مقدّمة
إنّ أخطر ما يمكن أن يصيب أمّة من الأمم، هو أن تفقد هويّتها الحضاريّة. فالهويّة الحضاريّة هي أثمن ما يمتلكه أيُّ مجتمع من المجتمعات. وقد تصاب المجتمعات بالعديد من أنواع الكوارث الّتي تقضّ مضجعها وتؤرِّق اطمئنانها وتجلب لها المعاناة، إلاّ أنّ المجتمع المدرِك لهويته وشخصيَّتِه الحضاريّة، من شأنه أن يواجه تلك الكوارث الّتي تستفزُّه وتدعوه إلى المواجهة ما دامت الحضارة الّتي ينتمي إليها تملك من المقوِّمات والحلول ما يكفي لمواجهة أعباء الحياة بشتّى أشكالها.
ولكنَّ تلك الأزمات والكوارث، حين تلمّ بمجتمع غافل عن ذاته وهوّيته وشخصيّته ومقوِّمات وجوده، فإنّ من شأنها أن تفتك به الواحدة تلو الأخرى، حتّى ترديه صريعاً،وربّما تودي به إلى الزوال من خارطة الحضارات البشريّة.
لقد ألمّت بالأمّة الإسلاميّة خلال تاريخها المديدِ، العديدُ من النكبات والأزمات، بل مرّت بمراحل من الانحطاط يندى لها الجبين وتدمع عليها العيون. فقد شهدت في بعض مراحل ذلك التاريخ تفكّكاً سياسياً بدأ منذ عهد ضعف الخلفاء العبّاسيين. وسقطت بعض ديارها أمام الغزو الصليبي. بل سقط كثير من تلك الديار أمام غزوات المغول والتتار. وعانى المجتمع الإسلاميّ في بعض حقبات التاريخ من بعض الأزمات الاقتصاديّة وغيرها من الأزمات. إلاّ أنّ تلك الأمّة كانت بعد كلّ كبوة، تنتفض لتواجه ما ألمّ بها من سوء ولتعالج ما أرّقها من المشاكل والأزمات، بناء على عقيدتها الراسخة، ومن خلال منظومتها الثقافيّة وشخصيّتها الحضاريّة، ولتستعيد دور الريادة وموقع الغلبة في الساحة الدوليّة. ولعلّ عهد الخلفاء العثمانيّين الأوائل كان أبرز تلك الانطلاقات النهضويّة الّتي مضت بعد مراحل من السبات والركود والانكفاء.(1/1)
ولقد كانت بعض النكبات الّتي ألمّت بالأمّة –ولاسيّما نكبة المغول والتتار- من ذلك النوع الّذي من شأنه القضاء على كيانات حضاريّة برُمَّتها. ولولا رؤيتها لهويّتها الحضاريّة، لما استطاعت أُمَّتنا متابعة مسيرتها من جديد ماخرة عباب التاريخ لعدّة قرون تاليّة.
إلاّ أَنّ الكارثة العظمى الّتي لم يسبق أن حلّت بهذه الأمّة، أطلّت برأسها منذ بدايّة القرن التاسع عشر. وذلك حين ظهر على الساحة الدوليّة غريم حضاريّ دعا الأمّة الإسلاميّة إلى ساحة النزال، بعد قرون مضت لم تعرف تلك الأمّة خلالَها عدوّاً ينازلها بغير السيف والرمح والآلة العسكريّة. فبعد المنازلات الحضاريّة الّتي خاضتها الأمّة الإسلاميّة منذ صدر الإسلام ووصولاً إلى العهود العبّاسيّة الأولى، والّتي سقطت خلالها سائرُ الحضارات من يونانيّة ورومانيّة وفارسيّة وغيرها، صريعةً أمام صرح الحضارة الإسلاميّة، خلت الساحة من مُنازل يستفزُّ فكر المجتمع الإسلاميّ. وبدا للمسلمين وكأنَّ حضارتهم هي آخر حضارات التاريخ، وأنّه لم يعد حول الأمّة الإسلاميّة إلاّ شعوب أمّيّة عزلى من أيّ رسالة حضاريّة ذات شأن. فلم يعد يتوجّب على الدولة الإسلاميّة بالتالي إلاّ أن تكون متيقِّظة، لتحافظ على مجتمعها من أيِّ خطر مادّيّ يمكن أن يشكّله عدوان عسكريّ يقوم به أحد الشعوب المجاورة على دار الإسلام، مع الشعور بالتقصير حين التوقّف عن الجهاد لفتح البلاد وتحويلها إلى دار الإسلام.(1/2)
إلاّ أنّ ظهور الحضارة الغربيّة المعاصرة على مسرح التاريخ، بعد اكتمال معالمها وقيام كياناتها السياسيّة، كان أخطر تحدٍّ يواجه تلك الأمّة. ذلك أنّ تلك الحضارة، هي الّتي قامت هذه المرّة بالمبادرة إلى النزال الحضاريّ والثقافيّ، متحدِّيّة الأمّة الإسلاميّة. أعانها على ذلك أنْ واجهت مجتمعاً تحجَّر تفكيره، وانعدمت الحيويّة الفكريّة فيه، وعاش على تراث الماضين من الفقهاء والعلماء، معتزّاً بدينه ونظامه ونمط عيشه وهيبة دولته،غير فاطن إلى عوامل الانحطاط الّتي دبَّت في كيانه. فراحت ترشق سهامها الفكريّة، تهاجم بها الإسلام وحضارته وأحكامه ومعالجاته وأنظمته ونمط عيشه. فأدّى ذلك بطبيعة الحال إلى أن تكون الحضارة الغربيّة في حال الهجوم، والأمّة الإسلاميّة في حال الدفاع.
لقد استهدف الغرب القضاء على الهويّة الحضاريّة للأمّة الإسلاميّة. فلقد أدرك بعد قرون من المواجهة معها أنّها لا تُغلب عسكريّاً ومادّيّاً، ما دام يقاتلها بوصفها "أمّة إسلاميّة". فكان القرار أن يتمّ تحويلها عن هويّتها تلك. وقد اتّخذ في سبيل هذه الغايّة العديد من الوسائل. كان من أبرزها وأمضاها أثراً موضوعة "التفاعل الحضاريّ".
لطالما سمعنا وقرأنا المعزوفة المتكرِّرة حول نشوء الحضارات، من أنّ نشوء أيِّ حضارة إنّما هو ثمرة تفاعل حضارات شتَّى، وأنَّه ما من حضارة إلاّ واستمدَّت من غيرها واغتنت بنتاج مَن سبقها، وتثاقفت مع سائر الحضارات حتّى قامت مستويّة على أصولها، وأنَّه لا يمكن لحضارة أن تستمرَّ بمعزل عمّا حولها من الحضارات، وأنَّها حين تنغلق على نفسها، تكون قد حكمت على نفسها بالموت والزوال...(1/3)
وهكذا، دأبت تلك الغزوة الحضاريّة والثقافيّة على ترديد تلك المعزوفة على أسماعنا، لتقول لنا: إنَّ الحضارة الإسلاميّة لم تنتصب شامخة في التاريخ، إلاّ بعد أن شرب العرب عصارة الحضارات السالفة والمعاصرة لهم، وهضموها وشكّلوا منها مزيجاً جديداً، فأفرزوها حضارةً جديدةً، كانت الحضارةَ "العربيّة" أو على حدّ تعبير بعضهم" الحضارة العربيّة الإسلاميّة"، وإنَّ المسلمين بقوا أصحاب حضارة زاهرة بقدر ما تابعوا عمليّة التثاقف مع الحضارات والثقافات الأخرى، فلمّا انغلق المجتمع الإسلاميّ على نفسه، دبَّ فيه الوهن، واعتراه الركود والجمود، فما على المسلمين اليوم، إن أرادوا عوداًََ إلى ازدهار حضاريّ، إلاّ أن يستأنفوا عمليّة التبادل الحضاريّ، فيتقبّلوا ما لدى الحضارة الغربيّة المعاصرة من مقولات وأطروحات ومفاهيم ومقاييس وأنظمة للحياة والمجتمع …
لقد اقتنعت جمهرة المثقّفين المسلمين بعد حين بهذه "النصيحة المخلصة"، فراحوا يتقبّلون -بتحفّظ بادئَ الأمر-بعض ثمار الحضارة الغربيّة، فلمّا استساغوا طعمها راحوا يطلبون المزيد، حتّى زالت كلّ العوائق الّتي كانت تقف أمام تلك الحضارة. فظهر الكثير في مجتمعنا، ممّن يردِّدون خطاب الحضارة الغربيّة بمضمونه الأصليّ الكامل، وطارت في الهواء دعاوى اقتباس ما "يتوافق مع شخصيّتنا" من الحضارات الأخرى، وظهر أنّها كلمة فضفاضة، لا مدلول واضح لها يترجمها على أرض الواقع.
وهكذا وجدت الأمّة الإسلاميّة نفسها فجأة وقد فقدت هويّتها، وأمست مسلوبة الشخصيّة، تستورد وتستهلك الأفكار والأنظمة الغربيّة، ولا تجد ما تصدِّره إلى هؤلاء الناس.(1/4)
يقول أحد كبار رموز التخطيط الاستراتيجيّ للولايات المتّحدة الأميركيّة، المستشرق المعاصر"برنارد لويس": «لقد كانت عادتنا الّتي تعوّدناها في العالم الغربيّ هي: كلّما اتّجه الشرقيّون إلينا كلّما ازداد تمسُّكنا بالغرب لنجعل أنفسنا مثالاً للفضيلة والتقدُّم. فإذا تشبّهوا بنا عددنا ذلك أمراً حسناً وإذا لم يكونوا كذلك عددنا ذلك سوءاً وشرّاً. فالتقدّم هو في التشبّه بنا، أمّا إذا لم يقتدوا بنا فذلك هو التقهقر والاضمحلال!! إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك بالضرورة. فعندما تصطدم حضارتان تسيطر إحداهما وتتحطّم الأخرى. قد ينبري المثاليّون والمفكّرون فيتحدّثون بطلاقة وسهولة عن تزاوج بين أحسن العناصر من الحضارتين، إلاّ أنّ النتيجة العاديّة في هذا التلاقي هي تعايش بين أسوء العناصر من الاثنين».(1)
لقد ظهر في السنين الأخيرة،مع ظهور شعار العولمة الّذي رفعته الولايات المتّحدة الأميركيّة، أنّ الحضارة الغربيّة تريد أن تجعل من نفسها حضارة العالم الوحيدة، الّتي تصوغ حياة جميع شعوب الأرض. فلقد انتهى التاريخ كما يرى "فرانسيس فوكوياما"، ووصل إلى هدفه الأخير، حيث على البشر جميعاً في هذه المعمورة أن يصبحوا مجتمعاً واحداً، يعيش وفق طراز أكثر حضارات التاريخ تقدُّماً، وهذه هي الحضارة العالميّة!!
إنّ هذه الموجة الغربيّة العارمة الّتي تريد إغراق العالم في بحر حضارتها، تستدعي من كلّ مؤمن بحضارته غيور عليها، بل من كلّ من لمس فساد الحضارة الغربيّة على الأقلّ، أن يعيد النظر في تلك المقولات "الذرائع" الّتي اتّخذها الغرب سلاحاً في غزوه للعالم. وأبرز تلك الذرائع ذريعة "تفاعل الحضارات".
__________
(1) - برنارد لويس – الغرب والشرق الأوسط – تعريب نبيل صبحي – بيروت – د.ت – ص60(1/5)
ومن أجل أن تكون إعادة النظر وافية بالمطلوب، لابدّ أن تكون إعادة نظر جذريّة، تعود إلى محاكمة الأفكار من أصولها، فلا تبدأ من منتصف الطريق، بل تعود إلى أوّله،فلعلَّ الرحلة انحرفت منذ بدايتها.
بناءً على ذلك، جعلت مهمّتي في هذا البحث المتواضع في حجمه، والّذي أرجو له أن يكون مقدّمة لأبحاث أخرى تُبنى عليها، أن أعود لطرح التساؤلات التالية:
ما هي "الحضارة"؟ ما صلتها بالثقافة؟ وما صلتها بالعلوم والإنجازات المادّيّة؟ وبالتالي ما الّذي يحقّ لنا إدراجه في نطاق مدلول "الحضارة"، وما الّذي لا يحقّ لنا إدراجه فيه؟
ما هي "الحضارة الإسلاميّة "؟ وما هي الحدود الفاصلة بين ما يطلق عليه "حضارة إسلاميّة "وما سواها؟
كيف نشأت هذه الحضارة ؟ وما صلتها بالحضارات الأخرى؟
ما طبيعة ثقافة المجتمع الإسلاميّ؟ وما الوجه الّذي اتّخذه الاحتكاك الحضاريّ والثقافيّ بين الحضارة الإسلاميّة وما سواها من الحضارات والثقافات؟ وما تأثير ذلك الاحتكاك على المجتمع الإسلاميّ؟
وفي ضوء الإجابة على التساؤلات الآنفة جاءت العناوين الرئيسة لهذا البحث على النحو الآتي:
الحضارة ، والحضارة الإسلاميّة، المصطلح والتعريف.
نشوء الحضارة الإسلاميّة.
المجتمع الإسلاميّ والاحتكاك الحضاريّ والثقافيّ.
نماذج من المؤثِّرات الثقافيّة والحضاريّة في المجتمع الإسلاميّ.
ثمّ أتبعت ذلك كلّه خلاصة، تحدِّد النتائج الّتي توصّل إليها البحث، بالإضافة إلى خاتمة تضع تلك النتائج في خدمة الواقع الثقافيّ الّذي وصلت إليه أمّتنا في عصرها الحاضر.(1/6)
مدخل:
الحضارة
المصطلح والتعريف والماهيّة
توطئة:
المصطلح والتعريف
إنّ تحديد معاني المصطلحات من الأهميّة بحيث إنّ إهماله قد يؤدّي إلى إجهاض كثير من الأبحاث والدراسات والمؤلَّفات. ذلك أنّ الدراسة الّتي تستخدم مصطلحاً ما أو مصطلحات عدّة من تلك الّتي قد تتعدّد أفهام القرّاء لها، تحتاج في بدايتها إلى توضيح المعنى المراد أداؤه من المصطلح المشكل حين يرِد في نصوصها، وإلاّ فإنّ القارئ سوف يعجز عن الوصول إلى مراد الكاتب، الأمر الّذي سيحول دون أداء الدراسة هدفَها المطلوب، وربّما أدّى غموض المصطلح إلى أن يفهم القارئ معنى آخر غير الّذي أراده الكاتب، وهذا ما لا يرضي هذا الأخير بحال من الأحوال.
وتزداد أهميّة توضيح المصطلح أكثر فأكثر كلّما تعدّدت المعاني والأغراض الّتي يعبِّر عنها أهل المعارف والفنون والاختصاصات بواسطة ذلك المصطلح، وكلّما ازداد الخلاف حول تحديد معناه. وقد لا يجد اختيارُ صاحبِ الدراسة للمصطلح الّذي يستخدمه قبولاً لدى جميع القارئين، إلاّ أنّ تحديد مدلوله سيؤدِّي على الأقلّ إلى وقوف القارئ على مراد الكاتب حين ورود المصطلح.
وهذه الدراسة الّتي نحن بصددها تتمحور حول مصطلح، هو من أكثر المصطلحات تداولاً. ولكنّه في الوقت نفسه من أكثر المصطلحات إشكالاً من حيث المعنى الّذي يفيده ويعبّر عنه، أعني مصطلح "الحضارة".
وكم من الباحثين والدارسين خاضوا دراسات وأبحاثاً تحت هذا العنوان، دون أن يحدّدوا -لأنفسهم أوّلاً ثمّ لقارئيهم ثانياً- معنى محدَّداً لذلك المصطلح. وبالتالي أتى معظم تلك الدراسات أبحاثاً فضفاضة غير ذات مدلولات محدَّدة وواضحة، ولا سيّما حين الكلام عن الخطوط أو الهوامش الفاصلة بين حضارة وأخرى، أو عن مدى تأثُّر حضارة بأخرى، أو عن مدى سعة حضارة من الحضارات، أو عن مدى تبدّل وتغيّر المظاهر الحضاريّة في مجتمع من المجتمعات …(1/7)
من هنا حرصتُ في دراستي هذه على تحديد مصطلح "الحضارة" ونشأته والمعنى المراد منه أوّلاً، ثمّ انتقلت إلى تعريف «الحضارة». وقد يتساءل القارئ هنا: ما الفرق بين هذين الاثنين؟! فأسارع بالقول:
إنّ هناك فرقاً كبيراً بين اختيار مصطلحٍ ما للتعبير عن معنى معيَّن، وبين تعريف ذلك المعنى الّذي تمّ اختيار المصطلح للتعبير عنه. ولتوضيح ذلك المعنى أضرب هذا المثال الواضح:
إن استخدام مصطلح «العقل» للدلالة على الملَكة الّتي يتمتّع بها الإنسان ويتميّز بها عن سائر الحيوان ليست محلَّ نزاع ولا خلاف بين الناس، مهما تنوّعت اختصاصاتهم وتوجُّهاتهم. إلاّ أنّ تعريف ذلك الشيء الّذي يطلِق عليه الجميع اسم العقل هو الّذي يثير كثيراً من الخلاف، فنقع على تعريفات عديدة للعقل. فهناك من عرّفه بأنه «غريزة يتهيّأ بها إدراك العلوم النظريّة»(1)، وهناك من عرّفه بأنّه انعكاس الواقع على الدماغ(2)، وهناك من يعرِّفه بأنه عمليّة ربط المحسوسات بالمعلومات المخزونة في دماغ العاقل لإصدار الحكم على الواقع(3).
لذلك فإنّ أوّل مهمّة تقع على عاتق هذه الدراسة هي عرض نشأة المصطلح وتطوّره وما استقرّ عليه، وهو العرض الّذي ستصحبه بطبيعة الحال التعريفات المتداولة للحضارة، ومن ثَمَّ الوصول إلى تعريف جامع مانع "للحضارة"، وهو الشرط الّذي يجب توفُّره في أيّ تعريف حتّى يُعَدَّ تعريفاً صحيحاً ومنضبطاً.
__________
(1) - انظر : الإمام أبو حامد محمّد بن محمّد الغزاليّ – إحياء علوم الدين –دار المعرفة، بيروت-1403هـ 1983م – ج1-ص85
(2) - انظر : الموسوعة الفلسفيّة – إشراف روزنتال وب.يودين – ترجمة سمير كرم – دار الطليعة ، بيروت 1987 – مادّة : الفكر
(3) - انظر : محمّد أبو حمدان – الفلاسفة والفكر الإسلاميّ - دار الكتاب اللبناني،بيروت 1985 - ص 20 وما بعدها(1/8)
وقد يجد البعض أنّ هذا الجانب من الدراسة – أعني ضبط المصطلح وتعريفه– قد أخذ منها حيّزاً كبيراً، إلاّ أنّني أجده من الأهميّة بحيث يستحقّ هذا القدر من البحث، ولا سيّما في الموضوع الّذي نحن بصدده. ذلك أن موضوع هذه الدراسة يتوقّف إعطاء الرأي فيه على دراسة وافية لمعنى الحضارة عموماً، ومن ثَمَّ لمعنى الحضارة الإسلاميّة خصوصاً، من أجل معرفة ما الّذي يدخل ضمن ذلك المصطلح وما الّذي لا يدخل فيه؟ وما هي الحدود الفاصلة بين ما يُعبَّر عنه بالحضارة الإسلاميّة وما سواه؟ وبالتالي ما مدى انصهار المجتمع الإسلاميّ بهذه الحضارة وما مدى المؤثِّرات الّتي تأثّر بها سوى الحضارة الإسلاميّة؟ …
أوّلاً:
الحضارة والمدنيّة والثقافة
أ – نشأة المصطلح:
«الحضارة» في اللغة وكما ورد في "لسان العرب" : «الإقامة في الحَضَر… والحَضَر والحَضْرة والحاضرة: خلاف البادية، وهي المدن والقرى والريف». إذن، حين تُذكر الحضارة في اللغة فإنّه يقصد بها ما هو عكس البداوة، أي سكنى المدن والقرى.
إلاّ أنّ هذا المعنى هو المعنى اللغويّ للكلمة. والمعنى اللغويّ هو غير المعنى الاصطلاحيِّ ولو كان ذا صلة به. ومرادنا في هذا البحث الوقوف على المعنى الاصطلاحيِّ للحضارة. وهذا يتطلب منّا الرجوع إلى نشأة ذلك المصطلح.(1/9)
أوّل من توسّع في الكلام عن الحضارة والتفريق بينها وبين البداوة هو "عبد الرحمن بن خلدون"(ت 808 هـ)، الّذي يرى أنّ الناس حين تخطَّوا في كسبهم للمعاش ما هو ضروري «وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه، دعاهم ذلك إلى السكون والدعة وتعاونوا في الزائد على الضرورة واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنُّق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضُّر. ثمّ تزيد حالة الرفه والدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنّق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك ومعالاة البيوت والصروح وإحكام وضعها في تنجيدها والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى غايتها فيتّخذون القصور والمنازل ويُجرون فيها المياه ويعالون في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلفون من استجادة ما يتّخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون. وهؤلاء هم الحضر، ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان»(1).
والمدقِّق في كلام "ابن خلدون" يجد أنّ كلمة "الحضارة" عنده لم تخرج عن معناها اللغويّ. وكلّ ما كان منه أن توسّع قليلاً في شرح حال أهل الحضر أو المدن والتمييز بينهم وبين البدو أهل البادية. لذلك كان من الخطأ إدراج ابن خلدون في عداد أهل الاصطلاح المحدَث "للحضارة".
والواقع أنّ نشأة المعنى الاصطلاحيّ للحضارة إنّما تعود إلى الدراسات الأوربّيّة، وذلك لعدّة قرون خلت. وذلك من خلال استخدام العبارة "Civilization" الّتي ظهرت تحمل مدلولات معيّنة، ثمّ طرأت التعديلات والتبديلات على ذلك المصطلح، حتّى وصل إلى ما استقرّ عليه اليوم من معنى.
__________
(1) - العلاّمة عبد الرحمن بن محمّد بن خلدون – المقدمّة - دار الجيل،بيروت – دون تاريخ - ص 132(1/10)
«ظهرت كلمة "Civilization" بالفرنسيّة سنة 1734، وأصلها واضح : فهي تنحدر مباشرة من صفةCivilisé (متحضِّر) في القرن السابع عشر»(1). وفي هذه الحقبة استُخدمت هذه الكلمة -ومعناها في العربيّة مدنيّة أو حضارة– للدلالة على صفات أهل المدينة، وللتفريق بينهم وبين من هم خارجها من أهل الأرياف أو من أهل الغابات المتوحّشين والبرابرة، «وحالة التحضُّر والمتحضِّر،جملة الصفات المكتسبة خارج الطبيعة، وهي أخيراً مجموع الظواهر المميِّزة للحياة في هذا العالم الخاصّ المتطوِّر الّذي بناه الإنسان المدنيّ»(2). وإذا دقّقنا في هذا المعنى سنجد أنّه لا يختلف كثيراً عن المعنى الّذي أراده ابن خلدون في مقدّمته.
ولكنّ هذا المعنى أخذ يتغيّر بعد قليل، حين انتشر المصطلح في اللغات الأوربّيّة الأخرى وصار يعني «مجموعة من الخطط والنظم القمينة بإشاعة النظام والسلام والسعادة، وبتطوّر البشريّة الفكريّ والأدبيّ، وبتأمين انتصار الأنوار »(3)، والأنوار في مفهوم مفكِّري القرن الثامن عشر الأوربّيين هي الثقافة الأوربّيّة والمفاهيم الجديدة الّتي أحدثتها الثورة الصناعيّة. «ففي ذروة العصر الّذي كان الأوربّيون يهيمنون فيه على العالم فكريّاً وسياسيّاً جرى تصوّر الحضارة بصيغة المفرد»(4)، أي ما يتميّز به المجتمع الأوربّي من خصائص.
__________
(1) - رولان بريتون – جغرافيا الحضارات –تعريب خليل أحمد خليل – منشورات عويدات،بيروت باريس – الطبعة الأولى 1993 -ص19
(2) - المرجع السابق – ص 20
(3) - تاريخ الحضارات العامّ – إشراف موريس كروزيه – نقله إلى العربيّة فريد داغر وفؤاد أبو ريحان – منشورات عويدات ،بيروت – الطبعة الأولى 1964- مجلد 1 – ص 17
(4) - جغرافيا الحضارات – ص 20(1/11)
إلاّ أنّ المفكِّرين والكتّاب الأوربّيين –ولا سيّما المؤرِّخين منهم- بدأوا منذ القرن التاسع عشر يستخدمون هذا المصطلح –civilization– للدلالة على ما تملكه أيُّ أمّة من الأمم من خصائص تتميّز بها عن الأمم والشعوب الأخرى. وهكذا بدأ الكلام بينهم على "الحضارات" بدلاً من الحضارة الواحدة. فممّا يقوله مثلاً "نيقولاي دانيليفسكي" الروسي (1822-1885): «ليس هناك حضارة واحدة، وإنمّا هناك طُرز من الحضارات لكلّ منها خصائصها ومميِّزاتها. والتاريخ البشريّ في مجموعه لا يسير في خطّ مستقيم يتّبع اتّجاهاً واحداً ونزعة بذاتها، وإنّما هو في الحقيقة مكوّن من حركات مختلفة الاتّجاهات تتبع خطوطاً متباينة وتكشف عن وجهات أو قيم كثيرة خلال الطرز المختلفة من الحضارات. ولكلّ حضارة قيمها الخاصّة»(1). ويقول "موريس كروزيه": «أمّا أن نكون أمام حضارات متعدِّدة لا حضارة واحدة ليس بينها ما يدّعي الرئاسة المحتومة، فهذا أمر مسلَّم به اليوم بين علماء الأجناس البشريّة والمؤرِّخين والعلماء الاجتماعيّين، إذ يقرُّ هؤلاء بالإجماع أنّ لكلّ جماعة بشريّة على شيء من النظام، حضارتها الخاصّة، حتّى أنّ للأقوام المتوحِّشة حضارتها الخاصّة بها. كذلك من الأمور المسلَّّّم بها اليوم عدم الأخذ بالنظريّة الضيّقة الّتي تقول بتاريخ واحد للحضارة»(2).
__________
(1) - نقلاً عن : محمّد فتحي عثمان – مدخل إلى التاريخ الإسلاميّ – دار النفائس، بيروت – الطبعة الأولى 1992 – ص 476
(2) - تاريخ الحضارات العام – م1 – ص 18(1/12)
وهكذا نرى أنّ هذا المصطلح تبدَّل من الدلالة على مواصفات أهل المدينة الخُلقيّة والاجتماعيّة والشكليّة وأساليب عيشهم والفرق بينهم وبين أهل الأرياف والغابات إلى الدلالة على مميِّزات الأمم والدول المنظَّمة ذات الثقافة العالية والعلوم المزدهرة –وهو مفهوم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لدى الدول الأوربّيّة– ثمّ أخيراً للدلالة على أنماط المجتمعات الّتي شهدها التاريخ البشريّ، بصرف النظر عن مدى ثقافتها وعلومها، حتّى إنّ الأقوام المتوحّشة لها حضارتها الّتي تصوغ عيشها.
من خلال ما سلف من البحث، ووفق ما استقرّ عليه مصطلح "الحضارة" من معنى، يظهر ارتباط واضح بين "الحضارة والمجتمع". فالحضارات متعدّدة بقدر تعدّد المجتمعات. والحضارة ما هي إلاّ نمطُ عيشِ مجتمع من المجتمعات، ولولا ذلك المجتمع لما أمكننا التحدّث عن تلك الحضارة. "فالحضارة اليونانيّة" ما هي إلاّ عبارة عن هويّة المجتمع اليونانيّ، و"الحضارة المصريّة" القديمة ما هي إلاّ تعبير عن هويّة المجتمع المصريّ القديم، و"الحضارة الإسلاميّة" ما هي إلاّ عبارة عن هويّة المجتمع الإسلاميّ… وهكذا. فها هو المؤرِّخ البريطانيّ الشهير "أرنولد توينبي" يرى أنّ التاريخ البشريّ تاريخ حضارات، وفي الوقت نفسه يراه تاريخ مجتمعات(1). ويقول "رالف لنتون":«من الأمور ذات الدلالة الخاصّة أنَّ اصطلاحَي حضارة ومجتمع يُستعملان كمترادفين في غالب الأحيان... فالمجتمع عبارة عن مجموعة منظّمة من الأفراد، والحضارة مجموعة منظّمة من الاستجابات الّتي تعلّمها الأفراد وأصبحت من مميِّزات مجتمع معيّن»(2).
__________
(1) - انظر : أرنولد توينبي –مختصر دراسة للتاريخ – تعريب فؤاد محمّد شبل – الادارة الثقافيّة في جامعة الدول العربيّة، القاهرة – الطبعة الأولى 1960 – ج1 – المقدّمة ص3 وما بعدها
(2) - رالف لنتون – شجرة الحضارة – ترجمة أحمد فخري – مكتبة الإنجلومصريّة – دون تاريخ - ج1 –ص 65(1/13)
إلاّ أنّ هذا المصطلح لم يكن محلّ وفاق لدى جميع المفكِّرين والمؤرِّخين الغربيّين. وسنجد أنّ هناك اصطلاحاً آخر سيزاحمه في مدلوله أو بعض مدلوله على الأقلّ، أعني به المصطلح"culture"، وترجمته اللغويّة إلى العربيّة: "الثقافة"، وإن تُرجم بوصفه اصطلاحاً بواسطة عبارات أخرى سنتكلّم عنها لاحقاً.
ففي الوقت الّذي اصطلح فيه معظم المفكِّرين الغربيّين على استخدام عبارة "Civilization" للتعبير عن مميّزات مجتمع أو أمّة من الأمم وخصائصها الفكريّة والتشريعيّة والروحيّة والتقنيّة… فضّل بعضهم –ولا سيّما الألمان– تخصيص هذا المصطلح «بالمجتمعات الّتي بلغت مرحلة التنظيم الحضريّ والكتابة»(1). ومن هؤلاء "ألفرد فيبر" الّذي يطلق مصطلح "Civilization" على «نموِّ فروع المعرفة وتقدُّم سبل السيطرة على القوى الطبيعيّة، ذلك التقدُّم المتماسك الّذي له نظام منتظم ينتقل من شعب إلى آخر»، ويفرّق بين هذه الظاهرة والظاهرة الّتي يصنِّفها تحت اسم "Culture" الّتي «لا تسير في خطٍّ واضح المعالم كما تسير عمليّة المدنيّة»(2). وهكذا يحلّ المصطلح "reCultu" (بالألمانيّة Kultur) لدى هؤلاء العلماء محلَّ المصطلح "Civilization" للدلالة على نمط العيش في مجتمعٍ ما، والّذي هو في نظر "إدوارد تايلور" «ذلك الكلّ المعقَّد الّذي يشتمل على المعارف والمعتقدات والفنون والأخلاق والقوانين والتقاليد والفلسفة والأديان وبقيّة المواهب والقابليّات والعادات الّتي اكتسبها الإنسان من مجتمعه الّذي يعيش فيه»(3). وهو في رأي "كلايد كلوكهون" «مجموعة طرائق الحياة لدى شعب معيّن، أي الميراث الاجتماعيّ الّذي يحصل عليه الفرد من مجموعته الّتي يعيش فيها، أو هي الجزء
__________
(1) - جغرافيا الحضارات – ص31
(2) - دينكن متشل - معجم علم الاجتماع - ترجمة ومراجعة : إحسان محمّد الحسن – دار الطليعة ، بيروت – الطبعة الأولى 1980 – مادّة Civilization
(3) - المرجع السابق – مادّة Culture(1/14)
الّذي خلقه الإنسان في محيطه وهي الّتي تحدّد الأساليب الحياتيّة، أو هي طريقة في التفكير والشعور والمعتقدات، إنهّا معلومات الجماعة البشريّة مخزونة في ذاكرة أفرادها أو في الكتب أو في الموادِّ والأدوات»(1). «وخلاصة القول: يُلاحظ أنّ هناك تداخلاً كبيراً في تناول الفكر الأوربّي لمفهوم "Civilization"، فهناك من جعل المفهوم مرادفاً لمفهوم "Culture" مثل تايلور، وهناك من جعله قاصراً على نواحي التقدّم المادّيّ من آلات ومؤسّسات واختراعات… وهناك من جعله شاملاً لكلّ نواحي التقدّم. وهناك من قصر المفهوم على نواحي التقدّم الخاصّة بالفرد، وهناك من رأى أنّها تشمل الفرد والجماعة، وهناك من رأى أنّها مفهوم عالمي –أي أنّ هناك "Civilization" واحدة دائماً وأنّ كلّ المجتمعات تساهم فيها بنصيب ما– أمّا "Culture" فهي خاصّة بكلّ شعب، وهناك من رأى العكس»(2).
وهكذا نرى أنّ هذين المصطلحين تزاحما في الثقافة الأوربّيّة للدلالة على معنى مشترك إلى حدّ كبير، وهو مجموعة الخصائص الفكريّة والتشريعيّة والشعوريّة الّتي تسِم مجتمعاً ما بنمط معيّن من العيش. وقد حرصتُ على إيراد هذين المصطلحين (Civilization و Culture) باللغات الأوربّيّة لأنّه لم يكن هناك اتّفاق بين الكتّاب والمؤلِّفين العرب على وجه ترجمتهما. وهذا ما يدفعنا الآن للانتقال إلى وجوه استعمال تلك المصطلحات في الثقافة العربيّة المعاصرة.
فبينما تزاحم هذان المصطلحان في اللغات الأوربّيّة، نجد في الكتابات والمؤلَّفات والترجمات العربيّة ثلاثة مصطلحات تقوم بهذا الدور، ألا وهي : "الحضارة والمدنيّة والثقافة".
__________
(1) - نصر محمّد عارف - الحضارة ، الثقافة ، المدنيّة - المعهد العالمي للفكر الإسلاميّ ، فرجينيا - 1995م - ص 21
(2) - المرجع السابق – ص 39-40(1/15)
فها هو جورج حدّاد يضع العبارات الثلاث مقترنة في محاولة لتعريفها، فيقول: «الحضارة والمدنيّة والثقافة: إنّ كلمة "حضارة" أو "مدنيّة" مشتقَّة بالأساس من الحضر ومن حياة المدينة (…) وهناك كلمة باللغات الأجنبيّة لها مفهوم يقرب من مفهوم الحضارة وهي "culture" (Kultur بالألمانيّة) وترجمتها بالعربيّة هي الثقافة، ومعناها أوسع، ويفهم منها الطريقة الّتي بموجبها يعيش الشعب ويفكّر (…) وكثيراً ما تستعمل كلمة "Culture" للدلالة على الحضارة والمدنيّة في اللغات الأجنبيّة، ولذلك قلنا إن كلمة "ثقافة" لا تكفي لترجمة معناها»(1).
فمصطلح "civilization" ترجم في أغلب الأحيان إلى العربيّة بعبارة "حضارة". فكتاب "ول ديورانت" الّذي يحمل اسم "The story of civilization" ترجم إلى العربيّة تحت عنوان «قصّة الحضارة»، وعُرِّب المصطلح إلى كلمة "حضارة" في معظم موارده. وكذلك الأمر في معظم ترجمات الكتب الّتي تحمل ذلك العنوان وتُرَدِّد تلك العبارة، ولا سيّما حين تكون تلك الكتب متخصِّصة في موضوع المجتمعات البشريّة التاريخيّة منها والمعاصرة.
إلاّ أنّ بعض الكُتّاب العرب المتأثِّرين باصطلاح الألمان ومن هم على نهجهم، يترجمون كلمة "Civilization" بكلمة "مدنيّة". فها هو "إحسان محمّد الحسن" الّذي ترجم «معجم علم الاجتماع الّذي حرَّره البروفسّور دينكن متشل» يعرِّب المصطلح " Civilization" بعبارة "المدنيّة"(2).
__________
(1) - جورج حدّاد –المدخل إلى تاريخ الحضارة – مطبعة الجامعة السوريّة – 1958م - ص 17-18
(2) - معجم علم الاجتماع - مادّة : المدنيّة(1/16)
أمّا المصطلح "Culture"، فغالباً ما تُرجم باستخدام كلمة "الثقافة"، وهي الترجمة الّتي تراعي المعنى اللغويّ لا الاصطلاحيّ. إلاّ أنّ كثيراً من الكتّاب المعاصرين يرون أنّ كلمة "ثقافة" لا تفي بمعنى المصطلح الغربيّ "culture" –كما مرّ معنا سابقاً في كلام جورج حدّاد– لذلك تُرجمت "Culture" إلى العربيّة بـ"حضارة".
«برز استخدام اللفظ العربيّ "حضارة" مقابل اللفظ الإنكليزيّ "Culture" في كتابات علماء الاجتماع والأنتروبولوجيا العرب في ترجماتهم للمؤلَّفات الأوربّيّة في هذين الحقلين، ومن ثَمّ فقد شاع الحديث عن مفهوم الحضارة، والمقصود به ال "Culture" في المدلول الأوربّي. فنجد مثلاً الّذين ترجموا كتابات كلايد كلوكهون ورالف لنتون ولويس مورغان وجوردن تشايلد…إلخ استخدموا في ترجماتهم لفظ حضارة كترجمة لـ "Culture" ويُلاحظ أنّ هؤلاء المترجمين عندما يتعرَّضون للّفظ الأوربّيّ "Culture" يطلقون عليه اللفظ العربيّ "المدنيّة"»(1).
__________
(1) - الحضارة ، الثقافة ، المدنيّة - ص 29(1/17)
وها هو أيضاً "إحسان محمّد الحسن" مترجم معجم علم الاجتماع لدينكن متشل يعرّب مادّة "Culture" تحت عبارة "الحضارة". وهكذا تزاحمت العبارتان "الحضارة" و"المدنيّة" في الكتابات العربيّة المعاصرة للدلالة على معنى واحد أو على معان متداخلة. فيقول "جميل صليبا" مثلاً في معجمه الفلسفيّ: «الحضارة بمعنىً ما مرادفة للثقافة. إلاّ أنّ هذين اللفظين لا يدلاّن عند العلماء على معنى واحد، فبعضهم يطلق لفظ الثقافة على تنميّة العقل والذوق، وبعضهم يطلق لفظ الثقافة على مجموع عناصر الحياة وأشكالها ومظاهرها في مجتمع من المجتمعات. وكذلك لفظ الحضارة، فإنّ بعضهم يطلقه(…) على حالة من الرقيّ والتقدّم في حياة المجتمع بكاملها. وإذا كان بعض العلماء يطلق لفظ الثقافة على المظاهر المادّيّة، ولفظ الحضارة على المظاهر العقليّة والأدبيّة، فإنّ بعضهم الآخر يذهب إلى عكس ذلك … »(1).
بعد هذا العرض المفصّل لواقع المصطلح لدى المفكِّرين الغربيّين والعرب، لا بدّ لنا من الوصول إلى اختيار التعريف المنضبط المناسب للمصطلح، وهو المعنى الّذي ستعتمده هذه الدراسة في إيرادها مصطلح "الحضارة" بين سطورها وفي أبحاثها.
ب – الحضارة
__________
(1) - جميل صليبا – المعجم الفلسفي بالألفاظ العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة واللاتينيّة – دار الكتاب اللبناني - مادّة «الحضارة».(1/18)
يستفاد من النصوص السابقة أنّ "الحضارة" –سواء اعتبرناها ترجمة لعبارة Civilization أو لعبارة Culture الأوربّيتين ووفق المعنى الّذي استقرّتا عليه– يراد منها التعبير عن طراز العيش الّذي يسود مجتمعاً من المجتمعات ، أي هويّة ذلك المجتمع. وعلى حدّ تعبير "رالف لنتون" «فالمجتمع عبارة عن مجموعة منظَّمة من الأفراد، والحضارة مجموعة منظَّمة من الاستجابات الّتي تعلَّمها الأفراد وأصبحت من مميِّزات مجتمع معيّن»(1). وواضح للعيان تاريخاً وحاضراً أنّ لكلّ مجتمع طريقة في العيش تميّزه عن سائر المجتمعات تجعل منه جماعة بشريّة ذات شخصيّة معيّنة ولون متميّز وهويّة خاصّة هذه الطريقة من العيش الّتي تميّز مجتمعاً عن آخر هي ما يعبَّر عنه "بالحضارة". لذلك لا بدّ من أجل الوصول إلى "تعريف الحضارة" من معرفة العوامل الّتي تجعل للمجتمع طريقته الخاصّة في العيش، وتميّزه عن سائر المجتمعات.
من المعلوم أنّ المجتمع هو مجموعة من الناس تؤلِّف بينهم علاقات مستمرّة، بها يقوم ذلك المجتمع وبتميّزها يتميّز، أو على حدّ تعبير "توينبي" « إنّ المجتمع البشريّ هو في ذاته نظام للعلاقات بين الكائنات البشريّة »(2). وهذا النظام الّذي يربط الأفراد فيشكلّ المجتمع إنّما هو مجموع ما يحمله هؤلاء الناس من أفكار ومشاعر وما يرعى شؤونهم من تشريعات وقوانين. فسلوك الإنسان وعلاقاته مع الآخرين إنّما تتحكّم بها مفاهيمُه الّتي هي مزيج من الفكر والشعور، كما أنّ التشريعات الّتي تقوم السلطة على رعايّة شؤون المجتمع بها، تتحكّم إلى حدّ كبير بعلاقات المجتمع، وبالتالي تؤثِّر إلى حدّ بعيد في نمط العيش فيه.
__________
(1) - شجرة الحضارة – ج1 – ص 65 . انظر أيضاً في هذا الموضوع: مختصر دراسة للتاريخ – ج1 – ص 354
(2) - مختصر دراسة للتاريخ – ج1 – ص353(1/19)
وبناء عليه فإنَّ المجتمع هو «مجموعة من الناس تربطهم أفكار ومشاعر وأنظمة»، وإنّ هذا المجتمع يصنَّف بحسب هذه المنظومة من الأفكار والمشاعر والأنظمة، فإن كانت إسلاميّة مثلاً كان إسلامّياً، وإن كانت ليبراليّة كان ليبراليّاً… وهذه هي عين الحضارة. فالحضارة والمجتمع على حدّ تعبير "رالف لنتون" «يتّصلان ببعضهما عن طريق الأفراد الّذين يكوِّنون المجتمع ويفصح سلوكهم عن نوع حضارتهم»(1) .
يقول "صامويل هانتغتون" :«فما الّذي نعنيه عندما نتحدّث عن حضارةٍ ما؟ إنّ الحضارة هي كيان ثقافي. فالقرى والأقاليم والمجموعات الإثنيّة والقوميّات والمجموعات الدينيّة لها جميعها ثقافات متميِّزة… وهكذا فإنَّ الحضارات هي أعلى تجمُّع ثقافيّ للناس وأوسع مستوى للهويّة الثقافيّة للشعب ولا يسبقها إلاّ ما يميِّز البشر عن الأنواع الأخرى. وهي تحدَّد في آن معاً بالعناصر الموضوعيّة المشتركة، مثل اللغة والدين والتاريخ والعادات والمؤسَّسات، وبالتحديد الذاتيِّ الّذي يقوم به الشعب نفسه»(2) .
ويقول "مصطفى علم الدين": «الحضارة هي نمط عيش مجموعة بشريّة معيَّنة، في بيئة معيَّنة يتمثَّل في النظام الّذي تعتمده المجموعة وفي سلَّم القيم الاجتماعيّة الّتي تحدِّدها لنفسها. وفق هذا التعريف، نستطيع القول إنّ لكلّ "مجتمع" حضارته الذاتيّة المتميّزة»(3). وبناءً عليه، نخلص إلى التعريف التالي للحضارة: «إنَّها مجموعة الأفكار والمشاعر والأنظمة الّتي تصوغ طريقة العيش في مجتمع من المجتمعات».
__________
(1) - شجرة الحضارة – ج1 – ص71
(2) - صامويل هانتنغتون - صدام الحضارات – إصدار مجلة شؤون الأوسط – مركز الدراسات الإستراتيجيّة والبحوث والتوثيق، بيروت- 1995 – ص18-19
(3) - مصطفى علم الدين – المجتمع الإسلاميّ في مرحلة التكوين – دار النهضة العربيّة، بيروت- 1992 – ص6(1/20)
فالحضارة المصريّة القديمة مثلاً، أو الحضارة اليونانيّة أو حضارة أوربّا العصور الوسطى… هي تلك المنظومات من الأفكار والمشاعر والأنظمة الّتي صاغت كلّاً من مجتمعات مصر القديمة واليونان وأوربّا العصور الوسطى… إذ إنّ هذه المنظومات هي الّتي تعطي هذه المجتمعات هويّتها وشخصيّتها.
ج - المدنيّة
وبناءً على هذا التعريف، من الخطأ إدراج ما ليس من هذه المجموعة الّتي تتكوّن منها الحضارة ضمن مدلول "الحضارة"، ولا سيّما المستوى العلمي والتقني والأشكال والوسائل المادّيّة الّتي يستعملها الإنسان في حياته اليوميّة ممّا لا يرتبط بوجهة نظره عن الحياة. فالصناعات والمبتكرات والعلوم الطبيعيّة والوسائل المادّيّة والأشكال المستحدثة ليست هي الّتي تعطي المجتمع هويّته، وليست هي الّتي تصوغ طراز عيشه وتميّزه عن سائر المجتمعات، بل هي مما تتبادله الشعوب في كثير من الأحيان دون أن يؤثِّر على هويّتها الحضاريّة. وقد سبق وأسلفنا أنّ "موريس كروزيه" يرى أنّه حتّى الأقوام المتوحّشة لها حضارتها الخاصّة بها(1). ومن هذا المنطلق حرص بعض المفكِّرين الغربيّين على التمييز بين المصطلحين "Civilization" و"Culture". فخصّوا الأوّل –كما فعل" ألفرد فيبر"– بعمليّة «نموّ فروع المعرفة وتقدّم سبل السيطرة الفنيّة على القوى الطبيعيّة، ذلك التقدّم المتماسك الّذي له نظام منتظم ينتقل من شعب لآخر»(2)، وعبّر عنه بعض الكتّاب العرب بكلمة "مدنيّة" ، وخصّوا الثاني بتلك المنظومة المعقّدة من المعارف والعادات والأخلاق والقوانين … الّتي اكتسبها الإنسان من مجتمعه الّذي يعيش فيه، وعبّر عنه بعض الكتّاب العرب بكلمة "حضارة"(3).
__________
(1) - انظر : تاريخ الحضارات العام – م1 – ص 18
(2) - معجم علم الاجتماع – مادّة «المدنيّة» .
(3) - المرجع السابق – مادّة «الحضارة» .(1/21)
وها هو "رالف لنتون" يفرّق بين عناصر الحضارة وبين الجهاز التقني الّذي يملكه المجتمع، ويرى أنّ الحضارات الّتي تتشابه جدّاً في تكنولوجيّتها قد تختلف اختلافاً تامّاً في تكوينها الاجتماعيّ وفي ديانتها وفي فنّها(1). ثمّ يفيدنا أنّ «علماء الدراسات الأنتروبولوجيّة يميلون الآن إلى إخراج تلك الأشياء نفسها من مفهوم الحضارة »(2).
وكذلك الأمر بالنسبة للعلوم الطبيعيّة الّتي أنتَجت – ولا زالت تنتج – الابتكارات والوسائل والأشكال المادّيّة المستعملة في شؤون الحياة، فهي على حدّ تعبير "توبي هاف" «ليست موروثة لمجتمع قومي ولا لجماعة عرقيّة ولا لأمّة معيّنة، وإنّما لِسِمتها العالميّة، فإنّ لها القدرة على أن تتجاوز الحدود». ثمّ يضيف: «إنّه لأمر مهمّ أن يعرف العالم أنّ أوربّا في القرن السابع عشر لم تنشر العلم "الأوربّي" أو "الغربيّ" وإنّما القول الصحيح إنّه العلم العالمي، أو بتعبير آخر: العلم الحديث في مقابل العلوم القديمة والعصور الوسطى»(3).
لذلك كان لا بد من تخصيص كلمة "المدنيّة" للدلالة على مجموعة الأشكال والوسائل المادّيّة المستخدمة في شؤون الحياة، أو للدلالة على المستوى الّذي وصلت إليه البشريّة في المجال التقني والصناعيّ. وبالتالي كان من الحريّ أن يتمّ الفصل بين الدراسات الّتي تتناول التاريخ الحضاريّ للأمم والشعوب والمجتمعات وبين الدراسات الّتي تتناول تاريخ التطوّر العلميّ والصناعيّ لدى الجماعات البشريّة، والّتي من الأحرى بها أن تندرج ضمن ما يعرف بتاريخ العلوم. إذ لكلّ منهما مساره الخاصّ به. فللحضارة وحداتها البشريّة المستقلّة، بينما للمدنيّة مسارها العالميّ العامّ.
د - الثقافة
__________
(1) - انظر : شجرة الحضارة – ج1 – ص75
(2) - المرجع السابق – ج1 – ص78
(3) - توبي هاف – فجر العلم الحديث – ترجمة أحمد محمود صبحي – سلسلة عالم المعرفة، الكويت – الطبعة الأولى1997 – ج1 – ص83-84(1/22)
وإتماماً لفائدة البحث، وبعد أن حدّدنا تعريفاً لكلّ من "الحضارة" و"المدنيّة"، لا بدّ من إعطاء الرأي في مسألة "الثقافة". فَلَئِن ترجم البعض المصطلح "Culture"بعبارة "الثقافة" وجعلها مرادفاً لما اصطلحنا عليه "بالحضارة"، فإنّنا نرى بعض التمايز بين المصطلحين. ذلك أنّ الثقافة تحمل مدلولاً أوسع من الحضارة. فهي تُطلق عادة على المعارف العقليّة لدى الإنسان. إلاّ أنّ هناك ميلاً لدى كثير من المفكِّرين والكتّاب إلى إخراج "المعارف العلميّة البحتة" من مدلولها، وهي المعارف الّتي يُطلَق عليها في اللغات الأوربّيّة مصطلح Science. ذلك أنّ تلك الأخيرة تتّسم -كما سبق لنا القول– بالسمة العالميّة والتواصل المطّرد، وإن كانت تعبُر في هذا التواصل من خلال الحضارات والشعوب والأمم المتعدّدة. بينما تكون الثقافة في العادة سمة لحضارة أو شعب أو أمّة أو لغة أو حتّى فرد. فالثقافة قد تُنسَب إلى حضارة معيّنة فتكون في مدلولها قريبة إلى حدّ كبير من الحضارة، وإن بقيت تحمل مدلولاً أوسع. فالثقافة الإسلاميّة مثلاً، هي مجموع المعارف الّتي كانت العقيدة الإسلاميّة سبباً في بحثها، مثل علم التوحيد والفقه والتفسير والحديث وعلوم اللغة العربيّة –بوصفها لغة القرآن- ومصطلح الحديث وعلم أصول الفقه… وقد تُنسب الثقافة إلى اللغة كالثقافة الفرنسيّة مثلاً، فتكون دالّةً على مجموعة المعارف العقليّة الّتي تمّ التعبير عنها أساساً باللغة الفرنسيّة. وقد تُنسَب الثقافة إلى فرد، للدلالة على المستوى المعرفي الّذي وصل إليه إنسانٌ ما، فيقال ثقافة زيد واسعة وثقافة عمرو متماسكة أو فوضويّة، أو للدلالة على نمط ثقافته، فيقال ثقافة "هيغل" وثقافة "شبنجلر" وثقافة "الغزاليّ" …
ولتوضيح مجال الوفق والفرق بين "الثقافة" و"الحضارة" نقول :(1/23)
إنّ الحضارة هي ذلك الجانب من الثقافة الّذي تحوّل إلى مفاهيم مشتركة في مجتمعٍ ما. بحيث شكّل عرفاً عامّاً له وصاغ مشاعر الناس فيه واستأثر برعايّة شؤونهم، فجعله مجتمعاً معيّناً ذا شخصيّة خاصّة وهويّة متميّزة. وبناءً عليه، من الخطأ إدخال المعارف الثقافيّة الّتي لم تتحوّل إلى واقع يعيشه الناس في مجتمعهم في مفهوم الحضارة. فإذا كانت الثقافة الغربيّة الحديثة والمعاصرة -على سبيل المثال- تحوي العديد من التيّارات الفكريّة المتفاوتة - وربما المتضاربة - فلا يصحّ أن نُدخل في مفهوم "الحضارة الغربيّة" إلاّ تلك الّتي وجدت قبولاً لدى الرأي العامّ، فتحوّلت عرفاً عامّاً أسهم في صياغة المجتمع ونمط عيشه. وأمّا ما سواها فإنّها تبقى ثقافات فرديّة مهما كثر أتباعها من "الأفراد". وبتعبير مختصر : إنّ الحضارة هي "الثقافة المكوِّنة" للمجتمع، وهو المصطلح الّذي اقترحه بعض المفكِّرين الألمان، ولفظه في الألمانيّة "Bildung" (1).
__________
(1) - انظر : جغرافيا الحضارات - ص21(1/24)
ثانياً:
حضارة عالميّة أم حضارات بشريّة ؟
إنّ المعنى الّذي قرّرناه للحضارة يؤدّي بالضرورة إلى رفض فكرة "الحضارة العالميّة" أو "الحضارة الإنسانيّة الواحدة". وهي الفكرة الّتي ترى أنّ العالم كلّه بما فيه من أمم وشعوب ومجتمعات عديدة يسير عبر التاريخ ضمن مسيرة واحدة هي مسيرة "الحضارة". إذ التاريخ البشريّ هو تاريخ مجتمعات، ولمّا كان لكلّ مجتمع نمطه وطرازه الخاصّ في العيش نتج عن ذلك أنَّ التاريخ هو تاريخ حضارات، لا تاريخ حضارة واحدة. إنّها الحضارات الّتي تتعدّد في العصر الواحد، وتستجِدُّ عبر العصور المتواليّة. وعلى حدّ تعبير "نيقولاي دانليفسكي" (روسيا 1822-1885)، «ليس هناك حضارة واحدة، وإنّما هناك طرز من الحضارات، لكلّ منها خصائصها ومميِّزاتها. والتاريخ البشريّ في مجموعه لا يسير في خطّ مستقيم يتبع اتّجاهاً واحداً ونزعة بذاتها، وإنّما هو في الحقيقة مكوَّن من حركات مختلفة الاتجّاهات تتبع خطوطاً متباينة وتكشف عن وجهات أو قيم كثيرة خلال الطرز المختلفة من الحضارات ولكلّ حضارة قيمها الخاصّة»(1). كما يرى "اشبنجلر" (1880-1936) أنّ «لكلّ حضارة كيانها المنعزل عن غيرها من الحضارات، وكلّ منها يكوِّن وحدة أو دائرة مقفلة بنفسها. وما يشاهَد من تشابه في الموضوع بين حضارة وحضارة فهو تشابه في الظاهر، لأنّ كلّ حضارة تعبير عن روح ، والروح تختلف بين حضارة وحضارة . وإذا اشتركت العناصر الخارجيّة المؤثِّرة في حضارتين تقبَّلت كلّ منهما هذه العناصر على نحوٍ مباين كلّ المباينة للنحو الّذي تتقبّل عليه الحضارة الأخرى هذه العناصر، لأنّ كلّاً منها لا تستطيع أن تهضم هذه العناصر إلاّ إذا أحالتها إلى طبيعتها. وهكذا تبطل أوهام المؤرِّخين عن التأثير والاستمرار والوحدة التاريخيّة»(2).
__________
(1) - نقلاً عن : مدخل إلى التاريخ الإسلاميّ - ص 476
(2) - المرجع السابق - ص 483(1/25)
إنّ الّذي يتابع نشأة فكرة "وحدة الحضارة الإنسانيّة" يجد أنّها من صنع بعض المؤرِّخين الغربيّين الّذين يرون أنّ المجتمع الغربيّ المعاصر وصل في مسيرة "الحضارة الإنسانيّة" إلى ذروتها، وعلى بقيّة الشعوب والأمم أن تَحُثَّ الخطى لتلحق بركب المجتمع الغربيّ وتصل إلى غاية ما وصلت إليه "الحضارة الإنسانيّة". فها هو المستشرق الأميركي المعاصر "برنارد لويس" يقدِّم لنا إقراراً واضحاً بذلك، إذ يقول: «لقد كانت عادتنا الّتي تعوّدناها في العالم الغربيّ هي: كلّما اتّجه الشرقيّون إلينا ازداد تمسّكنا بالغرب لنجعل أنفسنا مثالاً للفضيلة والتقدّم. فإذا تشبَّهوا بنا عددنا ذلك أمراً حسناً وإذا لم يكونوا كذلك عددنا ذلك سوءاً وشرّاً. فالتقدّم هو في التشبّه بنا، أمّا إذا لم يقتدوا بنا فذلك التقهقر والاضمحلال!!»(1) .
وها هو "توينبي" «يرفض فكرة وحدة الحضارات الّتي يرى أنّها فكرة أملتها آراء المؤرِّخين الغربيّين الخاطئة الّتي استمدّوها من بنيتهم من نظرتهم الخادعة الّتي أرادوا بها أن يحقّقوا نظاماً اقتصادياً غريباً على العالم بأسره طبقاً للنموذج الغربيّ بالذات، توطئة لتوحيده سياسياً على النمط الغربيّ. فالمؤرِّخون الغربيّون لا سيّما المحدثون منهم يرون أنّ هناك منبعاً أساسيّاً للحضارة هو المنبع الغربيّ، لذا فهم ينتهون، بحكم نظرتهم هذه، إلى وحدة الحضارة العالميّة»(2).
__________
(1) - برنارد لويس - الغرب والشرق الأوسط – تعريب: نبيل صبحي – بيروت – دون تاريخ – ص60
(2) - محيي الدين إسماعيل – توينبي ، منهج التأريخ وفلسفة التاريخ – وزارة الثقافة و الإعلام ، بغداد – 1986 – ص46-47(1/26)
وكذلك يعترض صامويل هانتنغتون على الّذين يقولون «بأنّ الحضارة الغربيّة هي حضارة كونيّة كلّيّة تناسب كلّ الناس» بقوله: «إذا كان صحيحاً على المستوى السطحيّ أنّ الحضارة الغربيّة تخلّلت حقّاً باقي العالم، فإنّ المفاهيم الغربيّة، على مستوى أساسيّ بدرجة أكبر، تختلف بصورة أساسيّة عن تلك السائدة في الحضارات الأخرى. فالأفكار الغربيّة عن الفرديّة واللبراليّة والدستوريّة وحقوق الإنسان والمساواة والحريّة وحكم القانون والديمقراطيّة والأسواق الحرّة وفصل الكنيسة عن الدولة، ليس لها عادة، جاذبيّة كبيرة في الثقافات الإسلاميّة والكونفوشيوسيّة واليابانيّة والهندوسيّة والبوذيّة أو الأرثوذكسيّة… إنّ المفهوم القائل إنّه يمكن أن تكون هناك "حضارة عالميّة" هو نفسه فكرة غربيّة تتناقض بصورة مباشرة مع خصوصيّة معظم المجتمعات الآسيويّة وتركيزها على ما يميّز شعباً عن آخر»(1).
وفي النهايّة : «نستطيع القول إنّ لكلّ مجتمع حضارته الذاتيّة المميّزة، سواء أكان لديه تقدّم في وسائل الحياة أم حُرم من التطوّر التقنيّ. فلشعوب أقاصي أفريقيا حضارتها كما للمجتمع الأميركيّ المعاصر حضارته»(2).
ثالثاً:
الحضارة الإسلاميّة
جرت العادة في أكثر المصنَّفات الّتي تحمل عنوان الحضارة الإسلاميّة أن تتناول كلّ الظواهر الّتي شهدها المجتمع الإسلاميّ، من عقائد وتشريعات وأخلاق ولغة وأدب وشعر وفلسفة وفنون وعمارة وعلوم طبيعيّة وإنجازات تقنيّة وصناعيّة وعسكريّة وغير ذلك. إلاّ أنّنا في دراستنا هذه –وقد اخترنا عنوانها مدركين انضباط مدلوله– سنقتصر على تناول المظاهر الّتي تنضوي ضمن مفهوم الحضارة، التزاماً منّا أوّلاً بالعنوان الّذي صدّرناها به، ثمّ اكتفاء بما يحقّق الهدف من هذه الدراسة.
__________
(1) - صدام الحضارات – ص 33-34
(2) - المجتمع الإسلاميّ في مرحلة التكوين – ص6(1/27)
كما أنّ الغايّة من البحث السالف في تعريف الحضارة والتمييز بينها وبين المدنيّة، أن يؤتي أكله ويعطي ثماره في ضبط تعريفنا للحضارة الإسلاميّة، ومن ثَمّ بالتالي معرفة مكوِّنات هذه الحضارة وعناصرها وما تتضمّنه كلمة "الحضارة الإسلاميّة" من معانٍ ومدلولات.
وبناءً على تعريفنا للحضارة عموماً، يمكن أن نعرِّفّ الحضارة الإسلاميّة بأنّها "مجموعة الأفكار والمشاعر والأنظمة الّتي جاء بها الإسلام وصاغ بها ما عُرف في التاريخ بالمجتمع الإسلاميّ". فما هي هذه المجموعة من الأفكار والمشاعر والأنظمة الّتي أتى بها الإسلام لتشكّل ذلك المجتمع ؟(1/28)
إن أوّل ما يجدر ذكره –حين الكلام عن الحضارة الإسلاميّة– هو الأساس الّذي قام عليه الدين الإسلاميّ، وبالتالي الأساس الّذي قام عليه المجتمع الإسلاميّ والدولة الإسلاميّة والحضارة الإسلاميّة . أعني بهذا الأساس: الفكرة الكلّيّة الّتي أتى بها الإسلام عن الكون والإنسان والحياة وعمّا قبل الحياة الدنيا وعمّا بعدها وعن علاقتها بما قبلها وبما بعدها، والّتي عبّر عنها علماء الإسلام بمصطلح "العقيدة"، وعبّر عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله:«أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه»(1). ويتوقّف على الإيمان بهذه العقيدة دخول الإنسان في الإسلام، ولا يُقبل منه دينياً أيُّ عمل أو أيّ التزام بأحكام الشريعة ما لم يكن مبنيّاً على الإيمان بهذه العقيدة. وقد أمر الإسلام باعتناق هذه العقيدة اعتناقاً فكريّاً مبنيّاً على العقل، وحرّم اعتناقها تسليماً أو تقليداً للمجتمع والآباء، قال تعالى: { إنّ في خلقِ السمواتِ والأرض واختلافِ الليلِ والنهارِ لآياتٍ لأولي الألباب } (2)، وقال سبحانه: { وإذا قيلَ لهم اتَّبعوا ما أَنزلَ اللهُ قالوا بل نتّبعُ ما أَلفَينَا عليه آباءَنا أَوَلَو كَان آباؤُهم لا يعقِلون شيئاً ولا يهتدون(3) } . وفي القرآن الكريم العديد من الآيات الّتي تدعو إلى التفكّر في آيات السماوات والأرض من أجل الوصول إلى الإيمان بالخالق الواحد المدبِّر، والآيات الّتي تحاجج الناس في كون القرآن كلام الله المنزل، كقوله تعالى: { وإن كنتُم في رَيبٍ مِمّا نَزَّلنا على عبدِنا فأتوا بسورةٍ مِن مِثلِهِ وادعُوا شُهداءَكم من دونِ اللهِ إِن كُنتم صادِقين(4)
__________
(1) - الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري – صحيح مسلم – تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي – دار إحياء التراث العربيّ – دون تاريخ – ج1 – ص37 – كتاب الإيمان – رقم الحديث: 8
(2) - سورة آل عمران – الآية 190
(3) - سورة البقرة – الآية 170
(4) - سورة البقرة – الآية 23(1/29)
} وقوله عزّ وجلّ: { ولو كان من عِندِ غيرِ اللهِ لَوَجَدوا فيه اختلافاً كثيراً(1) } . وهو كثيراً ما يطالب بالحجّة والبرهان والسلطان في مجال العقائد، فيقول: { قُل هاتوا بُرهانَكُم إن كُنتم صادِقين } (2). ويقول: { قُل هل عِندَكُم مِن علمٍ فَتُخرِجُوه لنا } (3).
هذه العقيدة تصورِّ الإنسان عبداً لله عزّ وجلّ، خلَقه وخلق حياته والكون الّذي يحتضنه، وبالتالي عليه أن يكون في هذه الحياة الدنيا خاضعاً له شاكراً لأنعمه، مسيّراً أعماله كلّها وفق أوامر الله ونواهيه، متقيّداً بما يرضاه له من ضوابط لسلوكه. كما تُصوِّر هذه العقيدة للإنسان مآله بعد الموت، وهو الحياة الأخرى الّتي تُفتتح بالحساب على سيرته في الحياة الدنيا، فيكون مآل المؤمنين الّذين أسلموا وجوههم لربِّهم وخضعوا له إلى جنّة عرضها السماوات والأرض، وأمّا مَن كفروا بربِّهم وجحدوا نعمه وتمرّدوا على أوامره ونواهيه فسيكون مآلهم إلى جهنّم وبئس المصير. والقرآن الكريم يصوِّر هذه الرحلة البشريّة بكلّمات قليلة. إذ يقول: { قُلنا اهبِطوا منها جميعاً فإمّا يأتينَّكم منّي هدىً فَمَن تَبِعَ هُدايَ فلا خوفٌ عليهِم ولا هُم يحزَنون } (4) ويقول: { فمن اتَّبع هدايَ فلا يضِلُّ ولا يشقى وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكري فإنَّ لَه معيشةً ضَنكاً ونحشُرُه يَومَ القيامّة أعمى - قال ربِّ لِمَ حَشَرتَنِي أعمى وقد كُنتُ بصيراً - قالَ كذلِكَ أتتك آياتُنا فَنَسِيتَها وكذلِكَ اليومَ تُنسى(5) } .
__________
(1) - سورة النساء – الآية 82
(2) -سورة النحل – الآية 64
(3) -سورة الأنعام – الآية 148
(4) -سورة البقرة - الآية 38
(5) -سورة طه – الآيات 123 حتّى 126(1/30)
وبعد هذا الإيمان العقليّ الجازم يأتي طبيعيّاً دور تلقّي التشريع . ويأتي دور التسليم والتفويض لله عزّ وجلّ. فلئِن وجب على الإنسان أن يحكّم عقله في مسألة الإيمان تحكيماً مطلقاً، فقد وجب عليه في دور التشريع –وقد علم أنّ الله هو الخالق الحكيم العليم اللطيف الخبير الهادي وأنّ رسالته نزلت رحمةً للعالمين– أن يفوِّض أمره إلى ربّه الّذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه ويعلم سرّه ونجواه ويعلم ما يصلح لغرائزه وحاجاته من معالجات وأنظمة. فبعد أن كان عقله حَكَماً في العقيدة وجب عليه أن يتحوّل في مجال التشريع إلى أداة لفهم نصوص الوحي من قرآن وسنّة، من أجل استخراج الأحكام الشرعيّة وفق دلالة تلك النصوص.
وقد شكلّ مجموع تلك الأحكام الشرعيّة ما يسمّى بالشريعة الإسلاميّة. وهي النظام الّذي ينظّم علاقات الإنسان كلّها، سواء كانت علاقة مع ربّه، نظّمها بمجموعة من العبادات، أو كانت علاقة مع نفسه، نظّمها بمجموعة من الأخلاق وأحكام المطعومات والملبوسات، أو علاقة مع غيره من الناس ، نظّمها بمنظومة كبيرة من أحكام المعاملات. وهذه الأخيرة -أي أحكام المعاملات– هي صاحبة الأثر الأكبر في تشكيل حياة الناس في مجتمعهم. إذ بتطبيقها تتجلّى المفاهيم الّتي تحكم سلوك الناس، وهي الّتي تشكّل أنظمة الحكم والاجتماع والاقتصاد والعقوبات والتعليم، وبها تَرعى السلطةُ القائمة شؤون الناس في سياستها الداخليّة والخارجيّة.
وهكذا تكون العقيدة الإسلاميّة بما انبنى عليها من مفاهيم وما انبثق عنها من أنظمة وما نَجَم عنها من مشاعر، كالولاء لله ورسوله والمؤمنين والشعور بالصلة بالله تعالى والثقة بشريعته والإحساس بالسعادة في ظلّ رضوانه والشوق إلى الجنّة والخوف من النار والبغض للكفر وأوليائه والتحفّز لمجاهدة المشركين وأعداء الدين… هي الأساس الّذي قامت عليه الحضارة الإسلاميّة .(1/31)
لذلك فإنّ مصطلح "الحضارة الإسلاميّة" إنّما يجب أن تقتصر دلالته على هذه المعاني: على العقيدة الإسلاميّة وعلى التشريع الإسلاميّ –ولا سيّما من هذا التشريع ما يتعلّق بتنظيم العلاقات ضمن المجتمع وما بين المجتمع وغيره من المجتمعات– وعلى ما يرتبط بها من مفاهيم ومشاعر ومقاييس وقناعات ونظرة إلى الفضيلة والرذيلة والخير والشرّ والعدل والظلم لدى المجتمع الإسلاميّ. ولقد عبّر "محمّد أسد" (ليوبولد فايس) عن ذلك المعنى للحضارة الإسلاميّة بقوله: «إنّنا نعني بحضارة الإسلام تلك النظرة الخاصّة إلى الفضائل الخلقيّة، وذاك المنهاج الاجتماعيّ المتمايز، والأسلوب الّذي رسمه الإسلام لحياة البشر، فلا نقصد بحضارة الإسلام حدثاً بذاته أو نهضة ممّا استحدثه المسلمون في أيِّ قطر من أقطارهم أو فترة من فترات تاريخهم»(1).
ولا يحسبنّ أحد أنّنا ضيّقنا مجال الحضارة الإسلاميّة الّتي عبّرنا عنها بهذه التعابير المختصرة. ذلك أنّ الكلام عن أنظمة الإسلام هو في الحقيقة كلام عن ثروة عظيمة وبحر هائل من الأحكام والقوانين والأنظمة الّتي بذل فقهاء المسلمين منذ مئات السنين –ولا زالوا حتّى اليوم – جهوداً جبّارة لإبرازها والتعبير عنها، الأمر الّذي تجلّى في تلك الموسوعات الضخمة من مصنَّفات الفقه الإسلاميّ وما اقتضته من دراسات وفنون كدراسات اللغة العربيّة وعلم التفسير ومصطلح الحديث الشريف وعلم أصول الفقه وعلم تراجم الرجال… وإنّ الناظر في حياة المجتمع الإسلاميّ الباحث في ظواهره سيجد أنّ هذه المفاهيم والمشاعر والتشريعات هي الّتي تحكَّمت حقيقةً في نمط عيشه وطراز حياته.
__________
(1) - محمّد أسد وآخرون - الإسلام والتحديّ الحضاريّ – ترجمة محمّد محمود غالي – دار الكاتب العربيّ، بيروت – الطبعة الأولى 1992 - ص 22(1/32)
وعلى هذا الأساس، من الخطأ أن نُدخل في مدلول الحضارة الإسلاميّة ما أبدعه رجالات العالم الإسلاميّ في مجال العلوم الطبيعيّة كالطِّب والكيمياء والفيزياء والفلك والملاحة والحساب والرياضيّات والهندسة، وفي مجال الفنون كالتصوير والنحت والموسيقى، وفي مجال الإنجازات التقنيّة والصناعيّة والعسكريّة والعمرانيّة. فالأحرى بهذه المواضيع أن تُدرس تحت عناوين مثل تاريخ العلوم عند المسلمين وفنون الشعوب الإسلاميّة ومدنيّة المسلمين …(1/33)
ولقد عبّر "أحمد شلبي" أيضاً عن هذا المعنى حين قرّر أنّ «الحضارة الإسلاميّة الأصيلة جاءت في الأمور الّتي لم يستطع العقل البشريّ أن يصل إليها بنفسه، جاءت في نظم السياسة والاقتصاد والتشريع والأخلاق»(1)، وحاول أن يميّز في مقدّمة «دراسات في الحضارة الإسلاميّة لمجموعة من المؤلِّفين» بين ما أتى به الإسلام من مفاهيم عن الحياة وأنظمة للمجتمع وبين ما ترعرع ونما في المجتمع الإسلاميّ من فنون وعلوم وإنجازات ماديّة تابع فيها المسلمون مسيرة مَن سبقهم مِن الشعوب والأمم، فقال: «إنّ الحديث عن الحضارة الإسلاميّة يصحِّح خطأً طال مداه . فقد كان هناك اتِّجاه سائد يرى أنّ الحضارة الإسلاميّة هي ما وصل إليه المسلمون من تقدّم في مجال العمران أو في مجال الطبِّ والرياضة ونظائرها من العلوم التجريبيّة، ويتجاهل هذا الاتِّجاه أو يجهل ما سوى ذلك، ولكنّ موضوعنا هنا يقود لإيضاح الطريق الصواب حول الحضارة الإسلاميّة، بأن نجعل التركيز على الحضارة المنبثقة من المصادر الإسلاميّة الرئيسيّة، وهذا النوع من الحضارة هو ما نسمّيه "الحضارة الإسلاميّة الأصيلة" أي الّتي استمدّت وجودها من الفكر الإسلاميّ، والّتي هي منحة الإسلام لهدايّة البشريّة، أو بعبارة أخرى استمدّت وجودها من القرآن الكريم وأحاديث الرسول وغيرها من مصادر التشريع الإسلاميّ . وعلى هذا يتّضح أنّ الحضارة الإسلاميّة نوعان هما :
« أوّلاً: الحضارة الإسلاميّة الأصيلة، وتسمّى حضارة الخلق والإبداع، وهي تلك الّتي جاء بها الإسلام، أو عمّقها ووضع لها النظم والتفاصيل، ولم تكن كذلك قبل الإسلام، مثل رأي الإسلام في السياسة والاقتصاد وفي الحياة الاجتماعيّة وفي التربيّة والتعليم وفي مجال السلم والحرب…
__________
(1) - أحمد شلبي – موسوعة التاريخ الإسلاميّ –مكتبة النهضة المصريّة، القاهرة – الطبعة الثالثة عشرة 1989 – ج1 – ص 54(1/34)
« ثانياً: الحضارة الإسلاميّة التجريبيّة وتسمّى حضارة البعث والإحياء، وهي تلك الحضارة الّتي كانت موجودة قبل الإسلام وازدهرت قبل الإسلام كالتقدّم في الطبّ والموسيقى والفلك والعمران، ولكنّها ذبلت واختفت قبل الإسلام لعوامل متعددة… ثمّ جاء الإسلام وحثّ على خدمة العلم كلّ العلم الّذي ينفع البشريّة، فاتّجه المسلمون بحماسة بالغة لإحياء هذه الحضارات، بل اتّجهوا لتطويرها والتأليف فيها»(1).
