نظام الضيافة والقرى في وسط الجزيرة العربية
محمد بن كميخ العتيبي
أستاذ مشارك، قسم الدراسات الاجتماعية، كلية الآداب،
جامعة الملك سعود، الرياض، المملكة العربية السعودية
(قدم للنشر في 28/3/1423هـ؛ وقبل للنشر في 28/8/1423هـ)
ملخص البحث: هذه دراسة وصفية لنظام القرى والضيافة في وسط شبه الجزيرة العربية. وقد تمت مناقشة هذا الموضوع من خلال العوامل الآتية:
أولاً:مدى تأثير البيئة على وجود هذا النظام.
ثانياً:أشكال الضيافة، أي ذلك الطعام الذي يقدم للضيف العادي أو الطعام الذي يقدم كوليمة محبة وصداقة.
ثالثاً:الترحيب بالضيف، وقد تمت مناقشة طريقة الترحيب بالضيف وكيفية معاملته.
رابعاً:طريقة تقديم الطعام للضيف، كذلك العبارات التي يقولها المضيف للضيف أثناء تقديم الطعام.
خامساً:تصنيف الضيوف تبعاً لمكانتهم الاجتماعية.
سادساً:حرمة الطعام، وعدم الاعتداء على الضيف بعد أن يأكل من طعام مضيفه مهما كانت الظروف. كما أن المضيف يكون مسؤولاً عن حمايته سواء كان لديه أو بعد أن يغادره ولمدة محددة.
سابعاً:إلزامية القرى. حيث إنه لابد وأن يقدم طعام للضيف إذا نزل على صاحب منزل من العرب.
ثامناً:وأخيراً تمت مناقشة وظيفة الضيفة، والتغير الذي طرأ عليها في العصر الحاضر.
مقدمة(1/1)
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقارن قسوة صحراء شبه الجزيرة العربية على ساكنيها بأي منطقة من مناطق العالم العربي، إن لم تكن مناطق العالم قاطبة. وكلما اتجهنا إلى وسطها كان الأمر أعظم. فظروفها المناخية صعبة. وقد انعكس ذلك على من يعيش على أديمها من البشر. لذا فإن قوام معيشة سكانها يعتمد بصورة رئيسة على مناخها وخاصة ما يسقط على أراضيها من أمطار. فعند سقوط الأمطار تنتعش زراعتها. وكان نصيب الزراعة محدوداً حتى أنه لا يكاد يقوم بأود سكان تلك المنطقة. كما أن اقتصاد البدو المتجولين يعتمد بصورة رئيسة على الماشية ومنتجاتها. وكل من الفئتين البادية المتجولة والحاضرة المستقرة يكمل بعضهم بعضاً، وبينهم اعتماد متبادل، وجميعهم يتعاونون في الحفاظ على بقائهم.
ليس أمام ساكني هذه المنطقة، وسط الجزيرة العربية، بد من أن يتكيفوا مع المعطيات المحدودة لهذه الصحراء. وقد تولدت؛ نتيجة للظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية التي تميزت بها مناطق وسط شبه الجزيرة العربية، نظم وعادات وقيم اجتماعية معينة. وهذه جميعها ساعدت في الحفاظ على مجتمعات شبه الجزيرة العربية وساعدت سكانها على البقاء في صراعهم ضد الطبيعة القاسية.(1/2)
ومن بين هذه النظم والعادات والقيم نظام القرى الذي أصبح ظاهرة تتميز بها المجتمعات العربية. يرى عبد الله الحمود أن خصلة الكرم من أهم الخصال التي يأخذها المنتخبون من قبائل أيت عطأ من المغرب في الاعتبار عند انتخابهم رئيس القبيلة (1) . ومع أن ظاهرة القِرى والضيافة توجد في جميع المجتمعات تقريباً، إلا أنها في هذه المنطقة لها سمة متميزة. فابن هذه المنطقة يرى أن رجولته لا تكتمل إلا بقيامه بواجبات الضيافة. ويعتبر أن القيام بمثل ذلك من الأمور المقدسة التي يعتبر من قام بها فقد قام بمهمة دينية واجبة عليه وليست نافلة.
كما أن قرى الضيف وإكرامه من مآثر العرب من قديم الزمان، وقد جاء الإسلام وأصلها وأكدها. وهناك آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة تؤكد ذلك. ولكن هذه الدراسة سوف تتطرق لهذه الظاهرة في العصر الحديث وخاصة الفترة القريبة التي سبقت توحيد الجزيرة العربية وحتى عصرنا هذا. " وإذا وفد ضيف على قرية ما، سواء أكان معروفاً أو مغموراً، كان أهل القرية جميعهم يتسابقون على استضافته. ومن لم يستطع منهم تقدم الصفوف، فقد كان يلقي بالعصا التي في يده أمام الضيف لاثبات أولويته في دعوته وإدخاله منزله." (2)
يناقش هذا البحث نظام القرى والضيافة في شبه الجزيرة العربية، وكيف أن هذا النظام متأصل في مجتمع هذه الجزيرة الذي هو بدوره جزء من المجتمع العربي. كما يوضح أن هذا النظام قد خلقته الظروف الاجتماعية، والاقتصادية، والطبيعية التي تحيط بسكان هذه المنطقة.
الهدف من الدراسة
__________
(1) في ليليا بن سالم، وآخرين ، الأنثروبولوجيا والتاريخ، حالة المغرب العربي، ترجمة عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الغلق (د.م.:دار تريفال للنشر، المغرب 1988م)، 96.
(2) أيوب صبري باشا، مرآة العرب، ترجمة أحمد فؤاد متولي والصفصافي أحمد مرسي، الجزء الثاني ( الرياض:الرياض للنشر والتوزيع، 1403هـ)، 367.(1/3)
الهدف من هذه الدراسة هو محاولة القيام بدراسة وصفية لظاهرة القرى (الضيافة)، والتفريق بين القرى كنظام اجتماعي يعاقب العرف القبلي المضيف إذا لم يقم به كما ينبغي تجاه ضيفه، وبين الكرم كقيمة اجتماعية محببة لدى عرب هذه الجزيرة.
كما أن هذه الدراسة سوف تتعرض للواجبات التي لابد للمضيف أن يقوم بها تجاه ضيفه، وكذلك الأدبيات والواجبات التي تجب على الضيف نفسه تجاه مضيفه. هذا بالإضافة لدراسة أنواع الضيوف، وأنواع القرى التي تقدم لكل نوع من أنواع الضيوف، وشعائر ومراسم القرى التي تحدث في هذه البلاد. بعد ذلك سوف يكون الحديث حول ما طرأ على هذا النظام من تغير في الوقت الحاضر.
المنهج
هذه دراسة وصفية لظاهرة القرى، وسوف يعتمد الباحث في جمع مادة هذه الدراسة على المستويات الآتية:
1- محاولة اتباع المنهج التاريخي الذي يعتمد على أقوال كبار السن الذين لهم معرفة ودراية بعادات القرى عند العرب من قديم الزمان. حيث قد تمت مقابلة بعض كبار السن من سكان المدن أو سكان الصحراء والقرى الصغيرة. حيث إن سكان القرى وسكان الصحراء أقرب إلى التمسك بالتقاليد والعادات من أهل المدن؛ ذلك لأن وطأة عامل التغيير على سكان المدن دائماً أقوى؛ وقد استعان الباحث ببعض المساعدين في جمع هذه المادة.
2- قام الباحث بالملاحظة الشخصية فيما يقدم في الوقت الحاضر من ولائم. وقد حاول التفريق بين تلك الولائم كولائم مجاملات وما كان يقدم سابقاً. وهل ذلك ينسجم مع ما كان يقدم في الماضي أم لا؟
3- وأخيراً فإن الباحث سوف يستشهد ببعض الأبيات من الشعر التي قيلت حول قرى الضيف والكرم وفي تأكيد القرى والضيافة وأنواعها، ومدى إلزاميتها.
الأهمية(1/4)
كل أمة من الأمم تفخر بتراثها المادي والمعنوي. وكل أمة لها عادتها وتقاليدها المتعارف عليها بين أفرادها وجماعاتها. كما أن لها قيمها ونظمها الاجتماعية التي تميزها. كما أن المجتمعات تحافظ على تلك القيم والنظم؛ لأنها تعتبر إطاراً مرجعياً لها. حيث تقوم بقياس سلوكياتها وتصرفاتها وفقاً لتلك القيم والنظم التي استنتها هذه المجتمعات لنفسها. ولكن الازدهار الصناعي والتجاري والاقتصادي بصفة عامة لثلاثة قرون خلت تقريباً خلف وراءه تغيراً عارماً اجتاح العالم بأسره. وقد تميز القرن العشرون بنقلة نوعية كبيرة في عملية الاتصال. ومن خلال ذلك تأثرت المجتمعات العربية-شأنها شأن العالم الآخر - بثقافات، وقيم ونظم لم تكن معروفة من قبل. وقد أتت هذه التغيرات الاجتماعية - سواء من الغرب أو من الشرق - وألقت بظلالها على تلك المجتمعات وأحدثت خلخلة في نسيجها الاجتماعي والثقافي. وقد ساعد الوضع الاقتصادي الذي شهدته مجتمعات شبه الجزيرة العربية على تقبل كثير من التأثيرات الاجتماعية والثقافية الوافدة. وأصبحت الجماعات المرجعية التقليدية أقل تأثيراً من ذي قبل. هذا من ناحية؛ أما من الناحية الثانية، فإن نمو الفردية المتزامن مع نمو الإمكانات الاقتصادية - خاصة بعد الطفرة الاقتصادية التي بدأت مع بداية السبعينيات من القرن العشرين - قد جعلت الاعتماد المتبادل بين الأفراد والجماعات في شبه الجزيرة العربية محدوداً. لذا فإن دراسة نظام اجتماعي مثل نظام القرى، وقيمة اجتماعية مثل قيمة الكرم شيء ضروري. ولا سيما أن هذا النظام كان من أهم مقومات الحياة الاجتماعية في هذه الجزيرة العربية. ويعتبر من أهم مآثر العرب، ويعتبر تراثاً عرف به العرب من قديم الزمان. وفي السنوات الأخيرة قد تعرض هذا النظام لتغيرات شتى شأنه شأن أي تراث في هذه البلاد.
التعريفات الإجرائية (تحديد المفاهيم)
القرى(1/5)
هو ما يقدم للضيف من طعام من قبل صاحب المحل (المضيف) بغض النظر عن كثرة هذا الطعام أو قلته. وكذلك بصرف النظر عن نوع الطعام المقدم.
أقرى الرجل واقترى واستقرى، طلب الضيافة والقرى ما قري به الضيف. (1)
الضيَفةُ
هي الطعام الكثير الذي يقدمه صاحب المحل (المضيف) لضيف أو ضيوف قدموا إليه ولهم مكانة اجتماعية معينة تحتم على المضيف أن يقدم لهم طعاماً (قرى) يليق بمكانتهم الاجتماعية. ويدعى لهذه الضيفة الجيران والأقارب الذين يقطنون حول المضيف، وغالباً يكون ذبيحة.
وقد تطلق كلمة ضيفة على مناسبات أخرى مثل الطعام الذي يصنع ليلة حفل الزواج لإطعام الزوج ومن يدعى لحفلة الزواج. وقد تطلق كلمة ضيفة: عندما يقوم شخص بزيارة قريبه أو صاحبه ويقوم صاحبه هذا بنحر كبش له بمناسبة هذه الزيارة، وإن كان العرف لا يستوجب على هذا الشخص المضيف أن يقوم بنحر ذبيحة لهذا الزائر، إما لقرب المكان الذي قدم منه، أو أنه حديث عهد بهذا المضيف ونحو ذلك. ولكن صاحب المنزل يقوم بعمل ضيفة من باب المحبة والمبالغة في إكرام صاحبه القادم. فيقول الجيران والأقارب الموجودون حول صاحب المنزل على سبيل المثال (عند فلان ضيفة).
قديماً
عندما تستخدم كلمة قديماً أو في قديم الزمان، فإن الباحث يقصد بذلك الفترة التي سبقت استخراج البترول بكميات تجارية في هذه البلاد، أي قبل بداية النصف الثاني من القرن العشرين تقريباً.
الضيف
__________
(1) دائرة معارف القرن العشرين، (د.م.:د.ن.؛د.ت)،7: 777.(1/6)
هو الشخص المسافر الذي يقدم إلى شخص آخر مقيم ويحل على هذا الشخص المقيم كضيف. وهذا الضيف يجب أن يُقدم له قرى من قبل الشخص المقيم الذي هو في هذه الحالة المضيف. أما الشخص الذي يقدم من مكان قريب، أي بإمكانه أن يعود إلى منزله ويتناول وجبته في ميعادها بسهولة فهو ليس ضيفاً يستوجب على المضيف أن يقدم له طعاماً كقرى. وإنما يحسب زائراً أو (مسيراً) يقدم له القهوة والتمر واللبن حسب وجود أي منها أو جميعها.
ويستثنى من ذلك المرأة (المغتاضة) من زوجها. فبخروجها من منزله ودخولها منزل أحد جيرانها أو أقاربها، فإن الشخص الذي دخلت منزله غالباً يقوم بنحر ذبيحة لها. هذا بهدف الرفع من مكانة المرأة التي ربما تعرضت إلى إهانة من زوجها، أو أنه شتمها أو حتى ضربها. ويحدث هذا غالباً عندما يكون الشخص الذي دخلت منزله وهي (مغتاضة) أحد أقاربها. ويساعد هذا الإجراء غالباً هذا القريب الذي دخلت عليه المرأة المغتاضة على لعب دور الوسيط في حل الإشكالية بين المرأة وزوجها فيما بعد.
