إحياء القلوب بمعرفة الله
(1)
نصف الدين
إياك نستعين
د.هاني كشك
بسم الله الرحمن الرحيم
?وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين?(المائدة:23)
?ولله غيب السموات والأرض وإليه يُرجَع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون?(هود:123)
?وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب?(هود:88)
هذا الكتاب
هذا الكتاب: ومضة نور تكشف عما غاب من كنوز العلم في ظلام الغفلة.
هذا الكتاب: قديم جديد..فهو قديم في موضوعه قِدَم الدين..لأنه يتحدث عن نصف الدين..وهو جديد لمن غفل عن التوكل..فإن من غاب عنه شيء ثم وجده كان في حقه جديداً.
هذا الكتاب: لم يُكتب ليُقرأ ثم يطويه النسيان..إنما كُتب ليكون حقيقة راسخة في القلوب..وواقعاً يُعاش في الحياة.
هذا الكتاب: حجة لك أو عليك..فهو لك إن تدبَّرته واتبعت أحسنه..وأسأل الله ألا يكون عليك.
هذا الكتاب: ?من فضل الله علينا وعلى الناس ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون?
موضوعات الكتاب
المقدمة:
* سر اختيار الموضوع.
* موقع الاستعانة من هذا الدين.
* طبيعة هذا الكتاب.
كيف تسير الأمور:
* عظمة الكون واتساعه.
* كيف يدار هذا الكون؟
* العلاقة بين التوكل والإيمان بالقدر.
* معنى التوكل والاستعانة والاعتصام.
* درجات التوكل.
بين التوكل والتوحيد:
* التوحيد أصل الدين والتوكل أعظم فروعه.
* أليس الله بكافِ عبدَه؟!
* حقيقة الهدى والضلال.
* التوحيد طبقات.
* مدار الرسالات.
* من صور الشرك في الاعتماد على غير الله.
بين التوكل والأسماء الحسنى:
* معرفة الأسماء والصفات أول درجة في سلم التوكل.
* بعض الأسماء والصفات المرتبطة بالتوكل.
بين العبادة والاستعانة:
* أهل العبادة والاستعانة بالله عليها.
* لا عبادة ولا استعانة.
* أهل العبادة من غير استعانة.
* أهل الاستعانة من غير عبادة.
التوكل بين الأمر والجزاء:
* الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه مأمورون بالتوكل
* جزاء عظيم في الدنيا.(1/1)
* الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
* المتوكلون يحبهم الله.
بين التوكل والأسباب:
* سنة الله الماضية.
* فنون السعي ومقاصده:1- جلب المنافع المفقودة.
2- حفظ المنافع الموجودة.
3- دفع ضرر لم ينزل.
4- إزالة ضرر قد نزل.
* حكم التداوي من الأمراض.
* بين الأسباب والنتائج.
* أحوال العباد مع المقادير: 1- المقادير المكروهة.
……… 2- المقادير المحبوبة.
* فائدة: الذكر والشكر هما مدار الدين كله.
بين الدعاء والتوكل:
* الإكثار والإلحاح.
* اليقين في الإجابة ولو بعد حين.
* آداب الدعاء.
* الدعاء ديدن الأنبياء.
لا حول ولا قوة إلا بالله:
* ذكر يورث القلب عبادتين.
* ذكر اللسان يعبر عما في القلب.
* من عجائب هذا الذكر العظيم.
* القوة والقهر والسلطان من خصائص الألوهية.
* القوة الكبرى.
* معنى يسري في القرآن لا يحتاج إلى تصريح.
* مع الإنسان في رحلته من البدء إلى المستقر.
* الله ولي المؤمنين.
مع المتوكلين في ظلال القرآن الكريم:
* أهمية القصص في القرآن الكريم.
* نوح عليه السلام.
* هود عليه السلام.
* إبراهيم عليه السلام.
* يعقوب عليه السلام.
* يوسف عليه السلام.
* موسى عليه السلام.
* إمام المتوكلين محمد صلى الله عليه وسلم.
* من عجائب قصص الصالحين.
الاستخارة:
* أهم التطبيقات العملية.
* معنى الاستخارة:لغة وشرعاً.
* كيف تؤدى صلاة الاستخارة؟
* في أي شيء تكون الاستخارة؟
* كيف تظهر نتيجة الاستخارة؟
* قول جليل لإمام جليل.
الخلاصة
الخاتمة
ثبت المراجع
المقدمة
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعين به ونستهديه ونستغفره .. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.(1/2)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. خلق العباد كيف شاء..وصورهم في أرحام أمهاتهم كيف شاء .. وأخرجهم إلى الدنيا في أي وقت شاء وفي أي بلد شاء وأعز منهم من شاء.. وأذل منهم من شاء .. وأغنى منهم من شاء وأقنى منهم من شاء وسيردهم إليه جميعا في أي وقت شاء.. وعلى أي حال شاء ..لا مشيئة لأحد منهم إلا بما شاء .. ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ..
?قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير? تولج اليل في النهار وتولج النهار في اليل وتخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ وترزق من تشاء بغير حساب ?.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله.. إمام المتوكلين وسيد الأولين والآخرين.. وخير من استعان بالله رب العالمين .
سبحانك ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، ولا فهم لنا إلا ما فهمتنا إنك أنت الجواد الكريم .. أما بعد:
فموضوع هذه الرسالة ـ كما يبدو من اسمها ـ يتحدث عن الاستعانة بالله واليقين بكفايته، ولكن قبل أن أبدأ في الحديث عن الموضوع..أود أن أوضح سر اختياري لهذا الموضوع دون غيره..ففي الحقيقةـ وبالرغم من أهمية هذا الموضوع وخطورته في حياة المسلم وعقيدته- إلا أنك تجد أن هذا الأمر يغيب عن كثير من المسلمين بصورة تكاد تقترب من عدم الاعتراف إلا بقوة المادة مع الغفلة عن القوة الحقيقية وهي قوة الله عز وجل .
وإلى جانب ذلك الخلل..وجدت من النقص في المكتبة الإسلامية من تغطية لهذا الموضوع الخطير ما دفعني إلى إعداد هذه الرسالة هادفا إلى طرح هذا الموضوع الخطير بصورة أكثر وضوحا وتيسيرا وارتباطا بواقع حياتنا.
وفي البداية نسأل أنفسنا سؤالا : ما هو موقع الاستعانة من هذا الدين؟(1/3)
ولنفسح المجال لإمامنا الجليل ابن القيم ـ رحمة الله عليه ـ ليجيبنا عن هذا السؤال قائلاً : "وسر الخلق والأمر ، والكتب والشرائع ، والثواب والعقاب : انتهى إلى هاتين الكلمتين ?إياك نعبد وإياك نستعين?.
والعبادة تجمع أصلين : غاية الحب .. بغاية الذل والخضوع فمن أ حببته ولم تكن خاضعا له .. لم تكن عابدا له .. ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدا له .. حتى تكون محبا خاضعا .
والاستعانة تجمع أصلين : الثقة بالله . والاعتماد عليه ، فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره ـ مع ثقته به ـ لاستغنائه عنه ، وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به لحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه . . فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به .
وهذان الأصلان ـ وهما التوكل والعبادة ـ قد ذكرا في القرآن الكريم في عدة مواضع، قرن بينهما فيها .. أحدهما : ?إياك نعبد وإياك نستعين? والثاني : قول شعيب عليه السلام ?وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب? ، والثالث : ?ولله غيب السموات والأرض وإليه يُرجَع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه? وغيرها كثير"1 .
فمن هنا نعلم أ ن التوكل على الله يشكل نصف الدين الثاني بعد نصفه الأول وهو العبادة .
ولقد حاولت أن يكون أسلوب الكتابة في الرسالة سهلا ليستفيد منه العامة والخاصة .. وإن كنت قد توجهت به ـ أصلا ـ إلى الذين حملوا على عاتقهم تبليغ دعوة الله إلى خلقه .. والجهاد في سبيل نصرة دينه وإصلاح أرضه .. فما أصعب ذلك الطريق وما أطوله .. وما أكثر ما يحتاج فيه المرء إلى الزاد .. وهذا التوكل على الله هو خير زاد .. يريح العبد من كل عناء لقلبه.. وكيف لا يستريح وهو يشعر أن معه قوة جبارة تملك الكون وتسيره .. فلا يخرج عن سيطرتها شيء ولا يعجزها في الأرض ولا في السماء شيء؟!!(1/4)
وهذه الرسالة عبارة عن جمع وتوضيح لما ذكر في القرآن والسنة وما ورد من أقوال السلف والخلف في هذا الأمر .. مقسمة في مباحث مستقلة كل منها يناقش جانباً من جوانب هذا الموضوع الكبير..ولم أستطع أن أجمع كل ما قيل في هذا الموضوع .. ولكني أظن أن فيما جمعت كفاية إن شاء الله .
ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أتوجه بخالص الشكر والعرفان إلى إخواني الكرام الذين كان لنصائحهم بالغ الأثر في خروج هذه الرسالة على هذا النحو ، كما لا يفوتني أن أتوجه بمزيد من الشكر و الإجلال إلى أساتذتنا الأفاضل وعلمائنا الأجلاء الذين راجعوا مادة الرسالة من الناحية الشرعية .
كما أحب أن أنوه أن الكلمات بين علامات التنصيص " " عبارة عن نقول من السنة المطهرة وأقوال العلماء ... أما الكلمات بين الأقواس ( ) وبعض الكلمات في الهامش فهي من كلام المؤلف توضيحا لأقوال العلماء وتبيانا لمعانيها .
وأخيرا أسأل الله تعالى أن يتقبل ذلك العمل ، وأن يرزقنا بفضله ورحمته صدق التّوجه إليه وحده ، وحسن التوكل عليه وحده ، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
المؤلف
غرة جمادى الأولى 1415هجرية
……………6من أكتوبر 1994 م
1- كيف تسير الأمور؟(1/5)
إذا نظرت- أخي- إلى نفسك فأحسست أن لك قوة وثقلاً في الكون، فهلا نظرت إلى حجم البيت الذي تسكن فيه فتجده يحتويك ويحتوي غيرك من الأشخاص والأشياء، وتفنى أنت وهو باق لأجيال من بعدك، وهلا نظرت بعد ذلك إلى حجم هذا البيت بالنسبة إلى المنطقة التي تعيش فيها، فإذا رأيته يبدو ضئيلاً .. فهلا نظرت إلى حجم المدينة التي تسكن فيها، فإذا وجدت نفسك تتضاءل أمامها فهلا نظرت إلى القطر الذي تعيش فيه بمدنه وقراه وجباله وسهوله، فإذا رأيت حجمك قد تلاشى بين ملايين البشر في بلدك فهلا قارنت مساحة بلدك إلى مساحة الأرض! فإذا رأيتها تبدو مساحة صغيرة على الخريطة.. فسل نفسك سؤالاً: أين أنت يا ابن آدم من هذه الأرض الواسعة الرحيبة؟ أين أنت بين بلايين الخلائق من بشر وحيوانات ونباتات وجمادات؟
فإذا رأيت حجمك قد تلاشى في حجم الأرض.. ورأيت قوتك قد خارت أمام قوة الجبال والرياح والحديد والنار.. إذا أيقنت أنك من أضعف المخلوقات على سطح الأرض ?وخلق الإنسان ضعيفاً?(النساء:28) .. فلتنظر إلى الشمس التي تساوي من حجم الأرض مليوناً.. فأين أنت حينئذ؟!
فإذا رأيت ذلك فاعلم أن هذه الشمس وما يدور حولها من الكواكب ما هي إلا مجموعة واحدة من آلاف المجموعات الشمسية في مجرتنا.. فأين أنت حينئذ؟!
فإذا علمت أن ما اكتشفه العلماء من هذه المجرات حتى الآن أكثر من ألف مليون مجرة.. فأين أنت حينئذ؟!
فإذا علمت أن هذه المجرات جميعاً بنجومها وكواكبها ما هي إلا زينة للسماء الدنيا كما قال تعالى:?وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم?(فصلت:12). فعندئذ تخيل ما هي هذه السماء الدنيا التي تتزين بما لا يحصى من النجوم والكواكب.. ثم قارن نفسك وجميع بني جنسك بهذه السماء الدنيا.. حينئذ ستتذكر قول الله عز وجل:?أأنتم أشد خلقاً أم السماء?(النازعات:27)، وعندها لن تحتاج إلى الإجابة عن السؤال لأن الإجابة واضحة.(1/6)
فكيف بك حين علمت أنك خلق ضعيف لا تساوي شيئاً بحجمك ولا قوتك في هذه السماء الرهيبة الرحيبة.. كيف بك إذا علمت أن هناك ست سموات أخرى أكبر وأعظم من هذه السماء كما قال تعالى:?الله الذي خلق سبع سموات?(الطلاق:12)، فكيف بك يا عزيزي حين تعلم أن هذه السموات السبع في كرسي الرحمن كحلقة في فلاة، وأن الكرسي في العرش كحلقة في فلاة2 فأين أنت حينئذ؟!
فإذا تصورت ذلك- وأنى لعقل أن يتصور ذلك أو يدركه على حقيقته- فسل نفسك.. كيف يدار هذا الكون العظيم المتناهي في العظمة والاتساع، والذي يزداد اتساعاً يوماً بعد يوم.. كما قال تعالى:?والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون?(الذاريات:47)، عندئذ ستدرك-إن شاء الله- أن هذا الكون كله وغيره مما لا نعلم في قبضة الله عز وجل لا يخفى عليه فيه شيء.. كما قال تعالى:?وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه، وما يعزُب3 عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين?(يونس:61).
وكيف يخفى عليه شيء وهو الذي خلق كل شيء؟! قال تعالى:?الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، له مقاليد السموات والأرض?(الزمر:63) وكيف يقع في كونه ما لا يعلم وهو الذي يقدر وقوع الشيء فيقع ولا يقدر وقوع ما لا يشاء له أن يقع فلا يقع، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ما شاء الله كان.. وما لم يشأ لم يكن" فلا شيء في كون الله يحدث جزافا أو بلا هدف.. لأن الذي يسير هذا الكون ويجري الأقدار فيه هو الله العليم القدير الحكيم في كل ما يصنع كما قال تعالى:? الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار?(الرعد:8) وقال تعالى:?وكان أمر الله قدرا مقدوراً?(الأحزاب:38) ، فلا يقع شيء في ملك الله إلا والله قدره بحكمته وأجراه بقدرته تبارك وتعالى.(1/7)
وقد تتساءل أخي الكريم: ما فائدة هذه المقدمة الطويلة عن حقيقة ما يجري في الكون؟ وما علاقتها بموضوع حديثنا؟!
في الحقيقة أن الإيمان بحقيقة القدر، والإيمان بصفات الله عز وجل من علم وقدرة وحكمة هو لب الموضوع في الحديث عن الاستعانة بالله عز وجل.. فكلما أيقنت بقدرة من تستعين به زادت ثقتك به ولهفتك إليه واستمساكك بحبله، وكلما أيقنت أن كل ما تريده من أمور الدنيا أو الآخرة لا يملك تحقيقه إلا الذي بيده مقاليد السموات والأرض.. انقطع أملك من سواه ممن لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.. ولقد حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم تعليماً لنا وتوجيهاً فخاطبه قائلاً:?ولا تدْعُ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين?(يونس:106).
وحين يتعلق قلبك بالله وحده وينقطع رجاؤك من كل من سواه.. عندئذ فقط تكون قد أدركت حقيقة التوحيد.. ووضعت قدمك على أول الطريق إلى الله.. فلا تتوجه بقلبك وجوارحك إلا له.. ولا تستعين في أي عمل إلا به.
ومن هنا ندرك ارتباط التوحيد-الذي هو أصل الدين_ بالتوكل، وفي هذا الأمر تفصيل.. ولكن قبل أن نخوض في هذا الارتباط أحب أن نعرف أولاً معنى التوكل ومعنى الاستعانة ومعنى الاعتصام.
فأما التوكل فيقال:"وكل بالله: استسلم إليه، ويقال وكل إليه الأمر: سلمه وفوضه إليه واكتفى به، ويقال: اتكل على الله وتوكل على الله: أي استسلم إليه، ويقال: توكل في الأمر: أظهر العجز واعتمد على غيره، وتوكل-في اصطلاح أهل الحقيقة-: وثق بما عند الله ويئس مما في أيدي الناس"4.
وأما الاستعانة فيقال:" استعان فلان فلاناً واستعان به: أي طلب منه العون"5.
وأما الاعتصام فيقال:"اعتصم به: امتنع به ولجأ إليه"6، ويقول الإمام ابن القيم:"والاعتصام بالله: التوكل عليه والامتناع به والاحتماء به"7.(1/8)
ومن هنا يتبين أن "التوكل" و"الاستعانة" و"الاعتصام" ألفاظ تحمل نفس المفهوم، وإن كان لفظ "التوكل" يميل إلى ناحية التفويض القلبي، ولفظ "الاستعانة" يميل إلى ناحية الحركة والسعي بدليل وجود عمل يطلب فيه العون، أما لفظ "الاعتصام" فيوحي بوجود شدة أو فزع يستوجب الاحتماء بمن يقوى على دفع الأذى.
كما يتبين لنا من ذلك أن التوكل عمل من أعمال القلب مستقل عن عمل الجوارح8، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله-:"فإن قلت: فما معنى التوكل والاستعانة قلت: هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير.. والضرر والنفع.. والعطاء والمنع.. وأنه ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس، فيوجب له هذا اعتماداً عليه وتفويضاً إليه وطمأنينة به وثقة به ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه، وأنه لا يكون إلا بمشيئته شاءه الناس أم أبوه"9.