إلاّ أنّنا نخالف الدكتور "شلبي" في إطلاقه اسم "الحضارة الإسلاميّة التجريبيّة" على ذلك القسم الثاني الّذي ذكره. فالأحرى بهذه الإنجازات أن تُصنَّف ضمن مصطلحات "المدنيّة والعلوم والفنون" الّتي هي أشياء مغايرة للحضارة - كما سبق وقرّرنا – وإن طالت الحضارةُ جانباً منها ببعض التأثير أحياناً.
__________
(1) - أحمد شلبي وآخرون - دراسات في الحضارة الإسلاميّة – الهيئة المصريّة العامّة للكتاب - 1985 – م1 – ص 18(1/35)
ثمّ إنّنا حين نطلق تعبير "الحضارة الإسلاميّة" فإنّنا لا نتكلّم عن مجرّد ظواهر شهدها المجتمع الإسلاميّ والتاريخ الإسلاميّ، بل نتكلّم عن أشياء منسوبة إلى الإسلام بوصفه الدين الّذي نزل به الوحي على الرسول- صلى الله عليه وسلم -، وكان لها ذلك الفضل في قيام مجتمع ذي حضارة معيّنة هي الحضارة الإسلاميّة، أي إنّنا نتكلّم عن"حضارة الدين الإسلاميّ". ولا يخفى على أحد أنّ تلك الإنجازات العلميّة والمدنيّة، وإن كان للإسلام الفضل الأعظم في توجيه الناس نحو الإبداع فيها -حين دعا إلى التفكّر في آيات الكون وخلق الله وحين أمر بإعداد القوّة وحين أباح التمتّع بزينة الدنيا- إلاّ أنّها ليست من نتاجه ولا هو تعرّض لها في نصوصه، سوى بعض اللمحات الرامية إلى تنبيه الفكر الإنسانيّ إلى آيات الله ونعمه ودقيق صنعه. فهذه العلوم والفنون وما نتج عنها من إنجازات ماديّة إنّما هي سابقة على الإسلام، فأخذها المسلمون وأسهموا في إعلاء بنيانها وتوسيعه. بل كان لغير المسلمين من رعايا الدولة الإسلاميّة باع غير قليل في إنمائها، كما هو معلوم. وبالتالي لا يجدر بهذه الإنجازات أن تُنسب إلى الإسلام بإطلاق لفظ العلوم الإسلاميّة أو المدنيّة الإسلاميّة أو الفنون الإسلاميّة عليها، بل الأَولى أن يُقال: العلوم لدى المسلمين، ومدنيّة المسلمين في عصر كذا، وفنون المسلمين في هذا الإقليم... أي أن تُنسب لأشخاص المسلمين وواقعهم التاريخيّ لا للإسلام بوصفه عقيدة وشريعة.
لذلك لن تتعرّض دراستنا هذه لتلك الإنجازات الّتي شهدها المجتمع الإسلاميّ في مجال العلوم والفنون والمدنيّة.(1/36)
كذلك لن تتطرّق إلى مسائل الأدب واللغة والشعر. ذلك أنّ اللغة العربيّة وإن كانت لغة القرآن الكريم والسنّة الشريفة - وبالتالي لغة الإسلام الّذي حافظ عليها وحال دون اندثارها وضياعها فهي تندرج ضمن الثقافة الإسلاميّة - إلاّ أنّها ليست نتاج الإسلام نفسه، بل هي سابقة عليه تاريخياً، وهي من التراث البشريّ. كما أنّها وإن كانت من العوامل والأدوات المساعدة على نشر الحضارة الإسلاميّة، إلاّ أنّ كثيراً من الشعوب الإسلاميّة الّتي بقيت على لسانها الأعجميّ انصهرت في بوتقة الحضارة الإسلاميّة وأصبحت جزءاً لا يتجزّأ من الحضارة الإسلاميّة.
وأمّا الأدب والشعر، فما كان منه معبِّراً عن مفاهيم إسلاميّة، فإنّه لا يخرج عن إطار مظاهر الحضارة الإسلاميّة. إلاّ أنّه حريٌّ بالدراسات اللغويّة والإبداعات الأدبيّة والشعريّة الإسلاميّة أن تُصنَّف تحت عنوان «الثقافة الإسلاميّة» باعتبارها ممّا نجم عن العقيدة الإسلاميّة بوصفها القاعدة الفكريّة للمسلمين.
الباب الأوّل:
نشوء الحضارة الإسلاميّة
الفصل الأوّل:
قيام المجتمع الإسلاميّ
توطئة:
مجتمع عرب الجاهليّة
إنّ عالم الجزيرة العربيّة هو العالم الّذي شهد ولادة الحضارة الإسلاميّة بين أحضانه. فالقرآن الكريم نزل بلغة العرب، وحامل هذه الرسالة هو عربيّ ينطق بلغة قريش، وقريش هم أهل مكّة أهمّ مدينة في الجزيرة العربيّة، فهي الحاضرة الروحيّة، فيها الكعبة قِبلة العرب، وأوثان جميع قبائلهم. لذلك كان لا بدّ من إلقاء نظرة على حضارة ذلك المجتمع الّذي نشأت فيه تلك الحضارة الجديدة: "الحضارة الإسلاميّة".(1/37)
سادت مجتمعَ العرب عقائدُ عدّة نتيجة وجود عدّة أديان فيه. إلاّ أنّ أهمّ تلك العقائد وأكثرها انتشاراً الوثنيّة. وهي تقوم على تأليه عدد من الأوثان الّتي عبدها العرب، لا بوصفها أرباباً خالقة، وإنمّا بوصفها آلهة يتقرّبون بعبادتها إلى الله الّذي خلق السماوات والأرض. وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك في سياق محاجّة المشركين في أكثر من آيّة، مثل قوله تعالى: { ولَئِن سأَلتَهُم مَن خَلَقَ السمواتِ والأَرضَ ليقولُنَّ الله فَأَنَّى يُؤفَكون } (1)، وقوله تعالى: { والّذين اتَّخَذُوا من دونِ اللهِ أولياءَ ما نَعبُدُهُم إلاّ لِيُقَرِّبونا إلى الله زُلفى } (2). وفي العصر الّذي شهد ظهور الرسالة الإسلاميّة كانت هذه الأوثان تأخذ قدسيّتها شأن سائر الأعراف والتقاليد والعادات من طريق تقليد الآباء والأجداد وإعلاء شأنهم إلى درجة التقديس الّتي لاتصل إلى حدّ العبادة. قال تعالى: { وإذا قِيلَ لَهمُ اتَّبِعُوا ما أَنزَلَ اللهُ قَالوا بَل نَتَّبِعُ ما أَلفَينَا عليه آباءَنا أَوَلَو كانَ آباؤُهم لا يعقِلون شيئاً ولا يَهتَدون(3) } . فالعقائد الدينيّة لديهم ليست عقائد عقليّة أو فكريّة، وإنّما هي مجرّد مفاهيم موروثة تقليديّة. والكلام ذاته ينطبق على ما تفرّع من هذه العقائد من طقوس روحيّة كهنوتيّة.
__________
(1) - سورة العنكبوت – الآية 61
(2) - الزمر - الآية 3
(3) - البقرة – الآية 170(1/38)
وقد ساقت الأعراف والتقاليد المتوارثة مجموعة من المفاهيم السلوكيّة الّتي تتمحور حول الانتماء إلى الآباء والأجداد، أي بتعبير آخر حول الانتماء إلى القبيلة أو العشيرة. فالرابطة هي عصبيّة قبليّة، والولاء والانتماء السياسيّ هو للقبيلة، والكيان السياسيّ هو كيان قبليّ. والمروءة والشجاعة والشهامة والفروسيّة والنجدة -وإن باتت سمةً للجاهليّ راسخةً- إلاّ أنّ نشأتها تعود إلى الدفاع عن وجود الذات الفرديّة ثمّ القبليّة. من هنا نشأت مفاهيم العصبيّة، مثل مفهوم «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» وفق المعنى الجاهليّ. وعنها نجمت حروب قبليّة تطاولت في الزمان والمكان، ومنها نشأت عادات كثيرة في ذلك المجتمع. فالتفاخر بالبنين إنّما منشؤه قدرة الذكر على الدفاع عن القبيلة وخوض الحروب. ووأد البنات بالمقابل مَنشَؤُه عجز الإناث عن الدفاع عن أنفسهنّ وقبيلتهنّ والخوفُ من وقوعهنّ في الأسر، ما يُلحق العار بالقبيلة وأهلها، فكان شُؤماً على العربيّ أن يُرزق بأنثى، { وإذا بُشِّرَ أحدُهُم بالأنثى ظلَّ وجهُهُ مسوَدّاً وهو كَظيم - يتوارى من القومِ من سوءِ ما بُشِّرَ به أَيُمسِكُهُ على هَونٍ أم يدسُّهُ في التُرابِ ألا ساءَ ما يَحكمون } (1). ثمّ إنّ مفهوم الثأر الّذي قضى بقتل العشرة بالواحد أو الحرّ بالعبد أو الذكر بالأنثى، إنّما مردّه إلى التعصّب للقبيلة والعشيرة والأسرة. وفي مجتمع يقوم على قوّة القبيلة والعشيرة والأسرة كان من الطبيعيّ أن يكون حظّ الضعفاء الّذين لا ينتمون إلى إحدى الأسر أو القبائل ذات المكانة والنفوذ أن يكونوا من المستضعفين والمقهورين أو حتّى المستعبدين بسبب عجزهم عن الوفاء بتكاليف الحياة وديونها وأعبائها. وحتّى نظام الحكم الّذي ساد تلك القبائل إنّما هو ثمرة من ثمار تلك الرابطة القبليّة. فالسلطة بيد مجلس من كبار رجال القبيلة الّذين يمثِّلون مختلف عشائرها وبطونها وهم الّذين
__________
(1) - النحل- الآيتان 58-59(1/39)
يحظون باحترام سائر أفراد القبيلة. وهكذا وبسبب هذه الروابط القبليّة لم يكن العرب ليفكّروا يوماً بقيام كيان عربيّ موحّد، مع أنّهم يحملون المفاهيم والأعراف والتقاليد ذاتها، وتخضع علاقات الأفراد في مجتمعاتهم لأنظمة متشابهة إلى حدّ كبير. فطراز العيش وشكلّ المجتمع والهويّة الحضاريّة لدى معظم عرب الجاهليّة كان واحداً. ومع ذلك لم تكن العروبة بالنسبة إلى أهل الجزيرة العربيّة أكثر من لغة مشتركة ومجموعة من الجوامع المشتركة الّتي تتمثّل في حجّهم السنويّ إلى الكعبة والتبادل التجاريّ. بل إنّ الأعراف السياسيّة الّتي تعارف عليها العرب كانت في حقيقتها تعبيراً عن عمق الشرخ الّذي يفصل بين القبائل وكياناتها السياسيّة المتعدّدة. فتحريم القتال في الأشهر الحرُمِ لم يكن إلاّ دليلاً على أنّ القتال بين القبائل أمر محتوم لا قبل لهم بدفعه، لذلك كان لا بدّ من تنظيمه وإخضاعه لقوانين تمكّن العرب من التعايش معه.(1/40)
ومن أبرز السمات الّتي ميّزت ذلك المجتمع هي قلّة احتكاكه بسائر الحضارات، ولا سيّما عرب وسط الجزيرة والحجاز مهد الدعوة الإسلاميّة. فإذا استثنينا قبائل عرب الشمال كالغساسنة والمناذرة اللخميّين وعرب الجنوب اليمنيّين وعرب منطقة البحرين، فسنجد أنّ الاحتكاك حصل فقط عن طريق القوافل التجاريّة الّتي وصلت إلى أهمّ مواطن الحضارات الكبرى كالشام والعراق وفارس والحبشة والهند، وهذا الاحتكاك كانت تغلب عليه السمة التجاريّة، ولا نجد للناحيّة الثقافيّة أو السياسيّة أو حتّى العسكريّة أثراً مهمّاً فيه. ولعلّ أهمّ تفسير لتلك الظاهرة هو أنّ الصحراء المقفرة لم تكن لتنال اهتمام أحد من الإمبراطوريّات الكبرى القديمة، إذ لا مطمع فيها من مال أو ثروات طبيعيّة أو مواقع إستراتيجيّة، بل هي مَضيعة للجهود والطاقات العسكريّة والماليّة، وكان يكفي الإمبراطوريّتين المجاورتين الفارسيّة والبيزنطيّة أن تصطنع من قبائل عرب الشمال دويلات تابعة تحميها من خطر الغارات الّتي يشنّها بعض اللصوص وقطّاع الطرق المتسلّلين من الجنوب. أمّا سائر العرب فكانوا بمنأى عن تلك العلاقات السياسيّة. ولا تكفي غزوة كغزوة أبرهة الأشرم للدلالة على وجود احتكاك ذي شأن بين هؤلاء العرب وغيرهم. وأمّا الأديان الّتي اخترقت الجزيرة العربيّة كاليهوديّة والنصرانيّة والقليل من المجوسيّة، فإنّها بقيت جزراً مجتمعيّة منعزلة إلى حدّ كبير عن مجتمع الجزيرة العربيّة، ولم تكن أديانهم تلقى آذاناً مصغيّة لدى عرب الجاهليّة الّذين تعوّدوا البساطة في التفكير وسادت بينهم الأميّة وندر فيهم القرّاء والكتّاب ولم يعهدوا التأليف والتصنيف وتعاطي الأفكار.(1/41)
فحياة العربيّ تتّسم بالبساطة وهي أبعد ما تكون عن التعقيد. فالأشياء الّتي يراها حوله في الصحراء قليلة، وربّما استطعنا أن نعدّها بالرمال والجبال، وبالمياه والنخيل في الواحة، والإبل وبعض الماشيّة والدوابّ والخيام وبعض البيوت الطينيّة البسيطة، والشمس في النهار والقمر والنجوم في الليل، والقليل من أنواع الأقمشة والأطعمة وغيرها. وها هو القرآن الكريم حين يخاطبهم يراعي في ضرب الأمثلة ما يقع عليه نظرهم، فيقول: { أَفَلا يَنظُرون إلى الإبلِ كيف خُلِقَت - وإلى السماءِ كيف رُفِعَت - وإلى الِجبَالِ كيف نُصِبَت - وإلى الأَرضِ كيف سُطِحَت } (1) .
__________
(1) 1- الغاشية – الآيات من 17 حتّى 20(1/42)
وكذلك إذا نظرنا إلى عقائدهم وأفكارهم، سنجدها بسيطة تافهة . فهي تتلخّص في عبادة الأوثان وتعظيم العشيرة والتفاخر بالأموال والبنين مع التمسّك ببعض القيم والشيم كالشهامة والشجاعة والمروءة والنجدة والكرم وما شابه ذلك. وتبعاً لبساطة تلك العقائد والأفكار، كانت عاداتهم وتقاليدهم تتّسم بالبساطة وبعيدة كلّ البعد عن التعقيد. وبالتالي كانت أذهانهم صافيّة بعيدة عن التشويش والتعقيد، ولعلّ ذلك كلّه يفسِّر تميّزهم بذاكرة قويّة تجلّت أكثر ما تجلّت في حفظ الأنساب والأسماء والأشعار. وتوفّرت لديهم كمّيّة كبيرة من التعبيرات عبّروا بها عن قليل من المعاني، فكانوا أروع الناس بلاغةً وأدباً. وللجاحظ تعبير رائع عن هذه الصفات إذ يقول: « وكلّ شيء للعرب فإنّما هو بديهة وارتجال وكأنّه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنمّا هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح عن رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلاّ أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الّذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثمّ لا يقيّده على نفسه، ولا يدرِّسه أحداً من ولده. وكانوا أمّييّن لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلّفون. وكان الكلام الجيّد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر، وكلّ واحدٍ في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفّظ، ويحتاجوا إلى تدارس. وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلاّ ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتّصل بعقولهم من غير تكلّف ولا قصد، ولا تحفّظ ولا طلب »(1).
__________
(1) - أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ – البيان والتبيين – تحقيق عبد السلام هارون – دار الجيل، بيروت – دون تاريخ – ج3 –ص28(1/43)
وذلك بخلاف سائر المجتمعات المحيطة بالجزيرة العربيّة الّتي تجذّرت فيها الحضارات القديمة كالرومانيّة والفارسيّة والهنديّة والصينيّة، والّتي سادت فيها أديان النصرانيّة والمجوسيّة والغنوصيّة وغيرها. فإنّها كانت مجتمعات مثقّفة متمدّنة، ازدحمت في أذهانها الأفكار والمعلومات الّتي أغدقتها الفلسفات والأديان والنظم والحضارات والثقافات والمعارف العديدة. وكانت حياتها تتّسم بالتعقيد بما فيها من مدنيّة وعمران ووسائل ماديّة، ممّا جعل أذهان الناس فيها مشوّشة تتّسم بالتعقيد والتكلّف. فلمّا اخترقت بعضُ أديان هؤلاء الجزيرةَ العربيّة حملت معها ذلك التكلّف وامتزجت بالفلسفات والثقافات الّتي يعسر على العربيّ مضغها وهضمها، فلم يستسغها وركن إلى اللقمة السائغة الّتي ورثها عن آبائه وأجداده. وعلى حدّ تعبير "عليّ سامي النشّار"، «جاءتهم المسيحيّة من الشمال ومن الجنوب، ومشيخة العرب من أولاد إسماعيل يهزّون رؤوسهم ولا يبدون حراكاً. وأسرعت اليهوديّة إليهم وهي تحمل التوراة المحرّفة، فأنكروها ووقفوا ينظرون إليها بازدراء. بل ولّوا ظهورهم لجماعة منهم أعلنوا أنهّم "الحنفاء" على ملّة إبراهيم حنيفاً، مختتنين، متّخذين الوحدانيّة ديناً لهم . ولكنّ مشيخة العرب نأوا في فردوسهم الساكن، وفي لياليهم الصافية في قلب الصحراء عن كلّ هذا. كان يكفيهم أن يعبدوا الأصنام زلفى إلى الله، الّذي عجزت الأديان المختلفة عن أن تردّهم إليه، وأن يكون حظّهم من الفكر فلتات من اللسان أو خطرات من الحكمة، وأن يسودهم من القانون العرف والتقاليد، وأن يعرفوا من قانون الأخلاق ما وجدوه في سنّة الآباء، وألاّ يُصيخوا السمع إلى قادم أو دخيل»(1) .
__________
(1) - علي سامي النشار - نشأة الفكر الفلسفي –دار المعارف ، القاهرة – الطبعة السابعة 1977 – ج1 – ص 31(1/44)
ويبقى التعبير القرآنيّ هو الأوفى والأبلغ، إذ يقول الله تعالى: { هُوَ الّذي بَعَثَ في الأمَّيَّينَ رَسولاً مِنهُم يتلوا عليهِم آياتِهِ وَيُزَكِّيهِم ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والحِكمَةَ وإِن كانوا مِن قَبلُ لَفي ضلالٍ مُبين } (1) .
أوّلاً:
مولد الحضارة الإسلاميّة
وقيام المجتمع الإسلاميّ الأوّل
{ ِاقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الّذي خَلَقَ - خَلَقَ الإِنسانَ مِن عَلَقٍ - اقرَأ وَرَبُّكَ الأَكرَمُ - الّذي عَلَّمَ بِالقَلَمِ - عَلَّمَ الإِنسَانَ ما لَم يَعلَم } (2) .
بهذه الآيات الكريمات بدأت مسيرة نشوء الحضارة الإسلاميّة . إنّها افتتاحيّة الوحي الإلهيّ الّذي نزل على "محمّد بن عبد الله الهاشميّ القرشيّ ". نزل هذا الوحي يعلن ظهور مفهوم جديد عن الحياة لم يعهده العرب منذ قرون خلت .
إنّه دين جديد. ولكنّ كلمة دين غير وافيّة بالتعبير عنه، ولا كافية لما يتضمّنه هذا الوحي الإلهيّ من مضامين. فهو لم يستهدف تغيير العقائد الدينيّة والطقوس الكهنوتيّة الجاهليّة وحسب، بل استهدف كلّ ما يحملون من أفكار عن الحياة والكون والإنسان، وكلّ ما يعتنقون من مفاهيم سلوكيّة، وكلّ ما اعتادوا عليه من طريقة في العيش. فهو بعد أن حوّلهم عن عبادة آلهة ماديّة تافهة متعدّدة إلى عبادة الله الواحد الّذي خلق السماوات والأرض والّذي { لا تُدرِكُهُ الأَبصارُ وهو يُدرِكَ الأَبصارَ وَهُوَ اللّطيفُ الخَبير(3) } ، بدّل وجهة نظرهم في الحياة، وبدّل نظرتهم إلى السعادة، وبدّل قيمهم ومثلهم العليا، وصاغ سلوكهم وعلاقاتهم وحياتهم كلّها بنظام دقيق متكامل يطال كلّ جوانب الحياة ولا يغفل عن شيء منها.
__________
(1) - سورة الجمعة – الآية (2)
(2) - سورة العلق – الآيات: من (1) حتّى (5)
(3) - سورة الانعام – (103)(1/45)
ومِن أوفى التعبيرات في التفريق بين حياة الجاهليّة وحياة الإسلام ما رواه "ابن هشام" في سيرته على لسان "جعفر بن أبي طالب" مخاطباً "النجاشي" ملك الحبشة حين الهجرة الأولى إليها بالعبارات التاليّة: «أَيُّها الملك، كنّا قوماً أهل جاهليّة، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتّى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحُسن الجوار والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام… فصدّقناه وآمنّا به واتّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا…»(1).
ولكنّ السؤال المهمّ الّذي يطرح نفسه في هذا المجال : كيف قام المجتمع الّذي تجلّت فيه الحضارة الإسلاميّة لأوّل مرة؟
لقد بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجتمع جاهليّ، تسوده المفاهيم والمشاعر والأنظمة الجاهليّة، فكانت مهمّته أن يحّول هذا المجتمع إلى مجتمع آخر تماماً، وليس ذلك بتغيير أفراده والإتيان بآخرين بدلاً منهم، بل بتغيير مفاهيمه ومشاعره وأنظمته، أي بإزالة أفكار الجاهليّة ومشاعرها وأنظمتها وإيجاد أفكار ومشاعر وأنظمة إسلاميّة.
فما الطريقة الّتي اتّبعها في ذلك ؟
من خلال التدقيق في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابتداء من نزول الوحي، يتبيّن لنا أنّها تنقسم إلى ثلاث مراحل:
__________
(1) - ابن هشام - السيرة النبويّة – تحقيق الدكتور عمر عبد السلام تدمري – دار الكتاب العربيّ ، بيروت - الطبعة الرابعة / 1993م ج1 – ص 362(1/46)
المرحلة الأولى…: مرحلة إعداد تكتّل من الصحابة على أساس الإسلام، وتثقيفه بالثقافة الإسلاميّة.
المرحلة الثانية…: مرحلة الصدع بالدعوة والتفاعل مع المجتمع.
المرحلة الثالثة…: تطبيق الإسلام عمليّاً من خلال الدولة الإسلامية.
أمّا المرحلة الأولى :
فقد استمرّت ثلاث سنوات ، قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم -خلالها بغرس العقيدة في نفوس الصحابة، فكان يقوّي فيهم الإيمان، ويعلّمهم أحكام الإسلام، ويثقّفهم بالثقافة الإسلاميّة الحيّة، ويقيم لهم الأدلّة والبراهين على فساد العقائد والمفاهيم والأنظمة الجاهليّة، وينزع من قلوبهم مشاعر الجاهليّة كالحميّة الجاهليّة والعصبيّة القبليّة، ويبعث فيهم المشاعر الإسلاميّة المنسجمة مع المفاهيم الإسلاميّة، فيعوّدهم على الولاء لله وللرسول وللمؤمنين، ويشحذ فيهم الهمم من أجل إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، حتّى وصلوا إلى حالة لا يطيقون معها أن يبقى المبدأ حبيس نفوسهم. فالعقيدة تغلي في صدورهم، والمفاهيم الصادقة تتزاحم في أذهانهم، والواقع بما يحويه من قناعات وعادات وتقاليد، وأنظمة فاسدة مهترئة بالية، وظلمٍ لا يطاق، وفسادٍ لا يحتمل، وتسلّطٍ من شرار القوم، ووأدٍ للبنات، وتطفيف للكيل، وافتراسٍ للناس بالربا، وتقاتلٍ من أجل العصبيّة، هذا الواقع يحفّزهم ويدعوهم إلى مواجهته من أجل تقويمه.
استمرّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه المرحلة حتّى أعدّ تكتّلاً من الصحابة الّذين نضجوا في الثقافة الإسلاميّة، فقد تكوّنت فيهم العقليّة الإسلاميّة، وأصبحت نفسيّتهم نفسيّة إسلاميّة. وبذلك اطمأنّ إلى أنّه أوجد تكتّلاً من الشخصيّات الإسلاميّة الناضجة الّتي لا تمتّ إلى المجتمع الجاهليّ بصلة، وأيقن أنّ التكتّل أضحى مستعدّاً لمواجهة المجتمع القائم بكلّ جاهليّته.
وأمّا المرحلة الثانيّة :(1/47)
فقد استمرّ فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بناء كتلته وتثقيفها وزيادة عددها، وأضاف إلى ذلك عدّة أعمال كانت الأخطر والأصعب والأشدّ في حياة الدعوة الّتي عاشها تكتّل الصحابة، وهذه الأعمال هي:
الدعوة الجماهيريّة الجهريّة لنشر الإسلام وإيجاد الرأي العامّ الإسلاميّ.
الصراع الفكريّ لعقائد الجاهليّة وأنظمتها وأفكارها وللعادات الفاسدة والمفاهيم المغلوطة، ببيان زيفها والدعوة إلى تركها.
الكفاح السياسيّ، الّذي تقصّد فيه زعماء قريش، لإصرارهم على الكفر وحكم الناس بأنظمة الجاهليّة، ولوقوفهم في وجه الدعوة الإسلاميّة.(1/48)
في مرحلة الجهر بالدعوة هذه، حمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدعوة، وأظهر الكتلة الّتي تحمل معه الدعوة سافرة. وفوق ذلك فقد كانت هذه الدعوة بذاتها تتضمّن كفاح قريش والمجتمع في مكّة لأنّها كانت تدعو إلى توحيد الله وعبادته وحده، وإلى ترك عبادة الأصنام والإقلاع عن النظام الفاسد الّذي يعيشون وفقه، فاصطدمت بقريش اصطداماً كلّياً، فقد سفّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحلامهم، وحقّر آلهتهم وندّد بحياتهم الرخيصة، ونعى على وسائل عيشهم الظالمة. وينزل عليه القرآن فيهاجمهم ويقول لهم صراحة { إِنَّكُم وما تَعبُدُون مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُم لَها وارِدُون } (1)، ثمّ يهاجم الربا الّذي يعيشون عليه مهاجمة عنيفة من أصوله، فيقول تعالى في سورة الروم: { وما آتَيتُم مِن رِّبا لِيَربُوَ في أَموالِ النّاسِ فَلاَ يَربُو عِندَ الله } (2)، ويتوعّد الّذين يطفّفون الكيل والميزان، فيقول تعالى: { وَيلٌ لِلمُطَفِّفين - الّذينَ إذا اكْتالُوا على النّاسِ يَستَوفُون - وَإِذا كالُوهُم أَو وَزَنُوهُم يُخْسِرون } (3) ولهذا أخذوا يقفون في وجهه، ويؤذونه هو وأصحابه بالتعذيب تارة وبالمقاطعة أخرى، وبالدِعاوة ضدّه وضدّ دينه، غير أنّه ظلّ يهاجمهم، واستمرّ على مكافحة الآراء الباطلة، وهدم العقائد الفاسدة، والمجاهدة في سبيل نشر الدعوة. وكان يدعو إلى الإسلام بكلّ صراحة، لا يكنيّ، ولا يلوّح، ولا يلين ولا يستكين، ولا يحابي ولا يداهن، ورغم ما لاقاه من قريش من صنوف الأذى، ورغم ما يصيبه من مشقّات.
__________
(1) 1- سورة الأنبياء – الآية 98.
(2) - سورة الروم – الآية 39
(3) - سورة المطففين - الآيات1-3(1/49)
ومع أنّه فرد أعزل لا مُعين له ولا نصير من الناس، ولا عُدّة معه ولا سلاح، فإنّه جاء سافراً متحدّياً، يدعو لدين الله بقوّة وإيمان، لا يتطرّق إليه أي ضعف عن احتمال تكاليف الدعوة، والقيام بالأعباء الجسام من أجلها، فكان لذلك كلّه الأثرُ في التغلُّب على الصعوبات الّتي كانت تضعها قريش في وجهه لتحول بينه وبين الناس. وقد استطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يصل إلى الناس ويبلّغهم، فأقبلوا على دين الله، وأخذت قوّة الحقّ تعلو على الباطل، وأخذ نور الإسلام يزداد كلّ يوم انتشاراً بين العرب، فأسلم الكثير من العرب.(1/50)
تجلّى في هذه المرحلة الكفاح بين فكر وفكر، بين مسلمين وكافرين، بدأ ذلك من كتلة الصحابة حين خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه في ترتيبٍ لم تعهده العرب من قبل، وفي كتلة واحدة. ومنذ ذلك الحين صار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينشر الدعوة على الناس كافّة جهاراً نهاراً سافراً متحدّياً. فيكون لهذه الدعوة الجماعيّة والتثقيف الجماعيّ أثر على قريش، إذ ازداد حقدها وأحسّت بالخطر يقترب منها، وبدأت تتّخذ الخطوات الجدّيّة للمقاومة، بعد أن كانت بادئ الأمر لا تأبه لمحمّد ولا لدعوته، فتجلّى الكفاح السياسيّ أكثر فأكثر، فلقد نزل القرآن الكريم يهاجم "أبا لهب" عم الرسول وأحد زعماء مكّة، حيث قال تعالى: { تَبَّت يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ - مَا أَغنَى عَنهُ مَالُهُ ومَا كَسَبَ - سَيَصلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } (1)، ونزل القرآن الكريم يهاجم "الوليد بن المغيرة" الّذي تولّى المحاربة الفكريّة والإعلاميّة للدعوة فقال تعالى: { كلّاّ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنيداً - سَأُرهِقُهُ صَعُوداً - إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ - فَقُتِل كَيفَ قَدَّرَ - ثُمّ قُتِل كَيفَ قَدَّرَ - ثُمّ نَظَرَ - ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ - ثُمَّ أَدبَرَ وَاستَكبَرَ - فَقَالَ إِنْ هذا إلاّ سِحرٌ يُؤثَرُ - إِن هَذا إلاّ قَولُ البَشَرِ - سَأُصْلِيه سَقَر } (2). فازداد الأذى والاضطهاد على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه. فكانت هذه المرحلة مِن أشقّ المراحل، وكان هذا الدور من أعظم الأدوار.
__________
(1) - سورة اللهب - الآيات 1-3
(2) - سورة المدثر - الآيات 16-26(1/51)
وإنّ لنا أن نتصوّر –لو لم يكن رسول الله هو حامل الدعوة– أنّ حَمَلة الدعوة قد يتنازلون عن بعض أفكارهم ومواقفهم ويداهنون أعداءهم، ويسايرونهم حتّى يخفّفوا من نقمة المجتمع والحكّام، وحتّى يستميلوا إليهم أتباعاً لدينهم بعد إجراء التعديلات على نحو يوافق عقليّات الناس وأمزجتهم، كما يفعل كثير من أصحاب الدعوات. وعلى الرغم من أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -معصوم لا يُتصوّر منه ذلك، إلاّ أنّ القرآن الكريم يحذّره من الوقوع في تلك الحبائل الشيطانيّة الّتي يحيكها صناديد قريش، لاسيّما المداهنة والمسايرة والتملّق. فيقول تعالى: { فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ - وَدُّوا لَو تُدهِنُ فَيُدهِنُون } (1).وبعض الآيات تصرّح بأنّ الكفّار كادوا أن يصرفوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بعض الإسلام لولا تثبيت الله تعالى له، حين قال تعالى: { وَإِن كَادُوا لَيَفتِنُونَكَ عَنِ الّذي أَوحَينَا إِلَيكَ لِتَفتَرِيَ عَلَينَا غَيرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً - وَلَولا أَن ثَبَّتنَاكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئاً قَليلاً - إذاً لَأَذَقنَاكَ ضِعفَ الحياةِ وَضِعفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَينَا نَصِيراً } (2) .
__________
(1) 1- سورة القلم – الآيتان 8 – 9
(2) 2- سورة الإسراء – الآيات 73-74 - 75(1/52)
قال القرطبيّ في تفسير هذه الآيات: «هو قول أكابر قريش للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - : اطرد عنّا هؤلاء السقّاط والموالي حتّى نجلس معك ونسمع منك، فَهمّ بذلك حتّى نُهي عنه. وقال قتادة: ذُكر لنا أنّ قريشاً خلوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة إلى الصبح يكلّمونه ويفخّمونه ويسوّدونه ويقاربونه، فقالوا: إنّك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيّدنا يا سيّدنا، وما زالوا به حتّى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثمّ عصمه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية... ولَمّا نزلت هذه الآية (ولولا أن ثبّتناك ... ) الآية، قال عليه السلام: اللّهمّ لا تَكلني إلى نفسي طرفة عين... وقال ابن عبّاس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - معصوماً، ولكنّ هذا تعريف للأمّة لئلّا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه(1).
وهكذا، فإنّ هذه الأجواء الّتي عاشها الرسول- صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام في مكّة، جلبت الكثير من الضغوط المادّيّة على حملة الدعوة. إلاّ أنّنا رأينا أنّ هذه الضغوط لم يكن لها أيّ تأثير على الدعوة ولا على الفكر الإسلاميّ، فهي حقبة النبوّة، وقائد الدعوة هو محمّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنّى للجاهليّة أن تفلح في ذلك.
__________
(1) 3- محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي – الجامع لأحكام القرآن –دار الكتاب العربيّ، بيروت – دون تاريخ – ج1 – ص299-300(1/53)
منذ أن أنشأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكتّل الصحابة الّذي صدع معه بالدعوة إلى الإسلام كان يستهدف تغيير العرف العامّ السائد في مكّة، من عرف عامّ جاهلي إلى عرف عامّ إسلاميّ. ذلك أنّ تغيير ذلك العرف العامّ هو الخطوة الأهمّ في عمليّة تغيير المجتمع والانتقال به من الجاهليّة إلى الإسلام، فإنّ ذلك العرف العامّ ما هو في حقيقة الأمر إلاّ مجموع ما لدى المجتمع من أفكار ومشاعر تُكيّف سلوكه وعلاقاته ومواقفه. فإذا ما انتشر الإسلام واعتنقه الناس بغالبيّتهم في مكّة فإنّهم يكونون قد حملوا أفكاره، واعتملت في نفوسهم مشاعره، وبذلك يكون العرف العامّ قد تشكّل على أساس الإسلام –ولو على نحوٍ عموميّ- ما يؤدّي إلى وجود رأي عامّ يتلمّس الإسلام في مواقفه وآرائه. عندها لن يبقى بين المجتمع وبين أن يصبح إسلاميّاً إلاّ أن يوضع النظام الإسلاميّ موضع التطبيق من خلال السلطة والحكم، سواء أسلم أهل الحكم والسلطة وأوصلوا الإسلام إلى سدّة الحكم بأنفسهم، أو أُطيحوا بالقوّة بعد أن يصبح الرأي العامّ في مكّة إسلاميّاً يريد أن يعيش حياة إسلاميّة. وبذلك يمكن لمكّة أن تغدو النواة الأولى للمجتمع الإسلاميّ.(1/54)
إلاّ أنّ ذلك لم يتحقّق للرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكّة، فرغم أنّ الّذين دخلوا في الإسلام من المكّيّين زاد عددهم في تلك المرحلة، إلاّ أنّهم لم يصلوا إلى الحدّ الّذي يمكن أن يقال معه إنّ العرف العامّ والرأي العامّ المكّيّ أصبح إسلاميّاً، فما زال العرف العامّ السائد هو العرف الجاهليّ، والرأي العامّ هو رأي الجاهلييّن. وقد وصل الأمر مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكّة إلى أن تجمّد المجتمع في وجهه وتحجّر بحيث لم يعد هناك أيّ تفاعل بين الدعوة وبين الناس بسبب الإرهاب الّذي مارسه صناديد قريش تجاه المسلمين وكلّ من تحدّثه نفسه بالدخول في الدين الجديد. ممّا دفع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى البحث عن مجتمع جديد يحاول فيه نشر الإسلام لعلّه يكون بديلاً عن مكّة، نقطةً لارتكاز الدعوة تنتقل فيها من مرحلة الدعوة إلى مرحلة التطبيق العمليّ من خلال الحكم. وصار يعرض نفسه على القبائل الوافدة إلى مكّة، إلى أن أكرم الله تعالى أهلَ يثرب بأن يكونوا أهل نصرة الإسلام والرسول - صلى الله عليه وسلم -.(1/55)
حصل ذلك حين أسلم وفد من المدينة في أحد مواسم الحجّ على يدي الرسول- صلى الله عليه وسلم -، وعادوا إلى المدينة ليدعوا قومهم إلى الإسلام وليأتوا في الموسم التالي بمزيد من الّذين انشرحت قلوبهم لهداية الإسلام، فبايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام عند العقبة، فأرسل معهم- صلى الله عليه وسلم - الصحابّي الجليل الداعية البارع "مصعب بن عمير"، ليعلِّمهم الإسلام ويفقِّههم فيه ولينشر الإسلام في المدينة. ولم تمض سنة على وجود "مصعب" في المدينة إلاّ وقد تشكّل العرف العامّ الإسلاميّ في المدينة بعد أن دخل زعماؤها وكثير من أهلها في الإسلام. وبذلك تكفّل العرف العامّ الإسلاميّ في المدينة بركنين من أركان المجتمع الإسلاميّ ألا وهما المفهوم والشعور الإسلاميّان المبنيّان على العقيدة الإسلاميّة، فلم يبق إلاّ أن يأتي الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ليضع الأنظمة المنبثقة من تلك العقيدة موضع التطبيق من خلال السلطة والحكم، وبذلك يكون قد قام المجتمع الإسلاميّ الأوّل.
وهكذا كانت هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة تتويجاً لمسيرة تأسيس مجتمع الإسلام، حيث شرع منذ وصوله بتطبيق أنظمة الإسلام على كلّ الصعد، في الحكم والاقتصاد والاجتماع والتعليم والعقوبات والسياسة الداخليّة والخارجيّة. ووصل بذلك - صلى الله عليه وسلم - إلى المرحلة الثالثة، مرحلة تطبيق الإسلام عمليّاً من خلال الحكم والسلطان، أي من خلال "الدولة".(1/56)
ثانياً:
انتشار الحضارة الإسلاميّة
وتوسّع المجتمع الإسلاميّ
إذا كانت الحضارة الإسلاميّة قد نشأت في بلاد العرب، وبالتحديد في أرض الحجاز، فهذا لا يعني البتّة أنّ هويّتها حجازيّة أو عربيّة. وإنّما يعني ذلك فقط أنّها ارتكزت أوّل عهدها فيها، ومِن ثَمّ انطلقت إلى خارجها. فهذه الحضارة منذ أوّل يوم ولدت فيه كانت تتّسم بالسمة الإنسانيّة. إذ لم تشكِّل المجتمع الإسلاميّ الأوّل تشكيلاً عرقيّاً ولا قوميّاً ولا إقليميّاً. فقرآنها يعلن بوضوح { ومَا أَرسَلْنَاكَ إلاّ رَحمَةً لِلعَالَمين } (1) ويقول: { قُل يَا أَيُّها النَاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيكُم جَمِيعاً الّذي لَهُ مُلكُ السَمَواتِ والأَرضِ لَا إِلَهَ إلاّ هُوَ يُحِِِِِيى وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النّبيِّ الأُمِّيِّ الّذي يُؤمِنُ بِاللهِ وَكلِمَاتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُم تَهتَدُون(2) } . ورسولها يفصّل القول: «يا أيّها الناس، إنّ ربّكم واحد وأباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلاّ بالتقوى»(3).
__________
(1) 1- سورة الأنبياء - الآية 107
(2) 2- سورة الأعراف - الآية 158
(3) 3- الحافظ نور الدين عليّ بن أبي بكر الهيثميّ - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد -دار الكتاب العربيّ، بيروت- 1982 - ج3 -ص266(1/57)
لذلك كان نشر الإسلام هو أحد أهمّ أهداف الدولة الإسلاميّة. وقد جعل الإسلام الجهاد إحدى أهمّ الطرق لتحقيق هذا الهدف الّذي لم يكن من إنشاء الخلفاء الّذين تسلّموا الدولة الإسلاميّة بعد الرسول- صلى الله عليه وسلم - كما يصوّره بعض المؤرِّخين، من الغربيّين والعرب على السواء(1). وإنّما هو هدف إسلاميّ قرآنيّ نصّت عليه الآيات والأحاديث على نحو لا يحتمل الشكّ ولا الجدل، وشرع بالعمل على تحقيقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أن بسط سلطانه على الجزيرة العربيّة . قال تعالى : { وَقَاتِلُوهُم حتّى لا تَكُونَ فِتنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله } (2) وقال سبحانه: { قَاتِلُوا الّذينَ لا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِاليَومِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولَهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحقِّ مِنَ الّذينَ أُوتُوا الكِتَابَ حتّى يُعطُوا الجِزية عَن يَدٍ وَهُم صَاغِرُون(3) } . فالجهاد لم يشرع من أجل الحالات الدفاعيّة وحسب، كما يدّعي بعض المعاصرين من المثقّفين والكتّاب وأصحاب الرأي، وإنّما الهدف الأساسيّ منه هو حمل الإسلام رسالة إلى العالم.
بعد أن مدّت الحضارة الإسلاميّة جذورها في أرض الجزيرة العربيّة ووطّدت فيها أركانها، أزف وقت انتشارها خارج الجزيرة. لم يكن ذلك الانتشار من النوع الّذي عرفه التاريخ، انتشاراً بطيئاً يستغرق مئات السنين حتّى تنضج ثماره ويؤتي أكله. وإنمّا كان انتشاراً سريعاً أذهل أصحاب النظرة الواعية والمتأنية من المؤرِّخين.
__________
(1) 4- انظر : جاك ريسلر – الحضارة العربيّة – تعريب د.خليل أحمد خليل – منشورات عويدات، بيروت باريس – الطبعة الأولى 1993 - ص 42.
(2) 5- سورة البقرة – الآية 193
(3) - سورة التوبة – الآية 29(1/58)
يقول "لوثروب ستودارد" : «كاد يكون نبأ نشوء الإسلام النبأ الأعجب الّذي دُوّن في تاريخ الإنسان. ظهر الإسلام في أمّة كانت من قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان، وبلاد منحطّة الشأن، فلم يمضِ على ظهوره عشرة عقود حتّى انتشر في نصف الأرض، مخترقاً ممالك عالية الذرى مترامية الأطراف، وهادماً أدياناً قديمة كرّت عليها الحقب والأجيال، ومغيّراً ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانياً عالماً حديثاً متراصّ الأركان، هو عالم الإسلام»(1) .
وتقول "لورا فيشيا فاغليري" عن سرعة انتشار الإسلام : «إنّ التاريخ لم يشهد قطُّ ظاهرة مثل هذه من قبل. ومن العسير على المرء أن يقدِّر السرعة الّتي حقّق بها الإسلام فتوحه، والّتي تحوّل بها من دين يعتنقه بضعة نفر من المتحمِّسين إلى دين يؤمن به ملايين الناس. ولا يزال العقل البشريّ يقف ذاهلاً دون اكتشاف القوى السرّيّة الّتي مكّنت جماعة من المحاربين الجفاة من الانتصار على شعوب متفوّقة عليها تفوّقاً كبيراً في الحضارة والثروة والخبرة والقدرة على شنّ الحرب»(2).
ويعبّر "غوستاف لوبون" عن ذلك الحدث بقوله: «والحقّ أنّ هؤلاء القوم الشجعان الّذين لبّوا دعوة محمّد، وغدوا أمّة واحدة، أقاموا دولة بلغت ما بلغته دولة الرومان من الاتّساع في أقلّ من قرنين، وأنّ هذه الدولة بدت أكثر دول الأرض هيبة وتمدّناً»(3).
__________
(1) - لوثروب ستودارد - حاضر العالم الإسلاميّ – ترجمة عجاج نويهض – القاهرة 1352هـ – المجلّد الأول – ص 1
(2) - لورا فيشيا فاغليري - دفاع عن الإسلام –ترجمة منير البعلبكي – دار العلم للملايين، بيروت - الطبعة الخامسة 1981 –ص22
(3) - غوستاف لوبون - حضارة العرب - تعريب عادل زعيتر – القاهرة – دون تاريخ – ص 176(1/59)
ويقول "ماسّينيون": « إلى محمّد يدين هذا الطراز من الرجال،وهذا الطراز من الحضارة. إنّه هو الّذي جعل من "سحابة غبار" القبائل العربيّة أمّة، ومن شتات العشائر المتناحرة دولة، ومن لهجة بالكاد تكتب، لغةً لمدنيّة عالميّة. إليه وإلى حملاته العسكريّة الأولى إلى واحات الصحراء بصلابتها العجيبة،إلى تلك السرايا يرجع ذلك التنامي الواسع الّذي مدّ الإسلام مع الفتح العربيّ إلى بلاد الإيرانييّن والترك والهند والبلقان والصين وماليزيا والسودان»(1).
إنّنا لا نتكلّم هنا عن الفتوحات العسكريّة الإسلاميّة الّتي سبقت هذا الفتح الحضاريّ. فلقد عرف التاريخ فتوحاً عسكريّة لا تقلّ عن الفتح الإسلاميّ سرعة وانتشاراً، كفتوح الإسكندر المقدوني وفتوح جنكيزخان وهولاكو. ولكنّ الّذي لم يعرفه التاريخ قبل الإسلام، ذلك الانتشار الحضاريّ السريع الّذي لم تكن ثمرته تقويض إمبراطوريات وهزيمة جيوش وزوال أنظمة حكم وحسب. وإنّما كانت ثمرته تحوّل شعوب وأمم عن أديانها وعقائدها ولغاتها وتشريعاتها وطرائق عيشها بالجملة، لتغدو معاً أمّة واحدة ذات عقيدة واحدة وتشريع واحد وثقافة متكاملة ولغة رئيسة، وتخضع لراية خليفة واحد، ولتعيش حياة من طراز جديد ونمط مختلف، ولتشكّل معاً مجتمعاً جديداً، إنّه مجتمع "الحضارة الإسلاميّة" .
__________
(1) - Massignon,L.-Situation de L'Islam- Opera Minora,vol(1) Beirut-1963-p(12)(1/60)
وبتعبير "ألبرت حوراني":«إنّ ظهور الإسلام في العالم ليس حدثاً اعتياديّاً. الأغلب أنّه لم يحصل في التاريخ أنّ حركة دينيّة ناشئة في منطقة مختلفة استطاعت خلال جيل واحد أن تجتاح بعضاً من أهمّ مراكز السلطة والحضارة في العالم المعروف. وبعد ذلك أثبتت أنّها أكثر من مجرّد غزوة همجيّة عابرة، أو موضة انحسرت بالسرعة نفسها الّتي اندفعت بها. بل على العكس، لقد تركت أثراً على ألف وثلاثمائة سنة من التاريخ في ربع العالم، وعلى كافة المجالات الحضاريّة والمجتمعيّة. ما ابتدأ وعظاً دينيّاً أدّى بسرعة إلى تأسيس دولة. وعندما انهارت الدولة تركت خلفها ثقافة أدبيّة ونظاماً تشريعيّاً، ونظاماً لحياة المجتمع… والأعجب من ذلك كلّه أنّ هذه الحركة الواسعة للشعوب والأفكار والقوانين والمؤسّسات، يظهر –في التحليل النهائيّ- أنّها انبثقت من رجلٍ واحد، آتٍ من أبعد تخوم العالم المتمدّن في زمنه، والّذي وسم بصبغته عصوراً وشعوباً بعيدةً عن عصره وشعبه»(1).
فكيف حصل ذلك؟!
__________
(1) - Hourani,Albert–Europe and the middle east-the Macmilan press LTD–1980–p19-20(1/61)
بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تابع الخلفاء مسيرة حمل الإسلام رسالة إلى العالم. ففتح المسلمون العراق وكان يسكنه خليط من النصارى والمزدكيّة والزرادشتيّة من العرب والفرس، وفُتحت فارس وكان يسكنها العجم وقليل من اليهود والرومانيّين، وكانت تدين بالزرادشتيّة، وفتحت الشام وكانت إقليماً بيزنطيّاً يتثقف بثقافة الرومانيّين ويدين بالنصرانيّة ويسكنه السوريون والأرمن واليهود وبعض الرومان، وفتحت شمال إفريقيّة وكان يسكنها البربر وكانت في يد الرومان، وفتحت الأندلس النصرانيّة، وفتحت بلاد السند وخوارزم وسمرقند بما فيها من أديان وأعراق مختلفة. وكانت هذه الأقطار المتعدّدة متباينة القوميّات واللغات والأديان والتقاليد والعادات والقوانين والثقافات، وبالتالي كانت مختلفة العقليّة والنفسيّة. لذلك كانت عمليّة صهرها ببعضها وتكوين أمّة واحدة منها تجتمع على دين واحد ولغة واحدة وثقافة وقوانين من نوع واحد أمراً عسيراً وعملاً شاقّاً، يعدّ النجاح فيه شيئاً غير عاديّ، ولم يحصل لغير الإسلام، ولم يتحقّق إلاّ للحضارة الإسلاميّة. فإنّ هذه الشعوب جميعها بعد أن ظلّلتها الرايّة الإسلاميّة ودخلت في الإسلام، صارت أمّة واحدة هي الأمّة الإسلاميّة(1).
__________
(1) - انظر: تقي الدين النبهاني – الدولة الإسلاميّة – دار الأمّة ، بيروت - الطبعة السادسة 1418هـ / 1997م – ص 162-163(1/62)
يقول "هاملتون جب": «إنّ التاريخ الإسلاميّ سار في وجهة معاكسة للتاريخ الأوربّي على نحو يثير الاستغراب، كلاهما قام على أنقاض الإمبراطوريّة الرومانيّة في حوض المتوسط، ولكنّ بينهما فرقاً أصيلاً: فبينما خرجت أوربّا على نحو متدرّج لا شعوريّ بعد عدّة قرون من الفوضى الناجمة عن غزوات البرابرة، انبثق الإسلام انبثاقاً مفاجئاً في بلاد العرب وأقام بسرعة تكاد تعزّ على التصديق في أقلّ من قرن من الزمن إمبراطوريّة جديدة في غربي آسيا وشواطئ البحر المتوسط الجنوبيّة والغربيّة… أمّا الإسلام فإنّه بعد أن أقام نظاماً سياسياً شمل جميع المناطق المنشقّة -ومن ضمنها فارس الّتي كانت قد قضت قروناً وهي في صراع سياسيّ مع روما، صراع تسنده عقيدة دينيّة منافسة- واجه مهمّة أخرى هي إدخال هذه المناطق في نظام ثقافيّ دينيّ مشترك قائم على مفهومه العالميّ الشامل. فكان عليه من أجل تحقيق هذا الهدف أن يقاوم تأثير المفهوم العالميّ السابق (أي المسيحيّة) في غربيّ آسيا والنصف الجنوبيّ من حوض المتوسّط ويضعفه إلى أقصى حدّ ممكن، وأن يحطِّم الزرادشتيّة والديانات الثنويّة في فارس وما بين النهرين، وأن يقيم حاجزاً في وجه انتشار البوذيّة في أواسط آسيا(1)».
__________
(1) - هاملتون جب – دراسات في حضارة الإسلام – ترجمة إحسان عبّاس ومحمّد نجم ومحمود زايد– بيروت– دون تاريخ – ص4-5(1/63)
وهذا بالفعل ما حقّقه الإسلام. يقول "جاك ريسلر": «على الرغم من تنوّع الأعراق والشعوب المكوّنة "للإسلام" في العصر الأمويّ، القرن السابع والقرن الثامن، كان المسلمون قد بدؤوا يتميّزون بمزايا مشتركة، وكانوا يتصرّفون تقريباً بالطريقة ذاتها على الرغم ممّا كان يمكنه أن يفرّق بين الحضر والبدو، بين الأغنياء والفقراء. ذاك أنّ عقيدة واحدة مترسّخة بقوة، كانت تثير ردود فعل واحدة لدى كائنات مختلفة. كانت روحيّة القرآن تنظّم السلوك اليوميّ، وتشيع جواًّ حيويّاً، وتتوصّل من خلال تغلغلها في الأفكار إلى توحيد شكلّ العقليّات والطبائع»(1).
لم يحصل الانتشار الهائل للحضارة الإسلاميّة وانصهار الشعوب بها نتيجة الغزو العسكريّ بحدِّ ذاته، كما أنّه لم يتمّ بحدِّ السيف. وشتّان بين الانتشار العسكريّ البحت الّذي يستهدف غزو الأراضي والبلاد وبين الانتشار الحضاريّ الّذي يستهدف غزو القلوب والعقول والضمائر. فإذا كان الأوّل سلاحه السيف والرمح، فإنّ الثاني لا يتأتّى إلاّ بالفكر والحوار والدعوة والمحاجّة.
إنّ الّذي أدّى إلى هذا الانقلاب الحضاريّ عوامل عدّة يمكن تلخيصها بما يلي :
- أوامر الإسلام.
- واختلاط المسلمين الفاتحين بشعوب البلاد المفتوحة.
ودخول أهل البلاد بجملتهم في الإسلام.(2)
__________
(1) - الحضارة العربيّة – ص57
(2) - أحمد أمين – فجر الإسلام – دار الكتاب العربيّ، بيروت - الطبعة الحاديّة عشرة 1979 –ص85(1/64)
أمّا أوامر الإسلام، فهي تقضي بأن يدعو المسلمون جميع الناس إلى دينهم حيثما استطاعوا. وما الجهاد إلاّ مقدّمة لهذه الدعوة، حيث تتمثّل وظيفته في تحطيم الحواجز المادّيّة الّتي تقف عائقاً أمام الدعوة الإسلاميّة. وبعد ذلك يقضي الإسلام بترك الخيار للناس، إن شاءوا اعتنقوه وإن شاءوا ظلّوا على دينهم، واكتفى بإخضاعهم لأحكامه في شؤون المعاملات والعقوبات، ليحصل الانسجام في أعمال الناس بتوحيد النظم الّتي تعالج مشاكلهم وتنظّم أعمالهم، وليشعر غير المسلمين بأنّهم كالمسلمين يشاركون المجتمع في تطبيق النظام. وفي تعبير "لوبون": «إنّ القوّة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن ما ترك العربُ المغلوبين أحراراً في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانيّة الإسلامَ واتّخذوا العربيّة لغة لهم، فذلك لما رأوه من عدل العرب الغالبين ما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة الّتي لم يعرفوها من قبل» ثمّ يضيف: «ولم ينتشر القرآن، إذن، بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب الّتي قهرت العرب مؤخّراً كالترك والمغول»(1).
كما تقضي أوامر الإسلام بأن يُنظر إلى المحكومين نظرة إنسانيّة لا نظرة عنصريّة أو طائفيّة أو مذهبيّة، ولذلك تطبّق الأحكام على الجميع بالسواء لا فرق بين المسلم وغير المسلم، قال تعالى : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَنّ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى إِنَّ اللهَ خَبيرٌ بِما تَعْمَلُون } (2).
__________
(1) - حضارة العرب – ص 127-128
(2) 2- سورة المائدة – الآية 152(1/65)
وأمّا اختلاط المسلمين الفاتحين بغيرهم فكان من أكبر العوامل أثراً في دخولهم الإسلام وانصهارهم مع باقي المسلمين. ذلك أنّ المسلمين بعد أن فتحوا البلاد سكنوها وصاروا يعلّمون أهلها الإسلام ويثقّفونهم بالثقافة الإسلاميّة، وسكنوا معهم في بيوت متجاورة حتّى صارت البلاد مسكونة بالفاتحين وأهل البلاد الأصليّين. وقد اشتركوا في جميع شؤون الحياة وصاروا جميعاً سكّان بلد واحد يطبّق عليهم نظام واحد، ولم يعودوا فئتين غالبين ومغلوبين، وإنّما كانوا جميعاً رعيّة الدولة. ورأوا في الحكّام نوعاً آخر من الناس لم يكونوا يعرفونهم، «ذلك أنّهم اتّصلوا منذ الوقائع الأولى بسكّان البلاد المجاورة الأصليّين الّذين كان يبغي عليهم قاهروهم منذ قرون كثيرة والّذين كانوا مستعدّين لأن يستقبلوا بترحاب وحبور أيّ فاتح يخفّف وطأة الحياة عنهم، وكانت الطريق الّتي يجب على الخلفاء أن يسلكوها واضحة، فعرفوا كيف يُحْجمون عن حمل أحد بالقوّة على ترك دينه وعرفوا كيف يبتعدون عن إعمال السيف فيمن لم يسلم، وأعلنوا في كلّ مكان أنّهم يحترمون عقائد الشعوب وعرفها وعاداتها، مكتفين بأخذهم، في مقابل حمايتها، جزية زهيدة تقلّ عمّا كانت تدفعه إلى سادتها السابقين من الضرائب (…) وقد بالغ العرب في الوقوف عند حدّ هذه الشروط والتقيّد بها فأحبّهم المصريّون الّذين ذاقوا الأمرّين من ظلم عمّال قياصرة القسطنطينيّة النصارى، وأقبلوا على اعتناق دين العرب ولغتهم أيّما إقبال . ونتائج مثلُ هذه لا تُنال بالقوّة»(1).
لقد رأت الشعوب في هؤلاء الحكّام صفات عالية حبّبتهم إليهم وحبّبت إليهم الإسلام. وكان الحكّام وسائر المسلمين يتزوّجون من أهل الكتاب ويأكلون ذبائحهم وطعامهم، فكان هذا الاختلاط حافزاً لدخولهم الإسلام، لأنّهم رأوا أثر الإسلام في هؤلاء الفاتحين(2) .
__________
(1) - حضارة العرب - ص 134- 135
(2) 1- انظر : الدولة الإسلاميّة – ص 164-165(1/66)
وأمّا دخول البلاد المفتوحة في الإسلام فقد كان ظاهرة عامّة، وكان أهل كلّ قطر يدخلون في الإسلام أفواجاً، حتّى دخلت الجمهرة الساحقة من أهل البلدان المفتوحة الإسلام، وصار الناس في جملتهم مسلمين، ولم يبق الإسلام مقتصراً على الفاتحين. وبدخول أهل البلاد في الإسلام انصهروا مع الفاتحين فصاروا أمّة واحدة. «فذلك الّذي كان يعتنق الإسلام، كان يتكلّم ويكتب اللغة العربيّة ويبدو كأنّه عربيّ، إنّ في ذلك لواقعة عظمى على صعيد تاريخ الحضارة الإسلاميّة. كما أنّ تلك القوّة التوحيديّة ألغت الحدود السياسيّة وأعطت بطريقة ما صبغة موحّدة لبلدان متفاوتة ومنتشرة فوق ثلاث قارّات، لم يعد يفصل بينها فاصل منذ الآن. ففي كلّ مكان كان المسلم يجد الدين نفسه، الصلوات ذاتها، الشرائع عينها. وبفضل هذه الشعائر، كان يشعر في كلّ مكان أنّه في داره، سواء في أثناء رحلته خارج الحدود، أم في علاقاته مع تجّار البلدان الأجنبيّة»(1) .
__________
(1) 2- الحضارة العربيّة – ص 54(1/67)
لقد حقّ للأمم الّتي لم تصلها الفتوح الإسلاميّة أن تتحسّر على نفسها . فتلك الفتوح هي الّتي أنقذت الشعوب الّتي كانت على وشك ولوج عالم العصور الوسطى الّتي كابدت أوربّا أهوالها وظلامها وانحطاطها أكثر من ألف عام. يقول "غوستاف لوبون": «يُروى، مع التوكيد، أنّ "موسى بن نصير" فكّر، بعد فتح إسبانية، في العودة إلى سوريا من بلاد الغول وألمانية، وفي الاستيلاء على القسطنطينيّة وفي إخضاع العالم القديم لأحكام القرآن، وأنّه لم يعقه عن ذلك العمل العظيم سوى أمر الخليفة إيّاه بأن يعود إلى دمشق، فلو وفِّق "موسى بن نصير" لذلك لجعل أوربّا مسلمة، ولحقّق للأمم المتمدّنة وحدتها الدينيّة ولأنقذ أوربّا، على ما يحتمل، من دور القرون الوسطى الّذي لم تعرفه إسبانيا بفضل العرب»(1) . ويقول في موضع آخر: «لنفرض جدلاً، أنّ النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأنّ العرب وجدوا جو شمال فرنسا غير بارد ولا ماطر كجو إسبانيا، فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربّا؟ كان يصيب أوربّا النصرانيّة المتبربرة مثل ما أصاب إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبيّ العربيّ، وكان لا يحدث في أوربّا، الّتي تكون قد هذِّبت، ما حدث فيها من الكبائر، كالحروب الدينيّة وملحمة سان بارتلمي ومظالم محاكم التفتيش وكلّ ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع الّتي ضرّجت أوربّا بالدماء عدّة قرون»(2).
__________
(1) 3- حضارة العرب - ص 267
(2) 1- المرجع السابق - ص 317(1/68)
ثالثاً:
المجتمع الإسلاميّ..مقوِّمات وخصائص
إنّ الله تعالى خلق الإنسان، وجعل فيه طاقة حيويّة تجعله مندفعاً لإشباع حاجاته وغرائزه. ولقد أدرك الإنسان منذ القدم أنّه حتّى يتمكّن من تلبية مطالبه الفطريّة لا بدّ له من الاجتماع مع غيره من الناس لتبادل المنافع والمصالح. فكان تجمّع الناس مظهراً طبيعيّاً في هذه الحياة. إلاّ أنّ مجرّد اجتماع الناس بعضهم ببعض لا يجعل منهم مجتمعاً، وإنّما يجعل منهم جماعة، ويبقون جماعة فقط إذا اقتصروا على مجرّد الاجتماع. فإذا نشأت بينهم علاقات دائمة لجلب المصالح ودفع المفاسد، جعلت هذه العلاقات من هذه الجماعة مجتمعاً. غير أنّ هذه العلاقات لا تجعل منهم مجتمعاً واحداً إلاّ إذا توحّدت نظرتهم إلى هذه العلاقات بتوحيد أفكارهم، وتوحَّدَ رضاهم عنها وسخطهم منها بتوحيد مشاعرهم، وتوحّدت معالجاتهم لهذه العلاقات بتوحيد النظام الّذي يعالجها. ولذلك كان لا بدّ من النظرة إلى الأفكار والمشاعر والأنظمة حين النظر للمجتمع، لأنّها هي الّتي تجعله مجتمعاً معيّناً له لون معيّن(1).
فكيف استطاع الإسلام أن يصهر تلك الشعوب الّتي دخلت حظيرة الدولة الإسلاميّة على اختلاف ألوانها وألسنتها وقوميّاتها وأعراقها، وبعد أن كانت تعتنق أدياناً متعدّدة وتنهل من ثقافات مختلفة وتخضع لأنظمة شتّى وتتمتّع بعقليّات ونفسيّات متفاوتة… ليشكلّ منها مجتمعاً واحداً مختلفاً كلّ الاختلاف عمّا سبقه من مجتمعات؟!
__________
(1) 1- انظر : تقيّ الدين النبهانيّ - الدولة الإسلاميّة - ص 52(1/69)
لقد أحدث الإسلام في الشعوب الّتي اعتنقته انقلاباً عامّاً. فرفع مستواهم العقليّ، وأوجد لديهم العقيدة الإسلاميّة، فجعلها قاعدة فكريّة تبنى عليها جميع المفاهيم، ومقياساً لصحّة الأفكار وفسادها. ونقلهم من الإيمان الوجدانيّ التقليديّ الوراثيّ إلى الإيمان العقليّ، ومن عبادة الأصنام والنار والأشخاص وما شاكلها، وما تقتضيه هذه العبادة من انحطاط في النظر وإسفاف في الفكر إلى عبادة الله وما تقتضيه من فكر مستنير ونظر واسع. وجعلهم يصدّقون بالحياة الأخرى، ويتصوّرونها بالصورة الّتي أوضحها لهم في الكتاب والسنّة، وأوضح ما فيها من عذاب ونعيم، فصاروا يتصوّرونها ويرون أنّها هي الحياة الحقيقيّة. وبذلك صار للحياة عندهم معنى وقيمة لأنّها طريق لحياة أخرى أسعد وأخلد(1).
فبعد أن كان الكثير منهم ينظرون إلى الحياة نظرة ماديّة بحتة، حيث الغاية هي المنفعة المادّيّة والمال والكسب والقوّة والنفوذ، من غير التفاتٍ إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا من بعث ونشور وحساب، فلا أثر للناحية الروحيّة في حياتهم، أصبحوا في ظلّ الإسلام يرون الحياة الدنيا معبراً إلى الحياة الأخرى، فعلى الإنسان أن يعبرها طائعاً لربّه متقيّداً بشرعه مسيّراً أعماله بأوامر الله تعالى ونواهيه، فيأخذ متاع الحياة الدنيا وزينتها وزخرفها وفق حلاله سبحانه وحرامه. فمقياس أعماله بات الحلال والحرام. فكانت فلسفة الإسلام للحياة هي مزج الروح بالمادّة. ويبيّن ذلك قوله تعالى: { وَابْتَغِ فِيمَا آتاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الفَسَادَ في الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِين(2) } .
__________
(1) - المرجع السابق – ص 165
(2) - سورة القصص – الآية 77(1/70)
وبعد أن كانت السعادة تتجلّى لدى معظم الناس في نيل أكبر قسط من المتع الجسديّة، باتت السعادة لا تتأتّى إلاّ بنيل رضوان الله تعالى، { مَن عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوأُنْثَى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةًً } (1)، { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكاً } (2).
وهكذا فإنّ الإسلام أثّر في وجهة نظر الشعوب الّتي اعتنقته للحياة وللأعمال الّتي يقومون بها في هذه الحياة. وغيّر مراتب الأشياء، فرفع مرتبة أشياء وخفض مرتبة أخرى. فبعد أن كانت الحياة هي أعلى مرتبةً عند الإنسان، والمبدأ هو أقلّ مرتبة منها، قلب هذه المراتب فجعل المبدأ في المرتبة الأولى، وسخّر الحياة لخدمة المبدأ، فجعلها في مرتبة أعلى، وبذلك صار المسلم يبذل حياته في سبيل الإسلام لأنّه أغلى قيمة من الحياة، فاسترخص تحمّل المشقّات والمصاعب في سبيل الإسلام، وبذلك وُضعت الأشياء في المراتب اللائقة بها. فسمت الحياة، وشعر المسلم بالطمأنينة الدائمة. ولقد رسم الإسلام للناس مثلاً أعلى واحداً لا يتعدّد ولا يتغيّر، ألا وهو رضوان الله تعالى، بعد أن كانت لتلك الشعوب مثل عليا متعدّدة متغيّرة. وتبعاً لتغيّر المثل الأعلى عند الشعوب تغيّرت معاني الأشياء عندهم عمّا كانت عليه وتغيّر مفهوم الفضائل عمّا كان عليه، وصارت أهدافهم الكبرى تتجلّى في نصرة الدين ومجاهدة الكفر وإعلاء كلمة الله والحكم بما أنزل وإخراج البشريّة من الظلمات إلى النور…وأمّا الشجاعة الشخصيّة والشهامة الفرديّة والمناصرة العصبيّة والتفاخر بالأموال والأحساب والكرم إلى حدّ الإسراف والإخلاص للقبيلة أو للقوم والقسوة في الانتقام والأخذ بالثأر وما شاكل ذلك من الصفات الّتي كانت أصول الفضائل لدى عرب الجاهليّة وذات مراتب متفاوتة لدى غيرهم. فقد جاء الإسلام ليعطيها حجمها الصحيح، فلم يجعلها أصول الفضائل، ولم يتركها
__________
(1) - سورة النحل – الآية 97
(2) - سورة طه – الآية 124(1/71)
كما هي عليه بل جعلها صفات يتّصف بها، لا لذاتها ولا لما فيها من منافع ومفاخر، ولا لأنّها عادات وتقاليد وتراث ينبغي أن يحافظ عليها، بل بوصفها فضائل أمر الله تعالى بالتزامها طاعة له. فقد جعل الخضوع لله ولأوامره ونواهيه هو الواجب، ولهذه الاعتبارات يجب أن تخضع منافع الفرد والقبيلة والشعب والأمّة جميعاً.
وهكذا نقل الإسلام عقليّة الشعوب الّتي اعتنقته، كما نقل نفسيّتهم، فأصبحوا بعد دخولهم في الإسلام غيرَهم قبله، في شخصيّتهم كلّها وفي نظرتهم للكون والإنسان والحياة ومقاييسهم لجميع الأشياء في الحياة(1).
وفضلاً عن ذلك كلّه، لم يكن الإسلام مجرّد عقائد دينيّة وتوجيهات خلقيّة، ولم يقتصر على رسم الأهداف والمثل وتصوير معنى الحياة. وإنّما تخطّى ذلك كلّه إلى بناء مجتمع متكامل، تتماسك أركانه بمجموعة من الأنظمة المتكاملة . فلم يلتحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى إلاّ بعد أن اكتمل بناء دولة ارتكزت أوَّل أمرها في المدينة، ثمّ توسّعت حتّى شملت جزيرة العرب. كانت دولة متكاملة بكلّ ما تحمله كلمة دولة من معنى. ولكنّها دولة جديدة من نمط جديد، تقوم على أساس جديد، هو العقيدة الإسلاميّة، وتطبّق أنظمة من نمط جديد لم يعهدها العرب ولا غيرهم من قبل، سواء على صعيد الحكم أو الاقتصاد أو الاجتماع أو على صعيد السياسة الخارجيّة… إنّه نظام الإسلام.
__________
(1) 1- انظر :المرجع السابق – ص 166-167(1/72)
وهكذا لم يترك الإسلام بعقيدته ومفاهيمه وأنظمته مشكلة يمكن أن تواجه الإنسان في حياته ومجتمعه ودولته إلاّ ووضع لها الأساس والمقياس الّذي يؤهِّل المسلم لمواجهتها على نحو يحفظ عليه شخصيَّته وهويّته، وعلى نحو يكفل التكامل والتناغم بين أفكاره وسلوكه .وهذه من أعظم السمات الّتي يمكن أن تتميّز بها حضارة من الحضارات: الشموليّة والتكامل. يقول"رالف لنتون": «إنّ مهمّة أيِّ حضارة في مجموعها هي ضمان بقاء الجماعة الّتي تسود فيها تلك الحضارة واستمرار رفاهيّتها، وتصل الحضارة إلى هذه الغاية إذا ما أمدّت أعضاء تلك الجماعة بطرائق مجرَّبة ليجابهوا بها كلّ ما يستجِدّ أمامهم من مشاكل(…) وما لم توجد لها حلول مناسبة فإنّ فناء الجماعة يصبح أمراً لا محيص عنه»(1). وفي تعبير "محمّد أسد"، متكلّماً على الحضارة الإسلاميّة: «جمعت هذه الحضارة، من فجر نشأتها، كلّ المقوّمات الأساسيّة لحضارة مكتملة شاملة. فقامت في مجتمع واضح المعالم، له نظرته الخاصّة في الحياة، وله نظامه التشريعيّ الكامل وله نهجه المحدّد للعلاقات بين الأفراد بعضهم ببعض داخل هذا المجتمع»(2).
لقد أحدث الإسلام - باعتراف الجميع - انقلاباً شاملاً في الشعوب الّتي اعتنقته، ليس مجرّد انقلاب عسكريّ أو سياسيّ، بل هو انقلاب في طريقة العيش كلّها، انقلاب مجتمعات وتحوُّلها إلى مجتمع آخر ذي شخصيّة جديدة وهويّة مختلفة… إنّه انقلاب حضاريّ بكلّ ما تحمله الكلمة من معان.
