشترط هو الآخر البلوغ والرشد كما هو شأن القرافي وتاج الدين السبكي- فقال: ".. وهذا المعنى إنما يتحقق في البالغ الرشيد فإن قلنا أن للصبي ذمة أيضًا كما يراه بعض الفقهاء اقتصرنا في تعريفها على كون الإنسان قابلاً للزوم الحقوق، فيتناول التعريف الصبي؛ لأنه وإن كان لا يقبل التزام الحقوق من نحو البيع والهبة يقبل لزوم بعضها كإرش الجنايات وقيم المتلفات"(21).(1/3)
ولا رأى فرقًا بيَّنا بين هذه التعريفات، فإن اختلف في كون الذمة إما وصفًّا شرعيًّا، أو أمرًا اعتباريًّا، أو صفة فطرية، أو معنى مقدرًا فإنها متفقة جميعها في كون الذمة هي محل الإلزام والالتزام.
وبها يصير الإنسان أهلاً للحقوق والواجبات، وإن وسع البعض في نطاقها وشروطها ضيق البعض نطاقها وقيدها ببعض الشروط، كالبلوغ والرشد، كما عند القرافي والسبكي، فهذه التعريفات مختلفة لفظًا لا معنى.
هذا ويتداول علماء الأصول خاصةً مصطلحًا آخرًا وطيد الصلة بالذمة هو مصطلح أهلية الوجوب فما الفرق بين المصطلحين؟ وما العلاقة بينهما؟
هذا ما سأتناوله في المطلب الآتي:
المطلب الثاني: الذمة وأهلية الوجوب
هناك علاقة وطيدة بين مصطلحي الذمة وأهلية الوجوب إلى درجة توهم أحيانًا أنهما مترادفان، فلا يخلو حديث عن أهلية الوجوب من الحديث عن الذمة، وكذلك العكس.
وإلى هذه الصلة الوثيقة يشير السنهوري(22) حين يقول: "ولما كانت هذه الصلاحية التي ترتبت على ثبوت الذمة يسميها الفقهاء بأهلية الوجوب، إذ يعرفون هذه الأهلية بأنها صلاحية الإنسان للحقوق، والواجبات المشروعة؛ فإن الصلة ما بين الذمة وأهلية الوجوب صلة وثيقة، فالذمة هي كون الإنسان صالحًا؛ لأن تكون له حقوق وعليه واجبات، وأهلية الوجوب هي هذه الصلاحية ذاتها، والذمة تلازم الإنسان، إذ يولد الإنسان وله ذمة بحكم أنه إنسان، ومن ثَمَّ ثبتت له أهلية الوجوب، فأهلية الوجوب تترتب على وجود الذمة".(1/4)
ويقول عبد الوهاب خلاف معرفًا أهلية الوجوب: "هي صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات وأساسها الخاصة التي خلق الله عليها الإنسان و اختصه بها من بين أنواع الحيوان وبها صلح لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات وهذه الخاصة هي التي سماها الفقهاء الذمة"(23)، ثم يورد الفكرة نفسها فيقول: "وهذه الأهلية- أي أهلية الوجوب- ثابتة لكل إنسانٍ يوصف أنه إنسان سواء أكان ذكرًا أم أنثى، سواء أكان جنينًا أم طفلاً أم مميزًا أم بالغًا أم راشدًا أم سفيهًا عاقلاً أو مجنونًا، صحيحًا أم مريضًا؛ لأنها مبنية على خاصة فطرية في الإنسان" (24) ويقصد الذمة طبعًا.
فما هذه العلاقة الوطيدة بين الذمة وأهلية الوجوب؟ وفيما تتمثل الصلة الوثيقة بينهما على حدِّ تعبير السنهوري؟ وكيف تمثل الذمة الأساس لأهلية الوجوب على حد قول عبد الوهاب خلاف؟ ربما هذا الذي يجيب حوله وهبة الزحيلي حين قال: "الأهلية هي الصلاحية، والذمة محل الصلاحية"(25).