ومن ثم فإن صلاح توكل العبد يتوقف على صلاح قلبه مثله في ذلك كمثل بقية أعمال القلوب من تنزيه وحمد وخوف ورجاء...وغيرها، وعلى قدر صلاح قلب العبد وتعلقه بربه يكون توكله "فمن الناس من حاله في حق الله الثقة بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل(وهذه أقل درجات التوكل)، ومن الناس من يكون حاله مع الله كحال الطفل مع أمه، فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى سواها ولا يعتمد إلا عليها، وإن نابه أمر كان أول خاطر يخطر على قلبه وأول سابق إلى لسانه: يا أماه! فمن كان تألهه إلى الله ونظره إليه واعتماده عليه كلف به 10 كما يكلف الصبي بأمه فيكون متوكلاً حقاً، ومن الناس من يكون بين يدي الله تعالى مثل الميت في يد الغاسل، لا يفارقه إلا أنه لا يرى نفسه ميتاً، وهذا يفارق حال الصبي مع أمه فإنه يفزع إلى أمه ويصيح ويتعلق بذيلها،وهذه الأحوال توجد في الخلق إلا أن الدوام يبعد ولا سيما المقام الثالث"11.
2- بين التوكل والتوحيد(1/9)
إن الله عز وجل حين أنزل إلينا هذا الدين القيم.. عَّلمنا أن له أصولاً، وأن لكل أصل فروعاً تتفرع عنه، وإن أعظم أصول هذا الدين على الإطلاق هو التوحيد.. فهو مدار الرسالات.. وهدفها الذي أُنزلت من أجل تحقيقه، والمتأمل في فروع هذا الأصل العظيم.. يجد أن أعظمها على الإطلاق هو التوكل.. فهو الدليل العملي الواقعي على رسوخ حقيقة التوحيد في قلب العبد.
ولكي نتبين هذه العلاقة القوية بين التوكل والتوحيد.. وأنه لا يتم للعبد كمال توحيده حتى يعيش قلبه معنى التوكل.. فلنطوِّف قليلاً في آفاق القرآن والسنة وأقوال الأئمة.
ففي فاتحة الكتاب.. نجد قول الله -عز وجل- :?إياك نعبد? أي: إياك وحدك نُفرد بالعبادة وهو التوحيد، ?وإياك نستعين? أي: لا نستعين إلا بك وهو من مقتضى التوحيد.
وكذلك حين نقرأ سورة "الزمر" تجدها تدور حول محور واحد وهو الإخلاص أو التوحيد 12.. وتجد ذلك في مطلعها إذ يقول الحق تبارك وتعالى:?إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين? ألا لله الدين الخالص?(الزمر:2-3) ثم تعرج الآيات على نفي الشريك فيقول سبحانه : ?والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كَفَّار?(الزمر:3).
ثم تعرج بعد ذلك على نفي الولد.. فيقول سبحانه:?لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار?(الزمر:4).
وتستمر الآيات في عرض هذه الحقيقة-حقيقة التوحيد- وإقامة الأدلة والبراهين عليها، حتى تطالعنا خواتيم السورة بخطاب مَهيب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيه تعالى:?قل: أفغير الله تأمرونِّي أعبد أيها الجاهلون?ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنَّ عملك ولتكوننَّ من الخاسرين? بل الله فاعبد وكن من الشاكرين?(الزمر:64-66).(1/10)
أقول هذا لنعلم مدى تركيز هذه السورة الكريمة على الحديث عن التوحيد، لنعلم بعد ذلك كيف كان للتوكل نصيب خاص في هذه السورة يؤكد ارتباطه بالتوحيد ارتباطا وثيقاً، وذلك في قوله تعالى:?أليس الله بكافٍ عبده? إلى قوله عز وجل:?فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يُخزيه ويحل عليه عذاب مقيم?(الزمر:36-40).
يقول الأستاذ سيد قطب-رحمه الله- في ظلال هذه الآيات الكريمة:
"هذه الآيات الخمس تصور منطق الإيمان الصحيح، في بساطته..وقوته..ووضوحه..وعمقه، كما هو في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما ينبغي أن يكون في قلب كل مؤمن برسالته وكل قائم بدعوته، وهي تصور حقيقة المعركة بين الداعية إلى الحق وكل من في الأرض من قُوىً مضادة، كما تصور الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن، بعد وزن هذه القُوى بميزانها الصحيح.
?أليس الله بكاف عبده؟? بلى، فمن ذا يخيفه؟! وماذا يخيفه إذا كان الله معه؟! وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية.. وقام بحق هذا المقام؟! 13 ، ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده؟!
?ويخوفونك بالذين من دونه!? فكيف يخاف؟ والذين مِن دون الله لا يُخيفون من يحرسه الله، وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله؟!
إنها قضية بسيطة واضحة، لا تحتاج إلى كد ذهن، إنه الله (الذي يكفي عبده) ومن هم دون الله (الذين يخوفونه)، وحين يكون هذا هو الموقف..لا يبقى هناك شك..ولا يكون هناك اشتباه.(1/11)
(ولكن ينبغي أن نوضح هنا نقطة هامة، وهي أن كفاية الله لعبده لا تكون بتحقيق ما يريده العبد لنفسه من أمن أو غنى أو حفظ للحياة، وإنما تكون بما يريده الله لعبده من الخير.. علمه العبد أم لم يعلمه، فقد قال تعالى في الحديث القدسي:" إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر وإن بسطت عليه أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح حاله إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من يطلب باباً من العبادة فأكفه عنه لكيلا يدخله العُجب، إني أدبر أمر عبادي بعلمي ما في قلوبهم.. إني عليم خبير"14.
وتلاحظ في الحديث أن أهم ما يريد الله لعبده هو صلاح الإيمان، فعليه مدار أمره كله في دنياه وآخرته، وإن أعظم كفاية من الله لعبده أن يحفظ عليه إيمانه حتى يلقاه لا يشرك به شيئاً).
وإرادة الله هي النافذة، ومشيئته هي الغالبة، وهو الذي يقضي في العباد قضاءه في ذوات أنفسهم وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم (في قضية الهدى والضلال) ?ومن يُضلل الله فما له من هادٍ ومن يهدِ اللهُ فما له من مُضِل? ، وهو يعلم من يستحق الضلال فيضله.. ومن يستحق الهدى فيهديه.. فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مُبَدِّل لما يشاء، ?أليس الله بعزيز ذي انتقام?؟ بلى.. وإنه لينتقم ممن يستحق الانتقام.
(وهنا ينبغي أن نُفصِّل قضية الضلالة والهدي، فإن الله تعالى يهدي من يشاء بفضله، ويُضل من يشاء بعدله، فعندما خلق الله الإنسان خلقه صالحاً لقبول الخير والشر على قدر سواء، فمن اختار طريق الهدى يُعينه ويزيده هدى.. وذلك فضله، أما من اختار طريق الضلالة بكامل إرادته ويصر على ذلك فإن الله يحقق له ما يريد فيمد له في الضلالة..وذلك عدله.(1/12)
فمن احتج بمثل قوله تعالى:?وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله?(يونس:100) نقول إن معنى الآية:"أن النفس لا تصل إلى الإيمان إلا إذا سارت وفق إذن الله وسنته في الوصول إليه.. من إعمال للعقل في آيات الله الكونية والقرآنية، وعندئذ يهديها الله، ويقع لها الإيمان بإذنه جزاء ما جاهدت فيه لتهتدي، ويدل على هذا المعنى بقية الآية:?ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون? فالذين عطلوا عقولهم عن التدبر..يجعل الرجس عليهم، والرجس أبشع الدنس الروحي، فهؤلاء ينالهم ذلك الرجس بسبب تعطيلهم لمداركهم عن التعقل والتدبر.. وانتهاؤهم بهذا إلى التكذيب والكفران" 15.
وأما من احتج بمثل قوله تعالى:?ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا?(يونس:99) نقول: إن هذا يكون بسلب الاختيار منهم، أما وقد أعطاهم حق الاختيار فإن كلاً منهم مسئول عن اختياره، وإن كان في اختياره هذا -سواء اختار الإيمان أو الكفر- لم يخرج عن مشيئة الله لأنه هو الذي أعطاه حق الاختيار).
ثم يقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى منتَزَعة من منطقهم هم أنفسهم، ومن واقع ما يقررونه من حقيقة الله في فطرتهم:?ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولُنَّ الله.. قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنِيَ الله بضُر هل هُنَّ كاشفات ضُره.. أو أرادني الله برحمة هل هن ممسكات رحمته؟ قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون?.
لقد كانوا يقررون -حين يُسألون- أن الله هو خالق السموات والأرض، فهو يأخذهم ويأخذ العقلاء بهذه الحقيقة الفطرية الواضحة، إذا كان الله هو خالق السموات والأرض.. فهل يملك أحد أو شيء في هذه السموات والأرض أن يكشف ضراً أراد الله أن يصيب به عبداً من عباده؟! والجواب القاطع: أن لا، فإذا تقرر ذلك.. فما الذي يخشاه داعية إلى الله؟! وما الذي يرجوه؟! وليس أحد بكاشف الضر عنه.. وليس أحد بمانع الرحمة عنه؟! وما الذي يقلقه أو يخيفه أو يصده عن طريقه؟!(1/13)
إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب مؤمن فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه، وقد انقطع الجدل وانقطع الخوف.. وانقطع الأمل إلا في جناب الله سبحانه.. فهو كافٍ عبده، والعبد يتوكل عليه وحده:?قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون?.
ثم إنها الطمأنينة -بعد هذا-والثقة واليقين، الطمأنينة التي لا تخاف.. والثقة التي لا تقلق.. واليقين الذي لا يتزعزع.. والمضي في الطريق على ثقة بنهاية الطريق:?قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم?" 16انتهى.
وكذلك عندما تحدث الإمام المقدسي-رحمه الله- عن ارتباط التوكل بالتوحيد قال:"والتوكل يبتني على التوحيد 17 والتوحيد طبقات: منها أن يصدق القلب بالوحدانية المترجم عنها قولك: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فيصدق بهذا اللفظ ولكن من غير معرفة دليل، فهذا اعتقاد العامة.
والثانية أن يرى الأشياء المختلفة (ويرى مدى ترابطها بعضها ببعض) فيراها صادرة عن الواحد وهذا مقام المقربين 18(1/14)
والثالثة أن الإنسان إذا انكشف عن بصيرته أن لا فاعل سوى الله لم ينظر إلى غيره، بل يكون منه الخوف وله الرجاء، وبه الثقة وعليه التوكل، لأنه في الحقيقة هو الفاعل وحده، فسبحانه.. والكل مسخرون له، فلا يعتمد على المطر في خروج الزرع، ولا على الغيم في نزول المطر، ولا على الريح في سير السفينة، فإن الاعتماد على ذلك جهل بحقيقة الأمور، ومن انكشفت له الحقائق علم أن الريح لا تتحرك بنفسها وأنه لابد لها من محرك، فالتفات العبد في النجاة إلى الريح يضاهي التفات مَن أُخذ لتضرب عنقه، فوقع له الملك بالعفو عنه، فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد 19 والقلم الذي كُتب به التوقيع ويقول: لولا هذا القلم ما تخلصت، فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم، وهذا غاية الجهل، ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه شكر الكاتب دون القلم، وكل المخلوقات في قهر تسخير الخالق أبلغ من القلم في يد الكاتب، فسبحان مسبب الأسباب الفعال لما يريد" 20.
وأيضاً حين نطالع سيرة الركب الكريم من الأنبياء مع أقوامهم نجدهم جميعاً يدعون إلى شيء واحد هو التوحيد، قال تعالى:?ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت?(النحل:36) ً وفي معرض الحوار بين كل نبي وقومه نجد هذا الأمر يتكرر بحيث لا يتخلف عن أحدهم وهذا الأمر هو?يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره?(المؤمنون:23) وبذلك ندرك طبيعة الرسالة التي جاء بها هؤلاء الرسل الكرام.(1/15)
ولأن التوكل على الله لا ينفك عن التوحيد.. نجد أنهم كانوا يأمرون أقوامهم بالتوكل بعد أن يستجيبوا للأمر بالتوحيد.. فهذا نبي الله موسى-عليه السلام- يقول لقومه حين اشتد بهم الأذى:?يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين? فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين?(يونس:84-85) وفي موضع آخر يقول لهم:?استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين?(الأعراف:128).
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يروي عنه جابر -رضي الله عنه- فيقول:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن" 21.
ونجده صلى الله عليه وسلم يرسخ هذه الحقيقة في نفس الغلام ابن عباس-رضي الله عنهما- فيقول له:"يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف" 22 وفي رواية أخرى:"تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك".
فانظر إلى أي مدى كان حرص هؤلاء الرسل الكرام على ترسيخ هذا المعنى في قلوب أتباعهم.. ولا عجب في ذلك فإن ذلك من صميم رسالتهم التي أُرسلوا بها من عند الله عز وجل.. رسالة التوحيد.(1/16)
وكما أن التوكل من مقتضيات التوحيد.. فإن إرجاع الفاعلية في الكون إلى غير الله ونسبة النفع أو الضر إلى غير الله منافٍ لعقيدة التوحيد، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن خالد الجهني-رضي الله عنه-قال:"صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في الحديبية على إثر سماء (مطر) كانت من الليلة، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال لهم: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" 23
قال القسطلاني في شرح الحديث:"في قوله-عز شأنه-: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" أي كفر إشراك لمقابلته للإيمان، أو كفر نعمة بدلالة ما في رواية مسلم:"قال الله: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين" والإضافة في "عبادي" للملك لا للتشريف.
"وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا" أي بكوكب كذا معتقداً ما كان عليه بعض أهل الشرك من إضافة المطر إلى النوء وأن المطر كان من أجل أن الكوكب "ناء" أي سقط وغاب أو نهض وطلع، وأنه هو الذي هاج المطر.
"فذلك كافر بي" لأن النوء وقت، والوقت مخلوق، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً، ومن قال: مطرنا في وقت كذا فلا يكون كافراً (فذكر الوقت على سبيل اعتياد نزول المطر مع وقت معين مع الإيمان بأن الله هو الذي أنزله لا شيء فيه)، أما من انتظر المطر من الأنواء على أنها فاعلة من دون الله فهو كافر 24، ومن اعتقد أنها فاعلة بما جعل الله فيها فهو كافر لأنه لا يصح الخلق والأمر إلا لله تعالى كما قال تعالى ?ألا له الخلق والأمر?(الأعراف:54)" 25.(1/17)
أي لا يصح أن ينسب إلى الأنواء فعلاً مطلقاً حتى لو قال إنها فعلت بما جعل الله فيها، فحتى لو جعل الله فيها أسباب الفعل فإنها لا تفعل شيئاً إلا بأمر الله، وهذا هو المقصود والله أعلم.
ويقع اليوم زلزال بعد زلزال، ويتفجر بركان بعد بركان، ويهب إعصار إثر إعصار.. عذاب يعذب الله به من عصاه وحاد عن منهجه، مصداقاً لقوله تعالى:?ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد?(الرعد:31) وقوله تعالى:?وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير?(الشورى:30) ثم يطلع علينا بعد ذلك من ينسب هذه الأفعال على الطبيعة ويسمونها كوارث طبيعية!! وينسون رب الأرض والسماء.. خالق القوانين والنواميس.. الذي لا يقع شيء في كونه إلا بإذنه وتقديره.. فسبحانه عما يشركون.
وصورة أخرى من صور الشرك الناتج عن إرجاع الفاعلية إلى غير الله.. تلك التمائم 26 التي يعلقها الناس في أعناقهم أو سياراتهم أو بيوتهم، وهو أمر قد عمَّت به البلوى حتى إنك لا تكاد تجد سيارة في طريق إلا وفيها تميمة، ولا تكاد تدخل بيتاً من بيوت الأغنياء إلا وترى فيه تميمة، وكأن هذه التمائم هي التي تحمي صاحبها من الحسد أو تدفع عنه شر السحر، وهذا جهل محض بحقائق الأمور، لأن الله عز وجل قد احتفظ لنفسه بإذن الضر في السحر والحسد .. فأما عن السحر فقد قال عز وجل:?وما هم بضارِّين به من أحد إلا بإذن الله?(البقرة:102)، وأما عن الحسد فقد أمر الله عز وجل أن نستعيذ به وحده منه.. وهذا دليل على أن الحسد لا يصيب إلا بإذن الله.. فقال تعالى:?قل أعوذ برب الفلق? من شر ما خلق? ومن شر غاسق إذا وقب? ومن شر النفاثات في العقد? ومن شر حاسد إذا حسد?(سورة الفلق).(1/18)
ولكن من ضعف يقينه في الله تعلق قلبه بأشياء واهية لا تنفع وإنما تضر، وضررها عظيم وخطير، إذ أنها تطعن في كمال التوحيد.. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من تعلق تميمة فقد أشرك" 27، وقال أيضاً:"إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك" 28
وقد أجمع علماء الأمة على أن التمائم منهيٌ عنها مطلقاً سواء أكانت تميمة خالصة أو تميمة فيها ذكر لله لأنها لا تخلو من الشرك.
أما إذا كان المعلق ذكر لله بغير تميمة فقد اختلف فيه العلماء، ورخص فيه بعض السلف غير أن الجمهور- ومنهم ابن مسعود وابن عباس- قد قالوا بعدم جواز ذلك 29.
وعلى هذا فمن أراد أن يحفظ نفسه أو سيارته أو بيته من العين ومن السحر فليتق الله وليستعن به وليتوكل عليه 30، وليدع هذه الشركيات التي لا تنفع صاحبها شيئاً.. وليحذر أن يكله الله إلى ما علق من تمائم كما قال صلى الله عليه وسلم:"من تعلق شيئاً وُكِلَ إليه" 31، وليحذر كذلك أن يصيبه دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من تعلق تميمة فلا أتم الله له" 32.
فليحترز كل مسلم لدينه، وليحافظ على أغلى ما أوتي في هذه الحياة ألا وهو التوحيد، وليعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، لأن الأمور تسير بالمقادير، والمقادير بيد الله عز وجل يُصرفها كيف يشاء:?إن الحكم إلا لله أمر ألاّ تعبدوا إلا إياه?(يوسف:40) ?إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون?(يوسف:67).
