نصيحة من
الإمام أبي حامد الغزالي
شبكة مجاهد مسلم الإسلامية الدعوية
www.geocities.com/moujahedmouslem
www.islammi.jeeran.com
الطبعة الثالثة
1414 هـ _ 1993 م
بعناية
رمزي سعدالدين دكشقية
دار البشائر الاسلامية
بيروت لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذي النعم السابغات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب المعجزات، وعلى آله وأصحابه ذوي الخصال الكريمات.
أما بعد، فإنه أثناء مطالعتي كتاب " طبقات الشافعية الكبرى" للإمام تاج لدين عبدالوهاب بن تقي الدين علي بن عبدالكافي السّبكي، وقراءتي لما كتبه في ترجمة الامام البارع والعلامة المتفنن حجة الاسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 505هـ، وقفت على رسالة كتبها الغزالي رحمه الله تعالى لبعض أهل عصره يعظه وينصحه.
ولقد رأيتها موعظة بليغة جامعة أوجز فيها الإمام الغزالي النصح والإرشاد الى طريق الخير التي ينبغي للمسلم سلوكها في الدنيا لتصل به الى جنة الله ورضوانه في الآخرة.
ولمّا كانت هذه النصيحة فيها من الخير الكثير، كان من النافه إخراجها مفردة ليطلع عليها من لا ينظر في الموسّع كتب العلم، وليعتبر بها شباب الإسلام في سيرهم الى الله تعالى.
نص الرسالة:
أما نص هذه الرسالة فلقد أوردها الإمام السبكي كاملة [ 6\260-266]، وكذلك المرتضى الزبيدي في مقدمة كتابه "إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين" [1\12-13]، وجامع " فضائل الأنام من رسائل حجة الإسلام". كما عدّها عبدالرحمن بدوي في "مؤلفات الغزالي"ص [192]، غير أنه أشار الى رسالة للإمام الغزالي أرسلها الى الوزير نظام الملك موجودة في فيينا برقم 1996 * هكذا أوردها الاستاذ بدوي والصحيح أن رقمها AF 301.* وألمح أن تكون رسالتنا هذه.(1/1)
وقد تابع الأستاذ بدوي الدكتور نور الدين آل علي محقق كتاب " فضائل الأنام" فأكد أن رسالة فيينا هي عين الرسالة التي بين أيدينا. وقد حملني هذا على الاعتقاد أن الدكتور نور الدين اطلع على المخطوط فرجح عنده كلام الأستاذ بدوي. لذا رغبت الى أحد الإخوة * هو الأخ المجدّ في طلب العلم: ماهر جرّار، وفقه الله لما يحبه ويراه وجزاه عني خيرا* للمساعدة في تحصيل صورة عن المخطوط قبل نشر الرسالة. ولقد تيقننت بعد حصولي عليها أنها غير سالتنا هذه بل هي مغايرة لها من أوجه عديدة.
فرسالة فيينا كما أورد الأستاذ بدوي تحت عنوان:" رسالة من الغزالي الى الوزير السعيد نظام الملك". وفيها تبدو شخصية الإمام الغزالي رحمه الله في تعامله مع الوزراء والسلاطين، وكيف انه يعظ ويذكّر من ينصحه غير ناظر الى مكانته أو آبه لمركزه، بل همّه الأعظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونظام الملك هذا هو ابن نظام الملك المشهور المعروف، واسمه: أبو النصر أحمد بن نظام الملك الحسن بن علي ويلقب بضياء الملك. استوزر للسلطان محمد بن ملكشاه سنة 500 هـ فلقبه بألقاب أبيه: قوام الدين وصدر الإسلام ونظام الملك. *الكامل في الملك لابن الأثير 8\244.* واشتهر في حروبه مع الباطنية حيث اشتد عليهم وبطش بهم ولا سيما أصحالب قلعة الموت، وتوفي سنة 544هـ.