ويتسع نطاق أهلية الوجوب عند بعض الفقهاء ليكون بمعنى الإنسانية "ولا يوجد إنسان عديم أهلية الوجوب لأن أهليته للوجوب هي إنسانيته"(26)، وبهذا تلتقي أهلية الوجوب مع الذمة في معنى الإنسانية كما جاء في مصادر الحق(27) "أن الذمة لا يُراد بها إلا نفس الإنسان".(1/5)
إلا أن القرافي من المتقدمين قرر تباين وتغاير الحقيقتين- الذمة وأهلية المعاملة- فقال: "فإذا قلنا زيد له ذمة معناه أنه أهل لأن يعامل وهما حقيقتان متباينتان بمعنى أنها متغايرتان"(28)، وأوضح هذا التباين فقال: "وتحقيق التغاير بينهما أن كل واحد من هاتين الحقيقتين أعم من الأخرى من وجه وأخص من وجه فإن التصرف يوجد بدون الذمة والذمة توجد بدون أهلية التصرف ويجتمعان معًا كالحيوان والأبيض.. "(29)، ومثل لذلك بالصبي المميز له أهلية التصرف وليس له ذمة باتفاق الجميع- على حدِّ قول القرافي- وتوجد الذمة بدون أهلية التصرف كالعبد المحجور عليه لحق سيده.. وتوجد أهلية التصرف والذمة معًا في حق الحر البالغ الرشيد..(30).
وأشار إلى فرق آخر أيضًا وهو شرط التكليف فقال: "ووقع الفرق أيضًا من حيث السبب فإن الذمة يشترط فيها التكليف من غير خلاف أعلمه بخلاف أهلية التصرف فقد وضح الفرق بينهما"(31).
وعلق ابن الشاط(32) على هذا الفرق الأخير فقال: إذا صح الاتفاق على اشتراط التكليف في الذمة فلا ذمة للصبي ويتعين حد الذمة أو رسمها بأنها قبول الإنسان شرعًا للزوم الحقوق ودون التزامها.."(33).
فقول ابن الشاط: "إذا صح الاتفاق" عبارة تشكك في الإجماع الذي أشار إليه القرافي في أكثر من موضع حول اشتراط التكليف في الذمة و هذا ما لم يشترطه الفقهاء المحدثون، ومنه يكون نطاق الذمة عند المحدثين أوسع منه عند المتقدمين.
وبعد عرضي لآراء العلماء المتقدمين منهم والمتأخرين أرى أن الذمة أوسع من أن تكون للبالغ الرشيد فحسب، فهي وصف شرعي يفرض في الإنسان ليكون محلا للحقوق والواجبات.
ولبيان الأمر أكثر أجد نفسي ملزمة ببحث مسألة بدء الذمة، فمتى تبدأ الذمة؟ هذا ما سأحاول الإجابة عنه في المطلب الآتي:
المطلب الثالث: بدء الذمة وعلاقته بالميراث والوصية(1/6)
فقد يتبادر إلى الذهن من ظاهر العبارة التالية للسنهوري: "فأهلية الوجوب تترتب إذن على وجود الذمة"(34)، أن الذمة سابقة في الوجود لأهلية الوجوب، وكذا المعنى نفسه قد يتبادر من ظاهر هذه العبارة -حول أهلية الوجوب-: "وأساسها الخاصة التي خلق الله عليها الإنسان واختصه بها.."(35).
وكذا عبارة- قيلت في معرض الكلام عن أهلية الوجوب أيضًا- ".. وأساس ثبوتها وجود الحياة أو الصفة الإنسانية ولا علاقة لها بالسن أو العقل.."(36)؛ وذلك أن الأساس هو ما يبنى عليه غيره.
وحول ثبوت أهلية الوجوب للجنين، قال عبد الوهاب خلاف: "إن أهلية الوجوب ثابتة للجنين ولكنها ناقصة، فتثبت له حقوق مثل الإرث والوصية، ولكن لا تجب عليه لغيره واجبات"(37).