3- بين التوكل والأسماء الحسنى
وعندما نتحدث عن أمر من أمور العقيدة، وباب من أعظم أبواب علم القلوب، لا يفوتنا أن نوضح تعلقه بأسماء الله وصفاته، فإن أعظم أنواع العلم "هو ما أثمر معرفة الله عز وجل ومعرفة صفاته وأسمائه الحسنى وأفعاله وأيامه"33.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم -رحمة الله عليه-:
"التوكل من أعم المقامات تعلقاً بالأسماء الحسنى، فإن له تعلقاً خاصاً بعامة أسماء الأفعال وأسماء الصفات"34.(1/19)
واعتبر ابن القيم -رحمه الله- المعرفة بالأسماء والصفات أول درجة في سلم التوكل، فقال:"فأول ذلك معرفة الرب وصفاته.. من قدرته، وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته، وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل"35.
وسنمر في هذا المبحث سريعاً على بعض الأسماء الحسنى التي يتعلق بها التوكل، من غير إسهاب في تفاصيلها، فليس المقام مقام إسهاب.. ولكن تذكرة للغافل ومعونة للعاقل.
فمن أسمائه -عز وجل- الحي والقيوم:
"والحي: الدائم البقاء، والقيوم: القائم بنفسه والمقيم لغيره، صيغة مبالغة في القيام على كل شيء، ويقال: هو القيم على كل شيء بالرعاية له" 36.
"وعلى هذين الاسمين-الحي القيوم- مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليها ترجع معانيها، فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، ولا يتخلف عنها صفة منها إلا ضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها.. استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة.(لذلك اقترن هذا الاسم بالتوكل في قوله تعالى:?وتوكل على الحي الذي لا يموت?(الفرقان:58))
وأما القيوم: فهو متضمن كمال غناه، وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، القائم على غيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته" 37.
ومن هذه الأسماء الصمد:
"بمعنى المصمود أي المقصود، فأصل الصمد: القصد، والمعنى هنا: المقصود في الحوائج والنوازل، المستحق أن يُلجَأ إليه لتحقيق الحاجات ونيل الرغبات وتفريج الكربات ودفع الملمات.
والصمد أيضاً: السيد الذي انتهى إليه السؤدد، وقيل: هو الدائم الباقي" 38.
ومنها الوكيل:(1/20)
"والوكيل: من توكل إليه الأمور، بمعنى الموكول والمفوض إليه، قال تعالى:?وكفى بالله وكيلاً?(الأحزاب:3) أي القائم بأمور عباده، المتكفل بمصالحهم، الكفيل بأرزاقهم، فالخلق والأمر له، لا يملك أحد من دونه شيئاً، ومن هذا قول المسلمين:?حسبنا الله ونعم الوكيل? أي نعم الكفيل بأمورنا والقائم بها" 39.
ومنها الحسيب:
"أي الكافي، وهو المراد في قوله تعالى:?ومن يتوكل على الله فهو حسبه?(الطلاق:3) وفي قوله تعالى:?قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون?(الزمر:38) وقيل مأخوذ من الحسبان: أي هو المحاسب للخلائق" 40.
ومنها الملك:
"أي ذو الملك التام، المتصرف في الأشياء بالإيجاد والإفناء، والإماتة والإحياء، وملك الباري سبحانه لا يدانيه ملك، أبدعه ويسيره بعد أن لم يكن، ولا يخشى أن ينزع منه، أو يدفع عنه كما هو حال ملوك الدنيا، فهو الملك حقاً وملك من سواه مجاز، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقبض الله تعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟!" 41 ومالك الملك: قال الخطابي: معناه أن الملك بيده يؤتيه من يشاء، كقوله تعالى:?قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء?(ءال عمران:26) وقد يكون معناه: مالك الملوك كما يقال: رب الأرباب" 42.
ومنها الولي:
"قال-عز من قائل-:?وهو الولي الحميد?(الشورى:28) قال القاضي الحليمي: الولي هو الوالي ومعناه مالك التدبير، المتولي لأمور العالم والخلائق، القائم بها، وقال الخطابي: والولي أيضاً: الناصر، ينصر عباده المؤمنين، قال الله عز وجل:?الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور?(البقرة:257) وقال جل وعلا:?ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا وأن الكافرين لا مولى لهم?(محمد:11) والمعنى لا ناصر لهم.(1/21)
فإذا أيقن العبد بنصر الله وعونه، وأنه هو المالك المدبر، القوي المتين، لن يخالط اليأس قلبه ما دام على الحق وقد أعد العدة، واتخذ الأسباب كما أمر الله سبحانه، بل يزداد تمسكاً بالحق، وإصراراً على نصره وتأييده، لا يخاف في الله لومة لائم، لأنه موقن في أعماق قلبه وقرارة نفسه بولاية الله له ونصرته إياه، وتدبيره أمره وشأنه، ما دام الأمر في طاعة الله ومرضاته، وبهذا يتحقق قوله جل ثناؤه:?ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون?(يونس:62)" 43.
ومنها القاهر والقهار:
"من القهر وهو الغلبة، قال تعالى:?وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير?(الأنعام:18) أي هو الذي خضعت له الرقاب، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه.
ومعنى قوله-عز من قائل-:?فوق عباده? أي فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة، وهو منع غيره من بلوغ المراد، فلا يستطيع أحد رد تدبيره والخروج من تقديره، فلا ملجأ لعباد الله إلا إلى الله" 44.
كما قال تعالى:?وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير?(الأنعام:17).
ومنها الرازق والرزاق:
"والأرزاق نوعان: أرزاق ظاهرة للأبدان كالأقوات، وأرزاق باطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم، فإذا أيقن العبد بأن الأرزاق بيد الله، وأن الله عز وجل لن يضيع عباده، وآمن بقوله عز شأنه:?والله يرزق من يشاء بغير حساب?(النور:38)، وبقوله سبحانه:?وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم?(العنكبوت:60)، وعمل بما أنزل الله سبحانه، وتوكل على الله حق التوكل كما قال صلى الله عليه وسلم :"لو أنكم تتوكلون على حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً" 45.(1/22)
لو أن العبد آمن بهذا إيماناً عميقاً، وانعكس ذلك على سلوكه، لتحرر الإنسان من كل عوامل القهر والخوف والتسلط والحسد، ولطهرت المجتمعات من كثير من الأمراض الاجتماعية التي خلفها ضعف الإيمان أو فقده، فإن الخوف على الرزق يستذل أعناق الرجال، ويقهر إرادتهم، إذا ضعف الإيمان بالله، وقد ربط الله-سبحانه وتعالى- الأرزاق بيده، فليس لأحد أن يطأطئ رأسه لغير الله في سبيل إقامة أوده وكسب رزقه" 46.
وقد يظن بعض الناس أنه ما دام يقبض راتباً ثابتاً فقد ضمن رزقه، أو أنه استغنى عن الله، فهذا جاهل بحقيقة الأمور، فإن الله -عز وجل- هو الذي يرزقه ذلك الراتب، ولو شاء لحرمه من وظيفته، ولو شاء لأصابه بعجز لا يستطيع معه أن يعمل أو يتكسب، ثم هو الذي يحافظ له على ماله ويبارك له فيه، ولو شاء تعالى أن يُضيع منه ماله لأذهبه، ولو شاء ابتلاه بولد مريض يُضيع عليه راتبه وأضعافه.
فعلينا أن نرد الأمور إلى نصابها، وأن نعترف بنعمة الله.. لا بألسنتنا فحسب.. وإنما بقلوبنا، ولنسْعَ في طلب الرزق موقنين بأن الرزق بيد الله، وأن السعي من الأسباب التي لا تغني من الله شيئاً إلا أن يشاء الله 47.
ومن أسمائه عز وجل:
القابض والباسط، والخافض والرافع، والمعز والمذل، والمغني والمانع، والضار والنافع، "وإن الإيمان بهذه الأسماء الجليلة ودلالاتها.. يجعل العبد يتقلب بين الخوف والرجاء، فلا يقنط من رحمة الله، ولا يغتر بما وهبه الله، فيسعى إلى المحافظة على نعمه والبعد عن نقمه، ويحرص على ما يرضيه-سبحانه وتعالى- والإقلاع عما يسخطه عز وجل" 48.
ومن أسمائه-جل ثناؤه- المحيي والمميت:
"فهو الذي يحيي النطفة الميتة فيُخرج منها النسمة الحية، ويحيي الأجسام البالية بإعادة الأرواح إليها عند البعث، ويحيي القلوب بنور المعرفة، ويحيي الأرض بعد موتها بإنزال الغيث وإنبات الرزق، والمميت الذي يميت الأحياء ويُذهب بالموت قوة الأصحاء الأقوياء" 49.(1/23)
فإذا كان الموت والحياة بيد الله.. فلماذا يخاف الإنسان على نفسه؟! وهل تموت نفس إلا إذا استوفت أجلها؟! وهل تموت نفس إلا بإذن الله؟!
وصدق الشاعر إذ يقول:
أي يوميَّ من الموت أفر……………يوم لا قُدِّر أو يوم قُدِر؟!
يوم لا قدر لا أرهبه……………ومن المقدور لا ينجو الحذِر 50
وهكذا رأينا أهمية معرفتنا بأسماء الله وصفاته، حتى نضع أقدامنا على أولى درجات التوكل بمعرفة الله واليقين به فيورث ذلك القلبَ الثقة بالله والاعتماد عليه.
4- بين العبادة والاستعانة
علمنا فيما سبق أن هذا الدين يتألف من نصفين: عبادة واستعانة، وهذان الأصلان لا يتم الدين إلا باجتماعهما، أما إذا غاب أحدهما أو غابا كلاهما فإن الدين يغيب عن صاحبه بقدر ما يغيب عنه منهما.
وحول هذا المعنى يقسم الإمام ابن القيم-رحمه الله- الناس إلى أربعة أقسام فيقول:
"فالناس في هذين الأصلين-وهما العبادة والاستعانة- أربعة أقسام:
1- أجلها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها، ولهذا كان أفضل ما يُسأل الرب تبارك وتعالى: الإعانة على مرضاته، وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لحِبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال:"يا معاذ.. والله إني لأحبك.. فلا تنس أن تقول دُبُر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"51.
فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب52 إسعافه بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضاده، وعلى تكميله وتيسير أسبابه.. فتأملها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية-قدس الله روحه-: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته.. ثم رأيته في الفاتحة في ?إياك نعبد وإياك نستعين?.(1/24)
2- ومقابل هؤلاء القسم الثاني، وهم المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة ولا استعانة، بل إن سأله أحدهم أو استعان به53 فعلى حظوظه وشهواته لا على مرضاة ربه وحقوقه، فإنه سبحانه يسأله من في السموات والأرض54 يسأله أولياؤه وأعداؤه، ويمد هؤلاء وهؤلاء55.
وأبغض خلقه عدوه إبليس، ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها ومتعه بها56، ولكن لما لم تكن عوناً على مرضاته كانت زيادة له في شقوته وبُعده عن الله وطرده عنه.
وهكذا كل من استعان بالله على أمر وسأله إياه ولم يكن عوناً على طاعته57 كان مُبعداً له عن مرضاته، قاطعاً له عنه58 ولابد.
3- القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة59، ومنهم من لهم عبادات وأوراد، ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، وتلاشيها في ضمنه، وقيامها به، وأنها بدون القدر كالموات الذي لا تأثير له، بل كالعدم الذي لا وجود له، وأن القدر كالروح المحرك لها.
فلم تنفذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك، ومن السبب إلى المسبب، ومن الآلة إلى الفاعل، فضعفت عزائمهم وقصُرت هممهم، فقل نصيبهم من ?إياك نستعين? ولم يجدوا ذوق التعبد بالتوكل والاستعانة، وإن وجدوا ذوقه بالأوراد والوظائف، فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير بحسب استعانتهم وتوكلهم، ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم، ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه وكان مأموراً بإزالته لأزاله.
4- القسم الرابع: وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضر، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولكنه لم يَدُر مع ما يحبه الله ويرضاه، فتوكل عليه واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه، وطلبها منه، فقضيت له وأُسعف بها، سواء كانت أموالاً أو رياسة أو جاهاً عند الخلق، أو أحوالاً من كشف60 وتأثير وقوة وتمكين، ولكن هذا لا عاقبة له61".62
5- التوكل بين الأمر والجزاء(1/25)
قد يظن بعض الناس أن التوكل على الله أمر مندوب يلجأ له الإنسان وقتما يشاء ويتركه كيفما يشاء، والحقيقة بخلاف ذلك تماماً، فالتوكل أمر أوجبه الله على كل من آمن به وشهد بوحدانيته.. من أنبيائه الكرام وأتباعهم على مر العصور والأزمان، فقد قال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم:?فإذا عزمت فتوكل على الله?(ءال عمران:159)، وقال تعالى:?فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً?(النساء:81)، وقال تعالى:?وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده?(الفرقان:58)، وقال تعالى:?وتوكل على العزيز الرحيم?(الشعراء:217)، وخاطبه في نهاية السورة التي شيبته صلى الله عليه وسلم-سورة هود- بعد أن ذكر قصص إخوانه من الأنبياء، وكيف نصرهم الله وأعزهم على الرغم من كيد أعدائهم، خاطبه ليرسخ هذه الحقيقة الكبرى في نفسه وفي نفوس أتباعه إلى يوم القيامة فقال:?ولله غيب السموات والأرض وإليه يُرجَع الأمر كله، فاعبده وتوكل عليه، وما ربك بغافل عما تعملون?(هود:123)، وخاطبه بعد ملحمة الجهاد في سورة التوبة قائلاً:?فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم?(التوبة:129)، وكذلك فقد وجه هذه الأوامر لكل المؤمنين به، فخاطبهم مرة بلفظ "التوكل" فقال:?وعلى الله فليتوكل المؤمنون?(ءال عمران:122)، ومرة بلفظ "الاعتصام" فقال:?واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير?(الحج:78)، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالاستعانة في حديثه المشهور:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجِز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان"63.(1/26)
وعلى الرغم من أن التوكل أمر واجب على كل مؤمن ولا يتم إيمانه إلا بتحقيقه.. فإن الله عز وجل يُنعم على من حققه كرماً منه وتفضلاً، فانظر معي -أخي المسلم- إلى عظيم ثواب المتوكلين.. فقد وعدهم الله السعادة في الدنيا.. والنعيم في الآخرة.
أما في الدنيا: فقد ضمن الله عز وجل لمن توكل عليه أربعة أشياء.. هي:
الهداية.. والكفاية.. والوقاية.. والنجاة من الغواية.
فأما الهداية فنجدها في قوله تعالى:?ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى صراط مستقيم?(ءال عمران:101) وأي نعمة أعظم من أن يهتدي المرء إلى صراط مستقيم يسير عليه بلا خوف من الضلال أو الهلاك، يسير عليه وهو موقن بالنهاية المشرقة لهذا الطريق، يسير وهو يشعر أن معه وحده النور وأن كل البشرية64 تعيش في الظلام.
أفبعد هذا الجزاء يحتاج المرء إلى جزاء؟.. ولكن لا حرج على فضل الله.. فكما أنه يهديه فإنه يكفيه.. وذلك في قوله تعالى:?ومن يتوكل على الله فهو حسبه?(الطلاق:3) أي يكفيه مئونته وييسر له الخير فلا يتعب ولا يشقى.
وأما الوقاية فتظهر في قصة مؤمن آل فرعون حين توكل على الله وفوض أمره إليه وقال:?وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد?(غافر:44) فكانت النتيجة كما قال الله عز وجل:?فوقاه الله سيئات ما مكروا?(غافر:45)، فكيف يخاف المؤمن من مكر أعدائه ومعه خير الماكرين الذي يقيه كل سوء ويدفع عنه كل شر؟!
وأما النجاة من غواية الشيطان فنجدها في قوله تعالى:?فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم? إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون?(النحل:98-99).(1/27)
ولقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفضائل الأربع-الهداية والكفاية والوقاية والنجاة من الغواية- في حديثه الذي رواه أبو داود والترمذي بسند حسن والنَّسائي عن أنس رضي الله عنه قال- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قال-يعني إذا خرج من بيته-: بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.. يقال له: هديت وكُفيت ووُقيت وتنَحَّى عنه الشيطان" وزاد أبو داود:"فيقول -يعني الشيطان- لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدِي وكُفي ووُقي؟!"65(1/28)
تلك بعض جوانب الجزاء في الحياة الدنيا.. أما عن الجزاء في الآخرة فحدِّث ولا حرج، فإن أعظم ما يتمناه أي إنسان في الآخرة يناله المتوكلون.. وليس هناك أعظم من دخول الجنة بغير حساب، فعن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عُرِضَت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط (تصغير رهط وهو ما دون العشرة أنفس) والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رُفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب" فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلِدوا في الإسلام فلم يُشركوا بالله شيئاً-وذكروا أشياء- فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ما الذي تخوضون فيه؟" فأخبروه فقال:"هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم، فقال:"أنت منهم" ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال:"سبقك بها عكاشة".66 ومعنى (لا يسترقون ولا يكتوون) أي لا يطلبون من أحد أن يرقيهم أو يكويهم، فهم لا يسألون أحداً إلا الله، حتى في ساعات الضعف والمرض، وهذا هو سر دخولهم في هذه الزمرة الكريمة التي تدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، ولا شك أن هذه درجة عالية استحقوا بها هذا الجزاء الوافر، ولكن هذا لا يعني أن سؤال الناس يُخرج عن التوكل-ما دام الاعتماد الأساسي على الله وما دام السؤال من باب الأخذ بالأسباب- ولكنه يُخرج صاحبه من هذه الزمرة التي تدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وقد يكون المعنى أنهم لا يسترقون بالرقى الجاهلية التي تحتوي على ما ينافي التوكل من الكلام غير المفهوم أو الاستعانة بغير الله ولا يكتوون(1/29)
للوقاية من المرض كما كان يعتقد البعض أن الكي يمنع المرض وهو منافٍ للتوكل وهذا المعنى أوسع ونسأل الله أن يُلحقنا بعكاشة في هذه الزمرة الكريمة.
ومعنى (لا يتطيرون) أي لا يتشاءمون، والتشاؤم: هو مظنة وقوع الشر لمجرد حدوث شيء مكروه لا علاقة له بالفعل الذي أنت مقدم عليه.