وهذه الرسالة أرسلها الوزير أحمد الملقب ـ كأبيه ـ بنظام الملك للإمام الغزالي بعد وفاة الإمام شمس الدين أبي الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بإلكيا الهرّاسي سنة 504 هـ وفراغ منصبه، يدعوه فيها للعودة الى التدريس في المدرسة النظامية ببغداد.
وبهذا يعلم أن بين نصيحة الغزالي التي ننشرها ورسالة فيينا بونا كبيرا، فالنصيحة موجهة الى رجل أراد الدخول في القضاء وسيعلم تفصيل ذلك بعد قليل.(1/2)
ولأهمية رسالة فيينا في تبيان موقف الإمام الغزالي وأمثاله من الأئمة الأعلام من الحكام والأمراء، وتبيانا لما التبس من كونها ذات رسالتنا أوردها كاملة بعد مقدمتي هذه عسى أن يكون في ذلك نفع وفائدة.
عملي في الرسالة:
اعتمدت في إخراجي لهذه النصيحة على مقابلة النص في الكتب الثلاث: "الطبقات" و"إتحاف السادة المتقين"و"فضائل الأنام"، متخذا نسخة "الطبقات" أصلا لكونها أجمع النسخ لنص الرسالة، ومضيفا اليها من النسختين الباقيتين ما يمكن أن يكون قد سقط منها مما يكمّل المعنى ويحقق الغاية. غير أنني لا أذكر الاختلاف بين النسخ إلا نادرا أو إذا كان مفيدا، خشية إثقال الحواشي ورغبة بعدم الإطالة على القارئ المريد في تحصيل فائدة هذه الموعظة.
والرسالة على وجازتها حوت عدة أحاديث نبوية استدل بها المؤلف رحمه الله على المعنى المراد لديه، إلا أن بعضها ضعيف أولا أصل له في المرفوع ـ كما نبّهت على ذلك في مواضيعه ـ لكن يشهد لها أحاديث أخر جاءت بمعنى قريب، أو يشفع لها أنها تدور مع أصول الشريعة الغرّاء وحثها على التقلل من الدنيا والإقبال على الآخرة.
ولا بد من الملاحظة أخيرا أنه لما كانت هذه الرسالة وعظيّة اقتضت من المؤلف النصح والإرشاد بالترهيب والتخويف من الدخول في الدنيا ومسالكها والإغراق في ذلك. وليس هذا هو مقصودا للمؤلف على إطلاقه، بل إنّ التوسط الذي دعت إليه آيات القرآن واحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو المطلوب، إلا أن لكل مقام مقالا، والمقام هنا مقام وعظ وإرشاد ونصح، والله تعالى أعلم.
وأسأل الله العليّ القدير أن ينفعني والمسلمين بهذه النصيحة، ويرحم مؤلفها ويجزل له الثواب، إنه خير مسؤول وخير مجيب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... وكتبه
بيروت في 16 رجب 1405 ... ... ... ... راجي عفو ربّ البريّة
5 نيسان 1985 ... ... ... ... ... رمزي سعدالدين دمشقية
كتاب الغزالي من طوس الى الوزير السعيد
نظام الملك جوابا على كتابه الذي استدعاه فيه(1/3)
إلى بغداد يعده فيه بتعويض المناصب الجليلة
*هكذا ورد عنوان الرسالة في مخطوطة فيينا، وهذه الرسالة أوردها جامع كتاب "فضائل الأنام" برقم 13 من مجموع الرسائل ص [82]. ولكنها تختلف في كثير من ألفاظها عن نص هذه الرسالة، إلا أنها تلتقي معها في خطوطها العامة ومؤدياتها النهائية في الرد على الوزير نظام الملك أحمد طلبه مع وعظه وإرشاده.*
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أن الخلق *التصويب من "فضائل الأنام"، وفي الأصل: ( الحق).* في توجههم الى ما هو قبلتهم ثلاث طوائف، إحداها: العوام الذين قصروا نظرهم على العاجل من الدنيا، فمنعهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:" ما ئذبان ضاريان في زريبة غنم بأكثر إفسادا من حب المال والشرف في دين المسلم". * رواه الترميذ [2376] والإمام أحمد في مسنده [3\456 و 460]، وقال الترمذي حسن صحيح.*