في هذه الدراسة سوف يستعمل الباحث كلمتي ضيفة وقرى بمعنى واحد بسبب أن كلمة ضيفة تستعمل في كثير من الأحيان بمعنى قرى. أي أنهما كلمتان مترادفتان تحل المفردة الواحدة في محل الأخرى لغاية هذه الدراسة.
العلاقة بين البيئة الطبيعية ونظام الضيافة(1/7)
إن بيئة وسط شبه الجزيرة العربية من أكثر المناطق قسوة على ساكنيها. كما أنها كانت طريق الهجرات التي تأتي من اليمن في الجنوب إلى الهلال الخصيب في الشمال في الزمان القديم. وكانت كثافة هذا الإقليم السكانية غير كبيرة، خاصة عندما نقارنها بغيرها من الأقاليم الغنية بمصادر المياه. ففي المناطق التي تكثر فيها مصادر المياه يشتغل سكانها بالزراعة. وفي الغالب يكونون مجتمعات مستقرة. أما سكان وسط شبه الجزيرة العربية، فتغلب عليهم حياة البداوة التي تتسم بالتجوال بين أرجائها تبعاً لما تجود به عليهم الطبيعة وتبعاً لما يتوافر لمواشيهم من مراع.
وتبعاً لذلك، فإن الحياة صعبة والطعام فيها شحيح. ونتيجة لقلة عدد السكان في هذه الصحراء القاحلة، وقلة مواردها وكذلك قلة التمركز الحضري الذي يوفر خدمات الإيواء والطعام للمسافر، فقد نشأ نظام الضيافة. لذلك، فإن المسافر في هذه المناطق يتعرض لضائقة الجوع إذا لم يكن ذا حظ وفير ويهتدي لمضارب أحد أبناء البادية المتنقلين ويقدم له طعاماً يسد أوده ليوم أو يومين ونحو ذلك. ثم يمضي في طريقه ليوم أو يومين أو حتى أكثر حتى يصل لقوم آخرين يقدمون له القرى ليواصل سيرة حتى يبلغ مقصده. " وليس هناك على سطح الأرض كلها من عانى معاناة بدو جزيرة العرب، ولا من صبر صبرهم على الجوع والعطش. وأنه لسعيد جداً من كان يستطيع أن يشبع جنبيه مرة واحدة خلال الأربع والعشرين ساعة. والذين يصبرون على الجوع والعطش لمدة يومين أو ثلاثة أيام لعدم وجود ما يقتاتون به من بين بدو قبائل جزيرة العرب، لا حصر لهم ولا عد". (1)
وكان في بعض الأزمان يمر على سكان هذه المنطقة أيام طوال لا يستطيع بعض الأفراد فيها أن يشبع جوعه إلا ببعض الأعشاب والحشائش.
__________
(1) باشا،مرآة العرب،369.(1/8)
هذا وسوف يستشهد الباحث ببعض الأبيات الشعرية التي أوردها مرزوق بن تنباك في كتابه آداب الضيافة في الشعر العربي القديم حول شدة الفاقة وقسوة الطبيعة التي عانى منها سكان هذه المنطقة من قديم الزمان. الأبيات الأولى: ثلاثة أبيات من قصيدة الحطيئة هي:
رأى شبحاً وسط الظلام فراعه ... فلمّا رأى ضيفاً تسَّورَ واهتّما
فقال ابنه لمّا رآه بحيرةٍ ... أيا أبتِ اذبحني ويَسِّر له طَعما
ولا تعتذر بالعدم علىّ الذي طرأ ... يظن لنا مالا فيوسعنا ذماً (1)
))
أما القصيدة الثانية فهي للراعي النميري حيث تقول الأبيات:
عجبت من السارين والريح قرة ... إلى ضوء نار بين فروة والرحى
إلى ضوء نار يشتوى القد أهلها ... وقد يكرم الأضياف والقد يشتوى
فلما أتونا واشتكينا إليهم ... بكوا وكلا الحيين مما به بكى (2)
فهذان المقطعان من القصيدتين يصوران أبلغ تصوير شدة وقسوة الحياة في هذه الجزيرة منذ غابر الأزمان. بالإضافة لشدة العوز والفاقة التي تجثم على سكانها. ولعل ذلك بدوره أدى إلى ترسيخ نظام الضيافة بالإضافة إلى ترسيخ النظم الاجتماعية الأخرى. وجعل هذه النظم مجتمعة مثل السيوف الصارمة على رقاب البشر في هذه الجزيرة لكي يحافظوا على بقائهم واستمرار وجودهم.
وتحت هذه الظروف القاسية تمر فترات يقوم خلالها المعمدون الذين لا يجدون شيئاً من الطعام من سكان وسط الجزيرة العربية بالتضيِّف بين أحياء العرب (الفرقان) للحصول على قوت ساعتهم والمحافظة على حياتهم. ويتنقلون من موقع لآخر، بحيث يحلون ضيوفاً ليلة عند هؤلاء ويحلون الليلة الأخرى ضيوفاً في موقع آخر. ويقبل هؤلاء ما يقدم لهم من طعام. كما أن العرف القبلي يحتم أن يقدم لهم قرى على هذه الطريقة.
__________
(1) مزرق بن صنيتان تنباك، آداب الضيافة في الشعر القديم، حوليات كلية الآداب، الحولية الثالثة عشر، الرسالة السادسة والثمانون(الرياض:جامعة الملك سعود، 1999م)،58.
(2) تنباك، آداب الضيافة،60.(1/9)
أما في قرى الحجاز، فتأخذ عملية التضيّف شكلاً منظماً. فعند ما تتعرض إحدى القرى لكارثة معينة، مثل تأخر هطول المطر، أو تعرضها للجفاف، أو عندما يأتي برد أو جراد ويدمر محاصيل القرية، وعند ما لا تستطيع القرية أن تقوم بأود ساكنيها، فإن أعيان القرية ينظمون هجرة جماعية لعدد من أفرادها. حيث يقوم شيخ القرية أو من ينوب عنه بتوزيع سكان القرية إلى فئتين: فئة تبقى في القرية وفئة تستعد للهجرة من أجل التضيّف.
أماّ الفئة التي تبقى، فتتكون من أولئك الذين لا يستطيعون تحمل مشقة السفر مثل كبار السن والأطفال، والذين لا يستطيعون الهجرة بسبب أعمالهم مثل الصناع، وكذلك صاحب عمل لا يستطيع أن يهاجر بسببه. هذا بالإضافة إلى نخبة يتم اختيارهم من قبل شيخ القرية أو من ينوب عنه ممن يتصفون بالأمانة والشجاعة، ويناط بهؤلاء حراسة القرية وحمايتها والحافظة عليها حتى يعود المهاجرون، ويقوم كبار القرية وأعيانها بجمع ما يستطيعون جمعه من طعام وأغذية ويضعونها لدى أحد الأفراد الباقين في القرية ممن يتصفون بالأمانة والحكمة وذلك بهدف الصرف منها على الباقين في القرية حتى يفرجها الله على الجميع.
وأماّ الفئة المهاجرة، فهي الفئة التي تُعمل لها الترتيبات اللازمة للهجرة. فعند ما يتم تحديد من سيبقى في القرية، ومن سيهاجر للتضيّف يقوم شيخ القرية أو من ينوب عنه بإرسال مندوبين للقرى المجاورة من أجل معرفة مدى استعداد تلك القرى لاستقبال هؤلاء المهاجرين. ويتم الاتفاق بين هؤلاء المندوبين وبين أهل القرى على تاريخ الوصول إلى كل قرية لتستعد لاستضافتهم. بعد ذلك يقوم المسؤول عن هذه الهجرة الجماعية بحشد إعلامي لها، ويجند لها أحسن الشعراء من أجل جعل سكان القرية المستضيفة تقوم بواجبات الضيافة تجاههم؛ لأنه إذا كان هناك تقصير فإن الشاعر سوف يقول شعراً يصف تلك المواقف.(1/10)
وإذا قدمت هذه القرية المضيفة واجبات القرى اللازمة، فإن الشاعر يقول شعراً يمدحها فيه وإذا كان هناك تقصير فإنه سوف يقول شعراً قد يهجوها فيه. وهذا قد يكون له وقع مؤثر على القرية وساكنيها. وعند عودة المندوبين واختيار الشعراء الذين سيصاحبون المهاجرين وعند اكتمال الترتيبات للانطلاق تبدأ الهجرة.
وعند بداية هجرة التضيّف تكون القرى قد عملت ترتيباتها لاستقبال الضيوف المهاجرين مسبقاً. وكل قرية تعلم عن تاريخ وصول هؤلاء الضيوف إليها، وعندها تعد كل قرية ترتيباتها لاستقبالهم حسب الاتفاق المسبق الذي تم بين كل قرية ومندوبي المهاجرين. ويكون استقبال تلك القرى لهؤلاء المهاجرين على النحو التالي:
يقوم أهل القرية المستضيفة بتخصيص مكان خارج القرية يسمى المعراض. وهذا المكان يجتمع فيه سكان القرية المضيفة من الرجال الذين ليس لهم أعمال تشغلهم أثناء قدوم هؤلاء المهاجرين. وعند وصول المهاجرين يقوم سكان القرية بأداء رقصة ترحيب تسمى عرضة. وعند وصول المهاجرين ينضمون إلى سكان القرية ويؤدون العرضة معاً. ويردد سكان القرية عبارات ترحيبية منها على سبيل المثال:
يا مرحبا واثنى الترحيب ... عند الذي لادُعي يُجيب
يقولون بالضيف لا جأ ارحبْ ... وأحْنا علينا نُضيفه
أما النساء القادمات مع المهاجرين فيتجهن إلى القرية مباشرة بحيث تتجه كل فئة إلى التي تناسبها من حيث المكانة الاجتماعية. مثل عائلة الشيخ تتجه لعائلة شيخ القرية وعائلة الفلاح تتجه لعائلة الفلاح وهكذا.(1/11)
بعد أن تدخل العائلات القرية وبعد أن يؤدي الرجال الرقصة الترحيبية معاً تتناول الفئتان طعاماً خفيفاً يسمى (اللطف) يقدم لهم بعد العرضة والسلام مباشرة. من ناحية أخرى، تقوم نساء القرية ببعث أطفال أو من يوجد حولهن لأزواجهن يخبرنهم بالضيوف الذي لديهن، وهن نساء المهاجرين، بحيث يعرف كل صاحب منزل في القرية من سوف يقدم القرى له ولعائلته ويسمون ذلك (القبيل). بعد ذلك ينفض اللقاء الذي تم خارج القرية. ويقوم كل مضيف باصطحاب ضيفه إلى منزله حسب المعلومة التي وصلت إليه من أهل بيته، ويقيم هؤلاء الضيوف في هذه القرية لمدة لا تزيد على يومين. يغادرون بعد ذلك إلى وجهتهم. ويحلون ضيوفاً على قرية أخرى حسب الترتيبات التي تم وضعها مسبقاً كما سبقت الإشارة إليه. ويصبح كل رب أسرة من هؤلاء الضيوف قبيل لمضيفه في المناسبات القادمة، إذا حدث لأهل هذه القرية نفس ما حدث لهؤلاء الضيوف مستقبلاً. بحيث من كان ضيفاً في هذه المناسبة قد يكون مضيفاً لهذا الرجل الذي استقبله وقام بتقديم حقوق القرى أثناء الهجرة. وإذا حدث أن سافر ساكن القرية ومر بقرية هذا الشخص الذي قام بتقديم حقوق القرى له فإنه يصبح ضيفاً له، في إطار مفهوم (القبيل).(1/12)
بعد أن تنتهي مدة الضيافة - وهما اليومان المتفق عليهما- يغادر الضيوف هذه القرية متجهين إلى القرية التي تليها حسب الجدول المعد والمتفق عليه مسبقاً. وتتم هذه المغادرة بشكل رسمي، حيث تكون هناك رقصة المغادرة. ويقوم الشاعر الذي يصحب الجماعة بإلقاء قصيدة يشكر فيها أهل هذه القرية التي قامت باستضافتهم على ما قدموه ويعدد المآثر الطيبة لأهل هذه القرية . وهناك شكل آخر لتقديم لعون والمساعدة في مثل هذه الحالات ومنها: عند ما يرسل شيخ القرية التي أصابتها الكوارث مندوبيه من أجل الحصول على موافقة أهل القرى المجاورة يعود المراسيل ومعهم الموافقة على استقبال هؤلاء المهاجرين إما على شكل معراض كما سبقت الإشارة إليه أو على شكل مكسر.
وفي حالة المكسر هذه لا يسمح لهؤلاء المهاجرين بدخول القرية. ويكون استقبال أهل القرية التي تقدم المكسر لهؤلاء المهاجرين على شكل مختلف عن المعراض. بحيث يقوم أهل القرية التي تقدم المكسر بالاتفاق فيما بينهم بجمع مقدار من المال سواء نقدي أو عيني ويقدم لهؤلاء الضيوف. وعند قدوم الضيوف يستقبلهم كبار القرية خارج القرية ولا يُستقبلون بعرضة استقبالٍ حافلٍ كما في حالة المعراض السابقة. ويتم تقديم وجبة خفيفة خارج القرية تسمى اللطف. بعد ذلك يتم تسليم هؤلاء الضيوف ما سبق أن تم الاتفاق عليه ثم يغادرون إلى وجهتهم. ويتم تقديم مكسر في الغالب لبعض الأسباب التالية أو كلها: وهي:
1- قد تكون الأحوال الاقتصادية لهذه القرية المضافة لا تمكنها من استضافة هؤلاء المهاجرين.