__________
(1) 1- شجرة الحضارة – ج1 – ص 74-75
(2) 2- الإسلام والتحدي الحضاريّ – ص 20(1/73)
إنّ كثيراً من المؤرِّخين والمفكِّرين القارئين للتاريخ يتساءلون بحيرةٍ حين يقفون أمام صدر التاريخ الإسلاميّ: أيُعقل أن تولد حضارة شاملة، تحمل وجهة نظر متكاملة عن الحياة والمجتمع والدولة، لا تمتّ إلى الماضي بصلة؟! أيُعقل أن تولد وتثمر وتؤتي أكلها خلال نيّف وعشرين عاماً، ثمّ تستمرّ بعد ذلك، لتُبيد، في أقلّ من قرن حضارات وتصهر مجتمعات وتذيب ثقافات وتقوّض إمبراطوريات عمرت التاريخَ قروناً متطاولة؟!
لقد تعدّدت الإجابات على هذا السؤال، وتعدّدت التفسيرات للظاهرة الحضاريّة الإسلاميّة، وأحدثت جدلاً بين المفكِّرين والمؤرّخين من المسلمين وغير المسلمين، وتحكّمت الخلفيّات الفكريّة بطبيعة الحال إلى حدّ بعيد في الآراء الّتي أدلى بها المتخاصمون والمختلفون فيما بينهم. وهي الّتي سنعقد لمناقشتها فصلاً بعد الكلام على ثقافة المجتمع الإسلاميّ. وهي على قدر كبير من الأهمّيّة والخطورة، بل يمكن أن نصفها بأنّها مخّ هذا البحث.
رابعاً:
ثقافة المجتمع الإسلاميّ
إنّ من يستقري واقع المعارف لدى الأمم والمجتمعات يجد أنّها تنقسم قسمين: قسم يختصّ بكلّ مجتمع بحدّ ذاته، يعبّر عن هويّته ووجهة نظره في الحياة، وقد يختصّ ببعض الجماعات الدينيّة أو المذهبيّة أو ربّما ببعض الأفراد. وقسم آخر لا يختصّ بأمّة دون أخرى ولا بمجتمع دون آخر ولا بجماعة أو فرد، وإنّما هو ذو سمة عالميّة، بحيث يمكن أن تتداوله كلّ الأمم والشعوب والجماعات دون أن يكون له أيّ تأثير حتميّ على وجهة نظرها في الحياة أو طريقة عيشها أو هويّتها الحضاريّة.(1/74)
فأمّا عن القسم الأوّل، فإنّنا نجد أنّ المجتمعات تتمايز فيما بينها بمجموعة من المعارف، فيختصّ كلّ واحد منها بثقافة تكون له سمةً دون غيره. فلكلّ مجتمع عقائده ووجهة نظره عن الحياة، ولكلّ مجتمع مفاهيمه ومقاييسه وقناعاته ومثله العليا وأهدافه الكبرى وقيمه الخاصّة. وهذه العناصر تأتلف فيما بينها لتشكّل بنياناً ثقافيّاً متمايزاً، تملأ جوانبَهُ مجموعةٌ من المعارف الّتي تكيّفت وتشكّلت وفق طرازه. فالدراسات اللغويّة والتاريخيّة والأدبيّة وغيرها، عليها أن تساهم في إبراز تلك الثقافة، فتتمايز هي بدورها بين مجتمع وآخر. فليس الأدب العربيّ كالأدب الصينيّ ولا كالأدب الهنديّ، وليست دراسة التاريخ لدى الأميركيين كما هي لدى الروس أو لدى اليابانيّين … وهكذا .
وأمّا القسم المعرفيّ الثاني، فإنّنا نجده علوماً تتّسم بالمعرفة البحتة الخالصة من أيّ انتماء، فهي حياديّة يمكن لأيّ مجتمع أخذها والانتفاع بها أو بقسط منها ما وجد في نفسه حاجة إليها. صحيح أنّ هذه العلوم تنشأ في أرض مجتمع من المجتمعات، وصحيح أنّ بعض العلوم تحظى باهتمام لدى بعض الشعوب أكثر مما تحظى به لدى أخرى، إلاّ أنّها لا ترتبط بالهويّة الخاصّة والشخصيّة المتميّزة لتلك الشعوب، فهي عالميّة السمة وليست محلّيّة. فعلوم الطبّ والفيزياء والكيمياء والرياضيّات والهندسة والفلك وما شاكلها لا تنتسب إلى أمّة دون أخرى ولا تتمايز -في طبيعة دراستها- بين المجتمعات تبعاً لاختلاف أنماطها وطرائق عيشها، وإنْ تفوَّق مجتمع على آخر في دراستها واستخدامها وتطويرها(1/75)
فالفيزياء والكيمياء والطبّ والرياضيات وما شاكلها من العلوم يدرسها الغربيّ كما يدرسها الصينيّ وكما يدرسها الهنديّ والروسيّ والمسلم. ويمكن لهؤلاء جميعاً أن يدرسوا في جامعة واحدة وأن يعملوا معاً في مختبر واحد، إلاّ أنّهم بكلّ تأكيد سيفترقون، كلّ إلى طريقة عيشه ليمارس ثقافته الخاصّة، بعد خروجهم من قاعة الدراسة أو المختبر .
وقد أدرك المسلمون في عصور نهضتهم ذلك الفارق المهمّ بين صنفي المعرفة. وكان ثمرة هذا التفريق أن انضبطوا إلى حدّ كبير في عمليّة الاقتباس المعرفيّ من الأمم الأخرى، بحيث كانوا يميّزون بين المعارف الخاصّة بهم –والّتي جعلتهم أمّة من دون الناس، فطلبوها من مظانّها الأصيلة- وبين الفروع ذات الطابع العالميّ من المعرفة، والّتي هي خالية من أيّ هويّة خاصّة، فأخذوها من غيرهم وأسهموا فيها بقدر ما كانوا بحاجة إليها، وبقدر ما حقّقت لهم من أهداف تنسجم مع شخصيّتهم الحضاريّة.(1/76)
ولنترك الكلام للعلّامة "عبد الرحمن بن خلدون" ليوضح لنا ذلك التقسيم، إذ يقول: «اعلم أنّ العلوم الّتي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلاً وتعليماً هي على صنفين: صنف طبيعيّ للإنسان يهتدي إليه بفكره وصنف نقليّ يأخذه عمّن وضعه. والأوّل هي العلوم الحِكْميّة الفلسفيّة(1)، وهي الّتي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشريّة إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتّى يقفه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها، من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني هي العلوم النقليّة الوضعيّة، وهي كلّها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعيّ، ولا مجال فيها للعقل إلاّ في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول(…) وأصل هذه العلوم النقليّة كلّها هي الشرعيّات من الكتاب والسنّة الّتي هي مشروعة لنا من الله ورسوله وما يتعلّق بذلك من العلوم الّتي تهيّؤها للإفادة، ثمّ يستتبع ذلك علوم اللسان العربيّ الّذي هو لسان الملّة وبه نزل القرآن. وأصناف هذه العلوم النقليّة كثيرة، لأنّ المكلّف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه، وهي مأخوذة من الكتاب والسنّة بالنصّ أو بالإجماع أو بالإلحاق»(2).
ثمّ يعدِّد فروع العلوم النقليّة، فيذكر علم التفسير وعلم القراءات وعلوم الحديث والفقه وأصوله والعقائد الإيمانيّة وما تبعها من علم الكلام وعلوم اللغة والنحو والبيان والآداب. ثمّ يقول: «وهذه العلوم النقليّة كلّها مختصّة بالملّة الإسلاميّة وأهلها»(3).
__________
(1) - سوف يتّضح في السطور اللاحقة أنّ ابن خلدون يعني بكلمة "الفلسفيّة" في هذا الموضع جميع فروع المعرفة العقليّة غير الدينيّة، بما فيها العلوم الطبيعيّة .
(2) - مقدّمة ابن خلدون – ص 482-483
(3) - المصدر السابق – ص 483(1/77)
وبعد أن يعقد فصولاً للكلام على كلّ واحد من هذه العلوم النقليّة، ينتقل إلى التفصيل في أصناف العلوم العقليّة، فيقول: «وأما العلوم العقليّة الّتي هي طبيعة للإنسان من حيث إنّه ذو فكر، فهي غير مختصّة بملّة، بل بوجه النظر فيها إلى أهل الملل كلّهم ويستوون في مداركها ومباحثها وهي موجودة في النوع الإنسانيّ منذ كان عمران الخليقة، وتسمّى هذه العلوم: علوم الفلسفة والحكمة»(1).
ثمّ يعدِّد فروع تلك العلوم العقليّة، فيقول: «وهي سبعة: المنطق –وهو المتقدِّم منها- وبعده التعاليم، فالأرتماطيقيّ أوّلاً، ثمّ الهندسة ثمّ الهيئة ثمّ الموسيقى ثمّ الطبيعيّات ثمّ الإلهيّات. لكلّ واحد منها فروع تتفرّع عنه. فمن فروع الطبيعيّات الطبّ، ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات ومن فروع الهيئة الأزياح -وهي قوانين لحساب حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك- ومن فروعها النظر في النجوم على الأحكام النجوميّة»(2).
ولا يكتفي "ابن خلدون" بتعداد العلوم العقليّة وحسب، وإنمّا يتكلّم عن كلّ واحد منها على وجه الخصوص ليميّز ما هو مقبول حسب وجهة النظر الإسلاميّة عمّا هو مرفوض لتعارضه مع الإسلام ومفاهيمه. فيعقد فصلاً «في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها»(3)، فيتكلّم فيه عن فساد آراء الفلاسفة في الإلهيّات وخطأ منهجها وتعارضها مع العقيدة الإسلاميّة ومفاهيمها، ثمّ يعقد فصلاً «في إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها»(4).
إنّ هذه النصوص من مقدّمة "ابن خلدون" تشير إلى مدى انضباط المسلمين في تلقّي المعرفة والتمييز بين ما هو من معارف البشر قاطبة، وما هو من معارف الأمّة الإسلاميّة خاصّة، أي بين العلوم الطبيعيّة وملحقاتِها وبين "ثقافة المجتمع الإسلاميّ" .
__________
(1) - المصدر السابق – ص 528
(2) - المصدر السابق – ص 530
(3) - المصدر السابق - ص 568
(4) - المصدر السابق – ص 574(1/78)
وفضلاً عن أهمّيّة التفريق بين "الثقافة" و "العلوم" البحتة، يجدر بالباحث في التاريخ الثقافيّ للأمم والمجتمعات التنبّه إلى الفرق بين "الثقافة" بإطلاقها و"ثقافة المجتمع" على وجه الخصوص، ولا سيّما حين يكون البحث في الثقافة من حيث تأثيرها في تشكيل علاقات المجتمع، أو بتعبير آخر، من حيث وظيفتها في صياغة النمط الحضاريّ لذلك المجتمع(1).
ذلك أنّه إذا نظر الباحث في التراث الفكريّ والثقافيّ الّذي شهده مجتمعٌ ما خلال حقبة من التاريخ دون التدقيق في سيرة ذلك المجتمع وما يصوغ حياته وطريقة عيشه، فإنّ هناك احتمالاً كبيراً أن يقع في الخطأ والضلال في حكمه على هويّة ذلك المجتمع والثقافة الّتي تعطيه خصوصيّته الحضاريّة. وما ذلك إلاّ لأنّه -حين النظر في ذلك التراث- لم يستطع أن يفرِّق بين الجانب الّذي يعبّر عن العرف العامّ للمجتمع والّذي يوجّه حركته وينظِّم علاقاته، وذلك الجانب الّذي لم يكن معبِّراً إلاّ عن أفراد اشتغلوا ببعض الدراسات الفكريّة والثقافيّة الّتي لا تعبّر بالضرورة عن اهتمام المجتمع، أو كان معبّراً عن شريحة معيّنة –صغيرة كانت أو أكبر قليلاً– في المجتمع، أو عن بعض الجماعات المنفصلة فكراً وشعوراً عن المجتمع والمنخرطة بين جنباته. وهكذا، فإنّ من شأن الوقوع في هذا الخطأ أن يؤدِّي إلى إطلاق أحكام لا أساس لها من الصحّة على المجتمع، لمجرّد أنّ الباحث قرأ ما أنتجته حقبة من الزمان من دراسات ومؤلَّفات وآراء قد تعبّر عن ثقافة المجتمع وقد لا تعبّر عنه .
__________
(1) - راجع في بحثنا هذا: تعريف الحضارة والثقافة .(1/79)
فعلى سبيل المثال: هل يصحّ أن نعدّ كلّ ما يصدر اليوم في الولايات المتّحدة الأميركيّة، من مؤلّفات ودراسات تبرز مختلف الآراء والأفكار والتيّارات المذهبيّة والأيديولوجيّة، معبّرةً عن ثقافة المجتمع الأميركي، وبالتالي عن النمط الحضاريّ لذلك المجتمع؟ الجواب هو بالطبع: لا. إذ لا بدّ من النظر إلى ذلك المجتمع بحدّ ذاته، ما يصوغ تفكيره ويحرّك مشاعره وينظّم علاقاته ويثير نشاطه وردّات فعله. فإذا ما أمعن الباحث النظر في المجتمع على هذا النحو، أمكنه أن يقمّش من ذلك التراكم الثقافيّ والفكريّ الكبير، تلك الأفكار الّتي تشكّل مفاهيم ذلك المجتمع ومقاييسه وقناعاته وضوابط سلوكه، فيرمّم منها صورة تعبّر عن بنيانه الثقافيّ ونمطه الحضاريّ الحقيقيّ .
وكم يجدر بالباحث في تاريخ المجتمع الإسلاميّ –ذلك المجتمع الّذي شهد حركة معرفيّة لم يسبق لها مثيل في التاريخ- أن يتّبع هذه القاعدة حين النظر في ثقافة ذلك المجتمع ومسيرته الحضاريّة، فيبحث عن المحرّك الفعلي لنشاطه وردّات فعله، وعن كوامن حساسيّته وتحسّسه، وما الّذي يثير اهتمامه؟ وما الّذي يستفزّ مشاعره؟ وما الّذي يحرّك فكره؟ وما الّذي يبعثه على الثورة؟ وما الّذي يبقيه راكناً؟ وما الّذي يكترث له؟ وما الّذي لا يقيم له وزناً في حياته؟ لمن تُصغي آذانه؟ ولمن يدير ظهرَه؟…(1/80)
إن لم تبق هذه الأسئلة مرافِقة للباحث، فسوف يكوّن صورة لا تمتّ إلى ذلك المجتمع بصلة. إذ لن يتبدّى له تراتب فروع الثقافة والمعرفة في المجتمع الإسلاميّ، فيسوّي بين كتب العقائد وكتب الفلسفة وبين أبحاث التصوّف الفلسفيّ وأدب الزهد الإسلاميّ وأدب الفسق والمجون، وبين الفقه في الدين وأفكار المدينة الفاضلة، وبين مؤلَّفات السياسة الشرعيّة وما عُرّب من كتب سياسات الملك من فارسيّة وغيرها… وهكذا، لن يكون لدى الباحث الميزان والمقياس الّذي يمكّنه من معرفة الثقافة الحقيقيّة للمجتمع. وربّما قادته ميوله الفكريّة أو العصبيّة إلى تسليط الأضواء على جوانب دون أخرى على نحو يجانب الموضوعيّة. أو لربّما أدّى انهماكه في تحرّي الجوانب المتعلّقة باختصاصه الأكاديميّ إلى أن تجذب تلك الجوانب اهتمامه فلا يعود يرى في المجتمع غيرها. كأن يركّز متخصّص في الآداب نظره على المؤلَّفات الأدبيّة والشعريّة –والّتي يستأثر بالحظّ الأوفر منها شعراء المجون وأدباء كتاب الأغاني– فيقوده هذا الانغماس في ذلك البحر من الأدب والشعر –من حيث لا يدري– إلى الحكم على المجتمع الإسلاميّ بأنّه مجتمع ترف ومجون وغزل وتشبيب وخمر… وما شاكل ذلك. وبناء على ما سبق، فإنّ البحث عن "ثقافة المجتمع" يجب أن ينطلق من النظر في طبيعة تكوينه . ولقد سبق وقرّرنا أنّ المجتمع إنّما يأخذ هويّته وطريقة عيشه من أفكاره ومشاعره الّتي تكيّف سلوكه، ومن أنظمته الّتي تنظّم علاقاته.(1/81)
والمجتمع الإسلاميّ إنّما كان إسلاميّاً لمّا قام على أساس العقيدة الإسلاميّة، بما ينبني عليها من أفكار وينبثق عنها من أنظمة. فانتظام المسلمين في ذلك المجتمع بتلك الأفكار والمشاعر والأنظمة إنّما هو وليد الرسالة الإسلاميّة، الّتي بنت عقليّة ونفسيّة جديدتين، فأوجدت لنا شخصيّة إسلاميّة متميّزة. وما ذلك إلاّ بتأثير العقيدة الإسلاميّة الّتي جعلت للمسلمين نظرة جديدة إلى الحياة الدنيا ومعنى جديداً للعيش، يتلخّص في وجوب تسيير الحياة وفق أوامر الله ونواهيه. فكان ذلك الأساس هو مركز تنبُّههم، فهو الّذي تحكّم في تفكيرهم، وبالتالي في سلوكهم وانتظام علاقاتهم داخل مجتمعهم. فمفهوم الإيمان والكفر يلعب دوراً أساسياً في الجانب العَقَدي -وهو أساس تفكير الإنسان– ومفهوم الحلال والحرام يلعب دوراً أساسياً في حياة المسلمين ومجتمعهم ودولتهم وعلاقاتهم عامّة .(1/82)
بسبب ذلك كلّه، كان النشاط المعرفيّ والثقافيّ الأساسيّ في حياة المسلمين مبنيّاً على العقيدة الإسلاميّة وهادفاً إلى معرفة القواعد والمعايير السلوكيّة الّتي يحرصون على التمسّك بها لتسيير أعمالهم وفق أوامر الله تعالى ونواهيه. وبالتالي كانت المعرفة متمحورة حول قطبين أساسيّين، هما: القرآن والسنّة، بوصفهما المَعين الّذي تُستقى منه توجيهات الوحي الإلهيّ وأوامره وهداه على وجه العموم(1). فالمسلم الفرد بحاجة إلى معرفة أحكام شريعته ليتقيّد بها في حياته الخاصة، في علاقاته مع ربّه، وعلاقته مع نفسه في أخلاقه ولباسه وطعامه… والأسرة بحاجة إلى تعلّم أحكام الزواج والطلاق والبنوّة والنفقة والولاية وآداب العائلة حتّى تسير أمورها على انتظام بأوامر الله ونواهيه . والجماعة بحاجة إلى تعلّم أحكام المعاملات حتّى تسير علاقاتهم على انتظام بالشريعة. والدولة تتحرّى أنظمة الحكم والاقتصاد والاجتماع وأحكام الحرب والسلم والمعاهدات وأحكام دار الإسلام ودار الكفر، من أجل أن ترعى شؤون المسلمين بالإسلام داخليّاً وخارجيّاً. والقضاة يتحرَّون أحكام البيّنات والعقوبات من حدود وقصاص وغيرها ليحكموا بين الناس بما أنزل الله…
__________
(1) - انظر : أحمد أمين – ضحى الإسلام – دار الكتاب العربيّ بيروت – الطبعة العاشرة – دون تاريخ – ج2-ص 11-12(1/83)
يقول "أحمد أمين": «الحركة الدينيّة في صدر الإسلام كانت أكثر الحركات انتشاراً وأوسعها ميداناً، وإنّ أكثر العلماء الّذين ظهروا في هذا العصر كانوا علماء دين، وإنّ السبب في ذلك أنّ الدين ملك على الناس نفوسهم ورأوا فيه سبب وحدتهم وعلّة نهضتهم، ولولاه لظلّ العرب شيعاً وأحزاباً يضرب بعضهم بعضاً، ولولاه لقبعوا في كسر بيتهم، ولما تعدَّوا حدود بلادهم، ولما فتحوا الأمصار ودوّخوا الممالك، فهو عزُّهم في الدنيا ورجاؤهم في الآخرة. وأخلص له قوم من غير العرب فاعتنقوه وآمنوا أنّه هو السبيل لسعادتِهم، فأقبل هؤلاء وهؤلاء على القرآن يتفهّمونه، والحديث يجمعونه ويشرحونه، وأخذوا يستنبطون منها أحكام ما يعرض في هذه الدولة المترامية الأطراف من حوادث»(1).
على هذا النحو قامت حركة ثقافيّة كبيرة في المجتمع الإسلاميّ. قام بها علماء الإسلام بشتّى اختصاصاتهم. غرضُها فهم الشريعة الإسلاميّة واستنباط أحكامها لتسيير أعمال الفرد والجماعة والدولة بها. ولا شكّ أنّ فهم الشريعة الإسلاميّة يستلزم العديد من الوسائل المعرفيّة، الّتي لا يتأتّى لولا استيفاؤها فهم نصوص الشريعة حقّ الفهم .
فالقرآن والسنّة، بوصفهما المصدرين الرئيسيين للتشريع، شكّّلا معاً المحور الّذي تدور حوله الثقافة الإسلاميّة ومعارف المثقّفين وعامّة الناس معاً. فتفسير القرآن والحديث النبويّ واستنباط الأحكام الشرعيّة منهما كان الشغل الشاغل لمعظم العلماء والدارسين والمثقّفين. إلاّ أنّ هذه المهمّة الكبرى-مهمّة فهم القرآن والسنّة واستنباط الأحكام منها- كانت تستوجب العديد من الدراسات الّتي تُعين عليها، وهي الّتي يسميّها بعض العلماء -ومنهم ابن خلدون-"العلوم الآليّة"، ويسمّيها البعض بالعلوم الموصلة.
__________
(1) 2- فجر الإسلام - ص 194(1/84)
فلا يمكن فهم القرآن والسنّة - وهما المَعين الّذي نبعت منه الشريعة الإسلاميّة – دون معرفة اللغة العربيّة حقّ المعرفة، بنحوها وصرفها ومعانيها ووجوه دلالات ألفاظها… فكانت الدراسات الّتي وُضعت لضبط قواعد النحو والصرف وغيرها جزءاً مهمّاً من حركة الثقافة الإسلاميّة .
كما أنّ استنباط الأحكام من الأدلّة الشرعيّة –وهو ما يعبَّر عنه في الفكر الإسلاميّ بالاجتهاد– يحتاج إلى قواعد ينضبط بها المجتهدون حين النظر في القرآن والسنّة وإجماع الصحابة، فيعرفون دلالة العامّ والخاصّ ودلالة المجمَل والمبيَّن والمطلَق والمقيَّد ويفرِّقون بين الناسخ والمنسوخ، ويقفون على دلالة الأمر والنهي وما شاكل ذلك . من هنا نشأ علم أصول الفقه الّذي وضع حجرَ الأساس فيه الإمام "محمّد بن إدريس الشافعيّ"(1) المتوفّى سنة 204هـ. فكانت الدراسات في أصول الفقه من أهمّ فروع الثقافة الإسلاميّة(2) .
__________
(1) - الإمام الشافعيّ (150-204هـ)
…محمّد بن إدريس بن العّباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطّلبي، أبو عبد الله: أحد الأئمّة الأربعة عند أهل السنّة. وإليه نسبة الشافعيّة كافّة. وُلد في غزّة بفلسطين وحُمل منها إلى مكّة وهو ابن سنتين. وزار بغداد مرّتين. وقصد مصر سنة 199هـ فتوفّي بها. قال المبرّد: كان الشافعيّ أشعر الناس وآدبهم وأعرفهم بالفقه والقراءات. وقال الإمام ابن حنبل: ما أحدٌ ممّن بيده محبرة أو ورق إلاّ وللشافعيّ في رقبته منّة. أقبل على الفقه والحديث، وأفتى وهو ابن عشرين سنة. وكان ذكيّاً مفرطاً. له تصانيف كثيرة، أشهرها كتاب "الأمّ" في الفقه، و"المسند" في الحديث. و"الرسالة" في أصول الفقه والعديد من المصنّفات.(الزركلّي)
(2) 2- انظر: مقدّمة ابن خلدون – ص 501 وما بعدها .(1/85)
كما أنّ معرفة الحديث الصحيح من الضعيف أو الموضوع كانت من أهمّ مقتضيات دراسة الشريعة الإسلاميّة. ذلك أنّ المجتهد بحاجة لمعرفة المقبول من الأحاديث ليتّخذه دليلاً على الأحكام ويستبعد ما سواه. من هنا نشأ علم مصطلح الحديث وما اقتضاه من علم الرجال الّذي عني بتراجم رواة الحديث، لتمييز الثقة الّذي تقبل روايته من غيره من الرواة الضعفاء. فكان ذلك الاختصاص أيضاً من أهمِّ فروع الثقافة الإسلاميّة(1) .
وبمناسبة الكلام على علم الحديث ومصطلحه، لابدّ من وقفة قصيرة، عند"علم التاريخ" لدى المسلمين الّذي كانت نشأته مرتبطة بالعديد من فروع الثقافة الإسلاميّة، ولاسيّما الحديث والسيرة النبويّة وعلم الرجال. وكان في منهجه من خصائص الثقافة الإسلاميّة بما تميّز به من أصالة وتفرّد.
يقول "أسد رستم" «أوّل من نظّم نقد الروايات التاريخيّة ووضع القواعد لذلك علماء الدين الإسلاميّ, فإنّهم اضطروا اضطراراً إلى الاعتناء بأحوال النبيّ وأفعاله لفهم القرآن وتوزيع العدل...فانبروا لجمع الأحاديث ودرسها وتدقيقها, فأتحفوا علم التاريخ بقواعد لاتزال, في أسسها وجوهرها, محترمة في الأوساط العلميّة حتّى يومنا هذا».(2)
فأوّل ما عني به من التاريخ الإسلاميّ سيرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وما يتبعها من مغازٍ. وقد اعتُمد فيها على ما رواه الصحابة والتابعون ومن بعدهم عن حياة النبيّ من ولادته ونشأته ودعوته إلى الإسلام وجهاده المشركين وغزواته وغير ذلك من سِيَر حياته إلى وفاته.
__________
(1) - انظر : المرجع السابق – ص 488 وما بعدها
(2) - أسد رستم – مصطلح التاريخ – المكتبة العصريّة، بيروت – 2002 – ص5(1/86)
ثمّ اتّجه المؤرِّخون بعد ذلك إلى تدوين أحداث عهد الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم. وكان الدافع الأساسيّ وراء هذا النشاط التأريخيّ دافعاً تشريعيّاً. فأعمال الخلفاء الراشدين, في التعامل مع البلدان المفتوحة في عهدهم وفي الاقتتال الداخليّ فيما بين المسلمين, عُدَّت من قِبل العديد من الفقهاء فيما بعد أدلّة شرعيّة على العديد من الأحكام الفقهيّة المتعلّقة بالأراضي وتقسيمها بين خراجيّة وعَشريّة, وعلى الأحكام المتعلّقة بأهل الذمّة والمعاهدين والمستأمنين وأحكام الحرب والسلم والأحكام المتعلّقة بقتال البغاة والمرتدّين. والجدير بالذكر في هذا المجال, أنّ تصرّفات الخلفاء الراشدين لم تكتسب أهميّتها من حيث هي تصرّفات لرؤساء الدولة وحسب, وليس أيضاً بوصفها اجتهادات صحابة كبار فقط, وإنّما من حيث هي تعبير في كثير من الأحيان عن إجماع الصحابة, وهذا هو الأهمّ. فالعصر هو عصر الصحابة الّذين يُعدّ إجماعهم لدى جمهور فقهاء المسلمين من أدلّة التشريع الإسلاميّ. فتاريخ الصحابة إذاً مادّة من موادّ التشريع.
أضف إلى ذلك أنّ الفقهاء كانوا بحاجة إلى تتبُّع تاريخ الفتوح حتّى بعد العهد الراشديّ من أجل معرفة أيّ البلاد فُتح صلحاً وأيّها فُتح عنوة, لأنّه يترتّب على ذلك تحديد الحكم الشرعيّ لهذه الأراضي من حيث هي أراضٍ خراجيّة أم عشريّة. لذلك رأينا أنّ قسطاً وافراً من مدوّنات السنن والحديث تشمل هذه الأخبار التاريخيّة.(1/87)
كلّ هذه العوامل دفعت عدداً من المؤرِّخين إلى متابعة تدوين التاريخ الإسلاميّ بقرونه العديدة وفق المنهج ذاته الّذي اعتمده المحدّثون ورواة السنن, أي الأخبار مُسنَدةً إلى سلسلة رُواتها. وإن كانت تلك الأخبار التاريخيّة بحاجة إلى مزيد من التحقيق والتدقيق, ولاسيّما من حيث السند, إذ لم تحظَ بتلك العناية الّتي حظيت بها أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته من بعده. وهذا ليس مستغرباً, فالنصوص التاريخيّة المتأخّرة ليست مادّة تشريعيّة كما هو شأن أخبار العهد النبويّ والراشديّ.(1)
وكان أبرز الّذين دوّنوا التاريخ على هذا النحو الإمام "ابن جرير الطبريّ" الّذي بدا كتابه "تاريخ الرسل والملوك", كما يقول "حسين مؤنس" «من الأعمال الحاسمة في تاريخ الفكر العربيّ كلّه, وتاريخ التاريخ في العالم, إذ لم يؤلَّف مثلهُ طوال العصور الوسطى في الشرق والغرب».(2)
__________
(1) - انظر في هذا الموضوع : ضحى الإسلام – ج2 – من ص319 إلى ص340
(2) - نقلاً عن: محمّد فتحي عثمان – المدخل إلى التاريخ الإسلاميّ – ص166(1/88)
إلاّ أنّ المهمّة الكبرى في ثقافة المجتمع الإسلاميّ إنّما وقعت على عاتق المجتهدين وسائر الفقهاء بشتّى مراتبهم. ذلك أنّ العامّة من الناس والغالبيّة منهم، ليسوا من العلماء ولا المتبحّرين في العلوم الشرعيّة، فهم بحاجة إلى اللقمة السائغة الّتي يقتاتونها –في سلوكهم اليوميّ– بعد نضجها، وإلى الشراب السلس بعد مزجه، وإلى الدواء الناجع بعد استخلاصه. فكان المجتهدون وتلامذتهم من الفقهاء هم قِبلة أنظارهم في حياتهم اليوميّة. فهم الّذين يقدّمون ثمرة جهود سائر العلماء –من لغويّين ومفسّرين ومحدّثين وأصوليّين– بعد مزجها بعناية ودقّة، لتثمر لنا فقهاً متكاملاً شاملاً، هو قوام حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة. وكلّما استجدّت في حياة المسلمين مسائل جديدة ومشاكل مستجدّة بتجدّد الأيام وتوسّع دار الإسلام، توجّهت أنظارهم نحو الفقهاء ليستمدّوا منهم الحكم الشرعيّ، فيتّخذوه رأياً ومفهوماً لهم ومعياراً لسلوكهم .« فكان موقف الفقهاء من هذه المشاكل من أصعب المواقف وأشدِّها عناء، وكانوا هم من جانبهم من أكثر الناس نشاطاً وتحمّلاً للعبء(1)».
__________
(1) 3- فجر الإسلام – ص 246(1/89)
ولم تكن هذه الظاهرة –ظاهرة اتّباع الفقهاء – مقتصرة على عامّة الناس في المجتمع، بل كانت الدولة تدين لهم في تبنيّ جميع ما يلزمها من أنظمة لرعايّة شؤون الناس. فتلك الأنظمة في حقيقتها -سواء ما تعلّق منها بالحكم أو الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة الخارجيّة- ما هي إلاّ مجموعة من الأحكام الشرعيّة الّتي تولّى المجتهدون استنباطها، وأدرجها الفقهاء ضمن موسوعاتهم ومصنّفاتهم الفقهيّة، «فرأينا أبا يوسف في كتابه "الخراج" يضع النظام الماليّ لدولة الرشيد، فيقرّر نظام الأرض ومسحها، وما يؤخذ منها وكيف يكون ذلك، ويضع نظام الضرائب على غير الأرض ممّا يُخرج البحر وغيره، ويضع نظام الريّ من الآبار والأنهار . ونجد الأئمّة الأربعة وغير الأربعة يجتهدون في وضع القوانين من ماليّة وجنائيّة وما يسمّى بالأحوال الشخصيّة»(1).
وقد ألّف بعض الكتّاب من غير الفقهاء بعض الكتب في سياسة الحكم وإدارة الدولة، كما فعل "ابن المقفّع" في رسالته إلى الخليفة، والّتي سمّاها «رسالة الصحابة»، إلاّ أنّ الخلفاء لم يكونوا يلتفتون إلى أمثال هؤلاء، وإنمّا كانوا يلجؤون إلى علماء الشريعة أمثال "الإمام مالك" و"أبي يوسف" و"أبي حنيفة" و"الشافعيّ"(2)…
__________
(1) 1- ضحى الإسلام – ج1 - ص 271
(2) 2- المرجع السابق – ج1 – ص 216(1/90)
وهكذا كان علماء الشريعة هم القوّامين على فكر المجتمع وحسِّه والموجِّهين لحركته، وكانوا أصحاب السلطان الحضاريّ في المجتمع الإسلاميّ، بل كانوا صمام الأمان الّذي أُنيطت به مسؤوليّة ضبط مسار المجتمع وحمايته من الانحراف عن هويّته الإسلاميّة، فإذا قصّروا فيها انعكس الأمر وبالاً على المجتمع برمّته. وها هم حين أساؤوا في أداء المهمّة الّتي وكلوا بها، تحوّل الناس إلى مذهبيّات متعصّبة، يتقاتلون في بعض الأحيان بدافع من عصبيّتهم لمذهبهم، فيجرّوا الخراب إلى مدنهم وقراهم وأحيائهم(1). إلاّ أنّ تلك الأحداث بقيت - على مأساويّتها – تنتصب دليلاً على قوامة الفقهاء على المجتمع.
إنّ ما سلف من الكلام عن علماء الشريعة وما لهم من أثر في الحياة الإسلاميّة، إنّما تبرز ثمرته في محاولة النظر إلى ماهيّة "ثقافة المجتمع الإسلاميّ" والمكوِّن الأساسيّ لها. فإنّه إذا ثبت أنّ هؤلاء العلماء إنّما يَصدرون في علمهم وفقههم وآرائهم عن الإسلام عقيدةً وشريعة، وينطلقون من القرآن والسنّة، ثبت بطبيعة الحال أنّ ثقافة المجتمع هي ثقافة إسلاميّة بقدر ما يستلهم أفكاره وأحكامه ومواقفه وقناعاته ومقاييسه من هؤلاء العلماء .
__________
(1) 3- انظر: أحمد أمين – ظهر الإسلام – دار الكتاب العربيّ ، بيروت – الطبعة الخامسة –دون تاريخ – ج2 – ص 4-5(1/91)
لقد أدرك جميع الباحثين سواء أكانوا من المسلمين أو غيرهم من المستشرقين وسائر المؤرِّخين الغربيّين سلطان الشريعة وعلمائها على المجتمع الإسلاميّ، وهو سلطان ثقافيّ حضاريّ لا ماديّ. فمن ذلك على سبيل المثال ما يقوله "دومينيك وجانين سورديل": «يجب أن يربط بالإسلام حقّاً نوع من الثقافة يتميّز على الصعيد العقليّ ببروز العلوم الفقهيّة والدينيّة الّتي قامت على احترام التقليد، والّتي وفّرت للإسلام بنيته المذهبيّة. ويصدر عن الإسلام أيضاً نمط اجتماعيّ يولي المقام الأوّل –إلى جانب سلطة زمنيّة مسلّم بها أكثر مما هي مبرَّرة– للعلماء والفقهاء والقضاة الّذين يُعتبرون جدّاً –من قبل معاصريهم– مخوَّلين مكانةً معنويّة لا تُطال، هذا إذا لم نقل آمرة قاهرة. من هنا يأتي هذا الحرص على التقليد الشرعيّ وهذا الاحترام لمفسّري الشريعة اللّذان يلوّنان أخلاقيّاتٍ -عامّة أو فرديّة– يسيطر عليها التطبيق الدائم للفرائض الدينيّة»(1) .
إلاّ أنّ كثيراً من الباحثين الغربيّين أبوا إلاّ أن ينسبوا الشريعة الإسلاميّة إلى مصادر تاريخيّة سابقة أو معاصرة لظهور الدعوة الإسلاميّة. فكان من أبرز المقولات في ذلك المجال القول بأنّ الفقه الإسلاميّ تأثّر بالتشريع الرومانيّ إلى حدّ كبير. فما مدى صدق هذا الادّعاء ؟
__________
(1) 1- دومينيك وجانين سورديل - الحضارة الإسلاميّة في عصرها الذهبي – ترجمة حسني زينة – دار الحقيقة ، بيروت – الطبعة الأولى 1980 – ج1 – ص 11(1/92)
إذا صحّت مقولة هذا الفريق، فإنّ هذا يعني سقوط القول بأيّ تفرّد ذي قيمة للمجتمع الإسلاميّ. ذلك أنّ الفقه هو عماد حياة المجتمع الإسلاميّ، فإذا ثبت عدم أصالته، فلم يعد هناك الكثير من الأشياء الّتي يمكن أن تجعلنا نتكلّم عن تميّز أو خصوصيّة ذات شأن في المجتمع الإسلاميّ. وبعبارة أخرى: لا يعود هناك مبرّر للكلام عن حضارة إسلاميّة مستقلّة قائمة بذاتها. وسيكون حينئذ من حقّ "دومينيك سورديل" أن يطرح سؤاله الخطير: «هل يوجد، أم لا، فكر إسلاميّ، وثقافة إسلاميّة، وفقه إسلاميّ، واقتصاد إسلاميّ، وحضارة إسلاميّة ؟ وهي تساؤلات تبقى دائماً معلّقة»(1). ومهمّة الصفحات القادمة من هذا البحث البتّ في هذه القضايا.
__________
(1) 2-دومينيك سورديل - الإسلام في القرون الوسطى - التنوير, بيروت - 1983 - ص 208(1/93)
الفصل الثاني
نشأة الحضارة الإسلاميّة
توطئة:
نشوء الحضارات البشريّة
من الأسس الّتي يسلّم بها معظم المؤرِّخين -إن لم نقل جميعهم- أنّ الحضارات البشريّة لا تولد في التاريخ على نحو مفاجئ دون سابق إنذار، أو دون عوامل وإرهاصات تكون مقدِّمة لنشوئها. فالحضارة إنّما هي طريقة في العيش استقرّ عليها جماعة من الناس جعلتهم مجتمعاً متميّزاً عن غيره. ولّما كانت طريقة العيش هذه تعبيراً عمّا يحمل الناس من أفكار ومشاعر وما ينتظم علاقاتهم من أنظمة، فمن الطبيعيّ أن لا نتوقّع ولادة هذه الحضارة في فجاءة من التاريخ، ما دامت تقوم على أسس من المفاهيم والأنظمة والعادات والتقاليد الّتي يحتاج تكوّنها إلى مخاضات عسيرة من شتّى الأنواع، وبعد أن تتكوّن ويتشكّل المجتمع وفقها فإنّه يتمسّك بها تمسّك الأمّ بوحيدها. وبالتالي فإنّ تبديلها بعد استقرارها وتشكّل حياة المجتمع وفقها سيكون أيضاً في غاية الصعوبة، إن لم يكن متعذّراً، ما لم تتوافر العوامل الكافية، الّتي قد تكون مزيجاً من العوامل التاريخيّة والسياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والفكريّة وغيرها.
لذلك من المعتاد حين نقرأ التاريخ، بما فيه من مجتمعات وما تلوّنت به من حضارات، أن نتتبّع عوامل نشوء حضارةٍ ما قبل نضوجها واستوائها قائمة بين صفوف الحضارات، والأسبابَ الكامنة وراء تأجيل ظهورها أو تعجيل هذا الظهور… إلاّ أنّه من الصعب أن نحدّد تاريخاً معيّناً لولادة حضارةٍ ما. إذ الحضارات تنساب من ثنايا بعضها البعض انسياباً، بحيث نجد أنفسنا عاجزين عن التعامل معها كما نتعامل مع نشوء الدول والإمبراطوريّات ومن ثَمَّ اندثارها. فلَئنْ أمكننا تحديد ولادة دولة من الدول في اليوم الّذي حصل فيه انقلاب عسكريّ أو معركة عسكريّة أدّت إلى قيام تلك الدولة أو تسلّم أسرة من الأسر للسلطة وعضّها عليها، ومن ثَمَّ أمكننا التأريخ لنهاية هذه الدولة على الأساس ذاته، فإنّ هذا ما لا يتأتّى في التأريخ لنشوء الحضارات .(1/94)
قد يصطلح المؤرّخون على التأريخ لحضارةٍ ما مع قيام دولة من الدول، باعتبار أنّ تلك الدولة قامت على أسس تلك الحضارة وتشكّلت بها وأبرزتها حيّة قائمة في معترك الحياة السياسيّة. إلاّ أنّهم بالتأكيد لن يعدّوا قيام هذه الدولة حدثاً حضارياً منقطعاً عن المراحل التاريخيّة السابقة له. بل يدرسون تلك المراحل بوصفها مهداً لتلك الحضارة، أو بوصفها التربة الّتي نبتت فيها وترعرعت حتّى قامت مستويّة على أصولها. وبتعبير "غوستاف لوبون" : «نعم، إنّ أعمال الرجال وآثارهم تعبّر عن أفكارهم ومشاعرهم وتمكِّننا من تصوّر الّذي كانوا فيه، ولكنّ هذا لا يكفي، فالأمم نتيجة ماضٍ طويل وليست الأمم بِنْتَ ساعة واحدة، وهي محصول ما خضعت له من البيئات المختلفة التأثير، ولذا يفسَّر حاضرها بماضيها»(1). فإذا اصطلح المؤرِّخون على جعل قيام الدولة الرومانيّة الأولى في روما بداية لدراسة الحضارة الرومانيّة، فهذا لا يعني أنّهم قطعوها عن الحضارات السالفة، بل هم يعدّون الحضارة الرومانيّة وريثة الحضارة اليونانيّة، بل يرى الكثير منهم أنّها امتداد لها. والحضارة اليونانيّة في نظرهم هي ثمرة امتزاج العديد من الظواهر الحضاريّة السابقة لها والمعاصرة، إضافة إلى إبداع الشعوب اليونانيّة وتأثير بيئتها…
__________
(1) 1- حضارة العرب – ص 32(1/95)
وهذه الأمثلة تقودنا إلى استكمال مسألة نشوء الحضارات. فإذا كانت الحضارات لا تولد مرّة واحدة بل تنشأ رويداً رويداً، فإنّ نشوءها هذا لا يمضي مستقلاًّ بمعزل عن بقيّة الحضارات. ذلك أنّه وإن كانت المجتمعات البشريّة تشكّل دوائر مستقلّة وكيانات فريدة، إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ جدراناً فولاذيّة ضُربت فيما بينها وجعلتها منعزلة تمام الانعزال بعضها عن البعض الآخر، بل إنّ الاحتكاك بين هذه المجتمعات أمر حتميّ، ولا سيّما حين تكون متجاورة في الزمان والمكان. قد تتعدّد وجوه هذا الاحتكاك، إلاّ أنّه بالنتيجة احتكاك له تأثيره، القليل أو الكثير، السلبيّ أو الإيجابيّ، المتبادل أو غير المتبادل. من هنا، نقرأ في التاريخ عن تأثّر الحضارة الرومانيّة باليونانيّة، وتأثّر تلك الأخيرة بحضارات بلاد ما بين النهرين، وهذه بدورها وليدة الحضارة السومريّة الّتي تأثرت بالحضارة المصريّة بشكل من الأشكال …
من هنا أيضاً نقرأ عن التأثير المتبادل بين حضارات الشرق الأقصى المختلفة(1)... ولنفسح المجال أمام أحد أفضل التعابير عن هذه الحقائق، بقلم "محمّد أسد":
«إذا حاول المؤلِّف أن يمتدّ بنظره إلى ما وراء نضج حضارة ما واستوائها، فقد يستبين صورة هذه الحضارة في مراحلها الغضّة الأولى. ولكنّه سوف يعجز عن أن يتبيّن توقيت ميلاد هذه الحضارة أو طريقة نشوئها على نحو محدّد.
« ولعلّ هذا العجز عن التقصّي التاريخيّ راجع إلى أنّ الحضارات بوجه عامّ لا يمكن أن تولد كما يولد الأفراد، بل إنّها تنساب في غير تمايز إحداها في الأخرى دون أن تكون بين كلّ منها مرحلة انتقال بيّنة محدّدة .
__________
(1) 2- انظر : محمّد أسد وآخرون – الإسلام والتحدي الحضاريّ – من ص 15 حتّى 24(1/96)
« ولقد نستطيع حقّاً في أحيان كثيرة أن نتبيّن نسبة حضارة ما فنردّها إلى أصولها إذا تناولنا بالتحليل ما تركت من أساطير وعادات وخرافات، وخلّفت من تراث فكريّ شاركت فيه غيرها من الحضارات الّتي عاصرتها أو سبقتها .
« ولكنّنا لا نستطيع أن نحدّد أو نعيّن فترة الانتقال بين حضارة سلفت وأخرى تلتها نعنيها بالبحث والتمحيص. ويصدق هذا القول على الحضارات كلّها: ما هو قائم منها وما اندثر وزال»(1).
وبعد أن يضرب العديد من الأمثلة التاريخيّة يقول :
«وكم في التاريخ البشريّ من حركات تفوق الحصر، انفردت كلّ منها بلون خاصّ تميّزت به واستقلّت فدعوناها لذلك حضارات»(2).
ولكن مهلاً… إنّ الباحث يجب أن يستوقف نفسه عن الانسياق وراء هذه الأفكار حين يشرع في دراسة الحضارة الإسلاميّة ونشوئها ومصادر استمدادها. هل ينطبق بالضرورة ما سلف من أفكار، على دراسة الحضارة الإسلاميّة ونشوئها؟ أليس لكلّ قاعدة استثناء؟ أليس من الممكن أن يؤدّي انسياقنا وراء هذه القواعد إلى تقويض الأسس الّتي قرّرناها لبحثنا هذا ؟و إن لم تنطبق هذه القاعدة على الحضارة الإسلاميّة، فكيف إذاً نشأت هذه الحضارة؟الإجابة على هذه التساؤلات مهمّة الصفحات التالية.
أوّلاً:
كيف نشأت الحضارة الإسلاميّة؟
آراء ونظريّات
هل الحضارة الإسلاميّة وليدة حضارات أخرى؟! هل تكوّنت من فُتات الحضارات؟! أو هل نُسجت من الخيوط المنسولة من أثواب تلك الحضارات؟!
__________
(1) - المرجع السابق - ص 16
(2) - المرجع السابق - ص 19(1/97)
هل كانت بذرة هذه الحضارة مختبئة منذ مئات السنين في تربة صحراء الجاهليّة، وتفتّقت بين جذور زروعها، ونبتت في أرضها، وترعرعت في رحابها، واستقت بمياهها، واغتذت بسمائها، وأورقت في جوّها، وتنفسّت هواءها، والتفحت بشمسها، وكبرت فالتهمت ما سواها، وأورفت بظلالها على الصحراء، ثمّ مدَّت فروعها إلى خارج الجزيرة فعانقت فروع الحضارات، فأذابتها وشربت عصارتها واغتذت من عديد فروعها، لتثمر بعد ذلك ثمرها وتؤتي أكلها الّذي يتميّز بطعم جديد ونكهة خاصّة حوت سائر النكهات، مزجتها كما يمزج الناس الثمار ويذيبونها ليتلذّذوا بنكهة مزيج الفاكهة ؟!!
هل هذه الصورة الّتي يحاول العديد من المؤرِّخين -ولاسيّما الغربيّين منهم ومن نهج نهجهم _ أن يعتمدوها حين تفسير نشوء الحضارة الإسلاميّة ودخولها ميدان التاريخ هي الصورة الصحيحة التي تنطبق على واقع الحضارة الإسلاميّة وتاريخ نشوئها؟!(1)
ها هو "محمّد أسد" الّذي صوّر لنا عمليّة نشوء الحضارات وتمازجها وتأثيرها المتبادل أدقّ تصوير، يستدرك على كلّ ذلك فيقول:
«واضح إذن أنّنا مهما أوغلنا في التنقيب والبحث في ما سلف من حضارات البشر، فلن نجد توقيتاً معيناً نستطيع أن نحدّده بدءاً لحضارة ما، أو تاريخاً لمولدها، ولا أن نعيّن حدّاً فاصلاً يميّز بين حضارة ولّت وأخرى أشرق عليها النور وتبدّت للوجود.
« ولكنّ هناك استثناء واحداً لكلّ ما أسلفنا من قول، استثناء تكاد لغرابته تذهل العقول وتنعقد الألسنة، فلم يذكر تاريخ البشر فيما عرفه الناس من حضارات سوى حضارة واحدة برزت للوجود من عالم الغيب دفعة واحدة، واستوت للناظرين قائمة على أصولها في فترة محدودة من تاريخ البشر، تلك ولا شكّ حضارة فذّة من نوع فريد وإنّها لحضارة الإسلام .
__________
(1) - انظر على سبيل المثال: لوثروب ستودارد – حاضر العالم الإسلامي – م1 – ص453، وأحمد أمين – فجر الإسلام – ص139(1/98)
«فلئن قامت كلّ الحضارات الأخرى ونشأت رويداً رويداً من تراث الماضي بما حوى من ضروب الرأي وتيارات الفكر، واستغرقت في تبلورها إلى شكلها الخاصّ وكيانها المحدّد آماداً طويلة من الزمن، فلقد انفردت حضارة الإسلام وحدها بانبجاسها إلى الحياة دون سابق عهد أو انتظار »(1).
وها هو "عليّ سامي النشّار" يقرّر أنّه عشيّة ظهور الإسلام، «لم يكن لباحث من باحثي الحضارات والفكر أن يتصوّر أنّ دورة الدين ودورة الحضارة والفكر ستنتقل إلى الجنوب، إلى الجزيرة العربيّة، حيث يعيش شعب غريب الأطوار مشتّتاً في بوادي ونجاد الصحراء الشاسعة الواسعة القاسية... أمّة صحراويّة لا رابط بينهم، يتقطّعهم شظف الحياة وجدب وجودهم القاسي»(2) .
__________
(1) 1- المرجع السابق – ص 19
(2) 2- نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام – ج1 – ص 30(1/99)
وفي المقابل هناك وجهات نظر مناقضة لذلك الرأي تقف له بالمرصاد، إذ ترى الحضارة الإسلاميّة شأن سائر الحضارات وليدة الواقع التاريخيّ بما حوى من ضروب الحضارات والأديان والمذاهب والأنظمة والثقافات . فالحضارة الإسلاميّة هي بالدرجة الأولى امتداد لحضارة عرب الجاهليّة، غير أنّ ذلك الامتداد -على أبعد تقدير– اتّخذ منحى جديداً نتيجة الإبداع الّذي تفتّقت عنه عبقريّات المسلمين، بدءاً بمحمّد وصحابته ثمّ الّذين اتّبعوهم. ثمّ هي بالدرجة الثانيّة اقتباس من الحضارات السالفة والمعاصرة من يونانيّة ورومانيّة وفارسيّة وهنديّة وغيرها… وهكذا فلا يمكننا –وفق هذه النظريّة – أن نتكلّم عن حضارة إسلاميّة مكتملة المعالم قبل مرور عدّة قرون على ظهور الإسلام، أدّت إلى ذلك التفاعل، ووفق رأي "أحمد أمين" مثلاً، فإنّ القرن الرابع الهجريّ هو العصر الّذي بلغت فيه الحضارة الإسلاميّة ذروتها(1).
إنّ الوقوف أمام هذين الاتجّاهين لمحاكمتهما والموازنة بينهما يحتاج إلى تقرير الميزان الّذي يجب اعتماده للبتّ في قضيّة عظيمة الشأن كهذه. وكم من الباحثين تعاطوا مع مسألة الحضارة الإسلاميّة ونشوئها متجاهلين النزاع الأصيل حولها، أو دون أن يحدّدوا الأرض الّتي يقفون عليها قبل رحلة البحث والدراسة في موضوع خطير كهذا .
و الحقيقة أنّ إدلاء الرأي في تفسير نشوء الحضارة الإسلاميّة يتطلّب بالدرجة الأولى اتّخاذ موقف من مسألة جوهريّة، هي غاية في الأهميّة والخطورة. ألا وهي: هل الإسلام دين الوحي؟
__________
(1) 3- "الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجريّ" لآدم متز – تعريب محمّد عبد الهادي أبو ريدة – دار الكتاب العربيّ ، بيروت – الطبعة الخامسة - تصدير الترجمة العربيّة بقلم أحمد أمين -ص 7(1/100)
قد يسارع البعض إلى إبداء الاستغراب من إقحام موضوع دينيّ بحت، تخاصم الناس فيه قروناً، في بحث تاريخيّ أكاديميّ! وإلى القول إنّ هذا الموضوع محلّه أبحاث علم الأديان أو الفلسفة على أبعد تقدير، فِلم الخوض فيه ههنا ؟!
أسارع إلى القول: إنّ هذه الدراسة لن تخوض في الجدل حول مصدر الدين الإسلاميّ. وإنّما هي تقرّر فقط أنّ الموقف من هذه المسألة يشكلّ حجر الزاوية والأساس في تفسير نشأة الحضارة الإسلاميّة . ذلك أنّ الّذي ينكر الوحي الإلهيّ مصدراً للإسلام، فإنّه حتماً سيبحث ها هنا وهناك في طيّات التاريخ وجوانبه وزواياه ومنعطفاته عن مصدر كلّ جزئيّة أتى بها هذا الدين، فلا يعود هناك مجال –في سياق الكلام عن نشأة الحضارة الإسلاميّة – إلاّ للمصادر التاريخيّة والحضاريّة، إضافة إلى عبقريّة المسلمين وعلى رأسهم محمّد- صلى الله عليه وسلم -. وعلى هذا الأساس حسم الغربيّون موقفهم في تفسيرهم لنشوء الحضارة الإسلاميّة .
وأمّا الّذين يؤمنون بالوحي منبعاً للدين الإسلاميّ، فإنّهم بلا شكّ سيقرّرون دوراً ما لذلك الوحي في تكوين الحضارة الإسلاميّة. وهؤلاء قد يختلفون فيما بينهم –بحقّ أو بغير حقّ- في حجم ذلك الدور، إلاّ أنّهم بكلّ تأكيد لن يعزوا تلك الحضارة بكاملها إلى المصادر التاريخيّة وسائر المؤثِّرات الحضاريّة، كما يفعل الفريق الأوّل .(1/101)
وهكذا، فإنّ النزاع حول تفسير نشوء الحضارة الإسلاميّة هو في حقيقة الأمر وبالدرجة الأولى حول الإسلام نفسه. وبتعبير آخر، هو نزاع بين من يؤمن بالإسلام ديناً أوحاه الله إلى رسوله- صلى الله عليه وسلم -، وبين من ينكر ذلك الوحي، ويرى بالتالي أنّ ما أتى به الإسلام لا يعدو كونه إبداعاً تضافرت على إنجازه عبقريّة محمّد وصحابته والمسلمين من بعدهم مع البيئة والمؤثِّرات الحضاريّة والعوامل التاريخيّة العديدة. وبالتالي فإنّه من الخطأ أن يفترض الباحث احتمال اتّفاق هذين الفريقين على تفسير نشوء الحضارة الإسلاميّة. إذ كلّ منهما يبني نظرته على أساس مغاير للآخر. فالموقف من رسالة الإسلام – المَعين الّذي نبعت منه الحضارة الإسلاميّة- هو الأساس في بحث هذه المسألة. هذا إذا تغاضينا عن العداء التاريخيّ والتقليديّ الّذي تأصّل في نفوس الغربيّين تجاه الإسلام والأمّة الإسلاميّة. يقول "برنارد لويس": «لا تزال آثار التعصّب الدينيّ الغربيّ ظاهرة في مؤلَّفات عدد من العلماء المعاصرين ومستترة في الغالب وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلميّة»(1). ويقول "نورمان دانييل": «على الرغم من المحاولات الجديّة المخلصة الّتي بذلها بعض الباحثين في العصور الوسطى والحديثة للتحرّر من المواقف التقليديّة للكتاّب النصارى من الإسلام فإنهّم لم يتمكّنوا أن يتجرّدوا منها تجرّداً تاماً»(2).
__________
(1) - نقلاً عن: محمود زقزوق – الاستشراق والخلفيّة الفكريّة للصراع الحضاريّ – كتاب الأمّة،قطر – طبعة أولى 1983 – ص 73
(2) - نقلاً عن المرجع السابق – ص 73(1/102)
وحتّى هؤلاء الّذين حرصوا على التجرّد من الأحقاد والتحيّز ضدّ الإسلام وأهله، بقيت نظرتهم بطبيعة الحال محكومة بإنكارهم المصدر الإلهيّ لرسالة الإسلام وبإنكارهم نبوّة محمّد- صلى الله عليه وسلم - ، طالما أنهّم يُخضعون التاريخ الإسلاميّ للنظرة ذاتها الّتي ينظرون من خلالها إلى تاريخ المجتمع الغربيّ. فممّا يقوله "رودي بارت":«نحن معشر المستشرقين، عندما نقوم اليوم بدراسات في العلوم العربيّة والعلوم الإسلاميّة لا نقوم بها قطّ لكي نبرهن على ضعة العالم العربيّ الإسلاميّ، بل على العكس، نحن نبرهن على تقديرنا الخالص للعالم الّذي يمثِّله الإسلام، ومظاهره المختلفة، والّذي عبّر عنه الأدب العربيّ كتابة. ونحن بطبيعة الحال لا نأخذ كلّ شيء ترويه المصادر على عواهنه دون أن نعمل فيه النظر، بل نقيم وزناً فحسب لما يثبت أمام النقد التاريخيّ أو يبدو وكأنّه يثبت أمامه، ونحن في هذا نطبِّق على الإسلام وتاريخه وعلى المؤلّفات العربيّة الّتي نشتغل بها المعيار النقديّ نفسه الّذي نطبّقه على تاريخ الفكر عندنا وعلى المصادر المدوَّنة لعالمنا نحن»(1).
__________
(1) - نقلاً عن المرجع السابق – ص 77(1/103)
وها هو "غوستاف لوبون" الّذي بذل جهده لإنصاف الحضارة الإسلاميّة والتاريخ الإسلاميّ، وتفوّق في ذلك على كثير من الباحثين الغربيّين، يقرّر أنّه «يجب عدُّ محمّد من فصيلة المتهوّسين من الناحية العلميّة كما هو واضح، وذلك كأكثر مؤسّسي الديانات، ولا كبير أهمّيّة لذلك، فأولو الهوس وحدهم، لا ذوو المزاج البارد من المفكِّرين، هم الّذين ينشئون الديانات ويقودون الناس، ومتى يُبحث في عمل المفتونين في العالم يُعترف بأنّه عظيم، وهم الّذين أقاموا الأديان وهدموا الدول وأثاروا الجموع وقادوا البشر ، ولو كان العقل، لا الهوس، هو الّذي يسود العالم لكان للتاريخ مجرى آخر. ولا يقف أيّ قول بخداع محمّد ثانيّة أمام سلطان النقد كما يلوح لي، ومحمّد كان يجد في هوسه ما يحفزه إلى اقتحام كلّ عائق، ويجب على من يودّ أن يفرض إيمانه على الآخرين أن يؤمن بنفسه قبل كلّ شيء، ومحمّد كان يعتقد أنّه مؤيّد من الله، فيتقوّى، ولا يرتدّ أمام أيِّ مانع»(1).
__________
(1) - حضارة العرب – ص114(1/104)
وهكذا، وعلى أساس ما مضى من آراء، فإنّ المصادر الّتي استقى منها محمّد "إسلامه" ستتراوح في استمدادها، بين أهل الكتاب والمتحنّثين الحنفاء من العرب والأديان الفارسيّة والهنديّة وغيرها . ولنبق مع غوستاف لوبون الّذي يكرّر المعزوفة المعتادة لدى الغربيّين حول تعلّم "محمّد الشابّ" علم التوراة من راهب نسطوريّ تعرّف عليه في دار نصرانيّ في بصرى و"يفترض" أنّ محمّداً حين سافر بالتجارة إلى الشام بعد ذلك في سنّ الرجولة تيسّر له الاجتماع «مرّة ثانيّة بالراهب الّذي أطلعه على علم التوراة سابقاً»(1). وهكذا يصل إلى أنّ الإسلام إنّما هو نسخة جديدة اصطنعها محمّد عن الديانتين النصرانيّة واليهوديّة، إذ يقول: «وتقرب فكرة الكون الفلسفيّة في القرآن ممّا في الديانتين الساميّتين العظيمتين الّلتين ظهرتا قبل الإسلام، أي اليهوديّة والنصرانيّة، وزُعم أنّ العنعنات الآريّة الفارسيّة أو الهنديّة ذات نصيب ظاهر في النصرانيّة والإسلام، ونحن نرى النفوذ الآريّ في الإسلام ضعيفاً جدّاً(…) وكان من مقاصد محمّد أن يقيم ديناً سهلاً يستمرئه قومه، وقد وفّق لذلك حين أخذ من الأديان الأخرى ما يلائمهم، ولم يفكِّر محمّد في إبداع دين جديد قطّ، وهو الّذي أعلن أنّه يسير على غرار من تقدّمه من أنبياء بني إسرائيل من إبراهيم إلى عيسى عليه السلام قائلاً إنّ ما أوحي إليهم صحيح، والحقّ أنّ اليهوديّة والنصرانيّة والإسلام فروع ثلاثة لأصل واحد ، وأنّها ذات قربى وشيجة»(2). كما أنّ محمّداً – وفق رأي لوبون – لم يكن في إعلانه لرسالته إلاّ معبّراً عن شوق العرب وتوقهم إلى دين جديد، فيقول: «ونشأ عن وحدة لغة العرب وحشر آلهتهم في الكعبة إمكان صهر عبادات هذه الآلهة وتحويلها إلى عبادة إله واحد، ومما يسّر هذا الصهر تكلّم عبّاد هذه الآلهة الكثيرة بلغة واحدة . والحقّ أنّ وقت جمع العرب على
__________
(1) 2- المرجع السابق – ص 102- 103
(2) 3- المرجع السابق – ص 117-118(1/105)
دين واحد كان قد حلّ، وهذا ما عرفه محمّد، وفي الوجه الّذي عرفه فيه سرّ قوّته، وهو الّذي لم يفكّر قطّ في إقامة دين جديد خلافاً لما يقال أحياناً، وهو الّذي أنبأ الناس بأنّ الإله الواحد هو إله باني الكعبة، أي إله إبراهيم الّذي كان العرب يجلّونه ويعظّمونه. وعلائم اتّجاه العرب أيّام ظهور محمّد إلى الوحدة السياسيّة والدينيّة كثيرة، وما حدث من الثورة على الأوثان في عهد القياصرة الرومان حدث مثله في جزيرة العرب حيث ضعفت المعتقدات القديمة وفقدت الأصنام نفوذها ودبّ الهرم في آلهتها، والآلهة ممّا يجب أن لا يهرم»(1).
وهذا الرأي نفسه يراه أيضاً "ول ديورانت" الّذي يقرّر أنّه «كانت في البلاد شيعة من العرب تدعى بالحنفيّة أبت أن تقرّ بالألوهيّة إلى أصنام الكعبة وقامت تنادي بإله واحد يجب أن يكون البشر جميعاً عبيداً له وأن يعبدوه راضين. وكان محمّد، كما كان كلّ داع ناجح في دعوته، الناطق بلسان أهل زمانه والمعبّر عن حاجاتهم وآمالهم»(2).
__________
(1) 1- المرجع السابق – ص 99-100
(2) 2- ول ديورانت – قصة الحضارة – الجزء 13 – ترجمة محمّد بدران – دار الجيل ، بيروت – دون تاريخ – ص24(1/106)
ونرى الرأي ذاته أيضاً، وعلى نحو أكثر سفوراً لدى "كارل بروكلمان" الّذي يقول: «بينما كان بعض معاصري النبيّ، كأميّة بن أبي الصلت شاعر الطائف، وهي بلدة بحذاء مكّة، يكتفون بوحدانيّة عامّة، كان محمّد يأخذ بأسباب التحنّث والتنسّك، ويسترسل في تأمّلاته حول خلاصة الوحي الروحيّ، ليالي بطولها في غار حراء، قرب مكّة. لقد تحقّق عنده أنّ عقيدة مواطنيه الوثنيّة فاسدة فارغة، فكان يضجّ في أعماق نفسه هذا السؤال: إلى متى يمدّهم الله في ضلالهم، ما دام هو عزّ وجلّ قد تجلّى، آخر الأمر، للشعوب الأخرى بواسطة أنبيائه؟ وهكذا نضجت في نفسه الفكرة أنّه مدعوّ إلى أداء هذه الرسالة، رسالة النبوّة، ولكنّ حياءه الفطريّ حال بينه وبين إعلان نبوّته فترة غير قصيرة، ولم تتبدّد شكوكه إلاّ بعد أن خضع لإحدى الخبرات الخارقة في غار حراء. ذلك بأنّ طائفاً تجلّى له هناك يوماً، هو الملَك جبريل، على ما تمثّلَه محمّد في ما بعد، فأوحى إليه أنّ الله قد اختاره لهدايّة الأمّة. وآمنت زوجه في الحال برسالته المقدّسة، وتحرّر هو نفسه من آخر شكوكه بعد أن تكرّرت الحالات الّتي ناداه فيها الصوت الإلهيّ وتكاثرت. ولم تكد هذه الحالات تنقضي حتّى أعلن ما ظنّ أنّه قد سمعه، كوحي من عند الله. ولكنّ ذلك لم يثر، أوّل الأمر، اهتماماً كبيراً بين مواطنيه ولم يلهب أحاسيسهم ومشاعرهم. فقد كانوا متعوّدين أن يظهر في كلّ قبيلة تقريباً، كما يظهر الشاعر، "كاهن" يستطيع أن يعزو أحكامه فيما يتعلّق بالخلافات والمشكلات الغامضة المعروضة عليه –من قتل وسرقة، أو شرود إبل وضياعها – إلى صاحب له غيبيّ، وأن يذيعها في الناس نثراً مسجوعاً، كما فعل النبيّ فيما نُزّل عليه من وحي، ومن هنا كان على محمّد أن يحتاط مرّة بعد مرّة، من أن يضعه مواطنوه في مصفّ هؤلاء الكهّان ومرتبتهم»(1)
__________
(1) 1- كارل بروكلّمان - تاريخ الشعوب الإسلاميّة – نقله إلى العربيّة نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي – دار العلم للملايين, بيروت- 1993 – ص 36-37(1/107)
. كما يرى "بروكلمان" أنّه «لا يجوز أن نطلق الحكم على دين محمّد على أساس القرآن وحده طبعاً، وليست المسألة مسألة نظام مرتّب، إذ لم تكن الدقّة والتماسك الفكريّ أقوى جوانبه على الإطلاق. ولم يكن عالمه الفكريّ من إبداعه الخاصّ إلاّ إلى حدّ صغير. فقد انبثق في الدرجة الأولى عن اليهوديّة والنصرانيّة، فكيّفه محمّد تكييفاً بارعاً وفقاً لحاجات شعبه الدينيّة. وبذلك ارتفع بهم إلى مستوى أعلى من الإيمان الفطريّ والحساسيّة الخلقيّة»(1).وبناء عليه فإنّ "بروكلمان" يبذل جهده في أن يعزو كلّ ما أتى به محمّد عليه الصلاة والسلام إلى استمداده من الأديان السالفة. ففي الإيمان باليوم الآخر يقول: «إنّما ترجع معتقداته في ما يتعلّق باليوم الآخر إلى مصادر يهوديّة، وهكذا تّتصل بصورة غير مباشرة بمصادر فارسيّة وبابليّة قديمة»(2).وفي القصص القرآني يرى أنّه «ليس من شكّ في أنّ معرفته بمادّة الكتاب المقدّس كانت سطحيّة إلى أبعد الحدود، وحافلة بالأخطاء، وقد يكون مديناً ببعض هذه الأخطاء للأساطير اليهوديّة الّتي يحفل بها القصص التلموديّ، ولكنّه مدين بذلك دَيناً أكبر، للمعلِّمين المسيحيين الّذين عرّفوه بإنجيل الطفولة ، وبحديث أهل الكهف السبعة، وحديث الإسكندر، وغيرها من الموضوعات الّتي تتواتر في كتب العصر الوسيط»(3). وحتّى فريضة الصوم يتحرّى لها عن مصدر إذ يقول: «لسنا نعرف حتّى الآن ما إذا كان محمّد قد اقتبس هذه الفريضة عن إحدى الفرق الغنوستيّة أم عن المانيّين الّذين نفذ مبشّروهم إلى بلاد العرب أيضاً . فقد كان لا يعرف شيئاً، أو يكاد، عن الحرّانيين في العراق، الّذين كانوا يصومون كذلك شهر آذار، تمجيداً للقمر»(4).
__________
(1) - المرجع السابق – ص 69
(2) - المرجع السابق – ص 71
(3) - المرجع السابق – ص 39
(4) - المرجع السابق – ص 48(1/108)
وعلى النهج ذاته يسير المستشرق "لامّنس", ففي أحد كتبه يتكلّم على أوضاع عرب الحجاز عشيّة ظهور الدعوة الإسلاميّة،ويركّز على انتشار عدد من الديانات فيها،كانت هي المؤثِّرة في عقليّة محمّد وثقافته وبالتالي كانت ظاهرة التأثير –كما يرى- في الدين الإسلاميّ كما ظهر في "صورته الأولى".فأتى الكتاب تحت عناوين مثل «المسيحيّون في مكّة عشيّة الهجرة»(1)و «اليهود في مكّة عشيّة الهجرة» و «المواكب الدينيّة لدى عرب ما قبل الإسلام».وللدلالة على توجّه هذه الفصول أورد مثلاً أوّل جملة نقرؤها في الكتاب: «إذا ما أردنا أن نصدّق "ولهاوزن"،فالديانة النصرانيّة لا اليهوديّة هي الّتي مارست تأثيراً راجحاً على بدايات الإسلام» ثمّ يعمد إلى بعض العادات والتقاليد الّتي كانت سائدة قبل الإسلام محاولاً جعلها البدايات الأولى لبعض التشريعات والأنظمة الإسلاميّة. فتحت عنوان «الطابع الدينّي للثأر لدى عرب ما قبل الإسلام» يحاول الربط بين مفهوم الثأر في الجاهليّة وأنظمة القصاص والديات في الإسلام. ويتابع النهج نفسه في مواضيع أخرى مثل «الأحابيش والتنظيم العسكريّ في مكّة في قرن الهجرة» و «الحدود القديمة بين سوريّة والحجاز». حيث يحاول تلمّس التأثير الحبشيّ والرومانيّ على الديانة الإسلاميّة. وكثيراً ما يردّد عبارة «محمّد مؤسّس الديانة الإسلاميّة» والّتي تفيد بأنّ الإسلام من صنعه لا من وحي الله له.(2)
__________
(1) - المقصود بالهجرة هنا وقت ظهور الإسلام،لا حدث هجرة الرسول بالذات.
(2) 1- H.Lammens s.j –L'Arabie occidentale avant L'Hégire – Imprimerie catholique– Beyrouth, 1920(1/109)
إنّ هذه النظرة الّتي تعزّزت خلال القرن التاسع عشر، عبّر عنها المستشرق المعروف"وات"، ناقداً لها، فقال: «خلال القرن التاسع عشر، أصبح العلماء مهتمّين جدّاً بأسئلة الارتباط الأدبيّ والتاريخيّ. وأكثر عموماً، بالعودة إلى أصول الأفكار والسلوكيّات. هذه الموضة بدون شكّ كانت مرتبطة بالشهرة الّتي وصلت إليها نظريات "داروين" عن النشوء والارتقاء. والاعتقاد السائد أنّك لو استطعت أن تضع إصبعك على مصدر أيّ شيء أو أساسه،استطعت أن تعلم فعلاً ما هو.هذا المنحى المدرسيّ كان يساء استخدامه ويُتّخذ أساساً لإطلاق حكم، سمته الاستخفاف، على ما يكرهه الباحث. ولذلك قيل -صراحة أو تلميحاً- إنّ القرآن هو اختيار سيّئ لمجموعة من أفكار الكتاب المقدّس»(1).