وثانيها: الخواص، وهم المرجّحون للآخرة العالمون بأنها خير وأبقى، العاملون لها الأعمال الصالحة فنسب إليهم التقصير بقوله صلى الله عليه وسلم:" الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، وهما حرامان على أهل الله تعالى" *أورده السيوطي في الجامع الصغير ونسبه لمسند الفردوس عن ابن عباس. قال المناوي [3\544]: وفيه جبلة بن سليمان. أورده الذهبي في الضعفاء. قال العلامة الشيخ أحمد الغماري رحمه الله في كتابه "المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير" ص [64]: هذا كلام صوفي ما كنت أظن بالمؤلف ـ السيوطي ـ أن يشك في ذلك، وهذا ما مال إليه الإمام الألباني في سلسلته الضعيفة [1\51].*
وثالثها: الأخص، وهم الذين علموا أن كل شيء فوقه شيء آخر فهو من الافلين. وتحققوا أن الدنيا والآخرة من بعض مخلوقات الله تعالى، وأعظم أمورهما الأجوفان المطعم والمنكح وقد شاركهم في ذلك كل البهائم والدواب فليست مرتية سنيّة * أي رفيعة عليّة*، فأعرضوا عنهما وتعرضوا لخالقهما وموجدهما ومالكهما.(1/4)
وكشف عليهم معنى: { والله خير وأبقى}، وتحقيق حقيقة لا إله الا الله، وأن كل من توجه الى سواه فهو خال من شرك خفي. فصار جميع الموجودات عندهم قسمين: الله وما سواه، واتخذوا ذلك كفتي ميزان وقلبهم لسان الميزان. فكلما رأوا قلوبهم مائلة الى الكفة الشريفة، حكموا بثقل كفة الحسنات. وكلما رأوها مائلة الى الكفة الخبيثة حكموا بثقل كفة السيئات.
وكما أن الطبقة الأولى عوام بالنسبة الى الطبقة الثانية، كذلك الطبقة الثانية عوام بالنسبة الى الطبقة الثالثة. فرجعت الطبقات الثلاث الى طبقتين.
فحينئذ أقول قد دعاني صدر الوزراء من المرتبة [العليا] * زيادة من "فضائل الأنام" سقطت هنا في المخطوط* الى المرتبة الدنيا، وأنا أدعوه من المرتبة الدنيا الى المرتبة العليا التي هي أعلى عليين. والطريق الى الله تعالى من بغداد وطوس ومن كل المواضع واحد ليس بعضها أقرب من بعض.
فأسأل الله تعالى أن يوقظه من نومة الغفلة، لينظر في يومه لغد قبل أن يخرج الأمر من يده. * هنا انتهت رسالة فيينا، ولها بقية بيّن فيها الإمام الغزالي سبب تخليه عن العودة الى بغداد والتصدر فيها للتعليم ورطت في "فضائل الأنام" فليرجع إليها من أراد.
سب كتابة هذه الرسالة
أورد هذه الرسالة الإمام السبكي والمرتضى الزبيدي تحت عنوان:"رسالة حجة الإسلام التي كتبها الى بعض أهل عصره"، ولم يذكرا اسم من أرسلت إليه.
أما جامع كتاب " فضائل الأنام" فأوردها وعنون لها: " رسالة كتبها بالعربية لأحد قضاة المغرب، وهي غريبة بديعة مشتملة على أنواع من الوعظ والتحذير". ثم علق عليها ذاكرا سبب كتابتها بأن القاضي مروان أتى دار الخلافة لتحصيل مرسوم منصب القضاء لأبيه، وتوسّل بحجة الإسلام في عهد كان هو مدرّس بغداد. فأثنى الإمام الغزالي عليه وطلب تفويض منصب القضاء لأبيه.(1/5)
فأجابه الخليفة العباسي ـ المقتدي بأمر الله ـ: (إننا لا نفوّض أمر القضاء لمن لا نعرفه ولم يكن لنا اطلاع على أحواله وصفاته، ولكن غجابة لملتمس " حجة الإسلام" نفوّض القضاء الى ابنه الحاضر).