بينما أشار وهبة الزحيلي(38) إلى بدء الذمة وأهلية الوجوب معًا فقال: "وتبدأ الأهلية ناقصة منذ بدء تكون الجنين، وتكمل أهلية الوجوب بالولادة، و بالولادة تبدأ الذمة مع بدء تصور وجود العنصر الثاني من تلك الأهلية وهو عنصر المديونية أو الالتزام".
وقال محمد زكي عبد البر- حول بدء الذمة- "وتبدأ الذمة ببدء حياة الإنسان وهو جنين فتكون له ذمة قاصرة إذ يجوز أن يرث ويوصى له وأن يوقف عليه، ثم يولد حيًّا فتتكامل ذمته شيئًا فشيئًا في المعاملات والعبادات والحدود، حتى تصير كاملةً وتبقى ذمة الإنسان ما بقي حيًّا"(39).
وربما تناقضًا ما قد أُلاحظه من خلال هذه العبارات المختلفة المعاني، لكنه يزول حين يعرف أنه مبني على مسألة موضوعية أخرى مفادها: "هل الجنين جزءًا من أمه يقر بقرارها وينتقل بانتقالها فيحكم بعدم استقلاله فتنتفي عنه الذمة فلا تجب له ولا عليه فلا يرث ولا يوصى له أو ينظر إليه من جهة كونه نفسًا بحياة فيحكم بثبوت الذمة له فهو أهل لأن يجب له وعليه فيرث وتصح الوصية له".(1/7)
واختلف الفقهاء حول ترجيح إحدى الجهتين على الأخرى، فرجح الخضري بك أنه لا ذمةَ ولا أهليةَ وجوب، واشترط الانفصال حيًّا فقال: "وعندي لا إرث له وهو جنين؛ لأن سبب الإرث الولد وشرطه الانفصال حيًّا فلا يثبت له المال الموروث إلا بالانفصال حيًّا؛ ولذلك لو انفصل ميتًا لا يوزع المال على ورثته، وإنما يوزع على ورثة المورث كأنَّ الجنين لم يكن وكذلك الوصية فإن الموصى به يرجع إلى ورثة الموصي لا إلى ورثة الجنين"(40)، فعنده تتم الذمة بالولادة حيًّا، ومعها تثبت أهلية الوجوب فيجب له وعليه: "متى انفصل الجنين حيًّا ثبت استقلاله فتمت ذمته فصار أهلاً لأن يجب له وعليه، ولكن فيما عليه تفصيل.."(41) وأشار إلى التفصيل.
أما السنهوري فذهب إلى القول بإرث الجنين وجواز الوصية له حيث قال: "وتبدأ الذمة ببدء حياة الإنسان وهو جنين، فتكون له ذمة قاصرة، إذ يجوز أن يرث وأن يوصى له وأن يوقف عليه، ثم يولد حيًّا فتتكامل ذمته شيئًا فشيئًا، في المعاملات والعبادات والحدود حتى تصير كاملةً، وتبقى ذمة الإنسان ما بقي حيًّا"(42)، ومنه أصنف آراء الفقهاء المتأخرين حول هذه المسألة في مجموعتين:
المجموعة الأولى: الذين يذهبون إلى أن الجنين جزءٌ من أمه يقر بقرارها وينتقل بانتقالها، فيحكم بعدم استقلاله فتنتفي عنه الذمة فلا يجب له ولا عليه منهم الخضري بك.
المجموعة الثانية: الجنين نفس مستقلة بحياة فله ذمة وهو أهل لأن يجب له وعليه منهم: عبد الوهاب خلاف، السنهوري، وهبة الزحيلي، محمد زكي عبد البر.
الترجيح:(1/8)
وربما الرأي الذي أرجحه بناءً على معطيات علمية(43) وصل إليها العلم الحديث بفضل وسائله الحديثة المتطورة، والإسلام لا يتنافى والعلم الصحيح، بالإضافة إلى أن هذا الرأي، ذهب إليه معظم الفقهاء، وهو أن الجنين ليس جزءًا من أمه يقر بقرارها، وينتقل بانتقالها، بل هو نفس بحياة مستقل عن أمه في الكثير من الأمور، ومنه تثبت له الذمة مستقلة عن ذمة أمه، ومنه فهو أهل للحقوق فيرث، وتصح الوصية له، ويوقف عليه.