وقد روى مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي الصحابي-رضي الله عنه- قال:" قلت يا رسول الله: منا رجال يتطيرون، فقال: ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصُدَّنهم"67.
وفي حديث لآخر قال صلى الله عليه وسلم:"وإذا رأيتم من الطيرة شيء تكرهونه فقولوا: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله"68.
وفوق الهداية والكفاية والوقاية، وفوق النجاة من الغواية، وفوق دخول الجنة بغير حساب، فإن الله ينعم على المتوكلين بنعمة هي أعظم من ذلك كل في الدنيا والآخرة.. وهي أنه يمنحهم حبه.. ?إن الله يحب المتوكلين?(ءال عمران:159)
6- بين التوكل والأسباب
مما سبق تبين لنا أن التوكل عمل من أعمال القلب، يفوض فيه العبد أمره بأسبابه ونتائجه لله رب العالمين، ويعلم أن أمراً لن يحدث إلا إذا شاء الله له أن يحدث، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما دور الأسباب التي خلقها الله تعالى في مضمار الحياة؟
نقول-وبالله التوفيق-: إن هناك قاعدة عامة يجب أن تستقر في الأذهان في بدء الحديث عن الأسباب، ألا وهو ما نص عليه العلماء من أن الاعتماد على الأسباب شرك وأن تركها جهل.(1/30)
لأن من اعتمد على الأسباب في الوصول إلى النتائج فقد أرجع إلى الأسباب فاعلية وإرادة من دون الله، وهو ما اتفقنا عليه من قبل على أنه من الشرك، وكذلك من ترك الأسباب بالكلية فقد عصى أمر الله عز وجل بالسعي في طلب الرزق وقضاء الحوائج، فإن الله -عز وجل- الذي أمر مريم أن تهز النخلة كان قادراً على إنزال الرطب إليها في طبق من ذهب من غير تعب ولا نصب، ولكنها إرادة الله-عز وجل- وقضاؤه أن يجعل للنتائج أسباباً.. وإن لم يكن للأسباب دور مباشر في الوصول إلى النتائج، فهل ما فعلته مريم هو الذي أنزل الرطب؟!
فمن قال:نعم.. فعليه أن يذهب هو إلى أضعف نخلة، وهو رجل قوي في تمام عافيته -وليس امرأة في المخاض- ثم ليأتنا بما تسقطه النخلة عليه من جراء هزه لها!!
إنها حقيقة وقعة، بينة واضحة، أنه لابد لمن أراد الوصول إلى النتائج أن يبذل في سبيلها من الأسباب ما أمر الله به، ثم بعد ذلك تأتي النتيجة.. لا بإرادة الأسباب.. ولا بإرادة الآخذ بالأسباب.. ولكن بإرادة مسبب الأسباب سبحانه وتعالى.
وقد قال العلماء69:"من طعن في الحركة (أي السعي وبذل الأسباب) فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان".
وقالوا أيضاً:"اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله، وتوكل توكُّل رجل لا يصيبه إلا ما كُتب له". وعن أبي خزامة قال:"قلت: يا رسول الله، أرأيت رُقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: هي من قدر الله"70.
وللإمام المقدسي في كتابه (مختصر منهاج القاصدين) في ذلك الأمر كلام طيب وتفصيل جيد، ننقله باختصار لعل الله أن ينفع به.. يقول في بيان أعمال المتوكلين:71
"قد يظن بعض الناس أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة، وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع.(1/31)
والشرع قد أثنى على المتوكلين، وإنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه إلى مقاصده، وسعي العبد إما أن يكون لجلب نفع مفقود كالكسب، أو لحفظ موجود كالادخار، وإما لدفع ضرر لم ينزل، أو لإزالة ضرر قد نزل كالتداوي من المرض، فحركات العبد لا تعدو هذه الفنون الأربعة.
فأما جلب المنافع: فقد أمر الله عز وجل به في غير موضع من القرآن الكريم.. كقوله تعالى:?هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور?(الملك:15)، وقوله تعالى:?فإذا قُضيَت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله?(الجمعة:10).
وترك التكسب لس من التوكل في شيء.. إنما هو من فعل البطالين الذين آثروا الراحة وتعللوا بالتوكل، وقد قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-:" المتوكل الذي يُلقي حَبَّه في الأرض ويتوكل على الله".
وأما حفظ المنافع الموجودة بالادخار: فقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم.
ومن وجد قوتاً حلالاً يشغله كسب مثله عن جمع همه72 .. فإن ادخاره إياه لا يُخرجه عن التوكل خصوصاً إذا كان له عائلة.
وأما مباشرة الأسباب الدافعة للضرر: كالحذر ولبس الدرع (ومثله التطعيم ضد الأمراض) فقد أمر الله عز وجل به في كتابه حيث قال:?وخذوا حِذرَكم?(النساء:102).
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أعقلها (أربطها) وأتوكل أم أطلقها وأتوكل؟ فقال:"اعقلها وتوكل"73.
وأما السعي في إزالة الضرر: كمداواة المريض فقد أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن جابر:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لكل داء دواء.. فإذا أُصيب دواء الداء برئ بإذن الله"74.(1/32)
وأمر به أمراً صريحاً في الحديث عن أسامة قال:" قالت الأعراب: يا رسول الله أنتداوى؟ قال: نعم عباد الله.. تداووا75 فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاء إلا داء واحد، قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال: الهرم"76.
أما شكوى المريض فهي مُخرجة عن التوكل (إذا كان يقصد بها السخط على قضاء الله).. إلا إذا كانت وصفاً للطبيب، وقد كان بعض السلف يصف ما به من مرض ويقول: إنما أصف قدرة الله فيَّ، وقد يصفه إلى تلميذ له ليقويه على الضراء، وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم".77
والأسباب التي تتحقق بها هذه الفنون78 على ثلاث درجات:
أحدها: سبب مقطوع به: كالأسباب التي ارتبطت بها المسبَّبات-بتقدير الله تعالى ومشيئته- ارتباطاً مطَّرداً لا يختلف.. مثل تناول الطعام لإذهاب الجوع أو شرب الماء لإذهاب الظمأ.
الثاني: الأسباب غير المتيقنة.. ولكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها.. مثل حمل الزاد في السفر.. فإن الغالب أنه لن يجد من يطعمه ويسقيه خصوصاً إذا كان سفره إلى منطقة نائية (ومثله حمل النقود التي يشتري بها طعامه إن كان مسافراً إلى منطقة عامرة).
الثالث: الأسباب التي يحتمل احتمالاً ضعيفاً أن تؤدي إلى المسببات.
واعلم أن التوكل لا يكون بترك هذه الأسباب وإنما بمباشرتها.. مع العلم والحال،
فأما العلم: أن تعلم أن الله هو الذي خلق الأسباب وخلق فيك القوة على مباشرتها.
وأما الحال: أن يكون اعتمادك على فضل الله تعالى لا على قوتك ولا على الأسباب، لأن الله تعالى إن شاء حال بينك وبين الأسباب.. أو سلبك القوة التي تباشر بها الأسباب" انتهى.
فإذا تم للعبد تفويض أمره إلى الله بالكلية، ثم أخذُه بالأسباب المأمور بها في هذا الباب، ثم رضي بعد ذلك بما يقدره الله فيه، فقد استكمل بذلك شروط التوكل وأركانه في هذا العمل.(1/33)
واسمحوا لي أن أستطرد قليلاً في تفاعل العباد مع أقدار الله عز وجل سواء كانت محبوبة أو مكروهة، فهو بمثابة اختبار لصدق التوكل والتفويض إلى الله أن تنظر إلى حال قلبك عند وقوع القدر، فإن كان تفاعله مع المقادير كما يرضي الله فقد صدق في توكله.. والعكس صحيح.
فإن كانت المقادير مكروهة كان ذلك بالرضا أو الصبر، وإذا كانت محبوبة كان ذلك بالشكر والعرفان.
أولاً: إذا كانت المقادير مكروهة:
فاعلم أن العباد أمام هذه المقادير على ثلاثة أحوال:
أولها:"أن يرضى بذلك، وهي درجة عالية رفيعة جداً، قال الله عز وجل:?ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه?(التغابن:11)، قال علقمة: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيُسَلِّم لها ويرضى، وخرَّج الترمذي من حديث أنس- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:"أسألك الرضا بعد القضاء"، ومما يدعو المؤمن إلى الرضا بالقضاء تحقيق إيمانه بمعنى ول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر وكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر وكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن"، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يوصيه وصية جامعة موجزة فقال:"لا تتهم الله في قضائه"، قال أبو الدرداء:"إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يُرضى به".
فالرضا أن لا يتمنى العبد غير ما هو عليه من شدة أو رخاء، وقال عمر بن عبدالعزيز:"أصبحت ومالي من سرور إلا في مواقع القضاء والقدر".(1/34)
والدرجة الثانية: أن يصبر على البلاء، وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاء، فالرضا فضل مندوب إليه مستحب، والصبر واجب على المؤمن حتم، وفي الصبر خير كثير، فإن الله أمر به ووعد عليه جزيل الأجر، قال تعالى:?إنما يُوَفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب?(الزمر:10).
والفرق بين الرضا والصبر: أن الصبر كف النفس وحبسها عن السخط، مع وجود الألم، وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع(كالشكوى باللسان أو البطش باليد أو رسم أمارات الغضب على الوجه...).
والرضا انشراح الصدر وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال الألم وإن وُجد الإحساس بالألم، ولكن الرضا يخففه بما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة"79.
أما الثالثة: أن يسخط على قضاء الله، فيكون بذلك قد خرج من دائرة المتوكلين إلى دائرة المتَّهِمين لله رب العالمين، نسأل الله أن يعيذنا من حالهم أجمعين.
واعلم أيضاً أن للعبد في كل مكروه يصيبه ستة مشاهد:80
"أحدها: مشهد التوحيد، وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والثاني: مشهد العدل، وأنه ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه.81
والثالث: مشهد الرحمة، وأن رحمته في هذا المقدور غالبة لغضبه وانتقامه82.
والرابع: مشهد الحكمة، وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك، ولم يقدره سُدى ولا قضاه عبثاً.
والخامس: مشهد الحمد، وأن له الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه83.
والسادس: مشهد العبودية (وهو أعلاها وأجلها) وأنه عبد محض من كل وجه، تجري عليه أحكام سيده وأقضيته بحُكم كونه مِلكَه وعبده، فيصرفه تحت أحكامه القدرية، كما يصرفه تحت أحكامه الدينية، فهو محل جريان تلك الأحكام عليه".84
ثانياً: إذا كانت المقادير محبوبة:
فليعلم العبد أولاً أنها ابتلاء من الله له لينظر: أيشكر ويعترف بنعمة الله عليه، وأنه وحده الذي وهبه إياها ولو شاء لحرمه منها.. أم يكفر وينسبها إلى نفسه.. أو إلى الحظ.. أو إلى إي شيء من خزعبلات الجاهلين.(1/35)
ولقد بيَّن نبي الله سليمان- عليه السلام- ذلك الأمر حين قال:?هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر?(النمل:40).
ولقد ذكر الله مثالاً للصنف الأول يوسف عليه السلام.. إذ قال عند استتباب ملكه:?يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم? رب قد ءاتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث.. فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة.. توفني مسلماًً وألحقني بالصالحين?(يوسف:100-101).
وليس الشكر مجرد اعتراف لله بالفضل.. بل هو أيضاً عمل لله بما أنعم علي العبد فيما يرضيه عنك سبحانه وتعالى:?اعملوا ءال داود شكراً?(سبأ:13).
أما مثل الصنف الثاني فهو قارون حين كفر بنعمة الله عليه، ولم يكن قارون بأن أنكر فضل الله عليه.. بل كان ذلك بأنه لم يبتغ بنعمة الله مرضاة الله، ويظهر ذلك في قوله:?إنما أوتيته على علم عندي?(القصص:78)، فلفظ "أوتيته" يدل على أنه يعترف بأن الله هو الذي أعطاه إياه، ولكن لما بغى على قومه وتكبر عليهم بما عنده من المال وجعل لعلمه فضلاً فيما هو فيه من النعمة كان ذلك هو كفره للنعمة، ولذلك لما نصحه قومه كانوا يعلمون أنه معترف بنعمة الله عليه ولكنه لا يبتغي بها وجهه فجاءت نصيحتهم:?وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة?(القصص:77).
أما عن جزاء الشاكرين وعقاب الكافرين فقد قال الله عز وجل:?وإذ تأذَّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنَّكم.. ولئن كفرتم إن عذابي لشديد?(إبراهيم:7).(1/36)
واعلم أن هذا الشكر أصل من أصول الدين، بل إن الشكر والذكر هما مدار الدين.. فما العبادة إلا ذكر لله وشكر له على نعمة الإسلام، وما الاستعانة إلا ذكر لله وشكر له على نعمة الإيمان، وعندما امتن الله على المؤمنين بإرساله رسوله إليهم ليعلمهم دينهم ويتلو عليهم آياته.. لم يطلب منهم إزاء ذلك إلا الذكر والشكر، واقرأ إن شئت قوله عز وجل:?كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم ءاياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون?فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون?(البقرة:151-152)، ولذلك كان أول ما افتتح الله عز وجل به كتابه العزيز:?الحمد لله رب العالمين?(الفاتحة:1).
ولقد علم إبليس هذه الحقيقة فكان من أشد ما توعَّد به بني آدم إغفالهم عن الذكر والشكر فقال:?ثم لآتينَّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم? لأشغلهم عن ذكرك ?ولا تجد أكثرهم شاكرين? بما أنسيهم من فضلك عليهم.
ومن اللطائف في أمر الشكر وعلاقته بالأعمال:
أن كل ذنب يعمله العبد هو جحود لنعمة الله عليه في الجارحة التي عمل بها الذنب، لأن شكرها: في العمل بها فيما يحبه الله.. وكذلك كفرها: في العمل بها فيما يغضب الله، ولهذا كان الإقرار بنعمة الله في الجارحة قبل الاستغفار من الذنب، كما جاء في سيد الاستغفار" أبوء لك بنعمتك علي.. وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"85.
فإذا بذل العبد ما يستطيع في شكر ربه فعليه أن يعلم أنه لم يُوَفِّ الله حقه فيه.. فيسأله سبحانه المعونة على شكره.. وما أجمل أن يعترف المرء بتقصيره في حق الله فيلهج قلبه قائلاً:" سبحانك ما قدرناك حق قدرك.. ولا ذكرناك حق ذكرك.. ولا شكرناك حق شكرك.. ولا عبدناك حق عبادتك.. اللهم فارزقنا تقديرك حق قدرك.. وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك."
7- بين الدعاء والتوكل(1/37)
إذا علمنا أن الدعاء هو مخ العبادة-كما نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلنعلم أيضاً أن الدعاء هو قلب الاستعانة، فلا يُعقَل أن تستعين بأحد في أي عمل من أعمالك من غير أن تسأله المعونة، ولكن شتان شتان بين من تسأله المعونة من البشر.. فيضن عليك تارة.. ويمن عليك تارة.. وبين من يحب سؤالك ويعطيك ما سألت وفوق ما سألت، وصدق الشاعر إذ يقول:
لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجة…………وسل الذي أبوابه لا تُحجَبُ
الله يغضب إن تركت سؤالَهُ………وبُنَيُّ آدم حين يُسأل يغضبُ
ولقد أمر الله -تبارك وتعالى- عباده بالدعاء في أكثر من موضع من القرآن الكريم.. فقال تعالى: ?وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين?(غافر:60)، وقال في أخرى:?ادعوا ربكم تضرعاً وخُفية إنه لا يحب المعتدين?(الأعراف:55).
والدعاء لا يكون في وقت الشدائد فحسب.. ولكنه واجب على كل مسلم في الرخاء والشدة على السواء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة"86
وعلى المرء المسلم أن يكثر من الدعاء ويلح فيه، فإن الله تعالى يحب عبده اللحوح.. قال تعالى:?فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان?(البقرة:186)، ولفظ "إذا" يفيد التحقيق والكثرة، بعكس لفظ "إنْ" الذي يفيد الشك والندرة، وعلى ذلك فإن الله عز وجل يدعو عباده إلى الإلحاح في الدعاء، ويعدهم على ذلك حسن الإجابة.
وليعلم كل عبد أن دعاءه لا يضيع سدى، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها.. أو صرف عنه من السوء مثلها.. ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم" فقال رجل: إذاً نُكثر قال:"الله أكثر"87
فإذا يئس المسلم من إجابة دعائه.. لم يُستَجَب له، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يُستجاب لأحدكم ما لم يَعجَل فيقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي"88(1/38)
فالله عز وجل لا يعجل بعجلة ابن آدم ولكن لكل قضاء عنده موعد، ولله در الشافعي حين قال:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه89…………ولا تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تُخطي ولكن………لها أمد وللأمد انقضاءُ90
ولقد ورد في الأثر أن نبي الله موسى- عليه السلام- حين دعا على قوم فرعون فقال:?ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم?(يونس:88)، قال الله عز وجل له:?قد أجيبت دعوتكما?(يونس:89)، وبعد أربعين سنة أذن الله بالتنفيذ فأغرق آل فرعون ومكَّن لبني إسرائيل.
فهل استبطأ نبي الله موسى إجابة الدعاء؟ لا، ولكنه يعلم أن قضاء الله له موعد، وكان يبشر بذلك قومه فيقول لهم:?عسى ربكم أن يُهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون?(الأعراف:129).
وإن حقيقة الاستعانة تظهر في إقبال العبد على سؤال ربه وهو موقن أن الخير كله في يديه، وأنه الكريم يعطي بلا حساب، فيغنيه سؤال ربه عن سؤال الناس، فيصبح عزيزاً بربه غنياً بتوكله عليه.