فأبى القاضي مروان قبول ذلك احترما لأبيه، وطلب من الغزالي رحمه الله أن يكتب شرح الحال لأبيه، فكتب له هذه الرسالة.
ترجمة القاضي مروان:
* انظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى [7\295]، والأنساب [8\258]، ومعجم البلدان [4\44]، وفضائل الأنام ص [ 189]. *
هو أبو عبدالله مروان بن علي بن سلامة بن مروان الطنزي. ورد بغداد وتفقه بها على الغزالي والإمام أبي بكر الشاشي وغيرهما، وبرع في الفقه على المذهب الشافعي/ وسمع الحديث من أبي بكر أحمد بن علي الطّريثيثي وغيره.
ثم عاد الى بلده واتصل بالملك زنكي بن آق صاحب الموصل وصار وزيرا له. روى عنه الحافظ أبو القاسم ابن عساكر وأبو الحسين سعدالله بن محمد الدقاق وكان يصفه بالفضل والعلم ولطف الخاطر. اختصر كتاب "صفوة التصوّف" لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي.
روى حفيده أبو زكريا يحيى بن الحسين بن احمد بن مروان بن علي بن سلامة الطنزي عنه قوله:
وإذا دعتك الى صديقك حاجة
فأبى عليك فإنه المحروم
فالرزق يأتي عاجلا من غيره
وشدائد الحاجات ليس تدوم
فاستغن عنه مدعه غير مذمّم
إن البخيل بماله مذموم
توفى سنة 540 هـ.
تنبيه:
تبقى الإشارة الى أن قول جامع "فضائل الأنام":" رسالة كتبها بالعربية لأحد قضاة المغرب" مشكل مع كون القاضي مروان من ديار بكر، ولم أستطع إيجاد ما يبرر هذا إلا أن يقال أن ديار بكر هي بالنسبة لأهل العراق في المغرب، والله أعلم بالصواب.
نصيحة من
الإمام أبي حامد الغزالي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. والصلاة والسلام على سيّد المرسلين، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.(1/6)
أما بعد، فقد انتسج بيني وبين الشيخ الأجلّ معتمد الملك أمين الدولة حرس الله تأييده، بواسطة القاضي الجليل الإمام مروان زاده الله توفيقا، من الوداد وحسن الاعتقاد ما يجري مجرى القرابة ويقتضي دوام المكاتبة والمواصلة. وإني لا أصله بصلة هي أفضل من نصيحة توصله الى الله، وتقرّبه لربه زلفى، وتحله الفردوس الأعلى. فالنصيحة هي هدية العلماء. وإنه لن يهدي إليّ تحفة أكرم من قبوله لها، وإصغائه بقلب فارغ من ظلمات الدنيا إليها.
وإني أحذره إذا ميّزت عند أرباب القلوب أحزاب الناس، ألا يكون إلا في زمرة الكرام والأكياس. فقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ فقال: "أتقاهم". فقيل: من أكيس الناس؟ فقال:" أكثرهم للموت ذكرا، واشدهم له استعدادا". * رواه ابن ماجه [4259].*
وقال صلى الله عليه وسلم:" الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله".* رواه الترمذي [ 2459] وابن ماجه [4260] والامام أحمد [ 4\124]*.