هذا عن بدء الذمة، فماذا عن انتهائها وما علاقة ذلك بالميراث والوصية؟
هذا ما سأبحثه في المطلب التالي:
المطلب الرابع: انتهاء الذمة وعلاقته بأحكام الميراث والوصية
وللفقهاء حول انتهاء الذمة آراء ثلاثة هي:
الرأي الأول(44): وهو للحنفية
ومفاده أن الموت لا يهدم الذمة ولكن يضعفها، ومنه يترتب على هذا أن الديون عند أصحاب هذا الرأي تتعلق بالذمة والتركة معًا؛ لأن الذمة صارت ضعيفة بالموت.
قال أبو زهرة:- بعد جوابه بإسهاب حول سؤال طرحه هل تنتهي ذمة الميت بالوفاة أم لا؟- "إن الميت له ذمة ما دامت له تركة ومن تسدد ديونه، أو لم تنفذ وصاياه، حتى إذا سددت الديون ونفذت الوصايا، لم تبق له ذمة قط، وإذا انقطعت كل الالتزامات والحقوق، وصار من الغابرين، وقبل أن تسدد الديون تكون متعلقة بالذمة والتركة معًا؛ لأن الذمة وحدها لا تتحمل الديون، إذ قد صارت ضعيفة بالموت وإن كان لم يزلها، فلا تقوى على احتمال الديون وحدها فضمت إليها التركة، لكي يمكن أن تستوفى الديون، بتتبع الأموال، لأنه وإن كانت ذمة الميت باقية لا يمكن تتبعه ليؤدي، فأقيم تتبع المال مقام تتبعه، ليستوفى من المال، بدل أن يلزم بالأداء من لا يمكن إلزامه"(45).
الرأي الثاني(46): وهو للمالكية والشافعية وبعض الحنابلة
ومفاده بقاء الذمة بعد الموت حتى إيفاء الديون وتصفية التركة.(1/9)
واستدل هذا الفريق بقوله - صلى الله عليه وسلم- : "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه"(47)، بل وقد ثبت للشخص بعد الوفاة حقوق جديدة لم تكن ثابتة إذا باشر أسبابها في حياته وتكون عليه واجبات جديدة إذا باشر أسبابها في حياته أيضًا.
وضرب الفقهاء لذلك مثلاً كمن نصب شبكةً للاصطياد، فوقع فيها حيوان فإنه يملكه ويدخل إلى تركته كسائر أملاكه، وكثمن المبيع الذي رده المشتري على البائع بعد موته بسبب عيب ظهر فيه، وكالتزامه بضمان قيمة ما وقع في حفرة حفرها الشخص قبل موته في الطريق العام.
الرأي الثالث: وهو للحنابلة في رواية عندهم(48)
ومفاده انهدام الذمة بمجرد الموت ودليلهم على ذلك أن الذمة من خصائص الشخصية، والموت يعصف بالشخص وبذمته ويترتب على هذا أن الديون تتعلق عند أصحاب هذا الرأي بالتركة، فمن مات ولا تركة له سقطت ديونه.
الترجيح:
والرأي الذي أراه أرجح و أصوب وأقرب إلى الحق، هو الرأي القائل ببقاء الذمة بعد الموت حتى إيفاء الديون، وتصفية التركة لاستناده إلى نص والله أعلم.
فماذا عن الذمة في القانون الوضعي؟ وما الطبيعة القانونية للذمة المالية؟ وما الفرق بين الذمة في الفقه الإسلامي والذمة في الفقه الغربي؟ هذا ما سأجيب عنه من خلال المبحث الآتي:
المبحث الثاني: نظرية الذمة في القانون الوضعي وعلاقتها بالميراث والوصية ومقارنة ذلك بالفقه الإسلامي
المطلب الأول: تعريف الذمة في القانون الوضعي
يقرر علماء القانون أن من الخصائص المميزة لشخصية الإنسان ذمته المالية، وهي بحسب علماء الفقه الغربي وعلى رأسهم أوبري ورو: "مجموع الحقوق الموجودة أو التي قد توجد والالتزامات الموجودة أو التي قد توجد لشخص معين"(49).