2- إذا كان هناك خلاف بين أهل هذه القرية أو أحد أفرادها وبين هؤلاء المهاجرين أو واحد منهم. وبذلك يكون تقديم مكسر هو عبارة عن تجنب للاحتكاك بين هاتين الفئتين الذي قد يؤدي إلى إثارة مشاكل بينهم مرة أخرى.(1/13)
3- قد تكون القرية في حالة طوارئ، كأن تكون هذه القرية في حالة حرب مع بعض القرى الأخرى أو واحدة منها. وهذا الوضع لا يمكّن سكان هذه القرية من استضافة هؤلاء المهاجرين وتقديم القرى الذي يليق بهم. كما أن سكان هذه القرية قد يكونون في حالة تأهب مستمر مما يجعل هؤلاء الرجال غير قادرين على استقبال ومقابلة الضيوف. ولذلك يتفقون مع المندوبين على تقديم المكسر عوضاً عن استقبالهم واستضافتهم. (1)
أشكال الضيافة
هناك عدة أشكال للضيافة، حيث إنها تشمل ما يقدم للناس من زاد أو طعام، وغالباً ما يكون هذا الطعام بكمية كبيرة أو مكوناً من اللحم. لأنه عندما يُقدم طعام من اللحم للضيف أو في مناسبة معينة تكون عادة لحشد من الناس وليس لواحد. فبمجرد ما يأتي شخص إلى صاحب البيت ويقوم صاحب البيت بنحر واحدة من أغنامه أو إبله فإن سكان الحي يكون لهم نصيب من ذلك. فالرجال والشباب يُدعون؛ أما النساء والأطفال فيأتيهم نصيبهم في منازلهم في أغلب الأحيان. ونورد إليك فيما يلي أشكال الضيافة.
القِرى
__________
(1) عبد الرحمن عبد الله الغامدي، "التضيف في المنطقة الجنوبية،" بحث غير منشور، 1418هـ.(1/14)
وهو الطعام الذي يقدم للشخص الذي يأتي من مكان بعيد. وليس بصاحب بيت مجاور. وهذا النوع لابد وأن يُقدم له طعام يسد أوده لمدة يوم واحد، أي يقدم له ما يشبعه وجبة واحدة. وإذا تريث فإن صاحب البيت عادة يتحمله لمدة ثلاثة أيام. وإذا كان صاحب المنزل (المضيف) من ميسوري الحال فإن المدة تستمر لأكثر من ذلك. وذلك حسب إمكانية صاحب المنزل وقدرة الضيف على مواصلة سيره إلى حيث يريد. هذا إذا كان الضيف شخصاً عادياً غير معروف. أو أنه شخص يعرفه صاحب المنزل، ولكن إما أنه من الناس العاديين أو أنه يعرفه أو أنه قريب له وقد سبق أن قام صاحب المنزل بحقوق الضيافة المتعارف عليها تجاه هذا الضيف منذ وقت قريب. وتقديم الطعام العادي في مثل هذه الحالات لا يُدعى إليه الجيران والأقارب إلا نادراً؛ لأن ما يقدم عادة لا يكفي إلا لهذا الضيف أو الضيوف القادمين. وإذا أراد صاحب المنزل أن يدعو أحداً فإنه يدعو غالباً جاره القريب. وعندما يكون هناك جار عزيز وملاصق لجاره يقول العرب فلان طنيب لفلان. حيث يقوم أحدهم بربط طنب بيته، المنسوج من الوبر بطنب بيت جاره. ومثل هذا الجار يكون في الغالب قريباً من جاره في كل شيء. وبذلك يدعوه لمشاركته هو وضيفه في كل كبيرة وصغيرة.
الضيفة
وتكون عندما يأتي شخص أو عدة أشخاص ممن يتحتم على صاحب البيت استضافتهم بأن ينحر لهم ذبيحة واحدة أو أكثر تكريماً لهم.
ويجب أن تتناسب كمية الطعام التي تقدم في هذه الحالة مع عدد الضيوف وأهميتهم. فكلما كان عدد الضيوف كبيراً أو يحتلون مكانة اجتماعية كبيرة كان على المضيف أن يحسب لهم حساباً في كمية ونوعية الطعام الذي يقدمه. وليس ذلك فحسب بل تكون توقعات جيران صاحب المنزل الذي نزل عليه مثل هؤلاء الضيوف عالية. وذلك بأنهم ستشملهم هذه الضيفة. لذا فإن المضيف يأخذ حساب عدد أكبر من الجيران بالإضافة إلى ضيوفه.
الدول(1/15)
عندما يحل ضيف على صاحب منزل ويقوم بنحر ذبيحة، فإنه يدعو جيرانه لتناول الطعام مع الضيف. وعندما يتناول الجيران الطعام مع الضيف لابد أن يقوم هؤلاء الجيران بدعوة الضيف ونحر ذبيحة له (أي يقوم بالدول). والدول هو أن يقوم كل صاحب بيت من سكان الحي الذين يعرفون هذا الضيف أو كان له مكانة اجتماعية عالية بدعوته لتناول وجبة في منزله وذلك على غرار ما قدمه المضيف الأول. ويتم هذا الترتيب عادة في حالة إقامة الضيف؛ أما إذا أراد الضيف أن يواصل سفره، فإنه يعتذر من أولئك الذين لا يستطيع تلبية دعوتهم ومن ثم عليه أن يغادر؛ لأنه إذا كان ضيفاً ذا حق، فإنه يتوجب على هؤلاء الجيران القيام بواجبات الضيافة تجاهه وعليه أن يلبي الدعوة بدلاً من بقائه عند مضيفه الأول والإحجام عن تلبية دعوة الذين يدعونه.
ويحتم العرف على الشخص الذي يقوم بدعوة الضيف أن يدعوه من مضيفه الأول، والذي يعتبر المسؤول الأول عنه، ولأنه أول من استضافه عند قدومه. ويطلق عليه العرب (معزب الضيف)، ويكون مسؤولاً عنه أثناء إقامته في الحي، ويتناول الوجبات العادية لديه وينام عنده وهكذا. أما الوجبات الرئيسة فيتناولها مصحوباً بمضيفه عند هؤلاء الذي يدعونه تباعاً حتى ينتهي (الدول) الذي ينتهي بعدد هؤلاء الجيران. ويقال (الضيف في حكمة المعزب)، أي أن العرف يحتم على هذا الضيف أن لا يلبي دعوة أحد إلا بإذن مضيفه. والقيام (بالدول) واجب يتحتم على كل رب بيت في الحي حضر الوليمة أن يقوم به ومن لم يقم بالدول يعتبر بخيلاً وتطبق عليه الجزاءات الاجتماعية التي تسري على من لم يقم بواجبات الضيافة. ودليل ذلك هذه الأبيات التي قالها أحد المعدمين عندما لم يجد ما يقدم.
حنا نبي الستر والخاطر يبي العيشة ... والعلم يا زريب يوم الدول ياطأني
يا رازق اللي قليلات محاويشة ... ما له تيوس سوات تيوس خشماني(1/16)
فيقول هذا الشاعر إننا نبحث عن الستر الذي يكمن في هذه اللحظات في تقديم طعام لهذا الضيف الذي ينتظر ما يقدم له من طعام. كما أن له الحق في أن يقدم له القرى اللازم. كما أن هذا الضيف لا يعلم حالنا ويتوقع أن نقدم له طعاماً. وفي نفس السياق يقول هذا الشاعر إنه علاوة على الوضع الذي نحن فيه بصدد هذا الضيف الذي حل علينا وواجب علينا أن نقدم له قرى، إلا أن الطامة الكبرى سوف تحل علينا عند ما يأتي دورنا في القيام "بالدول" والذي يتوجب أن نقوم بنحر ذبيحة للضيف الذي قد يحل، ولابد أن يقوم كل رب أسرة بنحر ذبيحة له. وفي البيت الثاني يطلب من الله الرزق ويشكو ضيق ما في اليد؛ لأنه لا يملك قطيعاً من الماعز مثل تلك التي يمتلكها شخص يدعى خشمان، وبذلك يستطيع أن يقوم بواجبه الذي هو "الدول."
ضيفة المناسبات
ومن هذا النوع من الضيف (جمع ضيفة) على سبيل المثال الختان. حيث كان في السابق عندما يريد شخص ما أن يقوم بختان ابنه فإنه يدعو رجلاً مختصاً يقوم بعملية الختان. وبعد أن تنتهي عملية الختان فإن والد الصبي يقوم بنحر الذبائح على قدر طاقته وحسب عدد من حوله من الجيران والمدعوين. فقد يقوم بنحر كبش واحد أو أكثر وقد يقوم بنحر جمل. وهذا النوع من الضيف ليس بملزم، ولكنها عادة متعارف عليها عند عرب هذه الجزيرة. ومن بين هذه المناسبات مناسبة الزواج حيث يقوم والد العروس بنحر جمل أو خراف بمناسبة زواج ابنته وتكريماً لزوجها، وتكريماً للرجال الذين قدموا بمعيته. وكذلك احتفالاً بمناسبة الزواج وإشهارا له. ثم إن والد العريس أو العريس يقوم بإعداد وليمة عندما ينتقل برفقة زوجته بعد زواجه مباشرة لمن لم يحضر الزواج وإكراماً لزوجته.
وتتأثر نوعية الطعام وكميته بمكانة أب العروس وذويها، وبمكانة العريس وذويه. وهذه العادة هي سنة محببة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أولم ولو بشاة".(1/17)
ويتوقع سكان الحي الذي شهد حفلة الزفاف بأنهم يُدعون إلى وليمة دسمة. وعادة تطول هذه المناسبة ناس كثر وليس بالضرورة أن يكونوا معروفين لأهل أي من العروسين. فقد تطال القرية بأسرها أو سكان الحي جميعاً.
في بعض الأحيان، وعند عدم دعوة بعض سكان الحي لوليمة الزواج، فإن الأولاد في الحي يرددون كلمات معينة مثل:
العرس إللي ما نذوقه (1) ... يركب الشيطان فوقه
والمرأة تصبح مطلقة ... والرجل يطلب حقوقه (2)
ضيفة الصداقات والمحبة
هذا النوع من الضيف والولائم لم يكن موجوداً على نطاق واسع في قديم الزمان؛ وذلك لقلة ذات ما في اليد لدى سكان وسط الجزيرة العربية. ولكن تحدث بين الناس ويدعى لها المدعوون. ويحدث هذا النوع على وجوه عدة. منها إذا أراد شخص أن يجامل شخصاً معيناً وأراد أن يكرمه فإنه يقوم بنحر ذبيحة على شرفه، ويدعو الجيران والأقارب، ونجد بعض الميسورين يُسَر بقدوم شخص معين ويقوم بنحر ذبيحة أو أكثر ليس من أجل هذا القادم بقدر ما هو عذر يتخذه في سبيل أن يقوم بعمل وليمة يدعو لها من حوله؛ وذلك إما نظراً لشدة وطأة الجوع على أهل الحي، أو لعدم حصولهم على وجبة دسمة قوامها اللحم لمدة طويلة. وهذا يحدث عندما نسمع عن كرم العرب بأنهم يقومون بمثل ذلك، ويشتهر بها أشخاص معينون معروفون دون غيرهم. منهم على سبيل المثال حاتم الطائي في الزمن الجاهلي، وابن مهيد منادي بالعشاء وغيرهما من كرماء العرب في العصر الحديث. وهذا يعد كرماً ويوصف الشخص الذي يقوم به بأنه كريم.
__________
(1) ما نذوقه: أي ما يناله منه شيء.
(2) حقوقه: أي المهر الذي قدمه للعروس.(1/18)
ويورد الباحث هذه المعلومة التي اتخذها من الطبيعة في هذه البلاد. ففي عام 1413هـ الموافق 1992م التقيت أنا وبعض من الزملاء مع الشيخ جابر بن سالم بن يحيى شيخ فخذ من عشيرة آل خالد التي تنتمي لقبيلة بني مالك في بلاد بني مالك قرب جازان جنوب المملكة العربية السعودية. وقد دعانا الشيخ لتناول طعام الغذاء عنده ولكن اعتذرنا؛ وأدينا صلاة الجمعة في مكان بعيد عن منزله، وأدى هو الصلاة معنا ضمن المصلين. وبعد صلاة الجمعة عاد وكرر دعوتنا. ووافقنا على تناول القهوة فقط في منزله ووافق على ذلك. ولم يكن هذا هدفه. ولكن حال ما نزلنا عنده وجلسنا، بدأ وكأنه يعمل القهوة ويحضر الحطب من أجل إيقاد النار التي يعمل عليها القهوة وإذا به يقدم وينحر إحدى أغنامه. وبذلك جعلنا أمام الأمر الواقع. ولا يمكننا في هذه الحالة أن نتجاهل ذلك ونرفض تناول الطعام لديه. وقد تناولنا الغداء عنده وحضر ذلك أقرباؤه ومن يسكنون حوله.