وأشد الناس غباوة وجهلا من تهمّه أمور دنياه التي يختطفها عند الموت، ولا يهمه أن يعرف أنه من أهل الجنة أو من أهل النار. وقد عرّفه الله تعالى ذلك حيث قال:{ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} الإنفطار، وقال:{ فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} النازعات، وقال:{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (16)} هود.(1/7)
وإني أوصيه أن يصرف الى هذا المهمّ همّته، وأن يحاسب نفسه قبل أن يُحاسب، ويراقب سريرته وعلانيته، وقصده وهمّته، وأن يطالع أفعاله وأقواله، وإصداره وإيراده. أهي مقصورة على ما يقرّبه من الله تعالى ويوصّله الى سعادة الأبد؟ أم هي مصروفة الى ما يعمّر دنياه ويصلحها له إصلاحا منغّصا مشوبا بالكدورات مشحونا بالهموم والغموم، ثم يختمها بالشقاوة والعياذ بالله.
فليفتح عين بصيرته لتنظر نفس ما قدّمت لغد، وليعلم أنه لا مشفق ولا ناظر لنفسه سواه، وليتدبر ما هو بصدده.
فإن كان مشغولا بعمارة ضيعة فلينظر، كم من قرية أهلكها الله تعالى وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها بعد عمّالها.
وإن كان مقبلا على استخراج ماء وعمارة نهر، فليفكر، كم من بئر معطلة وقصر مشيد بعد عمارتها.
وإن كان مهتما بتأسيس بناء، فليتأمل، كم من قصور مشيّدة البنيان محكمة القواعد والأركان أظلمت بعد سكانها.
وإن كان معتنيا بعمارة الحدائق والبساتين فليعتبر:{ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (29)} الدخان. وليقرأ قوله:{ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)} الشعراء.
وإن كان مشغوفا ـ والعياذ بالله ـ بخدمة سلطان، فليذكر ما ورد في الخبر:" أنه ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأعوانهم؟ فلا يبقى أحد ممن مدّ لهم دواة أو برى لهم قلما فما فوق ذلك إلا أحضروا، فيجمعون في تابوت من نار فيلقون في جهنم".* ذكره ابن حجر الهيتمي رحمه الله في كتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر" [2\ 124].*(1/8)
وعلى الجملة فالناس كلهم إلا من عصمه الله نسوا الله فنسيهم، وأعرضوا عن التزود للآخرة، وأقبلوا على طلب أمرين: الجاه والمال. فإن كان هو في طلب جاه ورياسة فليتذكر ما ورد به الخبر:" أن الأمراء والرؤساء يحشرون يوم القيامة في صور الذرّ، تحت أقدام الناس يطؤونهم بأقدامهم" * أورده المؤلف في الإحياء [ 3\329]، وأخرجه الترمذي [2492].*
وليقرأ ما قاله الله تعالى في كل متكبر جبار. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يُكتب الرجل جبّارا وما يملك إلا أهل بيته" * جزء من حديث رواه الحارث بن أبي أسامة عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعا:" إن الرجل ليدرك درجة الصائم القائم بالخلق الحسن، وإنه ليكتب جبارا وما يملك إلا أهل بيته". المطالب العالية [2\ 392]. وقد علق عليه المحدّث البارع الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي حفظه المولى بقوله: قال البوصيري: رواه أحمد بن منيع وأبو الشيخ ابن حيان، والمدار على عبدالعزيز بين عبيد الله وهو ضعيف.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد [ 8\24]: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبدالعزيز وهو ضعيف جدا.* أي إذا طلب الرياسة بينهم وتكبر عليهم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام:" ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر فسادا من حبّ الشرف والمال في دين الرجل المسلم".
وإن كان في طلب المال وجمعه فليتأمل قول عيسى عليه السلام: ( يا معشر الحواريين، الغنى مسرّة في الدنيا مضرّة في الآخرة. بحق أقول، لا يدخل الأغنياء ملكوت السماء).(1/9)
وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم:" يحشر الأغنياء يوم القيامة أربع فرق: رجل جمع مالا وأنفقه في حرام، فيقال: اذهبوا به الى النار. ورجل جمع مالا من حرام وأنفقه في حلال، فيقال: اذهبوا به الى النار. ورجل جمع مالا من حلال وأنفقه في حرام، فيقال: اذهبوا به الى النار. ورجل جمع مالا من حلال، وأنفقه في حلال، فيقال: قفوا واسألوه، لعله ضيّع بسبب غناه فيما فرضناه عليه، أو قصّر في صلاته أو في وضوئها أو في ركوعها أو سجودها أو خشوعها، أو ضيّع شيئا من فرض الزكاة والحج.