ومنه فقد عرفها رجال القانون –وربما اقتباسا من هذه النظرية-: "أنها مجموع ما للشخص من حقوق وما عليه من التزامات ذات قيمة مالية"(50).
المطلب الثاني: الطبيعة القانونية للذمة المالية(1/10)
وعن طبيعة الذمة المالية القانونية يقرر رجال القانون بناء على ماهيتها أنه مادامت الذمة المالية عنصراها الحقوق المالية، والالتزامات المالية، فمعنى ذلك أنه تخرج من نطاق الذمة المالية كافة الحقوق غير المالية مثل حق الحياة، وحق سلامة الجسم، و غيرها من الحقوق العامة للإنسان.
وكذلك حق التأديب على الابن وحق الطاعة على الزوجة، كما تخرج أيضا كافة الالتزامات غير المالية، مثل: واجب أداء الخدمة الوطنية وهو من الواجبات العامة للمواطن..(51).
المطلب الثالث: الفرق بين الذمة في الفقه الإسلامي والذمة في الفقه الغربي
خص السنهوري(52) وجوه الخلاف بين الذمة في الفقه الإسلامي والذمة في الفقه الغربي فيما يلي:
1- الذمة في الفقه الإسلامي وصف تصدر عنه الحقوق والواجبات المالية وغير المالية، أما الذمة في الفقه الغربي فلا تشمل إلا الحقوق والالتزامات المالية.
2- وحتى في نطاق المال: تبدأ الذمة في الفقه الإسلامي بالشخص ثم تنتهي إلى المال"وفي الديون دون غيرها" أما الذمة في الفقه الغربي فتبدأ بالمال ثم تنتهي إلى الشخص.
3- والذمة في الفقه الإسلامي لا تجعل المال مجموعًا تفنى فيه عناصره كما هي حال الذمة في الفقه الغربي،
ولا يكون المال مجموعا في الفقه الإسلامي حتى عند الحجر أو مرض الموت وحتى بعد الموت، ففي هذه الأحوال الثلاثة تتعلق الديون بمالية الأعيان لا بذواتها كما في الرهن ولكن مال المدين لا يكون مجموعا كما في الفقه الغربي بل إنه لا يوجد تلازم بين الذمة والتركة في الفقه الإسلامي، فقد تبقى الذمة قائمة وتنتقل التركة مع ذلك إلى الورثة.(1/11)
ثم يشير السنهوري إلى الفرق الجوهري في هذه الفروق فيقول: "ويمكن القول بوجه عام أن الفرق الجوهري ما بين الذمة في الفقه الإسلامي، والذمة في الفقه الغربي هو أن الفقه الإسلامي ينظر إلى الذمة كشخصية قانونية لا كمجموع من المال، ومن ثم سهل على الفقهاء المحدثين أن ينسبوا الذمة في الفقه الإسلامي الخصائص التي يفرعها الفقه الغربي على فكرة الشخصية القانونية فيقولون إن الذمة لا تثبت إلا لشخص و إن لكل شخص ذمة، وأن الشخص الواحد لا تكون له إلا ذمة واحدة"(53).
ولم يذكر القانون المدني الجزائري الذمة وأحكامها، وإنما اكتفى بذكر الأهلية وأحكامها في المواد 40-42-43-44-45 من القانون المدني الجزائري (54).
------------
* د. صليحة بنت عاشور أستاذ مساعد- جامعة قاصدي مرباح- ورقلة- الجزائر
------------
** الهوامش:
(1) هذا ما عنون به السنهوري حين تحدث عن الذمة بقوله: نظرية الذمة في الفقه الإسلامي، وقد أشار إلى أن الفقهاء المسلمين يقيمون التمييز بين الدين و العين على أساس الذمة. مصادر الحق م1ج1 ص: 20، و سماها وهبة الزحيلي الذمة المالية و لم يفرق بينها وبين الذمة فقط، ولعله فعل ذلك مقتفيًا بفقهاء القانون. الفقه الإسلامي و أدلته ج4 ص: 52.