وأصرح من ذلك كلّه، ما نقرؤه في إحدى موسوعات الأديان الفرنسيّة الحديثة: «الإسلام هو الأحدث من بين الديانات الكبرى العالميّة ذات العقيدة التوحيديّة. إنّه مشتقّ تاريخيّاً من الديانة القديمة للشعب الإسرائيليّ، وبتعبير أدقّ، من الديانة الّتي تطوّرت تحت تأثيرات مختلفة نهاية الألف الأوّل قبل عصرنا (المسيحيّ)،والّتي تجلّت في نصّ مقدّس إلى أعلى درجة: العهد القديم. »(2)
__________
(1) 2- watt,w.montgomery – wattis, Islam- second edition-Librairie du Liban-1990-p12
(2) 3- Encyclopédia des religions – Histoire(1)- sous la direction ole "Fréderic le noir" et. Ysé T.Mosquelier-Bayard Editions- Deuxieme édition, 1997– p.931.(1/110)
لسنا في هذه الدراسة بصدد مناقشة هذه الآراء والردّ عليها، فموضع ذلك في دراسات أخرى، وقد قام بهذه المهمّة العديد من الباحثين والكتّاب. ولكّننا أوردنا هذه النماذج للتنبيه إلى الأساس الّذي بنى عليه الغربيّون نظرتهم إلى نشوء الحضارة الإسلاميّة. فهم حين ينكرون نبوّة محمّد عليه الصلاة والسلام من أساسها، من الطبيعيّ أن يروا أنّ الإسلام لم يأتِ بأيّ جديد يذكر على الصعيد الروحيّ والخلقيّ، فضلاً عن الجوانب السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والتشريعيّة عموماً. وحتّى حين يتكلّمون عن الجديد الّذي أتى به محمّد أو المسلمون من بعده، فإنّه لا يعدو بعض التعديلات والتحريفات والتشكيل الجديد لما اقتبسوه من غيرهم من الأمم السالفة والمعاصرة. وبذلك تفقد الحضارة الإسلاميّة أيّ تفرّد لها أو أيّ تميّز عن سائر الحضارات .(1/111)
إنّ هذه النظرة من المؤرِّخين الغربيّين إلى الحضارة الإسلاميّة ونشوئها ليست مدعاة للاستغراب. فلقد اعتاد هؤلاء منذ عصر النهضة الأوربّيّة على الفصل بين الدراسات التاريخيّة والدراسات الدينيّة، حتّى فيما يتعلّق بدراسة تاريخ الشعوب المسيحيّة، باعتبار أنّ الدراسات التاريخيّة تعتمد البحث العقليّ المجرّد، بينما يتعذّر إخضاع الدراسات الدينيّة للعقل. فالعقل والدين نقيضان، ولا يمكن الجمع بينهما على نحو متوافق منسجم. وإذا تكلّم المؤرِّخون الغربيّون عن المسيحيّة ومعتقداتها على نحو يوحي بالتسليم بها، فإنّ ذلك يكون على سبيل المجاز أو الأسلوب الأدبيّ الّذي يعتمد تصوير معتقدات الناس وأوهامهم وأساطيرهم بصيغة السرد التاريخيّ الّذي يحقّ للقارئ قبوله أو رفضه. ولا ننس أنّ المؤرّخ الغربيّ هو ابن بيئته ومجتمعه، وبالتالي فإنّه للعديد من الأسباب سيجد نفسه متورّعاً عن استفزاز العقليّة والذاكرة التاريخيّة لذلك المجتمع. وبطبيعة الحال، حين ينظر المؤرخ الغربيّ إلى التاريخ الإسلاميّ، فإنّه تلقائيّاً سيطبّق قاعدته هذه عليه، فلا يقيم وزناً للدين الإسلاميّ بوصفه وحياً نزل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ، وبالتالي فالحضارة الّتي شهدها التاريخ الإسلاميّ ما هي في نظره إلاّ وليدة الواقع التاريخيّ الماضي والمعاصر، مع فارق أنّ ذلك المؤرّخ سيشعر بالمزيد من الحرّيّة في إطلاق أحكامه على تاريخ مجتمع لا ينتمي إليه، ولا سيّما إذا كان هذا المجتمع هو الأمّة الإسلاميّة. إلاّ أنّ المستغرب هو أن يجري بعض المؤرِّخين والكتّاب المسلمين مجرى هؤلاء الغربيّين، في الفصل بين الدراسات التاريخيّة والدين، على نحو يؤدّي إلى إظهارهما شيئين متناقضين. فيتغاضون أثناء دراستهم للحضارة الإسلاميّة عن فعل الوحي الإلهيّ في تكوين الحضارة الإسلاميّة ودوره في تشكيل المجتمع الإسلاميّ. فدراستهم للتاريخ الإسلاميّ والحضارة الإسلاميّة توحي بأنّهم(1/112)
وضعوا إيمانهم وعقيدتهم الإسلاميّة جانباً وراحوا يقرؤون ويكتبون بمعزل عنها. فممّا يقوله "محمّد عبد الهادي أبو ريدة" مثلاً، في مقدّمة تعريبه لكتاب "آدم متز" «الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجريّ»: «كما أنّ حضارة عصر النهضة في أوروبّا كانت قائمة على إحياء الحضارة القديمة في نواح كثيرة ومقترنة بميلاد القوميّات وتجزّؤ الدولة الواحدة الّتي قام عليها بناء العصر الوسيط في أوربّا إلى دول صغيرة، فكذلك كانت حضارة الإسلام بوجه عامّ متّصلة بإحياء ثقافات وحضارات متقدّمة عليها»(1). ويرى "أحمد أمين" «أنّ الثقافة اليونانيّة كانت منتشرة في العراق والشام والإسكندريّة، وأنّ المدارس انتشرت فيها على يد السريانيّين، وأنّ هذه المدارس وهذه التعاليم أصبحت تحت حكم المسلمين، وامتزج هؤلاء المحكومون بالحاكمين، فكان من نتائج هذا أن تشعّبت هذه التعاليم في المملكة الإسلاميّة، وتزاوجت العقول المختلفة كما تزاوجت الأجناس المختلفة، فنتج من هذا التزاوج الثقافة العربيّة أو الإسلاميّة»(2). كما يرى أنّ «العادات الفارسيّة والرومانيّة امتزجت بالعادات العربيّة، وقانون الفرس والقانون الرومانيّ امتزجا بالأحكام الّتي أوضحها القرآن والسنّة، وحِكَم الفرس وفلسفة الروم امتزجت بحِكَم العرب، ونمط الحكم الفارسيّ ونمط الحكم الرومانيّ امتزجا بنمط الحكم العربيّ، وبالإجمال كلّ مرافق الحياة والنظم السياسيّة والاجتماعيّة والطبائع العقليّة تأثّرت تأثّراً كبيراً بهذا الامتزاج. وإذ كانت الأمم المفتوحة أرقى من العرب مدنيّة وحضارة وأقوى نظماً اجتماعيّة كان من الطبيعيّ أن تسود مدنيّتهم وحضارتهم ونظمهم، وإذ كان العرب هم العنصر القويّ الفاتح عدّلوا هذه النظم بما يتّفق وعقليّتهم ، فسادت في البلاد المفتوحة
__________
(1) 1- آدم متز - الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجريّ – تعريب: محمّد عبد الهادي أبو ريدة – ج1 – ص 12
(2) 2- فجر الإسلام – ص 132(1/113)
النظم الّتي كانت متَّبعة قبل الفتح»(1). ويقول "شوقي أبو خليل": «الحضارة بساط نسجته أيد كثيرة، كلّها تهبه طاقاتها، وكلّها تستحق الثناء والتقدير ، ولا ننكر أنّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة اعتمدت في نموّها وتطوّرها وازدهارها على حضارات عربيّة وشرقيّة سبقتها، ولكنّها واصلت العطاء، وقدّمت إلى بساط الحضارة ما طُلب منها وأكثر»(2).وهذه ليست إلاّ نماذج قليلة من الدراسات الّتي جرت مجرى الغربيّين في تحليل الحضارة الإسلاميّة ونشأتها .
وقبل أن ننتقل إلى مناقشة هذه الآراء –آراء الغربيّين ومن نهج نهجهم– لا بدّ من التنبيه إلى حقيقة مهمّة متّصلة بطبيعة الدين الإسلاميّ وعلاقته بدراسة التاريخ.
إنّ الإسلام لم يكن يوماً ليتعارض مع العقل، وبالتالي مع أيّ بحث مبنيّ على العقل. بل إنّ الدين الإسلاميّ –كما سبق وبيّنّا– طلب من الناس اعتناق عقيدته بناء على العقل والبحث الفكريّ المستنير واعتماد الحجّة والبرهان والدليل. فالإسلام لا يتوافق مع البحث التاريخيّ وحسب، وإنمّا يوجب على أتباعه أن يدرسوا التاريخ على ضوئه، وأن يتقيّد الباحث منهم بحقائقه القطعيّة حين الخوض في التاريخ الحضاريّ، ولاسيّما في التاريخ الإسلاميّ. قال تعالى : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا في الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِين } (3).
__________
(1) 3-فجر الإسلام – ص 93-94
(2) - شوقي أبو خليل - الحضارة العربيّة الإسلاميّة وموجز عن الحضارات السابقة – دار الفكر المعاصر ، بيروت – الطبعة الأولى 1994 – ص 185
(3) - سورة آل عمران – الآية 138(1/114)
على هذا الأساس بنى صاحب هذه الرسالة بحثه، وعليه أيضاً سيدلي برأيه حول القضيّة محلِّ النقاش، مع إدراكه التامّ بأنّ البناء على ذلك الأساس لن يلقى قبولاً لدى الّذين لا يؤمنون بالإسلام وحياً من عند الله تعالى، سواء كانوا من الغربيّين أو سواهم. فهذا أمر طبيعيّ. إذ نقطة البداية في الحوار بين الفريقين يجب أن تكون من حيث بدأ الإسلام. أي إنّ الجدل الأوّل بينهما هو حول مسألة: هل القرآن كلام الله ؟ وهل محمّد رسول الله ؟ وبالتالي هل الإسلام هو دين الله؟ فإذا ما اتّفقا على هذا الأساس أمكنهما الانتقال إلى هذا المحور، موضوعِ بحثنا. إلاّ أنَّ هذه الرسالة ليست محلّ مناقشة هذه القضايا.
ولكنّ القارئ لهذه الرسالة، في كلّ الأحوال، وإن لم يكن مؤمناً بالإسلام رسالة من عند الله، مدعوٌّ إلى أن يتلمّس فيها جانباً في غاية الأهميّة. ألا وهو انسجام الباحث في سطور دراسته مع أفكاره الأساسيّة، أي مدى التوافق والتناغم بين إيمانه بأنّ الإسلام رسالة من وحي الله وبين نظرته إلى الحضارة الإسلاميّة ونشأتها. وبالمقابل فإنّه مدعوّ إلى إدراك التناقض لدى الّذين جروا مجرى الباحثين الغربيّين في تفسير نشوء الحضارة الإسلاميّة. وهؤلاء هم الّذين يخاصمهم منهج هذا البحث بالدرجة الأولى .(1/115)
ثانياً:النشأة الصافية للحضارة الإسلاميّة
إنّ إعطاء الرأي في مسألة نشوء الحضارة الإسلاميّة يقودنا إلى التذكير بالمدلول الّذي قرّرناه "للحضارة الإسلاميّة". فوفق التعريف الّذي تبنّته هذه الدراسة، ليس المراد بالحضارة الإسلاميّة ما حقّقه المسلمون عبر تاريخهم من إنجازات عمرانيّة وماديّة وتقنيّة وعلميّة، وليس المراد به الأشكال والأساليب الإداريّة الّتي اعتمدتها الدولة الإسلاميّة عبر تاريخها. ولقد سبق أن قرّرنا أنّ هذه المدلولات تنضوي ضمن مصطلح "المدنيّة" وأنّها تتّسم بكونها نتاجاً عالميّاً لا يختصّ بأمّة دون أخرى أو بمجتمع دون آخر، ولا شأن لها في تشكيل نمط العيش وطراز الحياة فيه.(1/116)
ويظنّ كثير من الباحثين، حين يسلّطون الأضواء على تلك الجوانب المدنيّة في تاريخ المجتمع الإسلاميّ متغافلين عن الجانب الثقافيّ الفكريّ والتشريعيّ، أنّهم يمدحون الحضارة الإسلاميّة ويعلون شأنها وأنّهم يُسدون إلى الأمّة الإسلاميّة خدمة جليلة بإظهارها مساهِمة في ركب العلوم والعمران والإنجازات التقنيّة والطبيّة والفنيّة وما شاكلها. ولكنّ الأمر في الواقع هو خلاف ذلك. صحيح أنّ هذا الكلام يلفت النظر إلى أنّ الحضارة الإسلاميّة ذات فضل في توجيه الناس إلى عمارة الحياة الدنيا وتسخير المادّة لخدمة الإنسان وإلى اكتشاف أسرار الطبيعة وأخذ متاع الحياة الدنيا ضمن طاعة الله. إلاّ أنّ التركيز على هذا الجانب والتفصيل فيه لا يُعدّ في الحقيقة كلاماً على الحضارة الإسلاميّة بحدِّ ذاتها. بل هو كلام على قطار العلوم والمدنيّة والفنون الّذي انطلق منذ فجر التاريخ البشريّ عابراً جميع الحضارات والأمم، لتتزوّد كلّ واحدة منها بما تحتاجه أو يلزمها من حمولته، ولتزوِّده هي بدورها بما قامت بإنجازه وابتكاره. فكان أن جاء دور المجتمع الإسلاميّ حين نهض وازدهر وتألّق على أساس الحضارة الإسلاميّة، فوجب على ذلك القطار المرور في أراضيه ليزوِّده بما يلزمه ويحتاج إليه ويزخرف جوانبه ويزيده تألّقاً، ولم يتابع سيره إلاّ وقد زوَّدته تلك الأراضي بمزيد من الحمولة ذات الأصناف الجديدة الّتي لم يكن ليتزوّد بها لولا مروره فيها. ولكن، في كلّ الأحوال سيتابع هذا القطار مسيرته ليزوِّد ويتزوَّد في كلّ محطّاته، ما دام التاريخ، وما دامت الشعوب حيّة على وجه البسيطة.(1/117)
وبتعبير آخر، إنّ الحديث عن المظاهر المدنيّة والعلميّة والفنّيّة في المجتمع الإسلاميّ ليس إلاّ حديثاً عن لَبِنة أو أكثر وضعها المجتمع الإسلاميّ في البنيان المادّيّ الّذي تستهم عليه المجتمعات البشريّة وبالتالي، فإنّ من يسلّط الأضواء على هذه الجوانب دون غيرها، يسهم في الغضّ من شأن الحضارة الإسلاميّة لأنّه يجرّدها من نتاجها الخاصّ الخالص وثمارها المتميّزة الّتي لأجلها عُدّت حضارة قائمة بذاتها.
إذن، فالحديث عن الحضارة الإسلاميّة هو حديث عن شيء آخر. فالحضارة هي مجموعة الأفكار والمشاعر والأنظمة الّتي تصوغ المجتمع وتميّزه بنمط خاصّ من العيش، وبالتالي فإنّ الحضارة الإسلاميّة هي مجموعة الأفكار والمشاعر والأنظمة الّتي صاغت المجتمع الإسلاميّ وجعلت منه مجتمعاً ذا طراز خاصّ ونمط متميّز. وعليه فإنّ مضمون الحضارة الإسلاميّة يتمثّل في مجموعة العقائد والإيمانيات والمفاهيم الأساسيّة الّتي تشكّل النظرة إلى الحياة الدنيا وما قبلها وما بعدها، وفي المفاهيم عن القيم الكبرى في الحياة، وفي مفاهيم السعادة والخير والشرّ والفضيلة والرذيلة، ومقياس الأعمال من حلال وحرام، والمعايير السلوكيّة الّتي توجّه طبيعة العلاقات في المجتمع، وفي الأنظمة الّتي تُرعى بها شؤون الناس، من نظام حكم يحدّد طبيعة الدولة والأسس الّتي تقوم عليها وشكل جهازها الحاكم وعلاقة الحكّام بالمحكومين، ومن نظام اقتصاديّ يبيّن أنواع الأموال من مشروعة وغير مشروعة ومن ملكيّات خاصّة وعامّة وكيفيّة الحصول على المال وكيفيّة إنمائه ووجوه إنفاقه وموارد الدولة الماليّة ومصارفها... ومن نظام اجتماعيّ ينظّم علاقة الرجل بالمرأة من زواج وطلاق وينظّم شؤون الأسرة من بنوّة ونفقة وولاية وإرث وغيرها، ومن سياسة تربويّة وتعليميّة، ومن أنظمة للمحاكمات والعقوبات، ومن سياسة خارجيّة تحدّد علاقة المجتمع الإسلاميّ بسائر المجتمعات…(1/118)
والّذي يمعن النظر في هذه الجوانب الّتي صاغت المجتمع الإسلاميّ، يجد أنّها في الأصل نتاج إسلاميّ خالص. وهذه هي ثمرة هذا الفصل.
فالإسلام بما قام عليه من عقيدة وأتى به من تشريعات ونجم عنه من أهداف عليا وقيم ومفاهيم عن الحياة، هو الّذي شكّل النمط الحضاريّ للمجتمع الإسلاميّ. فهذه المضامين الّتي عدّدناها للحضارة الإسلاميّة –والّتي تشكّل بحدّ ذاتها مقوّمات المجتمع الإسلاميّ– ترجع جميعها إلى مصدرين أساسيّين، هما القرآن والسنّة. ونعني بالسنّة هنا كلّ ما صدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير. فالإسلام بشموليتّه الّتي عبّرت عنه الآيّة الكريمة { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْياناً لكلّ شَيْء } (1)، هو الّذي ملأ جوانب البنيان الحضاريّ للمجتمع الإسلاميّ. فالجميع يعرف أنّ الإسلام ليس مجرّد دين روحيّ يقدِّم مجموعة من الشعائر الكهنوتيّة والطقوس وبعض التوجيهات العامّة والأخلاقيّات. بل إنّ العقيدة الإسلاميّة، فضلاً عن كونها عقيدة روحيّة، هي عقيدة سياسيّة، بمعنى أنّه انبثق منها نظام كامل للحياة والمجتمع والدولة، وانبنى عليها بنيان ثقافي كامل يحوي مفاهيم عن جميع جوانب الحياة.
__________
(1) - سورة النحل – الآية 89(1/119)
وعليه، فإنّه لا يعود هناك مكان للكلام عن المصادر التاريخيّة للحضارة الإسلاميّة، أو عن تحرّي المؤثِّرات والعوامل والتلاقحات والتمازجات الحضاريّة الّتي أدّت إلى نشوء الحضارة الإسلاميّة. «فلئن قامت كلّ الحضارات ونشأت رويداً رويداً من تراث الماضي بما حوى من ضروب الرأي وتيّارات الفكر،واستغرقت في تبلورها إلى شكلها الخاصّ وكيانها المحدّد آماداً طويلة من الزمن، فلقد انفردت حضارة الإسلام وحدها بانبجاسها إلى الحياة دون سابق عهد أو انتظار. وقد جمعت هذه الحضارة، من فجر نشأتها، كلّ المقوّمات الأساسيّة لحضارة مكتملة شاملة. فقامت في مجتمع واضح المعالم، له نظرته الخاصّة إلى الحياة، وله نظامه التشريعيّ الكامل وله نهجه المحدّد للعلاقات بين الأفراد، بعضهم ببعض داخل هذا المجتمع. ولم يكن قيامها ثمرة تقاليد زخر بها الماضي، ولا وليد تيارات فكريّة متوارثة. ولكنّ هذه الحضارة كانت وليدة حدث تاريخيّ وهو تنزيل القرآن الكريم … فلقد أدرك الّذين آمنوا بالإسلام واتّبعوا محمّداً وصدّقوا بالقرآن فاتّخذوه قاعدة حياتهم، أنّ الدين الجديد الّذي جاء به القرآن، يتطلّب منهم هجرة بائنة إلى ما جاءهم به عمّا توارثوه من عقائد في الحياة وما ألِفوه من مناهج السير فيها. فكان قبولهم لما جاء به –وهم أهل بادية– بداية حدث جديد في حياة البشر وتاريخهم، إذ إنّهم أدركوا أنّ الإسلام –وقد جاء نظاماً شاملاً للحياة– قد افتتح حقّاً حضارة جديدة، وما كان دوره ليقتصر على التمهيد لغيره من الحضارات أو الإرهاص بها . فتبيّنوا -كما تبيّن من جاء بعدهم من المؤمنين– أنّ مبعث رسول الله كان إيذاناً ببدء عهد جديد بكلّ ما ينطوي عليه هذا البدء من حقائق ومعان»(1) .
__________
(1) -محمّد أسد وآخرون - الإسلام والتحدي الحضاريّ – ص 19-20(1/120)
قد ينبري بعض الناس للتحدّث عن الأخلاق والفضائل الّتي استبقى عليها الإسلام من العهد الجاهليّ كالكرم وحسن الضيافة والشهامة والشجاعة والنجدة وما شاكل ذلك، ليدلّل على أنّ الحضارة الإسلاميّة قد تأثّرت بحضارة الجاهليّة أو استمدّت منها. والواقع أنّه كما هي بسيطة هذه الفكرة، فكذلك الجواب عليها في غاية البساطة. فالفضائل الّتي أقرّها الإسلام واستبقى عليها إنّما هي بالدرجة الأولى فضائل وأخلاق إسلاميّة، بمعنى أنّ الإسلام لم يستبْقِها باعتبارها جزءاً من مكّونات المجتمع الجاهليّ، بل شرعها من جديد باعتبارها جزءاً من الإسلام، بحيث أنّه لو لم يصادفها موجودة لشرعها ابتداء. ولو تصوّرنا أنّ الإسلام بُعث في أيّ مجتمع آخر فلربّما صادف فضائل وقيماً أخرى تتوافق مع ما أتى به من أوامر ونواه. لذلك ينبّه "محمّد أسد" إلى أنّه «يجب علينا أن نتحرّز من أن ينصرف بنا الفكر إلى أنّ هذا القدر الّذي استبقي من حياة الجاهليّة قد تسلّل إلى جوهر عقائد الإسلام وغلب على عقل بني الإسلام، أو أنّ هذا الإبقاء كان إذعاناً من الرسول الكريم لما ساد بلاده وعصره، من تقاليد ومعتقدات، كما يدّعي أهل الغرب ويردّدون في أكثر ما يكتبون»(1).
وكذلك ما يتحدّث عنه كثير من الغربيّين عن عناصر مشتركة بين الإسلام وأديان أهل الكتاب للتدليل على أنّ الإسلام استمدّ من ثقافتهم ولاهوتهم، يندفع بتأكيد الإسلام أنّ رسالات الأنبياء جميعها مردُّها إلى مصدر واحد، هو الوحي الإلهيّ. فما أتى به الأنبياء من اعتقادات حول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، إنّما هو شيء واحد. وأمّا ما أتوا به من توجيهات خلقيّة وتشريعيّة، فمن الطبيعيّ أن يكون هناك تشابه كبير فيما بينه، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، مصداق قوله تعالى: { لكلّ جَعَلْنَا مِنْكُم شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً(2) } .
__________
(1) - المرجع السابق – ص 21
(2) - سورة المائدة – الآية 48(1/121)
«فكلّ ما شارك فيه الإسلام الجاهليّة من نظم الاجتماع وكلّ ما اتّفق فيه مع ما ذهبت إليه اليهوديّة والمسيحيّة من فكر وآراء، جزء لا يتجزّأ من الإسلام، من يوم أن دوّى به صوت النبيّ العربيّ في بلاد الجزيرة»(1).
خلاصة الكلام، أنّ الحضارة الإسلاميّة هي نتاج إسلاميّ خالص، أنتجها ما نزل على النبيّ عليه الصلاة والسلام من وحي تمثَّل في مصدرين أساسيّين: القرآن والسنّة. فمنهما استقى المسلمون عقائدهم و مفاهيمهم الأساسيّة و الفرعيّة، ومنهما استنبطوا تشريعاتهم وأنظمة حياتهم، وهما اللّذان صاغا مشاعر المسلمين وانفعالاتهم وتفاعلهم مع الحياة .
لقد عبّر بعضٌ من المستشرقين أنفسهم عن هذه الحقيقة أدقّ تعبير، رغم أنّها ليست من قناعاتهم على الأغلب، ولكنّها على الأقلّ قناعة أهل الحضارة الإسلاميّة. فمن ذلك ما يقوله "دومينيك وجانين سورديل": « نظّم الإسلام، الدين الوحي، في مفهومه الأوّل، جميع نشاطات الإنسان، في حياته الروحيّة والأخلاقيّة كما في حياته الاجتماعيّة والسياسيّة.لم يتطلّب الإسلام قناعة ببعض الحقائق فحسب، بل فرض مجموعة من الفرائض الّتي تتحكّم في التنظيم الزمنيّ لأمّة المؤمنين. على هذا الوحي استندت حياة المسلم، ومن حوله انتظم منذ حقبة قديمة العالم الإسلاميّ الإمبراطوريّ وحضارته ».(2)
ويقول "ريمون بلوخ": «هكذا نرى الإسلام يسيطر على مجمل حياة الإنسان، سواء في ذلك حياته الروحيّة والأخلاقيّة، أو نشاطه الاجتماعي والسياسيّ. كلّ شيء يستند إلى الوحي، وهو الرباط الوثيق الّذي يجمع أمّة الإسلام ».(3)
إنّ النزاع في تفسير نشوء الحضارة الإسلاميّة الّذي أبرزه هذا الفصل، يقود إلى مجموعة من المنازعات أو الاختلافات التابعة له، مثل:
ما هو عصر اكتمال الحضارة الإسلاميّة؟
__________
(1) - المرجع السابق – ص 21
(2) - الحضارة الإسلاميّة في عصرها الذهبي – ص 101
(3) - المرجع السابق – توطئة بقلم ريمون بلوخ – ص 8(1/122)
ما هي هويّة هذه الحضارة: هل هي عربيّة أم إسلاميّة؟
ما هي مظاهر ازدهار هذه الحضارة،وما هي مظاهر تراجعها؟
ما هو أثر المؤثِّرات الحضاريّة على المجتمع الإسلاميّ؟ هل هو إيجابيّ أم سلبيّ؟
لذلك نشرع فوراً بالإجابة على تلك التساؤلات.
ثالثا:ً
متى اكتملت الحضارة الإسلاميّة ؟
من الطبيعيّ أن نتوقّع ممّن يَعدّ الحضارة الإسلاميّة مزيج حضارات وثقافات وأديان أن يؤجّل حكمه باكتمال الحضارة الإسلاميّة ونضوجها واستوائها الأخير إلى التاريخ الّذي يستكمل معه المسلمون احتكاكهم بمعظم الحضارات الّتي كانت قائمة في عصرهم، أو على الأقلّ حتّى يقف ذلك الاحتكاك وما صاحبه من تفاعل عند حدّ معيّن. فالمجتمع الإسلاميّ في نظر "توينبي" مثلاً هو حصيلة اندماج مجتمعَين كانا في الأصل متميّزين هما: الإيرانيّ والعربيّ(1). وهو الرأي نفسه الّذي يراه "أندريه ميكيل" في كتابه "الإسلام وحضارته"(2). ويتوسّع هذا الأخير في أحد حواراته في تعداد مصادر تلك الحضارة، ويرى أنّها بلغت ذروتها في العصر العباسيّ الّذي «سجّل أوّل اتّصال عميق للعالم العربيّ بحضارات وثقافات غريبة عنه، كانت أولاها ثقافة المجتمع الإيرانيّ المجاور له، وهي ثقافة عريقة بلغتها وآدابها، أغنت بموضوعاتها الحضارة الإسلاميّة الجديدة، كما نقلت إليها، كوسيط خلاصة الحضارات الأخرى، وبخاصّة حضارة الهند» ويضيف: «ينبغي ألاّ ننسى، بالإضافة إلى الحضارتين اليونانيّة والهنديّة، ذلك الكنز الّذي وصل إلينا عن طريق الإسلام نفسه والّذي تفاعل بعمق مع الحضارة الإسلاميّة، ونقصد الحضارة القديمة لشبه الجزيرة العربيّة، وتلك الحضارات الّتي انقرضت في مصر الفرعونيّة وفي بلاد ما بين النهرين، حيث أذاب الإسلام
__________
(1) - انظر : مختصر دراسة للتاريخ – ج1 – ص27 وما بعدها
(2) - انظر : الإسلام وحضارته – أندريه ميكيل – ترجمة : د. زينب عبد العزيز – منشورات المكتبة العصريّة ، لبنان - دون تاريخ - ص 142-143(1/123)
بعض عناصرها في بوتقته، ثمّ خلع عليها رداء الجلال والسموّ، حتّى أصبحت متلائمة مع روحه وجوهره ومثله الدينيّة العليا .وأخيراً جاءت العلوم الإغريقيّة، وكان تأثيرها عظيماً في الحضارة الإسلاميّة. ومن المعلوم أنّ هذه العلوم كانت تتكدّس في الأديرة المسيحيّة وبخاصّة النسطوريّة منها. وقد بعثها العرب من مرقدها عن طريق الترجمة، إمّا مباشرة عن الإغريقيّة، وإمّا بشكل غير مباشر عن طريق السريانيّة، الّتي قامت بدور وسيط بين العرب والإغريق»(1). و"آدم متز" يعنون كتابه الّذي يؤرّخ للدولة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجريّ بتعبير "عصر النهضة في الإسلام". ويتابعه "أحمد أمين" على وجهته هذه في تصديره للترجمة العربيّة للكتاب، والّتي صدرت تحت عنوان "الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجريّ"، حيث يرى أنّ هذا القرن «هو العصر الّذي بلغت فيه الحضارة والعلوم والفنون الإسلاميّة ذروتها»(2). وفي أحد تعبيراته، في كتابه "فجر الإسلام"، يقول: «عقليّة عربيّة لها طبيعة خاصّة هي نتاج بيئتها، وعيشة اجتماعيّة خاصّة يعيشها العرب في جاهليّتهم، دين إسلاميّ أتى بتعاليم جديدة ورسم للحياة مثلاً أعلى يخالف المثل الّذي كانت ترسمه تقاليد الجاهليّة، وفتح إسلاميّ مدّ سلطانه على فارس وما حولها وعلى مستعمرات رومانيّة كثيرة، فأذاب ما كان للفرس من دين ومدنيّة وعلم، وما كان للمستعمرات الرومانيّة من دين ومدنيّة وعلم، في المملكة الإسلاميّة جميعها، وكوّن منها مزيجاً واحداً مختلف العناصر»(3) .
__________
(1) - العرب، الإسلام وأوربّا – أندريه ميكيل ودومنيك شفالييه وعز الدين فلوز – ترجمة منير إسماعيل وهاشم صالح – مركز الحريري الثقافيّ 1993 - ص 169-170
(2) - الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجريّ – تصدير الترجمة العربيّة بقلم أحمد أمين – ص 7
(3) - فجر الإسلام – ص 139(1/124)
وأمّا من يرى أنّ الحضارة الإسلاميّة نتاج إسلاميّ خالص، وأنّ هذه الحضارة هي طراز العيش الّذي رسمه القرآن الكريم والسنّة الشريفة، فمن المحتّم عليه أن يحكم باكتمال الحضارة الإسلاميّة مع نهاية عهد النبوّة، وهو العهد الّذي دام ثلاثة وعشرين عاماً، ونزلت في أواخر أيّامه الآية الكريمة: { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } (1). وفي أواخر أيّام هذا العهد أيضاً وفي حجّة الوداع بالتحديد يعلن حامل الرسالة - صلى الله عليه وسلم - تمامها واكتمالها بقوله: «قد تركتكم على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك»(2).
يقول "محمّد أسد": «لقد بدأت حضارة الإسلام إذن، رغم كلّ هذه العوامل والظروف والمؤثِّرات، كائناً حيّاً متكاملاً متمايزاً، انبثق نجمها فكان ظهورها في توقيت تاريخي محدود امتدّ زهاء ثلاثة وعشرين عاماً، هي الحقبة التاريخيّة الّتي قضاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - على ظهر هذه الحياة من يوم بعثته حتّى لقي الرفيق الأعلى»(3).
__________
(1) - سورة المائدة - الآية 3
(2) - المسند للإمام أحمد بن حنبل - تحقيق صدقي محمّد جميل العطار -دار الفكر، بيروت -الطبعة الثانيّة 1994م -ج6 - ص82 - رقم الحديث 17142
(3) - الإسلام والتحدي الحضاريّ - ص 24(1/125)
رابعاً:
حضارة عربيّة أم إسلاميّة؟
وممّا ينشأ عن الاختلاف في تفسير نشأة الحضارة الإسلاميّة، اختلافٌ في تصنيف هذه الحضارة وتسميتها. فتفاوتت هذه التسميات بين: "الحضارة الإسلاميّة" و"الحضارة العربيّة" و"الحضارة العربيّة الإسلاميّة". يقول "مصطفى الشكعة": «كثيراً ما تجري محاورات فكريّة حول تسمية هذه الحضارة: حضارتنا. ويقف الدارسون أمام تسميتين: الحضارة الإسلاميّة والحضارة العربيّة. وتبعاً لذلك أصبح حتماً على كلّ مؤلِّف في هذه الحضارة أن يختار لها نسباً عربيّاً أو إسلاميّاً. حدث ذلك بين المؤلّفين ممّن كتبوا باللغة العربيّة، كما حدث أيضاً بين من كتب فيها بلغات أوربّيّة. إنّ آدم متز وجوستاف فون جرونبام يسمّيانها الحضارة الإسلاميّة، بينما جوستاف لوبون يصرّ على تسميتها حضارة عربيّة، ويجعل عنوان كتابه المشهور "حضارة العرب" وكذلك فعل جاك ريسلر حين أسمى كتابه في نفس الموضوع: الحضارة العربيّة»(1).
فأمّا الّذين يطلقون عليها اسم الحضارة العربيّة، فإنّهم يحرصون على هذا الإطلاق انطلاقاً من نظرتهم التاريخيّة البحتة الّتي لا تعترف بالإسلام وحياً من عند الله، وإنّما هو بنظرهم أحد إفرازات المجتمع العربيّ. أو إنّهم على الأقلّ لا يرون ما شهده المجتمع الإسلاميّ من طريقة في العيش نتاجاً إسلاميّاً خالصاً، وإنّما الجانب الأبرز فيه هو المزايا والمواصفات العربيّة.
وأمّا الفريق الّذي يطلق عبارة "الحضارة العربيّة الإسلاميّة"، فهو لا يختلف عن سابقه كثيراً. فالأساس عنده في هويّة هذه الحضارة هو العروبة. إلاّ أنّه يزيد عبارة "الإسلاميّة"، باعتبار مدلولها التاريخيّ فقط، أي للتمييز بين "عصرَي الحضارة العربيّة": الجاهليّ الّذي سبق ظهور الإسلام، والإسلاميّ الّذي يبدأ بعد ظهور الإسلام.
__________
(1) - مصطفى الشكعة - معالم الحضارة الإسلاميّة - دار العلم للملايين - بيروت - طبعة رابعة 1982 - ص 13(1/126)
إلاّ أنّ الفريقين معاً تُواجههما مشكلة في تصنيفهما هذا، ألا وهي أنّ هذه الحضارة موضوع البحث لم يقتصر مجتمعها على العرب وحدهم، وإنّما صهرت في بوتقتها شعوباً وقوميّات عديدة. وعلى هذا الأساس فضّل كثير من الباحثين اختيار اسم "الحضارة الإسلاميّة"، لا لأنّهم ينسبون هذه الحضارة إلى الإسلام بوصفه ديناً، وإنّما اعتباراً منهم لأهمّ سمة رافقت ظهور تلك الحضارة، أو اعتباراً لأحد أهمّ العوامل المحرّكة لنشاط تلك الحضارة منذ نشأتها، ألا وهو ظهور الإسلام. وبتعبير آخر: هذا التصنيف في نظرهم هو تصنيف تاريخيّ بحت .
وأمّا الفريق الّذي يؤمن بأنّ الحضارة الإسلاميّة هي نتاج خالص للدين الإسلاميّ، فعليه، بناء على إيمانه هذا، أن يصنّفها بالحضارة الإسلاميّة، لا بناء على الاعتبار التاريخي وحسب، وإنّما بالدرجة الأولى بناء على الاعتبار الفكريّ: العقديّ والتشريعيّ والثقافيّ.
فهذه الحضارة هي "حضارة الإسلام", لأنّ الإسلام, بوصفه الوحي المنزل من عند الله, هو الّذي صاغ بعقيدته وشريعته نمط عيش المسلمين, وبالتالي هو الّذي صاغ المجتمع الإسلاميّ. وهذا المجتمع الّذي تَمَثّل أمّة منتشرة في بقاع الأرض -ولم يكن العرب إلاّ جزءاً صغيراً منها- هو الّذي جسّد الحضارة الإسلاميّة على أرض الواقع وفي معترك التاريخ.…(1/127)
خامساً:
مظاهر ازدهار الحضارة الإسلاميّة
ومظاهر تراجعها
هذا أيضاً محور جديد من محاور الخلاف: النظرة إلى مظاهر ارتقاء المجتمع الّذي تشكَّل بهذه الحضارة ومظاهر انخفاضه وتراجعه. فلقد سبق ورأينا أنّ أصحاب النزعة "التاريخيّة" في تفسير نشوء الحضارة الإسلاميّة يقيمون اعتباراً أساسيّاً للتمازج الحضاريّ والثقافيّ بين العرب وغيرهم من الأمم والشعوب المجاورة والخاضعة للدولة الإسلاميّة . فيجعلون كثرة التآليف والمصنّفات الفكريّة، ذات الألوان المختلفة والاتجاهات العديدة والمنابع المتفاوتة، وكثرة الإبداعات الأدبيّة والفلسفيّة وغيرها… يجعلونها دليلاً على الازدهار الحضاريّ والتقدّم في ذلك المجتمع . كما أنّهم يعطون أهميّة كبرى لمدى التطوّر العلميّ والتقنيّ وللمستوى العمرانيّ والماديّ ولمظاهر الترف والزخرف الّتي اتسم بها المجتمع، للحكم على مدى ارتقائه وتقدّمه. فحين ينعم المجتمع الإسلاميّ بمستوى عالٍ من المدنيّة والمظاهر المادّيّة، عندها فقط يحكمون عليه بالارتقاء والنهوض والتقدّم …
يقول "محمّد سعيد رمضان البوطي" : «والحقّ، أنّني ما رأيت كاتباً أجنبيّاً مستشرقاً أو غيره، تطرّق إلى البحث في تاريخ الحضارة الإسلاميّة، إلاّ واتّسم بحثه بظاهرتين :
«الظاهرة الأولى أنّ الكاتب يحصر حديثه حصراً تامّاً، في استعراض منجزات الحضارة الإسلاميّة، لا سيّما المادّيّة منها، من عمران، وصناعة، وفنون ، وعلوم إنسانيّة وكونيّة، ونحو ذلك. ويحاذر أن يعرّج من خلال ذلك على ذكر شيء يتعلّق بأساس تلك المنجزات والروح الباعثة عليها والنواة الّتي انفلقت عن غراسها !…(1/128)
«الظاهرة الثانية: أنّه ينهي مديحه وإعجابه بتلك المنجزات الحضاريّة، بطرح السؤال الّذي يحوك وراء صدور جميع المسلمين اليوم، وهو: فلماذا تحجّرت هذه الحضارة اليوم بعد ذلك الازدهار العجيب؟ ليجيب على هذا السؤال قائلاً: إنّه التقوقع على الذات، وعدم الانفتاح على العالم الآخر!... »(1)
الحقيقة أنّ هذه النظرة من هؤلاء المؤرِّخين تعبّر عن الجانب الّذي يستولي على اهتمامهم حين البحث في تاريخ المجتمع الإسلاميّ. فالّذي يسترعي انتباههم بشكل أساسيّ هو الإنتاجات الأدبيّة والفلسفيّة الّتي ظهرت في كنف الدولة الإسلاميّة والّتي أسهم بها عديد الأمم والشعوب واللغات. كما يسترعي انتباههم المستوى المادّيّ والعمرانيّ والمدنيّ الّذي وصلت إليه البلاد الإسلاميّة. ومهما اختلفنا أو اتّفقنا في مدى أهميّة تلك الجوانب، فإنّها بالتأكيد شيء آخر غير الحضارة الإسلاميّة.
إنّ كثرة المؤلّفات والإبداعات الفكريّة والأدبيّة ليست بحدّ ذاتها دليلاً على مدى ارتقاء المجتمع أو انحطاطه. بل إنّ المؤرِّخين يعمدون إلى نصوص تلك الإبداعات، كي يقفوا من خلال مضامينها على الأحوال الّتي اكتنفت مجتمعها في جوانبه المختلفة، من سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وعسكريّة وثقافيّة وغير ذلك. إذ غالباً ما تكون مضامين تلك النصوص معبِّرة عن الأحوال في ذلك المجتمع، أو على أقلّ تقدير، عن شريحة من شرائحه.
__________
(1) - محمّد سعيد رمضان البوطي – منهج الحضارة الإنسانيّة في القرآن - دار الفكر, دمشق – الطبعة الأولى, 1982م - ص 159(1/129)
فقد تعبّر تلك المؤلّفات -على قلّتها- عن حالة من الوعي الفكريّ والسياسيّ وعن حالة من التماسك والارتقاء والنهوض في المجتمع، كما كان شأنها في عهد النبوّة والخلافة الراشدة. وقد تعبّر -على كثرتها- عن حالة من الانحطاط والضياع والتخبّط في التفكير وعن حالة من الانحطاط والتفكّك السياسيّ والضعف العسكريّ، كما هو شأنها في العالم الإسلاميّ في تاريخنا المعاصر.
وأمّا المستوى المدنيّ والتقنيّ والعمرانيّ، فلا شكّ أنّ النهضة الحضاريّة تسهم في إعلاء صرحه، إلاّ أنّه ليس بحدّ ذاته دليلاً على الرقيّ الحضاريّ في أيّ مرحلة من المراحل. بل قد يكون بعض الأحيان مؤذناً بانحطاط سياسيّ وتفكّك مجتمعيّ واندثار حضاريّ، كما كان شأن الحضارة الرومانيّة في أواخر عهدها، وكما يتوقع الكثير من المفكِّرين للحضارة الغربيّة المعاصرة. وها هو "أرنولد توينبي" ينبّه إلى أنّ أيّاً من التوسّع السياسيّ والحربيّ أو تحسين الأسلوب الفنيّ لا يُعدّ قاعدة مناسبة لقياس الارتقاء الحقيقيّ. ولا تبدي التحسينات التكنولوجيّة -في رأي "توينبي"- سواء أكانت زراعيّة أو صناعيّة، سوى ارتباط قليل –أو لا شيء البتّة– بينها وبين الارتقاء الصحيح. وحقّاً فقد يرتقي تماماً الأسلوب الفنيّ وقتما يكون التحضّر الفعليّ في مرحلة الانحطاط. والعكس بالعكس(1).
__________
(1) - انظر : مختصر دراسة للتاريخ – ج1 – من ص 322 حتّى ص 330(1/130)
لذلك لا يفرحنّ كثير من الغيورين على الحضارة الإسلاميّة حين يكيل بعض الباحثين الغربيّين المديح للحضارة الإسلاميّة وهم يشخصون بأعينهم إلى أشياء ليست من الحضارة في شيء. فَلَكَم تغنّى هؤلاء الغيورون بكتاب "حضارة العرب" لغوستاف لوبون الّذي "سلبت لبّه" تلك الحضارة وفُتن بها، وهو لا يعني بتلك الحضارة إلاّ ما أنجزه المسلمون من علوم طبيعيّة في الطبّ والفيزياء والكيمياء أو من عمران وفنون وزخارف وإنجازات تقنيّة أو من إبداعات أدبيّة وموسيقيّة... وغيرها. ولكم تغنّوا بكتاب "زيغريد هونكه" "شمس العرب تسطع على الغرب"، وهو أيضاً على نهج الّذي سبقه. وحين يتكلّم هؤلاء الباحثون عن الجانب الثقافيّ والفكريّ في المجتمع الإسلاميّ، فإنّهم يسلّطون الأضواء على من عرفوا بفلاسفة الإسلام الّذين ليسوا في الحقيقة إلاّ ناقلين للفلسفة اليونانيّة وغيرها، والّذين لا يعبرّون أدنى تعبير عن الحضارة الإسلاميّة (1).
الخلاصة أنّ كلّ ما سبق، من المظاهر الّتي أوردناها، ليست مقياساً في مسألة الحكم على مدى الازدهار والتقدّم الحضاريّ في المجتمع، ولا سيّما المجتمع الإسلاميّ. وإنّما المقياس هو شيء آخر.
__________
(1) - سوف يكون موضوع الفلاسفة الإسلاميّين محل بحث في فصل لاحق .(1/131)
إنّ قاعدة السببيّة الّتي تحكم الحياة، تقتضي أنّه إذا كان المجتمع الإسلاميّ قد ارتقى بحضارة أنتجها الإسلام بعقائده وتشريعاته وأفكاره ، فإنّ هذا المجتمع سيدوم راقياً ما أَحْكَمَ صياغةَ عيشه وفق هذه المقوِّمات. وإنّه بقدر ما يبتعد فكرياً وسلوكياً عن هذا المَعين الصافي يتخلّف وينخفض ويتفكّك. والمؤرّخ الملتزم بهذه السببيّة الفكريّة والتاريخيّة سيتابع الخطّ البيانيّ لحركة الارتقاء والانخفاض في التاريخ الإسلاميّ على هذا الأساس. فيكتشف أنّ الارتقاء يترافق مع قدر متناسب من الانسجام مع الإسلام، وأنّ الانخفاض يترافق مع قدر متناسب من مجافاته والمجانَبة له. وعلى هذا الأساس يُصدر مؤرّخ مثل "محمود شاكر" حكمه فيقول: «إنّ أسس الحضارة وأصولها قد بلغت أوجها في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين رضوان الله عليهم، وبدأت آثارها تظهر بعد الفتوحات. إلاّ أنّ الترف قد أعطى آثاراً ترفيهيّة، فتهدّمت الحضارة منذ وضوح مظاهرها إذ زالت أسسها»(1).
سادساً:
ما هو أثر المؤثِّرات والدواخل الحضاريّة
على المجتمع الإسلاميّ؟
إنّ كلّ ما سبق من البحث يقودنا إلى محور جديد من محاور الخلاف. ألا وهو: النظرة إلى الدواخل الحضاريّة والفكريّة على المجتمع الإسلاميّ: هل هي من العوامل الصحّيّة الّتي ترتقي به، أم هي من عوامل المرض؟!
__________
(1) - محمود شاكر– التاريخ الإسلاميّ – المكتب الإسلاميّ ، بيروت – الطبعة الخامسة 1411 هـ / 1991م – ج5 – ص40(1/132)
لقد اعتاد المؤرِّخون الغربيّون على التغنّي باللوحة الفسيفسائيّة المؤلَّفة من العناصر الحضاريّة والثقافيّة الّتي أتت من كلّ جانب من جوانب الحضارات لتشكّل معاً لوحة رائعة الألوان أتقن العرب سبكها ومزجها والتوفيق بينها، فكانت من أروع اللوحات أناقة في التاريخ. ولنُعطِ مثالاً على ذلك تعبير الأميركي "لوثروب ستودارد" الّذي يرى أنّ العرب كانوا «أمّة موهوبة جليلة الأخلاق والسجايا، توّاقة إلى ارتشاف العلوم، محسنة في اعتبار نِعم التهذيب، تلك النعم الّتي قد انتهت إليها الحضارات السالفة. وإذ شاع بين الغالبين والمغلوبين التزاوج ووحدة المعتقد، كان اختلاط بعضهم ببعض سريعاً، ومن هذا الاختلاط نشأت حضارة جديدة، الحضارة العربيّة، وهي جماع متجدّد التهذيب اليونانيّ والرومانيّ والفارسيّ. ذلك الجماع الّذي نفخ فيه العرب روحاً جديدةً، فنضر وأزهر، وألّفوا بين عناصره وموادّه بالعبقريّة العربيّة والروح الإسلاميّة فاتّحد وتماسك بعضه ببعض فأشرق وعلا علوّاً كبيراً»(1).
__________
(1) - حاضر العالم الإسلاميّ – م1 – ص 3،4(1/133)
فالمؤرِّخون الغربيّون ومَن جرى مجراهم لمّا أسّسوا نظرتهم إلى الحضارة الإسلاميّة على أنّها مزيج من العناصر الحضاريّة العديدة، كان من الطبيعيّ والمحتّم أن يزدادوا تغنّياً بهذه الحضارة كلّما بدا أنّها تتلقّف العناصر الجديدة من شرق وغرب ومن هنا وهناك. ولتزداد حسب رأيهم تألّقاً وزهواً. ولا يلتفتون في هذا السياق إلى ما تحدثه هذه العناصر من تأثير في المجتمع: أهو تأثير إيجابيّ أم سلبيّ؟ هل هي منسجمة مع طبيعة عيشه أم متناقضة؟ هل ساهمت في بلورة هذه الحضارة أم عملت على تعكير صفوها؟ هل زادت عقليّة المجتمع حيويّة وتألّقاً أم شوَّشت تفكيره؟!… وكأنّ الغاية من التاريخ هي أن يرسم لهؤلاء المؤرِّخين لوحات زيتيّة أو فسيفسائيّة عملاقة أو مسرحيّات ملحميّة طويلة، ليمتِّعوا بها أنظارهم، بعد أن فصلت بينها وبينهم مسافة من مئات السنين . وأمّا ما يجري به التاريخ من ارتقاء ونهوض واستقرار وأمن وطمأنينة، أو من انحطاط وانخفاض ونكبات وتخبّط واضطراب وويلات على المجتمعات والبشر الّذين عايشوه، فهذا آخر ما يفكّر به هؤلاء، ولا سيّما حين تكون أمام أنظارهم اللوحة الملحميّة الإسلاميّة .(1/134)
إنّ المؤرّخ الّذي ينتمي إلى الحضارة الإسلاميّة،ويعدّ نفسه من حملة لوائها والعاملين على إحيائها،يجب أن ينأى بنفسه عن هذه النظرة الأنانيّة المتعالية والخالية من حسّ المسؤوليّة. فهو يرى أنّ الحضارة الإسلاميّة -بوصفها طريقة العيش الّتي رسمها الإسلام- لا تقبل الامتزاج والتزاوج بينها وبين سائر الحضارات، إذ لكلّ من هذه الحضارات وجهتها في الحياة وطريقتها في العيش ومفاهيمها عن الأشياء وقيمها الخاصّة وأهدافها الكبرى ومثلها العليا. ولمّا كانت الحضارة الإسلاميّة حضارة مكتملة الأركان شاملة الجوانب مستجيبةً لكافّة مواقف الحياة واستحقاقاتها منذ أن اكتمل الدين الإسلاميّ في عهد النبوّة،كانت غنيّة عن غيرها.بل إنّ أيّاً من المؤثِّرات الحضاريّة حين يدخل إلى مجتمعها يكون عنصراً غريباً, سيفتك بهذا المجتمع إن عاجلاً أو آجلاً. ولندَع الكلام لأحد كبار المستشرقين الغربيّين ليعبّر عن هذا المعنى بتعابير مختصرة. يقول "برنارد لويس": «عندما تصطدم حضارتان تسيطر إحداهما وتتحطّم الأخرى. قد ينبري المثاليّون والمفكّرون فيتحدّثون بطلاقة وسهولة عن تزاوج بين أحسن العناصر من الحضارتين، إلاّ أنّ النتيجة العاديّة في هذا التلاقي هي تعايش بين أسوأ العناصر من الاثنتين»(1).
هذا لا يعني أنّ الحضارة الإسلاميّة يجب أن تنكفئ على نفسها فلا تواجه سائر الحضارات ولا تحتكّ بها. بل واجبها أن تنزل إلى ميدان الصراع الحضاريّ، لتقوم بدورها المرسوم لها، { وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النّاس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِين } (2). إلاّ أنّ المهمّة الموكلة بها هي أن تؤثِّر لا أن تتأثّر، أن تقتحم لا أن يُقتحم عليها. هذه بالتأكيد وجهة النظر الذاتيّة للحضارة الإسلاميّة، ولا يمكن لغير أتباعها أن يتقبّلوا هذا التفكير .
__________
(1) - الغرب والشرق الأوسط – ص60
(2) - سورة البقرة - الآية 251(1/135)
ونعود لنذكّر أنّ ما سلف من كلام لا يعني بشكل من الأشكال رفض الحضارة الإسلاميّة للأشكال والوسائل والمظاهر المادّيّة والمدنيّة الّتي تنساب بين مختلف الحضارات والمجتمعات البشريّة والّتي لا شأن لها بالهويّة الحضاريّة للمجتمع، ولا شأن لها بوجهة النظر في الحياة. فكلّ ما كان من العلوم الطبيعيّة والإنجازات المادّيّة والوسائل العمليّة المستخدمة، وكلّ ما كان من الفنون والآداب الخالية من المضامين المتعارضة مع الحضارة الإسلاميّة… ليس معنيّاً بهذه القاعدة. وإنّما المعنيّ هو تلك الدواخل والمؤثِّرات الفكريّة الّتي نجمت عن حضارات ذات وجهة مخالفة للحضارة الإسلاميّة، والّتي هي غنيّة عنها.(1/136)
إنّ هذه الدراسة لا تدّعي أنّ المجتمع الإسلاميّ –وهو النموذج الحيّ والكيان التاريخي للحضارة الإسلاميّة– بقي خالياً من تلك المؤثِّرات والعناصر الحضاريّة الدخيلة. بل هذه العناصر هي ما ستتقصاه الفصول المقبلة منها. إلاّ أنّها تتنبَّه وتُنبِّه إلى قاعدة أساسيّة: وهي أنّه لا يجوز أن تُنسب هذه العناصر والمؤثِّرات إلى الحضارة الإسلاميّة لمجرّد أنّها تسلّلت إلى المجتمع الإسلاميّ، وأنّ هذه العناصر لا يمكن أن تُعدّ بشكل من الأشكال عوامل ازدهار وارتقاء في المجتمع الإسلاميّ. فالمجتمع الإسلاميّ هو كائن حيّ، تسري الحضارة الإسلاميّة في عروقه وتغذّي أعضاءه بأسباب الحياة، ويستمدّ منها أسباب الصحّة والعافية. إلاّ أنّ هذا الكائن الحيّ يعيش في بيئة مليئة بالكائنات العضويّة الأخرى، فمن الطبيعيّ أن يتأثّر بها وأن تتسلّل إلى أعضائه كلّما غفل عن رعاية نفسه وإتقان اغتذائه، فتكون بعض هذه العضويّات من عوامل ضعفه وانتكاسه في الحال أو الأجل القريب أو البعيد. إلاّ أنّها في كلّ الأحوال شيء آخر غير روح ذلك الكيان ودمه، أي هي شيء آخر غير الحضارة الإسلاميّة. وعلى حدّ تعبير "محمّد أسد": «فكما لا تستطيع كلّ مؤثِّرات البيئة أن تغيِّر بنية الطفل وخصائص تكوينه في أساسه وجوهره من يوم لفظته أحشاء أمّه إلى هذه الحياة الدنيا، فكذلك لا تستطيع المؤثِّرات الطارئة المتأخّرة الّتي اعترت حضارة الإسلام أن تغيّر من خصائصها الأولى أيّ تغيير أساسيّ، فكان جلّ ما أصابته هذه المؤثِّرات هو تغطية هذه الخصائص والمقوّمات أو تعطيلها إلى حين»(1).
__________
(1) - الإسلام والتحدي الحضاريّ - ص 23(1/137)
وفي نهاية هذا الفصل نلفت النظر إلى ناحية مهمّة. وهي أنّ الانسياق مع النظرة الّتي تَعدّ العناصر والمؤثِّرات الحضاريّة الّتي دخلت المجتمع الإسلاميّ، من مكوِّنات الحضارة الإسلاميّة، يؤدّي إلى نتيجة خطيرة جداً، ألا وهي حتميّة تبدُّل هذه الحضارة، وبتعبير أصحّ اندثارها. ذلك أنّه كلّما امتدّ الزمان بالمجتمع الإسلاميّ عبر مئات السنين حتّى يومنا هذا,كانت الدواخل والمؤثِّرات الحضاريّة تتغلغل فيه أكثر فأكثر يوماً بعد يوم، حتّى وصل الأمر إلى أن غزت الأفكار الوافدة من الحضارات المجتمع الإسلاميّ لدرجةٍ حوّلته في التاريخ المعاصر عن كونه مجتمعاً إسلاميّاً. فهل يواصل هؤلاء دأبهم على إلصاق كلّ هذه المؤثِّرات بالحضارة الإسلاميّة، فيتجرّؤوا على القول إنّ حاضر الأمّة الإسلاميّة يعبّر عن الحضارة الإسلاميّة؟! أو إنّ الحضارة الإسلاميّة قد وصلت إلى هذا الشكل الّذي تتّسم به الأمّة الإسلاميّة في العصر الحاضر؟! إن كان الجواب بالإيجاب، فقد وصل هؤلاء إلى هدف واضح، ألا وهو تبديل الحضارة الإسلاميّة، أي القضاء عليها مع المحافظة على اسمها فقط!! وإن كان الجواب بالنفي، فهذا يعني أنّه وجب عليهم أن يعيدوا النظر في قاعدتهم الّتي جروا عليها في دراسة التاريخ الحضاريّ الإسلاميّ، أعني: قاعدة تقميش هذه الحضارة من رُقَع التاريخ !!(1/138)
الفصل الثالث:
المجتمع الإسلاميّ
والاحتكاك الحضاريّ والثقافيّ
توطئة:
لماذا الاحتكاك الحضاريّ والثقافيّ؟
«الاحتكاك الثقافيّ مصطلح يشير إلى مجموعة من العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، وبين الجماعات الإنسانيّة المختلفة يترتّب عليها حدوث تغيّر ثقافي يتّخذ أشكالاً متعدّدة، بعضها مادّي وبعضها معنويّ. وغالباً ما ترتبط هذه الأشكال بعادات الجماعة وتقاليدها ومثلها العليا، ومن الصعب على أيّ مجتمع استعارة عناصر ثقافيّة من مجتمع آخر دون احتكاك ثقافي، وما يترتّب عليه من تفاعلات ثقافيّة تؤدّي إلى ظهور سمات ثقافيّة محدّدة. »(1)
إنّ الاحتكاك الحضاريّ والفكريّ هو من أهمّ الأهداف الّتي أراد الإسلام تحقيقها، حين شرع الجهاد والفتوح والسياسة الخارجيّة للدولة الإسلاميّة. قال تعالى: { وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِين } (2).فحمل الإسلام رسالة إلى العالم هو الهدف الأكبر للمسلمين في هذه الحياة، { كُنْتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ } (3)، { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمّة وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً } (4). وهؤلاء الناس الّذين تذكرهم الآيات السالفة هم جميع الناس، لا فرق بين عربيّ وعجميّ ولا بين أحمر وأسود، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين } (5) .
__________
(1) - لطفي بركات أحمد - المعجم التربوي - دار الوطن/الرياض 1984 - مادّة رقم 35 - ص28
(2) - سورة البقرة - الآية 251
(3) - سورة آل عمران - الآية 110
(4) - سورة البقرة - الآية 143
(5) - سورة الأنبياء - الآية 107(1/139)
بناء على هذه الآيات وكثير غيرها، وضع المسلمون نصب أعينهم منذ فجر الإسلام حمل دعوتهم رسالة إلى العالم. والجهاد في سبيل الله إنّما شُرع ومارسه المسلمون تحقيقاً لهذه الغايّة. إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ الدعوة إلى الإسلام اعتمدت قوّة السيف. فالجهاد لم يكن إلاّ توطئة للقيام بأعمال الدعوة، إذ إنّ وظيفته تنحصر في تحطيم الحواجز المادّيّة الّتي تقف عائقاً أمام تلك الدعوة.فإذا ما زالت تلك الحواجز أخلى المقاتلون الساحة لِحَمَلَة الدعوة،بل ربّما تحوّل كثير من المقاتلين أنفسهم إلى دعاة يعتمدون الفكر واللسان والمحاجّة لإيصال رسالتهم .(1)
ومعلوم أنّ أيّ دعوة يراد نشرها بين الناس، لا تواجه عقولاً فارغة من الفكر والقناعات، ولا تواجه نفوساً خاوية من المشاعر والأهواء الخاصّة، ولا تواجه مجتمعاً مجرّداً من المقاييس والقواعد السلوكيّة وأنظمة العلاقات، ولا سيّما حين يتعلّق الأمر بمجتمع عريق الحضارة والثقافة والتشريع،كمجتمع الإمبراطوريّة الفارسيّة أو البيزنطيّة. من هنا كانت عمليّة نشر الإسلام وثقافته، وبالتالي صهر المجتمعات بحضارته، مهمّة من أصعب المهامّ، واستحقاقاً تاريخياً عظيماً. فما هي الطريق الّتي سلكها المسلمون إلى هذا الهدف ؟
__________
(1) -انظر : ضحى الإسلام – ج1 – ص231(1/140)
إنّ المدقّق في آيات القرآن الكريم يجدها تدعو المسلمين وجميع الناس إلى الجدال والمحاججة ومقارعة الفكر بالفكر والرأي بالرأي. وتدعو ألدّ خصوم الدعوة إلى النقاش والمنازلة الفكريّة. هذا المنهج هو المنهج القرآنيّ منذ أول عهده في مكّة قبل قيام دار الإسلام، واستمرّ بعد قيامها في المدينة يثرب، وثابر عليه المسلمون من بعدُ عبر العصور المتطاولة. فنقرأ في القرآن الكريم: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين } (1)، ونقرأ: { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين } (2)، ونقرأ: { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } (3). ويجعل القرآن الكريم التحاكم إلى العقل في أصل العقيدة الأساس في مجادلة الكافرين. فيقول: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَمَواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالفُلْكِ الّتي تَجْرِي فَي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحيا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كلّ دَابّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ والسَّحابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَماءِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لقومٍ يَعْقِلون } (4) .
__________
(1) - سورة البقرة – الآية 23
(2) - سورة النحل – الآية 64
(3) - سورة الأنعام – الآية 148
(4) - سورة البقرة – الآية 164(1/141)
على هذا الأساس خاض الرسول- صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الصحابة، الصراع الفكريّ في المرحلة المكّيّة وكلّ المراحل الّتي تلتها. وإذا كان الجدال في المرحلة المكّيّة استهدف، بالدرجة الأولى، عَبَدة الأوثان من مشركي مكّة وسائر الجزيرة العربيّة، فإنّ المرحلة المدنيّة أضافت إلى ذلك، الجدال مع أهل الكتاب من يهود ونصارى. فأمَر الإسلام بجدالهم مع توخّي المزيد من الحرص وحسن الخطاب. قال تعالى: { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاّ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ } (1). وإنّنا لنجد في القرآن الكريم عشرات من الآيات الّتي تحاجج أهل الكتاب فيما ذهبوا إليه من عقائد وآراء تخالف عقيدة التوحيد الّتي يؤكّد القرآن أنّها عقيدة جميع الأنبياء. وكانت مناسبة تلك الآيات احتكاك الدعوة الإسلاميّة بيهود المدينة ومن حولها، ثمّ احتكاكها بالنصارى الّذين أَوفدوا الوفود من بعض أنحاء الجزيرة العربيّة إلى المدينة لمناقشة الرسول- صلى الله عليه وسلم - .
أولاً:
الفتوح الإسلاميّة والاحتكاك الحضاريّ
حين توسّعت الدولة الإسلاميّة، ودخلت شعوب ذات أديان وثقافات متعدّدة في دار الإسلام، شمّر المسلمون عن سواعد الجدّ لمخاطبة هؤلاء الناس ومحاورتهم بهدف دعوتهم إلى الإسلام. ولمّا ترك الإسلامُ للناس حقَّ البقاء على دينهم أو اعتناق الإسلام اختياراً، فإنّهم وجدوا المجال أمامهم مفتوحاً ليدافعوا عن أديانهم وأفكارهم وقناعاتهم الّتي عاشوا عليها قروناً، ولم يكونوا ليتخلّوا عنها بسهولة وبساطة. فدافع الفرس والمجوس عن ديانتهم، ودافع النصارى عن ديانتهم، وكذلك فعل اليهود وغيرهم من أهل الأديان والملل .
__________
(1) - سورة العنكبوت – الآية 46(1/142)
وهكذا نشأ الجدال والنقاش بين المسلمين وأهل الأديان، فكان ذلك من أهمّ العوامل الّتي أثارت حركة فكريّة ونشاطاً ثقافيّاً في البلاد الّتي ضُمّت إلى دار الإسلام من تخوم الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسيّ غرباً ثمّ إلى تخوم بلاد الفرنجة شمالاً. وكانت المجادلات والنقاشات والمناظرات، منصبّة على القضايا الدينيّة بشكل أساسيّ. فكلّ فريق يريد أن يُثبت صحّة العقائد الّتي تشكّل أساساً لدينه. إذ لكلّ ديانة نظرتها إلى الإيمان بالله وصفاته وإلى اليوم الآخر والنعيم والعذاب، ولكلّ ديانة أنبياؤها ورجالها الّذين تعلي شأنهم ، ولكلّ واحدة منها نظرتها الخاصّة إلى الحياة والإنسان والكون .
إلاّ أنّ الملاحظ أنّ الجدال لم يقتصر على القضايا الدينيّة. ذلك أنّ الشعوب الّتي غزاها الإسلام كانت في غالبها متسلّحة بأفكار فلسفيّة،لها مدارسها وأوساطها المزدهرة، ولا سيّما النصارى الّذين تسلّحوا بالفلسفة اليونانيّة، وراحوا يستخدمونها، لتأييد آرائهم الدينيّة من جهة، ولإثارة التساؤلات والمعضلات الفكريّة أمام الفاتحين الجدد، الّذين خرجوا بالإسلام للتوّ، من جزيرةٍ لم يكن لها سابق عهد بأيّ فلسفة من الفلسفات(1).
__________
(1) - انظر : فجر الإسلام – من ص (128) حتّى ص (134)(1/143)
«فبلاد الشام والعراق وفارس ومصر كانت مهداً لثقافات كبيرة واسعة، هنالك مدارس قديمة يعرفها الناس، كانت تؤلَّف فيها الكتب وتترجم: اشتهرت منها مدرسة الرها، ونصيبين، وحرّان ، وفي مصر والإسكندريّة، وفي العراق مدرسة للصابئة، وفي فارس مدرسة جنديسابور. كانت هذه المدارس تتفاعل بثقافة يونانيّة وبعلوم دينيّة مسيحيّة، وكانت أشهر هذه المدارس الإسكندريّة، وهي مدرسة للطبّ ولعلوم اليونان. وقد أحدثت هذه المدرسة مذهباً فلسفياً جديداً دعي بالمذهب الأفلاطونيّ الحديث»(1).
__________
(1) - يوسف العش – تاريخ عصر الخلافة العباسيّة – راجعه ونقّحه محمّد أبو الفرج العش – دار الفكر ، دمشق – الطبعة الأولى 1402هـ/1983م تصوير 1990م – ص (236) – وانظر أيضاً : ضحى الإسلام – ج1 – ص 253 حتّى 261(1/144)
من المعلوم لدى المسلمين، أنّ منهج القرآن الكريم،في مواجهته للعقائد والأفكار عن الحياة، يعتمد عرض الفكرة المخالفة له ونقضها ببيان ضعفها وافتقارها إلى الحجّة والبرهان وإبراز التناقض فيها، ومن ثَمَّ تثبيت العقيدة الإسلاميّة بديلة عنها. فمن ذلك مثلاً قوله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالعُزّى - وَمَنَاةَ الثَالِثَةَ الأُخْرى - أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى - تِلْكَ إذاً قِسْمَةٌ ضِيْزَى - إِنْ هِي إلاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بها مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إلاّ الظَنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهَمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى } (1)،وقوله سبحانه: { وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيْهِمْ وَلُعِنُوا بِما قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } (2)، وقوله عزّ وجلّ: { وَقَالَتِ اليَهودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النصارَى المسيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِيَنَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنّى يُؤْفَكُون } (3) .
__________
(1) - سورة النجم – الآيات من 19 حتّى 23
(2) - سورة المائدة – الآية 64
(3) - سورة التوبة – الآية 30(1/145)
هكذا، وانقياداً لمنهج القرآن الكريم،ولمّا وجد المسلمون أنفسهم أمام مدارس وتيّارات فلسفيّة تسند أديان أهل البلاد المفتوحة، كان لا بدّ لهم من الاطّلاع على أبحاث هذه المدارس وتيّاراتها لنقضها، وتركيز العقائد والأفكار الإسلاميّة بدلاً عنها. كما قام بعض أهل الأديان بالمقابل بوضع دراسات يعرضون فيها آراء الإسلام، ويُتبعونها بآرائهم للردّ عليها. فمن بين العلماء النصارى الّذين أظهروا في وقت مبكّر اهتماماً بدراسة الإسلام -لا من أجل اعتناقه، وإنّما من أجل حماية إخوانهم النصارى منه– كان العالم النصرانيّ يوحنّا الدمشقيّ(676-749م). ومن بين مصنّفاته في هذا الصدد لإخوانه في الدين كتاب(محاورة مع مسلم) وكتاب(إرشادات النصارى في جدل المسلمين). وكانت كتابته على نحو: إذا قال لك المسلم كذا فأجبه بكذا (1).
إنّ هذه الحركة الفكريّة نشطت بشكل واضح بعد استقرار الفتوح الإسلاميّة، ولا سيّما في العهد الأمويّ. إلاّ أنّ العصر العبّاسيّ جعل النشاط الثقافيّ يبلغ الذروة في غزارته وحيويّته وسعته، وذلك بفضل حركة الترجمة والتصنيف الّتي بدأت تظهر في العهد الأمويّ على نطاق ضيّق وبلغت أوجها في العهد العبّاسيّ .
__________
(1) - انظر : الاستشراق والخلفيّة الفكريّة للصراع الحضاريّ– ص 19 - وانظر أيضاً : فجر الإسلام – ص 134(1/146)
يقول "يوسف العش": «يصحّ القول بأنّ التصنيف ابتدأ في العصر العبّاسيّ، ومعنى هذا أنّ تصنيف الكتب على أسلوب دقيق منظّم بدأ في العصر العبّاسيّ، إلاّ أنّ الكتابة والتأليف والجمع حدث قبل العصر العبّاسيّ، وأيّاً ما كان الأمر، فالحركة في العصر العبّاسيّ كانت قويّة بدرجة تذهل الإنسان: فهذه البصرة تؤلِّف الكتب وتستخرج الآراء، وتضع النحو، وهذه الكوفة تكتب في التاريخ والأدب، وتؤلِّف في النحو، وهذه بغداد تضمّ خضّماً هائلاً من العلماء، يتكاثرون في المساجد، ويكتبون العلم، حتّى إذا وصلنا إلى عصر المأمون، رأينا معظم المتعلّمين ينكبّون على التأليف، وعلى إخراج الكتب»(1).
وقد اتّصل خلفاء بني العبّاس بعلماء المدارس الّتي كانت قائمة في بلاد فارس والعراق والشام ومصر. فقد كانوا يستدعونهم إلى بغداد، وينفقون عليهم الأموال لترجمة الكتب إلى اللغة العربيّة؛ وقد وضع نظام دقيق لهذه الحركة المعرفيّة، لذلك فإنّه ما حلّ عصر المأمون حتّى كان قد ظهر في بغداد ما سمّي ببيت الحكمة، الّذي وَضَع عليه الحفّاظَ، وأتحفه بالمترجمين والعلماء. واستطاع الخليفة أن يجعل من هذا البيت قِبلة العلماء، وأن ينظّمه التنظيم الدقيق، وقد عُرف هذا البيت باسم المأمون، واشتهر به. وقد أرسل هذا الخليفة بعثة إلى بلاد الروم لتُحضر له كتب اليونان المخزونة، وكان الروم آنذاك لا يعنون بها، وقد أقفلوا عليها الأقفال، فاستخرجتها هذه البعثة وعادت بها إلى بيت الحكمة(2)، وكان المأمون قبل ذلك قد طلب عدداً من الكتب من بلاد الروم أُرسلت إليه، ثمّ إنّه هادن ملك قبرص على أن يعطيه خزانة من الكتب كانت لديه(3).
__________
(1) - تاريخ عصر الخلافة العباسيّة - ص 235-236
(2) - انظر : ابن النديم، محمّد بن أبي يعقوب إسحق - الفهرست – دار الكتب العلميّة ، بيروت – الطبعة الأولى 1416هـ/1996م – ص 395-396
(3) - انظر : تاريخ عصر الخلافة العباسيّة – ص 237-238(1/147)
وقد نظّم المأمون عمل الترجمة، فوضع عليها أميناً، وهو "يوحنّا بن البطريق"، ووضع بين يديه الكتّاب الحذّاق بالسريانيّة واليونانيّة، وأحضر كبار المترجمين، وكلّف بعض العلماء بالتصحيح اللغويّ، فخرجت الكتب تتوالى مترجمة مصحَّحة في نسخها الأخيرة(1).
وهكذا شهد ذلك العصر ظاهرة لم يسبق لها مثيل، لا من قريب ولا من بعيد، من حيث الحيويّة الفكريّة والنشاط الثقافيّ. إلاّ أنّ السمة الأبرز الّتي ميّزت هذه الحركة الفكريّة -وهي أهمّ من غزارة التأليف- هي السمة العمليّة الإيجابيّة، الّتي استهدفت صياغَة عقلياتٍ وقلبَ مفاهيم وتغييرَ أمزجة. فلم يكن الهدف من هذه الحركة الترف الفكريّ.
- فهل استطاعت الثقافة الإسلاميّة أن تصمد كلّيّاً أمام جبهة الصدام الفكريّ والثقافيّ؟ أم أنّه أصابها بعض الانكفاء واعتراها التأثّر بما سواها من الثقافات؟
- هل تأثّرت الثقافة الإسلاميّة بسائر الثقافات أم انتفعت منها؟
- هل استمرّ المجتمع الإسلاميّ يعيش في كنف حضارة إسلاميّة خالصة، تعبّر عن ثقافة إسلاميّة نقيّة، أم أنّه عاش في ظلّ نمط حضاريّ ملوّن؟
- وإن كانت الثقافة الإسلاميّة قد تأثّرت بغيرها، فإلى أيّ حدّ وصل هذا التأثّر ؟
هذا ما يفترض بالفصول التالية أن تجيب عليه .