فيقول الرجل: جمعت المال من حلال وأنفقته في حلال، وما ضيّعت شيئا من حدود الفرائض بل أتيتها بتمامها.
فيقال: لعلك باهيت بمالك أو اختلت في شيء من ثيابك؟ فيقول: يا ربّ ما باهيت بمالي ولا اختلت في ثيابي.
فيقال: لعلك فرّطت فيما أمرناك من صلة الرحم وحق الجيران والمساكين، وقصّرت في التقديم والتأخير والتفضيل والتعديل.
ويحيط هؤلاء به فيقولون: ربّنا أغنيته بين أظهرنا وأحوجتنا اليه فقصّر في حقنا.
فإن ظهر تقصير ذهب به الى النار، وإلا قيل له: قف: هات الآن شكر كل نعمة، وكل شربة، وكل أكلة، وكل لذة، فلا يزال يُسأل ويُسأل". * أورده المؤلف في الإحياء [3\263]*.
فهذه حال الأغنياء الصالحين المصلحين القائمين بحقوق الله تعالى أن يطول وقوفهم للحساب في العرصات، فكيف حال المفرّطين المنهمكين في الحرام والشبهات، المكاثرين به المتنعّمين بشهواتهم، الذين قيل فيهم:{ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} التكاثر.
فهذه المطالب الفاسدة هي التي استولت على قلوب الخلق، فسخّرها للشيطان وجعلها ضحكة له. فعليه وعلى كل مستمر في عداوة نفسه أن يتعلم علاج هذا المرض الذي حلّ بالقلوب.
فعلاج مرض القلوب أهم من علاج مرض الأبدان، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم. وله دواءان:(1/10)
أحدهما: ملازمة ذكر الموت وطول التأمل فيه، مع الاعتبار بخاتمة الملوك وأرباب الدنيا، وكيف أنهم جمعوا كثيرا وبنوا قصورا وفرحوا بالدنيا بطرا وغرورا، فصارت قصورهم قبورا وأصبح جمعهم هباء منثورا، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)} الأحزاب.
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)} السجدة، فقصورهم وأملاكهم ومساكنهم صوامت ناطقة، تشهد بلسان حالها على غرور عمّالها. فانظر الآن في جميعهم{هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)} مريم،* والمعنى هنا هل ترى منهم أحدا أو تسمع لهم صوتا، فقد ماتوا وصاروا الى أعمالهم.*
الدواء الثاني: تدبّر كتاب الله تعالى ففيه شفاء ورحمة للعالمين. وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بملازمة هذين الواعظين، فقال:" تركت فيكم واعظين صامتا وناطقا، الصامت الموت، والناطق القرآن". * أورده المؤلف في الإحياء [1\274] حديثا قريب المعنى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد"، فقيل يا رسول الله وما جلاؤها؟ فقال: " تلاوة القرآن وذكر الموت". قال العراقي رواه البيهقي في الشعب بسند ضعيف. وقد رود في بعض الروايات عن عمّار بن ياسر رضي الله عنهما مرفوعا:" كفى بالموت واعظا". رواه البيهقي والطبراني في الشعب. وقال الإمام السخاوي عقبه في المقاصد الحسنة ص [318]: وسنده ضعيف.*
وقد أصبح أكثر الناس أمواتا عن كتاب الله تعالى، وإن كانوا أحياء في معايشهم.
وبُكماً عن كتاب الله، وإن كانوا يتلونه بألسنتهم.
وصُماً عن سماعه، وإن كانوا يسمعونه بآذانهم.