(2)- محمد مرتضي الزبيدي، المرجع السابق، ج8 ص: 301.
(3) - الزمخشري، أساس البلاغة، ص: 144.
(4) - الرازي، المرجع السابق، ص: 150.
((1/12)
5) - أخرجه البخاري عن علي،رضي الله عنه، كتاب الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه، ج12 ص: 41-42، و أخرجه في كتاب الجزية، باب ذمة المسلمين و جوارهم واحدة يسعى بها أدناهم ج6 ص: 273، و أخرجه أيضا في كتاب الاعتصام، باب ما يكره من التعمق و التنازع و الغلو في الدين و البدع، ج13 ص: 275،و أخرجه أيضا في كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة، ج4 ص: 81.(فتح الباري، شرح صحيح البخاري، دار الفيحاء)،و أخرجه النسائي، كتاب القسامة، باب القود بين الأحرار و المماليك في النفس ج7 ص: 20.
(6) - علي بن محمد بن علي الجرجاني، التعريفات، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط4، 1417، 1988، ص: 143.
(7)- ابن منظور، المرجع السابق، م1 ص:1087.
(8)- الفيروز آبادي، المرجع السابق، ج4 ص: 115 -116.
(9)- القرافي، المرجع السابق، ج3 ص: 226 و ص230-231.
(10)- -القرافي، المرجع السابق، ج3 ص: 226 و ص :230-231.
(11)- -القرافي، المرجع السابق، ج3 ص:226 و ص:230-231.
(12)- تاج الدين بن عبد الكافي السبكي، الأشباه والنظائر، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد عوض، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1،1411هـ 1991م ج1 ص :363-364.
(13)- الجرجاني، المرجع السابق، ص:143.
(14)- مصطفى الزرقاء، نظرية الالتزام العامة، ص: 201.
(15)- أبو زهرة، احكام التركات و المواريث، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر(د.ر)1383هـ 1964م ص:16.
(16)-علي حيدر، المرجع السابق،طبعة دار الجيل، تعريب فهمي الحسيني، م1 ص: 25.
(17)-عبد الوهاب خلاف،لم أصول الفقه، ص136.
(18)-الخضري بك، صول الفقه، ار القلم،يروت، بنان ط1،407هـ 1987م ص: 91.
(19)السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، م1 ج1 ص: 20 .
(20)-محمد زكي عبد البر، المعاملات المالية في المذهب الحنبلي، دار الثقافة، الدوحة،قطر،ط1،1406هـ،1986م، ص:20 السنهوري، مصادر الحق، م1ج1 ص: 20.
((1/13)
21)-الشاطبي، الموافقات، تعليق محمد حسين التونسي، دار الفكر،(د.ر)، 1411ه، م1،ج1 ص: 103.
(22)-عبد الرزاق السنهوري، مصادر الحق، م1 ج1 ص: 20 .
(23)-عبد الوهاب خلاف، المرجع السابق، ص:135-136.
(24)-عبد الوهاب خلاف، المرجع السابق، ص: 136 .
(25)-وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي، ج4 ص: 52.
(26)-عبد الوهاب خلاف، المرجع السابق، ص: 136.
(27)-السنهوري، مصادر الحق، م1 ج1 ص: 20، و انظر محمد زكي عبد البر، المرجع السابق، ص: 20 .
(28)-القرافي، المرجع السابق، ص: 226-227.
(29)-القرافي، المرجع السابق، ص: 226-227.
(30)- القرافي، المرجع السابق، ص: 227-229.
(31)-القرافي، المرجع السابق، ص:233.
(32)-ابن الشاط: هو أبو القاسم القاسم بن عبد الله بن محمد بن محمد الأنصاري، المعروف بن الشاط، الفقهي المالكي، كان حافظا، معروفا بجودة الفكر، من مؤلفاته تهذيب الفروق، توفي 723ه، انظر: الديباج المذهب، ص:324-325، هدية العارفين ج5ص:825.