__________
(1) -انظر : المرجع السابق - ص 238(1/148)
ثانياً:
انتفاع اللغة العربيّة
يقع كثير من الدارسين للتاريخ الثقافيّ الإسلاميّ -ولا سيّما عند حديثهم على الاحتكاك الثقافيّ والفكريّ- في مغالطة وخلط كبيرين. أعني بذلك عدم التمييز بين الانتفاع والتأثّر. إذ إنّ هناك فرقاً لا بدّ من تلمّسه عند الكلام عن احتكاك المسلمين بسائر الثقافات. ألا وهو الفرق بين أن ينتفع المسلمون من التراث الثقافيّ لدى الأمم الأخرى دون أن يكون لذلك تأثير على هويّتهم الحضاريّة -أي دون أن يكون هناك أيّ تأثير على طريقة تفكيرهم ومجموعة أفكارهم ومشاعرهم وأنظمة حياتهم- وبين أن يتأثّروا بما تحويه تلك الثقافات من مفاهيم ووجهات نظر عن الحياة وأنظمة للمجتمع.
وحتّى يتبيّن ذلك الفرق، لا بدّ من مقدّمة صغيرة ينبني عليها البحث في هذا الموضوع. ذلك أنّ الثقافة الإسلاميّة يمكن تصنيفها إلى قسمين أساسيّين، هما: المعارف الشرعيّة، ومعارف اللغة. ونعني بالمعارف الشرعيّة: التفسير وعلوم الحديث والفقه وأصول الفقه وعلم التوحيد وأصول الدين وما شاكلها. ونعني بمعارف اللغة: النحو والصرف، والأدب بشعره ونثره ومعانيه وبيانه وبديعه وما شاكل ذلك.
ومعارف هذا القسم الثاني -أي معارف اللغة- لم تُعدَّ من الثقافة الإسلاميّة إلاّ بقدر ما كانت خادمة للمعارف الشرعيّة، أي بقدر ما كانت لازمة لفهمها والتعبير عنها. لذلك عني علماء المسلمين بدراستها وضبط قواعدها والخوض في معانيها وأساليبها من أجل الحفاظ عليها وسيلة لفهم نصوص القرآن والسنّة،بوصفهما مصدر عقائد الإسلام وتشريعه. كما أنّها فضلاً عن ذلك أفضل لغة يمكن التعبير بها عن الإسلام. لذلك عني المسلمون بنشر اللغة العربيّة جنباً إلى جنب مع الدعوة الإسلاميّة. وهذه العناية حفظت على اللغة العربيّة قواعدها ونحوها وصرفها، فكانت من أصمد اللغات في التاريخ.(1/149)
إلاّ أنّ آداب هذه اللغة من شأنها أن تتوسّع وتنمو وتزدهر، كلّما لاقى أصحابها مزيداً من الأشياء والمعاني الّتي يمكن التعبير عنها بتعابير وأساليب وصيغ وصور جديدة. وهذه الأساليب والصيغ والصور لا يضيرها أن تقتبس من هنا وتستعير من هناك، بعد التجوّل بين جنبات النصوص الأدبيّة من شتّى اللغات. وهي في كلّ الأحوال، ليست مضطرّة إلى أن تحمل معها العقليّة والمفاهيم والآراء الّتي حوتها تلك النصوص. لذلك من الخطأ أن يُعدّ ذلك تأثّراً بسائر الثقافات، إنّما هو انتفاع وحسب(1) .
ذلك أنّ توسّع العرب في بلاد العالم «جعلهم يقفون على أنواع من النبات والحيوان والطعوم وسائر مرافق العمران،وأدخل اللغويّون كلّ ذلك في معاجمهم، فالعرب في الجزيرة لم يكونوا يعرفون الهرم ولا البرابي. ثمّ إنّ كلّ بلد مفتوح أدخل على اللغة كلمات استعملها العرب الفاتحون، وأدخلوها في لغاتهم، بل واشتقّوا منها. فمثلاً لمّا فتح العرب مصر عرّبوا كثيراً من أسماء البلدان كبنها والفيّوم ودمهتور والإسكندريّة، وغير ذلك، وأدخلوا في اللغة من مصر كلمة بطاقة وهي يونانيّة الأصل، واستعملوا منها منشار وهي مصريّة الأصل. واشتقّوا منها نشر ينشر نشراً إلخ »(2). ولا بدّ أن يكون العرب قد أخذوا تراكيب للجمل جديدة ومعاني جديدة وخيالاً جديداً، أغنوا بها أدبهم وأساليب تعبيرهم(3) .
__________
(1) - انظر : تقيّ الدين النبهاني – الشخصيّة الإسلاميّة – دار الأمّة، بيروت – الطبعة الخامسة 1997م - الجزء الأول – ص 276
(2) - ظهر الإسلام – ج2 - ص 88
(3) - انظر فجر الإسلام – ص 117(1/150)
وهذا ليس بدعاً في اللغة العربيّة. فهي حين نزول القرآن الكريم بلسانها، كانت قد اقتبست العديد من الألفاظ من اللغات الأخرى، وأوردها القرآن في آياته، مع أنّه يقول: { إِنّا أَنْزَلَْنَاهُ قُرْءاناً عربيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون } (1). فهذه الألفاظ بعد تعريبها أصبحت جزءاً من اللغة العربيّة. يقول "الإمام الشوكاني": «في القرآن من اللغات الروميّة والهنديّة والفارسيّة والسريانيّة ما لا يجحده جاحد ولا يخالف فيه مخالف، حتّى قال بعض السلف إنّ في القرآن من كلّ لغة من اللغات، ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليبحث كتب التفسير، في مثل المشكاة والإستبرق والسجّيل والقسطاس والياقوت والأباريق والتنّور»(2). وهذه الألفاظ بعد تعريبها أصبحت جزءاً من اللغة العربيّة. فكلّ ما في الأمر إذاً، أنّ توسّع الدولة الإسلاميّة وانتشار اللغة العربيّة، أدّى إلى المزيد من تعريب الألفاظ الّتي اقتُبست من لغات الأعاجم(3) .
__________
(1) - سورة يوسف – الآية (2)
(2) - محمّد بن علي الشوكاني – إرشاد الفحول – دار المعرفة، بيروت – دون تاريخ –ص28
(3) - انظر أيضاً في هذا الموضوع : ضحى الإسلام – ج2 – ص (248)(1/151)
وأمّا عن المعارف الشرعيّة –وهي الّتي يتوفّر فيها رصيد الأفكار والأنظمة الّتي اتّخذها المسلمون مفاهيم لحياتهم وقواعد لسلوكهم وضوابط لعلاقاتهم، أي منها تنبع الهويّة الحضاريّة للأمّة الإسلاميّة– فهي معارف إسلاميّة بحتة، وإن كان بعضها يتّسم بالسمة العقليّة ويُسلك فيه منهج البحث العقليّ، وأعني بذلك علم التوحيد وأصول الدين. لذلك فإنّ الإسلام يحرّم استمداد شيء من هذه المعارف من غير المصادر الشرعيّة تحريماً باتّاً. وكان حرص المسلمين شديداً على حصر تلقّي هذه المعارف من مصادرها الإسلاميّة الأصيلة،وعدم استمداد شيء منها من الثقافات الأخرى. وأفلحوا في ذلك إلى أبعد الحدود، ولم يعرف التاريخ أمّة كانت أكثر استقلالاً في ثقافتها ممّا كانت عليه الأمّة الإسلاميّة في معارفها الشرعيّة.
ثالثاً:
المفسِّرون وروايات أهل الكتاب
لقد استند بعض المؤلِّفين إلى ورود أخبار أهل الكتاب في بعض التفاسير ليدلِّلوا على تأثير اليهوديّة والنصرانيّة في علم التفسير، وبالتالي في الثقافة الإسلاميّة. ومن هؤلاء " أحمد أمين" الّذي يقول عن روايات أهل الكتاب ودخولها في التفاسير: «وقد دخل بعض هؤلاء اليهود في الإسلام فتسرّب منهم إلى المسلمين كثير من هذه الأخبار ودخلت في تفسير القرآن يستكملون بها الشرح، ولم يتحرّج حتّى كبار الصحابة مثل ابن عبّاس من أخذ قولهم. روي أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم»، ولكنّ العمل كان على غير ذلك، وإنّهم كانوا يصدّقونهم وينقلون عنهم»(1).
__________
(1) - فجر الإسلام – ص 201(1/152)
والواقع أنّ إيراد المفسّرين لأخبار أهل الكتاب -وهي المسمّاة بالإسرائيليّات- لم يكن يوماً لأخذ ما فيها من مفاهيم وأحكام ووجهات نظر. وإنّما كانت محاولة لسدّ الفجوات التاريخيّة الّتي كان يشعر المسلمون بوجودها. فالقرآن الكريم، وكذلك السنّة النبويّة لم يفصِّلا في تاريخ بدء الخليقة وأخبار الأمم السابقة، وإنّما اقتصرا على ما يحقّق غاية الهداية والتشريع، فكان لدى بعض المسلمين فضول في معرفة هذه التفاصيل، فلجؤوا إلى أهل الكتاب يسمعون ما عندهم من أخبار، قد تكون صحيحة وقد تكون كاذبة، إلاّ أنّها في كلّ الأحوال ليست من الدين في شيء، وإنّما هي أخبار تاريخيّة فقط، ولا يضرّ المسلمين في شيء أن يصدّقوها أو يكذّبوها ما دامت لا تمسّ شيئاً من العقائد والأحكام الشرعيّة. وهذا هو مفهوم حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم -. روى البخاريّ عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانيّة، ويفسّرونها بالعربيّة لأهل الإسلام، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم، وقولوا: آمنّا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنْزل إليكم»(1).
__________
(1) - فتح الباري بشرح صحيح البخاري – الحافظ أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني – تحقيق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز – دار الفكر، بيروت – 1993 – ج15 – ص275 – رقم الحديث 7362(1/153)
وقد عبّر"ابن خلدون" عن هذه النظرة تعبيراً واضحاً إذ قال: «والسبب في ذلك أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنّما غلبت عليهم البداوة والأميّة، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتشوّق إليه النفوس البشريّة في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الّذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلاّ ما تعرفه العامّة من أهل الكتاب ومعظمهم من حِمير الّذين أخذوا بدين اليهوديّة، فلمّا أسلموا بقوا على ما كان عندهم ممّا لا تعلّق له بالأحكام الشرعيّة الّتي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحِدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض أخباراً موقوفة عليهم، وليست ممّا يَرجع إلى الأحكام فتُتحرّى فيها الصحّة الّتي يجب بها العمل»(1).
هذا في التفسير من حيث هو تفسير. إلاّ أنّ هذا الفرع من المعارف الإسلاميّة –وإن عدّه العلماء المسلمون علماً قائماً بذاته– قد حوى أنواعاً من العلوم الإسلاميّة. فالمفسّر حين يكون بصدد تفسير آية تشريعيّة يكون بحثه "فقهيّاً". وحين يكون بصدد تفسير آيات العقائد، يكون بحثه ملحقاً بعلم التوحيد وأصول الدين. وحين يتعرّض للآيات الّتي تتكلّم عن بدء الخليقة والأمم السالفة، فإنّ بحثه سيكون على صلة بالتاريخ… وهكذا. لذلك فإنّ ما يقال في هذه العلوم بوصفها مستقلّة يقال عنها أيضاً بوصفها جزءاً من كتب التفسير، من حيث إنّ الموضوع هو واحد. ولن تتغيّر عقليّة الكاتب بين أن يكون مصنِّفاً لكتاب في التوحيد -مثلاً- وأن يكون مصنِّفاً لكتاب في التفسير.
__________
(1) - المقدمة - ص 487(1/154)
وعليه فإنّ ما سيجري الكلام عليه، فيما يتعلّق بهذه العلوم، في الفصول اللاحقة من البحث، يتناول هذه الجوانب من التفسير بطريق الإلحاق.
رابعاً:
المحدِّثون والأحاديث المكذوبة
وكذلك حاول بعض المؤرِّخين النفاذ من مسألة وضع الأحاديث المكذوبة إلى أنّ تراث الحديث الشريف لدى المسلمين قد امتلأ بالروايات الموضوعة، وأنّ أخذ المسلمين لها والعمل بما ورد فيها يعني التأثّر بالوضّاعين من أي فئة كانوا .
وفي هذا المجال، لا بدّ من تنبيه هؤلاء إلى وجوب التفريق بين الدسّ وبين التأثّر. فالتأثّر هو أخذ المفاهيم والأفكار من سائر الأمم والأديان لاستحسانها أو شبهة توافقها مع الإسلام، بوصفها مفاهيم وأفكاراً من الأمم والأديان الأخرى. أمّا أخذ المسلمين لبعض الأحاديث المدسوسة والعمل بها، على فرض حصوله، فليس من التأثّر في شيء. فإنّهم أخذوها بوصفها أحاديث لرسول الله- صلى الله عليه وسلم -، لا بوصفها من دين آخر أو أمّة أخرى. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ هذه الأحاديث الموضوعة لم تستطع أن تخترق جدار الثقافة الإسلاميّة الّتي اعتنقتها الغالبيّة العظمى من المجتمع الإسلاميّ. فهي وإن تسرّبت إلى أذهان بعض المسلمين في بعض أزمنة الفتنة، إلاّ أنّ مناعة الفكر الإسلاميّ، المتمثّلة في علماء الإسلام، استطاعت أن تقضي على هذه الدسائس الّتي حاولت الفتك بكيان الثقافة الإسلاميّة. وحصل ذلك عندما قام رجال الحديث بتدوين ما روي لهم من الأحاديث مع أسانيدها، ثمّ التحقيق في هذه الروايات من نقد أسانيدها ورواتها ومتونها. وهذا ما عرف بعلم مصطلح الحديث، وما تبعه من علم الرجال الّذي عني بتراجم الرواة، حتّى يتميّز الثقة الّذي تقبل روايته ممّن سواه.(1/155)
«ومن البدهيّات الّتي لا بدّ من إثباتها هنا أنّ مدرسة الحديث أو أهل الأثر كانوا هم السدّ العظيم الّذي حال دون تسلّل الخرافة وتفشّي البدعة في الحياة الإسلاميّة، وكانوا دائماً وراء حركات التصويب وإعادة الأمّة إلى الجادّة والوقوف بالمرصاد لكلّ دارس أو باحث أو عابد تضلّ به الطريق، إلى درجةٍ لم يعد يجرؤ معها أحد أن يقول في الدين دون تحقيق... .
«لقد اجتهد علماء الحديث في رواية كلّ ما رواه الرواة –وإن لم يكن صحيحاً– ثمّ اجتهدوا في الاستيثاق من صحّة كلّ حديث وكلّ حرف رواه الرواة، ونقدوا أحوالهم ورواياتهم، واحتاطوا أشدّ الاحتياط، وحكموا بضعف الحديث لأقلّ شبهة، وقدّموا الجرح على التعديل، فكانت قواعدهم أصحّ القواعد للإثبات التاريخيّ»(1).
وقد سبق وأشرنا إلى دور علم مصطلح الحديث وتراجم الرجال في نشأة المنهج التاريخيّ عند المسلمين. يقول "أحمد أمين" عن علم "تراجم الرجال": «عني به المسلمون قديماً عناية غريبة فاقت غيرهم من الأمم في عصورهم، فما إن يظهر أحدٌ بالعلم والمعرفة –ولو برواية حديثٍ واحد أو خبر واحد- إلاّ ويهجم عليه العلماء ويرحلون إليه يأخذون عنه... وما إن يموت هذا المرويّ عنه الحديث أو الخبر، أو من اشتهر بعلم أو معرفة، حتّى يتسابق المؤرّخون إلى تدوين أصله ونسبه، والبلاد الّتي تنقّل فيها، والشيوخ الّذين أخذ عنهم، والأحداث الّتي عرضت له في حياته، وتاريخ وفاته وغير ذلك... فلمّا اتّسعت الحركة العلميّة وكثرت روايّة الحديث، ورأى العلماء أنفسهم بين أصناف من الرواة، صادق وغير صادق ومشكوك فيه، جرت ألسنتهم بالحكم على الأشخاص... وقام المحدّثون في هذا الباب بما يستخرج العجب، فبحثوا عن كلّ راوٍ وشرّحوه وحلّلوه»(2).
__________
(1) - همام عبد الرحيم سعيد – الفكر المنهجي عند المحدّثين – كتاب الأمّة، قطر – 1408 هـ – ص 10
(2) - ضحى الإسلام – ج2 – ص352 – 353(1/156)
ثمّ يضيف: «مَنْ مِن المؤرّخين غيرهم عني بالإسناد عنايتهم، فيسند الرجل إلى امرأته وإلى أَمته، ويدور على الناس في أخبيتهم ومنازلهم يتلمّس الأخبار ويطبّق ما يسمع على المشاهَد؟ ومَنْ مِن المؤرّخين في مثل عصرهم يتشدّد تشدّدهم في الرواية والسماع، ولا يستجيز الأخذ عن الصحيفة إلاّ أن يكون ضعيفاً مطعوناً فيه؟ ومَنْ مِن المؤرّخين في مثل عصرهم صبر على ما صبروا عليه من فاقة وبؤس، ورحل من غانة إلى فرغانة، مع بُعد الشقّة ووعورة الطرق، ثمّ قيّد كلّ ما سمع مع الإفلاس وغلاء القرطاس؟»(1).
إلاّ أنّ الشبهة الكبرى الّتي أوردها المؤرّخون للدلالة على تأثّر المجتمع الإسلاميّ بسائر الحضارات هي تأثّر الفقه الإسلاميّ بتشريعات وأنظمة أخرى، ولا سيّما التشريع الرومانيّ. وهذا ما سنخصّص له الفصل التالي.
خامساً:
هل تأثّر الفقه الإسلاميّ بالتشريع الرومانيّ؟
«إنّ معظم المستشرقين يميلون إلى القول بتأثّر الشريعة الإسلاميّة بالقانون الرومانيّ، على اختلاف فيما بينهم في درجات هذا التأثّر. فمنهم فريق من أمثال "جولد تسيهر" و"فون كريمر" و"شيلدون آموس" يذهبون إلى القول بأنّ الشريعة الإسلاميّة مستمدّة من القانون الرومانيّ، فهذا القانون هو المصدر الّذي أقام فقهاء المسلمين على أساس من قواعده الكيان القانونيّ للشريعة الإسلاميّة. وفي ذلك يقول "شيلدون آموس" بصريح العبارة: "إنّ الشرع المحمّديّ ليس إلاّ القانون الرومانيّ للإمبراطوريّة الشرقيّة معدّلاً وفق الأحوال السياسيّة في الممتلكات العربيّة"، ويقول أيضاً: "إنّ القانون المحمّديّ ليس سوى قانون جستنيان في لباس عربيّ"»(2)
__________
(1) - المرجع السابق – ج2 – ص360
(2) - محمود حمدي زقزوق - الاستشراق والخلفيّة الفكريّة للصراع الحضاريّ - 107(1/157)
ويحاول "آدم متز" أن يفصم عروة الارتباط الوثيق بين المحدّثين، بوصفهم متمسّكين بالنصوص الدينيّة، والفقهاء الّذين حاولوا -حسب رأيه- التحرّر من تلك النصوص والاستمداد من التشريعات السابقة للإسلام. فيقول: «الواقع أنّه ظهر في هذا الميدان الفقهيّ ما ظهر في غيره من الميادين، وأهمّ ما حدث هو تسرّب آراء في التشريع - ممّا كان قبل عهد الإسلام – إلى الفقه الإسلاميّ، كما أُحييت من جديد بعض النظريّات اليونانيّة والرومانيّة القديمة. وكان يمثّلها الفقهاء، ويخالفهم أصحاب الحديث المتمسّكون بالسنّة القديمة والّذين يقيسون الحياة بمقياس نصوص الوحي والسنّة النبويّة. ولم يشأ هؤلاء المتمسّكون بالقديم أن ينزلوا عن مكانتهم بسهولة»(1).
ويورد "دافيد سانتلانا" تعريفاً للفقه لدى المذهب الحنفيّ، وهو «معرفة النفس ما لها وما عليها بحيث يصل بها إلى معرفة طريق الحقّ في الحياة الدنيا ويهيّؤها للحياة الأخرى»، ثمّ يقول: «ويجمل بنا أن نورد ما قاله فقهاء القانون الرومانيّ عن صناعتهم تلك، "الفقه الرومانيّ هو علم الأمور الإنسانيّة والإلهيّة"»(2)، ليصل من خلال هذه المقارنة إلى القول بتأثّر الفقهاء الكبير بالتشريع الرومانيّ. ويستدلّ بتعامل المسلمين بالنقود المضروبة قبل الإسلام ليقول: «وهنا ندرك كم كان تأثير الأفكار الإغريقيّة عميقاً ونفوذها بعيد الغور»(3).
ويقول "أندريه ميكيل": «اضطرّت دولة الإسلام إلى الأخذ بمعطيات الواقع والتراث، وخاصة النظام الضريبيّ للأنظمة الّتي سبقتها. ولم تكن الضريبة العقاريّة والعشريّة والجزية من المفاجآت لسكّان بيزنطة وطيسفون القدماء»(4).
__________
(1) - الحضارة الإسلاميّة – ج1 – ص 387-388
(2) - تراث الإسلام – جمهرة من المستشرقين بإشراف سيرتوماس أرنولد – تعريب جرجيس فتح الله – دار الطليعة ، بيروت – طبعة ثالثة 1978 - ص 419
(3) - المرجع السابق – ص 415
(4) - الإسلام وحضارته – ص 108(1/158)
وقد أورد هؤلاء المستشرقون بعض الاستدلالات على زعمهم هذا، فقالوا: «كان في الشام مدارس للقانون الرومانيّ عند الفتح الإسلاميّ في قيصريّة وفي بيروت، وكان هناك محاكم تسير في نظامها وأحكامها حسب القانون الرومانيّ، واستمرّت هذه المحاكم في البلاد بعد الإسلام زمناً، قالوا: وطبيعيّ أنّ قوماً لم يأخذوا من المدنيّة بحظّ وافر إذا فتحوا بلاداً ممدّنة نظروا ماذا يفعلون، وبم يحكمون، ثمّ اقتبسوا عن أحكامهم، وقالوا: إنّ المقارنة بين بعض أبواب الفقه وبعض أبواب القانون الرومانيّ تقنعنا بما نقول، بل إنّ هناك قواعد نُقلت من القانون بنصّها مثل: "البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر" وأنّ كلمتي الفقه والفقيه استعملتا وفاقاً لمعنى الكلمة المستعملة عند الرومان، فهم يستعملون كلمة "Juris"، وهي تدلّ على الفهم والمعرفة والحكمة. وقالوا: إنّ الفقه الإسلاميّ أخذ عن القانون الرومانيّ إمّا مباشرة أو عن طريق التلمود، فإنّ هذا التلمود أخذ كثيراً من القانون الرومانيّ، واتّصال المسلمين باليهود مكّنهم من الأخذ ببعض أقوال التلمود…»(1).
إنّ محاكمة هذه المزاعم الّتي أوردها هؤلاء الغربيّون - من مستشرقين وغيرهم - لا تحتاج إلى كثير من العناء في النظر، فهي ظاهرة البطلان من وجوه عديدة، أهمّها:
__________
(1) - فجر الإسلام – ص 246-247(1/159)
أوّلاً: أنّ المسلمين يعتقدون أنّ الله خاطب في الشريعة الإسلاميّة جميع البشر، بما أتى به محمّد- صلى الله عليه وسلم - من أوامر ونواه وتخييرات، ويعدّون كلّ من لا يؤمن بالشريعة الإسلاميّة كافراً . فهم يعتقدون أنّ أيّ حكم غير حكم الإسلام هو من أحكام الكفر، يحرم عليهم أخذه. فلا يتأتّى لمن يحمل مثل هذا الاعتقاد أن يأخذ أيّ حكم من غير الإسلام، ولا سيّما في صدر الإسلام، العصر الّذي كان المسلمون فيه يحملون رسالة الإسلام واثقين بأنّ ما عندهم من تشريع إلهيّ هو الصالح وأنّ ما سواه هو الضلال والفساد، فكيف يتخلَّون عمّا حملته هذه الرسالة ويأخذون غيره ؟!(1).
ثانياً: أنّ القول بأنّ المسلمين كانوا أقلّ حضارة من غيرهم، وبالتالي كان من الطبيعيّ أن يأخذوا من أحكامهم وأنظمتهم، يحمل مغالطة كبيرة، فضلاً عن تعبيره عن نظرة ازدراء إلى المسلمين الّذين خرجوا من الجزيرة وهم يحملون معهم طريقة في العيش– وهي ما يُعبَّر عنه بالحضارة – تُغاير كلّ المغايرة طرائق العيش الّتي عرفتها الأمم المفتوحة. خرجوا هادفين إلى إدخال جميع تلك الأمم في حضارتهم تلك، وهم يعتزّون بها ويرونها حياة الهداية والنور، ويزدرون ما سواها من طرائق العيش، ويرون فيها الضلال والظلمات. وكانوا هم الأقوى حضاريّاً بدليل أنّ أهل تلك البلاد لم يلبثوا أن تحوّلوا عن طريقة عيشهم وأفكارهم وأديانهم بقوّة تأثير الدين الإسلاميّ، لا بقوّة السيف، وانصهروا في الحضارة الإسلاميّة، ليكونوا جزءاً من الأمّة الإسلاميّة العالميّة(2) .
__________
(1) - انظر : تقي الدين النبهاني - الشخصيّة الإسلاميّة – ج1 – ص 405
(2) - انظر : المرجع السابق – ج1 – ص 405-406(1/160)
ثالثاً: أنّه لم يروِ أحد عن المسلمين، أنّ أيّاً منهم –سواء من الفقهاء أو غيرهم– قد أشار أيّ إشارة إلى القانون الرومانيّ، لا على سبيل النقد ولا على سبيل التأييد، ولا على سبيل الاقتباس، ممّا يدلّ على أنّه لم يكن محلّ بحث البتّة. فإنّ المسلمين في الوقت الّذي ترجموا فيه كتب الفلسفة، لم يفكّروا في ترجمة جملة من التشريع الرومانيّ، فضلاً عن أن يترجموا كتاباً، ممّا يدّل على أنّ ذلك التشريع قد ألغي ورُذل في البلاد منذ فتحها(1) .
رابعاً: أنّه في الحقبة الّتي يزعم المستشرقون أنّه كان في بلاد الشام مدارس للتشريع الرومانيّ ومحاكم تحكم بالقانون الرومانيّ، كانت الشام غاصّة بالمجتهدين والفقهاء والقضاة والحكّام، فكان من الطبيعيّ أن يقع هذا التأثير - على فرض حصوله - على هؤلاء الأشخاص، ولكنّ التراث المنقول بغزارة إلى يومنا هذا يخلو من أيّ إشارة إلى ذلك التأثّر. فإنّ جميع ما ورد في النصوص الفقهيّة يستند إلى الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة.
__________
(1) - انظر : المرجع السابق – ج1 – ص 404 . وانظر أيضاً: محمود زقزوق – الاستشراق - ص 108(1/161)
وحتّى الإمام "الأوزاعيّ"(1). الّذي رجّح بعض المستشرقين أن يكون متأثّراً بالتشريع الرومانيّ لمجرّد إقامته في بيروت, موطن أكبر مدارس التشريع الرومانيّ- دون أن يكون لديهم أيّ مستند على زعمهم هذا - دُوِّنت آراؤه في كثير من كتب الفقه المعتبرة، ويتبيّن من قراءتها بشكل واضح بُعد الأوزاعيّ عن القانون الرومانيّ بُعد الأرض عن السماء (2).
__________
(1) - الإمام الأوزاعي: (88-157هـ) عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد الاوزاعي، من قبيلة الأوزاع، أبو عمرو: إمام الديار الشاميّة في الفقه والزهد،وأحد الكتّاب المترسلين. ولد في بعلبك، ونشأ في البقاع،وسكن بيروت وتوفي بها.وعرض عليه القضاء فامتنع.كان عظيم الشأن بالشام، وكان أمره فيهم أعزمن السلطان. ويقدر ما سئل عنه سبعين ألف مسألة أجاب عليها كلّها. وكانت الفتيا تدور بالأندلس على رأيه، إلى زمن الحكم بن هشام.…(الزركليّ)
(2) - انظر : فجر الإسلام - ص 247(1/162)
خامساً: أنّ كلمة فقه وفقيه، قد وردت في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف، قبل عهد الفتوحات، وقبل أن يكون للمسلمين أيّ اتّصال حضاريّ بتلك الشعوب. قال تعالى: { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّين } (1)، وقال عليه الصلاة والسلام: «من يُرد الله به خيراً يفقهّه في الدين»(2). وهذا يُظهر مدى تهافت ادّعاء انتقال الكلمة من القانون الرومانيّ. وأمّا قاعدة «البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر» فهي مفهوم ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل حقبة الفتوحات. فقد روى البخاريّ عن الأشعث بن قيس أنّه قال :« كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : شاهداك أو يمينه ».(3) وعن ابن عباس « أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أنّ اليمين على المدَّعى عليه ».(4) وكذلك الأمر بالنسبة للأمثلة الّتي ضربها "أندريه ميكيل". فالخراج الّذي يسمّيه ضريبة عقاريّة، والعشور والجزية، إنّما هي أحكام شرعيّة استُنبطت من القرآن والسنّة وإجماع الصحابة. والمدقِّق في التشريع الاقتصاديّ الإسلاميّ عموماً -وقد حوته كتب الفقه مثل كتاب "الخراج لأبي يوسف"(5)
__________
(1) - سورة التوبة – الآية 122
(2) - فتح الباري بشرح البخاري – مجلد 1 – ص221 – كتاب العلم – رقم الحديث : 71
(3) - المصدر السابق – مجلد 5 – ص445 – كتاب الرهن – رقم الحديث :( 2516 )
(4) - المصدر السابق – مجلد 5 – ص 445 – رقم الحديث ( 2514 )
(5) - القاضي أبو يوسف (113-182هـ)
يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاريّ الكوفيّ البغداديّ، أبو يوسف: صاحب الإمام أبي حنيفة، وتلميذه، وأوّل من نشر مذهبه. كان فقيهاً علاّمة، من حفّاظ الحديث. ولد بالكوفة، وتفقّه بالحديث والروايّة، ثمّ لزم أبا حنيفة، فغلب عليه "الرأي". ولّي القضاء ببغداد أيّام المهديّ والهادي والرشيد. ومات في خلافته، ببغداد، وهو على القضاء. وهو أوّل من دعي "قاضي القضاة"، ويقال له: قاضي قضاة الدنيا. وأوّل من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة. وكان واسع العلم بالتفسير والمغازي وأيّام العرب. له العديد من المصنّفات أشهرها "الخراج".……(الزركليّ)(1/163)
- يلمس لمس اليد أن لا علاقة تربطه بأيٍّ من الأنظمة الأخرى.
وأمّا مسألة استمداد الفقهاء من التلمود، فإنّ بطلانها ظاهر في حمْلة القرآن الكريم على اليهود وعلى تحريفهم للتوراة، وأنّ ما بأيديهم كتبوه من عند أنفسهم، وليس هو من عند الله، وهذه الحملة تشمل التلمود بوصفه من افترائهم. كلّ ذلك يناقض الأخذ من كتبهم. علاوة على أنّ اليهود كانوا قبائل منفصلة عن المسلمين، لا يعيشون مع المسلمين، بل لا يختلطون بهم، فضلاً عن العداوة الدائمة بينهم وبين المسلمين والحروب المتواصلة الّتي كان يشنّها المسلمون عليهم حتّى أخرجوهم من بينهم(1).
كلّ هذه الأدلّة تدلّ بشكل واضح على أنّ دعوى تأثّر الفقه الإسلاميّ بالتشريعات الرومانيّة هي خرافة لا أصل لها من الصحّة. إنّما الفقه أحكام استنبطت من القرآن والسنّة وما أرشدا إليه من أدلّة الأحكام. وكلّ ما لا يستند إلى أحد تلك الأدلّة لا يعدّ من الفقه الإسلاميّ بشيء .
وأخيراً، لابدّ أن يعيدنا هذا الفصل إلى استحضار ما سبق وأن تكلّمنا عليه سابقاً ألا وهو تباين الأساس الّذي ينطلق منه كلُّ من المسلمين والغربيّين في حكمهم على الحضارة الإسلاميّة ومحتواها الثقافيّ الفكريّ. إذ ليس مستغرباً ممّن لا يؤمن بالإسلام رسالةً من عند الله نزل بها الوحي، أن يبحث عن مصادر تاريخيّة لأيّ فكر أو حكم تشريعيّ فيه. بل هذا هو الأصل في نظرته إلى الإسلام والحضارة الإسلاميّة.
__________
(1) - انظر : الشخصيّة الإسلاميّة - ج1 - ص 407(1/164)
سادساً:
هل تأثّرت الدولة الإسلاميّة
بنظام الحكم الفارسيّ؟
في سياق الكلام على اقتباس المسلمين عناصر حضاريّة من الأمم الأخرى، يورد بعض المؤرِّخين أمثلة وشواهد، من تاريخ الدولة الإسلاميّة، ليثبتوا أنّها اقتبست بعض الأنظمة المتعلّقة بالحكم من الفرس وغيرهم. ومن أبرز تلك الأمثلة والشواهد مسألة الدواوين(1) والكتّاب والوزارة.
يقول "ول ديورانت" مثلاً : «أدرك العرب أنّهم قد تغلّبوا على مجتمعات مضمحلّة ولكنّها حسنة التنظيم، فاستعانوا في بلاد الشام بنظام بيزنطة الإداريّ، وفي بلاد فارس بنظام الساسانيّين، وكان لا بدّ أن تسير الحياة في الشرق الأدنى على النسق القديم»(2).
ويذهب "أحمد أمين" إلى حدّ القول بأنّ تكوُّن طبقة الكتّاب ليس إلاّ تقليداً للنظام الفارسيّ(3). كما يرى أنّ منصب الوزارة إنّما هو إنشاء مبتدَع، وأنّه منصب فارسيّ ولم يكن معروفاً قبل العبّاسيّين(4).
ويرى بعض المؤرِّخين أنّ دخول هذه الوظائف إلى الدولة الإسلاميّة وتولّي الفرس لمعظمها، أدّى إلى إدخال مفاهيم الحكم الّتي كانت سائدة في الإمبراطوريّة الفارسيّة إلى الخلافة عهد العبّاسيّين، من حيث كان مفهوم الحكم لدى الوزراء والكتّاب «ينطوي على إدارة مركزيّة قويّة تمنح الحاكم السيطرة على النظم العسكريّة والإداريّة والدينيّة، ويعتبر سلطات الحاكم مطلقة لأنّه يستمدّها من الله»(5).
__________
(1) - انظر في مسألة الدواوين : حسّان حلاّق - دراسات في تاريخ الحضارة الإسلاميّة - دار النهضة العربيّة، بيروت - طبعة أولى 1989 - ص 29-30
(2) - قصة الحضارة - ج 13- ص 146
(3) - ضحى الإسلام - ج1 - ص 169
(4) - المرجع السابق - ج1 - ص 165
(5) - خير الدين يوجه سوي - تطورّ الفكر السياسيّ عند أهل السنّة - دار البشير، عمّان - الطبعة الأولى 1993-ص100 - 101(1/165)
ويبالغ "بروكلمان" في هذا الرأي حين يقول: «فخليفة بغداد لم يكن، بأيّ حال، شيخاً من شيوخ القبائل، بل خلف لملوك الفرس الكبار. وفي السنوات التوالي نشأ عند خلفاء بغداد شوق إلى استطلاع الكتب الفارسيّة عن أسلوب التشريفات الّذي كان يتّبعه الساسانيّون، ورغبة في محاكاته وتقليده…»
فما مدى صحّة هذه المقولات وتلك الاستشهادات ؟ وهل تصلح حقّاً للدلالة على أنّ الدولة الإسلاميّة أدخلت في نظام حكمها بعضاً من أنظمة الدول الأخرى ؟
أمّا فيما يتعلّق بمسألة الدواوين والكتاّب من حيث هي وظيفة إداريّة في جهاز الدولة الإسلاميّة، فهي ليست ظاهرة مستجدّة. بل هي جزء من أجهزة الدولة الإسلاميّة منذ عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم -. يقول"حسّان حلاّق": «لقد وُجد الديوان منذ عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم - دون أن يتسمّى بهذه التسمّة. وللدلالة على صحّة هذا القول، أنّه كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - كتبة وقرّاء من الصحابة بلغ عددهم أكثر من اثنين وأربعين شخصاً، فقد كان عثمان بن عفّان يكتب له أحياناً، وأحياناً عليّ بن أبي طالب وخالد بن سعيد وأبان بن سعيد والعلاء بن الحضرميّ. وكان أوّل من كتب له أُبيّ بن كعب، وإذا غاب كتب له زيد بن ثابت، وقد كتب له أيضاً عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكتب له أيضاً معاوية بن أبي سفيان وحنظلة الأسيديّ. ويكفي هذا العدد من الأشخاص لأن يؤلّفوا ديواناً للكتابة والإدارة. وكان جميع هؤلاء يكتبون –بطبيعة الحال– باللغة العربيّة وليس بلغة ثانية، بل إنّ ثقافة أحدهم بلغت حدّ إجادته لعدّة لغات أجنبيّة من النادر أن تجتمع في شخص واحد في تلك الفترة ، فقد كان زيد بن ثابت ترجمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفارسيّة والروميّة والقبطيّة والحبشيّة واليهوديّة، يترجمها إلى اللغة العربيّة .(1/166)
«ومن الدلائل على وجود المفاهيم الديوانيّة عند المسلمين، أنّ النبيّ- صلى الله عليه وسلم - أراد مرة إحصاء المسلمين فقال: اكتبوا لي من تلفّظ بالإسلام من الناس، فكتبوا له ألفاً وخمسمائة رجل. ولم يكن قبل ذلك يجمع المسلمين كتاب حافظ، أي ديوان مكتوب. بالرغم من أنّ الرسول- صلى الله عليه وسلم - أحصى المسلمين وسجّل عددهم. لقد كان إحصاء المسلمين الأوّل خطوة أولى نحو التدوين، إذ بمثل هذه الطرق تمّ الإحصاء. والظاهر أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - اتّخذ هذه الخطوة ليقف على أعداد من اعتنق الإسلام، وذلك لدفع أموال الزكاة ولصرفها على المحتاجين من المسلمين والأخذ ممّن يتوجّب عليهم الدفع، وللتأكّد أيضاً من أعداد المسلمين الّذين يمكن لهم الاشتراك في العمليّات القتاليّة. وقد اقتدى الخليفة أبو بكر الصدّيق بما ساد في عصر الرسول- صلى الله عليه وسلم - من أنظمة أوّليّة، إذ إنّ مَن كتب للرسول- صلى الله عليه وسلم - كان يكتب أيضاً للخليفة أبي بكر الصدّيق، ومنهم زيد بن ثابت وعثمان بن عفّان. على أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ نواة "بيت المال" وجدت في أيّام الخليفة أبي بكر .
ولمّا تولّى عمر بن الخطّاب الخلافة، طوّر الأنظمة السائدة في الدولة وأضاف إليها أساليب إداريّة متّبعة في بلاد فارس. ففي سنة 15هـ فرض على المسلمين الفروض ودوّن الدواوين، وأعطى العطايا على السابقة في الإسلام»(1).
إذن فالجهاز الإداريّ -بما فيه الكتّاب الموظّفون والسجلاّت والإحصاءات- وُضعت أسسه في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم -. وغاية ما حصل في عهد الخليفة عمر بن الخطّاب أنّ شكلاً جديداً من أشكال الإدارة والمحاسبة أدخل إلى هذا الجهاز، ألا وهو الدواوين.
ولنلق نظرة على بعض النصوص التاريخيّة الّتي تتكلّم عن دخول الدواوين إلى جهاز الدولة الإسلاميّة .
__________
(1) - دراسات في تاريخ الحضارة الإسلاميّة – ص 30-31(1/167)
روى "البلاذري" عن "أبي هريرة" «أنّه قدم على عمر من البحرين، قال : فلقيته في صلاة العشاء الآخرة فسلّمت عليه. فسألني عن الناس، ثمّ قال لي: ما جئتَ به؟ قلت: جئتُ بخمسمائة ألف، قال: هل تدري ما تقول؟! قلت: جئت بخمسمائة ألف، قال: ماذا تقول؟! قلت: مائة ألف، ومائة ألف، فعددتُ خمسة، فقال: إنّك ناعس، فارجع إلى أهلك فنم، فإذا أصبحت فأتني، قال أبو هريرة، فغدوت إليه فقال: ما جئتَ به؟ قلت: خمسمائة ألف، قال: أطيّب؟ قلت: نعم لا أعلم إلاّ ذاك، فقال للناس: إنّه قدم علينا مال كثير، فإن شئتم أن نعدّه لكم عدداً، وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين إنّي قد رأيت هؤلاء الأعاجم يدوّنون ديواناً يعطون الناس عليه، قال: فدوَّن الديوان…»(1).
وروى «أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الديوان، فقال له عليّ بن أبي طالب: تقسّم كلّ سنة ما اجتمع إليك من مال ولا تمسك منه شيئاً، وقال عثمان: أرى مالاً كثيراً يسع الناس، فإن لم يحصَوا حتّى يُعرف من أخذ ممّن لم يأخذ حسبت أن ينتشر الأمر، فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة: قد جئتُ الشام فرأيت ملوكها قد دوّنوا ديواناً، وجنّدوا جنداً، فدوِّن ديواناً، وجنِّد جنداً، فأخذ بقوله…»(2).
__________
(1) - أحمد بن يحيى البلاذري – البلدان وفتوحها وأحكامها – تحقيق د. سهيل زكار – دار الفكر،بيروت الطبعة الأولى 1412هـ/1992م – ص 496-497
(2) - المصدر السابق – ص 492-493(1/168)
وهنا لا بدّ من الرجوع إلى المعايير الّتي قدّمناها في هذا البحث، للتفريق بين الاقتباس الحضاريّ والانتفاع المدنيّ. فلقد قرّرنا أنّ الحضارة إنّما هي المفاهيم الّتي تعطي المجتمع وجهة نظره عن الحياة، وبالتالي تمنحه هويّته الخاصّة وطرازه في العيش. بينما تنضوي الأشكال والوسائل المادّيّة المتنوّعة ضمن خانة "المدنيّة" الّتي لا تختصّ بالضرورة بحضارة من الحضارات، والّتي يمكن للأمم والمجتمعات أن تتبادلها وتأخذها من بعضها البعض، دون أن يكون لها بالضرورة تأثير على هويّتها الحضاريّة. والأشكال والأساليب الإداريّة لا تخرج عن هذا الإطار، إطار المدنيّة .
وعلى هذا الأساس نطلق حكمنا على الدواوين فنقول: إنّما هي شكل من أشكال الإدارة والإحصاء والمحاسبة، يمكنه أن يخدم أيّ نوع من أنواع أنظمة الحكم والاقتصاد وما شاكل ذلك. فهو لا يختلف -من حيث تصنيفه– عمّا نعرفه اليوم من أنظمة المحاسبة الّتي تُعدّ علماً يدرَّس في جامعات العالم كلّه، دون أن يكون متأثّراً بأنظمة الحكم والاقتصاد المختلفة، ودون أن يكون للانتماء الحضاريّ لتلك الجامعات أيّ تأثير فيه. وهو شبيه أيضاً بأجهزة الكومبيوتر الّتي لا تعرف الحدود الإثنيّة والحضاريّة والقوميّة والسياسيّة، بل هي على استعداد لخدمة الجميع دون استثناء. وهذا ما فعلته أنظمة الدواوين والكتّاب، إذ إنّها قبل أن تقدِّم خدماتها للفرس والمسلمين، قدّمتها للدول الّتي سبقتها. لذلك يستغرب "حسّان حلاّق" من «أنّ أكثر المراجع والمصادر العربيّة لا تشير إلى أنّ الفرس أنفسهم كانوا قد اقتبسوا نظام الدواوين وغيره من أنظمتهم من نظم إداريّة لشعوب سيطروا عليها من قبل»(1).
__________
(1) - دراسات في تاريخ الحضارة الإسلاميّة – ص 28(1/169)
وأمّا فيما يتعلّق بمنصب الوزارة في الدولة الإسلاميّة، فوظيفة الوزير الّتي يقولون إنّها استجدّت في العهد العبّاسيّ، ليست في الحقيقة وظيفة مستجدّة. وغاية ما في الأمر أنّها اتّخذت في ذلك العهد أهمّيّة أكبر، بسبب اتّساع النفوذ الّذي منحه الخلفاء العبّاسيّون لهؤلاء الوزراء، وشاعت كلمة "الوزارة" أكثر من ذي قبل على لسان السياسيّين وفي كتب الفقهاء، وباتوا يستخدمونها أكثر من غيرها من الكلمات، للتعبير عن معنى كان موجوداً منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة. يقول "الفخريّ": «الوزارة لم تتمهّد قواعدها وتقرّر قوانينها إلاّ في دولة بني العبّاس، فأمّا قبل ذلك فلم تكن مقنّنة القواعد ولا مقرّرة القوانين، بل كان لكلّ واحد من الملوك أتباع وحاشية، فإذا حدث أمر استشار ذوي الحجى والآراء الصائبة، فكلّ منهم يجري مجرى وزير، فلمّا ملك بنو العبّاس تقرّرت قوانين الوزارة وسمّي الوزير وزيراً وكان قبل ذلك يسمّى كاتباً أو مشيراً»(1).
__________
(1) - النجوم الزاهرة –ج2- ص 206(1/170)
ويرى "ابن خلدون" أنّ منصب الوزارة أمر طبيعيّ لا بدّ من وجوده في الدول، إذ يقول: «وما زال الأمر في الدول قبل الإسلام هكذا حتّى جاء الإسلام وصار الأمر خلافة، فذهبت تلك الخطط كلّها بذهاب رسم الملك إلى ما هو طبيعيّ من المعاونة بالرأي والمفاوضة فيه، فلم يمكن زواله إذ هو أمر لا بدّ منه، فكان- صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهمّاتهم العامّة والخاصّة، ويخصّ مع ذلك أبا بكر بخصوصيّات أخرى حتّى كان العرب الّذين عرفوا الدول وأحوالها في كسرى وقيصر والنجاشيّ يسمّون أبا بكر وزيره. ولم يكن لفظ الوزير يُعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام، وكذا عمر مع أبي بكر وعليّ وعثمان مع عمر»(1). وها هو "أبو الحسن الماورديّ" يوضح الأصل الشرعيّ للوزارة فيقول: «وليس يمتنع جواز هذه الوزارة، قال الله تعالى حكاية عن نبيّه موسى عليه الصلاة والسلام: { وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهلِي - هَارُونَ أَخِي - اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي - وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } (2)، فإذا جاز ذلك في النبوّة كان في الإمامة أجوز، ولأنّ ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمّة لا يقدر على مباشرة جميعه إلاّ باستنابة، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصحّ في تنفيذ الأمور من تفرّده بها ليستظهر به على نفسه، وبها يكون أبعد من الزلل وأمنع من الخلل»(3).
__________
(1) - مقدّمة ابن خلدون – ص 262
(2) - سورة طه - الآيات من 29 حتّى 32
(3) - أبو الحسن عليّ بن محمّد بن حبيب البصري الماوردي – الأحكام السلطانيّة – دار الكتب العلميّة، بيروت –1985م – ص 25(1/171)
فالوزير هو معاون يعيّنه الخليفة ليتحمّل معه مسؤوليّة الحكم والسلطان. وإيجاد المعاون من المباحات، فيجوز للخليفة أن يعيّن معاوناً له يعاونه ويساعده في مسؤوليّاته وأعماله، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - :« وأمّا وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر »(1). وكلمة الوزير في الحديث تعني المُعين والمساعد. وجعلُ أبي بكر وعمر وزيرين يدلّ على جواز أن يستوزر الخليفة من يعينه ويساعده في شؤون الحكم وأعماله. وقد استوزر أبو بكر بعد أن تولّى الخلافة عمر بن الخطّاب معاوناً له، وكانت معاونته له ظاهرة، حتّى قال بعض الصحابة لأبي بكر: لا ندري أعمر الخليفة أم أنت . وفي أيّام عثمان كان مروان بن الحكم يقوم بمعاونة عثمان في أعمال الحكم(2) .
وأمّا عن تأثير الوزراء والكتّاب الفرس على مفاهيم الحكم في الدولة العبّاسيّة، فإنّ المدقّق في أحوال الدولة الإسلاميّة وخلفائها يجد أنّ هناك مبالغة في الكلام على هذا التأثير .
ليس مستبعداً أن يكون بعض الموظّفين الفارسيّين، الّذين كانوا حديثي عهد في الإسلام، متأثّرين بمفاهيم الأعماق الّتي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم. وليس مستغرباً أن يحاول بعضهم نقل هذا التأثير إلى الدولة الإسلاميّة، وقد تكون هذه المحاولات ناتجة عن عداء للدولة الإسلاميّة، وقد لا تكون كذلك، إلاّ أنّه -وفي كلّ الأحوال- لا تكفي هذه المحاولات لتبعثنا على القول بأنّ الدولة الإسلاميّة تأثّرت بها. فهؤلاء ليسوا سوى موظّفين. والسؤال الّذي يجب أن يسبق ذلك الحكم هو: هل استجاب الخلفاء المسلمون لهذه المحاولات أو تأثّروا بها؟
__________
(1) - محمّد بن عيسى الترمذي – الجامع الصحيح ( سنن الترمذي ) – تحقيق كمال يوسف الحوت – دار الكتب العلميّة، بيروت – الطبعة الأولى 1987م – كتاب المناقب – رقم الحديث ( 3680 ).
(2) - انظر : عبد القديم زلوم – نظام الحكم في الإسلام – دار الأمّة، بيروت – الطبعة الرابعة 1996م - ص 129 – 130-131(1/172)
إنّ تاريخ الخلفاء أثبت أنّهم كانوا في الوقت الّذين يعتمدون فيه على الوزراء وغيرهم في مجال الإدارة والرسوم والمظاهر والتشريفات، كانوا لا يلقون السمع، في قضايا أنظمة الحكم والاقتصاد وغيرها من قضايا التشريع، إلاّ للفقهاء الّذين بذلوا طاقتهم لضبط مسار الدولة الإسلاميّة وفق أحكام الشريعة الإسلاميّة(1). وحين حاول بعض هؤلاء الكتّاب إقحام مفاهيمهم عن الحكم في أذهان الخلفاء وحكام الدولة الإسلاميّة كان الفقهاء يقفون لهم بالمرصاد(2). «وحين توسّع نطاق نشاط الكتّاب، وزاد تأثيرهم على الخلافة، ودافعوا بشكل واضح عن المثل السياسيّة والاجتماعيّة وحتّى الأخلاقيّة الساسانيّة، ظهر الصراع علنيّاً بين هؤلاء الكتاب –الّذين أطلق عليهم اسم الشعوبيّة– وبين الّذين دافعوا عن المفاهيم والمثل الإسلاميّة السياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة، وانتهى الصراع بانتصار الاتّجاه الإسلاميّ»(3).
__________
(1) - انظر : ضحى الإسلام – ج1- من ص 205 حتّى 216 وكذلك ص 371
(2) - انظر : خير الدين يوجه سوي - تطور الفكر السياسيّ عند أهل السنّة – ص 100
(3) - المرجع السابق – ص 101(1/173)
وبقي ما أورده المؤرِّخون من اتّخاذ المظاهر والتشريفات والرسوم والأزياء والمصطلحات الّتي كان معمولاً بها لدى الإمبراطوريّة الساسانيّة، كالّذي سبق ونقلناه عن "بروكلّمان"، وكالّذي ينقله "أحمد أمين" عن "الجهشياري" من «أنّ الفضل بن سهل بن زادا نفروخ -ذا الرياستين- كان يجلس على كرسيّ مجنّح، ويُحمل فيه إذا أراد الدخول على المأمون، فلا يزال يُحمل حتّى تقع عين المأمون عليه، فإذا وقعت وُضع الكرسي ونزل عنه فمشى، وحُمل الكرسيّ حتّى يوضع بين يدي المأمون، ثمّ يسلّم ذو الرياستين ويعود فيقعد عليه... وإنّما ذهب ذو الرياستين في ذلك إلى مذهب الأكاسرة، فإنّ وزيراً من وزرائها كان يُحمل في مثل هذا الكرسيّ، ويقعد بين أيديها عليه ويتولّى حمله اثنا عشر رجلاً من أولاد الملوك». وينقل عنه أيضاً أنّه «كان من رسم ملوك الفرس أن يلبس أهل كلّ طبقة ممّن في خدمتهم لبسة لا يلبسها أحد ممّن في غير تلك الطبقة، فإذا وصل الرجل إلى الملك عرف بلبسته صناعته والطبقة الّتي هو فيها. فكان الكتاّب في الحضر يلبسون لبستهم المعهودة… وكانت ملوك الفرس تسمّي كتّاب الرسائل تراجمة الملوك…»(1). وهناك العديد من النصوص الّتي تصف دخول تلك المظاهر إلى الدولة العبّاسيّة .
والواقع أنّ هذه الأشياء والمظاهر -وإن تحفّظ الإسلام على بعضٍ منها لما تحويه من علامات الكبرياء والإسراف والبذخ- لا يصحّ أن تصنّف في خانة الهويّة الحضاريّة. وإنّما هي من مظاهر الرفاهية والمدنيّة الّتي تظهر في أيّ دولة تصل إلى درجة عالية من الازدهار والمجد والرخاء. ولا تختصّ بحضارة دون أخرى.
__________
(1) - ضحى الإسلام - ج1 - ص 169(1/174)
الباب الثاني:
مؤثِّرات في المجتمع الإسلاميّ
ظواهرونماذج
توطئة:
لقد قرّرنا في الصفحات الماضية أنّ كثيراً من النماذج الّتي قُدّمت دليلاً على تأثّر المجتمع الإسلاميّ بسائر الحضارات، إنّما هي دعاوٍ واهية تفتقر إلى أدنى مراتب الأدلّة والبراهين التاريخيّة، فضلاً عن توفّر الأدلّة والشواهد التاريخيّة الّتي تنقض تلك الدعاوي وتسقطها.
إلاّ أنّ مسائل أخرى أثيرت في هذا المجال، تتّصف بقدر من الواقعيّة. فلقد ظهرت في المجتمع الإسلاميّ فعلاً بعض ظواهر المؤثِّرات الحضاريّة والفكريّة الخارجيّة. وهناك تفاوت بين تلك الظواهر، من حيث مدى تأثيرها في ذلك المجتمع ومبلغ مفارقتها للحضارة الإسلاميّة.
أبرز تلك الظواهر الّتي أثارت جدلاً واستدعت الدراسات والأبحاث، ظاهرة علم الكلام، وأُلحقت بها في كثيرٍ من الأحيان ظاهرة الفلاسفة الإسلاميّين، ثمّ ظاهرة التصوّف. فبينما نجد باحثين ومؤرّخين يؤكّدون النشأة الإسلاميّة الصافية لتلك الظواهر، نجد آخرين يجزمون بأنّها نماذج حيّة للمؤثِّرات الحضاريّة الّتي تغلغلت في المجتمع الإسلاميّ. ومن الطبيعيّ أن نجد سائر الآراء تأخذ - على نحو متفاوت - موقعاً ما بين هذين الموقفين.
فما هو الرأي الّذي من شأن مقدّمات هذا البحث ومنهجه في دراسة تاريخ الحضارة الإسلاميّة أن تقدّمه في هذا المجال؟
هذا ما سيجيب عليه ما تبقّى من البحث.
الفصل الأول:
علم الكلام
أوّلاً :
نشأة علم الكلام ؟
يقول الإمام "أبو حامد الغزاليّ" في علم الكلام: «إنّما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنّة وحراستها عن تشويش أهل البدعة»(1).
ويقول "عبد الرحمن بن خلدون": «هو علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة والردّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف الصالح وأهل السنّة»(2).
__________
(1) - أبو حامد الغزاليّ - المنقذ من الضلال - مكتبة الجندي، القاهرة - دون تاريخ- ص 14
(2) - مقدّمة ابن خلدون - ص 507(1/175)
إنّ موضوع "علم الكلام" يكتسب أهميّة كبيرة في هذا البحث من حيث إنّ الحضارة الإسلاميّة كلّها إنّما تقوم على أساس واحد، هو العقيدة الإسلاميّة. وبما أنّ علماء الكلام انبروا -بعد حين من ظهور الإسلام - للتعبير عن هذه العقيدة والدعوة إليها والدفاع عنها أمام خصومهم، وكان لهم منهج خاصّ في البحث والتدليل على تلك العقيدة، وكان لهم دور في تشكيل ثقافة المجتمع الإسلاميّ، كان من الأهمّيّة بمكان الوقوف على علم الكلام، لمعرفة مدى انتمائه إلى الحضارة الإسلاميّة أو مدى تأثّره بما سواها من الحضارات من جهة أخرى .
حين نزل القرآن الكريم على عرب الجزيرة خاطبهم بالعقيدة الإسلاميّة معتمداً على ملَكتين اثنتين يمتلكهما كلّ إنسان من حيث هو إنسان، ألا وهما : الفطرة والعقل .
أمّا الفطرة، فإنّها ما غرزه الله تعالى في النفس البشريّة من شعور بالحاجة
إلى الخالق المدبّر. وهو الشعور الناشئ عن الإحساس الطبيعيّ لدى الإنسان بالعجز والنقص والضعف، من حيث إنّه أتى إلى هذه الحياة وتوفّرت له أسبابها وسيخرج منها من غير حول ولا طول ولا قوّة منه. وبالتالي فإنّ الإنسان تلقائياً - ومن غير تفكير في كثير من الأحيان - يشرع في البحث عمّن يلجأ إليه لسدّ ذلك النقص والعجز لديه.(1/176)
لذلك اعتمد القرآن، في مجال الإيمان بالله الخالق المدبّر سبحانه، على تلك الفطرة الإنسانيّة. فالعديد من الآيات تلفت الانتباه إلى ذلك الشعور الفطريّ. قال تعالى: { وَِإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين } (1). وقال عزّ وجلّ: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون } (2) .
وأمّا العقل، فإنّ خطاب القرآن لم يقتصر في مجال الدعوة إلى الإيمان بالله على الاعتماد على الفطرة، إذ إنّ هذه الفطرة غير العاقلة قد تضلّ طريقها حين تترعرع في بيئة موبوءة ومضلِّلة، فتلجأ إلى عبادة مخلوقات لا تستحقّ العبادة، لمجرّد أنّ المجتمع من حولها نصّبها آلهة من دون الله ونسب إليها صفات الألوهيّة . قال عليه الصلاة والسلام: «كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه»(3). لذلك عمد الإسلام إلى العقول المتبلّدة والأذهان المتحجّرة، وراح يصعقها صعقة تلو الأخرى، لتقوم بالدور المنوط بها، والّذي تنازلت عنه لصالح الهوى والتقليد الأعمى وتراث الآباء والأجداد. قال تعالى: { وَإِذَا قِيْلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آباءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُون } (4).
__________
(1) - سورة الأعراف – الآية 172
(2) - سورة الروم – الآية 30
(3) - فتح الباري بشرح صحيح البخاري – مجلد 3 – ص616 – كتاب الجنائز – رقم الحديث ( 1385 )
(4) - سورة البقرة – الآية 170(1/177)
«فلا ينبغي أن يتجاهل أحد ما في القرآن من ضروب الاستدلال القائم على البحث عن العلل، على قواعد الفكر الملزمة، ومن التنبيه المستمرّ على النظر العقليّ في الكون، والتأمّل لما فيه وعلى التدبّر في بناء العوالم وتوقُّف بعضها على بعض، ومن إشارات كونيّة ونفسيّة من شأنها أن توصل بالضرورة العقليّة إلى الغاية منه، وهي إنشاء وجهة نظر عن الذات الإلهيّة وعن الإنسان والكون والحياة. والقرآن يشير في كثير من المواضع إلى أنّ الدعوة الدينيّة "تذكرة"، هي تنبيه وإيقاظ للعقل لكي ينظر في الكون، ويؤمن بموجده، على سبيل الاستدلال العقليّ من الأثر على المؤثّر، ومن الإتقان والنظام والتدبير على المنظِّم المدبّر المتقن، وذلك بالتأمُّل في الكون وفي الإنسان وما يؤدّي إليه ذلك من معارف. هذه الآيات مثل: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الّتي تَجْرِي في البَحرِ بِما يَنْفَعُ النَاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِن السَّماءِ مِن مَاءٍ فَأَحْيا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فيها مِنْ كلّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون } (1)، { وَفِي الأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِين - وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون } (2)، { سَنُرِيْهِمْ آياتِنَا في الآفَاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنّه الَحقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنّه عَلَى كلّ شَيْءٍ شَهِيد } (3)، { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُون - أَمْ خَلَقُوا السَّمَواتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُون } (4)، { أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّمَواتِ والأَرْضِ } (5)
__________
(1) - سورة البقرة – الآية 162
(2) - سورة الذاريات - الايتان 20-21
(3) - سورة فصلت - الآية 53
(4) - سورة الطور – الايتان 35-36
(5) - سورة إبراهيم – الآية 11(1/178)
، وهكذا في سائر موضوعات الفكر والحياة»(1).
والملاحظ في تلك الآيات الّتي تخاطب العقل وتحكّمه في مجال الإيمان بالله تعالى خالقاً مدبّراً ، أنّها لا تعتمد أيّ شكل من أشكال المنهج المنطقيّ، ولا تمتّ بأيّ صلة إلى نمط البحث الفلسفيّ. وإنّما هي تعتمد ما لدى الإنسان من بديهيات عقليّة مستمدّة من الواقع المحسوس، دون الإغراق في المقدّمات النظريّة والتلازمات الذهنيّة والافتراضات المنطقيّة.
على هذا النحو صيغت عقليّة جيل الصحابة وطريقته في التفكير في العقيدة، وهو الجيل الّذي ضرب أعلى مثل للشخصيّة الإسلاميّة والمجتمع الإسلاميّ، كما قال عليه الصلاة والسلام: «خير الناس قرني»(2).
وعلاوة على ذلك، فإنّ صفاء أذهان عرب الجزيرة جعلهم يتلقّون هذه العقائد ببساطة وصفاء، دون أن تثير لديهم مشاكل افتراضيّة ونظريّة. فقد آمنوا بصفات الله تعالى كما وردت في القرآن وعلى لسان الرسول- صلى الله عليه وسلم - ، دون الخوض في تفاصيلها، ودون التساؤل عن كنهها وكنه ذات الله تعالى. بل تعاطوا مع هذه العقائد في الجانب العمليّ، بحيث زادت من إيمانهم بالله تعالى وثقتهم به وتوكلّهم عليه وخشيتهم منه، والتضرُّع إليه ومراقبته في جميع سلوكهم وحياتهم .
إلاّ أنّ مسار الدعوة الإسلاميّة جلب من الظروف والأوضاع ما غيّر ذلك المنهج في فهم العقيدة وحملها إلى الناس لدى فريق من علماء المسلمين ومثقَّفيهم .
__________
(1) - محمّد عبد الهادي أبو ريدة – النص مأخوذ من هامش كتاب: تاريخ الفلسفة في الإسلام –
ت.ج. دي بور- نقله إلى العربيّة وعلّق عليه د. محمّد عبد الهادي أبو ريدة – دار النهضة العربيّة،
بيروت – الطبعة الخامسة 1981 - ص 69-70
(2) - فتح الباري بشرح صحيح البخاري – مجلد 13 – ص 22 – كتاب الرقاق – رقم الحديث ( 6429 ).(1/179)
ذلك أنّ الفتوح ضمَّت إلى دار الإسلام بلاداً ذات حضارات وثقافات وأديان وعقائد عريقة، ضاربة بجذورها عميقاً عبر التاريخ. فأوجب ذلك، بطبيعة الحال ووفق توجيهات الإسلام، فتح جبهات الاحتكاك الثقافيّ والصراع الفكريّ الّتي لا يتأتّى حمل رسالة الإسلام بمعزل عنها. وكان من الطبيعيّ أن يستنفر صناديد تلك الثقافات والأديان كلّ قواهم الفكريّة والمعرفيّة واللسانيّة محاولين الذبّ عن هويّاتهم وخصوصيّاتهم الّتي ورثوها عن أجيال مضت. وكان هؤلاء أتباع ديانات عدّة، أهمها المانويّة والزرادشتيّة والبراهميّة والدهريّة والنصرانيّة واليهوديّة وغيرها. وكانت معظم تلك الديانات قد تسلّحت بأنواع الفلسفة، ولا سيّما اليهوديّة والنصرانيّة، اللتين تسلّحتا بالفلسفة اليونانيّة بالدرجة الأولى.
ولم يكن يتسنّى لعلماء المسلمين الردّ على هؤلاء، إلاّ بعد الاطّلاع على أقوالهم وأدلّتهم، فدفعهم ذلك إلى الإحاطة بالفرق الأجنبيّة وأقوالها وحججها، «فأصبحت البلاد الإسلاميّة ساحة تعرض فيها كلّ الآراء وكلّ الديانات ويُتجادل فيها، ولا شكّ أنّ الجدل يستدعي النظر والتفكير، ويثير مسائل تستدعي التأمّل، وتحمل كلّ فريق على الأخذ بما صحّ عنده من قول مخالفه»(1). أضف إلى ذلك «أنّ كثيراً ممّن دخلوا في الإسلام بعد الفتح كانوا أتباع تلك الديانات المختلفة، وكانوا قد نشأوا على تعاليم هذه الديانات وشبّوا عليها، وكان ممّن أسلم علماء في هذه الديانات ، فلمّا اطمأنّوا وهدأت نفوسهم، واستقرّت على الدين الجديد -وهو الإسلام- أخذوا يفكّرون في تعاليم دينهم القديم، ويثيرون مسائل من مسائله، ويلبسونها لباس الإسلام»(2).
__________
(1) - ضحى الإسلام – ج3 - 8
(2) - المرجع السابق – ج3 – ص 7(1/180)
يقول الإمام "محمّد أبو زهرة": «في آخر العصر الأمويّ والعصر العبّاسيّ تواردت على العقل العربيّ الفلسفة الهنديّة والفلسفة اليونانيّة، وقد جاءت إلى المسلمين أرسال الفلسفة اليونانيّة عن طريق الفرس، لأنّ الثقافة الفارسيّة قبيل الإسلام كانت متأثّرة بالفلسفة اليونانيّة، كما جاءت عن طريق السريان، لأّنّهم ورثوا الفلسفة اليونانيّة وألبسوها لبوسهم الدينيّ ومسوحهم اللاهوتيّة وعن طريق اليونانيّة أنفسهم لأنّ بعض الموالي من المسلمين كان يجيد اليونانيّة»(1).
«وقد ابتدأت في هذا العصر الآراء الفلسفيّة تنتشر بين المسلمين باختلاطهم بالفرس واليونان والرومان، وكلّ هؤلاء كان للعلوم الفلسفيّة عندهم منزلة كبيرة، وكان بالعراق مدارس فلسفيّة، كما كان بفارس قبل الإسلام مثلها… ولمّا جاء الإسلام في تلك الأصقاع وجد من سكانّها من يجيدون العلوم الفلسفيّة ومنهم من كان يعلّم المسلمين مبادئها، وكان للسريان العمل البارز الظاهر في ذلك …
__________
(1) - محمّد أبو زهرة – تاريخ المذاهب الإسلاميّة – دار الفكر العربيّ، بيروت – 1989 - ص 130-131(1/181)
«وإنّه بدخول هذه الفلسفات المختلفة وُجدت بحوث فلسفيّة كثيرة، حول العقيدة، فتكلّم بعض العلماء في كون صفات الله تعالى المذكورة في القرآن غير الذات، أم هي والذات شيء واحد، وهل الكلام صفة الله تعالى، وهل القرآن مخلوق. وهكذا تكاثرت الموضوعات الّتي جرى فيها الخلاف، ثمّ تجمّع الكلام في القَدَر واتّجه إلى إرادة الإنسان، أيُعَدّ الإنسان فاعلاً مختاراً قادراً على ما يفعل أم يُعدّ فيما يفعل كالريشة في مهبّ الريح، ليس لها إرادة تحرِّكها وتوجِّهها التوجيه الّذي تبتغيه، وبذلك تسلسلت الأفكار والآراء وصار لكلّ جماعة من العلماء مجموعة من الآراء العلميّة جعلتها ذات مذهب علميّ صالح للدراسة والفحص ويجري الجدل فيه وحوله وبذلك تكوّنت المذاهب الاعتقاديّة»(1). وهذه المذاهب الاعتقاديّة هي الّتي بدأت منذ ذلك العصر تعرف "بعلم الكلام" .
ثانياً:
المذاهب الكلاميّة
أ- المعتزلة في مواجهة الزندقة:
إنّ أوّل من أُطلق عليه اسم علماء الكلام هم علماء المعتزلة.وهم يُنسبون إلى "واصل بن عطاء"(2) الّذي اشتُهر بأنّه مؤسّس المذهب مع صاحبه "عمرو بن عبيد"(3)
__________
(1) - المرجع السابق –… ص 103
(2) - واصل بن عطاء(80-131هـ)
واصل بن عطاء الغزّال،أبو حذيفة.رأس المعتزلة ومن أئمّة البلغاء والمتكلّمين.سميّ أصحابه بالمعتزلة لاعتزاله حلقة درس الحسن البصري.وهو الّذي نشر مذهب"الاعتزال" في الآفاق.ولد بالمدينة،ونشأ بالبصرة.وكان يلثغ بالراء فيجعلها غيناً،فتجنّب الراء في خطابه، وضرب به المثل في ذلك.وكان ممّن بايع لمحمّد بن عبد الله بن الحسن في قيامه على "أهل الجور". له تصانيف،منها "أصناف المرجئة" و"المنزلة بين المنزلتين" و"معاني القرآن" و"طبقات أهل العلم والجهل" و"السبيل إلى معرفة الحق" و"التوبة". (الأعلام للزركلّي)
(3) - عمرو بن عبيد(80-144هـ)
عمرو بن عبيد بن باب التميمي بالولاء، أبو عثمان البصري: شيخ المعتزلة في عصره،ومفتيها، وأحد الزهّاد المشهورين. اشتهر عمرو بعلمه وزهده وأخباره مع المنصور وغيره.وفيه قال المنصور«كلّكم طالب صيد، غير عمرو بن عبيد». له رسائل وخطب وكتب،منها "التفسير" و"الردّ على القدريّة".توفي بمران(بقرب مكة) ورثاه المنصور،ولم يسمع بخليفة رثى مَن دونه، سواه. وفي العلماء من يراه مبتدعاً. (الزركلّي)(1/182)
.بل إنّ المعتزلة في كتبهم «يرون أنّ مذهبهم أقدم في نشأته من واصل،فيعدّون من رجال مذهبهم كثيرين من آل البيت»(1).
إلاّ أنّ المؤكّد أنّ المعتزلة لم يذع صيتهم ويعلُ شأنهم إلاّ بسبب النشاط الّذي أظهروه في مقارعة أهل الأديان والفلسفات والمذاهب المعادية للإسلام وحضارته. سواء تمثّلوا في اليهود والنصارى -بما فيهم صناديد الفلسفة اليونانيّة- أم الثنويين أم المزدكيين أم غيرهم من زنادقة المجتمع الإسلاميّ. وكان العصر العبّاسيّ الأوّل هو العصر الذهبي بالنسبة للمعتزلة، بسبب التأييد الّذي تمتّعوا به من بعض الخلفاء العباسيين، وفي طليعتهم المأمون، وبسبب الحملة الّتي شنّها هذا الأخير -مستعيناً بأشهر مفكّري المعتزلة- على الزنادقة وأهل الأهواء والبدع.
يقول الإمام "أبو زهرة": «دخل الإسلام طوائف من المجوس واليهود والنصارى وغير هؤلاء وأولئك، ورؤوسهم ممتلئة بكلّ ما في هذه الأديان من تعاليم جرت في نفوسهم مجرى الدم، ومنهم من كان يظهر الإسلام،ويبطن غيره: إمّا خوفاً ورهبة، أو رجاء نفع دنيويّ، وإمّا بقصد الفساد والإفساد، وتضليل المسلمين، وقد أخذ ذلك الفريق ينشر بين المسلمين ما يشكّكهم في عقائدهم، وظهر ثمار غرسهم في فرق هادمة للإسلام تحمل اسمه ظاهراً وهي معاول هدمه في الحقيقة، فظهرت"المجسّمة"، و"الرافضة"الّتي تقول بحلول الإله في جسم بعض الأئمّة، و"الزنادقة". وقد تصدّى للدفاع عن الإسلام أمام هؤلاء فرقة درست المعقول وفهمت المنقول، فكانت المعتزلة، تجردّوا للدفاع عن الدين(…)
__________
(1) - تاريخ المذاهب الإسلاميّة – ص 124(1/183)
«ولمّا جاءت الدولة العبّاسيّة وقد طمّ سيل الإلحاد والزندقة كما أشرنا وجد خلفاؤها في المعتزلة سيفاً مسلولاً على الزنادقة، لم يفلّوه بل شجّعوهم على الاستمرار في نهجهم، فلمّا جاء المأمون -وقد كان يعتبر نفسه من علماء المعتزلة- شايعهم وقرّبهم وأدناهم، وجعل منهم حجّابه ووزراءه...»(1).
فمن هم الزنادقة؟
لم يكن لعبارة "زنديق" معنى واحد متّفق عليه بين من يستخدمها ويرمون بها أناساً يقصدونهم بصفات معيّنه. فقد استخدمت للدلالة على معانٍ عدّة مختلفة. إلاّ أنّ ما يجمع هذه المعاني العديدة هو أنّها ترمز في كلّ الحالات إلى أشخاص خالفوا الدين الإسلاميّ كلّياً أو جزئياً.