الترحيب بالضيف(1/19)
يختلف الضيوف في الهيئة التي يقدمون عليها. فقد يكون هذا الضيف جائعاً خالي الوفاض، أو متعباً من طول السفر ولم يطعم طعاماً لمدة طويلة. وقد يكون في وضع لا بأس به. وقد يكون أحسن حالاً من صاحبه المقيم، أي صاحب المنزل . وعندما يأتي الضيف فإن صاحب البيت الذي قدم عليه، يقوم عادة بالترحيب به منذ أن يراه مقبلاً. وتختلف هذه العادة من منطقة إلى أخرى. ففي الوقت الذي ترى فيه قبائل جنوب الجزيرة العربية أن الإسراع بالترحيب بالضيف وإطلاق العبارات الترحيبية الجميلة المتواصلة هما من أبرز العادات التي يجب أن يُستقبل بها الضيف، فإن ذلك يقل كلما اتجهنا إلى شمال شبه الجزيرة العربية. حيث ترى هذه القبائل أنه كلما بادرت بكثرة الترحيب والأسئلة فإن ذلك لا يعطي المعنى الذي تعطيه في المنطقة الجنوبية. حتى أنه لدى بعض القبائل في الشمال لا يسأل الضيف من أين أتى ولا يسأل عن اسمه ونحو ذلك إلا بعد ثلاثة أيام. ولكن هذا لا يمنع من إلقاء بعض الكلمات الترحيبية المختصرة عند مقدمه. أما إذا حصل ذلك من قبائل الجنوب فإن الضيف قد يفسر هذا العزوف عن تكرار الترحيب، وتبادل الحديث، بأنه تقصير في حقه، أو أنه دلالة على عدم قبوله. هذا بالنسبة لقدوم أي ضيف. ولكن عندما يكون الضيف معروفاً لدى صاحب المنزل فإن الأمر يكون له صفة مختلفة إلى حد ما. إذ تزيد في هذه الحالة نسبة الترحيب عند كل مضيف بالنسبة لضيفه. كما تكثر العبارات الترحيبية، وتتضح فيها صفة الحميمية من صاحب المنزل تجاه ضيفه، خاصة إذا كان الضيف ذا مكانة اجتماعية عالية أو يتمتع بمودة لدى المضيف. ويلاحظ لدى بعض قبائل الجنوب أنه في بعض المناسبات التي يقدم فيها شخص أو عدة أشخاص إلى صاحب منزل فإن صاحب هذا المنزل، ومن حوله من أولاده وأقاربه يتجمعون ويؤدون رقصة ترحيبية جماعية بمقدم هؤلاء الضيوف وأحياناً تتخلل هذه الرقصات إطلاق الرصاص في الهواء ابتهاجاً بهؤلاء الضيوف القادمين.(1/20)
وهذا أيضاً يقابله الضيوف بإطلاق نار ورقصة رداً على هذا الاستقبال في نفس اللحظة. هذا إذا كانت ظروف هؤلاء الضيوف تسمح لهم بذلك. وأحياناً يتبادلون الأشعار الترحيبية.
وعند وصول الضيف ينهض صاحب المنزل ويرحب به، ويهيئ له مكاناً يليق به ويطلب من الضيف الجلوس فيه. والأبيات التالية تدل على أن الترحيب بالضيف من أهم مقومات الضيافة عند العرب.
الضيف ضيف الله وصى به حبيبه ... واستقبل ضيفك بتهل وترحيب
...
قدم له الميسور وما هان جيبه ... واحلف وراء الميسور دين المعازيب
وكذلك قال الشريف بركات في هذا الشأن يوصي ابنه:
الضيف لا توريه مقرن علابيك (1) ... خله حبيب لك رفيق إذا جاءك
...
اكرم قباله خلها من شو أريك ... وابذله المجهود ما دام يعناك
إن الترحيب بالضيف واستقباله ببشاشة من أهم شروط الضيافة. وذلك لأجل أن يشعر الضيف بالراحة والاستقرار التنفس. وهذه القصة تدل على أن الترحيب بالضيف ركن أساسي من أركان الضيافة. فقد حل شخص يُدعى رشيد بن مسلط العنزي ورفاقه ضيوفاً على شخص يدعى بشيت بن شعبان العنزي، وكان بين جماعة كل من الضيف والمضيف عداوة لا يعلم عنها الضيف رشيد ومرافقوه. وقد قام المضيف بشيت بواجبات الضيافة كاملة تجاه رشيد ومرافقيه. إلا أنه لم يظهر تجاههم البشاشة والترحاب اللازمين. وعند ما رحل رشيد ومرافقوه، قام رشيد المذكور بهجاء بشيت؛ لعدم قيامه بالترحاب الذي يقوم به (المضيف عادة تجاه ضيوفه)، قال رشيد هذه الأبيات: ...
يا بشيت وش لك بكبير البيت ... لا صار ما تظهر بكاره (2)
...
ترى النبأ الزين يا نتنيت (3) ... هو لذة الزاد وبهاره
وزاد يلقط بلا حييت ... عده بقدره على ناره
__________
(1) عبارة لا توريه مقرن علابيك: تعني لا تدير له ظهرك وتتجاهل وجوده.
(2) كاره: واجبه.
(3) نتنيت: صفة دميمة .(1/21)
وقد تقدم هؤلاء الضيوف بشكوى ضد مضيفهم لعدم تقديم الترحاب والبشاشة اللازمين تجاههم إلى عراف القبيلة آنذاك. وأجاب المضيف بشيت بأنه قام بواجبات الضيافة تجاه هؤلاء الضيوف؛ أما الترحاب والبشاشة فإنها تظهر من القلب. ولوجود عداوة بين جماعته وجماعة الضيف رشيد فإنه لا يستطيع أن يظهر الترحاب والبشاشة. وهو بذلك يؤكد بأنه لا يستطيع أن يتصنع إظهار البشاشة والترحاب تجاه هؤلاء الضيوف وكسب بشيت المذكور القضية. (1) ...
تقديم الطعام للضيف
__________
(1) فواز حمدان العنزي وآخرون، "الضيافة وتقاليدها،" بحث غير منشور، 1415/1416هـ.(1/22)
كان الضيف أو عابر السبيل في قديم الزمان يأتي إلى صاحب المنزل وهو في أغلب الأحيان جائع أو عطشان أو كلاهما. أي أنه ينهكه الجوع والعطش ويلجئه إلى من حوله من أجل أن يسد رمقه بشربة ماء أو حفنة طعام. وقد يكون غير ذلك كأن يكون شخصاً (ناصياً) أي قاصد صاحب المنزل الذي حل ضيفاً عليه. فالجوع أشد ما يعانيه المسافر. وفي نفس الوقت لا يتوقع صاحب المنزل من القادم نحوه إلا أنه شخص يحتاج إلى وجبة طعام أو ما شابه ذلك. وقد يكون قدوم هذا الضيف بسبب حاجته إلى القهوة العربية. وبذلك يتحتم على صاحب هذا المنزل أن يهيء نفسه وأهل بيته من أجل تقديم ما يستطيع تقديمه لهذا الضيف القادم إليه. وظاهرة الفراسة من صفات الأعراب. فإذا أتاهم ضيف فإنهم يعرفون من ملامح وقسمات وجهه إن كان جائعاً فيعجلون له بالطعام. أما إذا لم يكن كذلك، فإنهم يعدون له القهوة أو يقدمون له طعاماً خفيفاً مثل التمر واللبن حتى يحين موعد وجبة الطعام. وفي الظروف العادية يُقدم الماء البارد إذا كان الوقت صيفاً، ثم تعد القهوة التي غالباً ما يصحبها التمر (القدوع) وبهذه المناسبة فإن الشاعر المعروف حميدان الشويعر يقول (إن القهوة بدون قدوع مثل الصلاة بلا سنة). وهذا كناية عن أن تقديم القهوة واجب على راعي المنزل لضيفه. وصاحب المنزل ليس له الفضل في تقديمها إلا إذا قدم معها التمر وهو القدوع. ومعنى ذلك أنه قدم شيئاً يمكن أن يشكر عليه. وإذا حضر ضيف، وكانت هناك قهوة قد أعدت لغيره، أو بقية قهوة، فإنها لا تعتبر له حتى وإن تناول شيئاً منها مع من كان موجوداً، بل لابد من عمل قهوة جديدة على شرفه، ويشاركه في شربها الحاضرون. وإذا كان قدوم الضيف في وقت الربيع وطلوع العشب، فإن تقديم اللبن والزبد والتمر للضيف في بداية الأمر شيء عادي ومألوف لدى سكان هذه المنطقة. كما أن تقديم القهوة - تقريباً - واجب إذا كانت متوافرة حتى لغير الضيف.(1/23)
حيث إنها تقدم لمن يزور شخصاً آخر، حتى وإن كان جاراً ملاصقاً. كما أن اللبن والتمر والزبد أيضاً تقدم لمن يأتي إلى صاحب المنزل، سواء كان ضيفاً أو جاراً أو أياً كان. فمثلاً عندما يمر شخص من الجيران أو الأقارب بصاحب منزل آخر في وقت الربيع وطلوع العشب، فإن صاحب المنزل يقدم بالإضافة إلى القهوة اللبن والتمر والزبد لهذا العابر، حتى وإن لم يكن ضيفاً. حيث إن تقديم مثل ذلك عرف في مثل هذه المواسم.(1/24)
وإذا كان قدوم الضيوف في وقت الوجبات المتعارف عليها، فإن صاحب المنزل يقدم لهم الموجود من الطعام المعد من قبل، أو يعد لهم طعاماً عادياً إذا لم يكن في متناول صاحب المنزل أن يقوم بواجبات الضيافة في ذلك الوقت. ويتلفظ صاحب المنزل مع تقديم ذلك الطعام بإحدى العبارات الآتية: سَمِّ الله يحيك يا ضيف الرحمان على الموجود. هذا إذا كان الضيف عادياً أو عابر سبيل. وبعد أن يتناول الضيف الطعام، فإما أن يواصل سيره أو يجلس إلى حين وهكذا. وإذا جلس إلى حين الوجبة القادمة فيصنع له طعاماً أفضل من الطعام الذي قدم له في المرة الأولى. أو يقول سم (قل باسم الله) الله يحيك على طعام البيت، وحقك ما هو هذا. أو يقول (الله يحيك على الفال ويقفاه العقال). وهو بذلك أي صاحب المنزل - يضمر أنه سوف يقدم له حقوق الضيافة التي تليق به في الوجبة القادمة حسب مكانة الضيف. أما الضيف إذا أراد أن يذهب أو أن يخفف على المضيف بحيث لا يدعه يتكلف له أكثر، فإنه يرد (بقوله فألك عقال)، أي أنك قد قمت بالواجب وهذا كاف. بعد ذلك فإن الضيف إما أن يواصل سيره إلى وجهته التي يريدها أو يبقى عند مضيفه لحين من الوقت حسب الظروف. وعندما يحين موعد الوجبة القادمة، وغالباً ما تكون وجبة العشاء، فإن الضيف إما يصر على رفضه بأن يقوم صاحب المنزل بتقديم واجبات ضيافة ترهقه وتكون مكلفة وهي غالباً القيام بنحر ذبيحة لهذا الضيف أو أن صاحب المنزل يصر بأن يقدم لضيفه ذبيحة ويكمل واجبات الضيافة اللازمة حسبما يراها صاحب المنزل. وفي كثير من الأحيان وفي مثل هذه الحالات، خاصة عندما يكون الضيف قريباً للمضيف، يتبادلان الأحلاف. فالضيف يقسم ويحرم من زوجته بأن لا يقوم المضيف بنحر ذبيحة. كما أن المضيف يقسم ويحرم من زوجته بأن يقدم لضيفه العزيز ذبيحة. وقد يصر كل منهما على قسمه فيقوم المضيف بنحر ذبيحة إيفاء بقسمه؛ أما الضيف، فإنه يمتنع عن الأكل منها إيفاء بقسمه هو الآخر.(1/25)
وبذلك تعتبر ضيفة لذلك الضيف حتى ولو لم يذق طعمها. وفي كثير من الأحيان، إذا توقع المضيف بأن ضيفه العزيز سوف يمنعه من نحر ذبيحة له فإنه لا يترك الضيف يعلم عن القيام بنحر ذبيحة، إلا بعد أن يقوم بنحرها، ومن ثم يضعه أمام الأمر الواقع.
ومن عادات العرب أن الضيف لا يمد يده إلى الطعام إذا وضع أمامه، إلا بعد أن يأذن له المضيف. ويقول المضيف عادة إذا أحضر الطعام أمام الضيف، وبعد أن يأخذ الضيف مكانه قرب الطعام (تفضل الله يحيك أو تفضل على عشاك أو غداك) ويصحب ذلك ببعض العبارات الترحيبية، كما أن المضيف يصحب ما يقدمه من طعام للضيف بعبارات الاعتذار عن التقصير حتى وإن كان ما قدمه أكثر من القيام بالواجب بكثير. وفي حالة وجود مدعوين إلى جانب الضيف لتناول الطعام معه، فإنه لا يحق لأي من هؤلاء أن يمد يده على الطعام قبل الضيف. ولا يحق للمدعوين أن ينهضوا عن الطعام قبل الضيف حتى وإن شبعوا. بل يظل كل في مكانه حتى يأخذ الضيف كفايته من الطعام ويخلِّف على صاحب المنزل إذناً لكل من يتناول الطعام معه بأن ينهض. وذلك بقول بعض العبارات المتعارف عليها مثل (أنعم الله عليك)، أو (أكثر الله خيرك) ونحو ذلك، وبعد ذلك ينهض البقية بعد الضيف.
وفي حالة غياب صاحب المنزل يُقدم الطعام أو القرى والقهوة للضيف أكبر ذكر في المنزل من أولاده أو إخوته ممن لهم الحق في القيام بدور صاحب المنزل من الذكور الحاضرين والذين يسكنون في نفس المنزل.(1/26)
وفي حالة عدم وجود رجل في المنزل فإن ربة المنزل تقوم بحقوق الضيافة والقرى عند غيابه. وتقوم بذلك على عادة زوجها وباسمه. وتقول عند تقديم الطعام (الله يحييكم على كيس معزبكم)، أي على حسابه ومن ماله - ويعتمد قيام الزوجة بدور زوجها في حالة غيابه على مدى أصالة الزوجة وتعويد زوجها لها في مثل هذه الأمور. كما يقوم بدور صاحب المنزل أخوه أو قريبه الذي يسكن بجواره في حالة غيابه. فإن ذلك الأخ أو القريب المجاور عندما يحل على منزل أخيه أو قريبه ضيفاً فإنه يأتي لمنزل هذا القريب الغائب ويقوم بحقوق الضيافة نيابة عنه.