ولقد كان الصحابة-رضوان الله عليهم- يسألون الله تعالى كل شيء حتى علف دوابهم، وما العجب؟! وقد استقرت في نفوسهم تلك الحقيقة الكبرى.. أن الله تعالى ملِك كريم لا يرد سائله، وأنه ما رفع عبد يديه إلى السماء سائلاً ربه شيئاً إلا أعطاه..وقد قال تعالى:?وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون?(البقرة:186).(1/39)
ولقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتجه إلى الله تعالى في كل حاجة تعرض لنا.. سواء كانت هذه الحاجة من الله أو من أحد من خلقه..وسواء كانت دنيوية أو أخروية.. ففي الحديث:"من كانت له حاجة عند الله أو عند أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء.. ثم ليصل ركعتين.. ثم ليُثنِ على الله وليُصلِّ على النبي ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم..سبحان الله رب العرش العظيم..الحمد لله رب العالمين.. اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والعصمة من كل ذنب، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا حاجة هي لك رضاً إلا قضيتها يا أرحم الراحمين"91 ثم يسأل الله ما شاء.
ولكن على العبد ألا يستعجل إجابة حاجته، فالله أعلم بالخير لعبده.. ويعلم متى يعطيه ومتى يمنعه.. ويدل على ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين بتمامها أعطاه الله عز وجل ما سأل معجلاً أو مؤخراً"92.
ومن آداب الدعاء ما ذكره الإمام أبوحامد الغزالي -رحمه الله- حيث قال:"آداب الدعاء عشرة:
الأول: أن يترصد الأزمان الشريفة.. كيوم عرفة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل وقت السَّحَر.
الثاني: أن يغتنم الأحوال الشريفة.. كحالة السجود، والتقاء الجيوش، ونزول الغيث، وإقامة الصلاة وبعدها، وحالة رقة القلب.
الثالث: استقبال القبلة ورفع اليدين.
الرابع: خفض الصوت بين المخافتة والجهر.
الخامس: أن لا يتكلف السجع، وقد فُسِّر به (أي التكلف في السجع) الاعتداء في الدعاء، والأَولى أن يقتصر على الدعوات المأثورة، فما كل أحد يُحسن الدعاء.. فيُخاف عليه الاعتداء، وقال بعضهم: ادع بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق.(1/40)
السادس: التضرع والخشوع والرهبة، قال الله تعالى:?إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين?(الأنبياء:90)، وقال تعالى:?ادعوا ربكم تضرعاً وخُفية?(الأعراف:55).
السابع: أن يُجزم بالطلب93 ويوقن بالإجابة ، ويصدق رجاؤه فيها، ودلائله كثيرة مشهورة، قال سفيان بن عيينة- رحمه الله-:"لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلمه من نفسه، فإن الله تعالى أجاب شر المخلوقين إبليس إذ قال:?أنظرني إلى يوم يبعثون? قال إنك من المنظَرين?(الأعراف:14-15).
الثامن: أن يلح في الدعاء، ويكرره ثلاثاً، ولا يستبطئ الإجابة.
التاسع: أن يفتتح الدعاء بذكر الله تعالى والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحمد لله والثناء عليه، ويختمه بذلك كله أيضاً.
العاشر: وهو أهمها والأصل في الإجابة.. وهو التوبة ورد المظالم والإقبال على الله تعالى"94 وأن يطهر مطعمه ومشربه وملبسه من الحرام.
وقال الغزالي أيضاً:"فإن قيل : فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟
فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء ووجود الرحمة، كما أن الترس سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء ألا يحمل السلاح، وقد قال تعالى:?وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم?(النساء:102)، فقدَّر الله تعالى الأمر وقدَّر أسبابه"95
وعندما ننظر إلى سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله.. نجد أنهم ما فتروا عن الدعاء ساعة.. وكيف يفتُرون عنه وقد أُلقيت عليهم-وعلى أتباعهم من بعدهم- تبعة ثقيلة تنوء بحملها الجبال وهي تبليغ دعوة الله إلى خلقه.(1/41)
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر..يوم التقى الجمعان.. جمع مهيب كبير يعج بالخيل والرجال والسلاح-هو جمع المشركين- وجمع قليل العدد ضعيف القوة فقير إلى السلاح.. يقف صلى الله عليه وسلم لا حول له ولا قوة.. فيتجه قلبه ولسانه إلى من بيده الحول والقوة.. يستغيث ربه ويبكي ويتضرع فيقول:"اللهم إن تهلِك هذه العصابة اليوم لا تُعبد..."96 ..ويظل يدعو ربه ويرفع يديه إلى السماء حتى يسقط رداؤه عن منكبيه.. عجباً لك يا رسول الله.. تفعل ذلك كله وقد بشرك الله بالنصر؟!.. تفعل ذلك كله وقد أراك الله مصارع المشركين؟!.. تفعل ذلك كله وأنت تعلم أن الله لم يكن ليضيع دينه ودعوته حتى يُتم النور ويظهر الحق؟!.. ولكنه درس لنا-نحن المسلمين- ألا نركن إلى قوتنا طرفة عين، وألا نَدَعَ الدعاء والتضرع إلى الله مهما كانت الأسباب توحي بحُسن النتائج.. فما الأسباب والنتائج إلا بتقدير العزيز العليم.
وهذا نبي الله أيوب.. يموت أولاده جميعاً.. ويذهب ماله.. وينحل جسمه من شدة المرض.. فلا يجزع ولا ييأس من رحمة الله.. ويتجه إلى من بيده كل شيء..?أني مسَّنيَ الضُّر وأنت أرحم الراحمين?(الأنبياء:83).. غاية الأدب في الدعاء.. يتذلل إلى الله باسم من أسمائه.. ولا يسأله كشف الضر عنه بل هو يشكو إلى ربه وهو على يقين أن الله عز وجل بكرمه سيرفع عنه شكواه من غير أن يطلب هو رفعها.. ولم يخيب الله ظنه فأجرى له ينبوعاً من الماء يغتسل منه ليُشفى ما ظهر من أمراض جسده.. ويشرب منه فيُشفى ما بطن منها.. ليس ذلك فحسب.. وإنما رد الله إليه زوجه.. ورزقه ضعفي ما كان له من الأولاد97.. بل وأكثر من ذلك.. يسَّر الله له في يمينه الذي أقسمه أن يضرب زوجه مائة ضربة.. فأمره الله أن يجمع مائة عود ويضربها بها ضربة واحدة:?وخذ بيدك ضِغثاً فاضرب به ولا تحنث، إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب?(ص:44).(1/42)
وهذا نبي الله يونس.. يبتلعه الحوت.. ولا يشك أحد في هلاكه.. ولكن هذا العبد الذي اعتاد أن يلجأ إلى الله في كل أموره.. كان أول شيء يفكر فيه أن يلجأ إلى ربه..?فنادى في الظلمات ألاَّ إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين?(الأنبياء:87).. دعاء أوله توحيد وأوسطه تسبيح وآخره إقرار بالذنب والتقصير.. ولا يخيب الله ظن من التجأ إليه..?فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين?(الأنبياء:88).
وهذا نبي الله زكريا-عليه السلام- حين يتطلع إلى الذرية، ولا يجد لذلك سبيلاً إلا الالتجاء إلى من بيده ملكوت كل شيء، الذي ?يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور? أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً?(الشورى:49-50).. يلتجئ إليه في لحظة شاهد فيها قدرة الله عز وجل مشاهدة العيان، وليس من رأى كمن سمع، فحينما دخل على مريم المحراب ?وجد عندها رزقاً..قال يا مريم: أنَّى لكِ هذا؟! قالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب? هنالك دعا زكريا ربه قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء?(ءال عمران:37-38)، وما دام الدعاء قد خرج من القلب في لحظة يقين فما الذي يحول بينه وبين الإجابة؟!?فنادته الملائكة وهو قائم يصلى في المحراب أن الله يبشرك بيحيى? ليس ولداً كأي ولد.. ولكن ?مصدقاً بكلمة من الله.. وسيداً.. وحصوراً.. ونبياً من الصالحين?(ءال عمران:39).
من كل ذلك نعلم أن الدعاء هو ديدن98 كل مؤمن.. فما من قلب آمن بالله وأيقن بقدرته وعظمته إلا والتجأ إليه في كل أمر، واعتمد عليه في كل شأن، واستعاذ به من أن يكِله إلى نفسه لأنه يعلم أن نفسه لا تملك شيئاً وأن الأمر كله لله.."يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث.. أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين".99
8- لا حول ولا قوة إلا بالله(1/43)
إن الله تعالى حين أنزل هذا الدين العظيم.. كان يعلم أن الإنسان كثير النسيان، ولذلك فقد أمره بالذكر ليتذكر به ما غفل عنه من معرفة الله وتذكر نعمه وفضله وحقه، وهذا الذكر الذي بين أيدينا-وهو لا حول ولا قوة إلا بالله- يُذَكر الإنسان دائماً أن القوة كلها لله فلا يتوكل على غيره.
وإن قول "لا حول ولا قوة إلا بالله" يورث القلب عبادتين: فإذا ذكره العبد قبل الإقدام على العمل .. علم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله.. فلن يعينه على إتمام عمله إلا الله فأورثه التوكل، وإذا ذكره بعد إتمام العمل.. علم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله فلم يكن العمل ليتم إلا بتوفيق الله فأورثه الشكر.
وجميع ما علَّمَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذكار ليست مجرد ألفاظ تُقال باللسان.. وإنما جُعلت لتعكس حالة القلب:
"فسبحان الله: تنزيه100.. وهو حق
والحمد لله: شكر.. وهو واجب
ولا إله إلا الله: إخلاص.. وهو شرط101
والله أكبر: استعلاء102.. وهو زاد103
ولا حول ولا قوة إلا بالله: توكل.. وهو السبيل104"(1/44)
ومن عجائب هذا الذكر العظيم ما رواه آدم بن أبي إياس في تفسيره عن محمد بن إسحاق قال:"جاء مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أُسر ابني عوف، فقال له: أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تُكثر من قول "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فأتاه الرسول فأخبره، فأكب عوف يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكانوا قد شدوه بالقيدِّ فسقط القيد عنه، فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها، فأقبل فإذا هو بسَرَح105 القوم الذين كانوا شدوه، فصاح بهم فاتَّبع آخرها أولها، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب، فقال أبوه: عوف ورب الكعبة، فاستبق الأب والخادم إليه فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلاً، فقص على أبيه أمره وأمر الإبل، فأتى أبوه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعاً بإبلك، ونزل قوله تعالى:?ومن يتق الله يجعل له مخرجاً? ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه?(الطلاق:2-3).106
ومن روائع الأستاذ سيد قطب- رحمه الله- ما قاله حول هذا الذكر العظيم.. فلنعش معه قليلاً ولنستلهم منه الدروس والعبر.
يقول الأستاذ سيد قطب- رحمه الله-:107
"إن القوة والقهر والسلطان هي من خصائص الألوهية، وموجبات العبادة والعبودية، وأولى مراتب الإيمان: الاعتقاد والإيمان بأن الحول والقوة كلها لله، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله108.
وإن حقيقة القوى في الوجود كثيراً ما يغفل الناس عنها،فيسوء تقديرهم لجميع القيم ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات، وتختل في أيديهم جميع الموازين، ولا يعرفون إلى أين يتوجهون.. وماذا يأخذون ماذا يدَعون؟!.. وعندئذٍ تخدعهم قوة الحكم والسلطان.. يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليَكُفُّوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها.(1/45)
وتخدعهم قوة المال.. ويحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة، ويتقدمون إليها في رَغَب ورَهَب، ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون.
وتخدعهم قوة العلم.. يحسبونها أصل القوة وأصل المال وأصل سائر القُوَى التي يصول بها من يملكها ويجول، ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عُبَّاد في المحاريب.
وتخدعهم هذه القوى الظاهرة، تخدعهم في أيدي الأفراد.. وفي أيدي الجماعات.. وفي أيدي الدول، فيدورون عليها كما يدور الفراش على المصباح، وكما يتهافت الفَراش على النار، وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القُوى الصغيرة وتملكها.. وتمنحها وتوجهها وتسخرها كما تريد حيثما تريد، وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى-سواء كانت في أيدي الأفراد أو الجماعات أو الدول- كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت.. حشرة ضعيفة رخوة واهنة.. لا حماية لها من تكوينها الرخو.. ولا وقاية لها من بيتها الواهن، وليس هناك إلا حماية الله وإلا ركنه القوي الركين..?مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كَمَثَل العنكبوت اتخذت بيتاً، وإنَّ أوهن البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لو كانوا يعلمون?(العنكبوت:41).
هذه الحقيقة الضخمة هي التي عُنِيَ القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة، فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها، وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض، ودكت المعاقل والحصون.
لقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس، وعمرت كل قلب، واختلطت بالدم وجرت معه في العروق، ولم تَعُد كلمة تقال باللسان، ولا قضية تحتاج إلى جدل، بل بدهية مستقرة في النفوس لا يجول غيرها في حس ولا خيال.(1/46)
قوة الله وحدها هي القوة.. وولاية الله وحدها هي الولاية.. وما عداها فهو واهٍ ضئيل هزيل.. مهما علا واستطال.. ومهما تجبر وطغى..ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل.. إنها العنكبوت.. وما تملك من قوى ليست سوى خيوط العنكبوت..?وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون?..
وإن أصحاب الدعوات.. الذين يتعرضون للفتنة والأذى وللإغراء والإغواء.. لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة، وهم يواجهون القوى المختلفة، هذه تضربهم وتحاول أن تسحقهم، وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم، وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله، وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة، وحين تعرف حقيقة القوى، وتحس حقيقة القوى، وتحسن التقويم والتقدير.
فمن كان الله معه فلا شيء إذن ضده، ومهما يكن ضده من شيء فهو هباء لا وجود في الحقيقة له ولا أثر، ومن كان الله معه فلن يضل طريقه.. ?وقال الله إني معكم?(المائدة:12).. فإن معية الله سبحانه تهديه كما أنها تكفيه، ومن كان الله معه فلن يقلق ولن يشقى، فإن قُربه من الله يُطمئنه ويُسعده، ولكن معية الله لم يجعلها الله سبحانه جزافاً ولا محاباة ولا كرامة شخصية منقطعة عن أسبابها وشروطها، إن معية الله لمن يعبدونه حق العبادة ويحملون منهجه ونظامه ويحملون دعوته.(1/47)
إنها الحقيقة التي يؤكدها القرآن دائماً ويقررها، وهي حقيقة الصلة بين الله وبين المؤمنين، إنها الصلة بين الإنسان وبين القوة الكبرى، إنه سبحانه يجعل صفَّهم صفَّه.. وأمرهم أمره.. وشأنهم شأنه..يضمهم سبحانه إليه ويأخذهم في كنفه ويجعل عدوهم عدوه، وما يوجه إليهم من مكروه موجهاً إليه سبحانه..?يُخادعون الله والذين آمنوا?(البقرة:9).. وهذا التفضل العلوي الكبير، التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق109، والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان هي أكبر وأكرم الحقائق، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها، وهو يرى الله جل شأنه يجعل قضيتهم هي قضيته.. ومعركتهم هي معركته.. وعدوهم هو عدوه..ويأخذهم في صفه ويرفعهم إلى جواره الكريم.. فماذا يكون العبيد وكيدهم وأذاهم الصغير؟!
ولقد كانت العصبة المسلمة تجد الله.. فتجد القوة الكبرى، كانوا يجدون صفاته في نفوسهم، كانوا يجدونها رطبة بالحياة الحقيقية، كانوا يحسون أن الله يسمع لهم وهو قريب منهم، وأنه مَعنِيٌ بأمرهم عناية مباشرة، وأن شكواهم ونجواهم تصل إليه بلا وساطة، ولا يهملها ولا يكلها إلى سواه، ومن ثم كانوا يعيشون في أُنس بربهم..في كنفه..في جواره..في عطفه..في رعايته، ويجدون هذا كله في نفوسهم حياً واقعاً، وليس معنىً ولا فكرة ولا مجرد تمثيل وتقريب.(1/48)
إن القوة لله وحده.. فهي تُطلَب عنده ولا قوة عند الآخرين..?إن العزة لله جميعاً?(يونس:65).. ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة.. فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه، ألا إنها لعبودية واحدة ترتفع بالنفس البشرية وتحررها.. العبودية لله..فإن لم تطمئن إليها النفس استُعبدَت لقيم شتى، وأشخاص شتى، واعتبارات شتى، ومخاوف شتى، ولم يعصمها من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل اعتبار.. وإنه إما عبودية لله: كلها استعلاء وعزة وانطلاق.. وإما عبودية لعباد الله: كلها استخذاء وذلة وانحلال.. ولمن شاء أن يختار.
وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن، وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو يؤمن بالله، وما أحوج ناساً ممن يدَّعون الإسلام ويتسمَّون بأسماء المسلمين وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض.. أن يتدبروا هذا القرآن.. إن كان بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين وإلا فإن الله غني عن العالمين"انتهى.
ومن العجيب أن "لا حول ولا قوة إلا بالله" لم تُذكر في القرآن قط بهذا اللفظ، وعندما تلمست الحكمة في ذلك قلت: لعل الله عز وجل لم يأت بهذا اللفظ الجامع لكل أنواع القوة والمقدرة على تغيير الأحوال.. لأنه جل في علاه لعله أراد أن يبين هذا المعنى في كل قضية من قضايا القرآن تفصيلاً.. ليجعلك تهتف من أعماق قلبك عند كل آية قائلاً: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا شك أن هذا أقوى وأعمق في التأثير من مجرد ذكر الجملة بالتصريح، لا سيما أن المعنى من الوضوح بحيث لا يحتاج سياق الكلام في القرآن أن يُجمله في هذه الجملة، لأن المراد من ذكره قد تحقق بالفعل ولكن بأسلوب رباني أعمق وأرسخ في النفوس.