قال صاحب "الصحاح": «الزنديق من الثنويّة، وهو فارسيّ معرّب، وجمعه زنادقة، وقد تزندق، والاسم الزندقة».(2) وقال ابن منظور «الزنديق: القائل ببقاء الدهر، فارسيّ معرّب، وهو بالفارسيّة: زَنْدِكِر، أي يقول بدوام بقاء الدهر». ونَقلَ عن التهذيب: « الزنديق معروف وزندقته أنّه لا يؤمن بالآخرة ووحدانيّة الخالق»(3). وقال "أبو حامد الغزاليّ": «وأمّا الزندقة المطلقة، فهو أن تنكر الصانع للعالم أصلاً ورأساً»(4).
وهكذا نرى أنّ معنى الزندقة يتراوح بين الإلحاد وإنكار اليوم الآخر وبين أن يكون مذهباً من مذاهب الثنويّة، وهم القائلون بوجود إلهين اثنين، إله الخير وإله الشرّ. وهذا واضح من كلام صاحب "الصحاح": «الزنديق من الثنويّة».
__________
(1) - المرجع السابق – ص 131-132
(2) - محمد بن أبي بكر الرازي- مختار الصحاح – مادّة زندق.
(3) - ابن منظور – لسان العرب – مادّة زندق.
(4) 4 - أبو حامد الغزاليّ – القسطاس المستقيم ( ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزاليّ ) – دار الكتب العلميّة، بيروت – د.ت – ص88(1/184)
إلاّ أنّه يبدو للمتتبّع أن إطلاق الزندقة على الإلحاد وإنكار اليوم الآخر إنّما أتى في وقت متأخّر. ففي العصر العبّاسيّ الأوّل تتردّد كلمة الزندقة لتشير في الغالب إلى أهل المذاهب الثنويّة الّتي كانت تنتشر بين الفرس قبل الإسلام. وصحيح أنّ العبارة أطلقت بعض الأحيان على المجّان الّذين عاقروا الخمور وعقدوا مجالس الفجور ودفعهم السكر إلى التفوّه بالرفث والفسوق والخلاعة،(1)إلاّ أنّه حين يتكلّم المؤرّخون عن ملاحقة الخلفاء للزنادقة والتنكيل بهم مستعينين بأهل الكلام، فإنهم يعنون بهم المذاهب الّتي كانت تنتشر في البلاد الفارسيّة قبل الإسلام، والّتي حاولت أن تطلّ برأسها بين الفينة والأخرى في المجتمع الإسلاميّ.
وأفضل تعبير يدلّنا على ماهيّة الزنادقة الّذين لاحقهم الخلفاء العباسيّون هو تعبير واحد منهم، وهو الخليفة "المهديّ" في وصيّته لابنه موسى، أي الخليفة من بعده "الهادي". فيحدّثنا الطبريّ: «أنّ المهديّ قال لموسى يوماً- وقد قُدِّم إليه زنديق فاستتابه فأبى أن يتوب، فضرب عنقه وأمر بصلبه –يا بنيَّ، إن صار لك هذا الأمر فتجرّد لهذه العصابة –يعني أصحاب ماني– فإنّها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن، كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثمّ تخرجها الى تحريم اللحم ومسّ الماء الطهور وترك قتل الهوامّ تحرّجاً وتحوّباً، ثمّ تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين: أحدهما النور والآخر الظلمة، ثمّ تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق، لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور، فارفع فيها الخشب، وجرّد فيها السيف، وتقرّب بأمرها إلى الله لا شريك له».(2)
__________
(1) - انظر: ضحى الإسلام – ج1 – ص 146 وما بعدها.
(2) - ابن جرير الطبري – تاريخ الأمم والملوك – دار الكتب العلميّة، بيروت – 2001م – مجلد4 – ص612(1/185)
وظاهر من كلام المهديّ والعديد من النصوص التاريخيّة أنّ هؤلاء الزنادقة إنّما كانوا يُظهرون الإسلام نفاقاً بينما هم في سرائرهم يعتنقون ديانة ماني أو غيره من الفرق الثنويّة. وهذا ما يفسّر تنكيل الخلفاء بهم. إذ لو كانوا يعلنون البقاء على دين آبائهم، أي المجوسيّة، لما فتنهم الخلفاء عن دينهم، إذ المعروف أنّ المسلمين لم يُكرهوا المجوس على اعتناق الإسلام، كدأبهم مع اليهود والنصارى.
وها هو "ابن النديم" يحدّثنا عن جملة من أسماء الزنادقة في دولة بني العبّاس ورؤسائهم المتكلّمين «الّذين يظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة».(1) وممّا يقوله مثلاً: «وكان محمّد بن عبيد الله كاتب المهديّ زنديقاً، واعترف بذلك فقتله المهديّ»،(2) ولكنّه يحدّثنا أيضاً أنّ المأمون أحضر أحد رؤسائهم، وهو "يزدان بخت"، بعد أن أمّنه «فقطعه المتكلّمون (أي أسقطوا حجّته), فقال له المأمون: أسلم يا يزدان بخت, فلولا ما أعطيناك إيّاه من الأمان, لكان لنا ولك شأن. فقال يزدان بخت, نصيحتك يا أمير المؤمنين مسموعة, وقولك مقبول, ولكنّك ممّن لا يُجْبِر الناس على ترك مذاهبهم, فقال المأمون أجل».(3)
__________
(1) - ابن النديم – الفهرست – ص522
(2) - المصدر السابق – ص522
(3) - المصدر السابق – ص522(1/186)
وخلاصة الكلام أنّ ظاهرة الزندقة لم تكن ذات بُعد ديني وحسب, وإنّما كانت لها أبعاد سياسيّة خطيرة. ويلخّص الإمام محمّد أبو زهرة ظاهرة الزندقة هذه بأنّها حركة «سرت في الشرق من الديار الإسلاميّة سرّاً بين الجماعات الفارسيّة الّتي أرادت الملك الفارسيّ، وبين عبّاد الأصنام في الشرق الّذين أرادوا إحياء مبادئهم الدينيّة في داخل الدولة الإسلاميّة، وتضافرت الجهود من بقايا هذه الدول الّتي قوّض الإسلام أركانها لإطفاء نوره،وقد عجزوا عن إعادة ملكهم القديم عن طريق القوّة،فلم يبق إلاّ أن يعملوا على إضعاف قوّته في قلوب أهله، وإحياء الديانات القديمة ونشرها بينهم.فالفرس عملوا على نشر مبادئ "ماني" الجامعة بين مبادئ مسيحيّة ومبادئ مجوسيّة وربّما بعض آراء هنديّة، ونشر آراء "زرادشت" الّتي نظمت المجوسيّة، ودعت إلى القوّة ومبادئ "ديصان" و"مرقيون" وغيرهما، واتّجهوا إلى إحياء مبادئ "مزدك"الّتي كانت ترمي إلى شيوعيّة الأموال والنساء ولا يكون أحد مختصّاً بشيء قطّ، أرادوا بذلك تخريب الدولة الإسلاميّة كما خرّب المذهب ديار فارس عندما انتشر فيها. وقد ظهر "بابك الخرميّ" يدعو إلى هذا المذهب وينشره، وقد ظهر في عصر المأمون،فقاومه بالسيف،وقاوم تفكيره بالمجادلة تولاّها هو ومعه أصحابه من المعتزلة أمثال "محمّد بن عبد الملك الزيّات" و"أحمد بن أبي دؤاد" وغيرهم من كبار المعتزلة الّذين كان لهم سلطان في الدولة،أو لم يكن لهم سلطان أمثال "بشر بن المعتمر" و"جعفر بن بشر" و"الجاحظ" وغيرهم»(1).
ب_ قضايا المعتزلة:
__________
(1) - المرجع السابق – ص 143-144(1/187)
رغم البلاء الّذي أظهره المعتزلة في مواجهة الزنادقة،لم يحظوا بتأييد الفقهاء والمحدّثين الّذين أظهروا تحفّظاً كبيراً على القضايا الّتي أثاروها والمنهج الّذي ساروا عليه في دراسة العقيدة الإسلاميّة. فقد شنّ بعض الفقهاء والمحدّثين الغارة على المعتزلة، «وإنّك لترى في مجادلات الفقهاء والمحدّثين تشنيعاً على المعتزلة كلّما لاحت لهم بارقة،وإذا سمعت الشافعيّ وابن حنبل يذمّان علم الكلام، ومن يأخذ العلم على طريقة المتكلّمين،فإنّما المعتزلة وطريقتهم أرادوا بذمّهما»(1).
فما هي المسائل الّتي أثاروها والآراء الّتي أدلوا بها والمنهج الّذي ساروا عليه، حتّى لاقوا تلك المعارضة من فقهاء المسلمين ومحدّثيهم ؟!
لقد انبرى المعتزلة منذ نشأتهم للإدلاء برأيهم في القضايا الّتي ثارت عقب استقرار الفتوحات في البلاد، فكانت لهم آراء متفاوتة من حيث ما لقيته من القبول أو الرفض من الفقهاء والمحدّثين والرأي العامّ في المجتمع.
وقد أرجع المعتزلة جميع آراء مذهبهم إلى أصول خمسة تحمل العناوين التالية: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(2). إلاّ أنّ المسائل الّتي تميّزوا بها بوضوح عن غيرهم وأثارت غضب سائر العلماء عليهم، هي تلك الّتي تنضوي تحت عناوين: التوحيد والعدل، ثمّ بدرجة أقلّ: المنزلة بين المنزلتين.
__________
(1) - المرجع السابق - ص 133
(2) - انظر : المرجع السابق - ص 126(1/188)
أمّا التوحيد، فهو –كما يقول الإمام "أبو زهرة"- «لبّ مذهبهم وأُسّ نحلتهم»(1). وهو أوسع من المعنى الموجود لدى جميع المسلمين والمتمثّل بشهادة "أن لا إله إلاّ الله". فقد رأى المعتزلة أنّ هذا التوحيد يجب أن يستتبع مجموعة من الاعتقادات المتفرّعة عنه. فعلى أصل "التوحيد"، بنوا آراءهم في تنزيه الذات الإلهيّة عن صفات المخلوقات كلّها، انسجاماً مع قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِِهِ شَيْءٌ } (2)، وكذلك عن أيّ صفة توحي بتعدّد تلك الذات أو وجود شيء آخر معها منذ الأزل. «فبنوا على هذا الأصل استحالة رؤيّة الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، لاقتضاء ذلك الجسميّة والجهة، كما بنوا عليه أنّ الصفات ليست شيئاً غير الذات، وإلاّ تعدّد القدماء في نظرهم،وبنوا على ذلك أيضاً أنّ القرآن مخلوق لله سبحانه وتعالى وليس صفة من صفاته، لمنع تعدّد القدماء، ولنفي كثيرين منهم صفة الكلام عن الله تعالى»(3).
__________
(1) - المرجع السابق – ص 126
(2) - سورة الشورى – الآية 11
(3) - المرجع السابق – ص 127(1/189)
وأمّا العدل لديهم، وفق ما أورده "المسعوديّ" في "مروج الذهب" «فهو أنّ الله لا يحبّ الفساد، ولا يخلق أفعال العباد، بل يفعلون ما أمروا به ونهوا عنه، بالقدرة الّتي جعلها الله لهم وركّبها فيهم،وأنّه لم يأمر إلاّ بما أراد، ولم ينه إلاّ عمّا كره،وأنّه وليّ كلّ حسنة أمر بها، بريء من كلّ سيّئة نهى عنها، لم يكلّفهم ما لا يطيقونه، ولا أراد منهم ما لا يقدرون عليه، وأنّ أحداً لا يقدر على قبضٍ وبسطٍ إلاّ بقدرة الله الّتي أعطاهم إيّاها، وهو المالك لها دونهم، يفنيها إذا شاء، ويبقيها إذا شاء، ولو شاء الله لجبر الخلق على طاعته، ومنعهم اضطراريّاً عن معصيته، ولكان على ذلك قادراً، غير أنّه لا يفعل، إذ كان في ذلك رفع للمحنة، وإزالة للبلوى»(1).
وقد ردّوا بهذا الأصل على الجبريّة الّذين قالوا إنّ العبد في أفعاله غير مختار، فعدّوا العقاب على ذلك ظلماً، إذ لا معنى لأمر الشخص بأمر هو مضطرّ إلى مخالفته، ونهيه عن أمر هو مضطرّ إلى فعله.
وأمّا المنزلة بين المنزلتين، فهي القول بأنّ المسلم المرتكب للكبيرة هو في منزلة بين المؤمن والكافر. وقد أوضح "الشهرستانيّ" رأي المعتزلة في هذه المسألة فيما نسبه إلى "واصل بن عطاء" أنّه قال: «إنّ الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سُمّي المرء مؤمناً وهو اسم مديح. والفاسق لم يستجمع خصال الخير ولا استحقّ المدح، فلا يسمّى مؤمناً، وليس هو بكافر مطلقاً أيضاً، لأنّ الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه، لا وجه لإنكارها…»(2).
__________
(1) - أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي – مروج الذهب ومعادن الجوهر – تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد – دار التحرير، القاهرة 1386هـ/1966م – ج2 – ص 147
(2) - محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني – الملل والنحل – تحقيق محمّد سيّد كيلاني – دار المعرفة، بيروت – دون تاريخ - ج1 –
ص48(1/190)
وقد كان المعتزلة، في استدلالهم على العقائد، يُكثرون من الاعتماد على العقل، وكانت كثير من آرائهم مبنيّة على أبحاث عقليّة. فإنّهم بعد أن استمدّوا أصول مذهبهم الخمسة من نصوص الوحي -ولا سيّما القرآن الكريم- راحوا ينشؤون آراءهم في سائر القضايا إنشاء عقليّاً متوافقاً مع هذه القضايا. وهذا المنهج أدّى بهم إلى إنكار العديد من الأحاديث الشريفة بحجّة أنّها تخالف الأصول القرآنيّة الّتي تبنّوها. كما أدّى بهم إلى تأويل الكثير من الآيات والأحاديث الّتي تتعارض –أو يتعارض ظاهرها– مع آرائهم العقليّة.
ولقد ظهرت مبالغتهم في تحكيم العقل حين قرّروا أنّ الحُسن والقُبح في الأفعال ذاتيّ وليس اعتباريّاً. وبالتالي يمكن إدراكه بالعقل، وقَبْل ورود الشرع، وأنّ الله تعالى حين حرّم بعض الأفعال،إنّما حرّمها لما فيها من قبح ذاتيّ، وحين أباح أفعالاً أو أمر ببعضها، فإنّما فعل ذلك لما فيها من حسن ذاتيّ.(1)
إنّ مذهب المعتزلة هذا،بما أثاره من مسائل وأدلى به من آراء وبنهجه الجديد الّذي أتى به وبإنكاره لبعض النصوص وتأويل الكثير منها،هو الّذي أثار حفيظة سائر العلماء من فقهاء ومحدّثين، فراحوا يذمّون الكلام وأهله.
إلاّ أنّ المواجهة بين الفريقين لم تكن لتستعر على النحو الّذي شهده العصر العبّاسيّ لولا قيام رؤوس المعتزلة الكبار بمحاولة فرض آرائهم واجتهاداتهم على سائر المسلمين-علمائهم وعامّتهم-بالقوّة، مستغلّين النفوذ الّذي تمتّعوا به منذ عهد الخليفة المأمون.
ج- المعتزلة في مواجهة المجتمع :
بعد أن بدا أنّ خطر الزنادقة والملحدين انحسر إلى حدّ كبير، التفت المأمون في العام الأخير من حياته(218هـ)، برأي وتدبير من وزيره وكاتبه المعتزليّ "أحمد بن أبي دؤاد" (2)
__________
(1) - انظر : الملل والنحل –ج1- ص45
(2) أحمد بن أبي دؤاد(160-240هـ)
أحمد بن أبي دؤاد بن جرير بن مالك الإيادي،أبو عبد الله: أحد القضاة المشهورين من المعتزلة، ورأس فتنة القول بخلق القرآن. وفيه يقول المأمون: إذا استجلس الناس فاضلاً فمثل أحمد. وكان يقال: أكرم من كان في دولة بني العباس البرامكة ثمّ ابن أبي دؤاد.وكان شديد الدهاء،محبّاً للخير.اتّصل أوّلاً في المأمون، فلمّا قرب موته أوصى به أخاه المعتصم،فجعله قاضي قضاته، وجعل يستشيره في أمور الدولة كلّها.ولمّا مات المعتصم اعتمد الواثق على رأيه. ومات الواثق راضياً عنه. وتولّى المتوكّل، ففُلج ابن أبي دؤاد في أوّل خلافته سنة 233هـ،وتوفّي مفلوجاً ببغداد.قال الذهبي: كان جهيماً بغيضاً، حمل الخلفاء على امتحان الناس بخلق القرآن، ولولا ذلك لاجتمعت الألسنة عليه.…(الأعلام للزركّلي)(1/191)
إلى الساحة الداخليّة، حيث الفقهاء والمحدّثون يرفضون كثيراً من مقولات المعتزلة. «لقد حاول أن يحمل الفقهاء على القول بأنّ القرآن مخلوق، فأجابه بعضهم إلى رغبته تقيّة ورهباً لا إيماناً واعتقاداً. وتحمّل آخرون العنت والإرهاق والسجن الطويل ولم يقولوا غير ما يعتقدون. واستمرّت تلك الفتنة طول مدة المعتصم والواثق، وذلك لوصيّة المأمون بذلك، وزاد الواثق الإكراه على نفي الرؤيّة (رؤيّة الله) كرأي المعتزلة. ولمّا جاء المتوكّل رفع هذه المحنة، وترك الأمور تأخذ سيرها،والآراء تجري في مجاريها، بل إنّه اضطهد المعتزلة ولم ينظر إليهم نظرة راضية»(1).
__________
(1) - تاريخ المذاهب الإسلاميّة – ص 132-133(1/192)
لقد كانت تلك الحقبة الّتي حاول خلالها المعتزلة فرض آرائهم على سائر المسلمين مؤشِّراً على هويّة العرف العامّ الّذي ساد المجتمعَ الإسلاميّ آنذاك، بحيث ظهرت مراكز الاستقطاب الّتي تعلَّق بها جمهور المسلمين وكان لها التأثير الأقوى عليه، فكانت هذه المراكز بلا شكّ تتمثّل في المدارس الفقهيّة والمحدّثين من علماء المسلمين. وقد تجلّى ذلك في نقمة المأمون من "عامّة المسلمين" أنّهم لم يتقبّلوا القول بخلق القرآن، وبقوا متعلّقين بموقف الفقهاء والمحدّثين. فممّا ورد في رسالته إلى واليه على بغداد الّتي يأمره فيها بامتحان القضاة: «وقد عرف أمير المؤمنين أنّ الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعيّة وسفلة العامّة -ممّن لا نظر له ولا رويّة ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، والاستضاءة بنور العلم وبرهانه،في جميع الأقطار والآفاق- أهل جهالة بالله وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به», ثمّ يبرّر حكمه هذا عليهم بقوله: «وذلك أنّهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وما أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين، واتّفقوا غير متعاجمين، على أنّه قديم أوّل لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه»(1).
كما ظهر تعلّق عامّة الناس في المجتمع بالمحدّثين حين وقف الإمام "أحمد بن حنبل"(2)
__________
(1) - محمّد بن جرير الطبري – تاريخ الأمم والملوك – دار الكتب العلميّة، بيروت – 2001 – م5 – ص186
(2) - الإمام أحمد بن حنبل(164-241هـ)
أحمد بن محمّد بن حنبل،أبو عبد الله،الشيباني الوائلي: إمام المذهب الحنبلي،وأحد الأئمّة الأربعة.ولد ببغداد،فنشأ منكبّاً على طلب العلم،وسافر في سبيله أسفاراً كبيرة.صنّف "المسند" في ستّة مجلّدات، يحتوي على ثلاثين ألف حديث. وله كُتب عديدة. وفي أيامه دعا المأمونُ إلى القول بخلق القرآن ومات قبل أن يناظر ابن حنبل، وتولّى المعتصم فسجن ابن حنبل ثمانية وعشرين شهراً لإقناعه عن القول بخلق القرآن. وأُطلق سنة 220هـ.ولم يصبه شرّ في زمن الواثق بالله بعد المعتصم، ولمّا توفّي الواثق وولي أخوه المتوكّل بن المعتصم أكرم الإمام أحمد بن حنبل وقدّمه، ومكث مدّة لا يولّي أحداً إلاّ بمشورته،وتوفّي الإمام وهو على تقدّمه عند المتوكّل.…(الزركّلي)(1/193)
وقفة الأبطال أمام محنة المأمون وخليفتيه من بعده، وتحمَّل ما ناله من السجن والتعذيب والتهديد بالقتل.فكانت أنظار مئات الألوف من الناس مشدودة إليه تتابع ما يصدر عنه من قول باهتمام بالغ.ويمكن أن نذكر حادثتين متوازيتين، دلالةً على مدى نفوذ كلّ من الفريقين في المجتمع وتأثيره عليه.ألا وهما جنازة كلّ من الإمام "أحمد بن حنبل" الّذي كان يقول: «قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز حين تمرّ»، و"أحمد بن أبي دؤاد المعتزليّ".
روى "ابن كثير" في "البداية والنهاية"، يحكي قصّة جنازة الإمام "ابن حنبل": «وقد كانت وفاته يوم الجمعة حين مضى منه نحو من ساعتين، فاجتمع الناس في الشوارع (…) وحضر غسله نحو مائة من بيت الخلافة من بني هاشم (…) وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلاّ الله (…) ولم يستقرّ في قبره -رحمه الله- إلاّ بعد صلاة العصر، وذلك لكثرة الخلق»(1). وقد رُوي أنّ أمير البلد أمر بإحصاء الّذين خرجوا للتشييع «فوجدوا ألف ألف وثلاثمائة ألف، وفي رواية وسبعمائة ألف سوى من كان في السفن»(2).
بينما «أحمد بن أبي دؤاد –وهو قاضي قضاة الدنيا– لم يحتفل أحد بموته، ولم يلتفت إليه، ولمّا مات ما شيّعه إلاّ قليل من أعوان السلطان»(3).
__________
(1) - أبو الفداء إسماعيل بن كثير – البداية والنهاية – مكتبة المعارف، بيروت – الطبعة الخامسة1404هـ/1984م –ج10-ص342
(2) - المصدر السابق – ج10 – ص342
(3) - المصدر السابق – ج10 –ص 342(1/194)
وهكذا بدأ نجم المعتزلة بالأفول منذ النصف الأوّل من القرن الثالث الهجريّ، بسبب ما خسروه من النفوذ الّذي كان لهم لدى السلطة الحاكمة، وبعد عجزهم عن نيل القبول في المجتمع، وبسبب تصدّي العلماء لهم ولآرائهم ومسائلهم الّتي استحدثوها. فبعد أن كان المعتزليّ يتباهى باعتزاله ويفتخر به «أخذ مصباح المعتزلة يخبو شيئاً فشيئاً إلى أن انطفأ، وأصبح القول بالاعتزال سرّاً بعد أن كان جهراً»(1).
إلاّ أنّ علم الكلام يأبى أن يأفل نجمه مع أفول نجم المعتزلة. ويبدو أنّ علم الكلام من حيث هو «علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة والردّ على المبتدعة المنحرفين»(2)، أضحى في نظر فريق من علماء المسلمين يلبّي حاجة لا يلبّيها نشاط المحدّثين والفقهاء. إذ لا بدّ ممّن يقوم بالتصدّي للعقائد الّتي حاولت -منذ استقرار الفتوح الإسلاميّة خارج جزيرة العرب- أن تقتحم على الثقافة الإسلاميّة مداخلها وجوانبها وأسوارها العالية، وأن تخترق أذهان المسلمين، من حيث لا يدرون في كثير من الأحيان.
من هنا بدا ظهور مذهب "أبي الحسن الأشعريّ" وكأنّه عين انبجست لتروي ظمأ كان يشعر به كثير من المثقّفين الحائرين في المجتمع الإسلاميّ. إذ احتاروا بين منهج عقليّ يطلق العنان للعقل -فيما يطيق وفيما لا يطيق- ويفرّط بكثير من نصوص الوحي إنكاراً وتأويلاً، نزولاً عند حكم عقول قاصرة،وبين منهج أثريّ وفقهيّ قام بأداء مهمّته على نحو رائع في مجال التشريع وأنظمة الحياة والمجتمع والدولة، ولكنّه لم يكن يملك المعاول والفؤوس الفكريّة الكفيلة بتحطيم مكر الزنادقة وأهل الفلسفات والبدع.
د- الأشاعرة:
__________
(1) 4- ظهر الإسلام – ج 4 – ص62
(2) - مقدّمة ابن خلدون – ص507(1/195)
يقول "محمّد أبو زهرة": «اشتدّت حملة المعتزلة على الفقهاء والمحدّثين، ولم يسلم من حملتهم فقيه معروف أو محدّث مشهور، فكرههم الناس وصاحب ذكرهم البلاء والمحن وتأرّقت العداوة، حتّى نسي الناس خيرهم فنسوا دفاعهم عن الإسلام وبلاءهم فيه، وتصدّيهم للزنادقة وأهل الأهواء، نسوا هذا كلّه، ولم يذكروا لهم إلاّ إغراءهم الخلفاء بامتحان كلّ إمام تقيّ ومحدِّث مهديّ.
«ولّما جاء المتوكّل وأبعدهم عن حظيرته، وأدنى خصومهم، وفكّ قيود العلماء، تجرّد لمنازلتهم جماعة من الفقهاء ومن نهجوا نهج السنّة في دراسة العقائد، فبعض العلماء الّذين أجادوا طريقة المعتزلة في المجادلة لم يأخذوا بآرائهم، فجادلوهم بلسان عضب، ومن ورائهم العامّة يؤيّدونهم. وبعض الخاصّة يرافقونهم والخلفاء يناصرونهم»(1).
لقد كان "أبو الحسن الأشعريّ"، الّذي لمع نجمه بين نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع الهجريّ، أوّل من سلّ سيف علم الكلام لينازل به روّاد الكلام الأوائل. فلقد«تخرّج على المعتزلة في علم الكلام، وتتلمذ لشيخهم في عصره أبي عليّ الجبّائيّ، وكان لفصاحته ولسنه يتولّى الجدل نائباً عن شيخه. ولكنّ الأشعريّ وجد من نفسه ما يبعده عن المعتزلة في تفكيرهم، مع أنّه تغذّى من موائدهم، ونال من ثمرات تفكيرهم ثمّ وجد ميلاً إلى آراء الفقهاء والمحدّثين»(2).
__________
(1) - تاريخ المذاهب الإسلاميّة – ص 160
(2) - المرجع السابق – ص 160(1/196)
لذلك يمكننا القول، إنّ مذهب الأشعريّ ربيبِ المعتزلة، لم يكن انقلاباً على علم الكلام. وإنّما كان انقلاباً على أساتذته المعتزلة روّاد الكلام الأوائل، بعد أن آلت دولتهم إلى الاندثار. بل ربّما كانت حركته عمليّة إنقاذ لهذا "العلم". فقد اعتلى عرش علم الكلام، لينشئ له مجداً عجز المعتزلة عن صنعه. فإذا كان علم الكلام قد بقي حتّى القرن الثالث الهجريّ منبوذاً في المجتمع مرفوضاً لدى غالبيّة الفقهاء والمحدّثين، فإنّ الأشعريّ راح يفتِّح له أبواب القبول لدى كثير من هؤلاء العلماء، هو وورثة مذهبه من بعده.
لقد عمد الأشعريّ إلى المسائل الّتي أثارها المعتزلة، والّتي أدلوا فيها بآراء أثارت حفيظة الفقهاء والمحدّثين وخالفت ظواهر كثير من الآيات والأحاديث أو أدّت إلى إنكار بعض الأحاديث، عمد إلى هذه المسائل، لا ليلغيها، وإنّما ليتبنىّ فيها الرأي الّذي يوافق ما يقوله المحدّثون والفقهاء.
وقد كان للانتصار الّذي حقّقه الإمام "أحمد بن حنبل" أثر كبير –فيما يبدو– في "تفكير الأشعريّ". فممّا يقوله في كتابه "الإبانة عن أصول الديانة": «قولنا الّذي نقول به، وديانتنا الّتي ندين بها: التمسّك بكتاب ربّنا عزّ وجلّ وبسنّة نبيّنا- صلى الله عليه وسلم - وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمّة الحديث. ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل نضّر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته، قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنّه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الّذي أبان الله به الحقّ، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشكّ الشاكّين، فرحمة الله عليه من إمام مقدَّم وجليل معظَّم وكبير مفخّم، وعلى جميع أئمّة المسلمين»(1).
__________
(1) - أبو الحسن عليّ بن إسمعيل الأشعري – الإبانة على أصول الديانة – تحقيق عبد القادر الأرناؤوط – مكتبة دار البيان، دمشق- الطبعة الأولى 1401هـ/1980م – ص17(1/197)
فما مدى موافقة "الأشعريّ" لآراء "أحمد بن حنبل"؟ لنلق الضوء أوّلاً على أهمّ آرائه الّتي خالف فيها المعتزلة، ثمّ لنجب على هذا السؤال:
فأمّا ما يتعلّق بمسألة الصفات الّتي بناها المعتزلة على أصل "التوحيد"، وقالوا إنّ صفات الله هي صفات لذاته أو أسماء لها وليست صفات زائدة على الذات، فقد قال "الأشعريّ": إنّ لله صفات «دلّت أفعاله عليها لا يمكن جحدها، وكما دلّت الأفعال على كونه عالماً قادراً مريداً دلّت على العلم والقدرة والإرادة». ويضيف: «وأيضاً لا معنى للعالمِ حقيقة إلاّ أنّه ذو علم، ولا للقادر إلاّ أنّه ذو قدرة، ولا للمريد إلاّ أنّه ذو إرادة»(1).
وأمّا في مسألة خلق القرآن، فيرى "الأشعريّ" أنّ «العبارات والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء عليهم السلام دلالات على الكلام الأزليّ، والدلالة مخلوقة محدثة، والمدلول قديم أزليّ. والفرق بين القراءة والمقروء والتلاوة والمتلوّ كالفرق بين الذِكر والمذكور،فالذِكر محدَث والمذكور قديم»(2).
__________
(1) -الشهرستاني - الملل والنحل –ج1- ص 94
(2) - الملل والنحل – ج1- ص 96(1/198)
وأمّا مسألة خلق الأفعال، فإنّ رأيه فيها «وسط بين الجبريّة والمعتزلة، فالمعتزلة قالوا إنّ العبد هو الّذي يخلق أفعال نفسه بقوّة أودعها الله تعالى إيّاه، والجبريّة قالوا إنّ الإنسان لا يستطيع إحداث شيء ولا كسب شيء،بل هو كالريشة في مهبّ الريح، فقال الأشعريّ إنّ الإنسان لا يستطيع إحداث شيء ولكن يقدر على الكسب»(1). ومقصود "أبي الحسن" بالكسب، أن يقع فعل من الإنسان لا بإرادته وقدرته، وإنّما يقع بإرادة الله وقدرته "مقترناً" مع إرادة الإنسان(2).
وأمّا مرتكب الكبيرة الّذي قال المعتزلة إنّه لا يسمّى مؤمناً وإنّه يخلد في النار إن مات دون توبة عن كبيرته، فقد قال "الأشعريّ" إنّه إن كان مؤمناً موحِّداً فهو فاسق، وهو في مشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنّة، وإن شاء عاقبه بفسقه ثمّ أدخله الجنّة(3).
هذه أهمّ المسائل الّتي خالف فيها الأشعريّ المعتزلة. والمدقّق فيها يرى أنّه لم يرفض الخوض فيما خاضوا فيه، وإنمّا حاول أن يعطي في مسائلهم الرأي الموافق للآيات والأحاديث، وأن يوافق -قدر الإمكان- آراء المحدّثين والفقهاء.
__________
(1) - تاريخ المذاهب الإسلاميّة – ص 166
(2) - لم يوافق جميع الأشاعرة على "فكرة الكسب" الّتي قال بها أبو الحسن. بل خالفه فيها بعض أشهرهم وأنكروها، ورأوا أنّ رأي أبي الحسن يؤدّي إلى الجبر. ومن هؤلاء الإمام أبو المعالي الجويني، فمع موافقته على أنّ أفعال العباد مخلوقة كلّها لله تعالى، فإنّه يرى أنّ الإنسان يقوم بأفعاله بتأثير من إرادته ومشيئته وقدرته. وهو لا يرى بذلك أنّ الإنسان يخلق فعله، وإنّما هو يستخدم المواهب الّتي خلقها الله تعالى فيه، من إرادة ومشيئة وقدرة على الاختيار والفعل. (انظر : الملل والنحل – ج1 – ص 98-99)
(3) - انظر : الملل والنحل – ج1 – ص 101(1/199)
وهناك نزاع في مدى موافقة "الأشعريّ" لآراء الإمام "أحمد بن حنبل". فبينما صرّح هو نفسه أنّ رأيه هو ما عليه الإمام "أحمد"، أنكر كثير من معاصريه وممّن أتوا بعده ذلك، ولاسيّما الحنابلة ومن أتى بعدهم ممّن عُرفوا بالسلفيّين(1).
وفي كلّ الأحوال، فإنّه مهما وافق "الأشعريّ" الإمام "ابن حنبل" فيما أعلنه من آراء، فإنّه يختلف عنه جذرياً في منهج بحثه وتفكيره وإنشائه لآرائه. وهو أيضاً مهما خالف المعتزلة في الآراء، فإنّه متكلّم مثلهم، بل هو تلميذهم في الكلام. وبالتالي فهو في منهجه العقليّ الّذي يعتمد العقل إلى حدّ كبير في إثبات العقائد والتدليل عليها يخالف منهج الإمام "أحمد" وسائر المحدّثين والفقهاء في التفكير وإنشاء الآراء فهم لا يعطون العقل أكثر من وظيفة فهم النصوص من آيات وأحاديث والوقوف عند مدلولاتها. وكلّ ما في الأمر أنّ "الأشعريّ" حاول أن يخلص بآراء كلاميّة تتوافق مع النصوص الّتي أنكرها المعتزلة أو أوّلوها بتكلّف كبير.
يقول الإمام "أبو زهرة": «وقد سلك الأشعريّ في الاستدلال على العقائد مسلك النقل ومسلك العقل. فهو يثبت ما جاء في القرآن الكريم والحديث الشريف من أوصاف الله تعالى ورسله واليوم الآخر والملائكة والحساب والعقاب والثواب، ويتّجه إلى الأدلّة العقليّة والبراهين المنطقيّة يستدلّ بها على صدق ما جاء في القرآن والسنّة عقلاً، بعد أن وجب التصديق بها كما هي نقلاً. فهو لا يتّخذ من العقل حاكماً على النصوص ليؤوِّلها أو يُمضي ظاهرها، بل يتّخذ العقل خادماً لظواهر النصوص يؤيّدها(…)
__________
(1) - انظر : تاريخ المذاهب الإسلاميّة – ص 187(1/200)
«وفي الحقّ أنّه قد ضعف شأن المعتزلة في القرن الثالث والقرن الرابع الهجريّ، وقد كانوا متصدّين للردّ على أهل الأهواء، وعلى الّذين يهاجمون الإسلام، وأبلوا في ذلك بلاء حسناً، فلمّا ضعف شأنهم كان لا بدّ أن يكون من بين علماء السنّة من يتولى ذلك العمل الكبير الخطير، لأنّه تلميذ المعتزلة، وعرف بلاءهم في هذا الأمر، وأنه صار إمام السنّة المعروف في ذلك العصر، بعد أن زالت دولة المعتزلة.
«وقد نال الأشعريّ لذلك منزلة عظيمة وصار له أنصار كثيرون، ولقي من الحكّام تأييداً ونصرة، فتعقّب خصومه من المعتزلة وأهل الأهواء والكفّار وبثّ أنصاره في الأقاليم يحاربون خصوم الجماعة ومخالفيها ولقّبه أكثر علماء عصره بإمام أهل السنّة والجماعة»(1).
وفي الوقت الّذي ظهر فيه مذهب "أبي الحسن الأشعريّ" شهد شرق العالم الإسلاميّ ظهور مذهب موازٍ له عرف بالمذهب "الماتريديّ"، نسبة إلى مؤسّسه "أبي منصور الماتريديّ"(2). أتى بآراء كلاميّة توسّط فيها مذهبَي المعتزلة والأشاعرة. إلاّ أنّه كان أقرب إلى الأشاعرة من حيث احترامه لنصوص القرآن والسنّة دلالة وثبوتاً، ومن حيث تقبُّل عدد كبير من الأشاعرة له. وانضم إلى عداد المذاهب الكلاميّة، سواء باعتبار القضايا والمسائل الّتي أدلى دلوه بها، أو باعتبار المنهج الّذي سار عليه في بحث تلك القضايا والمسائل(3).
__________
(1) - تاريخ المذاهب الإسلاميّة – ص 167-168
(2) - أبو منصور الماتريدي(ت333هـ)
محمّد بن محمّد بن محمود،أبو منصور الماتريدي: من أئمّة علماء الكلام. نسبته إلى ماتريد (محلة بسمرقند). من كتبه " التوحيد" و"أوهام المعتزلة" و"الرد على القرامطة" وكتاب"الجدل" و"تأويلات القرآن" و"تأويلات أهل السنّة" و"شرح الفقه الأكبر المنسوب للإمام أبي حنيفة". مات بسمرقند.…(الزركّلي)
(3) - انظر : تاريخ المذاهب الإسلاميّة – ص 173 حتّى 176(1/201)
لقد توفّر لهذين المذهبين الكلاميّين -ولا سيّما للأشعريّ- علماء أعلوا رايتهما ونصروهما حتّى أصبح لهما شأن كبير في العالم الإسلاميّ. وارتفع لواء الأشاعرة عهداً بعد عهد، حتّى وصل إلى ذروة مجده في نهاية القرن الخامس الهجريّ. وذلك بسبب من توفّروا له من العلماء ذوي الشأن في المجتمع، أمثال"أبي بكر الباقلّانيّ"(1)، و"أبي المعالي الجوينيّ"(2)وغيرهما. إلاّ أنّه يبدو أنّ أعظم الناصرين للمذهب الأشعريّ وأوسعهم فتحاً لأبواب المجتمع أمام علم الكلام كان الإمام "أبا حامد الغزاليّ". وربما لهذا السبب وللعديد من الأسباب غيره -كما سنرى فيما يأتي من الفصول- كان "الغزاليّ" محطّة مهمّة، بل ربّما منعطفاً كبيراً في تاريخ الثقافة الإسلاميّة.
__________
(1) -القاضي أبو بكر الباقلاّني(338-403هـ)
محمّد بن الطيّب بن محمّد بن جعفر، أبو بكر: قاضٍ من كبار علماء الكلام. انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة. ولد في البصرة، وسكن بغداد فتوفيّ فيها. كان جيّد الاستنباط، سريع الجواب، وجّهه عضد الدولة سفيراً عنه إلى ملك الروم،فجرت له في القسطنطينيّة مناظرات مع علماء النصرانيّة بين يدي ملكها. له العديد من المؤلّفات. معظمها في الكلام.…(الزركّلي)
(2) - إمام الحرمين أبو المعالي الجويني(419-478هـ)
عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمّد الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين: أعلم المتأخرين، من أصحاب الشافعيّ. ولد في جوين(من نواحي نيسابور) ورحل إلى بغداد، فمكّة حيث جاور أربع سنين. وذهب إلى المدينة فأفتى ودرس، جامعاً طرق المذاهب.ثمّ عاد إلى نيسابور،فبنى له الوزير نظام الملك "المدرسة النظاميّة" فيها. وكان يحضر دروسه أكابر العلماء. له مصنفات كثيرة، معظمها في أصول الدين وأصول الفقه.…(الزركّلي)(1/202)
ثالثاً:
بين منهج المحدّثين والفقهاء
ومنهج علماء الكلام
من الكلام الشائع الّذي كثيراً ما نقرؤه في كتب تاريخ الثقافة الإسلاميّة، أنّ علماء الكلام أحدثوا في الثقافة الإسلاميّة ما لم يكن له وجود في عصر الرسول- صلى الله عليه وسلم - وصحابته من بعده. ألا وهو البحث العقليّ. فبينما اعتمد أهل الكلام منهج التفكير العقليّ -أو العقلانيّ كما يحلو للبعض أن يسمّيه- اعتمد سائر العلماء من فقهاء ومحدّثين ومفسّرين وغيرهم نصوص الوحي -من قرآن وسنّة- دون اعتبار للعقل والأبحاث الفكريّة والعقليّة. والحقيقة أنّ هذا الكلام المتكرّر يفتقر إلى كثير من الدقّة والعمق.
فلقد سبق وأشرنا إلى أنّ القرآن منذ بداية نزوله اعتمد الخطاب العقليّ والمحاججة الفكريّة ودعا إلى تحكيم العقل من أجل الوصول إلى الحقائق الكونيّة الكبرى الدالّة على الخالق سبحانه وتعالى، كما دعا إلى تحكيم العقل في معجزة الإسلام الخالدة القرآن. إذ إنّ الإيمان به وحياً منزلاً من السماء هو المدخل إلى اعتناق الدين الإسلاميّ. وبالتالي نرى الإسلام قام على أساس العقل، ويدعو الإنسان إلى اعتناقه بعد تحكيم العقل وإعمال الفكر. وبالتالي فإنّ منهج أهل الكلام ليس أوّل منهج عقليّ في الإسلام، بل إنّ الدعوة الإسلاميّة بدأت منذ أوّل نشأتها تخاطب الناس خطاباً عقليّاً. ومن يقرأ سور القرآن المكّيّة يلحظ كثرة آيات الجدال والحوار الّتي تخاطب العقل وتعتمد على بدهيّاته الأصيلة والثابتة.(1/203)
إلاّ أنّ مخاطبة الإسلام للعقل وإثارة الفكر لدى الإنسان،لا يعني أنّه جعل العقل حَكَماً في كلّ فكر وحكم ورأي. فإنّه في الوقت الّذي جادل فيه القرآن الناس جميعاً في قضايا العقيدة والحقائق الكونيّة الكبرى المؤدّية إلى الإيمان، من مثل قوله تعالى: { إِنَّ في خَلْقِ السَمَواتِ والأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لأُولي الأَلْبَاب } (1)، فإنّه حين يخاطب الإنسان في مجال التشريع يطلب منه التفويض والتسليم لما جاءه من عند الله عزّ وجلّ من أحكام وأوامر ونواه. قال تعالى: { وَمَا كَان لِمُؤمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم } (2)، وقال سبحانه: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمَّ لا يَجِدوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (3)، وهكذا فإنّه في الوقت الّذي يجعل الإسلام العقل حكماً في مجال العقيدة، فإنّه في مجال التشريع، يدعوه إلى أن يكون أداة لفهم نصوص الوحي لا حَكَماً على ما فيها من أحكام.
__________
(1) - سورة آل عمران – الآية 190
(2) - سورة الاحزاب – الآية 36
(3) - سورة النساء – الآية 65(1/204)
من هذا المنطلق، كان من الطبيعيّ أن نرى ذلك التباين بين منهج البحث لدى كلّ من علماء الكلام من جهة والمحدّثين والفقهاء من جهة أخرى. فعلماء الكلام سخّروا مواهبهم العقليّة وبذلوا طاقاتهم في مجال العقيدة، لتثبيتها في مواجهة أعدائها الخارجيّين، من فلاسفة وزنادقة وأهل أديان وبدع. ولم يكن لقضايا التشريع شأن يذكر في أبحاث الكلاميّين. بل إنّ هؤلاء الكلاميّين -بشتّى مذاهبهم- لم ينازعوا الفقهاء في فهمهم لأحكام القرآن والسنّة واستنباطهم للمسائل الفقهيّة. بل لمّا لم يكن لعلم الكلام اهتمام في مجال التشريع ومنهج استنباط الأحكام توزّع أصحاب المذاهب الكلاميّة أتباعاً للمذاهب الفقهيّة المتعدّدة، من أجل استمداد الأحكام المنظِّمة لسلوك الفرد وحياته اليوميّة. من هنا طغى على أبحاث المتكلّمين ومؤلَّفاتهم ومجادلاتهم المنحى الفكريّ. ذلك أنّ علم الكلام »ينظر في ذات الله تعالى وصفاته... وينظر أيضاً في أحوال الأنبياء والأئمّة من بعدهم والصحابة. وينظر في أحوال الموت والحياة وفي أحوال القيامة والبعث والحشر والحساب, ورؤية الله تعالى. وأهل النظر في هذا العلم يتمسّكون أوّلاً بآيات الله تعالى من القرآن, ثمّ بأخبار الرسول- صلى الله عليه وسلم -, ثمّ بالدلائل العقليّة»(1).
وأمّا المحدّثون والفقهاء، فإنّ وظيفتهم كانت تتمحور حول نصوص الوحي ثبوتاً ودلالة. ففي الوقت الّذي بذل فيه المحدّثون جهدهم لحفظ أحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم - والتحقّق من صحّتها، بذل الفقهاء –وعلى رأسهم المجتهدون– غاية جهدهم في فهم معاني القرآن والسنّة واستنباط الأحكام العمليّة منها. وها هنا لا مجال للعقل إلاّ الفهم والبحث عن معاني الألفاظ ودلالاتها.
__________
(1) - أبو حامد الغزاليّ - الرسالة اللدنّيّة (ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزاليّ) – دار الكتب العلميّة, بيروت – د.ت - ص 63 - 64(1/205)
ولا يجوز الوقوع في خطأ المفاضلة بين كلّ من الفريقين، أي بين علماء الكلام من جهة والفقهاء والمحدّثين من جهة أخرى. إذ لكلّ منهما وظيفة لا تقلّ أهميّة عن الأخرى. فعلماء الكلام تولّوا جانب الدفاع عن العقيدة الإسلاميّة الّتي هي الأساس الّذي يقوم عليه الإسلام والمجتمع الإسلاميّ. والفقهاء تولّوا وظيفة استنباط التشريع الإسلاميّ وإيضاحه وتعليمه للمجتمع بشتّى شرائحه، وبالتالي على أكتاف هؤلاء –أي الفقهاء- قامت مهمّة تجسيد الحضارة الإسلاميّة على أرض الواقع. فإذا كان المجتمع يستمدّ هويّته الحضاريّة من نمط علاقاته، فإنّ الفقهاء هم الّذين تولّوا مهمّة تنظيم تلك العلاقات، بما استنبطوه من أحكام تنظّم علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه وبغيره من الناس.ومن الثروة الفقهيّة الّتي أنتجها الفقهاء استمدّ الحكّام أنظمة الحكم والاقتصاد والاجتماع والعقوبات والحرب والسلم والسياسة الخارجيّة.وعلى أكتاف الفقهاء، قامت عمليّة التربية وتوجيه المجتمع وُجهته الحضاريّة الإسلاميّة.
ومن الطبيعيّ أن يتبادر إلى الذهن في هذا الموضع سؤال مهمّ. وهو أنّه: إذا لم يكن هناك تعارض بين وظيفة كلّ من أهل الكلام من جهة والمحدّثين والفقهاء من جهة أخرى، فلماذا نشب بينهما ذلك الصراع الشهير؟!(1/206)
نسارع إلى الإجابة فنقول: إنّ الخلاف لم ينشب بين الفريقين على أصل عَمَلِ كلّ منهما ووظيفته. وإنّما كانت آراء المعتزلة الّتي خالفوا بها نصوص الوحي الصريحة في كثير من الأحيان، وتحكيم العقل في كثير من تلك النصوص، هي الّتي أثارت حفيظة الفقهاء ودفعتهم إلى رفض علم الكلام، باعتباره عَلَماً على المعتزلة. ولذلك حين دالت دولة علم الكلام إلى "الأشعريّ" بدأ يتغيّر موقفهم. فتحوّلت مواقف كثير من الفقهاء عن السخط والتبرُّم من علم الكلام وأهله إلى موقف الرضى والقبول والتأييد. ممّا يعني أنّ الموقف المتحفّظ لدى فريق كبير من هؤلاء الفقهاء لم يكن إزاء علم الكلام –من حيث هو علم يحاجج عن العقيدة الإسلاميّة بالبراهين العقليّة– بحدّ ذاته،وإنّما كان في حقيقة الأمر إزاء المتكلّمين الأوائل، ألا وهم المعتزلة.
وإذا كنّا قد أسلفنا الكلام عن الفقهاء ومدى انضباطهم بمصادر الإسلام الأصيلة وبُعدهم عن التأثّر بسائر التيارات الفكريّة من فلسفيّة ودينيّة وتشريعيّة، فلنطرح السؤال التالي:
ما مدى انضباط علم الكلام وأهله بالفكر الإسلاميّ؟ وبالمقابل ما مدى تأثّرهم بما سواه من الّتيارات الفكريّة والثقافيّة؟
رابعاً
علم الكلام: بين الأصالة الإسلاميّة
والمؤثِّرات الثقافيّة
لا شكّ أنّ أهل الكلام أخذوا على عاتقهم القيام بإحدى أهمّ المهمّات الّتي كانت الدعوة الإسلاميّة بحاجة إليها. كما أنّهم قاموا بعمل جبّار في تحصين المجتمع الإسلاميّ من الدعوات الهدّامة الّتي تعّرض لها من الشعوبيّين والزنادقة وأهل الأهواء والملل والنحل. ولعلّ عهد الخليفة العبّاسيّ "المأمون" كان أروع مثال على الجهد الّذي بذله علماء الكلام -وهم المعتزلة آنذاك- من أجل الدفاع عن كيان الحضارة الإسلاميّة.(1/207)
وإذا كان المعتزلة هم الروّاد الأوائل الّذين قاموا بتلك المهمّة العظيمة، فإنّ ما أظهره الأشاعرة من نشاط في مواجهة الزنادقة وأهل الفلسفة والبدع لا يقلّ عنه أهمّيّة، بل ربّما بزّه بما يملك من انضباط في التفكير، وما بذله من محاولة التقيّد بنصوص الإسلام الأصيلة، أي القرآن والسنّة.
يقول الإمام "أبو حامد الغزاليّ" عند كلامه عن علم الكلام: «إنّما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنّة وحراستها عن تشويش أهل البدعة. فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحقّ على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار. ثمّ ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أموراً مخالفة للسنّة، فلهجوا بها وكادوا يشوّشون عقيدة الحقّ على أهلها. فأنشأ الله تعالى طائفة المتكلّمين، وحرّك دواعيهم لنصرة السنّة بكلام مرتّب، يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلاف السنّة المأثورة، فمنه نشأ علم الكلام وأهله. فلقد قام طائفة منهم بما ندبهم الله تعالى إليه فأحسنوا الذبّ عن السنّة والنضال عن العقيدة المتلقّاة بالقبول من النبوّة والتغيير في وجه ما أحدث من البدعة»(1).
وبتعبير موجز: إنّ حركة علم الكلام هي النشاط الّذي تجلّى فيه الصراع الحضاريّ والفكريّ بين الإسلام وسائر العقائد والفلسفات والتيّارات الحضاريّة المختلفة. وقد أسفر الصراع -دون أدنى شكّ وباعتراف جميع من قرأوا التاريخ بإنصاف وموضوعيّة- عن انتصار ساحق للحضارة الإسلاميّة وهيمنة كاملة للثقافة الإسلاميّة. ومن هنا تأتي أهمّيّة علماء الكلام.
إلاّ أنّ هذه الحقائق التاريخيّة لا يجوز أن تستدرجنا إلى قبول أهل الكلام -بما لديهم من آراء ومنهج في التفكير والبحث والدراسة- قبولاً مطلقاً، دون نظرة نقديّة متأنّية.
__________
(1) - المنقذ من الضلال – ص 14-15(1/208)
فإذا خاض علماء الكلام تلك المعركة الفكريّة والحضاريّة مع خصومهم وخرجوا منها بذلك النصر المبين، فهذا لا يعني بالضرورة أنّهم لم يصابوا بشيء من وطيس المعركة. بل من الطبيعيّ أن نتوقّع احتمال اختراق بعض الشظايا الفكريّة لذلك الكيان الشامخ، وأن تتغلغل فيه بعض العناصر الّتي تناثرت في أجواء المعركة من حيث لا يدري هؤلاء الفرسان. يقول"عليّ سامي النشّار": «ممّا لا شكّ فيه أنّ المتكلّمين -وقد كانوا في وسط فلسفيّ وأمام هجمات فلسفيّة من أديان مختلفة، وعقائد فلسفيّة متعدّدة ومذاهب شرقيّة منتشرة في البلاد الّتي فتحوها- قد أخذوا منها بعض الأفكار الجزئيّة»(1). وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن مدى تعبير علم الكلام عن الثقافة الإسلاميّة ومدى التزامه بمنهجها في التفكير والدراسة والدعوة إليها. وبالمقابل عن مدى تأثّره بسائر الثقافات والتيّارات الفكريّة.
لقد تباينت آراء الباحثين والمؤرّخين للثقافة الإسلاميّة، فيما يتعلّق بمدى نقاء علم الكلام الّذي نشأ في كنف الحضارة الإسلاميّة، أو مدى تأثّره بسائر الثقافات، ولا سيّما الثقافة اليونانيّة. فبينما يرى البعض أنّ علم الكلام هو نتاج إسلاميّ خالص بريء كلّ البراءة من سائر المؤثِّرات الثقافيّة والحضاريّة، يرى آخرون أنّ علم الكلام ما هو إلاّ وجه جديد للمنطق اليونانيّ، وبالتحديد للمنطق الأرسططاليسيّ. وما تبقّى من آراء عديدة تقف مواقف متفاوتة بين هذين الرأيين.
__________
(1) - نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام – ج1 – ص 54(1/209)
فمِنْ أبرز الّذين يمثّلون الرأي الأوّل"عليّ سامي النشّار" الّذي يقول في علم الكلام: «هو النتاج الخالص للمسلمين،وقد صدر هذا العلم عن بناء المجتمع الإسلاميّ،وقد كان بالبعض منه نزوات حيويّة،والبعض الآخر ثورات حيويّة. ثمّ تكوّن البنيان نهائيّاً، وصدر المسلمون فيه عن ذاتهم»(1). ويقرّر «أنّ المنطق الأرسططاليسيّ قوبل في المدرسة الكلاميّة الأولى حتّى القرن الخامس أسوء مقابلة. فهاجمته جميع الفرق الكلاميّة، معتزلة أو أشعريّة أو شيعة أو كراميّة». ويستشهد لذلك بكلام للإمام "ابن تيميّة" يقول فيه: «ما زال نظّار المسلمين لا يلتفتون إلى طريقهم، بل الأشعريّة والمعتزلة والكراميّة والشيعة وسائر الطوائف من أهل النظر كانوا يعيبون فسادها». ثمّ يورد كلاماً آخر "لابن تيميّة" يقول فيه: «ما زال نظّار المسلمين بعد أن عُرّب وعرفوه يعيبونه ويذمّونه ولا يلتفتون إليه ولا إلى أهله في موازينهم العقليّة والشرعيّة»(2).
وبالمقابل يتكلّم "محمّد أبو زهرة" عن علاقة المعتزلة بالفلسفة اليونانيّة، فيقول: «وقد تأثّر المعتزلة بهذه الفلسفة في آرائهم وأخذوا عنها كثيراً في استدلالهم، فظهرت في أدلّتهم ومقدّمات أقيستهم»(3).
ويقول "أحمد أمين": «كان المعتزلة أسرع الفرق للاستفادة من الفلسفة اليونانيّة وصبغها صبغة إسلاميّة والاستعانة بها على نظريّاتهم وجدلهم»(4).
بل يذهب "أحمد أمين" إلى القول بأنّ علماء الكلام تأثّروا باليهود والنصارى،فأخذوا مسألة خلق القرآن من اليهود وأنّهم تأثَّروا بهم في التشبيه وغير ذلك من المسائل(5).
__________
(1) - المرجع السابق – ج1 – ص 54
(2) - علي سامي النشار – مناهج البحث عند مفكري الإسلام – دار النهضة العربيّة، بيروت – 1404هـ/1984م – ص 93
(3) - تاريخ المذاهب الإسلاميّة – ص 130
(4) - فجر الإسلام – ص 299-300
(5) - انظر : فجر الإسلام – ص 126 ، وضحى الإسلام – ج1- ص 334-336-337(1/210)
وقبل مناقشة هذه الآراء لا بد من التنبيه إلى ملاحظة مهمّة. ألا وهي أنّ وجود بعض الأبحاث المشتركة بين المتكلّمين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان والفلسفة، لا يعني بالضرورة تأثّر هؤلاء بأولئك. إذ إنّ كثيراً من تلك المسائل الّتي كانت محلّ اهتمام من جميع الأطراف، هي في حقيقة أمرها قضايا شغلت الإنسان منذ قديم الزمان،من حيث هو باحث بفطرته عن الحقائق الكبرى المتعلّقة بالكون والإنسان والحياة وأصلها ومآلها وغاية وجودها.
ومن الممكن أن تكون هذه المسائل وُجدت لدى علماء المسلمين بحكم احتكاكهم بأهل الأديان والفلسفات ومواجهة هؤلاء للمسلمين بما يملكون من مسائل ومشكلات ومعضلات فكريّة وعقديّة وفلسفيّة. إلاّ أنّه لا يكفي تناول المسلمين لهذه المسائل للزعم بأنّهم وقعوا تحت تأثير تلك المؤثِّرات الثقافيّة. وإذا قام المسلمون بإعطاء الأجوبة على تلك المسائل بناء على العقيدة الإسلاميّة، فوافقوا في آرائهم بعض الآراء،وخالفوا أخرى، فلا يعني هذا بحال من الأحوال تأثّراً بمصادر تلك الآراء.(1/211)
وأمّا ما يظهر من تشابه في العديد من المسائل بين أبحاث الثقافة الإسلاميّة ومقولات أهل الكتاب، فمردّه بكلّ بساطة إلى أنّ كثيراً من عقائد أهل الكتاب هي في الأصل عقائد الأنبياء الّذين أعلن الإسلام أنّهم جميعاً أتوا بإيمان واحد، وإن اختلفت تشريعاتهم. فما دام الإيمان "في الأصل" واحداً، فمن الطبيعيّ أن نجد تشابهاً في كثير من المسائل الاعتقاديّة. كما أنّه من الطبيعيّ أن تكون القضايا والتساؤلات الّتي أثارتها تلك العقائد متشابهة، وأن تتعدّد آراء المسلمين في تلك القضايا كما تعدّدت آراء الّذين من قبلهم، طالما أنّ هذه القضايا ليست من "أصول العقائد" الّتي يقوم عليها الإسلام ويتوقّف عليها اعتناق الإنسان للإسلام. لذلك فإنّنا بحاجة إلى أدلّة أخرى غير هذه الملابسات، حتّى نستطيع تقرير مدى تأثّر علماء الكلام بسائر الأديان والفلسفات والتيّارات الفكريّة.
خامساً:
علم الكلام والمنطق
لا بدّ في البداية من تقرير حقيقة في غاية الأهميّة. ألا وهي التفريق بين كلّ من علم المنطق والفلسفة.إذ من الواضح أنّ كثيراً من الكتّاب الّذين بحثوا في اتّصال علماء الكلام بالثقافة اليونانيّة، لم يفرّقوا بين ما في هذه الثقافة من أبحاث عديدة، ممّا لا يصحّ إطلاق حكم واحد عليها. بينما نجد علماء الإسلام الأوائل واعين على التفريق بين ما لدى الأمم الأخرى من معارف عديدة. فبعد الاطّلاع على التراث المعرفيّ السابق على الإسلام ودراسته، قبلوا ما لا يتعارض مع منظومتهم الفكريّة من معارف وعلوم، ورفضوا ما سوى ذلك،من معارف رأوا أنّ الإسلام أغنى عنها وأدلى فيها بدلوه الخاصّ. وكانت الفلسفة من تلك المعارف الّتي رفضها علماء الإسلام رفضاً مطلقاً، ولا سيّما المتكلّمين. إذ عدّوها مناقضة لأصل الدين الإسلاميّ -كما سنرى في فصول لاحقة- أي مناقضة للعقيدة الإسلاميّة.(1/212)
وأمّا المنطق فلم يتّخذ المسلمون منه الموقف ذاته الّذي اتخّذوه من الفلسفة، لأنّهم رأوا فرقاً شاسعاً ما بين العلمين، على ما بينهما من ارتباط واتّصال. وهذا يقودنا إلى إيضاح الفرق بين مدلول كلّ من المصطلحين. ولسنا هنا بمعرض البحث عن تعريف دقيق لكلّ منهما. فهذا ممّا يتنازع فيه أهل الاختصاص أنفسهم، ولا يليق بهذا البحث التاريخيّ الدخول في لجّة هذا الخلاف. لذلك نقتصر على ما يعطي فكرة عن موضوع كلّ من المصطلحين.
أمّا الفلسفة -بمعناها الّذي رفضه علماء الإسلام- فهي بحث في ما وراء الكون والإنسان والحياة، أي بحث في ما وراء المادّة أو الطبيعة، وهو ما يسمّى بالميتافيزيقا، وما يسمّيه علماء المسلمين -وفق المصطلح القرآني- بالغيب. وبصرف النظر عن الآراء العديدة لدى الفلاسفة حول ما وراء الطبيعة، رفض المسلمون هذه الأبحاث على أساس أنّ الإسلام -من خلال نصوص الوحي الّتي أتى بها والّتي قام الدليل العقليّ الجازم على كونها كلام الله- كفل للإنسان فكرة كلّيّة عن الكون والإنسان والحياة وعمّا قبل الحياة الدنيا وما بعدها وعن علاقتها بما قبلها وما بعدها، ما يكفيه لمعرفة الغاية من حياته، وبالتالي لاتّخاذ طريقة معيّنة في العيش، تكفلها الشريعة الإسلاميّة الّتي نظّمت كافّة سلوك الإنسان. وسنؤجّل تفصيل الكلام عن موقف المسلمين من الفلسفة إلى فصول خاصّة.
وأمّا المنطق، الّذي يُنسب دائماً إلى المتكلّمين أنّهم تأثّروا به وأخذوه وجعلوه أساساً لأبحاثهم، فما هو؟ وما هي صلته بالفلسفة؟(1/213)
يقول "ابن خلدون" في علم المنطق: «هو قوانين يُعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود المعرّفة للماهيّات والحجج المفيدة للتصديقات»(1)، ويقول: «وغايته في الحقيقة راجعة إلى التصوّر، لأنّ فائدة ذلك –إذا حصل– إنّما هي معرفة حقائق الأشياء الّتي هي مقتضى العلم. وهذا السعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح وقد يكون بطريق فاسد، فاقتضى ذلك تمييز الطريق الّذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلميّة، ليتميّز الصحيح من الفاسد. فكان ذلك قانون المنطق. وتكلّم فيه المتقدّمون –أوّل ما تكلّموا به– جُملاً ومفترقاً، ولم تُهذَّب طرقه، ولم تجمع مسائله، حتّى ظهر في اليونان أرسطو، فهذّب مباحثه ورتّب مسائله وفصوله وجعله أوّل العلوم الحِكميّة وفاتحتها، ولذلك يسمّى بالمعلِّم الأوّل»(2).
إذن، فالمنطق –كما أريدَ له أن يكون– هو عبارة عن مجموعة من الأسس والقواعد الّتي يفترض بالفكر أن يعتمدها حين سعيه إلى المعرفة وإدراك الحقائق. وبتعبير آخر هو طريقة التفكير الصحيحة، كما يراها واضعو المنطق، وعلى رأسهم الفيلسوف اليونانيّ "أرسطو". وبالتالي فهو -بحدّ ذاته– خالٍ من الفكر، وإن كان يفترض به أن ينتج الأفكار. فلقد كان المنطق هو منهج التفكير الّذي اعتمده أتباع "أرسطو" من الفلاسفة -ولعدّة مئات من السنين- فيما وصلوا إليه من تصوّرات وآراء حول الطبيعة وما وراءها. وهو بالتالي -كما يعبّر بعض المفكِّرين والكتاّب القدماء والمحدثين- كان أداة الفلسفة(3).
__________
(1) - مقدّمة ابن خلدون – ص 541
(2) - المرجع السابق – ص 542
(3) - انظر : عليّ سامي النشّار - مناهج البحث عند مفكري الإسلام – ص 35 وما بعدها(1/214)
من هنا نقول: إنّ التعامل مع أبحاث المنطق لا يعني بالضرورة تعاملاً مع الفلسفة، وإن كان من المحتمل أن يؤدّي إلى ذلك، وقد أدّى إليه بالفعل بنسب متفاوتة لدى مثقّفي المجتمع الإسلاميّ كما سنرى فيما بعد. إلاّ أنّ السؤال الّذي آن أوان الإجابة عليه هو: هل اعتمد علماء الكلام منطق "أرسطو" في أبحاثهم العقديّة؟ أم أعرضوا عنه؟ أم استفادوا منه مجرّد استفادة؟
إنّ المدقّق في بداية نشأة المذاهب الكلاميّة مع "جهم بن صفوان" و"واصل بن عطاء" و"عمرو بن عبيد"، وما أدلوا به من آراء وما استدلّوا به على آرائهم من أدلّة، لا يستطيع أن يحكم بوجود منهج منطقيّ وفق الطريقة اليونانيّة، بل وحتّى في مناقشات الجيل التالي من علماء الكلام. وإنّما نجد استدلالاتهم مزيجاً من الأدلّة النقليّة والأدلّة العقليّة الّتي لا ترتبط بالضرورة بمنهج المنطق اليونانيّ. كما نجد أنّهم تأثّروا بالآراء الّتي كانت منتشرة بين التابعين –أي جيل ما بعد الصحابة– الّذين لم يكونوا على صلة تذكر بالثقافات الأجنبيّة، ولا سيّما الفلسفة والمنطق اليونانيّين. وبالتالي يفتقر الرأي القائل بأنّ نشأة المذاهب الكلاميّة تعزى إلى التأثّر بالمنطق أو المؤلّفات الفلسفيّة اليونانيّة، إلى مزيد من الأدلّة والشواهد.(1)
إلاّ أنّه ممّا لا شكّ فيه –كما يقول "عليّ سامي النشّار"– «أنّ مدرسة واصل عاصرت حركة الترجمة الّتي بلغت أوجها في عهد المأمون، وأنّ من المرجّح أنّه حين شرع أصحاب واصل بن عطاء في مطالعة كتب الفلسفة عرفوا المذاهب الفلسفيّة، يونانيّة كانت أو غنوصيّة أو مسيحيّة»(2).ومنذ هذه المرحلة يجدر بنا تلمّس احتمال دخول عناصر من المنطق اليونانيّ إلى أبحاث علم الكلام. فهل حصل ذلك؟
__________
(1) - انظر : نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام –ج1 – ص 407 وما بعدها
(2) - المرجع السابق – ج1 – ص 408(1/215)
إنّ المؤلّفات الّتي وضعها علماء الكلام حتّى القرن الخامس الهجريّ تدلّ على أنّهم، في الوقت الّذي استفادوا فيه من المصطلحات والتقسيمات الواردة في المنطق اليونانيّ، رفضوا قواعده ومنهجه في البحث، وذلك لأسباب عديدة، من أهمها ملابسة المنطق للفلسفة اليونانيّة المناقضة للعقيدة الإسلاميّة.
يقول"عليّ سامي النشّار": «وضع أرسطو فيلسوف اليونان قوانين عامّة للفكر الإنسانيّ تعصمه من الزلل في التفكير. واعتبر اليونان من بعده… تلك القوانين قوانين العقل الإنسانيّ من حيث هي، لا قوانين عقليّة لفريق دون فريق ولا لأمّة دون أمّة، وانتقل هذا المنطق الأرسططاليسيّ ومعه بعض العناصر غير الأرسططاليسيّة إلى العالم الإسلاميّ منذ فجره. فسرعان ما عرض المسلمون للمشكلة… وهي عموميّة هذا المنطق وكلّيّته: هل هو قانون عامّ يجب التسليم به، أم نستطيع أن نجد في أسسه وعناصره من الضعف والأخطاء ما يُخرجه عن أن يكون قانوناً كلّيّاً تتّفق عليه الأنظار؟ رأَينا أنّ معظم مفكّري الإسلام على اختلاف نزعاتهم وتباين أغراضهم لم يقبلوا المنطق الأرسططاليسيّ، كلّ من وجهة نظره الخاصّة، ثمّ وضع كلّ فريق من هؤلاء المفكِّرين عناصر منطقيّة مبتكرة يمكن أن نعتبرها مذاهب منطقيّة كاملة»(1). ويرى أنّ العلّة في عدم قبول علماء الإسلام المنطق الأرسططاليسيّ «أنّهم لم يقبلوا الميتافيزيقا الأرسططاليسيّ، لأنّها مخالفة لإلهيّات المسلمين، وهذا المنطق اليونانيّ وثيق الصلة بالميتافيزيقا، وكثير من أصوله متّصل بأصولها، ولهذا رفضه المتكلّمون.وهذه فكرة في الحقيقة من أدقّ الفكر الّتي وصل إليها المسلمون، وهي كافية لهدم المنطق الأرسططاليسيّ من وجهة نظر إسلاميّة»(2).
__________
(1) - مناهج البحث عند مفكري الإسلام – ص (351)
(2) - المرجع السابق – ص 352(1/216)
ويؤيّد هذا الرأي ما أورده "ابن خلدون" في مقدّمته حين حديثه على علم الكلام، حيث يقرّر أنّ "أقيسة" المنطق لم تدخل علم الكلام، ولا حتّى في المرحلة التالية "لأبي الحسن الأشعريّ"، إذ يقول: «إلاّ أنّ صور الأدلّة تُعتبر بها الأقيسة، ولم تكن حينئذ ظاهرة في الملّة، ولو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ به المتكلّمون لملابستها للعلوم الفلسفيّة المباينة للعقائد الشرعيّة بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك»(1). ويقرّر بعد ذلك أنّ علم الكلام في هذه المرحلة كان محاذياً لطريقة السلف(2).
وهكذا يتبيّن أنّ علماء الكلام، ولا سيّما المعتزلة، لم ينشأوا -كما يصوِّر كثير من الباحثين– تلاميذ للفلسفة اليونانيّة ولا حتّى للمنطق اليونانيّ. وإنّما انتفعوا من اطّلاعهم على ذلك المنطق، ليضعوا قوانين ومصطلحات وتقسيمات، قد تُشابه بعض ما في المنطق اليونانيّ، إلاّ أنّها تعبّر -إلى حدّ كبير- عن منهج القرآن الكريم في إثبات العقائد. وهو المنهج الّذي ينطلق من الواقع المحسوس لإثبات الحقائق ذات الأثر المحسوس، والاعتماد على النقل لإثبات المغيّبات.
__________
(1) - مقدّمة ابن خلدون – ص 515
(2) - انظر : المرجع السابق – ص 516(1/217)
إلاّ أنّ الأمر لم يستمرّ على هذا النحو. إذ لم يمض القرن الخامس إلاّ وقد أصبح المنطق اليونانيّ -بوصفه قوانين مجرّدة للتفكير- معتمَداً لدى كثير من المتكلّمين. وأوّل من فتح هذا الباب على مصراعيه هو الإمام "أبو حامد الغزاليّ". ولإيضاح هذه الحقيقة، لنعد إلى كلام "ابن خلدون" الّذي يتابع قائلاً: «ثمّ انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملّة وقرأه الناس وفرّقوا بينه وبين العلوم الفلسفيّة بأنّه قانون ومعيار للأدلّة فقط يسبر به الأدلّة منها كما يُسبر من سواها. ثمّ نظروا في تلك القواعد المقدَّمات في فنّ الكلام للأقدمين، فخالفوا الكثير منها بالبراهين الّتي أدلت إلى ذلك، وربّما أنّ كثيراً منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيّات والإلهيّات… فصارت هذه الطريقة من مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى، وتسمّى طريقة المتأخّرين، وربّما أدخلوا فيها الردّ على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانيّة وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسُب الكثير من المذاهب المبتدعة ومذاهبهم. وأوّل من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزاليّ رحمه الله… ولقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخِّرين، والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميّز أحد الفنّين من الآخر ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم»(1).
وهذا ما يقرّره أيضاً الإمام "ابن تيميّة"، إذ ينفي أن يكون علماء المسلمين قبل "الغزاليّ" قد أخذوا منطق اليونانيّين، فيقول: «ما زال نظّار المسلمين لا يلتفتون إلى طريقهم، بل الأشعريّة والمعتزلة والكراميّة والشيعة وسائر الطوائف من أهل النظر كانوا يعيبون فسادها، وأوّل من خلط منطقهم بأصول المسلمين أبو حامد الغزاليّ»(2).
__________
(1) - المرجع السابق – ص 515 -516
(2) - مناهج البحث عند مفكّري الإسلام – ص93(1/218)
ويبرّر"الغزاليّ" اعتماده المنطق الأرسططاليسيّ بقوله: «وأمّا المنطقيّات، فلا يتعلّق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً، بل هو النظر في طرق الأدلّة والمقاييس وشروط مقدّمات البرهان وكيفيّة تركيبها وشروط الحدّ الصحيح وكيفيّة ترتيبه. وأنّ العلم إمّا تصوّر –وسبيل معرفته الحدّ– وإمّا تصديق –وسبيل معرفته البرهان– وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر، بل هو من جنس ما ذكره المتكلّمون وأهل النظر في الأدلّة»(1). وفيما يبدو استباقاً منه لما يتبادر إلى الذهن من أنّ المنطق يؤدّي إلى آراء الفلسفة، يسارع إلى القول: «نعم، لهم نوع من الظلم في هذا العلم، وهو أنّهم يجمعون للبرهان شروطاً يُعلم أنّها تورث اليقين لا محالة، لكنّهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينيّة، ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط،بل تساهلوا غاية التساهل»(2). وبذلك فإنّه يعزو ضلال الفلاسفة وأخطاءهم، لا إلى المنطق، وإنّما إلى الفلاسفة الّذين يخونون المنطق حين تفلسفهم.