أحياناً بعد أن يستريح الضيف في المنزل الذي قدم إليه لأول وهلة، وبعد تناول القهوة فإن هذا القريب يطلب من الضيف أن ينتقل معه إلى منزله بعد أن يقول له إن منزلي ومنزل أخي أو قريبي واحد، وهو الآن غير موجود والله يحيك عندي. فإذا قبل الضيف هذا العرض، فإن الضيف ينتقل إلى بيت هذا القريب الحاضر الذي عرض عليه ذلك. كما أن هذا الضيف له الحق في أن يرفض العرض ويبقى في البيت الذي وصل إليه لأول مرة. وهناك نوعان من الضيوف
الأول: ضيف الذبيحة، وهو الشخص الذي يستوجب على المضيف إذا قدم إليه هذا النوع من الضيوف أن يقوم بنحر ذبيحة له وفي الغالب يكون كبشاً من الضأن. وقد يكون أكبر أو أقل من الكبش ولكن المهم أن تكون ذبيحة، ويختلف حجم الذبيحة ونوعها حسب مكانة هذا الضيف وعدد الضيوف.
الثاني: ضيف لا تذبح له ذبيحة، وإنما يقدم له طعام قد يكون مميزاً عن طعام البيت ولكن أقل من الذبيحة لأن مكانته الاجتماعية لا تؤهله بأن تذبح له ذبيحة.
وكان في السابق أحسن ما يقدم بعد الذبيحة الأرز والسمن البلدي. وكان تقديم السمن للضيف مع الطعام من الأطعمة المهمة.
ويدلنا هذا البيت من الشعر على التفريق بين الضيف الذي يستحق الذبيحة والضيف الذي يستحق أقل من الذبيحة.(1/27)
الشيخ عند الشيخ حقه ذبيحة ... وإلا أنا وأنت عيش على دهان (1)
...
يمكن الحديث عن ضيوف الذبيحة، أي الذين لابد وأن ينحر لهم ذبيحة. وهذا يشمل أصحاب الشأن والكلمة المسموعة في المجتمع. ولذلك فإنه لابد وأن يقوم المضيف بواجبهم خير قيام؛ لأن أمثال هؤلاء إذا مدحوا سمع لهم، وإذا ذموا كذلك. فالمضيف يوفيهم حقهم إما طمعاً في المديح أو على الأقل لكي يسلم من ذمهم. وهؤلاء الضيوف عندما ينزلون على أي شخص يتوقعون مثل ذلك، وهؤلاء هم:
1- الشيخ
أي شيخ القبيلة أو أمير القرية ومن في حكمهم من ذوي المكانات الاجتماعية والتنفيذية في المجتمع، فالشيخ يتربع على رأس الهرم الاجتماعي لتلك القبيلة أو القرية وله الكلمة الطولى، كما أنه هو الذي يقرر الغزو ويقود المحاربين ويكون على رأس هؤلاء المحاربين. كما أنه هو الذي يقرر متى يتم النزوح عن المضارب التي تضرب القبيلة بيوتها فيها إذا كانت القبيلة بدوية. كما أنه هو الذي يعطي الأوسمة المعنوية لأفراد القبيلة. وهو الذي يتخذ القرارات الهامة فيها. على سبيل المثال عندما يتعرض فرد من أفراد القبيلة لغزو فإن الأمير هو الذي يقرر ما إذا كان سيتم اللحاق بهؤلاء الغزاة واسترداد الحلال المسلوب أم لا. كما أن الشيخ هو الذي يفض المنازعات التي تتم بين سكان القرى، ومن كان الشيخ في صفه فإنه في الغالب هو الرابح وهكذا.
2- الشاعر
__________
(1) دهان: تعني السمن البلدي.(1/28)
كان للشعراء أكبر الأثر في حياة المجتمعات في وسط الجزيرة وفي غيرها من البلاد العربية. وكان تأثير الشاعر في قديم الزمان في المجتمعات التي يوجد بها أكبر من تأثير وسائل الإعلام في الوقت الحاضر. فقد يرفع الشاعر من شأن شخص، أو عائلة، أو قبيلة معينة اجتماعياً، وقد يخفض من مكاناتهم أيضاً، بقصيدة أو بيت من الشعر. وكان للشعراء شأن كبير في تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده، وكان كبار الأمراء والخلفاء يخلعون على الشعراء الأعطيات والهبات، وذلك من أجل الحصول على المديح الذي يرفع من شأنهم، أو اتقاء ألسنتهم التي قد تؤثر على مكانة هؤلاء الأمراء والملوك والخلفاء في أعين أبناء المجتمعات التي يعيشون فيها. والقصائد في هذا المضمار لا تعد ولا تحصى وتزخر بها كتب الأدب العربي. وكذلك كتب الشعر في الوقت الحاضر.
3- الفارس الشجاع
الرجل الشجاع له مكانة اجتماعية كبيرة في حياة أبناء القبائل. فهو الذي يذود عن حمى القبيلة. وقد يدفع حياته في يوم من الأيام ثمناً لقبيلته وعزتها ورفعتها. ولذلك فهو مقدم عند القبائل ويستوجب على المضيف عندما يكون ضيفه رجلاً شجاعاً أن يقوم بذبح ذبيحة له؛ لأنه صاحب مكانة كبيرة.
كما أن الفارس أو الرجل الشجاع كثيراً ما يفك ضائقة الفرسان الآخرين أثناء المعارك التي تتم بين أفراد القبيلة وأفراد القبائل الأخرى. فعندما يحتدم القتال فالكل يستميت، وبذلك يكون الفارس أو الشجاع المشهور (يثنى) (1) دون الرجال الآخرين.
4- الكريم المعروف والمشهود له بالكرم
__________
(1) يثنى: يصمد في وجه العدو وخاصة إذا انهزم القوم.(1/29)
فهذا النوع يقدم للضيوف حقوقهم ويبالغ في ذلك. وهذا النوع من الناس معروف باستضافته للضيوف، ويقدم لهم أكبر مما يستحقونه؛ لأن تلك سجية من سجاياه، وهي من أهم السجايا المحببة آنذاك. وكان في السابق كل ما يُقدم يؤكل، والكل يذكر هذا الشخص - الذي نحر ذبيحة- بالذكر الطيب. كما أن لذلك دلالة دينية؛ لأنه يحس بإحساس الناس ويخفف من معانتهم، لذا فإنه يقوم بنحر ذبيحة للضيف حتى وإن كان هذا الضيف لا يستحق ذبيحة حسب المعايير المتعارف عليها. وهذا الكريم عندما ينزل هو ضيفاً على أحد فإنه يتوجب على المضيف أن يقوم بنحر ذبيحة له إكراماً وتجلةً. ويوجد بين أبناء المجتمعات العربية من بادية وحاضرة في وسط الجزيرة العربية اعتقاد بأن الذي لا يقوم بنحر ذبيحة لهذا النوع من الناس، أي للكريم الذي يحل ضيفاً عليه، فإن الله لا يبارك في حلاله، وسيموت له أي-لهذا الشخص الذي حل عليه الكريم- حلال كثير أو قليل. وبذلك يقال هذا عقاب فلان لأنه لم يقم بواجب الكريم فلان عندما حل عليه ضيفاً.
5- كبير السن
إذا قدم كبير السن على شخص وهو يعرفه، وخاصة إن كان ذا قربى، فإن المضيف يقوم بنحر ذبيحة له تقديراً واحتراماً. وخاصة إذا كان كبير السن هذا له فترة طويلة لم يفد إلى هذا المضيف. أما إذا كان غير معروف لديه، فإنه غير ملزم بذلك. كما أنه كلما كان كبير السن هذا قريباً إلى المضيف، وكلما كانت فترة غيابه عنه أطول، كان إلزامه القيام بنحر ذبيحة أقوى.
6- الجار
عندما ينزل شخص منزلاً مجاوراً لشخص آخر، فإن الشخص المقيم يقوم بنحر ذبيحة لجاره الجديد الذي نزل حديثاً. وهذا يحدث غالباً في البادية والقرى. وغالباً ما تكون بين هؤلاء الجيران معرفة من قبل.
7- المرأة(1/30)
عندما تحل امرأة على شخص من أقاربها، مثل الأم والأخت وجميع الأقارب حتى وإن لم تكن من المحارم، خاصة إذا كانت قاصدة هذا الشخص من مكان بعيد أي كضيفة، فإن المضيف يقوم بنحر ذبيحة لها، ولابد - في هذه الحالة - أن تكون لها فترة طويلة لم تزره، وليس ثمة زمن ولكن على الأقل أشهر، ويتأكد حق مثل هذه المرأة أكثر تبعاً لقرابتها بالأصل أو النسب، وبطول المدة التي لم تحل عليه فيها. أي أنه كلما كانت قريبة وكلما كانت لها فترة أطول لم تزره فإن حقها في تقديم ذبيحة أقوى وأكثر إلزاماً، ومثلها أيضاً المرأة المغتاضة، وهي المرأة التي يحصل بينها وبين زوجها خصام، فهي دائما تذهب إلى بيت أقرب أقربائها، وعندما تحل عنده يقوم بنحر ذبيحة لها، وذلك بهدف الرفع من مكانتها والأخذ بخاطرها، خاصة إذا كان زوجها قد قام بضربها أو إهانتها. وتبقى عند هذا القريب حتى يسوى النزاع بينها وبين زوجها ويتوسط في إنهاء مشكلتهما. كما أن هذه المرأة إذا أتت إلى بيت وليها فهي بالطبع تقيم عنده بصفة مستمرة إلى أن يتم تسوية قضيتها وتعود إلى بيت زوجها. أما إذا أتت لأول مرة عند بيت شخص قريب وهو ليس بوليها فإنها تقيم عنده إلى حين تسوى قضيتها مع زوجها ومن ثم تعود إليه، وإذا لم يتم تسوية قضيتها مع زوجها فإنها تبقى عند هذا الشخص حتى يوصلها إلى وليها، أو يعلم عنها وليها، ومن ثم يأخذها إلى بيته.
8- صغير السن
ويقوم المضيف بنحر ذبيحة له إذا كان قريباً جداً منه وصار له مدة لم يزره، ولكن هذا غير ملزم، وإنما تدخل في حب المضيف لهذا الصغير أو تقديراً لأهله أو لمكانة أهله.(1/31)
وإليك هذه القصة التي تدل على تأثير مكانة الضيف في نوعية القرى الذي يقدم له عندما ينزل على صاحب منزل معين. كان شخصاً يدعى مهنا بن زنيتان يقطن هجرة اسمها خنيفسة تابعة لمحافظة القويعية، ومد مهنا نظرة فإذا بجملين يمتطيهما رجلان مقبلين نحوه. وقد ظن أن أحد الرجلين شخص يدعى ابن جبرين أحد شيوخ القويعية آنذاك، فنهض وأمر زوجته بإحضار كبش من الضأن من أجل أن يقوم بذبحه وتقديمه قرىً لهما، فأحضرت زوجته الكبش، وعندما قرب الرجلان اتضح له جلياً أن ابن جبرين ليس أحدهما، وأنهم ضيوف عاديون وأمر زوجته بترك الكبش وقدم لهما قرى غير الذبيحة؛ لأنهما ليسا ضيوف ذبيحة وإنما ممن يقدم لهم قرى دون الذبيحة. وهذا يدل على أن مكانة الضيف هي التي تحدد نوعية القرى التي تقدم له.
النوع الثاني : الضيف الذي لا تذبح له ذبيحة
فهذا النوع يقدم له طعام أقل من الذبيحة، أي يتوجب على صاحب البيت (المضيف) أن يقدم له قرى يليق به ويشبع جوعه. وهذا النوع عادة أعلى من أوسط ما يأكل أهل البيت منه. وكلما كبرت مكانة هذا الضيف في عين صاحب المنزل كان ذلك القرى الذي يقدمه لضيفه أفضل. ويصحب ذلك الترحيب والعذر الجميل أيضاً.
أخيراً قد يكون الضيف الذي يحل ضيفاً على صاحب المنزل غير معروف ولا يستطيع أن يصنفه بسهولة حسب نوعية الضيوف التي جرى مناقشتها أعلاه، ففي هذه الحالة تظهر فراسة المضيف ومعرفته في مثل هذه المواقف. فيستطيع في الغالب أن يتعرف على نوعية ضيفه من هيئته وطريقة حديثة وتصرفاته. ولدى أبناء الجزيرة العربية فراسة في مثل هذه الأمور وغيرها. وبذلك يستطيع أن يحدد مكانة الضيف ونوعية القرى الذي يقدم له.(1/32)
وفي بعض الأحيان يرى صاحب المنزل أن ضيفه يستحق أن يقدم له قرى عادي دون الذبيحة ولكن مع ملاحظة ضيفه وسماع بعض أحاديثه، وأحياناً عندما يعلم من هو يغير صاحب المنزل - أي المضيف- رأيه، ويقوم على الفور بنحر ذبيحة ويعتذر. أي أن المضيف بفراسته وملاحظته يعرف أن ضيفه ليس كما ظن أول مره بأنه ضيف عادي، وإنما ضيف له مكانة ولابد أن يقدم له القرى الذي يليق به.