وإذا أخذنا مثالاً لذلك رحلة الإنسان في عالم الوجود.. نجد أن المتتبع لها من بدايتها حتى مستَقَرَّها لا يكاد ينتقل من مشهد إلى آخر حتى يهتف من أعماقه قائلاً: لا حول ولا قوة إلا بالله.(1/49)
ففي عالم الغيب تبدأ الرحلة، حين يقضي الله خلق ذلك الإنسان، حتى إذا جاء موعد ظهوره إلى عالم الشهادة قال الله له:كن.. ففي تلك اللحظة تلتقي النطفة بالنطفة معلنة بداية خلق جديد، ثم ينتقل هذا الخلق من طَور إلى آخر بتقدير الله ?يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث?(الزمر:6).. حتى تكتمل الصورة النهائية كما يشاء الله عز وجل ?هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء?(ءال عمران:6).. فإذا جاءت ساعة الولادة أذن الله له بالخروج من الظلمات إلى النور ليبدأ الامتحان?والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً?(النحل:78)، ولكنه لا يملك شيئاً من أدوات الامتحان.. عندئذٍ يمن الله عليه بأدوات الامتحان، فيعطيه أدوات العلم والفهم ?وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون?(النحل:78) فهو يتعلم بسمعه وبصره.. ويفهم ويعي بقلبه110 .
ومع زاد روحه من العلم والفهم.. أعطاه الله زاد جسده من الطعام والشراب ?يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم.. هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض؟ لا إله إلا هو فأنَّى تُؤفَكون؟!?(فاطر:3).
ثم بعد أن يعيش فترة من حياته يتعلم فيها أمور دنياه.. يرسل الله إليه مَن يُعَلمه دين ربه.. ويخبره أن هناك طريقين: طريق الخير والفلاح، وطريق الشر والضلال، ويعطيه-سبحانه- القدرة والإرادة على الاختيار، فإذا اختار طريق الخير فلم يخرج عن مشيئة الله لأنه هو الذي أعطاه هذه القدرة.. وإن كان سيُجازى بهذا الاختيار جناتٍ تجري من تحتها الأنهار.. لأنه هو الذي اختار.
أما إذا اختار طريق الضلال فلم يخرج أيضاً عن مشيئة الله لأنه هو الذي أعطاه هذه القدرة.. وإن كان سيُجازى بهذا الاختيار سوء الحساب وعذاب النار.. لأنه هو الذي اختار.
قال تعالى:?ونفسٍ وما سوَّاها? فألهمها فجورها وتقواها? قد أفلح من زكَّاها? وقد خاب من دسَّاها?(الشمس:7-10)(1/50)
فمن اختار طريق الهدى فإن الله عز وجل يُعينه ويثبته على الطريق ?والذين اهتدَوا زادهم هدىً وءاتاهم تقواهم?(محمد:17).. ويجعل له إخواناً على الطريق يعين بعضهم بعضاً ويحب بعضهم بعضاً ?وألَّف بين قلوبهم.. لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم ولكن الله ألَّف بينهم.. إنه عزيز حكيم?(الأنفال:63)..
فإذا أحس العبد بنعمة الهداية وذاق حلاوة الإيمان.. سعى لهداية الناس إلى ما هداه الله إليه.. فيتعلم فنون الدعوة وأصولها وقواعدها.. ثم يدعو الناس.. فمن استجاب له فبإذن الله ?إنك لا تهدي من أحببت ولكنَّ الله يهدي من يشاء?(القصص:56).. ومن صد عنه فقد أراح الله عباده من شر وجوده بينهم لأنه ليس أهلاً لذلك ?سأصرف عن ءاياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً، ذلك بأنهم كذَّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين?(الأعراف:126).(1/51)
فإن لم يكتف هذا الفاجر بالإعراض عن دين الله.. وشرع -هو وأمثاله- في حرب المؤمنين.. جاء النداء مدوياً يهز الأعماق.. مُطَمئِناً للمؤمنين مُحَذِّراً للكافرين والظالمين?إن الله يدافع عن الذين ءامنوا?(الحج:38).. فالحرب معه.. وما هؤلاء المؤمنين إلا جنوده.. لا يستعملهم لحاجته إليهم-سبحانه- إنما يستعملهم ليعطيهم على أعمالهم أجوراً ما كانوا ليحصلوا عليها بغير هذا العمل.. وهذه حقيقة تقررها جميع الآيات التي تتحدث عن الجهاد، فإذا تحدثنا عن الأسباب المادية للنصر.. نجد أن الله عز وجل هو الذي يسخرها للمسلمين.. أو يغنيهم عنها بنزول الملائكة، فإذا نظرت إلى الأسباب النفسية.. تجد أن الله ينزل السكينة في قلوب المؤمنين ويرزقهم الأمان والراحة النفسية ?إذ يُغَشِّيكم النعاس أمنة منه?(الأنفال:11) ويسخر لهم جنوده من ريح ومطر وملائكة.. كل ذلك ليُشعرهم أنه معهم ?وما جعله الله إلا بُشرى ولتطمئن به قلوبكم?(الأنفال:10).
فإذا التقى الجمعان كان فريق المؤمنين مطمئناً واثقاً.. وفريق المشركين خائفاً مرعوباً ?وقذف في قلوبهم الرعب?(الأحزاب:26).. فريق المؤمنين خطته محكمة فهي إلهام من الله.. وفريق المشركين خطته واهنة ضعيفة ساذجة ?ذلكم وأن الله موهِنُ كيد الكافرين?(الأنفال:18).. فإذا بدأ القتال.. صار المؤمنون يضربون.. والله يقتل ?فلم تقتلوهم ولكنَّ الله قتلهم?(الأنفال:17) .. وصار المشركون يضربون.. والله يصطفي من المؤمنين شهداء ?وليعلم الله الذين ءامنوا ويتخذ منكم شهداء?(ءال عمران:140).. ثم يحدد الله تعالى نهاية المعركة نصراً للمؤمنين.. إما نصر في معركة الإيمان مع نيل الشهادة، وإما نصر في معركة التمكين لتطهير الأرض من كل رجس، حتى تكون كلمة الذين كفروا السفلى.. وكلمة الله هي العليا..?وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم?(الأنفال:10).(1/52)
وبعد أن يُعز الله المؤمنين بإيمانهم، ويُذل المشركين بشركهم، بعد ذلك تأتي النهاية..نهاية الامتحان.. إما بالموت ?وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجَّلاً?(ءال عمران:145).. وما كانت الساعة لتقوم إلا حين يأذن الله ?يسألونك عن الساعة أيان مُرساها قل: إنما علمها عند ربي لا يُجَليها لوقتها إلا هو?(الأعراف:187).. وعندئذٍ تعلم كل نفس ما كسبت، ويظهر لكل مغرور متكبر كان يجحد أو يغفل عن قوة الله أنه لا حول ولا قوة إلا بالله.. ولكن بعد فوات الأوان ?ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون?(السجدة:12).. وعندئذ يتذكر المؤمنون أنه لا حول ولا قوة إلا بالله.. الذي خلقهم وصورهم ورزقهم وعلَّمهم وهداهم وثبتهم وأيدهم بنصره وتوفاهم على الإيمان وأدخلهم الجنة برحمته.. عندئذٍ تهتف قلوبهم قبل ألسنتهم ?الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله?(الأعراف:43).. وبعد أن يصير كلٌ إلى مصيره.. تبقى الحقيقة الكبرى.. أنه "لا حول ولا قوة إلا بالله"..?وترى الملائكة حافِّين من حول العرش يُسَبِّحون بحمد ربهم.. وقُضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين?(الزمر:75).
9- مع المتوكلين في ظلال القرآن الكريم
إن الله تعالى حين أورد قصص السابقين في كتابه الكريم واهتم بها اهتماماً كبيراً..لم يفعل ذلك ليسامرنا أو يسلي أوقاتنا.. وإنما ليعلمنا ويعطينا القدوة والمثل والعبرة.. قال تعالى:?لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.. ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يوقنون?(يوسف:111).
وحينما نستعرض قصص المتوكلين على الله والمتوجهين إليه في كل أمر.. من الأنبياء والصالحين.. حينما نعيش مع هؤلاء في لحظات تعلقهم بالله وتوكلهم عليه.. عندها نستشعر حقيقة الإيمان بالله عز وجل.(1/53)
فهذا نبي الله نوح - عليه السلام- يقف متحدياً لقوى الشر في الأرض.. لا يضيره شيء ما دام متوكلاً على ربه..?يا قوم إن كان كبُر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت.. فأجمعوا أمركم وشركاءكم.. ثم لا يكن أمركم عليكم غُمَّة.. ثم اقضوا إليَّ ولا تُنظِرون?(يونس:71)، وحينما يُعرِض قومه ويكذبون.. ويزيدون فساداً على فساد.. وإفساداً في الأرض على إفساد.. لا يستغرق الأمر منه أكثر من أن يرفع يديه إلى السماء ويدعو ربه ?أني مغلوب فانتصِر?(القمر:10).. فتنتهي بتلك الدعوة قصة الكفر على مدى مئات السنين.. وتكون النهاية بإهلاك الظالمين وإنجاء المؤمنين المتوكلين ?وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي .. وغيض الماء.. وقُضي الأمر.. واستوت على الجودي.. وقيل بُعداً للقوم الظالمين?(هود:44).
وهذا نبي الله هود- عليه السلام- بعد أن يبلغ قومه رسالة ربه فيكذبوه ويتهموه بالجنون.. وأن ما أصابه إنما هو من فعل آلهتهم المزعومة ?إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء? يقف معلناً أن الأمر كله لله وأن آلهتهم أعجز من أن تؤذي نفسها..وإن كان لآلهتهم -حقاً- حول أو قوة فهو على استعداد للتحدي?قال إني أُشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون? من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تُنظِرون?(هود:54-55)..لماذا؟! هل كانت لهود عصبة تحميه؟! أو قوة يدفع بها كيد قومه جميعاً؟! لا.. ولكن كان معه من هو فوق ذلك-سبحانه وتعالى- ولهذا بيَّن سبب جرأته عليهم وتحديه لهم قائلاً: ?إني توكلت على الله ربي وربكم..ما من دابة إلا هو ءاخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم?(هود:56) وما دام قد توكل على الله فإن الله لا يضيعه ?ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ?(هود:58)(1/54)
وهذا نبي الله إبراهيم- عليه السلام- يعلن أمام قومه أن الله عز وجل وحده هو الذي يملك من الإنسان ما لا يملك الإنسان من نفسه، فيقول- عليه السلام- متحدثاً عن ربه:?الذي خلقني..فهو يهدينِ? والذي هو يطعمني.. ويسقينِ? وإذا مرضتُ فهو يشفين? والذي يميتني.. ثم يحيينِ?(الشعراء:79).. فإذا كان هذا هو ربه فكيف يعبد غيره وكيف يتوكل على سواه؟!
ثم إن هذا لم يكن مجرد كلام يجادل به قومه.. ولكنه كان شعوراً يملأ عليه قلبه ونفسه.. ويتملك عليه كل كيانه.. والدليل على ذلك أنه لما أُلقي به في النار العظيمة الرهيبة التي يخافها الناس من مجرد رؤيتها فكيف بمن ألقي فيها.. وهو في طريقه إليها بعد أن قذفوه بالمنجنيق.. لم ينطق إلا بكلمة واحدة:"حسبي الله..ونعم الوكيل"111.. فكانت تعبيراً عن تفويضه الكامل إلى ربه..وكانت النتيجة نجاته بكلمة واحدة أيضاً..ولكنها من الوكيل سبحانه وتعالى:?يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم?(الأنبياء:69).
وهذا حفيده يعقوب- عليه السلام- يفقد أحب أولاده إليه ولا يعرف إليه طريقاً، بل لا يعلم إن كان حياً أم ميتاً.. فلا يزيد على قوله:?فصبر جميل..والله المستعان?(يوسف:18).. كانت حقيقة التوكل تملأ عليه كيانه.. فلم ييأس أبداً من رحمة الله.. حتى لما فقد ابنه الثاني (أخا يوسف) لم ينقطع أمله في الله.. بل على العكس زاد أمله في رحمة الله وقال:?عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً?(يوسف:83).. وهذا الأمر لا يتأتى إلا لمن عرف حقيقة التوكل على الله.(1/55)
وكذلك يبرز فهمه العميق- عليه السلام - لهذه الحقيقة حين قال لبنيه:?يا بَنِيَّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة.. وما أُغني عنكم من الله من شيء.. إنِ الحُكم إلا لله.. عليه توكلت.. وعليه فليتوكل المتوكلون?(يوسف:67)..فمع أخذه بالأسباب في دفع ما يخشاه عليهم-أياً كان- إلا أنه يعلم أن النفع والضُّر بيد الله وحده..وأنه لا يغني عنهم من الله شيئاً.. فإن أراد الله نجاتهم نجوا.. وإن أراد أن يقع لهم ما يخشاه عليهم أبوهم فلا راد لقضائه.. لأن الحكم في هذه الأقدار وتصريفها لله وحده.. وهذا يستوجب على كل مؤمن أن يسلِّم أمره لله ويتوكل عليه.
وفي نهاية القصة نجد أن الله عز وجل لم يخيب أمله في شيء مما أراد.. فردَّ الله عليه بصره وولديه، وأسكنه وذريته مصر العامرة، بل وجعل ولده عزيزاً ممَكناً يتبوأ منها حيث يشاء.. وهذا هو حال كل من توكل على الله.ز فإن الله عند ظن عبده به..?ومن يتوكل على الله فهو حسبه?(الطلاق:3).
وإذا كان هذا حال الأب.. فلا عجب أن يكون هذا حال الابن.. فهذا يوسف عليه السلام.. يلجأ إلى الله في أحرج المواقف حيث لا ملجأ من الله إلا إليه.. حينما اجتمعت عليه نسوة المدينة مع امرأة العزيز.. كل منهن تراوده عن نفسه.. وهُنّ من هُنّ في الجمال والغنى والمناصب.. ويجد الأبواب كلها موصدة إلا باب واحد..باب السماء..فيتوجه إلى ربه صادقاً متذللاً:?وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين?(يوسف:33).. فهو اعتراف بالضعف مع طلب المعونة العاجلة ممن يملكها.. فكان الجواب على وجه السرعة:?فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم?(يوسف:34).(1/56)
ولما بلغ يوسف-عليه السلام- هذا القدر من التوكل على ربه.. شاء الله عز وجل أن يجعل توكله في كل أموره على الله وحده وأن يعَلِّمه ألا يسأل الناس شيئاً.. ولذلك لما قال للفتى الذي ظن أنه ناج:?اذكرني عند ربك?(يوسف:42) أي اذكر حالي ووضعي عند سيدك وحاكمك..شاء الله عز وجل أن يعلمه ألا يلتجئ إلا إليه.. فكانت النتيجة ?فلبث في السجن بضع سنين?..حتى يأتي الفرج من الله وحده دون تدخل من أحد من العباد.. فغيَّر حاله من سجين متهم إلى عزيز مُمَكن.. وكل ذلك بماذا؟! برؤيا منام أراها الله للملك..فإذا أراد الله فعل شيء فما أيسره..ولكن المهم أن يشاء..فإذا شاء كانت مشيئته فوق كل شيء ?والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!?(يوسف:21).
ولذا فقد رد يوسف كل ما حدث له ولأبيه وإخوته إلى الله سبحانه.. فقال بعد أن استقر له الأمر:?يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً، وقد أحسن بي.. إذ أخرجني من السجن.. وجاء بكم من البدو.. من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي.. إن ربي لطيف لما يشاء..إنه هو العليم الحكيم? رب قد ءاتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث?(يوسف:100-101).(1/57)
ثم هذا نبي الله موسى- عليه السلام- يبلغه تهديد فرعون له بالقتل حين قال:?ذروني أقتل موسى وليدع ربه?(غافر:26).. وهو يعلم من هو فرعون.. ذلك الطاغية الجبار الذي لا يتورع عن فعل أي شيء.. ولكن موسى يعلم أن معه من هو أقوى من ألف فرعون.. فيقول بكل ثقة واطمئنان:?إني عُذت112 بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب?(غافر:27).. ولا عجب أن تكون هذه هي ثقته بالله.. بعد أن رأى تأييد الله له إذ أنجاه الله من فرعون وهو طفل حين ألقته أمه في اليم بوحي من الله، وجعل فرعون يربيه في بيته ويغذيه بماله، ثم أخرجه من مصر سالماً بعد أن قتل المصري وتآمر عليه المصريون، ثم هداه الله إلى طريق مديَن وأوصله إليها سالماً، وهناك ساق الله إليه الرزق حين افتقر إليه ?فقال: رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير?(القصص:24)..فجاءته الفتاة بنت الرجل الصالح تدعوه إلى مقابلة أبيها.. وعند العبد الصالح رُزق موسى الأمان بعد أن علم أنه نجا من القوم الظالمين ?فلما جاءه وقص عليه القصص قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين?(القصص:25)، ورزق معه الزواج من بنت الرجل الصالح..بعد أن كان طريداً وحيداً خائفاً.
ثم يضرب لنا أروع الأمثلة في الثقة بالله واليقين في نصره.. عندما طاردهم فرعون وجنوده.. ولم يجدوا إلا البحر أمامهم والجيش العرمرم خلفهم..فأيقن بنو إسرائيل بالهلاك ?فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى:إنا لمُدركون? لا محالة..فأين سنذهب من هذا الجيش.. وليس أمامنا إلا البحر ونحن لا نعرف السباحة؟!(1/58)
إن كل أسباب الأرض وقوانينها تقول إنهم فعلاً هالكون لا محالة.. إما غرقاً وإما بسيوف الفراعنة، ولكن قوانين الأرض من صنع الله.. ومن كان الله معه لا تهمه قوانين الأرض ولا أعراف البشر ?قال: كلا..إن معي ربي..سيهدين?(الشعراء:62).. ولا ينتهي من كلامه حتى تأتيه النجدة الإلهية على وجه السرعة:?فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فِرق كالطود العظيم?(الشعراء:63) وتتبدل قوانين الأرض من أجل عبد متوكل على الله.. وتتغير خواص الماء من أجل الكليم.. كما تغيرت من قبل خواص النار من أجل الخليل.