(33)-ابن الشاط، المرجع السابق، ص: 234.
(34)-السنهوري، مصادر الحق، م1 ج1 ص: 20.
(35)-عبد الوهاب خلاف، المرجع السابق، ص: 136.
(36)-محمد الدسوقي، أمينة الجابر، مقدمة في دراسة الفقه الإسلامي، دار الثقافة، الدوحة،قطر، ط1، 1411هـ،1990م ص: 68.
(37)-عبد الوهاب خلاف، المرجع السابق، ص: 136 .
(38)-وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي،ج4 ص: 52.
(39)- محمد زكي عبد البر، المرجع السابق، ص: 45-46، السنهوري، مصادر الحق، م1 ج1 ص: 21.
(40)- الخضري بك، المرجع السابق، ص :92.
(41)- الخضري بك، المرجع السابق، ص:92 .
(42)- السنهوري، مصادر الحق، م1 ج1 ص:21.
((1/14)
43)-جاء في كتاب لنوزت حافظ :"وفي الشهر السادس أيضا، يصبح لحركات الجنين وقع الوخز تماما، فهو يضطجع حينا على هذا الجنب ثم يستدير إلى الآخر، كما أنه تارة يضع رأسه إلى الأسفل، و أحيانا أخرى إلى الأعلى، وغالبًا يأخذ الطفل وضعية ثابتة في الشهر السابع حتى الولادة.."وأضافت قائلة: "و في بعض الأحيان لا تشعر الحامل بحركة الجنين مدة طويلة من الزمن، فيعلل الأطباء ذلك بأن الجنين تنتابه حالة اليقظة و النوم في بطن أمه كما هو الحال بعد الولادة.." نوزت حافظ،رعاية الأم و الطفل، دار الفكر (د.ر) (د.ت) ص: 14. و جاء في كتاب آخر ".. ابتداء من الشهر الرابع و ما بعده بأيام يبدأ قلب الجنين بالنبض"، مما يدل على أنه نفس بحياة، خالص جلبي، الطب محراب الإيمان، ج1 ص: 89.
(44)-أبو زهرة، احكام التركات و المواريث، ص: 17، وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي و أدلته،ج4ص: 54.
(45)- أبو زهرة،حكام التركات و المواريث، ص:7.
(46)- انظر: وهبة الزحيلي،لفقه الإسلامي و أدلته، ج4 ص54، أبو زهرة، احكام التركات و المواريث، ص: 16.
(47)-أخرجه ابن ماجه،كتاب الصدقات، باب التشديد في الدين، حديث رقم 2413 ج3 ص145، و أخرجه الترمذي –كتاب الجنائز، باب ماجاء عن النبي rأنه قال: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" حديث رقم 1078 عن أبي هريرة ج3 ص: 389، و أخرجه الدارمي، كتاب البيوع، باب ما جاء في التشديد في الدين،ج2 ص: 262.
(48)- ابن رجب الحنبلي، القواعد، دار المعرفة، بيروت،لبنان، (د.ر) (د.ت) ص: 193 -195 و ص: 88.
(49)-اسحق ابراهيم منصور، المرجع السابق، ص: 231.
(50)-السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، م1 ج1 ص:23-24، عبد المنعم فرج الصدة، أصول القانون، ص: 40، عبد المنعم فرج الصدة، مبادئ القانون، ص: 215، حسن كيرة، مدخل للقانون، ص: 499 .
(51) - اسحق ابراهيم منصور، المرجع السابق، ص :231 .
(52)-السنهوري، مصادر الحق، م1ج1، ص: 23-24.
((1/15)
53)- السنهوري، مصادر الحق، م1 ج1 ص: 24، وانظر : مصطفى الزرقاء، نظرية الالتزام العامة، ص :211 – 213
(54)- الأمر رقم 75 – 58 المؤرخ في 26 / 09 / 1975 المتضمن القانون المدني الجزائري.
بقلم: د. صليحة بنت عاشور الصورة(1/16)