حرمة الطعام
للطعام حرمة، سواء بالنسبة للمضيف أو للضيف، فبالنسبة للمضيف فإن العرف يحتم عليه ألا يمس من أكل من طعامه بأي أذى. فلو نزل شخص على شخص آخر كضيف، واستطاع هذا الشخص أن يأكل من طعام صاحب المنزل ثم اتضح بعد ذلك لصاحب المنزل أن هذا الضيف هو عدوٌ له كأن يكون قد قتل أو أصاب أحد أقرباء، فإنه لا يستطيع أن يمسه بسوء لفترة معينة تصل إلى ثلاثة أيام. وإذا رمت الأقدار أحد الأشخاص على نزل شخص عدو له، فإن أول ما يقوم به هذا القادم هو الأكل من طعام صاحب المنزل، وبذلك لا يستطيع صاحب المنزل أن يمسه بأذى حتى يرحل ويبتعد عن منزل هذا الشخص مسافة توصله إلى أحد يؤويه أو يصل إلى ديار قومه.
وإذا حل شخص على شخص من قبيلة أخرى، وقام هذا الشخص بتقديم القرى لهذا الشخص الغريب فإن صاحب الطعام الذي هو في هذه الحالة المضيف يقوم بحماية هذا الضيف من رجال قبيلته ما دام في حدودها لمدة تصل إلى ثلاثة أيام. ولا يستطيع هذا المضيف - في الغالب -حماية هذا الضيف خارج حدود قبيلته. وتسمى لدى قبائل وسط الجزيرة مثل قبيلة عتيبة أحد الثلاث البيض. حيث إنه تتحتم حماية أي واحد من ثلاثة وهم الجار (ويطلق عليه الطنب السابح) والطنب السابح يقصد به الحبل الذي يثبت بيت الشعر في الأرض. والضيف السارح وهو الشخص الذي يحل ضيفاً على شخص، ومن ثم يأكل من طعامه ثم يغادره، ويقال الضيف السارح لأن الضيف عادة إذا أراد مغادرة مضيفه يغادر في الصباح وليس في المساء .(1/33)
وأخيراً خوي الجنب فهؤلاء تجب حمايتهم. والذي يهمنا هنا هو الضيف السارح حيث إن مضيفه مسؤول عن حمايته لمدة ثلاثة أيام كما ذكر.
وإليك هذه القصة التي تدل على حرمه الطعام. وهي أنه قد حل ضيف على جماعة من قبيلة الخرصة من الفدعان من عنزة، وبعد أن أكرموه خرج من عندهم، وتعرض له حنشل (1) ، وسلبوا ماله. بعد ذلك عاد إلى مضيفه وأخبره بما حصل له. وكان هؤلاء الحنشل من نفس القبيلة التي حل الضيف عندها. وقد اشتكى المضيف (المعزب) هؤلاء الحنشل عند العارفة وشيخ القبيلة وأثبت حسب أعراف القبيلة أن له الحق في حماية ضيفه لمدة ثلاثة أيام، وفعلاً حكموا له واستطاع أن يرد مال مضيفه (2) .
وفي المقابل، فإن الضيف الذي يحل ضيفاً على شخص معين ويأكل من طعامه يجب أن لا يتعرض لمضيفه بسوء أياً كان حتى وإن كان عدواً له، كما أنه لا يغدره، ولا يقوم بهجائه إذا كان قد قام بواجبات الضيافة والقرى تجاه ذلك الضيف. كما أنه إذا علم الضيف عن حالة المضيف وأنه لا يستطيع أن يقدم لضيفه إلا الشيء القليل حسب قدرته، عليه أن يستر ذلك وأن لا يعرضه لأي نوع من الذم.
وهذه القصة توضح ذلك. يروى أن شخصاً يدعى خلف بن عمار العنزي كان له تجارة وضاف شخصاً يدعى راشد. وكان راشد هذا صاحب مال وتظهر عليه مخايل الكرم والمكانة وتصادف أن نفذ ما عنده من حلال. وكان لا يجد إلا القليل من التمر. وعند وقت العشاء قدم لضيفه القهوة والتمر واعتذر من ضيفه وحلف له أنه لا يجد ما يقدمه لضيفه أفضل مما قدمه. ولكن راشداً هذا لم يكن راضياً عما قدمه لضيفه ولكن لا حيلة له. وعندما توقع أن ضيفه خلف قد نام قصد قصيدة يخاطب ابنه حمود ويتوجد أنه يكون قادراً لتقديم الطعام اللازم لضيفه:
يا حمود لو الضيف يسئل سألناه ... لكن ثلاث أيام ما يسأل الضيف
__________
(1) هم عادة مجموعة صغيرة من اثنين أو ثلاثة تقريباً يباغتون الآخرين ويستولون على مالديهم من مال.
(2) العنزي وآخرون، "الضيافة."(1/34)
الضيف حقه لازم تقلط قراه ... مار البلا دنياي ما جت على الكيف
عن ضيفنا ما جودنا ما ذخرناه ... ما نذخره مهما تكون التكاليف
وعند سماع الضيف هذه الأبيات التي قالها راشد عرف أن مضيفه (راشد) رجل كريم، وأنه صادق لم يجد إلا ما قدمه له، فقال خلف هذه القصيدة، قصده أعطى الأمان لمضيفه وأنه قد قبل العذر، يقول فيها:
اليوم عذرك يالمعزب قبلناه ... يا راشد يا ريف الركاب المناكيف
حنا المعزب عمرنا ما شنيناه ... الطيب واضح فيك ما يريد تعريف
أنت الذي بالجود ما رد يمناه ... كلامك أحلى من حليب المهاديف
فهنا أمن الضيف المضيف بأن الطعام الذي تناوله عنده كاف بأنه لا يلحق هذا المضيف أي ذم أو هجاء (1) . ويوجب العرف على الضيف أن لا يتناول وجبة طعام ثانية لدى أي شخص ثان في نفس الوجبة. فمثلاً إذا نزل ضيف على شخص معين في وقت وجبة الغداء التي هي في العادة وقت الظهر، أي منتصف النهار، وقدم المضيف له غذاء في ذلك الوقت، فيجب أن لا يأكل هذا الضيف بعد تلك الوجبة لدى أي شخص آخر حتى وجبة العشاء التي تكون ليلاً. وإذا تناول وجبة العشاء عند شخص معين فيجب أن لا يأكل بعدها في نفس الليلة وهكذا. وإذا حدث وأن تناول الضيف أكثر من وجبة في نفس الوقت فإن المضيف الذي قدم له الطعام في المرة الأولى يقاضيه ويعتبر أنه تعدى عليه وأهانه. لأن ذلك يدل في عرف العرب على أن المضيف لم يقدم القرى الكافي لهذا الضيف. كما أن الضيف لا يخرج إلا بعد أن يستأذن من المضيف، وإذا خرج بدون علم المضيف أو رضاه دل ذلك إما على وضاعة منزلة هذا الضيف، وأنه لا يعرف الأصول، أو أن هذا الضيف غير راض عن مضيفه. أو أنه لاحظ انتقاصاً في حقه من قبل صاحب المنزل الذي نزل ضيفاً عليه، كما أنه من الآداب المتعارف عليها أن يقوم المضيف بتوديع ضيفه عند مغادرته.
إلزامية القرى
__________
(1) العنزي وآخرون، "الضيافة."(1/35)
يُلزم المضيف أن يقدم طعاماً للضيف، وهذا الطعام لابد أن يكون متمشياً مع مكانة الضيف الاجتماعية، سواءً من ناحية الكم أو الكيف. وتقديم القرى للضيف إلزامي وليس لصاحب المنزل فيه أي معروف. فمن حق الضيف إذا قدم على صاحب منزل أن يقدم له الطعام الذي يليق بمكانته. وفي هذا المقام يجب أن نفرق بين القرى وهو الطعام الذي يقدم للضيف، وبين الكرم الذي هو صفة كريمة وقيمة محببة، لدى الناس. فتقديم القرى هو حق وواجب على المضيف وليس نافلة. والتقصير في تقديمه يعتبر سلوكاً يعاقب عليه العرف القبلي في وسط الجزيرة العربية وفي المجتمعات العربية الأخرى. أما الكرم وهو صفة حميدة لدى جميع البشر، فليس إلزاماً ولا يجب على كل إنسان أن يكون كريماً. فالكرم قيمة اجتماعية محببة. والشخص الكريم له مكانة اجتماعية مرموقة بين المجتمعات العربية قديماً وحديثاً. وهناك كثير من كرماء العرب اشتهروا بكرمهم وتفانيهم في تقديم الطعام للناس. فقديماً نجد حاتم الطائي وغيره وحديثاً نجد ابن مهيد منادي بالعشاء وغيره. فالذي يقدم الحد الأدنى من القرى للضيوف يكون قد قام بالواجب لضيوفه وسلم من طائلة العقاب التي قد تقع عليه، ومن بالغ في تقديم القرى لضيوفه وللناس حتى وإن كانوا غير ضيوف فقد اتصف بالكرم ووصف به كقيمة اجتماعية عالية. ويكفي العربي فخراً أن يتصف بها أو يوصف بها. ويتناقل خبر كرمه الركبان ويصفه الناس بهذه الصفة الحميدة. وكلما كان الرجل كريماً في وقت تعز فيه لقمة العيش على الناس، كانت صفة الكرم لهذا الرجل الكريم أكبر في أعين الناس. وذلك لتمكنه من تقديم الطعام للضيوف - رغم حاجته له - ويقدم المضيف القرى أو الضيفة للضيف للأسباب الآتية:(1/36)
السبب الأول: هو من أجل السمعة الطيبة والإطراء الذي دائماً يقوم به الضيف تجاه مضيفه. كما أن المضيف يحصل أيضاً على المديح من الناس المجاورين له والذين يعرفونه بهذا الكرم، والذين غالباً ما ينالهم شيء من الطعام الذي يقدمه لضيوفه.
السبب الثاني: أن المضيف يقدم القرى للضيف باعتباره واجب عليه ويحاول إعطاء الضيف حقاً من حقوقه التي أوجبه عليه العرف الاجتماعي. ويعتبر حقاً للضيف ويقدمه المضيف كحق ولا يتوقع من الضيف إطراءً أو مديحاً، بل يتوقع من الضيف أن يعتبر أن هذا المضيف قدم لهذا الضيف ما يجب أن يقدمه مضيف لضيفه.
السبب الثالث: أن المضيف يقدم الطعام للضيف كواجب إلزامي وأن عدم تقديمه يعرضه للجزاءات الاجتماعية.
الجزاءات الاجتماعية الخاصة بعدم الالتزام بواجبات تقديم القرى
إذا ضاف شخص شخصاً آخر، فإنه من الواجب أن يقدم المضيف طعاماً لضيفه، وقد تستمر الضيافة لمدة ثلاثة أيام وقد تكون لوجبة واحدة وهذا هو الغالب.
وإذا لم يقدم المضيف طعاماً لضيفه حسب نوع الطعام المتعارف عليه من حيث الكمية، ومن حيث النوع، فإن من حق الضيف أن يقوم بنشر خبر هذا التقصير بين بيوت العرب، وأن يصف هذا المضيف بأنه بخيل. وهذه أسوأ صفة يوصف بها الإنسان بين قبائل العرب، حتى أنها أسوأ من صفة الجبن. وبإمكان الضيف أن يهجو مضيفه البخيل بأبيات يصف فيها بخله.
ويأتي التقصير على درجات سوف يتم مناقشة كل واحدة على حدة.(1/37)
1- مسيب ضيفانه: وهو صاحب المنزل الذي ينزل عليه ضيف معين ولكن صاحب المنزل يحجم عن تقديم الطعام له. وتعتبر هذه الصفة أسوأ الصفات التي يمكن أن تطلق على الشخص. والشخص الذي يُعرف بها ليس له مكانة اجتماعية بين العرب قاطبة، بل إن الناس يتحاشون مصاهرته، فلا يزوجونه ولا يتزوجون منه. ويعتبر عاراً على القبيلة أو العائلة التي ينتسب إليها، كما أن الضيف في مثل هذه الحالة يحق له أن يقول ما يريد عن بخل هذا المضيف الذي يحجم عن تقديم الطعام لضيفه، ويستطيع كذلك أن يقاضيه عند قضاة العرف القبلي. كل ذلك إذا كان المضيف لديه ما يستطيع تقديمه لضيفه. أما إذا لم يكن لديه ما يقدمه لضيفه من طعام، فإن هذا له شأن آخر. فمع أن المضيف في الغالب لا يكون مسروراً عن الوضع الذي وضعته الأقدار فيه، (وهو عدم وجود أي نوع من الطعام لتقديمه لضيفه أو عدم وجود الطعام الذي يليق بضيفه)، إلا أن العرف لا يعاقبه على ذلك. وفي كثير من الأحيان يتعاطف الضيف الشهم مع مضيفه إذا رأى أن هذا المضيف رجل شهم، ولكنه لا يجد ما يقدمه لضيفه، أو لا يجد القرى الذي يليق بمكانته. وهذا ما أشرنا إليه في أبيات الشعر التي تبادلها المضيف راشد والضيف خلف أعلاه.