__________
(1) - المنقذ من الضلال – ص 26
(2) - المرجع السابق – ص 26(1/219)
ومهما تعدّدت الآراء في مدى تأثّر علماء الكلام بالمنطق أو استفادتهم منه، فإنّنا نعود إلى استحضار حقيقة أساسيّة تتعلّق بعلم الكلام، وهي أنّ علماء الكلام لم يعتمدوا أبحاثهم الكلاميّة بهدف السير مع مقدّمات المنطق والذهاب معها حيث تذهب. وإنّما جعلوا العقيدة الإسلاميّة هي الأساس، واستعانوا بالأدلّة المنطقيّة -بنسب متفاوتة فيما بينهم- من أجل إثبات تلك العقائد في وجه خصومهم. فهم ركنوا إلى العقيدة الإسلاميّة وفق ما فهموه من القرآن الكريم من قبل أن يعتمدوا مقدِّمات المنطق في مناظرتهم لخصومهم. وبتعبير "ابن خلدون":«فموضوع علم الكلام عند أهله إنّما هو العقائد الإيمانيّة بعد فرضها صحيحة من الشرع، من حيث يمكن أن يُستدلّ عليها بالأدلّة العقليّة، فتُرفع البدع وتزول الشكوك والشُبَه عن تلك العقائد. وإذا تأمَّلْتَ حال الفنّ في حدوثه وكيف تدرّج كلام الناس فيه صدراً بعد صدر، وكلّهم يفرض العقائد صحيحة ويستنهض الحجج والأدلّة، علمتَ حينئذ ما قرّرناه لك في موضوع الفنّ وأنّه لا يعدوه»(1).
وبالتالي لم يكن للمنطق -مهما تكلّمنا في مدى ارتباطه بالفلسفة اليونانيّة- أن يؤدّي إلى تغيير معالم العقيدة الإسلاميّة، من حيث هي عقيدة،ولا أن يؤدّي إلى دخول الآراء الفلسفيّة إلى إيمان المسلمين. ومهما تكلّم المؤرّخون عن التشابه بين آراء المتكلّمين المختلفة وآراء الفلاسفة اليونانيّين، فإنّ اختلافات المتكلّمين تبقى اختلافات في فهم فروع العقيدة الإسلاميّة، الفروع الّتي تحتمل التأويل وتَعدُّدَ الأفهام حولها، ولا تمسّ أصل العقيدة بشيء.
__________
(1) - مقدّمة ابن خلدون - ص 516(1/220)
سادساً:
علم الكلام والمجتمع الإسلاميّ
أخيراً، وبعد كلّ ما سبق من حديث على علم الكلام، تبقى مسألة في غاية الأهمّيّة. وهي أنّه إذا كانت الغاية من هذا البحث الوقوف على مدى تأثير العناصر الحضاريّة الأجنبيّة في المجتمع الإسلاميّ وتغلغلها فيه، وإذا كانت الآراء قد تفاوتت في الحكم على مدى تغلغل هذه العناصر في علم الكلام، فإنّه لا بدّ من طرح السؤال التالي: ما مدى تأثير علم الكلام في المجتمع الإسلاميّ؟ وبتعبير آخر: ما هو حجم الدور الّذي لعبه علم الكلام في تشكيل نمط العلاقات، وبالتالي طراز العيش في ذلك المجتمع؟
لقد سبق وأشرنا في أكثر من موضع إلى أنّ التأثير الحقيقيّ على المجتمع الإسلاميّ، من حيث صياغة مفاهيمه ومشاعره وأنظمته كان للفقهاء، وبناء عليه، إذا أردنا أن نعرف موقف الرأي العامّ الإسلاميّ من علم الكلام، فإنّ علينا أن ننظر إلى مواقف الفقهاء من هذا العلم وأهله.
لقد رأينا في الفتنة الّتي جرت على عهد "المأمون" وخليفتيه من بعده، أنّ المعتزلة، روّاد الكلام الأوائل، وضعوا أنفسهم في مواجهة المجتمع بأسره حين حاولوا فرض آرائهم على الفقهاء والمحدّثين. واستكمالاً لفائدة هذا الموضوع، نورد بعض الأمثلة من مواقف الفقهاء على مرّ عدّة قرون حتّى القرن الخامس الهجريّ.
سئل"الحسن بن زياد اللؤلؤي"عن شيخه "زفر بن الهذيل"(1) أحد أشهر تلاميذ الإمام "أبي حنيفة النعمان": «أكان ينظر في الكلام ؟» فقال: «سبحان الله ما أحمقك، ما أدركت مشيختنا زفر
__________
(1) - زفر بن الهُذيل (110-158هـ)
زفر بن الهذيل بن قيس العنبريّ،من تميم،أبو الهذيل: فقيه كبير، من أصحاب الإمام أبي حنيفة.أهله من أصبهان. أقام بالبصرة وولي قضاءها وتوفي بها. وهو أحد العشرة الّذين دوّنوا "الكتب"،جمع بين العلم والعبادة.…(الزركليّ)(1/221)
وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنه يُهمُّهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدَّمهم»(1).
والإمام "مالك بن أنس" صاحب أحد أكبر المذاهب الأربعة لدى أهل السنّة -وقد عاش في القرن الثاني الهجريّ- يقول: «الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا(2) يكرهونه وينهون عنه،نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكلّ ما أشبه ذلك، ولا أُحبّ الكلام إلاّ فيما تحته عمل، فأمّا الكلام في دين الله وفي الله عزّ وجلّ فالسكوت أحبّ إليّ لأنّي رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلاّ فيما تحته عمل»(3).
والإمام "الشافعيّ"، صاحب أحد تلك المذاهب أيضاً، له مواقف صارمة جدّاً من علم الكلام. من ذلك قوله: «ما شيء أبغض إليّ من علم الكلام وأهله»(4)، وكان يقول: «ما تردّى أحد بالكلام فأفلح»(5). وروي عنه أيضاً أنّه قال: «لو يعلم الناس ما في علم الكلام من الأهواء لفرّوا منه فرارهم من الأسد»(6). بل يذهب إلى حدّ بعيد في الحكم عليهم إذ قال: «حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك السنّة وأخذ في الكلام»(7). ومن أقواله أيضاً: «إذا سمعت الرجل يقول: الاسم هو المسمّى أو غيره، فاشهد أنّه من أهل الكلام، ولا دين له»(8).
__________
(1) - الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر - جامع بيان العلم وفضله – دار الفكر، بيروت – دون تاريخ -ج2 – ص 117
(2) - البلد المقصود هو المدينة المنوّرة، حيث عاصر الإمام مالك تابعي الصحابة .
(3) - المصدر السابق – ج2 - ص 116
(4) - ابن العماد الحنبليّ – شذرات الذهب – تحقيق لجنة إحياء التراث العربيّ – دار الافاق الجديدة،بيروت –دون تاريخ -ج2 –ص9
(5) - عبد الغنيّ الدقر – الإمام الشافعيّ فقيه السنّة الأكبر – دار القلم، دمشق – ط ثالثة، 1987 – ص248
(6) - المرجع السابق - ص248
(7) - المرجع السابق – ص249
(8) - المرجع السابق – ص249(1/222)
ومن أقوال الإمام "أحمد بن حنبل"،المتصدّي الأكبر للمعتزلة: «إنّه لا يفلح صاحب كلام أبداً، ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلاّ وفي قلبه دغل»(1).
إنّ تصريحات هؤلاء العلماء الكبار، تعبّر عن موقف الفقهاء،أصحاب القوامة على فكر المجتمع وحسّه، من علم الكلام. ولا يخفى أنّ موقفهم في هذه المرحلة إنّما يصيب بطبيعة الحال المعتزلة، بوصفهم أهل الكلام آنذاك. فهل تغيّر موقف الفقهاء في مرحلة ما بعد المعتزلة، أي مرحلة ظهور "الأشعريّ"؟
سبق وأشرنا إلى أنّ مواقف كثير من الفقهاء كانت توحي بالرضى عن مذهب "أبي الحسن الأشعريّ"، وذلك لِما أظهره ذلك المتكلّم، الّذي انقلب على شيوخه المعتزلة، من التزام نسبيّ أكبر بنصوص القرآن والسنّة، ولِما أعلنه من اتّباعه للإمام "أحمد بن حنبل"، ومن الدلائل الّتي تشير إلى ذلك تصاعد نجم بعض العلماء من تلامذة "الأشعريّ" وأتباعهم، الّذين كانوا، من الناحية الفقهيّة، أتباعاً لشتّى المذاهب السنّيّة، مثل "أبي إسحاق الإسفرايينيّ"، و"أبي بكر القفّال" و"أبي بكر الباقلّانيّ" و"الخطيب البغداديّ" وإمام الحرمين "أبي المعالي الجوينيّ" وصولاً إلى الإمام "أبي حامد الغزاليّ"،(2) الّذي بلغ الإعلاء من شأنه إلى درجة تلقيبه "بحجّة الإسلام".
ومن الأقوال الّتي تبيّن مدى قبول الفقهاء للمذهب الأشعريّ، فتوى يخطّها الإمام "القشيريّ"(3)
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله – ج2 – ص 116
(2) - انظر : ظهر الإسلام – ج4 – ص 72
(3) - الإمام القُشَيري (376-465هـ)
عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة النيسابوري القشيري، من بني قشير بن كعب، أبو القاسم، زين الإسلام: شيخ خراسان في عصره، زهداً وعلماً بالدين.كانت إقامته بنيسابور، وتوفي فيها.وكان السلطان ألب أرسلان يقدّمه ويكرمه.…(الزركليّ)(1/223)
سنة 436هـ، ويوقّع عليها جمع من كبار العلماء، يقول فيها: «اتّفق أصحاب الحديث أنّ أبا الحسن الأشعريّ كان إماماً من أئمّة أصحاب الحديث، ومذهبه مذهب أصحاب الحديث. تكلّم في أصول الديانات على طريقة أهل السنّة، وردّ على المخالفين من أهل الزيغ والبدع. وكان على المعتزلة والروافض والمبتدعين من أهل القبلة والخارجين عن الملّة سيفاً مسلولاً. ومن طعن فيه أو قدح أو لعنه أو سبّه، فقد بسط لسان السوء على جميع أهل السنّة»(1).
إلاّ أنّه من الخطأ أن نغترّ كثيراً بهذه الآثار والإشارات. فها هو أحد كبار الأئمّة المالكيّة "أحمد بن إسحاق بن خويز منداد" المصريّ يقول: «أهل الأهواء عند مالك، وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكلّ متكلّم فهو من أهل الأهواء والبدع، أشعريّاً كان أو غير أشعريّ، ولا تقبل منه شهادة في الإسلام أبداً، ويُهجر ويؤدّب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها»(2)
وها هو أيضاً أحد كبار الأئمّة المالكيّة في القرن الخامس، "أبو عمر بن عبد البرّ"(3)، يطلق حكمه على أهل الكلام -وغالبيّتهم في عصره من الأشاعرة- دون تمييز بينهم فيقول: أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أنّ أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يُعدّون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنّما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه،ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم»(4).
__________
(1) - ابن عساكر - تبيين كذب المفتري – مطبعة التوفيق، دمشق – 1347هـ - ص 112-114
(2) - جامع بيان العلم وفضله – ابن عبد البرّ – ج2 –ص 117
(3) - ابن عبد البرّ(368-463هـ)
يوسف بن عبد الله بن محمّد بن عبد البرّ النمري القرطبي المالكي، أبو عمر: من كبار حفّاظ الحديث،مؤرّخ،أديب،بحّاثة. يقال له حافظ المغرب ولد بقرطبة. ورحل رحلات طويلة في غربي الأندلس وشرقيها. وولي قضاء لشبونة وشنترين.وتوفي بشاطبة.له العديد من المؤلّفات.…(الزركليّ)
(4) - المصدر السابق – ج2 – ص 117(1/224)
هذه الشواهد والنصوص التاريخيّة تفيد أنّ نزاعاً نشأ،بعد ظهور المذهب الأشعريّ، حول قبول الكلام بثوبه الجديد أو رفضه، ما يعني أنّ علم الكلام عجز عن توطيد أركانه على صعيد المجتمع الإسلاميّ. ولكن يبدو -كما سبق وأشرنا- أنّ الإمام "الغزاليّ" كان له دور كبير في فتح أبواب المجتمع على مصاريعها أمام علم الكلام، لِما تمتّع به من احترام واسع بين المثقّفين ولدى الرأي العامّ في آن معاً. والّذي يطالع كتب علماء القرن السادس والقرون الّتي تلته،يكتشف ما تمتّع به "الغزاليّ" من مكانة في أوساط العلماء وتلاميذهم وصولاً إلى أدنى شرائحهم.
لقد ذهب "الغزاليّ" في مقدّمة كتابه "المستصفى من علم الأصول"، إلى حدّ الزعم بأنّ من لا دراية له بعلم الكلام ومقدّماته المنطقيّة فإنّه لا ثقة بعلمه.
وقد جعل تلك المقدّمة، الّتي تزيد صفحاتها– في الطبعة الّتي رجعنا إليها– على الأربعين صفحة، تلخيصاً للقواعد المنطقيّة الّتي اعتُمِدت في علم الكلام. وقال في بدايتها: «نذكر في هذه المقدّمة مدارك العقول وانحصارها في الحدّ والبرهان. ونذكر شرط الحدّ الحقيقيّ وشرط البرهان الحقيقيّ وأقسامهما… وليست هذه المقدّمة من جملة علم الأصول، ولا من مقدّماته الخاصّة، بل هي مقدّمة العلوم كلّها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة بعلومه أصلاً»(1).
__________
(1) - أبو حامد الغزاليّ– المستصفى من علم الأصول – المطبعة الأميريّة ببولاق مصر المحميّة –الطبعة الأولى، 1322هـ –ج1– ص10(1/225)
ولعلّ هذه المبادرة من "أبي حامد الغزاليّ" كانت أوسع باب دخل منه علم الكلام –ومعه المنطق– إلى أبحاث أصول الفقه، الّتي راحت تتحولّ منذ ذلك الحين، لدى قسم من علماء أصول الفقه، إلى أبحاث نظريّة، لا ثمار لها في واقع الحياة والمجتمع. وجرى كثير من العلماء بعد "الغزاليّ"على منهجه –رغم أنّه نقض آراءه هذه في آخر حياته كما سنرى– وراح بعضهم يفتون بأنّ دراسة المنطق وعلم الكلام فرض كفاية. وبقي الصراع قائماً بين جملة من الفقهاء وأنصار علم الكلام، ولا زال إلى يومنا هذا، ولم يُحسم بعد.
والجدير بالذكر أنّ الدور الّذي لعبه "الغزاليّ" في هذا المجال كان مزدوجاً، بمعنى أنّه لم يقتصر دوره على تكريس علم الكلام في جملة العلوم الشرعيّة المعتبرة، بل أسّس هذا العلم تأسيساً جديداً على المنطق اليونانيّ، الّذي نبذه معظم من سبقه من علماء الكلام أنفسهم. وهاهنا كمنت الخطورة الكبرى في دخول عناصر غريبة إلى ميدان الثقافة الإسلاميّة.(1/226)
ولكن، لنعد قليلاً إلى طبيعة علم الكلام وما يتضمّنه من مواضيع، لنرى ما يحمله هذا العلم من بضاعة يمكن تسويقها في المجتمع. فإذا استثنينا الأبحاث الأساسيّة الّتي تتناول مسألة "حدوث العالم" وإثبات نبوّة محمّد - صلى الله عليه وسلم - الّتي وضعها المتكلّمون في مواجهة خصومهم من أهل الأديان والملل والنحل غير الإسلاميّة، سنجد أنّ علم الكلام لا يتناول سوى قضايا نظريّة يتعلّق أغلبها بصفات الله تعالى وأحوال أهل الجنّة والنار وغيرها من القضايا الغيبيّة. ولطالما اتُّهم علماء الكلام بأنهّم يتكلّمون فيما ليس تحته عمل. وقد سبق أن أوردنا حديث الإمام "مالك بن أنس" في ذمّ الكلام فيما ليس تحته عمل. وهو الحديث الّذي يعلّق عليه الإمام "ابن عبد البرّ " قائلاً: «قد بيّن مالك رحمه الله أنّ الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده وعند أهل بلده،يعني العلماء منهم رضي الله عنهم. وأخبر أنّ الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه، وضرب مثلاً فقال: نحو قول جهم والقدر. والّذي قال مالك رحمه الله، عليه جماعة الفقهاء والعلماء قديماً وحديثاً من أهل الحديث والفتوى، وإنمّا خالف ذلك أهل البدع المعتزلة وسائر الفرق، وأمّا الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله»(1). ومن أقوال الخليفة الراشد "عمر بن عبد العزيز" منبّهاً إلى أبحاث الكلام النظريّة الّتي لا تستتبع عملاً: «إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم دون العامّة فاعلم أنهّم على تأسيس ضلالة»(2)، وفي هذا التعبير الموجز من أمير المؤمنين "عمر بن عبد العزيز" تنبيه إلى حال أهل الكلام من كونهم في معزل عن المجتمع والرأي العامّ. ما يعني أنّ علم الكلام لم يكن يحمل من الأفكار والمشاعر والأنظمة ما يمكّنه من المساهمة في صياغة علاقات المجتمع، وبالتالي لم يكن له سهم يذكر في إعطاء المجتمع الإسلاميّ هويّته الحضاريّة
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله – ج2 – ص 116
(2) - المصدر السابق – ج2 – ص114(1/227)
وطريقته في العيش.
من الضروريّ جدّاً أن نتنبّه إلى المساوئ الّتي جرّها علم الكلام على "الوسط الثقافيّ" في المجتمع الإسلاميّ، ولا سيّما بعد القرن الخامس الهجريّ. إذ أدّى إلى منهج جديد في بحث العقيدة الإسلاميّة يفترق إلى حدّ كبير عن منهج القرآن -وهذا من إشارات التنكّب عن الأصالة الإسلاميّة-وأثار مسائل نظريّة لا طائل من بحثها والخوض فيها سوى مضيعة الجهود والطاقات والأوقات، وأثار خصومات في أوساط المثقّفين، كان المجتمع الإسلاميّ أحوج ما يكون إلى تفاديها. وكان على علماء الكلام أن يُديموا تسخير طاقاتهم العقليّة في مواجهة خصوم الإسلام الخارجيّين، لا أن يلتفتوا إلى الداخل ليشتّتوا جماعة المثقّفين معسكرات كلاميّة تتخاصم على قضايا كلاميّة بحتة، لا ينبني عليها أيّ عمل.
ولا ننسَ أيضاً، ما كان للآراء الّتي نتجت عن الاختلاف في مسألة "القضاء والقدر" من تأثير سلبي على سلوك كثير من المسلمين، ولا سيّما ذلك الرأي الّذي أسقط إرادة الإنسان ومشيئته في اتخّاذ القرار حول نوع سلوكه، وأوهمه أنّه كالريشة في مهبّ الريح، وأنهّ لا قيمة لإرادته، وليس هو من يختار أفعاله. الأمر الّذي أنتج جماعات من الّذين هجروا المجتمع وتركوا الأخذ بالأسباب، وأهملوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وركنوا إلى الظلم والانحرافات السياسيّة، باعتبارها قدراً محتوماً لا يمكن للإنسان أن يؤثّر فيه. وكان ضغثاً على إبالة -كما سنرى لاحقاً- أن تنضمّ إلى تلك النزعة الجبريّة نزعة التصوّف الّتي تجنح "بالأتقياء" نحو العزلة وهجر المجتمع والوسط السياسيّ، ليتخبّط في الأخطاء وشهوة الحكم.
ولكن، يبقى أنّ علم الكلام كان في حقيقته معبّراً عن الثقافة الإسلاميّة وحدها، لا عن غيرها، وأنّه نشأ في كنف الحضارة الإسلاميّة، ليكون شاهداً على ازدهار عظيم في الفكر والتأليف والحركة الثقافيّة الّتي لم يسبق للتاريخ أن عرف نظيراً لها.(1/228)
الفصل الثاني
الفلسفة والتصوّف
أوّلاً :
الفلاسفة والمجتمع الإسلاميّ
لقد أوضحنا فيما مضى من الحديث على علم الكلام، أنّ هذا العلم كان من أهمّ دوافعه الوقوف في وجه الهجمة الّتي شنّها أهل الأديان والملل على الفكر الإسلاميّ متسلّحين بالفلسفة اليونانيّة، الأمر الّذي دعا علماء المسلمين-وفي مقدّمتهم أهل الكلام- إلى الاطّلاع على الكتب الفلسفيّة بعد ترجمتها لدراسة مسائل فيها، بغاية الردّ عليها، وإسقاط حجج المتسلّحين بها. فكان أن استفاد علماء الكلام من المقدّمات المنطقيّة، لوضع قواعد للبحث خاصّة بالفكر الإسلاميّ. «إلاّ أنّ دراسة هؤلاء لم تكن دراسة فلسفيّة كاملة، وإنّما دراسة أفكار فلسفيّة بتوسّع، حتّى أحاطوا بالآراء المختلفة في الفلسفة، وبرأي كلّ فريق من الفلاسفة إحاطة في بعض المسائل بتتبّعها، لا في جميع المسائل. وكانوا فوق اقتصارهم على بعض الأبحاث الفلسفيّة يقيّدون أنفسهم بإيمانهم بالقرآن. ولهذا لم يخرجوا عن أهل الإسلام»(1).
ولكنّ تداول الكتب الفلسفيّة بين أيدي المثقّفين أدّى فيما بعد إلى ظهور من عُرفوا بفلاسفة الإسلام. ذلك «أنّ الاطّلاع على الأفكار الفلسفيّة وعلى كتب الفلسفة قد حبّب هذه الأبحاث للناس في ذلك العصر، فحمل ذلك بعض الأشخاص على التوسّع في هذه الأفكار، فدرسها دراسة عميقة واسعة ودراسة كلّيّة مطلقة في كلّ شيء، وفي كلّ اتّجاه، واتّجه إليها بكلّيّته، وهضم قدراً صالحاً من الفلسفة يؤهّله لأن يفكّر تفكيراً فلسفيّاً وينتج إنتاجاً فلسفيّاً، فكان من جرّاء هذه الدراسات الواسعة العميقة للفلسفة، ولا سيّما الفلسفة اليونانيّة بنوع خاصّ، أن وجد بين المسلمين فلاسفة»(2).
__________
(1) - الشخصيّة الإسلاميّة - ج1 - ص 121
(2) - المرجع السابق - ج1 - ص 122(1/229)
يقول "ابن خلدون" بعد الحديث عن "أرسطو": «ثمّ كان من بعده في الإسلام مَن أخذ بتلك المواهب واتّبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل، إلاّ في القليل. وذلك أنّ كتب أولئك المتقدّمين لمّا ترجمها الخلفاء من بني العبّاس من اللسان اليونانيّ إلى اللسان العربيّ، تصفّحها كثير من أهل الملّة، وأخذ من مذاهبهم من أضلّه الله من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها»(1).
وكان من أشهر هؤلاء الفلاسفة "يعقوب بن إسحق الكِنْدِيّ" الّذي عاش في القرن الثالث الهجريّ ووصف بأنّه أوّل فيلسوف في الإسلام. وفي القرن الرابع اشتهر "أبو نصر الفارابي". كما ظهرت خلاله أيضاً في البصرة جماعة "إخوان الصفا" الّذين وضعوا مذهباً زعموا أنّهم قربّوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله من طريق دمج الفلسفة بالشريعة. ثمّ اشتهر في القرن الخامس "أبو عليّ بن سينا". ويرى كثير من الباحثين أنّ آخر فيلسوف في الإسلام هو "ابن رشد الأندلسي" الّذي توفيّ في القرن السادس.
كان هؤلاء الفلاسفة تلاميذ للفلسفة اليونانيّة، انطلقوا من مقدّماتها، وساروا على منهجها، ووصلوا إلى نتائجها. نعم كانت لديهم محاولات للتوفيق بين الفلسفة اليونانيّة والإسلام، إلاّ أنّ ذلك لم يعنِ أنّهم أحدثوا تغييراً جوهريّاً في تلك الفلسفة، وإنّما كانوا في الواقع مجرّد ناقلين لها.
«ظهر الكنديّ والفارابيّ وابن سينا وأبو البركات البغداديّ وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وغيرهم، واتّصل كلّ واحد من هؤلاء بتلك الفلسفة –على الصورة الّتي وصلته– وكتبوا كتباً فلسفيّة. ولكنّ ما وصل إلينا عنهم لم يكن شيئاً جديداً… كان فقط صورة مختلطة ومختلّة من المشّائيّة أو الأفلاطونيّة أو الأفلاطونيّة الحديثة، مع محاولة غير ناجحة للتوفيق بينها وبين الفكر الإسلاميّ.
__________
(1) - مقدّمة ابن خلدون – ص 569-570(1/230)
«وقد قامت محاولات متعدّدة من مستشرقين وباحثين عرب لإثبات أنّ هناك بعض الجدّة والطرافة عند هؤلاء الفلاسفة ممّن يُدعون بفلاسفة الإسلام، ولإظهار مميّزات خاصّة لمذاهبهم: مميّزات تجعل لهؤلاء الفلاسفة طابعاً خاصّاً يبعد بمذهبهم عن الفلسفة الهيلينيّة. ويبدو أنّ تلك الأبحاث تؤيّد تماماً التطابق الشديد بين ما يسمّى فلسفة إسلاميّة وفلسفة هيلينيّة، مع وجود بعض اختلافات جزئيّة لا تغيّر من جوهر هذه الفلسفة الهيلينيّة. ففلاسفة الإسلام على طريقة اليونان، إنّما هم "امتداد" لفلسفة هؤلاء الآخرين و"مراكز إسلاميّة" للفلسفة اليونانيّة القديمة في عالم جديد. ولم يقبل هذا العالم فلسفتهم، بل اعتبرها خارجة عليه لا تمثّله ولا تمتّ إليه»(1).
«وقد كان هؤلاء حقّاً، كما يقول ابن تيميّة "فراخ اليونان" و"تلامذة الروم". ومن الخطأ الشديد القول إنّ هؤلاء كانوا فلاسفة الإسلام، وإنّما هم تلاميذ أمناء للفلسفة اليونانيّة، انفصلوا تدريجياً وببطء، بقدر ما أخذوا شيئاً فشيئاً من التراث الهيلينيّ، عن الدائرة الإسلاميّة، أي وبقدر ما ابتعدوا عن فلسفة الكلام موغلين في فلسفة اليونان»(2).
__________
(1) - نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام – ج1 – ص 49
(2) - المرجع السابق – ج1 – ص 107(1/231)
لذلك كان من أكبر الأخطاء الّتي وقع فيها كثير من الباحثين الّذين أرّخوا للثقافة الإسلاميّة، أن وضعوا علم الكلام -ولا سيّما المعتزلة- في خانة واحدة مع الفلاسفة(1). فالفرق كبير بين الطرفين. فالمتكلّمون إنّما صدروا عن إيمان كامل بالعقيدة الإسلاميّة. واطّلاعهم على الفلسفة إنّما كان بهدف الردّ على من تسلّح بها. وكان اطّلاعهم عليها مدعاة للاستفادة من مقدّماتها المنطقيّة من أجل إثبات العقيدة وحدها. ولم يدرسوا الفلسفة دراسة كاملة، وإنّما درسوا مسائل منها، رأوها وافية بغرضهم. بخلاف حال الفلاسفة الّذين درسوا الفلسفة اليونانيّة دراسة كاملة، وساروا معها ونهجوا نهجها وتبنّوا نتائجها. وممّا يقوله "ابن خلدون" في التفريق بين الفلسفة والكلام: « ما تحدّث به المتكلّمون من إقامة الحجج، فليس بحثاً عن الحقّ فيها، فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوماً هو شأن الفلسفة. بل إنّما هو التماس حجّة عقليّة تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف فيها، وتدفع شبه أهل البدع عنها، الّذين زعموا أنّ مداركهم فيها عقليّة، وذلك بعد أن تُفرض صحيحة بالأدلّة النقليّة كما تلقّاها السلف واعتقدوها. وكثيرٌ ما بين المقامين»(2).
__________
(1) - انظر : محمّد كرد عليّ الإسلام والحضارة العربيّة – ج2 – ص39-40
(2) - مقدّمة ابن خلدون – ص 548(1/232)
«وقد أدرك علماء الكلام -ويمثّلهم المعتزلة في أوّل الأمر- مدى الهوّة السحيقة بين عناصر هذه الفلسفة وبين عقائد الإسلام، فسرعان ما بدأ النزاع بينهم وبين هؤلاء الفلاسفة، ثمّ اتّجه إلى الفلسفة اليونانيّة نفسها. وبقي النزاع بين الاثنين أمداً طويلاً لم تخمد جذوته. وحين تكوّن المذهب الأشعريّ ممثّلاً للإسلام، قام رجال الأشاعرة العظماء –كالباقلاّني وإمام الحرمين وغيرهما– متابعين شيخ المدرسة الأوّل بجدل الفلاسفة. وبلغ النقاش ذروته حين أعلن الغزاليّ تكفير "فلاسفة الإسلام" أنفسهم باسم الإسلام»(1).
__________
(1) - نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام – ج1 – ص 48(1/233)
وهكذا كان موقف العلماء المسلمين –فقهاء ومحدّثين ومتكلّمين– صارماً من هؤلاء الفلاسفة. إذ رأوهم معبّرين عن فكر آخر لا يمتّ إلى الإسلام بصلة، وهو في نفس الوقت يتعارض مع العقيدة الإسلاميّة من حيث الأساس. ذلك أنّ الفلسفة تطلق عنان العقل في بحث ما وراء الكون والإنسان والحياة، أي ما وراء المادّة،وليصل إلى تصوّرات لا تقوم عليها أيّ أدّلة من الواقع المحسوس. وهذا خلاف المنهج الإسلاميّ الّذي أتى به القرآن الكريم. صحيح أنّ القرآن دعا إلى تحكيم العقل وإعمال الفكر في مجال العقيدة، إلاّ أنّه قصر مهمّة العقل على مجال المحسوسات. فدعاه إلى الإيمان بالخالق عن طريق التفكّر في المخلوقات الّتي تقوم شاهداً على خالقها. { سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنّه الحَقُّ } (1). كما أنّه دعا الإنسان إلى تحكيم عقله في معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم -،وهي القرآن. إذ به تثبت نبوّته وأنّه يحمل رسالة من عند الله، فقال: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فيهِ اخْتِلافاً كَثيراً } (2). وعند هذا الحدّ ينتقل العقل من دور الحاكم إلى دور المتلقّي، حيث يتلقّى من الرسالة الإلهيّة ما يكفيه من أخبار الغيب، ليؤسّس حياته على أساس متين من العقيدة. ذلك أنّ العقل عاجز عن الإحاطة بما هو وراء الحسّ. إذ الحواسّ هي منفذ العقل إلى الإدراك.
__________
(1) - سورة فصّلت – الآية 53
(2) - سورة النساء – الآيّة82(1/234)
ويعبّر "ابن خلدون" عن هذا المنهج في التفكير،فيقول"في إبطال الفلسفة وفساد مُنتحِلِها": «هذه العلوم عارضة في العمران، كثيرة في المدن، وضررها في الدين كثير. فوجب أن يُصدع بشأنها ويُكشف عن المعتقد الحقّ فيها. وذلك أنّ قوماً من عقلاء النوع الإنسانيّ زعموا أنّ الوجود كلّه -الحسّيّ منه وما وراء الحسّيّ- تُدرك أدواته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكريّة والأقيسة العقليّة، وأنّ تصحيح العقائد الإيمانيّة من قِبل النظر لا من جهة السمع، فإنّها بعضٌ من مَدارك العقل. وهؤلاء يسمّون فلاسفة، جمع فيلسوف، وهو باللسان اليونانيّ محبّ الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمّروا له وحوّموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانوناً يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحقّ والباطل،وسمّوه بالمنطق»(1). ثمّ يبيّن تهافت آراء الفلاسفة في الماورائيّات قائلاً: «وأمّا ما كان منها في الموجودات الّتي وراء الحسّ -وهي الروحانيّات يسمّونه العلم الإلهيّ وعلم ما بعد الطبيعة- فإنّ ذواتها مجهولة رأساً ولا يمكن التوصّل إليها ولا البرهان عليها لأنّ تجريد المعقولات من الموجودات الخارجيّة الشخصيّة إنّما هو ممكن فيما هو مُدرَك لنا، ونحن لا ندرك الذوات الروحانيّة حتّى نجرّد منها ماهيّات أخرى بحجاب الحسّ بيننا وبينها، فلا يتأتّى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة…»(2)، وممّا يقوله في هذا الموضوع: «ولا تثقنّ بما يزعم لك الفكر من أنّه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كلّه، وسفِّه رأيه في ذلك. واعلم أنّ الوجود عند كلّ مدرِك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها، والأمر في نفسه بخلاف ذلك، والحقّ من ورائه… فاتّهم إدراكك ومدركاتك في الحصر، واتّبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك، فهو أحرص على سعادتك وأعلم بما ينفعك، لأنّه
__________
(1) - مقدّمة ابن خلدون – ص 568
(2) - المصدر السابق – ص 570 - 571(1/235)
مِن طورٍ فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك»(1). ولكنّه ينبّه إلى أنّه لا يريد بذلك القدح في قدرة العقل، وإنّما هو ينبّه إلى حدود قدرته، فيقول مستدركاً: «وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه،بل العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينيّة لا كذب فيها. غير أنّك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوءة وحقائق الصفات الإلهيّة وكلّ ما وراء طوره، فإنّ ذلك طمع في محال. ومثال ذلك رجل رأى الميزان الّذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال»(2).
__________
(1) - المصدر السابق – ص 508 - 509
(2) - المصدر السابق – ص 509(1/236)
ثمّ إنّ هذا الاختلاف الجذريّ بين منهجي القرآن والفلسفة أدّى إلى اختلاف جذريّ بين ثمار كلّ منهما، الأمر الّذي دفع علماء المسلمين إلى إخراج الفلاسفة عن دائرة الإسلام. وكان أصرم هؤلاء "أبو حامد الغزاليّ" الّذي صنّف كتاب "تهافت الفلاسفة" وصرّح فيه بتكفيرهم. ويلخّص رأيه في كتابه "المنقذ من الضلال"، فيقول بعد الحديث على فلاسفة اليونان: «فوجب تكفيرهم وتكفير متّبعيهم من المتفلسفة الإسلاميّين، كابن سينا والفارابي وغيرهما»(1). ويقرّر أنّ ثلاثة من آراء الفلاسفة هي الّتي أوجبت تكفيرهم وإخراجهم من ملّة الإسلام فيقول: «أمّا المسائل الثلاث فقد خالفوا فيها كافّة المسلمين، وذلك في قولهم: إنّ الأجساد لا تحشر، وإنمّا المثاب والمعاقب هي الأرواح المجرّدة، والمثوبات والعقوبات روحانيّة لا جسمانيّة. ولقد صدقوا في إثبات الروحانيّة، فإنهّا كائنة أيضاً، ولكن كذبوا في إنكار الجسمانيّة، وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به. ومن ذلك قولهم: إنّ الله تعالى يعلم الكلّيّات دون الجزئيّات، وهذا أيضاً كفر صريح. بل الحقّ أنّه لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض. ومن ذلك قولهم بقِدم العالم وأزليّته. فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل»(2).
__________
(1) - المنقذ من الضلال – ص 20-21
(2) - المصدر السابق – ص 27-28(1/237)
ويبدو أنّ أوسع إطلالة للفلاسفة على الوسط الثقافيّ كانت في القرن الرابع الهجريّ. يقول "ماجد عرسان الكيلاني": «دخلت الفلسفة الحياة الفكريّة في العالم الإسلاميّ منذ القرن الثاني الهجريّ، حينما نشطت ترجمة العلوم اليونانيّة والهنديّة إلى اللغة العربيّة. غير أنّ الفلسفة منذ القرن الرابع الهجريّ اتخّذت طابعاً آخر تحدّى العقيدة وفكر النبوّة والرسالة في الإسلام، وارتبط بالأهداف السياسيّة الرامية إلى إعادة القيادة للأرستقراطيّات الّتي هزمها الفتح الإسلاميّ. ومؤسّس هذا الاتجاه هو ابن سينا(370هـ-428هـ) الّذي يعتبر أعظم فلاسفة المسلمين»(1). ويرى أنّ تنامي ظاهرة الفلسفة وانتشارها النسبيّ يعود إلى «أنّ الفكر الإسلاميّ الّذي تمثّل بالفقهاء وأمثالهم كان حبيس المذهبيّة الحزبيّة والتقليد، لذلك لم يستطيعوا الوقوف أمام تيّار الفلسفة الّتي أحدثت موجة حادّة من القلق العقائديّ لدى المثقّفين والاضطراب الاجتماعيّ لدى العامّة!!
«ويمكن القول إنّ التكوين الفكريّ والعقائديّ الّذي استعرضنا تفاصيله قد اتّسم بأمرين:
«الأوّل: جمود مؤسّسات الفكر الإسلاميّ وتحوّلها عن رسالتها في ترشيد المجتمع الإسلاميّ وتوجيهه إلى مؤسّسات مهنيّة أكاديميّة اتّسمت بالمذهبيّة والانقسام، وانحراف مناهج التفكير عن الأصول القائمة في القرآن الكريم والسنّة.
«والأمر الثاني: إفساح المجال للعقائد الفكريّة والاتجّاهات الثقافيّة الّتي تهاوت مؤسّساتها أمام الفتح الإسلاميّ، لتبرز في مظاهر جديدة تتلاءم مع المنعطف العقائديّ والحضاريّ الّذي أحدثته مدارس الفكر الإسلاميّ في القرون الثلاثة الأولى»(2).
__________
(1) - ماجد عرسان الكيلاني – هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس – الدار العالميّة للكتاب الإسلاميّ والمعهد العالمي للفكر الإسلاميّ، فيرجينيا، الولايات المتحدة الاميركيّة – 1416هـ/1995م – ص 65
(2) - المرجع السابق – ص 68-69(1/238)
ولا يبعد أن يكون أفول نجم المعتزلة روّاد الكلام الّذين تصدّوا-ضمن من تصدّوا لهم– للفلاسفة، هو الّذي أفسح الطريق أمام الفلسفة لتخرج من قمقمها. لذلك لم يلبث الرأس الّذي أطلّت به الفلسفة أن انقطع مع ظهور المذهب الأشعريّ. ولعلّ أبرز ما يميّز كلّاً من المدرستين الكلاميّتين عن الأخرى، أنّ المعتزلة كانوا يعيشون هاجس مواجهة التيّارات الدينيّة والقضاء على دسائس الشعوبيّة ورواسبها من زنادقة وأصحاب بدع، بينما انبرى الأشاعرة –بعد أن فرغ المعتزلة من القضاء على خصومهم– للتصدّي للفلسفة الّتي أطلّت برأسها نتيجة تداول الكتب اليونانيّة المترجمة. وهكذا لم يكد القرن الخامس يمضي حتّى كانت الحركات الفلسفيّة قد لاقت حتفها وهي تلتقط خلجاتها الأولى.
وفي كلّ الأحوال، لم يكن هؤلاء الفلاسفة يعبّرون يوماً من الأيام -ولا أدنى تعبير- عن الرأي العامّ. وإنمّا كانوا دوماً أفراداً منعزلين-في فلسفتهم- عن فكر المجتمع وحسّه. ولم يكن لهم تأثير إلاّ على بعض الدوائر الضيّقة من المثقّفين. ذلك أنهّم كانوا في حقيقة الأمر يقدّمون الفلسفة بديلاً عن الدين أو ندّاً له، وهيهات أن يفلحوا في ذلك.
«هل استطاعت الروح اليونانيّة أن تكشف فكرة الخالق، وأن تتصوّر الخلق من لا شيء، وأن تؤمن ببعث جسديّ تعود فيه -إن تكلّمنا بلغتها- الصورة والمادّة؟ كيف يمكن أن يقال إذن: إنّ هذه الفتنة اليونانيّة، قد أقبلت إلى المجتمع الإسلاميّ، فبهرت الجموع، فاتخّذوها عنواناً على حضارة اتخّذت مقوّماتها من تصوّرات قطعيّة تخالف تلك التصوّرات العقليّة الّتي بشّرت بها الفلسفة اليونانيّة؟(1/239)
«كان لا بدّ لهذه الفلسفة اليونانيّة أن تظهر على مسرح الوجود، عنواناً على حضارة هذه الأمّة الآريّة الّتي علّمت الإنسانيّة جمعاء الكثير من أنماط الفكر وسياقاته، ولكن كان لها النسق الخاصّ بها، والخاصّ بها وحدها، المتّصل ببيئة المجتمع اليونانيّ. ولذلك حين قامت الروح الإسلاميّة بوضع فلسفتها المعبّرة عن حضارتها والمتّصلة ببنائها الاجتماعيّ، كان لا بدّ أيضاً من اختلاف عنيف ومن جدل قاس، وتعارُض في المنهج وفي المادّة، بينها وبين الفلسفة اليونانيّة»(1).
لقد أدرك هذه الحقائق التاريخيّة الكبرى كلّ من نظر بموضوعيّة وتجرّد إلى المجتمع الإسلاميّ حتّى من المؤرِّخين الغربيّين أنفسهم. فممّا يقوله "أندريه ميكيل"، على سبيل المثال: «إنّ هذه الفلسفة لم تنجح في التغرير بالإسلام، سواء كان ذلك من باب الحيطة أو من باب التعمّد، فقد كانت هذه الفلسفة تهتمّ -مثل الإسلام- بالوصول إلى الجوهر، إن لم يكن إلى أشكال المطلق، وكان من الصعب على هذه الفلسفة الدمج بين أركان العقيدة ووضعيّة أرسطو، والاهتمامات الكونيّة والأخلاقيّة الأفلاطونيّة الجديدة. وكان التناقض أو الشكّ يحيط بمشاكل في مثل حدّة مسألة التوحيد وحياة الروح والجسد وكنه العمل الإلهيّ. لذلك ظلّت هذه الفلسفة في نظر الأغلبيّة العظمى من المؤمنين –وخاصّة السنيّين– فلسفة غريبة وخطرة، وكان أتباعها من الفلاسفة يُتّهمون بالشعوذة، بل وأحياناً كانوا يخلطون في نفس الكراهية الموجّهة إلى الزنادقة»(2).
__________
(1) - نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام – ج1 – ص 102
(2) - الإسلام وحضارته - ص 215 - 216(1/240)
وبالتالي، كان من أعظم الانحرافات الفكريّة والتاريخيّة أن تقحم فلسفة هؤلاء الفلاسفة في إطار الحضارة الإسلاميّة، أو حتّى في الثقافة الإسلاميّة. فالمسافة الّتي تفصل بين كلّ منهما هي المسافة الّتي تفصل بين كلّ من الحضارة اليونانيّة وثقافتها من جهة والحضارة الإسلاميّة وثقافتها من جهة أخرى. وشتّان ما بين الاثنتين.
ولعلّ هؤلاء الفلاسفة لم يحظوا في أيّامهم بالشهرة والحظوة الّتي تمتّعوا بها في عصرنا الحاضر. وما ذلك إلاّ بجهد المستشرقين ومن سار على نهجهم أو تأثّر بهم من المؤلّفين العرب. «فالمستشرقون يَعدّون المنشقّين على الإسلام على الدوام أصحاب فكر ثوريّ تحريريّ عقليّ. ودائماً يهتمّون بكلّ غريب وشاذّ، ودائماً يقيسون ما يرونه في العالم الإسلاميّ على ما لديهم من قوالب مصبوبة جامدة»(1). وعلى حدّ تعبير "رودستون": «لم ير المستشرقون في الشرق إلاّ ما كانوا يريدون رؤيته، فاهتمّوا كثيراً بالأشياء الصغيرة والغريبة»(2).
فها هو "كارل بروكلمان" يُعلي من شأن الفارابي ويعدّه «ظاهرة بارزة جدّاً في تاريخ الحضارة الإسلاميّة»(3). وها هو "ديورانت" يرى أنّ رسائل "إخوان الصفا" «أكمل ما وصل إلينا من تعبير عن التفكير الإسلاميّ في العصر العبّاسيّ»(4). ويرى أنّه بأفول نجم الفلسفة «أعرض الإسلام بعد عام 1200م عن كلّ تفكير نظريّ»(5). ويتكلّم على الفقهاء ويصف مواجهتهم للفلسفة بأنهّا «كبت للتفكير المستقلّ»(6).
__________
(1) - الاستشراق والخلفيّة الفكريّة للصراع الحضاريّ – ص 116
(2) - نقلاً عن المرجع السابق – ص 116
(3) - تاريخ الشعوب الإسلاميّة – ص 244
(4) - قصة الحضارة – ج 13 – ص 207
(5) - المرجع السابق – ج 13 – ص 207
(6) - المرجع السابق – ج13 – ص207(1/241)
ومن الكتّاب والمؤلّفين العرب من سار على نهج المستشرقين وتبنّى آراءهم تلك. ومنهم -على سبيل المثال– "محمّد كرد عليّ" الّذي يُظهر الأسى على الفلاسفة قائلاً: «من سوء بخت الفلاسفة أن كانوا فئة قليلة في كلّ بقعة إسلاميّة، وكان خصومهم كثرة في كلّ أرض، ولذا استضعفوهم في الفترات وأنحوا عليهم. وحاول هذا الكثير أن يقضي على ذاك اليسير. وقد يكون الحقّ في جانب هذا القليل. كانت مع القوى المادّة والسلطة والعوامّ أتباع كلّ ناعق، أو من كان مذهبهم مذهب إمامهم يعتقدون صوابه وأنّ ما عداه باطل، ويوهمهم أنهّم وصاحبه الناجون وغيرهم في النار مخلّد أو معذّب. وليس مع الفئة القليلة من الخواصّ سوى أسلات أقلامهم ونبرات ألسنتهم وثقوب أذهانهم ونفوذ بصائرهم وأبصارهم. وكانوا على كثير من الحقّ، وكان منازعوهم على شيء من الباطل، وكانت عاقبة هذه الحرب الّتي شبّت قروناً نكبة العلم وإفلاس العقل وشلّ حركة البحث والنظر. ولكنّ الفلاسفة مع هذا ظهروا على من عاداهم بقوّة علمهم وقوّة بصيرتهم، ونشروا تعاليمهم بالقدر الّذي ينفع في إنارة العقول وثقافة الجمهور وعمارة البلاد»(1).
وعلى هذا النحو أيضاً يكتب"توفيق الطويل"، فيقول: «لم تؤثّر الحملات الّتي شنّها على التفكير الفلسفيّ المتزمّتون، لأنّ الدين الإسلاميّ في أصله لا يعوّق طلاقة النظر العقليّ ولا يعرقل حرّيته». ثمّ يعلّل ما لقيه بعض الفلاسفة من اضطهاد قائلاً: «مردُّ هذا الاضطهاد فيما نعلم إلى أسباب سياسيّة أو شخصيّة، ونعني بالأخيرة حسد العلماء للمتفوّقين منهم، وقلقهم من ظهور رأي جديد لم يألفوه، وحرصهم على رأي قديم ثبتوا عليه»(2).
__________
(1) - الإسلام والحضارة العربيّة – ج2 – ص 38-39
(2) - توفيق الطويل - قصّة النزاع بين الدين والفلسفة – القاهرة – دون تاريخ – ص 125-126(1/242)
إنّ القارئ لهذه السطور يفهم منها أنّ الفلاسفة انتصروا على الفقهاء وعلماء الدين! فأين هذا الكلام من الحقيقة التاريخيّة؟! إنّنا لا نستغرب أن نجد من يتبنّى الفلسفة اليونانيّة وإفرازاتها من الفلاسفة الإسلاميّين، حتّى من بين الكتّاب العرب أنفسهم، ذلك أنّ لكلّ فكر أنصاره، قلّوا أم كثروا.ولكن، أن يجري إقحام هذا العنصر الغريب في إطار الحضارة الإسلاميّة وأن يُنسب إلى الثقافة الإسلاميّة، فهذا ما لا يشفع له أيّ شاهد، لا من التاريخ ولا من الفكر. فلا الفلسفة من الإسلام في شيء، ولا هي استطاعت أن تجد لنفسها موقعاً في تاريخ المجتمع الإسلاميّ.
والأغرب من ذلك، هو الهجوم العنيف على الفقهاء، من مثل وصفهم بالمتزمّتين والناعقين والمفلسين والظلاميّين وما شاكل ذلك، هؤلاء الفقهاء الّذين لولاهم ما عرف المجتمع هويتّه الحضاريّة الإسلاميّة. ومن يدقّق في المجتمع الإسلاميّ، يجد أن لا مكان للكلام عن الحضارة الإسلاميّة وطراز العيش الإسلاميّ وأنظمة المجتمع الإسلاميّ وأهدافه وقيمه ومثله العليا… بمعزل عن الفقهاء. إذ هم الّذين تولّوا مهمّة التعبير عن مقوّمات المجتمع تلك، من خلال فهمهم لنصوص الوحي. ونترك التعبير عن هذه الحقيقة التاريخيّة لأحد مشاهير المستشرقين، وهو "ريمون بلوخ"، الّذي يقرّر: «أنّ الإسلام يسيطر على مجمل حياة الإنسان، سواء في ذلك حياته الروحيّة والأخلاقيّة، أو نشاطه الاجتماعيّ والسياسي. كلّ شيء يستند إلى الوحي، وهو الرباط الوثيق الّذي يجمع أمّة الإسلام»(1). فأين هؤلاء الفلاسفة من هذا الوحي وأحكامه وتوجيهاته؟!
__________
(1) - "الحضارة الإسلاميّة في عصرها الذهبي" لدومينيك وجانين سورديل – المقدمة بقلم ريمون بلوخ - ص 8(1/243)
لذلك وبناء على ما سبق نقول: إنّ الهجوم على فقهاء المجتمع الإسلاميّ هو في الحقيقة –من حيث يدري المهاجمون أو لا يدرون– هو هجوم على الحضارة الإسلاميّة نفسها. وإذا كان هذا لا يستغرب من المستشرقين، فإنّه ولا شكّ غير مقبول ممّن يؤلّف مدافعاً عن الحضارة الإسلاميّة.
ثانياً:
التصوّف: الجذور التاريخيّة
يقول أبو"الوفا التفتازاني": «التصوّف بوجه عامّ فلسفة حياة، وطريقة معيّنة في السلوك، يتّخذهما الإنسان لتحقيق كماله الأخلاقي، والاتصال بمبدأ أسمى، وعرفانه بالحقيقة، وتحقيق سعادته الروحيّة. والتصوّف مشترك بين ديانات وفلسفات وحضارات متباينة في عصور مختلفة»(1).
منذ قرون بعيدة، قبل ظهور الإسلام، وحتّى قبل المسيحيّة، سادت لدى بعض الشعوب فكرة عن الوجود وفلسفة للحياة، مؤدّاها أن هذا الوجود إنّما هو مكوّن من عنصرين اثنين، أحدهما فاض عن الآخر، هما "الروح والمادّة". وبتعبير آخر: إنّ الوجود إنّما هو شيء واحد، جوهره "الروح" وعَرَضُه "المادّة". فما يراه الإنسان حوله من أشياء محسوسة إنّما هو الجانب المادّيّ من الوجود، وأمّا الجانب الآخر المغيّب عن الإنسان "في العادة" فهو الروح أو العوالم الروحانيّة. والجانب المادّيّ–في نظر هذه الفلسفة– ليس سوى فيض منخفض فاض عن العنصر الجوهر السامي الّذي هو الروح. وهذه هي الفلسفة القائلة بوحدة الوجود. فهي «تعاليم فلسفيّة تذهب إلى أنّ الله مبدأ لا شخص، ليس خارج الطبيعة ولكنّه متوحّد معها»(2).
__________
(1) - الموسوعة الفلسفيّة العربيّة – بإشراف د.معن زيادة – معهد الإنماء العربيّ، بيروت - ط أولى 1986 – المجلّد الأول – ص 73 – مادّة "التصوّف". بقلم أبو الوفا التفتازاني.
(2) - الموسوعة الفلسفيّة – إشراف م. روزنتال وب. يودين – ترجمة سمير كرم - دار الطليعة، بيروت 1987 - مادّة "وحدة الوجود".(1/244)
ضمن مذاهب هذه الفلسفة، تعدّدت الآراء في تحديد العوالم الروحانيّة، بين من يطلق عبارة "الروح" على خالق الوجود سبحانه -ويسمّيه بعضهم بالعلّة الأولى- ومن يُدرج ضمنها الملائكة أو الجنّ أو غير ذلك من "الأرواح". وكذلك تعدّدت الآراء حول أشكال الفيوض الّتي فاضت عن "الروح" ومراتبها. ولكنّ معظمهم عدّوا الكون والإنسان-الجسد أدنى مراتب الفيوض وأكثرها انحطاطاً(1).
ما يهمّنا في تلك الفلسفة نظرتها إلى الإنسان. فإنهّا نظرتهُا الأساسيّة ذاتها للوجود. فهي تصوّر الإنسان مكوّناً من عنصرين اثنين: المادّة –وهي الجسد– والروح. ولقد ساد لدى هؤلاء اعتقاد مفاده أنّ هذين العنصرين هما في نزاع دائم ناتج عن تناقضهما وتنافرهما. ذلك أنهّم يرون أنّ المادّة هي المظهر المنحطّ والهابط للروح. وهذا التنافر بين الجسد والروح سيسفر لدى كلّ إنسان عن إحدى نتيجتين: إمّا أن يتغلّب الروح على الجسد، وإمّا أن يتغلّب الجسد على الروح. فأمّا إن انتصر الروح على الجسد، فقد وُجد الإنسان الخيّر الطيّب النقيّ السعيد الّذي يسمو فوق عالم الجسد والمادّة ونتن الحياة الدنيا. وأمّا إن انتصر الجسد على الروح، فهذا يعني أننّا إزاء إنسان شرّير شقيّ انحطّ إلى مستوى البهيمة وغرق في أوحال الدنيا ونتنها، وبعُد عن عالم الأرواح السامية وعن روح الوجود الكلّيّ(2).
__________
(1) - انظر : نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام – ج1 – ص 186
(2) - انظر : الموسوعة الفلسفيّة العربيّة – مجلد 1 – ص 258 وما بعدها – مادّة تصوّف، بقلم أبو الوفا التفتازاني(1/245)
وأمّا كيف ينتصر الروح على الجسد، وكيف ينتصر الجسد على الروح ؟ فإنّ الإنسان-في نظر هذه الفلسفة–هو عبارة عن روح يأسره الجسد ويمنعه من الارتقاء والتحرّر والسموّ إلى عالم الأرواح أو إلى روح الوجود الكلّيّ. وكلّما غُذّي هذا الجسد وحصل على ما يشتهيه من اللذائذ والمتع كان أقدر على أسر الروح والتمكّن منه والتغلّب عليه. لذلك فإنّه من أجل أن ينتصر الروح على الجسد كان لا بد من إضعافه وقهره وإذلاله حتّى لا يقوى على الروح، فيستطيع هذا الأخير حينئذ التفلّت منه والتحرّر من قيوده. وبالتالي فإنّ على من يريد الارتقاء بروحه لبلوغ السعادة المطلقة، أن يقضي حياته في معركة ضدّ جسده، بأن لا يستجيب لرغباته وشهواته، فيهجر متاع الحياة الدنيا وزينتها وزخرفها ونعيمها، فلا يأكل إلاّ ما يقيم أوده من مرّ الطعام وزهيده، ولا يلبس نواعم الثياب، وإنمّا يضع على كاهليه رقاع "الصوف" الخشن والثياب الرثّة، ولا يركب الدوابّ الذلول، وإنمّا يسيح في الأرض حافي القدمين حاسر الرأس في نوائب الأيّام وعواتي الليالي، ولا يسكن البيوت الفارهة، وإنمّا يسكن الدور الوضيعة والأكواخ الزريّة، ولا ينام على الفرش ولا يتّكئ على الأرائك، وإنمّا يفترش الأرض والبسط اليابسة، ويهجر الجنس الآخر فيكبت شهوة النوع، ويعيش حياة الرهبان، ويقضي أوقاته في قهر الجسد وإذلاله في الزوايا والتكايا ودُور العبادة أو في الوديان السحيقة أو الجبال العالية… وهكذا، إلى أن يصل ضعف الجسد حدّاً لا يقوى معه على أسر الروح، فيتفلّت منه ويسمو إلى عالم الأرواح العلويّ ويتجوّل فيه، فتتكشّف الحقائق والأشياء أمام ذلك الإنسان جليّة واضحة، ليس من طريق الحواسّ الجسديّة من سمع وبصر وغيرهما، بل من طريق الكشف "الوجدانيّ".(1/246)
وبالتالي، فإنّ هذه الفلسفة تقدّم منهجاً معرفيّاً جديداً، يُعرف"بالإشراق" أو "العرفان". وهو وفق مفهوم هذه الفلسفة «حدوث الإلهامات من الله للصوفيّ بطريق مباشر، وعلى باطنه أو قلبه. وقد عُرف الإشراق في الفلسفات الشرقيّة القديمة، الّتي ترى أداة المعرفة النور الباطنيّ، أو الحدس الوجدانيّ غير العقليّ»(1).ويعدّ هذا المنهج في الوصول إلى المعرفة عَلَماً على الصوفيّة. فالإنسان «إذا كان يؤمن بأنّ ما وراء الحسّ واستدلالات العقل منهجاً آخر للمعرفة بالحقيقة يسمّيه كشفاً أو ذوقاً أو ما شابه ذلك من التسميات، فهو في هذه الحالة صوفيّ بالمعنى الدقيق للكلمة»(2).
وقد عُرف هذا المنهج أيضاً باسم "الغنوصيّة". يقول "عليّ سامي النشّار": «"الغنوص" أو "الغنوصيّة" هي كلمة يونانيّة الأصل معناها "المعرفة"، غير أنّها أخذت بعد ذلك معنى اصطلاحيّاً هو التوصّل بنوع من الكشف إلى المعارف العليا، أو هو تذوّق تلك المعارف تذوّقاً مباشراً بأن تُلقى في النفس إلقاءً فلا تستند على الاستدلال أو البرهنة العقليّة»(3).
__________
(1) - المرجع السابق – مجلد 1 – ص 73 – مادّة (إشراق)، بقلم أبو الوفا التفتازاني
(2) - نشأة الفكر الفلسفي – ج1 –ص 186
(3) - نشأة الفكر الفلسفي – ج1 – ص 186(1/247)
وهكذا، ترى هذه الفلسفة أنّ الإنسان كلّما قهر جسده بالتقشّف والجوع وهجران الملذّات، ارتقى روحه وسما وتكشّفت له الحقائق، إلى أن يصل إلى ذروة الارتقاء، فيتّحد بالروح الأعلى، ويصل إلى الفناء في الحقيقة المطلقة، «وهو أمر يميّز التصوّف بمعناه الاصطلاحيّ الدقيق. ويُقصد بالفناء الحالة النفسيّة الّتي لا يشعر معها الصوفيّ بذاته، كما يشعر أنّه بقي مع حقيقة أسمى مطلقة(…) وقد ينطلق بعض الصوفيّة إلى القول بالاتحاد بهذه الحقيقة أو أنّها حلّت فيهم، أو أنّ الوجود واحد لا كثرة فيه»(1).
إنّ هذه الفلسفة للحياة كانت -ولا تزال- سمة من سمات مجتمعات الشرق الأقصى، ولا سيّما المجتمع الهنديّ. جاء في الموسوعة الفلسفيّة: «ويعتمد التصوّف الإشراقيّ على البوذيّة والبراهمانيّة وغيرهما من الفلسفات الشرقيّة»(2). كما أنّها تظهر جليّة أيضاً لدى بعض فلاسفة اليونان وعلى رأسهم أفلاطون اليونانيّ وأفلوطين المصريّ الّذي عُرفت فلسفته بالأفلاطونيّة الحديثة والّتي ضاعفت من تصوّف تعاليم أفلاطون. وفي نظر أفلوطين «هناك "الواحد" الّذي هو المصدر الباطنيّ للوجود جميعه، وهو ينبثق في البدء كعقل كلّي، ثمّ كنفس الله، وبعد هذا كنفوس جزئيّة كأجسام جزئيّة، تشمل المادّة، الّتي يعتبرها أفلوطين "لا وجود". وموضوع الحياة الإنسانيّة عند أفلوطين هو الصعود إلى "الواحد". ويمكن تحقّق هذا بتقييد الميول الجسديّة ،وكذلك بترقية القوى الروحيّة، بما في ذلك قوى الإدراك. وتحُقِّق النفس، في أقصى حالة من حالات الوجد الصوفيّ إبّان الصعود، الاتحّاد بالله »(3).
__________
(1) - الموسوعة الفلسفيّة العربيّة – مجلد 1 – ص 259 – مادّة "تصوف" بقلم أبو الوفا التفتازاني .
(2) - الموسوعة الفلسفيّة(دار الطليعة) – مادّة: التصوّف الإشراقي.
(3) - المرجع السابق – مادّة: أفلوطين.(1/248)
وكذلك عرفت الديانة اليهوديّة مذهب الغنوص، «وتبلورت الأفكار الغنوصيّة في أعماق اليهوديّة فيما يطلق عليه اسم "القبالا أو الكبالا". وكانت الكبالا أكبر غنوص سرّيّ متحرّك في أرجاء العالم المعروف وقتئذ. وقد كمنت في كلّ مكان يعيش فيه اليهود، تحاول أن تزحف على كلّ عقيدة، وأن تسيطر على كلّ مجتمع، مدّعية أنّ بيدها الخلاص »(1).
كما أنّ هذه الفلسفة كانت سمة تميّزت بها الكنيسة النصرانيّة منذ قرونها الأولى وحتّى يومنا هذا. وهناك من يرى أنّ الغنوصيّين هم «أتباع مدرسة دينيّة فلسفيّة في القرون الأولى من المسيحيّة، كانت تمزج اللاهوت المسيحيّ وديانات الشرق القديمة والأفلاطونيّة الجديدة والفيتاغوريّة، وكان الغنوصيّون يؤمنون بصلة أولى روحيّة لا يمكن إدراكها تتبدّى في الفيض وتتعارض مع العالم المادّيّ الّذي هو مصدر "الشرّ " »(2).
«ويبدو أنّ التجربة الصوفيّة واحدة في جوهرها، ولكنّ الاختلاف بين صوفيّ وآخر راجع أساساً إلى تفسير التجربة ذاتها المتأثّر بالحضارة الّتي ينتمي إليها كلّ واحد منهم »(3).
لقد دار جدل عنيف حول مدى تأثّر التصوّف الإسلاميّ بما سبقه, في الحضارات السالفة والمعاصرة، من أنواع التصوّف. وظهرت آراء متعدّدة نتيجة هذا الجدل، ولا زال الموضوع محلّ تجاذب حتّى يومنا هذا.
__________
(1) - نشأة الفكر الفلسفي – ج1 –ص 187
(2) - الموسوعة الفلسفيّة (دار الطليعة) – مادّة "الغنوصيون".
(3) - الموسوعة الفلسفيّة العربيّة – مجلد1 – ص 258 – مادّة "تصوّف"(1/249)
لا شكّ أنّ المسلمين اطّلعوا منذ تاريخهم المبكر على التيّارات الصوفيّة من خلال ما طالعوه من مصنّفات شتّى الحضارات ومن خلال معايشتهم لمجتمعاتها بشكل مباشر. ومثلما تسرّب كثير من المذاهب والأفكار والآراء الفلسفيّة إلى المجتمع الإسلاميّ وثقافة المسلمين-كما سبق ورأينا في الفصول الماضية-من الطبيعيّ أن نتوقّع سريان أفكار التيّارات الصوفيّة المختلفة ونزعاتها النفسيّة، ولا سيّما حين توجد الظروف التاريخيّة والسياسيّة المواتية، الّتي تشكّل تربة خصبة للنزعة الصوفيّة، مثلما تشكّل ظروف أخرى بالمقابل تربة خصبة للنزعة المادّيّة.
إلاّ أنّه من الأهمّيّة بمكان إلقاء نظرة على وجهة نظر الإسلام فيما يسمّى بالناحية الروحيّة، وعلى واقع الحياة الروحيّة كما تهدف إليها الشريعة الإسلاميّة، قبل الحكم على مدى انضباط هذه الظاهرة الصوفيّة أو تلك بالمفهوم الإسلاميّ، أو مدى تأثّرها بالتيّارات التصوّفيّة الغريبة عن الإسلام.
ثالثاً:
نشأة التصوّف في المجتمع الإسلاميّ
إنّ الإسلام الّذي أتت به نصوص القرآن والسنّة، ووفق ما فهمه الجيل الأوّل من المسلمين، لم يعرف تلك الفلسفة الّتي تنظر إلى الكون والإنسان والحياة، على أنّها مكوّنة من عنصرين اثنين، المادّة والروح. وإنمّا تفيد العقيدة الإسلاميّة بكلّ بساطة أن "لا إله إلاّ الله"، وأنّ الله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء } ، وأنّه خالق السماوات والأرض وما بينهما، أي أنّه هو الّذي أوجدهما من عدم. وبالتالي فلا وجود في هذا الإسلام لمقولة "وحدة الوجود" الّتي ترى أن "لا موجود إلاّ الله"، وإنمّا تفيد العقيدة الإسلاميّة أن "لا خالق إلاّ الله". كما أنّه لا وجود فيه لقصّة النزاع بين الروح والمادّة، أو بين الروح والجسد.(1/250)
ولكن إذا كان المقصود بالناحية الروحيّة في الأشياء "كون تلك الأشياء مخلوقةً لخالق"، وإذا كانت الروحانيّة هي "إدراك الإنسان صلته بخالقه"، فإنّ الإسلام حين قام على أساس الإيمان بالله تعالى، قرّر الناحية الروحيّة في الإنسان وحياته وما يحيط به من مادّة الكون، من حيث إنّ هذه الأشياء هي مخلوقة لخالق هو الله تعالى. ثمّ إنّه جعل حياة المسلم كلّها تقوم على أساس روحيّ، وجعل الروح ملابساً لكلّ عمل يقوم به. ذلك أنّ الإسلام احتوى شريعة هي نظام شامل لحياة الإنسان كلّها ومعالجات لكلّ مشاكله. وبالتالي جعل لكلّ فعل من أفعال الإنسان حكماً شرعيّاً، يجب على المؤمن أن يلتزم به حين القيام بالعمل، وذلك بناء على إيمانه بالله تعالى ربّاً وإلهاً معبوداً مطاعاً. فالمؤمن حين يلتزم في أفعاله كلّها– وهي مادّة– بأوامر الله ونواهيه بناء على إدراك الصلة بالله، أي بناء على الإيمان بالله تعالى، فإنّه يكون قد مزج المادّة بالروح، وقامت حياته كلّها على أساس روحيّ، هو العقيدة الإسلاميّة.
وبناء عليه، فإنّ المسألة –في وجهة نظر الإسلام– ليست: هل يشبع الإنسان حاجاته ورغباته أم لا يشبعها؟ وليست أيضاً: كم يشبعها ؟ ولا هي: ماذا يشبع، الجسد أم الروح؟ ولا هي: ماذا يغلّب الجسد أم الروح؟ فمن الخطأ أن تكون هذه المسألة محلّ بحث. وإنمّا يكون محلّ البحث هو: "كيف" يكون الإشباع؟ وعلى أيّ أساس يجب أن يقوم؟(1/251)
لذلك فقد أخطأ من ظنّ أنّ الإسلام جعل التقوى في التقشّف والبعد عن المتع والملذّات وهجران نعيم الدنيا ومتاعها. إذ قد يمارس ذلك التقشّف إنسانٌ ملحد لا يؤمن بالله حقّ الإيمان. فأين منه التقوى؟ بل إنّ آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - تصرّح بأنّ الله تعالى خلق الدنيا ومتاعها وسخّر كلّ ما فيها للإنسان، على أن يأخذها بحقّها، أي وفق أوامره ونواهيه عزّ وجلّ. فالله تعالى يقول: { وَلَقَدْ كَرَّمْنا بني آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ في البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ على كَثيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } (1)،وقال سبحانه: { وَسَخّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ جَميعاً مِنْهُ إنَّ في ذلكَ لآَياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون } (2)، وقال عزّ وجلّ: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِزْقِ قُلْ هِيَ لِلذَّينِ آمَنُوا في الحَياةِ الدُنْيا خالِصَةً يَوْمَ القِيامة كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون } (3)، وقال سبحانه مذكّراً بنعمه على عباده: { وَالأَنْعَامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُون - وَلَكَمْ فيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون - وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَم تَكُونوُا بالِغِيهِ إلاّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ - وَالخَيْلَ وَالبِغالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُون } (4)،وغير ذلك الكثير من الآيات الّتي تتضمّن هذا المعنى.
__________
(1) - سورة الإسراء – الآية70
(2) - سورة الجاثية – الآية13
(3) - سورة الأعراف – الآية32
(4) - سورة النحل - الآيات 5إلى8(1/252)
وفق هذا المفهوم الإسلاميّ، ليس هناك أيّ تعارض بين اللذّة أو المتعة الجسديّة وبين الروح أو الروحانيّة. فالإنسان الّذي يأكل طيّب الطعام من الرزق الحلال، حامداً الله تعالى على نعمته، يشعر بالروحانيّة مع شعوره بلذّة الطعام، قال عزّ وجلّ: { يَا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُون } (1)، وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبات مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِين } (2). والتاجر الّذي يكسب الربح الوفير والمال العميم يشعر أيضاً بالروحانيّة إن هو التزم الأحكام الشرعيّة وراعى الحلال والحرام في تجارته، فقد ورد في الأثر: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيّين والصدّيقين والشهداء»(3). وفي المعاشرة الزوجيّة يقول - صلى الله عليه وسلم -: «وفي بُضع أحدكم صدقة»، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً»(4).
__________
(1) - سورة البقرة – الآية172
(2) - سورة المائدة – الآية87
(3) - سنن الدرامي – الحافظ عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي – تحقيق فواز زمرلي وخالد السبع العلمي – دار الكتاب العربيّ، بيروت- الطبعة الأولى 1987 – ج2 – ص322 – رقم الحديث(2539).
(4) - صحيح مسلم – المجلّد2 – ص697 - كتاب الزكاة – رقم الحديث(1006).(1/253)
نعم، لقد حوت التوجيهات القرآنيّة والنبويّة العديد من النصوص الّتي تدعو إلى الزهد بالدنيا ومتاعها وتحذّر من الانغماس في شهواتها والاشتغال بها عن طاعة الله تعالى والقيام بالواجبات الشرعيّة. إلاّ أنّ المسلمين منذ عصر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فهموا هذه التوجيهات على نحو لا يتعارض مع إباحة الأخذ بمتاع الدنيا. فالزهد في الدنيا ومتاعها لا يعني إهمالها وهجرها، ولا يعني بحال من الأحوال التقشّف وقهر الجسد وشهوته. وإنّما يعني أن ينظر الإنسان إليها النظرة الّتي تستحقّها دون أن يجعلها أكبر همّه. فهي في حقيقتها، وكما يصوّرها القرآن الكريم والسنّة النبويّة، معبر الإنسان إلى آخرته، فعليه أن يتزوّد منها ما أمكنه من الأعمال الصالحة حتّى يصل إلى الحياة الحقيقيّة الخالدة، وهي الحياة الآخرة. فالقرآن الكريم حين يذكر متاع الحياة الدنيا لا يذمّه، ولا يعدّه رذيلة، ولا ينعي على الآخذين به، وإنمّا يلفت الأنظار إلى أنّه عَرَض زائل. مثل قوله تعالى: { المالُ وَالبَنُونَ زِيْنَةُ الحياةِ الدُنْيا والبَاقِياتُ الصَالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } (1). وقوله تعالى: { اعلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِيْنَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتكَاثُرٌ في الأَمْوالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيْجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمّ يَكُونُ حُطاماً وَفي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَديدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُنْيا إلاّ مَتاعُ الغُرور } (2).
__________
(1) - سورة الكهف – الآية (46)
(2) - سورة الحديد – الآية (20)(1/254)
إلاّ أنّ بعض المسلمين أساؤوا فهم هذه النصوص، ونظروا إلى كلّ متعة وشهوة مادّيّة في الحياة الدنيا على أنّها الرذيلة، أو الطريق إليها. وظنّوا أنّ عبادة الله تكون بحرمان الجسد متعه ورغباته. ففي عهد النبوّة فهم بعض الناس التقوى بالتقشّف وقهر النفس والجسد، وعندما سألوا عن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقالّوها، فنذروا على أنفسهم تكاليف قاسية ما أنزل الله بها من سلطان، وهم يحسبون أنهّم يحسنون صنعاً وأنّهم أصابوا التقوى. فلمّا بلغ خبرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعر بخطر ذلك الفهم المنحرف، فاتّخذ الإجراء الّذي يناسب تلك الظاهرة. فقد روى البخاريّ عن أنس بن مالك أنّه قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمّا أُخبروا كأنّهم تقالّوها،فقالوا: وأين نحن من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال أحدهم: أمّا أنا فأنا أصلّي الليل أبداً. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوّج أبداً. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتم الّذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»(1).