وهذا إمام المتوكلين وسيد المستعينين بالله رب العالمين..حين جاءه من يهدده ويخوفه من أن قريشاً قد جمعت همتها ورجعت لتحاربه بعد أُحد.. وأنهم جاءوا ليقضوا عليه وعلى أتباعه.. فما زاد على قوله:?حسبنا الله.. ونعم الوكيل?(ال عمران:173).. فيأتيه الجواب على وجه السرعة:?فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء? في أمور دنياهم ?واتبعوا رضوان الله? في أمور دينهم ?والله ذو فضل عظيم?(ءال عمران:174).
وعندما هم بالهجرة من مكة إلى المدينة.. وضع خطته وأحكمها.. وأحاطها بسرية تامة.. يصعب معها أن يعرف المشركون مكانه..ولكنه مع ذلك كان يعلم- صلى الله عليه وسلم- أن هذه الأسباب لا تغني عنه من الله شيئاً.. وهذا ما حدث بالفعل.. فإن المشركين جاءوا إلى الغار ووقفوا على بابه..ونفدت كل أسباب الأرض..ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتغير من ثباته شيء.. فهو لا يعتمد على الأسباب وإنما يعتمد على رب الأسباب.. ولذلك لما قال له صاحبه- رضي الله عنه-:"يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدمه لأبصرنا" رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم في لهجة الواثق بربه:"ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!"113 ?لا تحزن إن الله معنا?(التوبة:40).(1/59)
وعندما كان نائماً تحت شجرة-في غزوة ذات الرقاع-وكان سيفه معلقاً على غصن شجرة، فجاء رجل من المشركين وأخذ السيف وقال: يا محمد من يمنعك مني؟! فقال (بكل ثقة ويقين): "الله"، فسقط السيف من يد الرجل فأخذه صلى الله عليه وسلم وقال له:"من يمنعك مني"؟! فقال: كن خير آخذ (استعطافاً واسترحاماً)114
وكان صلى الله عليه وسلم يفوض إلى الله كل أمر من أموره، فإذا خرج من بيته في أول اليوم قال:"بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله"115، وإذا أوى إلى فراشه بعد انتهاء اليوم قل:"اللهم أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك..."116 ، وما بين اليقظة والنوم كان مثالاً ونموذجاً للتوكل على الله.. فكان يقول لأصحابه:"لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً"117.
ثم يجمع الله-تبارك وتعالى- لنا هذه الملحمة العظيمة من توكل أنبيائه الكرام عليه فيقول سبحانه:?قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده..وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله.. وعلى الله فليتوكل المؤمنون? وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا..ولنصبرنَّ على ما ءاذيتمونا.. وعلى الله فليتوكل المتوكلون?(إبراهيم:12).
فسبحان من جعل لنا هذا القصص نوراً ونبراساً يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم..فعلينا جميعاً أن نقتفي أثر هذا الركب الكريم ونهتدي بخطاه ?أولئك الذين هدى اللهُ فبهداهم اقتده..قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين?(الأنعام:90).(1/60)
فإذا انتقلنا من قصص الأنبياء إلى قصص الصالحين..تطالعنا هذه القصة العجيبة التي رواها لنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل، سال بعض بني إسرائيل أن يُسلفه ألف دينار، فقال:ائتني بالشهداء أشهدهم فقال:كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل قال:كفى بالله كفيلاً، قال:صدقت. فدفعها إليه على أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته..ثم التمس مركباً يركبها يقدُم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه،ثم زجج118 موضعها، ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلاناً ألف دينار،فسألني كفيلاً فقلت:كفى بالله كفيلاً فرضي بك، وسألني شهيداً فقلت:كفى بالله شهيداً فرضي بذلك، وإني جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها. فرمى بها في البحر حتى ولجت119 فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فإخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة"120 ?فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين?(يوسف:64).(1/61)
ومن قصص الصالحين أيضاً ما روي عن ابن عباد الصيرفي أنه قال:"بينما أنا نائم إذ قيل لي في المنام: يا ابن عباد قم فأغث الملهوف، فقلت:وأين هو؟ فقيل لي:اركب دابتك فهو حيثما وقفت، قال: فانتبهت من نومي وركبت دابتي، وجعلت أتخلل بها أزقة بغداد حتى انتهيت إلى مسجد، فوقفت الدابة ونزلت عنها ودخلت المسجد، فإذا برجل مستقبل القبلة، فسلمت عليه وقلت: ما قضيتك؟ فقال: إني رجل ذو عيال ولم يكن عندهم الليلة شيء، فجلست ها هنا وطلبت من الله الفرج ، قال: فأعطيته مائة دينار وقلت له: أنا بن عباد الصيرفي، فإذا احتجت إلى شيء فائتني، فقال: سبحان الله!! أترك الذي أقامك من فراشك وأتى بك إليَّ في ظلمة الليل وأذهب إلى غيره؟!"121 .
وكذلك ما فعلته البنت الصالحة-ابنة حاتم الأصم- حين أراد أبوها أن يذهب إلى الحج فقال لأولاده:إني أريد الحج، فبكوا وقالوا:إلى من تكلنا؟! فقالت البنت المتوكلة: دعوه يذهب..فليس برازق، فخرج..فباتوا جياعاً، فجعلوا يوبخونها فقالت: اللهم لا تخجلني بينهم، فمر بهم أمير البلد فقال لبعض أصحابه: اطلب لي ماء، فناوله أهل حاتم كوزاً جديداً وماءً بارداً فشرب فقال: دار من هذه؟ فقالوا: دار حاتم الأصم، فرمى في الإناء منطقة من ذهب وقال: من أحبني وافقني، فرمى العسكر ما معهم من المال في هذا الإناء.. فجعلت البنت تبكي، فقالت أمها:ما يبكيكِ وقد وسع الله علينا؟! فقالت: لأن مخلوقاً نظر إلينا فاغتنينا.. فكيف لو نظر الخالق إلينا!122
فيا ليت أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا يعتبرن من قصة هذه الفتاة الصالحة التي اعتمدت على خالقها فلم يخذلها.. ويا ليتهن يقتدين بها فلا تعتمد قلوبهن إلا على الله..فيستقر في قلوبهن إلا رازق إلا الله..فيأمرن أزواجهن بالكسب من الحلال.. ويستقر في قلوبهن ألا نافع ولا ضار إلا الله فلا يُطعن أحداً في معصية الله.. ولا يُرضين أحداً بسخط الله.. ولا يخفن في الله لومة لائم.(1/62)
وآخر قصة نسوقها في هذا الباب قصة ثلاثة من طلاب العلم في عهد ليس منا بعيد..يقول الراوي:"حدث أن حضر بعض طلاب العلم إلى القاهرة ليتلقوا العلم في الأزهر الشريف، وكان ثلاثة حضروا من بلاد المغرب أيام أحمد بن طولون، ونزلوا في مسجده،ولم يكونوا يعرفون أحداً في مصر، وقد حدث أن تسلل لص إلى حيث يقيم هؤلاء الغرباء فسرق ما معهم من مال، وأصبح ثلاثتهم في أزمة كبيرة (فهم لا يستطيعون العمل لانشغالهم بطلب العلم الذي جاءوا من أجله إلى مصر).. وجلسوا يتشاورون ماذا يفعلون، واتفقوا على أن يتولى كل واحد منهم سؤال الناس في يومه المخصص، واستطاع الأول أن يسأل الناس ليحصل منهم على قوت يومهم، فلما كان اليوم الثاني قال صاحب النوبة:أما أنا..فوالله لا أسأل إلا الله، وجلس يصلي (واستمر في صلاته من الصبح إلى الظهيرة)..وكان أحمد بن طولون نائماً في وقت الظهيرة، فرأى حلماً مفزعاً..رأى كأن فارساً يطعنه ويقول له: أتنام قرير العين والمحمديون في مسجدك يتضورون جوعاً؟!..فتعوذ الرجل من الشيطان ونام ثانية، ولكن أتاه الفارس وطعنه طعنة أقوى وهو يقول نفس الكلام الذي قاله أولاً، فهب ابن طولون وقال:إنه لابد أن يكون في الأمر شيء..وأرسل رسولاً ليستطلع الأمر في مسجده، وهناك رأى ثلاثة غرباء..فسألهم عن قصتهم، ورجع إلى ابن طولون يقص عليه قصهم، فأرسل ابن طولون على الفور ثلاث صرر في كل منها ألف درهم، وأرسل يقول لهم: إنكم تنزلون في مسجدي وتحت رعايتي ما دمتم في مصر"123.
فالأول سأل الناس فكفوه قوت يوم..أما الثاني فقد سأل الله فكفاهم مئونة سنين.. ?ومن يتوكل على الله فهو حسبه?(الطلاق:3)
10- الاستخارة
من عظمة هذا الدين أنه لا يكتفي ببث المعاني النظرية في نفوس أتباعه..بل يُلحقها دائماً بالتطبيقات العملية التي ترسخ هذه المعاني في القلوب وتجعلها واقعاً في الحياة.(1/63)
والاستخارة هي أهم التطبيقات العملية للتوكل..فهي من الأمور الشرعية التي تُخرج التوكل من حدود المعلومات النظرية إلى آفاق التفاعل الحركي مع الأحداث والمواقف.
و"الاستخارة" في اللغة: هي طلب الخير في الشيء124.
وفي الشرع: هي صلاة مندوبة125 يصليها المسلم طلباً للخير في أمر يهم بفعله (وليست كما يعتقد البعض أنها اختيار بين أمرين يحتار الإنسان بينهما).
وقد ثبت حديث الاستخارة في صحيح البخاري126 عن جابر بن عبدالله-رضي الله عنه- قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن [يقول]: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول:
اللهم إني أستخيرك بعلمك،وأستَقدِرُك بقدرتك،وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم،وأنت علام الغيوب..اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري-أو قال:في عاجل أمري وآجله- فاقدره لي [ويسره لي ثم بارك لي فيه]، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري-أو قال:في عاجل أمري وآجله-فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضِّني[أرضني]127 به، ويسمِّي حاجته"128
س: كيف تُؤَدَّى صلاة الاستخارة؟
"تكون الصلاة ركعتين من النافلة، والظاهر أنها تحصل بركعتين من السنن الرواتب وبتحية المسجد وغيرها من النوافل، ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة ?قل يا أيها الكافرون? وفي الثانية ?قل هو الله أحد?129 ولو تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء، ويستحب افتتاح الدعاء المذكور وختمه بالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم"130
س: في أي شيء تكون الاستخارة؟(1/64)
"الاستخارة مستحبة في جميع الأمور"131 ، ويدل على ذلك نص الحديث.. في قول جابر- رضي الله عنه-:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن"، وإن هذا لأبلغ رد على الذين يحصرون الاستخارة في الأمور الخطيرة أو المهمة جداً كالزواج والسفر وغيرها..ويحتقرون بقية الأمور..وليس هذا من الفطنة "فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم"132.
واعلم أن المقصود من الاستخارة ليس هو عِظَم الأمر أو حقارته..وإنما المقصود هو التفويض لله والتوكل عليه في كل الأمور،وقد ورد في الأثر أن الصحابة كانوا يستخيرون حتى على إصلاح نعالهم.
س:كيف تظهر نتيجة الاستخارة؟
وهذا السؤال يأتي نتيجة الاعتقاد الخطأ عند كثير من الناس .. وهو أن الاستخارة لابد أن تظهر لها نتيجة عن طريق رؤيا أو انشراح الصدر لأمر معين أو ما شابه ذلك.
والصواب: أن الإنسان المسلم يصلي الاستخارة ثم يمضي بعد ذلك فيما نوى فعله..فإن يسَّره الله له علم أنه كان خيراً..وإن يسَّر الله له غيره علم أنه كان شراً وأن الله قد صرفه عنه ويسر له الخير، نعم ..قد يرى رؤيا تشجعه أو تثبطه تجاه العمل وقد يشعر بانشراح أو ضيق في الصدر تجاه أمر ما..ويكون هذا سبباً يسوقه الله إليه لإقدامه على العمل أو انصرافه عنه، ولكن تبقى العبرة بالنتيجة النهائية:هل تم الأمر أم لم يتم، فإذا تم الأمر-مع صدق الاستخارة-فإن هذا هو الخير لا محالة، وإن لم يتم فليعلم أنه شر صرفه الله عنه.. وإن لم ير رؤيا أو يجد علامة، فمعظم الناس لا يجدون هذه الأشياء.. فهل تكون استخارتهم باطلة!!!
ويدل على ما قلت بعض روايات الحديث،والتي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر إحداها:"ثم يعزم"133 وفي أول رواية أخرى:"إذا أراد أحدكم أمراً فليقل:...."134.. إذاً فترتيب الأحداث:إرادة ثم استخارة ثم عزيمة.135(1/65)
هذا إذا كان هناك أمر نويت الإقدام عليه فتطلب من الله فيه الخير وهذا هو الأصل في الاستخارة، أما إذا كنت حائراً بين أمرين أو أكثر.. فأرى أن تصلي ركعتين لكل منها أو تختار أقربها إلى قلبك وتستخير عليه.
ولكن أحب أن أنوه هنا إلى أهم شرط لصحة الاستخارة وهو تفريغ القلب من الهوى136 والتفويض الكامل إلى الله.. وحتى لو كان يحب ذلك الأمر الذي يستخير فيه.. فعليه أن يجعل اختيار الله أحب إليه من اختياره لنفسه إن حدث بينهما تعارض.
وأختم هذا المبحث بقول جليل لإمام جليل هو الإمام ابن القيم- رحمة الله عليه- إذ يقول في سؤال الله شيئاً معيناً من متاع الدنيا:
"فاحذر كل الحذر أن تسأله شيئاً معيناً..خيرته وعاقبته مغيبة عنك،وإذا لم تجد من سؤاله بُداً..فعلقه على شرط علمه تعالى فيه الخيرة..وقدم بين يدي سؤالك الاستخارة..ولا تكن استخارة باللسان بلا معرفة..بل استخارة من لا علم له بمصالحه..ولا قدرة له عليها..ولا اهتداء له إلى تفاصيلها..ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً..بل إن وُكِل إلى نفسه هلك كل الهلاك وانفرط عليه أمره".137
الخلاصة
ونخلص من موضوع الرسالة إلى ما يلي:
أن يعلم العبد أنه خلق ضعيف في كون الله، وأن هذا الكون بملكه وملكوته في قبضة الله عز وجل.. يحيط به علماً وقدرة وتدبيراً، فيدفعه ذلك إلى الثقة في قدرة الله، وانقطاع الأمل مما سواه.
أن يعلم أن التوكل نصف الدين،وأنه لا يتم إلا بالثقة في الله والاعتماد عليه.
أن يعلم أن التفويض إلى الله أساس التوكل، فهو عمل من أعمال القلب لا من أعمال الجوارح.
أن يعلم أن منزلة التوكل من التوحيد كمنزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا توكل له138
أن يعيش في رحاب أسماء الله الحسنى..فهماً وتدبراً وتفاعلاً..حتى تحصل له معرفة الله عز وجل..فهذه المعرفة هي أولى الدرجات في مقام التوكل.(1/66)
أن يعلم أن السحر والحسد من جنود الله عز وجل..لا يستطيع أحد أن يضر بهما أحداً إلا بإذن الله..فيبتعد بذلك عن التمائم والكهانة وما شابه ذلك من صور الشرك التي تُنافي التوكل.
أن يجمع بين العبادة والاستعانة بالله عليها..فيجعل العبادة أكبر همه..لا حظوظ النفس وشهواتها.
أن يعلم أن التوكل أمر واجب على كل مسلم..فهو من أصول الإيمان التي ينبغي أن تترسخ في قلبه..وتملك عليه كيانه في كل أموره..لا سيما ما يتعلق بأمور الدعوة ونشر الدين.
أن يعلم أن الله-عز وجل- وَعَد المتوكلين عظيم الجزاء في الدنيا والآخرة،وأنه يمنحهم فوق ذلك حبه.
10- أن يعلم أن الأسباب من قدر الله، وأن عليه أن يتعلق بها بجوارحه لا بقلبه.
11- أن يرضى بقضاء الله ويفرح به لأن فيه الخير له، ولأن الله يحب إذا قضى قضاء أن يُرضى به،فإن لم يستطع الرضا فعليه بالصبر..فلا يجزع ولا يسخط فيخرج من دائرة المتوكلين.
12- أن يعرف نعمة الله عليه..ويشكرها بالقلب واللسان وعمل الجوارح.
13- أن يكون لسانه معبراً عما في قلبه من توكل واعتراف بفضل الله عليه،وتختفي من قاموس كلماته بعض الكلمات مثل"الحظ" و"النحس" و"الصدفة" بمعانيها المتداولة بين العامة..ويستبدلها بكلمة "القدَر" حتى يستشعر هذا المعنى بقلبه.
14- أن يجعل الدعاء ديدنه،مع حضور القلب،والتضرع،والثقة في الإجابة مع حسن الطلب.
15- أن يكثر من قول"لا حول ولا قوة إلا بالله" ويتفكر في معناها..فإنها تذكِرة للغافل..وإعانة للذاكر.
16- أن يلتمس العبرة والمثل في قصص المتوكلين من الأنبياء والصالحين،ليكونوا له قدوة حسنة،عسى الله أن يجمعه بهم في زمرة المتوكلين يوم القيامة.
17- أن يستخير الله في كل أمر من أموره-ما استطاع- ليكون دائم الاتصال بالله،ولا يحقرنَّ أمراً من الأمور فرُبَّ حقير يترتب عليه الأمر العظيم.(1/67)
18- أن يتواصى بهذه الأمور هو وإخوانه..ليُذَكر بعضهم بعضاً..ويعين بعضهم بعضاً.. عسى أن يكونوا من المفلحين..ولا يكونوا من الخاسرين..مصداقاً لقوله تعالى:?والعصر?إن الإنسان لفي خُسر?إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر?(سورة العصر)
الخاتمة
وأخيراً..فما أيسر الكلام..وما أصعب العمل..ونحن نعيش بين هذا الركام من الأفكار الجاهلية والتصورات المادية..التي تطغى على عقول البشر..فلا تكاد تُسَلِّم بقدرة الله في مُلكه..وبأن الأسباب والمادة والطبيعة لا حول لها ولا قوة إلا بقوة الله..لأنها-أصلاً-خلق من خلق الله.