2- المضيف الذي يقدم القرى ليس على المستوى المطلوب، أو لا يساوي الحد الأدنى الواجب تقديمه.(1/38)
فالضيوف مقامات حسب ما جرى الحديث عنه في هذا البحث. وتتفاوت كمية ونوعية الطعام الذي يُقدم لكل فئة من فئات الضيوف حسب مكاناتهم. وأقل ما يقدم للضيف العادي من الطعام هو ما يشبعه من طعام أهل البيت. وأكبر ذلك هو نحر ذبيحة سواء كانت جملاً أو كبشاً أو نحو ذلك. وإذا قدم المضيف قرى أقل من شبع الضيف العادي، أو أقل من مستوى طعام أهل البيت فإنه لا يعتبر أنه قام بالواجب إلا إذا لم يجد سوى ذلك. كما أن المضيف الذي يقدم أقل من ذبيحة للضيف الذي يستحقها لا يعتبر أنه قام بواجبات القرى اللازمة التي تتماشى مع مكانة الضيف، إلا إذا كان لا يجد سوى ذلك القرى، لأن العرف العربي يقول الجود من الموجود. وإذا شعر الضيف أنه لم تقدم له واجبات القرى التي تليق به من قبل المضيف، فإنه يستطيع أن يهجو هذا المضيف، سواءً بذمة بين الناس، أو بهجائه بقصيدة، أو حتى يقاضيه لدى قضاة العرف القبلي. وتدل هذه القصة على مشروعية مقاضاة الضيف للمضيف.
ضاف رجل من قبيلة عنزة رجلاً آخر من قبيلة حرب. فقام الشخص الذي من قبيلة حرب بتقديم الحليب لضيفه العنزي. ولكن الضيف الذي هو من قبيلة عنزة رفض شرب الحليب الذي قدمه له الحربي محتجاً أن هذا ليس القرى المطلوب تقديمه له كضيف. ولكن الحربي أصر على العنزي أن يشرب الحليب حتى لا يلحقه مذمة بأنه لم يقر ضيفه. وقد رفعت هذه القضية لقضاة العرف القبلي كما يتضح من الأبيات الشعرية التي طرحها كل من الضيف والمضيف لتوضيح دعواه أمام القاضي.
فبدأ العنزي بطرح قضيته أمام القاضي والمتمثلة في هذه الأبيات:
ربي حسبي على الحربي ... يا رب قطع مطاليبه
اللي غصبني على الشربي ... ماء تطافح دغاليبه
فرد الحربي على تلك الأبيات الموجهة للقاضي:
يا شيخ الإسلام بحربي ... آيات منا بدا عيبه
أنا أقريته لبن عربي ... كل المخاليق تقري به
وهو مخيش كما الخربي ... يبي هبيش (1) يفلي به
__________
(1) الهبيش هو: الأرز.(1/39)
ويتضح من الأبيات أن العنزي يدعي بأن حقه في القرى على المضيف أن يقدم له الأرز وأن الحليب أقل مما يجب أن يقدم له كقرى. أما الحربي فيقول إنني قد قمت بواجبات القرى مثل سائر الناس الموجودين.
وصاحب المنزل الذي يحل عليه الضيف يشقى هو وزوجته كثيراً أثناء إعداد الطعام للضيف. وذلك لكي لا يكون هناك تقصير قد يعرضه وأهل بيته للنقد أو الذم. وفي حال نزول ضيف يستحق ذبيحة على صاحب المنزل، فإن صاحب المنزل الذي يكون مسؤولاً أيضاً عن دعوة الجيران والأقارب لمشاركة الضيف الطعام؛ لأنه متى ذبح صاحب المنزل ذبيحة لضيفه فإن هؤلاء الأقارب والجيران يكون لهم حق بأن يدعوا إلى هذه الضيفة. فهي فعلاً- أي الذبيحة- تذبح للضيف، ولكن عندما تذبح فإنه يكون لهؤلاء الجيران والأقارب حق فيها بحكم القرب المكاني للجيران، وقرابة الدم للأقارب. وكان في قديم الزمان يعلق مثل هؤلاء أمالاً على قدوم أحد الضيوف الذين يستحقون أن تذبح لهم ذبيحة، لكي يأكلوا لحماً طالماً لم يأكلوه لفترة قد تصل إلى سنة أو أكثر. وكانت بعض القبائل عندما ينزل ضيف على أحد أفرادها يستحق أن تنحر له ذبيحة يقوم المضيف بعرض الذبيحة حية على الضيف قبل أن يقوم المضيف بنحرها ومن ثم يقوم بنحرها وتقديمها للضيف ولمن هم في الحي. هذا ليس من أجل المباهاة وإنما خشية أن يُلحق هذا الضيف المضيف أي نقد أو مسبة ونحو ذلك. وليس ذلك إلا دليل على قوة نظام القرى لأنه متى ما رأى الضيف الذبيحة حية فليس له الحق أن ينقدها أو ينتقد مضيفه. كما أنه - لدى البعض - عندما يُقدم المضيف إلى ضيفه القرى وخاصة الذبيحة يقول للضيوف تفقدوا وتنقدوا. أي انظروا إلى الذبيحة التي أمامكم، وإذا كان هناك تقصير أخبروني به أو بينوه.(1/40)
وإذا كان المضيف يخشى أنه لم يقم بواجبات الضيافة اللازمة، فإنه يقول معتذراً، (ما نقص من قراكم نبيه من لحاكم) أي نطلب منكم المعذرة، إذا كان ما قدم لكم من طعام أقل من الواجب تقديمه.
وفي هذا السياق نورد هذه القصة التي جرت أحداثها منذ أربعين عاماً، وهي أنه كان في قرية الصفراء في منطقة الواديين بعسير رجل يدعى مرعي أبو شهران القحطاني نزل عليه ضيف، ولم يكن لدى مرعي المذكور طعام يقدمه له. وقام بعمل قهوة له، وأخذ يتباطأ في عمل القهوة، وفي نفس الوقت بعث زوجته بالنجر (1) لكي تستلف ملأه دقيقاً من جيرانه، سكان القرية المذكورة لكي يقدمه قرى لضيفه. ولكن بعد فترة عادت زوجة مرعي المذكور وكانت عودتها مخيبة لآماله. حيث قالت لقد درت على جميع سكان القرية ولم أجد عند أي منهم ما يملأ النجر دقيقاً. فما كان من مرعي أبو شهران إلا أن قدم القهوة لضيفه وأقسم له بأنه لا يجد ما يقدمه من طعام. وكان ذلك في وقت الظهر أي في وقت تقديم وجبة الغذاء. فما كان من ضيفه إلا أن أقسم لأبي شهران بأنه سوف لن يأكل طعاماً قبل وجبة العشاء التي تقدم عادة في المساء؛ (2) لأنه إذا أفصح هذا الضيف بأنه لم يقدم له مضيفه (أبو شهران) طعاماً فإن ذلك فيه معيبة على ذلك المضيف. لأن العرف والعادات والتقاليد في مثل ذلك لا ترحم . كما أنه لو تناول طعاماً قبل وجبة العشاء فإن ذلك يدل على أن مضيفه لم يقدم له طعاماً يكفيه حتى لا يأكل وجبة ثانية في نفس الوقت. لأن تناول طعام لدى فردين مختلفين في مدة وجيزة، أي في فترة الغذاء أو في فترة العشاء، هو دليل على أن المضيف الأول لم يقم بواجبات الضيافة تجاه ضيفه.
__________
(1) النجر وهو آلة أقرب ما تكون للوعي يهرس فيها البن بعد أن يحمص.
(2) رواه سعيد عبد الله القحطاني، قسم التاريخ، جامعة الملك سعود.(1/41)
كما أن الضيف الذي يأكل لدى شخصين مختلفين وجبتين في وقت واحد مثل الغذاء يعتبر عيباً وخاصة إذا كان المضيف قد قام بواجبات الضيافة اللازمة لضيفه. كما أنه من حق المضيف إذا قام بواجبات الضيافة تجاه ضيفه وبعد ذلك خرج الضيف من عنده وتناول طعاماً عند مضيف ثانٍ في نفس الفترة له أن يقاضي ذلك الضيف على هذا السلوك.(1/42)
وهذه القضية، أي مسألة أن يتناول الضيف طعام العشاء عند شخص معين ولكن قد لا يشبع من الطعام الذي قدمه له المضيف ومن ثم يرحل ويحل ضيفاً على شخص آخر ثم يتناول لديه وجبة العشاء مرة ثانية في نفس الليلة، قد وضع له سكان جنوب المملكة حلاً. حيث اجتمع سكان المنطقة، تحت تظلم الضيوف، وذلك أن الطعام الذي يقدم للضيف العادي في هذه المنطقة عبارة عن رغيف خبز مستطيل الشكل، وهذا الرغيف في العادة لا يشبع الضيف. كما أن الأعراف قد حتمت على الضيف بألا يأكل لدى أحد آخر وجبة قد تناولها عند شخص من قبل رغم كون ما قدم له لا يسد جوعه، وبناء على هذه الحالة فقد اجتمع أعيان المنطقة وأصدروا قراراً بحل هذه الإشكالية. وهذا القرار ينص على أنه عند تقديم الخبز الذي هو الوجبة الرئيسة التي تقدم للضيف يقوم المضيف بقطع أحد طرفي الرغيف. وهذا دليل على أن الوجبة التي قدمت للضيف غير كافية لسد جوعه وأنه بإمكانه أن يأكل أي طعام يحصل عليه في أي وقت وأي مكان، وأن ذلك يعتبر إذناً للضيف من المضيف بأنه لو أكل عند شخص آخر فليس عليه عيب في ذلك. وفي نفس الوقت، فإن المضيف غير ملوم لو أكل ضيفه عند شخص آخر بعد أكل هذا الرغيف عنده وهذا لا يصدق على الموسرين الذين يستطيعون أن يقدموا وجبة كاملة لضيوفهم. يقول باشا:" كان القادرون يذبحون الخراف. وفي حالة هناك فقير لا يجد إلا نعجة أو عنزاً حلوباً فإنه لا يتوانى في ذبحها وإطعامها لضيوفه. وإذا كان لديه ناقة حلوباً يقوم بحلبها وتقديم ذلك للضيف مع الاعتذار. أو أنه قد يستدين من أجل تقديم واجبات الضيافة." (1)
الكرم
__________
(1) باشا، مرآة العرب، 368.(1/43)
الكرم هو الوصف الذي يوصف به الشخص الذي يتعدى حدود القرى وتقديم الواجب للضيف. بل يوصف به الشخص الذي ديدنه تقديم الطعام لجميع الناس وبالدرجة الأولى للضيوف ويبالغ في ذلك. ويتصف بهذه الصفة ذوو المكانة الاجتماعية الكبيرة، وأول ما يتعلمه العربي هو صفة الكرم. وقد أصبحت هذه الصفة سجية من سجاياه التي عرفها الناس عنه. ويقوم من يتصف بهذه الصفة بالمحافظة عليها من أجل أن يحافظ على مكانته الاجتماعية، ويعمل من أجل تعزيزها، أي تعزيز مكانته، من خلال التزامه بصفة الكرم.
وهذه الصفة قد أصلتها النظم والأعراف العربية على مر العصور في هذه الجزيرة. وقد قال أحد الشعراء ممتعضاً عندما ضغط عليه بعض معارفه وأقاربه لكي لا ينفد ماله في المبالغة في الكرم وأن عليه أن يوفر ذلك المال لحين حاجته، لا سيما وأن وضعه المالي المتردي سببه المبالغة في إكرام الضيوف، فيقول رداً على هؤلاء الناصحين:
يلومني الرديان لا كثر مالهم ... يلوموني ويلحقوني ملام
يقولون خل الضيف لا تعتني به ... يبون البخل يبني على سنام
ويقول شاعر أخر واضعاً سناً محدداً يجب على من يبلغه أن يتصف بالصفات الحميدة المحببة آنذاك ألا وهي في المقام الأول صفة الكرم والشجاعة.