وعميا عن عجائبه، وإن كانوا ينظرون إليه في صحائفهم ومصاحفهم.(1/11)
وأميّين عن أسراره معانيه، وإن كانوا يشرحونه في تفاسيرهم. * في الطبقات وإتحاف السادة "نائمين".*
فاحذر أن تكون منهم، وتدبّر أمرك وأمر من لم يتدبر أمر نفسه كيف ندم وتحسر! * وفي الطيقات وإتحاف السادة " كيف يقوم ويحشر"* وانظر في أمرك وأمر من لم ينظر في أمر نفسه كيف خاب عند الموت وخسر.
واتعظ بآية واحدة من كتاب الله، ففيه مقنع وبلاغ لكل ذي بصيرة. قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} المنافقون.
وإيّاك ثم إياك أن تشتغل بجمع المال، فإن فرحك به ينسيك أمر الاخرة وينزع حلاوة الإيمان من قلبك. قال عيسى صلوات الله عليه وسلامه: ( لا تنظروا الى أموال أهل الدنيا، فإن بريق أموالهم يُذهب حلاوة إيمانكم).
وهذه ثمرة مجرد النظر، فكيف عاقبة الجمع والغيان والبطر! * في الطبقات: "والنظر".
وأما القاضي الجليل الإمام مروان أكثر الله في أهل العلم أمثاله فهو قرّة العين. وقد جمع بين الفضيلتين * في الطبقات: "الفضلين" * : العلم والتقوى، ولكن الاستتمام بالدوام، ولا يتم الدوام إلا بمساعدة من جهته ومعاونة له عليه فيما يزيد في رغبته. ومن أنعم الله عليه بمثل هذا الولد النجيب فينبغي أن يتخذه ذخرا للآخرة ووسيلة الى الله تعالى، وأن يسعى في فراغ قلبه لعبادة الله تعالى، ولا يقطع عليه الطريق الى الله تعالى.(1/12)
وأول الطريق الى الله تعالى طلب الحلال والقناعة بقدر القوت من المال، وسلوك سبيل التواضع والخمول * والمقصود عدم طلب الشهرة والسيادة*، والنزوع عن رعونات أهل الدنيا التي هي مصائد الشيطان. هذا مع الهرب عن مخالطة الأمراء والسلاطين، ففي الخبر:" إن الفقهاء أمناء الله ما لم يدخلوا في الدنيا، فإذا دخلوها فاتهموهم على دينكم". * رواه العسكري عن علي مرفوعا بسند ضعيف بلفظ:" الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا ويتبعوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم". ورواه القضاعي وابن عساكر عن أنس بلفظ :" العلماء أمناء الله على خلقه.." . كشف الخفاء [ 2\ 87]. وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء [2\141]: أخرجه العقيلي في الضعفاء ـ عن أنس ـ في ترجمة حفص الأبري، وقال حديثه غير محفوظ.*
وهذه أمور قد هداه الله تعالى إليها ويسّرها عليه، فينبغي أن يمدّه ببركة الرضا ويمدّه بالدعاء، فدعاء الوالد أعظم ذخرا وعدة في الآخرة والأولى.
وينبغي أن تقتدي به فيما يؤثره من النزوع عن الدنيا. فالولد وإن كان فرعا فلربما صار بمزيد العلم أصلا. لذلك قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام:{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (43)} مريم.
وليجتهد أن يجبر تقصيره في القيامة بتوقيره ولده الذي هو فلذة كبده، فأعظم حسرة أهل النار فقدهم في القيامة حميما يشفع لهم. قال الله تعالى:{ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)} الحاقة.
أسأل الله تعالى أن يصغر في عينه الدنيا التي هي صغيرة عند الله. وأن يعظم في عينه الدين الذي هو عظيم عند الله. وأن يوفقنا وإيّاه لمرضاته، ويحله الفردوس الأعلى من جنّاته بمنّه وفضله وكرمه، إن شاء الله تعالى.(1/13)