ولكن اتصال المؤمن بالله..ومداومة تلاوته وتدبره لكتاب الله..وتكلف الاستعانة به واستخارته في كل الأمور..كل ذلك يورث القلب-بإذن الله-حُسن اليقين في الله والاعتماد عليه.
اللهم ارزقنا بفضلك صدق التوجه إليك وحدك..وحسن التوكل عليك وحدك.
اللهم أنت ربي..لا إله إلا أنت..عليك توكلت..وأنت رب العرش العظيم..ما شاء الله كان..وما لم يشأ لم يكن..ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..أعلم أن الله على كل شيء قدير..وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً..اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي..ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها..إن ربي على صراط مستقيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحابته السابقين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين
والحمد لله رب العالمين
ثبت المراجع
اسم الكتاب
اسم المؤلف
دار النشر
1- القرآن الكريم
2- الأحاديث القدسية
دار المنار
3-الأذكار
النووي
المكتبة العلمية-الطبعة الثانية
4- البداية والنهاية
ابن كثير
النور الإسلامية
5- تزكية النفوس
أحمد فريد
دار العقيدة للتراث
6- تهذيب مدارج السالكين
كتبه ابن القيم وهذبه عبد المنعم صالح العلي
المكتبة القيمة
7- جامع العلوم والحكم
ابن رجب الحنبلي
مكتبة الدعوة بالأزهر
8- الجهاد ميادينه وأساليبه
د/محمد نعيم ياسين
مكتبة الزهراء(1/68)
9- ديوان الإمام الشافعي
الإمام الشافعي
دار الكتب العلمية-الطبعة الأولى
10- الرحيق المختوم
المباركفوري
دار الوفاء-الطبعة السابعة
11-الروضة الندية شرح الدرر البهية
صديق بن حسن البخاري
مكتبة دار التراث
12- رياض الصالحين
النووي
دار إحياء التراث العربي
13- طريق الدعوة في ظلال القرآن
أحمد فائز
مؤسسة الرسالة-الطبعة الثالثة عشرة
14- فتح الباري بشرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني
دار الريان للتراث-الطبعة الأولى
15- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد
عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ
دار اليقين
16- الفوائد
ابن القيم
دار الدعوة
17- في رحاب أسماء الله الحسنى
د/محمد عجاج الخطيب
مؤسسة الرسالة
18- في ظلال القرآن
سيد قطب
دار الشروق-الطبعة الرابعة عشرة
19- قصص الأنبياء
ابن كثير(تحقيق د/عبدالحي الفرماوي)
دار الطباعة والنشر الإسلامية
20- لطائف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح
حسن محمد آدم وجمال عزالدين فريد
دار الاعتصام
21- مائة قصة وقصة في أنيس الصالحين وسمير المتقين
محمد أمين الجندي
مكتبة أم القرى- الطبعة الثانية
22- مجموعة الرسائل
حسن البنا
دار الدعوة
23- مختصر تفسير ابن كثير
محمد علي الصابوني
مكتبة الربانيين
24- مختصر منهاج القاصدين
ابن قدامة المقدسي
مكتبة يثرب-الطبعة الأولى
25- المعجم الوسيط
لجنة من مجمع اللغة العربية
دار إحياء التراث العربي
1 - تهذيب مدارج السالكين: ص63 (بتصرف)
2 - حلقة في فلاة: خاتم ملقى في الصحراء، وهذا التشبيه نص عليه رسول الله في حديثه عن أبي ذر الغفاري أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال:"والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة" البداية والنهاية،ج1 ص10
3 - يعزُب: يبعد ويغيب
4 - المعجم الوسيط:ص1054 (بتصرف)
5 - المعجم الوسيط: ص 638(1/69)
6 - المعجم الوسيط:ص 605
7 - تهذيب مدارج السالكين: ص252
8 - كما سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في مبحث "بين التوكل والأسباب".
9 - تهذيب مدارج السالكين: 67-68.
10 - كلف به: أحبه وأولع به (المعجم الوسيط ص795)
11 - مختصر منهاج القاصدين: ص 368 (بتصرف)
12 - انظر في ظلال القرآن: ص 3033-3035 -المجلد الخامس
13 - تكون كفاية الله لعبده على قدر تحقيق العبد لمقتضيات العبودية، فكلما زادت العبودية زادت الكفاية، والعكس صحيح.
والكفاية نوعان:
الأول: كفاية جزئية لكل من توكل على الله في أمر فإن الله يكفيه ذلك الأمر.. كما قال تعالى?ومن يتوكل على الله فهو حسبه?.
والثاني: كفاية كلية لمن حقق العبودية لله فإن الله يكفيه أمره كله.. كما قال تعالى:?أليس الله بكاف عبده?
14 - رواه الطبراني من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم (انظر جامع العلوم والحكم: ص176)
15 - في ظلال القرآن: ص 1822- المجلد الثاني
16 - في ظلال القرآن: ص 3053-3054- المجلد الخامس
17 - شبه التوحيد بالأساس الذي يقوم عليه بناء التوكل
18 - هكذا في المختصر ولكني أرى أن "مقام الموقنين" أصح.. والله أعلم
19 - الكاغد: الكاتب (وهو فارسي معرب).
20 - مختصر منهاج القاصدين: ص 366-367
21 - رواه البخاري
22 - رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (انظر جامع العلوم والحكم ص 172)
23 - رواه البخاري: في كتاب التوحيد- باب ?يريدون أن يبدلوا كلام الله? ج9 ص 145
1- إن كان يقصد بذلك أن يصفها بالقدرة من دون الله-متعمداً- فهو كافر خارج من الملة، أما إذا لم يقصد ذلك فقد أذنب ذنباً شبيهاً بالكفر لكنه ليس كفراً حقيقياً.. والله أعلم
25 - الأحاديث القدسية: ج1 ص 35-38
26 - التمائم: هي كل ما يعلقه الناس للوقاية من السحر أو الحسد، مثل الخرز الأزرق والكف والعين وغيرها مما تعارف عليه الناس على أنه تميمة.(1/70)
27 - رواه الحاكم ورواته ثقات ( انظر فتح المجيد ص115-116)، ومعنى أشرك هنا : أي أذنب ذنباً عظيماً يقترب من إثم الشرك إذا علقها من غير أن يعتقد فيها، أما إذا اعتقد أنها تنفع من دون الله أو ترد من قضاء الله شيئاً فقد أشرك شركاً أكبر يخرجه عن ملة الإسلام إذا أصر عليه.. والله أعلم
28 - رواه أحمد وأبو داود (فتح المجيد ص121)، والمقصود بالرقى: التعاويذ الجاهلية والألفاظ الغريبة التي تذكر عند المريض رجاء شفائه، أما ما كان من القرآن وذكر الله وكل ما ليس فيه شرك فلا شيء فيه وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقصود بالتولة: نوع من السحر يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها.
29 - انظر فتح المجيد ص 123
30 - وليتبع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءة المعوذتين وقول "بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله" إذا أراد أن يحفظ نفسه وأهله وماله من الحسد
31 -رواه أحمد والترمذي (فتح المجيد ص125)
32 - رواه الإمام أحمد (فتح المجيد ص115) ومعناه: دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم على كل من علق تميمة بألا يتم الله له ما يريد والعياذ بالله.
33 - الجهاد ميادينه وأساليبه: ص11
34 - تهذيب مدارج السالكين: ص343
35 - تهذيب مدارج السالكين: ص337
36 - في رحاب أسماء الله الحسنى: ص 88-89
37 - شرح العقيدة الطحاوية: ص 6 (عن كتاب في رحاب أسماء الله الحسنى: ص 89)
38 - في رحاب أسماء الله الحسنى: ص91
39- في رحاب أسماء الله الحسنى: ص 82
40 - في رحاب أسماء الله الحسنى: ص 69-70
41 - أخرجه البخاري ومسلم: انظر صحيح البخاري، ج9، ص208
42 - في رحاب أسماء الله الحسنى: ص 32 (بتصرف)
43 - في رحاب أسماء الله الحسنى: ص 84
44 - في رحاب أسماء الله الحسنى: ص 47 (بتصرف)
45 - أي تذهب أول النهار ضامرة البطون من الجوع، وترجع آخر النهار ممتلئة البطون، والحديث أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن (رياض الصالحين ص42 الحديث رقم 6/79)(1/71)
46 - في رحاب أسماء الله الحسنى: ص 51
47 - سيأتي تفصيله إن شاء الله في مبحث (بين التوكل والأسباب)
48 - في رحاب أسماء الله الحسنى: ص 57
49 - في رحاب أسماء الله الحسنى: ص 86 (بتصرف)
50 - أي لا فرار من الموت إن كان مقدراً لأنه واقع لا محالة، ولا خوف منه إذا لم يقدر لأنه لن يقع إلا بتقدير الله، والأبيات تنسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه
51 رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح بلفظ"أوصيك يا معاذ.. لا تدعن في دبر كل صلاة تقول....." ص.ج 7969
52 المواهب: النعم
53 أي في وقت الشدة والحاجة، ولكن الاستعانة ليست أصلا عندهم بخلاف القسم الرابع
54 وذلك في قوله تعالى:?يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن? الرحمن:29
55 وذلك في قوله سبحانه:?كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً? الإسراء:20
56 وذلك حينما قال:?رب فأنظرني إلى يوم يبعثون? فقال عز وجل:?فإنك من المُنظَرين? الحجر:37
57 أي إذا كان في معصية الله أو كان مباحاً ولكنه يشغله عن طاعة الله، أما إذا كان مباحا ويستمتع به العبد دون أن يشغله عن طاعة الله فقد حصلت له مصلحة التوكل (من الأجر والثواب) دون مصلحة ما توكل فيه إن لم يستعن به على طاعته (انظر:تهذيب مدارج السالكين: ص 337)
58 قاطعاً للعبد عن الرب
59 أحسب أن معظم المتدينين من المسلمين يقعون ضمن هذا القسم
60 الكشف: هو رؤية شيء خفي لا يراه الناس: كالملائكة أو ما شابه ذلك، وقد يعطيه الله لفاسق فتنة له، ولا يدل ذلك أبداً على صلاحه، ولا يدفع ذلك أبداً إلى طاعته في معصية الله إذا ادعى أنه مكشوف عنه الحجاب وأن لأتباعه أن يفعلوا ما يشاءون وسيغفر الله لهم من أجله، وكل ذلك هراء وضلال، وفيه يقول الإمام حسن البنا رحمه الله:"ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية، ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه"(مجموعة الرسائل: ص391)(1/72)
61 مصداقاً لقوله تعالى:?من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نُوَفِّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يُبخسون? أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما يعملون? هود:15-16
62 تهذيب مدارج السالكين: ص 65-67-68 (بتصرف قليل)
63 رواه مسلم وأحمد: ص.ج. 665
64 المقصود: كل من لم يهتدوا إلى هذا الصراط.. وهم كثير
65 رياض الصالحين: باب اليقين والتوكل-الحديث العاشر-ص 43
66 متفق عليه (رياض الصالحين: ص 40)
67 رواه مسلم: انظر الأذكار ص 585
68 رواه ابن السني: انظر الأذكار ص 285
69 نقلاً عن (تزكية النفوس) لأحمد فريد ص:93.
70 رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وحسنه- انظر الروضة الندية: ص 228 من الجزء الثاني.
71 مختصر منهاج القاصدين: ص 369-372(بتصرف).
72 أي إذا لم يدخره ثم سعى في تحصيل مثله بعد فقده فإن ذلك يشغله عن أمور أخرى قد تكون هامة ولا يستطيع إدراكها لأنه مشغول بتحصيل عيشه.
73 رواه الترمذي من حديث أنس وابن خزيمة والطبراني من حديث عمرو بن أمية بسند جيد (مختصر منهاج القاصدين: ص 371)
74 رواه مسلم (الروضة الندية، ج2، ص228)
75 اختلف العلماء في التداوي: فقال أحمد: إنه مباح وتركه أفضل، والمشهور عند الشافعية وجمهور السلف أنه مستحب، أما أبو حنيفة فمذهبه أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب، ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه، وقال شيخ الإسلام : ليس بواجب عند جماهير الأئمة وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد (فتح المجيد: ص 66)
76 أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وصححه (انظر الروضة الندية ج2 ص228)
77 رواه البخاري ومسلم والدارمي وابن حنبل (مختصر منهاج القاصدين: ص 372)
78 أي جلب المنافع أو حفظها أو دفع الضرر أو إزالته
79 جامع العلوم والحكم: ص182-183
80 يمكن أن يشاهدها كلها فهذه هي القمة، أو يشاهد بعضها ويغيب عنه البعض بحسب قربه من الله تعالى(1/73)
8181 والمعنى: لولا أن العبد يستحق ذلك ما أصابه الله به
82 أي أنه يستحق من العقاب أكثر مما حل به ولكن الله برحمته خفف عنه العقوبة
83 لأنه إذا استشعر حكمة الله من المقدور علم أنه نعمة وليس مصيبة فاستوجب ذلك منه الحمد على هذه النعمة
84 الفوائد:ص 31
85 رواه البخاري: انظر رياض الصالحين ص 526 الحديث 7/1875
86 رواه أحمد: انظر جامع العلوم والحكم ص 172
87 رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (الأذكار للنووي ص 358)
88 متفق عليه (الأذكار ص 358)
89 تحتقره وتستهين به
90 ديوان الإمام الشافعي ص 27
91 حديث ضعيف: رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم (ضعيف الجامع رقم 5809)
92 حديث حسن: رواه البخاري في التاريخ، والطبراني عن أبي الدرداء
93 أي لا يقول: اللهم أعطني إن شئت، ولكن إذا كان لا يعلم الخيرة فيما يطلب إذا كان من أمور الدنيا فله أن يقول: اللهم أعطني كذا إن كان خيراً لي.(راجع قول ابن القيم في ختام مبحث الاستخارة من الكتاب)
94 الأذكار للنووي: ص 353-354
95 الأذكار للنووي:ص 354
96 الرحيق المختوم:ص255
97 انظر قصص الأنبياء لابن كثير: ص 341-342
98 عادة
99 من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم (حديث حسن رواه النسائي والحاكم: ص.ج. 582)
100 نفي لكل صفات النقص عن الله تعالى وإثبات كل صفات الكمال له عز وجل
101 شرط لقبول الأعمال
102 أي الشعور بأن المؤمن أعلى بإيمانه وبمنهج ربه من كل من لا يؤمنون بهذا المنهج، قال تعالى:?ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين?(ءال عمران:139)
103 زاد يعينه على السير في طريق الإيمان والدعوة المليء بالمصاعب والعقبات من غير ضعف ولا حزن
104 السبيل إلى السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة
105 إبلهم السائبة في الفناء
106 جامع العلوم والحكم:ص 185
107 نقلاً عن كتاب (طريق الدعوة في ظلال القرآن) ج2 ص 145-149(1/74)
108 عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟" فقلت: بلى يا رسول الله، قال:"لا حول ولا قوة إلا بالله" متفق عليه.
109 بالغ العلو
110 فالعلم غير الفهم كما قال تعالى:?ففهَّمناها سليمان وكلاً ءاتينا حكماً وعلماً?(الأنبياء:79)
111 رواه البخاري (انظر رياض الصالحين للنووي ص 40)
112 احتميت واعتصمت
113 متفق عليه (رياض الصالحين:ص 43)
114 رياض الصالحين ص 41
115 حديث حسن رواه الترمذي وأبوداود وغيرهما بأسانيد صحيحة.
116 متفق عليه: انظر الحديث كاملاُ في رياض الصالحين ص 42
117 رواه الترمذي وقال: حديث حسن.ومعناه: تخرج أول النهار ضامرة البطون من الجوع وترجع آخره ممتلئة البطون من رزق الله.
118 سوى موضع النقر وأصلحه
119 دخلت
120 صحيح البخاري-كتاب البيوع-باب الكفالة،ج3 ص 192-193 (عن كتاب:في رحاب أسماء الله الحسنى: ص 80)
121 مائة قصة وقصة:ص 60
122 المصدر السابق
123 لطائف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح:ج1 ص65
124 يقال: خار له في الأمر: جعل له فيه الخير، ويقال: خار: أعطاه ما هو خير له، واستخاره: طلب منه الخير،يقال:استخِر الله يخِرْ لك، والاستخارة: اسم بمعنى طلب الخير في الشيء (المعجم الوسيط ص264 بتصرف)
125 أي مستحبة:انظر فتح الباري ص 189،مجلد 11 كتاب الدعوات
126 الحديث رقم 6382 مجلد 11 كتاب الدعوات
127 الكلمات بين الأقواس[ ] وردت في رواية النووي للحديث(انظر الأذكار ص 110)
128 ويسمي حاجته أثناء الدعاء بأن يقول:اللهم إن كنت تعلم أن كذا وكذا خير لي .....(فتح الباري-كتاب الدعوات-ص 190)
129 ليس شرطاً
130 الأذكار للنووي: ص111
131 المصدر السابق
132 فتح الباري: كتاب الدعوات- مجلد11 ص 188
133 فتح الباري-كتاب الدعوات-ص 191
134 المصدر السابق(1/75)
135 مراتب ورود الأمر على القلب: الهَمَّة ثم اللمة ثم الخطرة ثم النية ثم الإرادة ثم العزيمة،وتأتي الاستخارة بين الإرادة والعزيمة،وهذا هو الموقع المنطقي لها وهو ما دلت عليه الروايات المذكورة، غير أن بعض العلماء يرى أن قوله"إذا هم" يشير إلى أول ما يرد على القلب، وبعضهم يرى أن المقصود بالهم: العزيمة (فتح الباري ص188)
136136 قد لا يستطيع الإنسان أن يفرغ قلبه تماماً من الهوى..فعلى الأقل يجب أن يكون التفويض في قلبه أقوى من الهوى..والله أعلم
137 تهذيب مدارج السالكين: ص 66
138 أي لا يكتمل الإيمان إذا انعدم التوكل (انظر تهذيب مدارج السالكين: ص 345)
??
??
??
??
4(1/76)