لا جاء للولد عشرين عام ... ما نطح الموجبات
لا تشفى عليه إن كان حي ... ولا تبكي إن كان مات
ويقول شاعر آخر:
من عود الجذعان أكل ببيته ... زاروه في خطو الليالي الشدائد
ومن عود الجذعان ضرب بالقناء ... نخوه يوم الكون يا با العوائد
وظيفة الضيفة والقرى(1/44)
كما سبقت الإشارة إلى ذلك بطريقة مباشرة أو ضمنية: الضيفة والقرى من القيم المهمة في المجتمع العربي والتي لابد للعربي من الحافظ عليها. فهي من أكبر القيم التي يهتم بها كل فرد في الجزيرة العربية وينميها لدى أولاده وأحفاده. وقد وصلت هذه القيمة الاجتماعية (الضيفة والقرى) هذا المستوى نظراً للضرورة التي أملت على كل ساكن عربي الالتزام بها. ويقول مرزوق تنباك:" إنه القرى والضيافة؛ لأنه الموضوع المحبذ في العقل العربي، وهو أكثر صفات الكرم التصاقاً بحياة عرب الجزيرة." (1)
ومن أهم وظائف نظام القرى والضيافة في الجزيرة العربية ما يلي:
__________
(1) تنباك، آداب الضيافة، 13.(1/45)
1- أن تشبع جوع الجياع، فالناس في هذه المنطقة محدودو الموارد. فالمنطقة معظمها أراضٍ قاحلة لا تجري فيها أنهار، كما أن الأمطار التي تهطل عليها موسمية وقليلة الكمية. وقد تمر سنوات دون أن ترزق بعض أجزاء هذه المنطقة أو جميعها بأمطار. كما أن هذه المنطقة ليست منطقة تجارية خاصة إذا استثنينا المناطق الساحلية وتلك التي توجد فيها الأماكن المقدسة؛ أما ما عدا ذلك، فإن نصيبها من التجارة لم يكن أفضل من نصيبها من الموارد الطبيعية. لذا إذا لم يوضع نظام القرى في أولوية نظم هذه المجتمعات فإن المجاعات التي تحصد أرواح سكان هذه المنطقة هي مصير كثيرين منهم. لذا، فإن من يهيم على وجهه في الصحراء سوف يجد ما يسد رمقه عند أول بيت يأوى إليه. وقد تأخذه هذه الوجبة إلى بيت آخر، وهكذا حتى يفرجها الله عليه وعلى أمثاله من سكان هذه المنطقة الذين هم في مثل حاله. كما أن قدوم ضيف معروف إلى صاحب بيت سوف يجعل صاحب هذا البيت يقيم له وليمة. وهذه الوليمة سوف تطال بعض سكان الحي الذين ليس لديهم ما يسدون به جوعهم. وبهذه المناسبة يحكى أن هناك ضيفاً ممن لهم حق أن تنحر له ذبيحة، قدم على صاحب بيت وعندما هم صاحب هذا البيت أن يقوم بنحر ذبيحة بمناسبة قدومه، أقسم هذا الضيف على صاحب المنزل بأن لا يقوم بنحر ذبيحة له. وقد سمعت امرأة من الجيران هذا الحوار بين الضيف ومضيفه، فما كان من هذه المرأة إلا أن دعت على هذا الضيف بقولها (الله يحرمك كما حرمتنا من هذه المناسبة)، وعند ذلك كان من الضيف إلا أن غير رأيه وطلب من مضيفه أن يفعل ما يشاء. كل ذلك بسبب هذه الدعوة من تلك المرأة.(1/46)
2- وظيفة اقتصادية: في الماضي كان إذا ضيَّف شخص معين، أي أعد وليمة قوامها نحر خروف أو نحر جمل ونحو ذلك، فإن الجيران الذين يحيطون به يعلمون أنهم مدعوون أو على الأقل سينالهم من تلك الوليمة شيء، وبذلك فإنهم لا يقومون بإعداد طعام لتلك الوجبة. وبذلك يوفرون وجبة طعام، وجميع ما يبذل لتلك الوليمة يؤكل ولا يتبقى منه شيء. ولذلك، فإن ظاهرة التبذير المعروفة الآن في الجزيرة العربية لم تكن معروفة في ذلك الزمن. وقد كان هناك شخص غريب يسكن في أحد الأودية في الجزيرة العربية وكان يتوسط بين جارين له، وهذان الجاران لم يكونا ملاصقين له بل بينه وبينهما مسافة. وكان في تلك الحقبة عندما يكون هناك وليمة فإن ملامح ذلك تبدو منذ وقت مبكر، حيث يقوم المضيف بإيقاد نار كبيرة من أجل صنع هذه الوليمة. كما أن الجيران يعرفون بهذا الحدث حتى وإن كانوا بعيدين. وفي إحدى الليالي نظر هذا الغريب وإذا بجاريه الاثنين قد أوقدا ناراً كبيرة مما ينبئ بأن هناك وليمة. وقد توقع هذا الغريب بأنه سوف يناله من تينك الوليمتين شيء، أو على الأقل من أحداهما، وقد دعا ابنه واسمه عبد العظيم قائلاً: يا عبد العظيم لا تصنع لنا عشاء هذه الليلة فكلا جارينا لديه وليمة وسوف يصلنا عشاء هذه الليلة. ولكن لسوء طالعه لم ينله عشاء من كلا الجارين. والسبب هو أن كليهما توقع بأن الجار الثاني سوف يرسل عشاء لهذا الشخص الغريب ولكن لهذا السبب لم يصله عشاء من أحد منهما. وقال مقولة مشهورة يتناقلها الناس في هذه المنطقة، وهي (يا عبد العظيم نحن اعتمدنا على المخلوق وتركنا الخالق قم اصنع لنا عشاء).(1/47)
3- قيمة اجتماعية: صفة الكرم من القيم الاجتماعية التي يهدف إلى بلوغها الرجال في المجتمع العربي نظراً لصعوبة الحصول عليها، وذلك لقلة ما في أيدي الناس وشدة حاجة الناس إلى الطعام ولقمة العيش. وابن هذه الجزيرة جبل على البذل والإيثار. لذا، فإن الأب عند تربيته لابنه أول ما يوصيه هو الاعتناء بالضيف، وتقديم الطعام له مع سماحة البال وبشاشة الوجه حتى لا يشعر بأي مضايقة.
التغير الذي أصاب نظام الضيافة
أصاب نظام القرى والضيافة تغير مثله مثل النظم والعادات التي كانت مسيطرة في الجزيرة العربية، فمع الازدهار الاقتصادي الذي حدث منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين الميلادي نمت تبعاً لذلك عادات أخذت تزيح النظم والعادات القديمة وتحل مكانها. هذا الاتجاه لم يطمس ما قبله تماماً، ولكن يوشك أن يفعل. لقد تحول الكرم كقيمة اجتماعية يصبو الرجل لفعله لكي يأخذ مكانه في المجتمع كشخص كريم يساهم في سد متطلبات المجتمع الذي يعيش فيه بتقديم الطعام للجائعين والمحتاجين، رغم حاجته هو له، إلى نوع من المباهاة يقوم بها الشخص الغني والفقير نظراً لسهولة القيام بها. ثم إنه مع الطفرة الاقتصادية التي عمت البلاد خلال الفترة المشار إليها أعلاه ارتفعت دخول الناس وأصبحت قيمة الخروف الذي يقوم المضيف بنحره في هذه الأيام لا تؤثر على ذلك المضيف بعد ما كانت في السابق تهز كيانه الاقتصادي. وقد لا يكون لدى هذا المضيف عند قدوم ضيف إليه إلا هذا الخروف أو النعجة أو قد يستدينها لكي يقوم بقرى ضيوفه.(1/48)
لقد أخذت ظاهرة القرى كواجب في التقلص في هذه الأيام نظراً لوجود البدائل وانشغال الناس. وأصبح هناك متسع من العذر لمن لم يقدم القرى للضيوف إلا إذا كانوا قاصدين منزله وهؤلاء قليل، نظراً لأن كل شخص له أقارب أو أنه باستطاعته الذهاب إلى الأماكن التي تقدم الخدمات لمثل هؤلاء الناس مثل المطاعم والفنادق. كما أن صاحب البيت يكون خارج منزله معظم الوقت كما أن الزوجة في القرى والمدن لا تستقبل الضيوف على نحو ما كان في سابق الزمان إلا إذا كانوا من المحارم المقربين. وبذلك نجد أن الفردية قد نمت، وأن الاكتراث بالتفاني في إقراء الضيوف كما كان سابقاً قد أخذ في التلاشي. وأن الضبط الاجتماعي غير الرسمي لم يعد يُمارس بالقوة التي كانت بحق هؤلاء عند تأخرهم في تقديم القرى.
وقد أخذ الكرم في هذه الأيام شكل المباهاة أو المصالح. فعندما يكون هناك شخص ذو سمعة أو مسؤولٌ أو صاحب مال، فإن الناس يتسابقون على دعوته ليدخل منازلهم ويبالغون في تقديم الولائم الدسمة والمبالغ فيها. وأخذت ظاهرة الكرم أشكالاً منها:
1- ظاهرة التبذير: لقد أصبح، نتيجة للمبالغة في تقديم الولائم لذوي الحظوة، أن تخطت هذه الظاهرة مجال الكرم إلى نطاق التبذير. حيث إنه كثيراً ما نرى أن يقدم طعام يكفي لمائة شخص ومع ذلك لا يحضره إلا خمسة أو سبعة أشخاص وتلقى البقية في المهملات. ونرى كذلك ولائم قوامها جميع أنواع الأطعمة بما فيها الكباش وقد تكون جملاً أو جملين توضع على الصحاف كاملة في الحين الذي ينهض الضيوف دون أن تصل إليها أيديهم.(1/49)
2- عدم الاهتمام بالضيف كما كان سابقاً. كان في السابق إذا حلّ ضيف على أحد أفراد الحي فإن سكان الحي يُدعون من قبل مضيف الضيف ويُجيبون الدعوة. كما أنهم يقومون بدورهم بدعوة الضيف تباعاً. أما الآن، فإنه عندما يحل ضيف على أحد سكان الحي فإنه يدعو جيرانه وأقاربه وأكثرهم لا يلبون الدعوة، والبعض يلبونها تكلفاً. كما أن أكثرهم لا يقومون بدعوة الضيف كما كان في السابق.
3- كان في السابق عندما يأتي ضيف إلى أحد سكان الحي، أو الأقارب، فإن أقارب هذا الضيف أو المضيف أو قريبهما معاً سباق لتلبية الدعوة عندما يدعوه المضيف. بحيث يشارك في تناول الوليمة التي قد طال انتظارها من قبل البعض. كما أن تلبية الدعوة قد تكون تقديراً للمضيف أو الضيف. وأنه يكون واجباً من أجل مقابلة الضيف ومن ثم دعوته وتقديم الواجب له. أما الآن، فإن تلبية الدعوة ليست بالشكل الذي كان في السابق. فغالباً تجاب الدعوة إذا كان الضيف أو المضيف من ذوي المكانة الاجتماعية المرموقة. أو أن يكون ذلك التجمع قد يحصل المدعو فيه على مصلحة شخصية مثل الحصول على واسطة حاضراً أو مستقبلاً ونحو ذلك. وبذلك نجد المضيف قد يدعو أفراداً كثيرين ولا يحضر إلا عدد قليل، في الحين الذي حسب حساب عدد كبير وأعد لهم طعاماً كثيراً وبذلك تبقى كميات كبيرة من الطعام لا تؤكل ويصبح هذا الطعام مهملاً وقد يكون مصيره سلة المهملات أو أوعية الزبالة.
مجمل القول لقد بدأ التهاون في الولائم التي كان يعتبرها العربي ملزمة، مثل وليمة الدول، والولائم التي يدعى لها الضيوف أصحاب الحقوق الملزمة، وتلك التي تقام على شرف الضيوف ذوي المكانة الاجتماعية وكذلك الضيوف الذين يحلون على أصحاب المنازل أثناء مرورهم بها. وكذلك الولائم التي يأخذ المضيف في حسبانه عند القيام بها دعوة الجيران والأقارب والتي كانت معقولة في نوعها وكمياتها.(1/50)
وعلى عكس ذلك بدأت ظاهرة المبالغة في ولائم الأعراس وضيف المجاملات، إلى حد أن بعضاً من العلماء والعقلاء يصل بهم الأمر - عندما يرون شدة المبالغة في هذا النوع من الولائم - إلى درجة الاشمئزاز والاستهجان بمن يفعلها.
الخاتمة
القرى والضيافة من أهم القيم التي يلتزم بها العرب في قديم الزمان وحديثه. كما أن هذه الظاهرة موجودة في كثير من المجتمعات إلا أنها تتميز بها المجتمعات العربية عبر التاريخ. وقد تمت مناقشة هذه الظاهرة في وسط شبه الجزيرة العربية لأنها من أشد المناطق التزاماً ومحافظة عليها بحكم الضرورة الاقتصادية والمناخية والاجتماعية الصعبة التي تعيشها تلك المنطقة.(1/51)
إن القيام بواجبات القرى بأنواعها، سواء كانت على مستوى ضيفة، أي يقوم المضيف بنحر ذبيحة لضيوفه حسب استحقاقهم لذلك، وحسب ما يحدده العرف، أو مجرد قرى وهو الطعام العادي الذي يقدمه المضيف لضيفه هو واجب ديني، وواجب اجتماعي على المضيف أن يقدمه دون منٍ أو تردد. والعرف لا يرحم من لم يقم بذلك. فكم من جماعة علا شأنهم بسبب حرصهم ومبالغتهم في تقديم الطعام للضيوف، وكم من جماعة حُط من قدرهم لتخاذلهم في تقديم القرى أو الضيفة للضيوف مع استحقاقهم لذلك حسب الأعراف المرعية في مجتمعاتنا العربية. والضيف لابد أن يقدم له الطعام كثر أو قل بما يكفيه حسب المتعارف عليه في الأوساط الاجتماعية السائدة. حتى وإن كان هذا الضيف عدواً، أو بينه وبين المضيف سوء تفاهم. وتتواءم كمية ونوعية الطعام المقدم للضيف حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية للناس. ولكن المضيف دائماً يرى نفسه في مكان الاتهام أو التقصير. ويدل على ذلك عند تقديمه الطعام تجده يقدم العذر مع ما يقدمه من طعام قل أو كثر. ويطلب السماح من ضيوفه على التقصير ويكرر ذلك. ثم أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يلحق ما قدمه من طعام لضيوفه منا أو أجراً أو مقابلاً. كما أنه يحاول أن يجعل الضيف في وضع ومقام مريح ما دام ضيفاً لديه.
Hospitablity and Feasting Tradition
in the Middle of the Arabian Peninsula
Mohammed K. Al-Oteiby
Associate Professor, Department of Sociology, College of Arts
King Saud University, Riyadh, Saudi Arabia
Abstract: This paper is a descriptive study about hospitality systems in the middle of the Arabian Peninsula. It discuss the following issues:
1) How the environment helped in creating this system.
2) Quantity and quality of food and how it is different according to the occasion.(1/52)
3) The way the host welcomes the guest at the very beginning.
4) The way the host presents the food to the guest(s), and the welcoming phrases the host says while presenting the food.
5) Guest classification.
6) The host must not bother the guest since he arrived at the host's home or ate from his food. Also he must protect the guest for a period of time, and after he leaves the host's home.
7) The obligation on the homeowner to offer food to guest(s) upon coming, regardless of what kind and how much.
8) Finally, the function of hospitality in the past and for changes it went through during the present time.(1/53)