__________
(1) - رواه البخاري – فتح الباري – مجلد10 – ص130 – كتاب النكاح – رقم الحديث(5063).(1/255)
وقد بقيت هذه النماذج تطلّ برأسها هنا وهناك منذ عصر النبوّة مروراً بالعصور الّتي تلته وحتّى يومنا هذا. وكانت تزداد وتتكاثر كلّما كان هناك شعور بتزايد انغماس المجتمع بالترف والسرف والملذّات وزخارف الدنيا وزينتها، وهو ما كان يتزايد على نحو مطّرد في المجتمع الإسلاميّ كلّما اتّسعت الدولة الإسلاميّة وازدهر اقتصادها وتطوّرت مدنيّتها وتعاظم عمرانها. فراحت ظاهرة الزهّاد والنسّاك والمتقشّفين تنتشر بين جنبات المجتمع الإسلاميّ، وبدأت هذه الطوائف تُعرف باسم "الصوفيّة" منذ أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث.
يقول "ابن خلدون" في كلامه على التصوّف: «هذا العلم من العلوم الشرعيّة الحادثة في الملّة. وأصله أنّ طريق هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمّة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحقّ والهدايّة، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذّة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة،وكان ذلك عامّاً في الصحابة والسلف. فلمّا فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختصّ المقبلون على العبادة باسم الصوفيّة والمتصوّفة»(1).
__________
(1) - المقدمة – ص 517(1/256)
ويقول الإمام "ابن تيميّة": «أوّل ما ظهرت الصوفيّة في البصرة. وأوّل من بنى دويرة للصوفيّة بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد. وعبد الواحد من أصحاب الحسن البصريّ. فقد كان في البصرة من الاجتهاد في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر الأمصار(…) والتصوّف عندهم له حقائق معروفة قد تكلّموا في حدوده وسيرته وأخلاقه، كقول بعضهم: الصوفيّ من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، واستوى عنده الذهب والحجر(…) وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصدّيق، وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصدّيقون،كما قال الله تعالى: { فَأُولَئِكَ مَعَ الّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدّيقينَ وَالشُّهَدَاءِ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفيقاً } »(1).
ومن الإشارات الّتي تدلّ على ظهور مصطلح "التصوّف" أواخر القرن الثاني ما روي عن الإمام الشافعيّ المتوفّى سنة 204هـ أنّه قال: «لو أنّ رجلاً تصوّف أوّل النهار لا يأتي الظهر حتّى يكون أحمق»(2)،وقوله: «ما لزم أحد الصوفيّة أربعين يوماً فعاد إليه عقله أبداً»(3).
إلاّ أنّه يبدو أنّ أهمَّ رموز التصوّف بدأ ظهورهم خلال القرن الثالث الهجريّ. فقد ظهر في العراق الحارث المحاسبيّ(4)
__________
(1) - ابن تيميّة – مجموع الفتاوى – جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمّد بن قاسم العاصي النجدي الحنبلي – بيروت – د.ت – كتاب التصوّف – ص 1656
(2) - أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي – تلبيس إبليس – دار الجيل، بيروت – 1408هـ/1988م – ص465
(3) - المرجع السابق – ص 465
(4) - الحارث المحاسبي (ت243هـ)
الحارث بن أسد المحاسبي،أبو عبد الله: من أكابر الصوفيّة،كان عالماً بالأصول والمعاملات،واعظاً مبكياً، وله تصانيف في الزهد والردّ على المعتزلة وغيرهم. ولد ونشأ بالبصرة، ومات ببغداد.وهو أستاذ أكثر البغداديين في عصره.من كتبه "آداب النفوس" و"شرح المعرفة" في التصوّف و"المسائل في الزهد وغيره" و"الخلوة والتنفّل في العبادة" و"معاقبة النفس"……(الزركليّ)(1/257)
المتوفّى سنة 243هـ، وهو بَصْري الأصل وأستاذ أكثر البغداديّين، ويرى البعض أنّه من أوّل فلاسفة التصوّف(1). ثمّ ظهر إمام الصوفيّة الجُنيد(2) المتوفّى سنة 297هـ ببغداد، وغيرهما.وكان تصوّف هؤلاء يظهر في نظرة خاصّة إلى التقوى ومحاسبة النفس وتطهيرها من الذنوب وفي الاجتماع على حلقات البكاء والندم. وعلى الرغم من أنّ هؤلاء الرموز من الزهّاد لم يأتوا بشيء يُذكر من الأفكار والآراء الجديدة على الثقافة الإسلاميّة، إلاّ أنّ تحفّظ الفقهاء على ممارساتهم كان واضحاً. بل إنّ بعض العلماء اتّخذ موقفاً شديداً إزاءهم، ونظر إليهم نظرة الريبة والشكّ، بسبب ما أحدثوه من طرائق أشبه ما تكون بطقوس عباديّة لا شأن لها بالعبادات الّتي شرعها الإسلام.
__________
(1) - انظر : ظهر الإسلام – ج1 – ص 228
(2) - الجنيد البغدادي (ت297هـ)
الجنيد بن محمّد بن الجنيد البغدادي الخراز، أبو القاسم: صوفي من العلماء بالدين، مولده ومنشأه ووفاته ببغداد. قال أحد معاصريه: ما رأت عيناي أحد مثله، الكتبة يحضرون مجلسه لألفاظه، والشعراء لفصاحته، والمتكلّمون لمعانيه. وهو أول من تكلّم في علم التوحيد ببغداد. وقال ابن الاثير في وصفه: إمام الدنيا في زمانه. وعدّه العلماء شيخ مذهب التصوّف، لضبط مذهبه بقواعد الكتاب والسنّة، ولكونه مصوناً من العقائد الذميمة،محميّ الأساس من شدّة الغلاة، سالماً من كلّ ما يوجب اعتراض الشرع. من كلامه: طريقنا مضبوط بالكتاب والسنّة، من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقّه لا يقتدى به. له رسائل، منها ما هو في التوحيد والألوهيّة والغناء ومسائل أُخرى. ومنها رسالة "دواء الأرواح".(1/258)
ففضلاً عن موقف "الشافعيّ" الّذي مرّ معنا، نرى مثلاً الإمام "أحمد بن حنبل" –وهو النجم الساطع في سماء المجتمع الإسلاميّ– قد أُثرت عنه أقوال كثيرة في التنفير من بعض الّذين نُسبوا إلى التصوّف،فقد رُوي «أنّه سمع كلام الحارث المحاسبيّ، فقال لصاحب له: لا أرى لك أن تجالسهم»(1).وقد أنكر "أحمد بن حنبل" على "الحارث" كلامه في التصوّف حتّى اختفى الحارث، ولمّا مات لم يحضر جنازته إلاّ أربعة(2).
ولقد كانت العداوة أشدّ ما تكون بين الصوفيّة والحنابلة. ورمى الحنابلة الصوفيّة بالزندقة وأثاروا الناس عليهم، حتّى أدّى ذلك إلى ملاحقة السلطة للمتصوّفة، فكان من أشهر الحوادث في ذلك ما حصل سنة 262، حين أُمر بالقبض على عدد كبير من الصوفيّة بلغوا نيّفاً وسبعين، وانتهت المحنة بقتل بعضهم وهربِ بعضهم وتبرئة بعضهم(3).
وكانت تشتدّ حملة الفقهاء على التصوّف والمتصوّفة كلّما ظهر أنّ هؤلاء يحملون أفكاراً تضاهي العقيدة الإسلاميّة وتتعارض معها،وكلّما ظهر أنّهم أصحاب بدع. وبالفعل، فقد بدأ هؤلاء ينتحلون آراء ومعتقدات أخذوها من هنا وهناك من الأديان والفلسفات والملل والنحل. فلم يكد يمضي القرن الثالث حتّى ظهر أنّ نوعاً من التصوّف الجديد -مختلف عن تصوّف "الحارث المحاسبي" و"الجنيد"- بدأ يطلّ برأسه بكلّ جرأة. وهو في حقيقته امتداد للتيّارات التصوّفيّة الفلسفيّة الّتي سبقت الإسلام تاريخيّاً، واحتكّ بها المسلمون في فتوحهم ومواجهاتهم الفكريّة والثقافيّة. فظهرت فكرة "الاتّحاد والحلول" وفكرة "وحدة الوجود" وفكرة "الكشف والإلهام" وفكرة "الفناء"، على ألسنة بعض المتصوّفة وفي أدبيّاتهم.
__________
(1) - تلبيس إبليس – ص228
(2) - المرجع السابق - ص229 – وانظر أيضاً: البداية والنهاية – ج10 – ص342
(3) - انظر : ظهر الإسلام – ج1- ص 228-229(1/259)
وهذا النوع الأخير من التصوّف يسمّيه البعض بالتصوّف الفلسفيّ. فيرى"عليّ سامي النشّار" أنّه «يشمل مجموعة مختلطة من التفكير اليونانيّ، وبخاصّة الأفلاطونيّة المحدثة والمجموعة الهرمسيّة، ثمّ التفكير الشرقيّ الغنوصيّ من هنديّ وفارسيّ، ثمّ أمشاج من اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام»(1). ويقارن بين هؤلاء المتصوّفة وبين "فلاسفة الإسلام"، فيقول: «وكما حاول فلاسفة الإسلام أن يدخلوا عقائد اليونان الميتافيزيقيّة في عقول المسلمين، نرى بعض صوفيّة الإسلام يلجأون في التصوّف إلى بحث ميتافيزيقيّ تأثّر بكلّ ما حوله من فلسفات… أخذوا من الفيدا الهنديّ وأخذوا من الإشراقيّة الفارسيّة، واستمدّوا من الفيض الأفلاطونيّ، وتأثّروا بأفلاطون وأرسطو، ثمّ وجدوا مصدراً هامّاً في المجموعات الهرمسيّة، وانتهوا إلى عقائد مختلفة، أهمّها عقيدة الحلول وعقيدة وحدة الوجود»(2).
فمن النماذج الّتي يرويها لنا التاريخ، والّتي ظهرت في جوّ مصر، "ذو النون المصريّ" أحد مؤسّسي التصوّف، الّذي أحدث ضرباً من الكلام لم يُعرف قبل في مصر. فقد طلع على الناس بكلام لم يألفوه،من الكلام في الأحوال والمقامات والحبّ الإلهيّ، وأنّ مصادر المعرفة النقل والعقل، وشيء آخر زاده هو،وهو الكشف، وأنّ هناك علماً ظاهراً وعلماً باطناً. وكان طبيعياً أن تلاقي هذه التعاليم معارضة من الفقهاء الّذين يرفضون القول في الدين بغير دليل معتبر. فكان على رأس المعارضين له "عبد الله بن الحكم" شيخ المالكيّة، و"ابن الليث" قاضي مصر الحنفيّ. فكلاهما لم يرض عن"ذي النون" وتعاليمه، فاضطهد واتُّهم بالزندقة، وأخيراً أُرسل إلى دار الخلافة ببغداد فسجن حتّى مات سنة245(3).
__________
(1) - نشأة الفكر الفلسفي – ج1 – ص 47
(2) - المرجع السابق – ج1 – ص 53
(3) - انظر : ظهر الإسلام – ج1 – ص 169(1/260)
إلاّ أنّ الشخصيّة الأكثر استفزازاً للفقهاء والمجتمع الإسلاميّ عامّة، تمثّلت في "أبي منصور الحلاّج" الذي وصل في انحرافه عن العقيدة الإسلاميّة واستغراقه في أوهام الملل والفلسفات إلى حدّ بعيد. فقال بصراحة بعقيدة "الاتحّاد والحلول" واتُّهم بالعديد من مقولات الزندقة، وتنقّل بين السجون حوالي سبع سنوات، إلى أن حُوكم ونفِّذ فيه حكم الإعدام سنة 309هـ، بعد أن ابتنى كعبة في بيته ودعا الناس إلى أن يحجّوا إليها(1).
وقد شهد المجتمع الإسلاميّ العديد من نماذج التصوّف الفلسفيّ. فمن أهمّ تلك الأمثلة الفيلسوف الشهير "ابن سينا" المتوفّى سنة 428هـ، الّذي كان من أبرز من جمعوا بين الفلسفة والتصوّف، الأمر الّذي قام شاهداً على ارتباط التصوّف بالفلسفة إلى حدّ بعيد. وكذلك هو شأن رسائل "إخوان الصفا" الّتي ظهرت في القرن الرابع الهجريّ والّتي حاولت إنشاء فلسفة دينيّة توفّق بين جميع الفلسفات والديانات، وكان للتصوّف أثر بارز فيها.
__________
(1) - انظر : المرجع السابق – ج2 – ص 69 وما بعدها(1/261)
إنّ هذه النماذج الصوفيّة، وإن اتّخذت من بعض النصوص القرآنيّة والنبويّة غطاء لها ومنطلقاً لآرائها، كانت بطبيعة أفكارها وممارساتها وطقوسها غريبة عن فكر المجتمع الإسلاميّ وحسّه، لذلك نظر إليها بارتياب وشكّ بالغَيْن. وقد عزّز هذا الموقفَ التحفّظُ الشديد الّذي أبداه الفقهاء على تلك الجماعات. لذلك لم يستطع التصوّف آنذاك أن يصبح ظاهرة عامّة، وإنّما بقي مقتصراً على بعض الدوائر المتناثرة هنا وهناك بين شرائح المجتمع. بل لقد فطن كثير من المثقّفين إلى أنّ هذه الجماعات ما هي إلاّ صدى لثقافات وحضارات وأديان كانت منتشرة في العالم الإسلاميّ قبل الفتح، ولا زالت موجودة لدى أهل الأديان والملل الّذين خضعوا للدولة الإسلاميّة أو في بلاد مجاورة لم يصل إليها سلطان الإسلام، والّتي احتكّ بها المسلمون بشكل أو بآخر. كما أنّ انتشار كتب الفلسفة المترجمة إلى العربيّة كان وسيلة سهلة لاطّلاع كثير من المثقّفين على التيّارات والآراء المختلفة، فتأثّر قسم غير قليل منهم بها، وكان التصوّف من أهم المذاهب الّتي تأثّر بها هؤلاء. والأمر الّذي يسترعي الانتباه هنا، أنّ التصوّف هو من الأفكار القليلة الّتي نالت حظّاً في شتّى الثقافات، فهي منبثّة في التراث الهنديّ والفارسيّ واليونانيّ وفي الديانتين اليهوديّة والنصرانيّة. وفضلاً عن ذلك كلّه، فإنّه ما من شكّ أنّ الظروف الفكريّة والنفسيّة والأوضاع الثقافيّة، لدى بعض شرائح المجتمع الإسلاميّ آنذاك، كانت تربة خصبة لهذا النوع من التأثّر.
ومن أبرز الّذين فطنوا إلى تلك الصلة، بين جماعات التصوّف والمؤثِّرات الحضاريّة الأجنبيّة، الموسوعي النابغة "أبو الريحان البيرونيّ"(1)
__________
(1) - أبو الريحان البيرونيّ (362-440هـ)
محمّد بن أحمد،أبو الريحان البيرونيّ الخوارزمي: رياضيّ مؤرّخ، من أهل خوارزم. أقام في الهند بضع سنين، ومات في بلده. اطلع على فلسفة اليونانيّين والهنود، وعلت شهرته، وارتفعت منزلته عند ملوك عصره. وصنّف كتباً كثيرة جداً، متقنة، من أهمّها "الآثار الباقيّة عن القرون الخاليّة" و"تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"……(الزركليّ)(1/262)
الّذي عاش في القرن الرابع الهجريّ، والّذي وصل، بعد اطّلاع واسع على الثقافة الهنديّة ومعايشة حيّة للمجتمع الهنديّ، إلى أنّ تلك الثقافة كانت المؤثِّر الأكبر في جماعات التصوّف. وقد توسّع في كتابه "تحقيق ما للهند من مقولة" في ضرب الأمثلة الّتي تقوم شاهداً على ذلك التأثّر. بل إنّه يذهب إلى حدّ القول بأنّ الفلسفة اليونانيّة نفسها قد تأثّرت بتصوّف الهنود، وكذلك المسيحيّة.
ففيما يتعلّق بفكرة "الحلول والاتّحاد" يرى أنّ الطبيعيين اليونان والهنود يتّفقون في تفسير الوجود بالوحدة، «أنّ الأشياء كلّها شيء واحد»، وأنّ الإنسان لم يتميّز عن الأحجار والجماد إلاّ بالقرب من العلّة الأولى بالرتبة، وإلاّ فهو هو، وأنّ الوجود الحقيقي للعلّة الأولى فقط، وأنّ الوجود شيء واحد فقط، وأنّ العلّة الأولى تتراءى فيه بصور مختلفة وتحلّ قوّتها في أجزائه بأحوال متباينة توجب التغاير، مع الاتّحاد به في حقيقة الأمر. ويرى «أنّ قدماء اليونانيّين، قبل نجوم الحكمة فيهم…وتهذّب الفلسفة عندهم… كانوا على مثل مقالة الهند، وكان فيهم من يرى أنّ الأشياء كلّها شيء واحد… وهذا رأي السوفيّة، وهم الحكماء، فإنّ"سوف"باليونانيّة الحكمة، وبها سمّي الفيلسوف"بيلاسوبا" أي محبّ الحكمة. ولمّا ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم سُمّوا باسمهم»، ويضيف: «وكذلك ذهبوا إلى أنّ الموجود شيء واحد، وأنّ العلّة الأولى تترايا فيه بصور مختلفة وتحلّ قوّتها في أبعاضه بأحوال متباينة توجب التغاير مع الاتّحاد، وكان فيهم من يقول: إنّ المنصرف بكلّيّته إلى العلّة الأولى متشبّها بها على غاية إمكانه يتّحد بها عند ترك الوسائط وخلع العلائق والعوائق، وهذه آراء يذهب إليها الصوفيّة لتشابه الموضوع»(1).
__________
(1) - المصدر السابق – 25(1/263)
ثمّ ينتقل "البيرونيّ" إلى فكرة "قدم الأرواح والنفوس والتناسخ"، فيرى أنّ ما ذهب إليه الهنود واليونان، من أنّ الأرواح والنفوس كانت قائمة بذواتها قبل التجسّد بالأبدان معدودة مجنّدة تتعارف وتتذاكر، أثّر في صوفيّة الإسلام(1). ثمّ يعرض التشابه بين الهنود والنصارى والصوفيّة في فكرة "الخلاص من الدنيا والطريق إليه"(2). ويتكلّم على "نظريّة العشق الصوفيّة". ولمّا كان الصوفيّة يحدّدون العشق بأنّه «الاشتغال بالحقّ عن الخلق» فإنّ "البيرونيّ" يعلّق قائلاً: «وفي كتاب كيتا: كيف ينال الخلاص من بدّد قلبه ولم يفرده لله ولم يخلص عمله لوجهه؟ ومن صرف فكرته عن الأشياء إلى الواحد ثبت نور قلبه كثبات نور السراج الصافي الدهن في كنّ لا يزعزعه فيه ريح»(3).
ثمّ ينتقل إلى موضوع "توقيت ساعة الموت"، فيعرض لنا فكرة الخلاص من الدنيا عند الهنود، وكيف أنّهم يذهبون إلى أنّ الأبدان شباك الأرواح، وأنّها ممانعة للجسد حتّى تتخلّص النفس من قالبه بالمعرفة،فتعرف لحظة انفصالها الدائم عنه. ويعلّق قائلاً: «وإلى قريب من هذا يذهب الصوفيّة. فقد حكي في كتبهم عن بعضهم: إنّه وردت علينا طائفة من الصوفيّة، وجلسوا بالبعد عنّا، وقام أحدهم يصلّي، فلمّا فرغ التفت وقال لي: يا شيخ، تعرف ها هنا موضعاً يصلح لأن نموت فيه؟ فظننت أنّه يريد النوم، فأومأت إلى موضع، وذهب وطرح نفسه على قفاه، وسكن، فقمت إليه وحرّكته، وإذا أنّه قد برد».(4)
__________
(1) - المصدر السابق – ص38 وما بعدها.
(2) - المصدر السابق – ص 51-52
(3) - المصدر السابق – ص 55-56
(4) - المصدر السابق – ص63(1/264)
وأبعد من ذلك، يذهب "البيرونيّ" إلى وجود تشابه بين فكرة الهنود عن الخوارق الّتي يقوم بها البرهميّ، وبين تفسير بعض المفسّرين ذوي النزعة الصوفيّة، للآية الواردة في قصّة "ذي القرنين" { إنّا مَكَّنَّا لَهُ في الأَرْضِ } (1), بأنّ التمكّن هو للصوفيّة خاصّة، وأنّه يعني إن شاء طويت له الأرض،وإن شاء مشى على الماء والهواء، لا يقاومه في قصده شيء(2).
وأخيراً يتكلّم "البيرونيّ" على "نظريّة الفناء"،فيقرّر أن طريق "باتنجل" –وهو صاحب أحد الكتب الهنديّة– أثّر في صوفيّة الإسلام، فيقول: «وإلى طريق باتنجل ذهبت الصوفيّة في الاشتغال بالحقّ، فقالوا: ما دمت تشير فلست بموحّد حتّى يستولي الحقّ على إشارتك بإفنائها عنك، فلا يبقى مشير ولا إشارة». ويرى أنّ كلام الصوفيّة في "الفناء" أدّى بهم إلى القول "بالاتّحاد"، وهو يشبه في هذا كلام الهنود. ويشير إلى التشابه بين فكرة "الفناء" الهنديّة وبين قول أحد المتصوّفة: «اخلع الكلّ تصل إلينا بالكلّيّة، فتكون ولا تكون، إخبارك عنّا، وفعلك فعلنا»، وقول آخر: «إنّي انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحيّة من جلدها، ثمّ نظرت إلى ذاتي، فإذا أنا هو»(3).
ويرى "البيرونيّ" أنّ فكرة "مقامات النور والظلمة" هي فكرة هنديّة، فقد ذهب الصوفيّة إلى أنّ بين العبد والله ألف مقام من مقامات النور والظلمة، وأنّ على السالك أن يقطع مقامات الظلمة حتّى يصل إلى مقامات النور، فإذا وصل إلى مقامات النور،لم يكن له رجوع عنها. وهي –كما يرى "البيرونيّ"– تشبه تماماً أقوال الهنود(4).
__________
(1) - سورة الكهف – الآية 84
(2) - المصدر السابق – ص 63
(3) - المصدر السابق – ص66-67
(4) - المصدر السابق – ص67 – ولقد استعنت في عرض آراء البيرونيّ بما أورده علي سامي النشار في كتابه "نشأة الفكر الفلسفي"،الجزء الثالث من ص 47 حتّى ص 52(1/265)
وإذا كان "البيرونيّ" قد ركّز النظر على التشابه بين الفلسفة الهنديّة وجماعات التصوّف،فهذا لا يعني أنّ الهنود كانوا أصحاب التأثير الوحيد في تلك الجماعات. فالمسلمون عرفوا "الغنوصيّة" اليهوديّة ونُقلت إليهم،وأفكارها انبثّت في كتب فلاسفة الصوفيّة، كما أنّ الأفلاطونيّة المحدثة الّتي أثّرت في عدّة طوائف حملت أسماء المسلمين –وكانت قليلة متناثرة – كان فيها غنوص تتمثّل فيه كلّ المذاهب الغنوصيّة(1).
وبعبارات موجزة، يُرجع "ول ديورانت" التصوّف الإسلاميّ «إلى أصول كثيرة: منها نزعة الزهد عند فقراء الهندوس، وغنوصيّة مصر والشام، وبحوث الأفلاطونية الجديدة عند اليونان المتأخّرين،وتأثير الرهبان المسيحيّين الزاهدين والمنتشرين في جميع بلاد المسلمين»(2).
رابعاً:
التصوّف يتمكّن في المجتمع الإسلاميّ
لقد شغلت جماعات التصوّف اهتمام العلماء عدّة قرون، وبذل الكثير منهم جهده في التصدّي لها وتفنيدها وكشف انحرافاتها وعوارها، ولا سيّما بعد أن وصلت إلى الجهر بأقوال تصل إلى حدّ الكفر والخروج من الملّة. ففي القرن الخامس الهجريّ مثلاً يحدّثنا الإمام "ابن حزم الظاهري" (توفّي 456هـ) في كتابه "الفصل في الأهواء والملل والنحل" «أنّ من الصوفيّة من يقول: إنّ من عرف الله تعالى سقطت عنه الشرائع. وزاد بعضهم: واتّصل بالله تعالى. وبلغنا أنّ بنيسابور اليوم في عصرنا هذا رجلاً يكنّى أبا سعيد أبا الخير –هكذا معاً– من الصوفيّة، مرّة يلبس الصوف ومرّة يلبس الحرير المحرّم على الرجال، ومرّة يصلّي في اليوم ألف ركعة ومرّة لا يصلّي لا فريضة ولا نافلة، وهذا كفر محض، ونعوذ بالله من الضلال»(3).
__________
(1) - انظر : نشأة الفكر الفلسفي – ج1 – ص 185حتّى ص 189
(2) - قصّة الحضارة – ج 13– ص 214
(3) - ابن حزم الظاهري – الفصل في الأهواء والملل والنحل – دار المعرفة، بيروت - 1983 – ج4 – ص 188(1/266)
وفي موضع آخر يقول: «ادّعت طائفة من الصوفيّة أنّ في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل،وقالوا من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلّها من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك، وحلّت له المحرّمات كلّها من الزنا والخمر وغير ذلك، واستباحوا بهذا نساء غيرهم، وقالوا إنّنا نرى الله ونكلّمه، وكلّ ما قذف في نفوسنا فهو حقّ…»(1).
إلاّ أنّه من المهمّ التنبّه إلى أنّ ظاهرة التصوّف، على الرغم من استفحال أمرها خلال القرنين الثالث والرابع، بقيت تعدّ ظاهرة غريبة ولم تجد لنفسها مكاناً لائقاً لدى الرأي العامّ، ولا سيّما ذلك القسم الّذي ظهر ارتباطه بالفلسفة وحمل عقائد وأفكاراً مناقضة للعقيدة الإسلاميّة. فكما لاحظنا أنّ فلاسفة الإسلام المشاّئين، "كالكنديّ" و"الفارابيّ" و"ابن سينا" و"ابن رشد"، لم يعيشوا في العالم الإسلاميّ إلاّ كدوائر ملفوظة عن تيّار الفكر الإسلاميّ العامّ، فكذلك كان شأن أصحاب التصوّف الفلسفيّ. إنّ «هؤلاء لا يمثّلون الإسلام في شيء. إنّهم فلاسفة صوفيّون آمنوا بالغنوص كفكرة، وصبغوا مذاهبهم بصبغة خارجيّة غير إسلاميّة. إنّ منهم من اتّخذ عليّاً وأولاده مُثُلاً عليا للحياة الإنسانيّة السامية الّتي تستند إلى التأمّل الباطنيّ الذاتيّ، ومنهم من حاول أن يغلّف مذهبه بآيات قرآنيّة، حفاظاً فقط على حياته، إذا أعلن مذهبه. ومنهم من حاول التوصّل إلى كنه الوجود في نظرة عامّة شاملة فلسفيّة، ومنهم من حاول أن يجد في الخالق صورة المخلوق، أو أن يلغي ما بين الطبيعة الإلهيّة والطبيعة الإنسانيّة من تمايز وإنية، أو أن يجد في أصل الوجود عنصرين مختلفين للخير والشرّ، وكيف يتخلّص الإنسان من عنصر الشرّ»(2) .
__________
(1) - المرجع السابق – ج4 – ص 226
(2) - نشأة الفكر الفلسفي – ج1 – ص 212(1/267)
وهكذا نرى أنّ التصوّف «بدأ زهداً فتصوّفاً ففلسفة، أو بمعنى أدقّ، بدأ التصوّف في مرحلته الأولى يتّخذ تصوّراته وحقائقه من القرآن والسنّة،ثمّ انتقل إلى مرحلة التصوّف، فبينما كانت المرحلة الأولى مرحلة عمليّة، كانت المرحلة الثانية مرحلة عمل ونظر، فتكلّم الصوفيّة عن الأذواق والمواجيد وخطرات القلب ومراحل الطريق الصوفيّ. وأخذوا يحدّدون تفسيرات مقابلة لتفسيرات الفقهاء والمتكلّمين للمعاني الدينيّة. ومضى التصوّف في السير فانقلب أخلاقاً عند أهل السنّة والجماعة وفلسفة عند طائفة مزجوه بعلوم اليونان وبحكمة المشارقة الأقدمين، والفيدا الهندي واليوجا وتراث الهند جميعه، مزجوا هذا كلّه في فلسفة ظاهرها إسلاميّ وباطنها غير إسلاميّ»(1).
ولكن، يبدو أنّ القرن الخامس بدأ يشهد نوعاً جديداً من التصوّف،استطاع أن يجعل من نفسه ظاهرة "رسميّة" في المجتمع الإسلاميّ.وذلك حين راح بعض العلماء يعمل على إحياء التصوّف "الحارثيّ والجنيديّ" في مواجهة التصوّف الفلسفيّ الّذي اعتنق أفكار "الحلول والاتحاد" و"وحدة الوجود" وما شاكلها.
يقول "ماجد عرسان الكيلاني": «أمام الانحرافات الّتي أصابت ميدان التصوّف برز التصوّف السنّيّ ليتصدّى لهذه التيّارات المنحرفة، وليطهّر الساحة الصوفيّة من آثارها. وقد مثّل هذا التصدّي مدرستان، كلاهما امتداد للجنيديّة: المدرسة الأولى في نيسابور، والثانية في بغداد. أمّا مدرسة نيسابور فقد قادها أبو نصر السرّاج المتوفّى في عام 378هـ. وعليه تتلمذ أبو عبد الرحمن السلميّ صاحب الطبقات المتوفّى عام 412هـ. وعلى السلميّ تتلمذ عبد الكريم بن هوازن القشيريّ المتوفّى سنة 465هـ.وممّن اقتفى أثر السرّاج، الهجويري المتوفّى عام 465هـ كذلك.
__________
(1) - المرجع السابق – ج3 – ص 20(1/268)
«ولقد قام نشاط هذه المدرسة على أمرين: الأوّل تدوين التراث الصوفيّ وصبّ مفاهيم التصوّف في قوالب تقيّدها بالشرع وتبعدها عمّا يفضي بها إلى الحلول والاتّحاد. والثاني إبراز التصوّف السيّء باعتباره عمليّة تزكية للنفس تدعم الإيمان والتوحيد، وتنقّيه من شوائب الرياء والحظوظ النفسيّة. وكان من ثمار هذا النشاط تلك المؤلّفات الّتي ما زالت تشكّل المصادر الأولى للتصوّف السنيّ، والّتي جمعت أقوال رجال التصوّف الأوائل ومن سبقهم من الزهّاد»(1).
وقد قطفت هذه المدرسة ثمرتها اليانعة، فآتت أكلها على يد الرجل الّذي يُعدّ بحقّ منعطفاً كبيراً في تاريخ الثقافة الإسلاميّة والمجتمع الإسلاميّ بأسره. إنّه،من جديد، "أبو حامد الغزاليّ".
لم يترك "أبو حامد" علماً من العلوم العقليّة أو الشرعيّة إلاّ وطرق بابه وأخذ بنصيب وافر منه. فكانت حياته تقلّباً بين مختلف الآراء والتيّارات والأفكار. لقد اشتهر بعلم الكلام وعلم أصول الفقه. وعلى الرغم من معاداته للفلسفة وتكفيره للفلاسفة، فقد كان يملك معرفة واسعة بالأفكار الفلسفيّة ومصنّفاتها، فجادل الفلاسفة وأسقط حججهم وأوهامهم، ولا سيّما في كتابه "تهافت الفلاسفة".
__________
(1) - هكذا ظهر جيل صلاح الدين – ص 58(1/269)
غير أنّه في آخر حياته، وبعد اعتزاله للمجتمع سنوات طويلة قارن خلالها بين أصحاب المناهج والعلوم، أعلن رسوّ سفينته على شاطئ التصوّف. ويخبر الغزاليّ عن تلك المحطّة الأخيرة في حياته قائلاً: «ثمّ إنّي لمّا فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمّتي على طريق الصوفيّة، وعلمت أنّ طريقتهم إنّما تتمّ بعلم وعمل،وكان حاصل عملهم قطع عقبات النفس والتنزّه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتّى يتوصّل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله. وكان العلم أيسر عليّ من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكّيّ رحمه الله وكتب الحارث المحاسبيّ والمتفرّقات المأثورة عن الجنيد والشبليّ وأبي يزيد البسطاميّ قدّس الله أرواحهم،وغير ذلك من كلام مشايخهم، حتّى اطّلعت على كنه مقاصدهم العلميّة، وحصّلت ما يمكن أن يحصّل من طريقهم بالتعلّم والسماع، فظهر لي أنّ أخصّ خواصّهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلّم، بل بالذوق والحال وتبدّل الصفات…»(1). ثمّ يتابع بعد ذلك قائلاً: «وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها. والقدر الّذي أذكره لينتفع به، أنّي علمت يقيناً أنّ الصوفيّة هم السابقون لطريق الله تعالى خاصّة وأنّ سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيّروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ويبدّلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً. فإنّ جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوّة، وليس وراء نور النبوّة على وجه الأرض نور يستضاء به»(2).
__________
(1) - المنقذ من الضلال – ص 43
(2) - المصدر السابق – ص 49-50(1/270)
إلاّ أنّ الإمام "الغزاليّ" يتابع مسيرة تهذيب التصوّف ونفي أفكار "الاتحّاد والحلول" و"وحدة الوجود" منه. فهو يصرّح أنّ هناك من أدعياء التصوّف من ضلّ عن سواء السبيل، فيهاجم من «يدّعي علم التصوّف ويزعم أنّه قد بلغ مبلغاً ترقّى به عن الحاجة إلى العبادة»، ويرى أنّ «هؤلاء هم الّذين ضلّوا عن التصوّف»(1). وفي كتابه"الإحياء" يقول: «إلاّ أنّ أكثر متصوّفة هذه الأعصار –لمّا خلت بواطنهم عن لطائف الأفكار ودقائق الأعمال ولم يحصل لهم أنس بالله تعالى وبذكره في الخلوة وكانوا بطّالين غير محترفين ولا مشغولين– قد ألفوا البطالة واستثقلوا العمل، واستوعروا طريق الكسب واستلانوا جانب السؤال والكدية،واستطابوا الرباطات المبنيّة لهم في البلاد، واستسخروا الخدم المنتصبين للقيام بخدمة القوم واستخفّوا عقولهم وأديانهم، من حيث لم يكن قصدهم من الخدمة إلاّ الرياء والسمعة وانتشار الصيت واقتناص الأموال بطريق السؤال تعلّلاً بكثرة الأتباع، فلم يكن لهم في الخانقاهات حكم نافذ، ولا تأديب للمريدين نافع، ولا حجر عليهم قاهر، فلبسوا المرقّعات واتّخذوا في الخنقاهات متنزّهات، وربّما تلقّفوا ألفاظاً مزخرفة من أهل الطامّات، فينظرون إلى أنفسهم وقد تشبّهوا بالقوم في خرقتهم وفي سياحتهم وفي لفظهم وعبارتهم وفي آداب ظاهرة من سيرتهم، فيظنّون بأنفسهم خيراً، ويحسبون أنّهم يحسنون صنعاً»(2).
__________
(1) - المصدر السابق – ص 61
(2) - إحياء علوم الدين – ج2 – ص 250(1/271)
كما أنّه حاول، بثقافته الموسوعيّة، إزالة التناقض الّذي كان ظاهراً بين الفقه والفقهاء من جهة والتصوّف من جهة أخرى. فبعد أن كان الخطّان متباعدين متميّزاً الواحد منهما عن الآخر، «حاول الغزاليّ في أواخر القرن الخامس أن يجمع بينهما. وعلى هذا الأساس ألّف كتاب "إحياء علوم الدين"، فدعا فيه إلى المحافظة على الشريعة الظاهرة، من صوم وصلاة وزكاة وحجّ، كما دعا إلى أنّها لا قيمة لها ما لم تُدعم بالنيّة الحسنة، وواجب تطهير الظاهر كما يجب تطهير الباطن. وكان له فضل كبير في إزالة العداء بين الفقهاء والصوفيّة»(1).
ولكن، هل نستطيع القول: إنّ الغزاليّ وصل إلى تصوّف بريء من التأثير الأجنبيّ وبعيد عن "الغنوص"، وإنّه وضع تصوّفاً سنّيّاً؟!
يطرح"عليّ سامي النشّار" هذا «السؤال الهامّ: هل استطاع الغنوص النفاذ إلى مفكّري الإسلام؟ أو بمعنى أدقّ: هل تمكّن –في صورة معدّلة مخفّفة، وتحت الستار السنّيّ– أن يجذب إليه أكبر أعدائه "أبا حامد الغزاليّ"؟ إنّ عدداً من الباحثين، قدامى ومحدثين، انتهوا إلى هذا الرأي، واتّهموا حجّة الإسلام العظيم أنّه سقط "ضحيّة الغنوص" في كتبه "مشكاة الأنوار" و"معراج القدس" و"المضنون به على غير أهله"،وأنّه "باع الفقه بالتصوّف" كما يقول ابن الجوزيّ». إلاّ أنّه يعقّب بالردّ فوراً، فيقول: «وهذا خطأ، فالغزاليّ خاض كلّ ما عرف العالم الإسلاميّ من علوم ومعارف، وتقلّب فيها باحثاً مفسّراً معلّقاً، وأصابه من كلّ شيء رذاذ، وليس كلّ التصوّف غنوصاً، بل فيه الكثير من تفسير القرآن تفسيراً ذوقياً، لا عقليّاً ولا سمعيّاً»(2).
__________
(1) - ظهر الإسلام – ج2 – ص 62
(2) - نشأة الفكر الفلسفي – ج1 – ص 211(1/272)
والحقيقة، أنّ من ينعم النظر في مفهوم "الغزاليّ" الجديد للتصوّف، يصل إلى أنّه –وإن أسقط القول بالاتّحاد والحلول وهاجم التحلّل من التكاليف الشرعيّة ونفى ما يتعارض بشكل واضح مع العقيدة الإسلاميّة– قد كرّس الفلسفة الأساسيّة الّتي يقوم عليها التصوّف. وهي فلسفة لا شأن لها بالإسلام، ولا تمتّ إليه بصلة. وأعني بها فكرة الصراع المزعوم بين الجسد والروح، وأنّ سموّ الروح لا يتأتّى إلاّ بإضعاف الجسد وقهره، وعبر رياضة النفس. كما أنّه كرّس فكرة "الكشف والإلهام" الّتي يقول بها جميع المتصوّفة، من الإسلاميّين وغيرهم.
ففي الكشف والإلهام نراه يقول: «واعلم أنّه ما من أحد إلاّ ويدخل في قلبه الخاطر المستقيم وبيان الحقّ على سبيل الإلهام، وذلك لا يدخل من طريق الحواسّ، بل يدخل في القلب لا يعرف من أين جاء، لأنّ القلب من عالم الملكوت، والحواسّ مخلوقة لهذا العالم -عالم الملك- فلذلك يكون حجابه عن مطالعة ذلك العالم إذا لم يكن فارغاً من شغل الحواسّ»، ويتابع قائلاً: «ولا تظنّنّ أنّ هذه الطاقة تنفتح بالنوم والموت فقط، بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة وتخلّص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة والأعمال الرديئة. فإذا جلس في مكان خال وعطّل طريق الحواسّ وفتح عين الباطن وسمعه وجعل القلب في مناسبة عالم الملكوت وقال دائماً "الله الله الله" بقلبه دون لسانه، إلى أن يصير لا خبر معه من نفسه ومن العالم، ويبقى لا يرى شيئاً إلاّ الله سبحانه وتعالى، انفتحت تلك الطاقة وأبصر في اليقظة الّذي يبصره في النوم، فتظهر له أرواح الملائكة والأنبياء والصور الحسنة الجميلة الجليلة، وانكشفت له ملكوت السماوات والأرض، ورأى ما لا يمكن شرحه ولا وصفه»(1). ثمّ يضيف بعد ذلك: «وهو طريق الصوفيّة في هذا الزمان»(2).
__________
(1) - كيمياء السعادة (ملحق بكتاب المنقذ من الضلال) – ص 88
(2) - المصدر السابق – ص 89(1/273)
وفي "الإحياء" يتحدّث عن طريق المتصوّفة في المعرفة والوصول إلى الله عزّ وجلّ، فيقول: «فاعلم أنّ ميل أهل التصوّف إلى العلوم الإلهاميّة دون التعليميّة. فلذلك لم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنّفه المصنّفون والبحث عن الأقاويل والأدلّة المذكورة، بل قالوا: الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلّها والإقبال بكنه الهمّة على الله تعالى. ومهما حصل ذلك كان الله هو المتولّي لقلب عبده والمتكفّل بتنويره بأنوار العلم، وإذا تولّى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر وانكشف له سرّ الملكوت»(1).
__________
(1) - إحياء علوم الدين – ج3 – ص 19(1/274)
ويعقد "أبو حامد" في "الإحياء" باباً بعنوان "رياضة النفس"، يذكر فيه أهمّيّة أن يحرم المريد نفسه من كافّة الشهوات المادّيّة الّتي يطلبها الجسد بطبيعته، لأنّها عوائق عن صفاء القلب، وحواجز له عن التجرّد من الدنيا وعلائقها. فممّا يقوله: «وحاصل الرياضة وسرّها أنّ لا تتمتّع النفس بشيء ممّا لا يوجد في القبر إلاّ بقدر الضرورة، فيكون مقتصراً من الأكل والنكاح واللباس والمسكن وكلّ ما هو مضطرّ إليه على قدر الحاجة والضرورة، فإنّه لو تمتّع بشيء منه أنس به وألفه، فإذا مات تمنّى الرجوع إلى الدنيا بسببه، ولا يتمنّى الرجوع إلى الدنيا إلاّ من لا حظّ له في الآخرة بحال، ولا خلاص منه إلاّ بأن يكون القلب مشغولاً بمعرفة الله وحبّه والتفكّر فيه والانقطاع إليه، ولا قوّة على ذلك إلاّ بالله، ويقتصر من الدنيا على ما يدفع عوائق الذكر والفكر فقط»(1). ويقول بعد ذلك: «فإذن لا يمكن إصلاح القلب لسلوك طريق الآخرة ما لم يمنع نفسه عن التنعّم بالمباح، فإنّ النفس إذا لم تُمنع بعض المباحات طمعت في المحظورات»(2). وفي طريق المجاهدة والرياضة يقول: «الأصل فيه أن يترك كلّ واحد ما به فرحه من أسباب الدنيا… ثمّ إذا ترك أسباب الفرح فليعتزل الناس، ولينفرد بنفسه وليراقب قلبه حتّى لا يشتغل إلاّ بذكر الله تعالى والفكر فيه»(3).
ثمّ إنّه بعد ذلك، يخصّص فصلاً في "بيان فضيلة الجوع وذمّ الشبع"، يفتتحه بأكثر من عشرين من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تكاد تكون كلّها موضوعة أو ضعيفة، ولا يصحّ منها إلاّ حديثان أو ثلاثة، كلّها في مدح الجوع وذمّ الشبع(4). وكذلك يفعل عندما يصنّف فصلاً في "القول في شهوة الفرج"(5).
__________
(1) - المصدر السابق – ج3 – ص 67
(2) - المصدر السابق – ج3 – ص 67-68
(3) - المصدر السابق – ج3 – ص 69
(4) - المصدر السابق – ج3- ص80-81-82
(5) - المصدر السابق – ج3 – ص 99(1/275)
وكما أنّ "الغزاليّ"، ذلك النجم الساطع في عصره وما تلاه من العصور، كان الباب المشرَّع الّذي نفذ منه "الكلام الأشعريّ" من دوائره الضيّقة إلى رحاب المجتمع فاستقرّ فيه، كذلك أيضاً كان شأنه مع التصوّف. فلقد احتضن أهل السنّة والجماعة كلاًّ من علم الكلام والتصوّف معاً، وأصبحا بعد الإمام "الغزاليّ" قرينين، قلّما ينفصل الواحد منهما عن الآخر.
يقول"عليّ سامي النشّار" في كلامه على ما يسمّيه "بالتصوّف السنّي": «بدأ التصوّف باستنباط حياة زهديّة من القرآن والسنّة، سنّة الرسول- صلى الله عليه وسلم - وسنّة الصحابة، ثمّ كان تصوّفاً، ثمّ أصبح التصوّف علماً يقابله قواعد عمليّة. وقد احتضن الأشاعرة مذهبُ الخلف، منذ أبي حامد الغزاليّ، التصوّفَ. وأصبح جزءاً من حياة الخلف»(1).
لقد أدرك معظم مؤرِّخي الثقافة الإسلاميّة مقدار الأثر الّذي أحدثه الإمام "الغزاليّ" في حياة المجتمع الإسلاميّ وتاريخه. وعبّر "ديورانت" عن ذلك بقوله: «كان اعتناق الغزاليّ لمذهب التصوّف نصراً باهراً للصوفيّة، فأخذ أهل السنّة من بعده بالتصوّف حتّى طغت عقائد المتصوّفة وقتاً ما على قواعد الدين. نعم إنّ علماء الدين والشريعة الإسلاميّة كانوا لا يزالون من الوجهة الرسميّة أصحاب الكلمة العليا في عالم الدين والشريعة، ولكنّ ميدان التفكير الدينيّ استسلم لمشايخ الطرق وأولياء الله الصالحين».(2)
وها هو"ابن خلدون" يقرّر دون أدنى جدال، وبعد مضيّ ثلاثة قرون، ما أنشأه الإمام "الغزاليّ" وكّرسه من أفكار رياضة النفس ومجاهدة الجسد والكشف والإلهام، فيقول: «ثمّ إنّ هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحسّ والاطّلاع على عوالم من أمر الله ليس
__________
(1) - نشأة الفكر الفلسفي – ج3 – ص 19
(2) - قصة الحضارة – ج13– ص 365(1/276)
لصاحب الحسّ إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم. وسبب هذا الكشف أنّ الروح إذا رجع عن الحسّ الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحسّ وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه وتجدّد نشوؤه، وأعان على ذلك الذكر، فإنّه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نموّ وتزيّد إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً، ويكشف حجاب الحسّ ويتمّ وجود النفس الّذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك، فيتعرّض حينئذ للمواهب الربّانيّة والعلوم اللدنيّة والفتح الإلهيّ، وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى، أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة، فيدركون من حقائق الوجود ما لا يُدرِك سواهم. وكذلك يدركون كثيراً من الواقعات قبل وقوعها، ويتصرّفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفليّة، وتصير طوع إرادتهم». ثمّ يقول بعد ذلك: «ثمّ إنّ قوماً من المتأخّرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والمدارك الّتي وراءه، واختلفت طرق الرياضة عندهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسّيّة وتغذية الروح العاقل بالذكر، حتّى يحصل للنفس إدراكها الّذي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها، فإذا حصل ذلك زعموا أنّ الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ وأنّهم كشفوا ذوات الوجود، وتصوّروا حقائقها كلّها من العرش إلى الطشّ. هكذا قال الغزاليّ رحمه الله في كتابه الإحياء»(1).
وهكذا أصبح التصوّف ملابساً لثقافة المسلمين وفهمهم للإسلام قروناً عديدة وحتّى يومنا هذا. صحيح أنّه بقي من يناهض التصوّف في القرون اللاحقة، وعلى رأسهم علماء التيّار "السلفي"، كابن تيميّة وابن الجوزيّ وابن قيّم الجوزيّة وغيرهم، إلاّ أنّ التصوّف وما يحويه من أفكار الكشف والإلهام والفناء وكرامات الأولياء تفشّى في المجتمع الإسلاميّ، تفشّى بفلسفته وتنظيره بين كثير من دارسي الشريعة، وبشطحاته وخيالاته وأوهامه بين البسطاء والعوامّ.
__________
(1) - المقدمة – ص 519 - 520(1/277)
وما تعلُّقُ الملايين من المسلمين، في أيّامنا هذه، بالتوسّل بقبور الأولياء، وبالتسليم الأعمى لشيوخ التصوّف، وما إيمانهم بالخوارق بدعوى كرامات الأولياء، وما بُعدهم عن معترك الحياة العمليّ والعمل البنّاء في كثير من الأحيان… إلاّ ثمرة أفكار التصوّف، الّتي تغلغلت منذ مئات السنين في أذهان المسلمين وثقافتهم ومجتمعهم وسلوكيّاتهم.
خلاصة البحث
الحضارة في اللغة وكما ورد في "لسان العرب": «الإقامة في الحَضَر( ... )والحَضَر والحضرة والحاضرة، خلاف البادية، وهي المدن والقرى والريف». إذن، فحين تذكر الحضارة في اللغة فإنّه يقصد بها ما هو عكس البداوة، أي سكنى المدن والقرى. إلاّ أنّ هذا المعنى اللغويّ للعبارة ليس هو المقصود حين الكلام عن الحضارة في النصوص الفكريّة والتاريخيّة والسياسيّة المعاصرة إذ أصبح لكلمة الحضارة مدلول اصطلاحيّ جديد مختلف عن المدلول اللغويّ الأصليّ.
ونشأة هذا الاصطلاح تعود في الواقع إلى الدراسات الأوربيّة، وذلك حين درج الغربيّون على استخدام كلمة “Civilization” -وترجمتها إلى العربيّة: الحضارة أو المدنيّة– للتعبير بها عن التطوّر المادّيّ والصناعيّ والعمرانيّ الّذي أخذ يطّرد بسرعة خلال العصور الحديثة الّتي تلت القرن الخامس عشر الميلاديّ والّتي سميّت بعصور النهضة. إلاّ أنّ تلك العبارة تحوّلت مع مرور الوقت عن ذلك المدلول لتأخذ مدلولاً آخر جديداً. فقد أصبحت تطلق على ما يملكه شعب ما أو مجتمع أو أمّة من الأمم من تراث وخصائص وإبداعات يتميّز بها عن غيره من المجتمعات. فأصبح المؤرّخون والمفكّرون والكتّاب يتكلّمون عن حضارات عديدة سالفة ومعاصرة، كالحضارة المصريّة القديمة والحضارة اليونانيّة والحضارة السومريّة والرومانيّة والفارسيّة والصينيّة والهنديّة وحضارة أوربّا العصور الوسطى والحضارة الإسلاميّة والحضارة الغربيّة المعاصرة وما شاكل ذلك .(1/278)
وقد نُقل هذا الاصطلاح الغربيّ إلى اللغة العربيّة باستخدام عبارتين هما "الحضارة" و"المدنيّة". فأصبحت هاتان الكلمتان تستخدمان للدلالة على ذلك المعنى الاصطلاحيّ الجديد.
إلاّ أنّ المشكلة في هذا الاصطلاح، هي أنّ كثيراً من الّذين يستخدمونه يُدخلون في مدلوله كلّ ما يملكه مجتمعٌ ما أو يرثه أو يبدعه من أفكار وتشريعات وفنون وإنجازات علميّة ومادّيّة وغيرها، بصرف النظر عمّا هو من مميّزات ذلك المجتمع وما ليس من مميّزاته من ذلك التراث وتلك الإنجازات والإبداعات الّتي يملكها.
مع أنّنا حين نتكلّم عن حضارة مجتمع من المجتمعات، فإنّنا نتكلّم عن طريقة العيش الّتي تُميِّز ذلك المجتمع عن سائر المجتمعات. وواضح للعيان تاريخاً وحاضراً أنّ لكلّ مجتمع طريقة في العيش تميّزه عن سائر المجتمعات وتجعل منه جماعة بشريّة ذات شخصيّة معيّنة ولون متميّز وهويّة خاصّة، هذه الطريقة في العيش الّتي تميّز مجتمعاً عن آخر هي ما يُعبرّ عنه باصطلاح "الحضارة".
لذلك يجب أن يلحظ حين استخدام ذلك الاصطلاح وتعريف مدلوله أن لا يدخل ضمنه إلاّ ما هو من مقوِّمات شخصيّة المجتمع الّتي تجعل منه مجتمعاً معيّناً يختلف عن غيره من المجتمعات في طريقة عيشه، فلا تدخل الأشكال والوسائل المادّيّة الّتي يستخدمها المجتمع في شؤون الحياة والّتي لا يتميّز بها عن غيره من المجتمعات.(1/279)
فالإنجازات المادّيّة الّتي تنتجها أمّة من الأمم ليست هي الّتي تميّزها عن غيرها من المجتمعات وليست هي الّتي تعطيها هويّتها.فهذه أشكال ووسائل "حياديّة"، وعامّة لكلّ البشر والمجتمعات. فإنّنا نجد أنّ المجتمعات الّتي تتمسّك بحضارتها وطريقة عيشها تقف بالمرصاد أمام كلّ وافد من الأفكار والأنظمة ووجهات النظر في الحياة، إلاّ أنّها تستفيد في الوقت نفسه ممّا ينتجه أيّ شعب أو مجتمع من الأشكال والوسائل المادّيّة ما لم تكن تلك الأشكال والوسائل متعارضة مع حضارتها الّتي تصوغ مجتمعها وتميّز طريقة عيشها. بل إنّك تجد الدولة الراقية الّتي تتمسّك بحضارتها وتفتخر بها حريصة على مواكبة كلّ ما يتمّ إنجازه في البلاد الأخرى من الاختراعات والمبتكرات الفنّيّة والتقنيّة والعلميّة، إذ هي من أسباب القوّة الّتي تحرص الأمّة الراقية على امتلاكها. إلاّ أنّ هذه الإنجازات والمبتكرات من الأشكال والوسائل المادّيّة ليست هي الّتي تطبع المجتمع بطابعه الخاصّ وهوّيته المتميّزة.
كلّ ذلك يحتّم علينا أن نضبط المصطلح الدالّ على نمط العيش وهويّة المجتمع، فنميّز بينه وبين ما يدلّ على مجموعة الأشكال والوسائل المادّيّة المحسوسة المستعملة في شؤون الحياة، والّتي هي عامّة لجميع الشعوب والمجتمعات. وبالتالي فإنّنا نخصّص كلمة "الحضارة" للدلالة على ما يميّز المجتمع فيجعل له طريقة خاصّة في العيش، ونجعل كلمة "المدنيّة" دالّة على الوسائل والأشكال المادّيّة المستعملة في شؤون الحياة.(1/280)
وبالرجوع إلى واقع المجتمعات وما يجعلها مجتمعات ذات لون معيّن ونمط خاصّ في العيش،نجد أنّ مجموعة "الأفكار والمشاعر والأنظمة" لدى مجتمع ما هي الّتي تعطيه هويّته وشخصيّته وتجعل له طرازاً خاصّاً في العيش. إذ إنّ تلك المنظومة الثقافيّة هي الّتي تكيّف علاقات الناس فيما بينهم في المجتمع، وما المجتمع إلاّ ناس قامت بينهم علاقات دائميّة، وطبيعة هذه العلاقات في المجتمع هي الّتي تعطيه هويّته وشخصيّته. وبناء عليه يمكن تعريف الحضارة بأنّها "منظومة الأفكار والمشاعر والأنظمة لدى مجتمع من المجتمعات".
والناظر في مجمل الحضارات والأفكار الّتي سادت الشعوب عبر التاريخ، يجد ظاهرة جديرة بالاهتمام، يحسن التوقّف عندها لدراستها مليّاً. وهي تأثّر تلك الحضارات بعضها ببعض، أو انبثاق بعضها من بعض. وقد تكون بعض الحضارات امتداداً لتلك الّتي سبقتها، إلاّ أنّها تميّزت عنها بسمات جديدة وميزات أخرى.
فحين نقول إنّ الحضارة هي مجموع الأفكار والمشاعر والأنظمة لدى المجتمع، فهذا يعني أنّها منظومة ثقافيّة واسعة، تتناول مختلف نواحي الحياة والمجتمع، من حكم واقتصاد واجتماع وقانون وسياسة وفنّ وغير ذلك. فإذا كانت تلك الثقافة الّتي هي نتاج العقول أو الأذهان البشريّة متأثّرة بالواقع والبيئة الّتي تعيش فيها، فإنّنا سنصل بالتأكيد إلى حتميّة تأثّر الحضارات بعضها ببعض، سواء تأثّراً إيجابيّاً أو تأثّراً سلبيّاً. فمن الطبيعيّ أن يتأثرّ المفكّر أو المبدع بالأفكار الّتي تحيط به والأوضاع الّتي يعيش فيها والظروف الّتي تلابسه وهو يفكّر، فيخرج بأفكار ونظريّات هي إمّا من جنس الأفكار الّتي تحيط به، وإمّا ردّ فعل عكسيّ إزاءها، وفي كلا الحالين هو متأثّر بها. وهذا ما يفسّر لنا ظاهرة تأثّر الحضارات بعضها ببعض.(1/281)
إلاّ أنّنا إذا أخذنا مثال الحضارة الإسلاميّة الّتي انتشرت منذ القرن السابع ميلاديّ، فإنّنا سنجد ذلك الكلام لا ينطبق عليها. ذلك أنّ الناظر إلى بداية نشوئها لا يجد فيها أيّ تأثّر أو أي ارتباط بالحضارات السابقة أو المعاصرة لها، لا تأثّراً إيجابيّاً ولا تأثّراً سلبيّاً، ذلك أنّ الإسلام أوجد نمطاً من العيش مختلفاً كلّ الاختلاف عن كلّ أنماط العيش السابقة له والمعاصرة، وأحدث انقلاباً جذريّاً في المجتمع بحيث لم يترك ناحية من نواحيه إلاّ وطالها وأحدث فيها التغيير من أساسها، انطلاقاً من الجزيرة العربيّة الّتي اعتادت نمط عيش الجاهليّة لعدّة قرون خلت ومروراً وانتهاء بالبلاد المجاورة والمحيطة والبعيدة الّتي سادتها الحضارات الرومانيّة والفارسيّة وغيرها.(1/282)
إنّ الحضارة الإسلاميّة الّتي أحدثت ذلك الانقلاب في الجزيرة العربيّة وسائر البلاد الّتي دخلت حظيرتها بدأ انتشارها منذ إعلان محمّد- صلى الله عليه وسلم - لها في مكّة قلب الجزيرة العربيّة، وآتت ثمارها بعد ثلاثة عشر عاماً من ولادتها، حين ارتكزت في المدينة المنوّرة "يثرب"، ثمّ انتشرت بعد ذلك بعشر سنوات في كلّ الجزيرة العربيّة، لتتابع بعد ذلك مسيرتها في سائر العالم القديم. ولم يمض قرن واحد إلاّ وقد أصبحت تظلّل مساحة شاسعة تمتدّ من الصين شرقاً إلى الأطلسيّ غرباً، حيث طوت صفحة كلّ الحضارات السابقة في تلك البلاد من فارسيّة وبيزنطيّة وهنديّة وغيرها إلى غير رجعة. فلئن قامت كلّ الحضارات الأخرى ونشأت رويداً رويداً من تراث الماضي بما حوى من ضروب الرأي وتيّارات الفكر، واستغرقت في تبلورها إلى شكلها الخاصّ وكيانها المحدّد آماداً طويلة من الزمن، فلقد انفردت حضارة الإسلام وحدها بانبجاسها إلى الحياة دون سابق عهد أو انتظار. وقد جمعت هذه الحضارة، من فجر نشأتها، كلّ المقوّمات الأساسيّة لحضارة مكتملة شاملة. فقامت في مجتمع واضح المعالم، له نظرته الخاصّة إلى الحياة، وله نظامه التشريعيّ الكامل وله نهجه المحدّد للعلاقات بين الأفراد،بعضهم ببعض داخل هذا المجتمع. ولم يكن قيامها ثمرة تقاليد زخر بها الماضي، ولا وليد تيّارات فكريّة متوارثة، ولكنّ هذه الحضارة، كانت وليدة حدث تاريخيّ فريد وهو تنزيل القرآن الكريم.
فما مدى استمرار ذلك النقاء في الثقافة الإسلاميّة من بعد عهد النبوّة؟(1/283)
إنّ الناظر في تاريخ الفكر الإسلاميّ منذ عهد رسول الله ومروراً بعدّة قرون من بعده، يجد أنّ الأمّة الإسلاميّة حافظت على نقاء فكرها إلى حدّ بعيد، ولم توجد قطّ أمّة انضبطت في تفكيرها وحافظت على هويّتها واستقامت في سيرها وفق وجهة نظرها وقيادتها الفكريّة كما فعلت الأمّة الإسلاميّة. فالعقيدة الإسلاميّة كانت القاعدة الفكريّة الّتي يبني المسلمون عليها أفكارهم. ونصوص الوحي –وهي القرآن والسنّة– كانت المصدر لأنظمة الحياة والدولة. وكانت الأمّة حريصة على عدم الأخذ من أيّ فكر أو حضارة غير الإسلام.
إلاّ أنّ هذا الواقع لم يستمرّ كما يجب، فقد وصلنا إلى حالة لم يعد معها الفكر الإسلاميّ واضحاً في أذهان المسلمين،ولم يعد نقيّاً حتّى في أذهان كثير من العلماء ومدرّسي الشريعة وطلّابها،حيث دخلت عناصر غريبة إلى الأذهان، وأصبح كثير من الأفكار يُنسب إلى الإسلام وهو منها براء. فما أسباب هذا التراجع؟ ومتى بدأ؟
من البدهيّ أنّ تأثّر الشعوب بعضها بأفكار بعض يكون نتيجة للاحتكاك الفكريّ بين تلك الشعوب. هذا الاحتكاك قد يؤدّي إلى انهزام فكر وانتصار فكر، وقد يؤدّي إلى تأثّر فكر بالآخر، وقد يؤدّي إلى تأثر المفكِّرين كلّ واحد منهما بالآخر. والتاريخ يرينا أنّ الفكر الإسلاميّ منذ أن احتكّ بغيره من الأفكار، لم يصمد أمامه فكر مطلقاً، مادام قد تسنّى له من يفهمه حقّ فهمه ويحمله بالتالي على أحسن وجه.
لقد تعرّض الفكر الإسلاميّ لكثير من الضغوط والعوامل الّتي من شأنها أن تؤدّي إلى تكدير صفوه وتشويهه أو ربّما تحريفه لولا أنّ الله تعالى تكفّل بحفظه وهو القائل: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون } (1).
فما هي تلك الضغوط والعوامل وما مدى تأثيرها على الثقافة الإسلاميّة؟
__________
(1) - سورة الحجر – الآيّة9(1/284)
لم يتوف… الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلاّ بعد أن اكتمل بنيان الحضارة الإسلاميّة، ونزل قوله تعالى: { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } (1). فرحل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أقام مجتمعاً إسلاميّاً نموذجيّاً، يختلف كلّ الاختلاف عن سائر مجتمعات المعمورة، ولا يمتّ لها بأيّة صلة قرابة.
بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تابع الصحابة الكرام المسيرة، فبايعوا خلفاء يحكمونهم بكتاب الله وسنّة رسوله ويرعون شؤونهم بالأنظمة الّتي انبثقت عن العقيدة الإسلاميّة. وكان الخلفاء الراشدون حريصين أشدّ الحرص على الحفاظ على نقاء الإسلام وصفائه وبراءته من أيّ عنصر دخيل. حتّى إنّ اتّساع الدولة الإسلاميّة وترامي أطرافها لم يُغْرِهم باقتباس الأفكار وأنظمة الحكم والاقتصاد. ففرّقوا بين "الحضارة" و"المدنيّة" وكذلك بين الثقافة والعلوم. وفرّقوا بين أنظمة الحكم والقوانين الإداريّة. فرفضوا الحضارات والثقافات وأنظمة الحياة كلّها ما دامت من غير الإسلام، وأخذوا ما يلزمهم من المدنيّة والعلوم والقوانين الإداريّة، وذلك كما فعل عمر بن الخطّاب حين أخذ نظام الدواوين الّذي لم يكن أكثر من أسلوب إداريّ كالدوائر والإدارات والسجلاّت الّتي تضمن حسن تطبيق النظام الّذي تبنّته الدولة.
وقد حافظ الفكر الإسلاميّ على نقائه طوال عهد الخلفاء الراشدين. وكذلك من بعدهم إلاّ أنّه خلال العهد الأمويّ بدأت بعض العناصر تتسرّب إلى أذهان المسلمين فيخلطونها بالإسلام.
__________
(1) - سورة المائدة – الآية3(1/285)
من أوائل المحاولات لاختراق الفكر الإسلاميّ كانت عمليّات دسّ الأحاديث. فقد عمد أعداء الإسلام إلى الأحاديث النبويّة يدسّون فيها أحاديث مكذوبة لم يقلها الرسول- صلى الله عليه وسلم - ولكنّهم زوّروها وضمّنوها معاني غير إسلاميّة ومفاهيم تناقض الإسلام، حتّى يأخذها المسلمون ويعملوا بما فيها فيبعدوا عن الإسلام. وبالفعل كذبوا على الرسول- صلى الله عليه وسلم - أحاديث وأشاعوها بين الناس. غير أنّ المسلمين فطنوا لهؤلاء وقضوا على مؤامراتهم، فهبّ العلماء ورواة الحديث يجمعون الحديث ويضعون تاريخ رواته وأوصافهم ويبيّنون الحديث الصحيح من الضعيف من المكذوب، حتّى حُفظ الحديث, وحصر الرواة وعرف كلّ واحد منهم، وبُيّنت طبقات كتب الحديث، حتّى أصبح بإمكان المسلم إذا تتبّع الحديث أن يعرف صحّته من ضعفه أو كذبه، بمعرفة سنده ومتنه. وفوق ذلك فإنّ الدولة الإسلاميّة ضربت على يد هؤلاء الزنادقة بيد من حديد، حتّى كان جزاء الكثيرين منهم القتل جزاء على افترائهم الأحاديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبذلك لم يكن لهذه المؤامرة على الإسلام ولا على ثقافته أثر يذكر. ولكنّ الخطر داهم الثقافة الإسلاميّة من طريق آخر.
حدث ذلك حين بدأ الاحتكاك الفكريّ بالشعوب الّتي فتح المسلمون بلادها، من روميّة نصرانيّة وفارسيّة وهنديّة وقبطيّة وغيرها. وكانت تلك الشعوب تحمل قبل الفتح الإسلاميّ ثقافات وأفكاراً عميقة الأثر في نفوسهم. وكان على المسلمين أن يشمّروا عن سواعدهم لخوض صراع فكريّ مع هؤلاء حتّى يوصلوا إليهم الإسلام. فالفتوح الإسلاميّة إنّما شرعت لهذا السبب، وكان كلّ فتح يعقبه انتشار للعلماء والدعاة حتّى يدخل الناس في دين الله أفواجاً. فخاض بعضهم غمار مجادلة أهل الكتاب الّذين كانوا ينتشرون في بلاد الشام وشمال إفريقيّة وبعض العراق، وخاض بعضهم غمار مجادلة المجوس الفارسيّين وبعضهم جادل الوثنيّين من هنود وصينيّين وغيرهم.(1/286)
لقد كان البدهيّ أن يحقّق المسلمون انتصاراً ساحقاً على كلّ الثقافات والحضارات والأديان الّتي كانت تعتنقها شعوب البلاد المفتوحة، ولم يستغرق الأمر سنين طوالاً، بل لقد دخلت شعوب تلك البلاد الإسلام بأسرع من لمح البصر في حساب تاريخ الشعوب والأمم، وهجرت حضاراتها وثقافاتها وانصهرت في حضارة الإسلام وتثقّفت بثقافته.
إلاّ أنّ هذا الصراع الحضاريّ والفكريّ الّذي انتصر فيه المسلمون على سائر الثقافات والحضارات، لم يمض دون أن يصابوا ببعض "الشظايا الفكريّة" المتناثرة في ميدان المعركة، فقد كان الصدام الفكريّ جدّ عنيف. وكان أصحاب الأديان الأخرى يثيرون الشبهات ويجادلون المسلمين في العقائد، لأنّ أساس الدعوة مبنيّ على العقيدة والأفكار المتعلّقة بها. فكان حرص المسلمين على الدعوة الإسلاميّة، وحاجتهم للردّ على خصومهم قد حمل الكثيرين منهم على تعلّم بعض الأفكار الفلسفيّة لتكون بيدهم سلاحاً ضدّ خصومهم. فقد تسرّبت مسائل فلسفيّة ولاهوتيّة من نصارى النساطرة وأمثالهم وعرف منطق أرسطو بين المسلمين، واطّلع بعض المسلمين على بعض كتب الفلسفة، وترجمت كتب كثيرة من اليونانيّة إلى السريانيّة ثمّ إلى العربيّة فكان هذا مساعداً على وجود الأفكار الفلسفيّة. وكانت الأديان الأخرى وخاصّة اليهوديّة والنصرانيّة قد تسلّحت بالفلسفة اليونانيّة، وأدخلت للبلاد الأفكار الفلسفيّة، فكان ذلك كلّه موجداً أفكاراً فلسفيّة حملت المسلمين على دراستها.(1/287)
إلاّ أنّ تلك الدراسة لم تكن دراسة فلسفيّة كاملة، وإنّما دراسة أفكار فلسفيّة للردّ على أهل الأديان والمذاهب، لأنّه ما كان يتسنّى للمسلمين الردّ إلاّ بعد الاطّلاع على أقوال الفلاسفة اليونانيّين لاسيّما ما يتعلّق منها بالمنطق واللاهوت. ولذلك اندفعوا إلى الإحاطة بالفرق الأجنبيّة وأقوالها وحججها. وبذلك أصبحت البلاد الإسلاميّة ساحة تعرض فيها كلّ الآراء وكلّ الديانات ويتجادل فيها. ولا شكّ أنّ الجدل يستدعي النظر والتفكير، ويثير مسائل متعدّدة تستدعي التأمّل وتحمل كلّ فريق على الأخذ بما صحّ عنده، فكان هذا الجدل والتفكير مؤثّرا إلى حدّ كبير في إيجاد أشخاص ينهجون نهجاً جديداً في البحث والجدل والنقاش. فتكوّن جراء ذلك "علم الكلام" وصار فنّاً خاصّاً، ونشأت في البلاد الإسلاميّة بين المسلمين جماعة "المتكلّمين".
صحيح أنّ هؤلاء المتكلّمين كان تأثّرهم الأساسي هو بالقرآن،إلاّ أنّهم –وقد قرؤوا الفلسفة للدفاع عن القرآن ضدّ خصومهم– صار لهم منهج خاصّ في البحث والتفكير، يخالف منهج القرآن والحديث وأقوال الصحابة ويخالف في الوقت نفسه منهج الفلاسفة اليونانيّين في بحثهم وتقريرهم وتدليلهم.
حين ظهر علم الكلام على الساحة الثقافيّة الإسلاميّة لاقى مواجهة عنيفة من علماء المسلمين وفقهائهم. إذ إنه أثار قضايا في العقائد لم تتطرق إليها نصوص القرآن والسنّة في جملة العقائد. لذلك عارض معظم الفقهاء علم الكلام وكان حكمهم في المتكلّمين شديداً.(1/288)
إلاّ أنّه مع مرور الزمن بدأ علم الكلام ينتشر بشكل واضح ويلقى قبولاً لدى معظم العلماء،حتّى أصبحت عبارة "علم الكلام" مرادفة لعبارة "علم التوحيد" أو "أصول الدين"، بل إنّ كثيراً ممّن بقوا ينكرون على المتكلّمين وعلم الكلام انزلقوا إلى الخوض في مسائله ووفق منهجه دون أن يفطنوا إلى ما وقعوا فيه. وكان من أسوأ آثاره أنّه اندمج مع علم "أصول الفقه" على نحو شوّه ذلك العلم الّذي هو من أجلّ العلوم. ولعلّ ظهور علم الكلام والمتكلّمين كان باكورة التأثّر الفعليّ لدى المسلمين بسائر الثقافات والحضارات. وقد توالت بعد ذلك موجات التأثير الّتي أصابت البنيان الفكريّ للأمّة الإسلاميّة.
فبعد ظهور علم الكلام والمتكلّمين وانتشار المؤلّفات الفلسفيّة وترجماتها، أصبح الاطّلاع على الفلسفة اليونانيّة وغيرها، من الأمور المتيسّرة في بلاد المسلمين، مّما أدّى إلى ظهور من عُرفوا بالفلاسفة الإسلاميّين الّذين لم يقتصر عملهم على الاطّلاع على بعض جوانب الأبحاث الفلسفيّة والردّ عليها، بل تخطّوا ذلك إلى دراسة الفلسفة دراسة كاملة والسير على منهجها بشكل كامل. ومن أشهر هؤلاء "الكنديّ" المتوفّى سنة 260 هـ،ثمّ جاء بعده "الفارابيّ" و"ابن سينا" و"جابر بن حيّان" وغيرهم.(1/289)
وقد أخطأ كثيراً من عدّ فلسفة هؤلاء "فلسفة إسلاميّة"، ذلك أنّها لا تمتّ إلى الإسلام بصلة،بل هي تتناقض مع الإسلام تناقضاً تامّاً، سواء من حيث الأساس أو من حيث كثير من التفاصيل. أمّا من حيث الأساس فإنّ هذه الفلسفة تبحث في ما وراء الكون، أي في الوجود المطلق،بخلاف الإسلام فإنّه إنّما يبحث في المحسوسات فحسب، ويمنع البحث في ذات الله، وفيما وراء الكون، ويأمر بالتسليم به تسليماً مطلقاً، والوقوف عند حدّ ما يأمر بالإيمان به من دون زيادة،ودون أن يسمح للعقل في محاولة بحثه. وأمّا من حيث التفاصيل فإنّ في هذه الفلسفة أبحاثاً كثيرة يعتبرها الإسلام كفراً، ففيها أبحاث تقول بِقِدَم العالم وأنّه أزليّ، وأبحاث تقول إنّ نعيم الجنّة روحانيّ وليس مادّيّاً، وأبحاث تقول إنّ الله يجهل الجزئيّات، وغير ذلك ممّا هو كفر صريح قطعاً في نظر الإسلام.(1/290)
إلاّ أنّ الجدير ذكره، هو أنّ هؤلاء الفلاسفة لم يبلغوا أن يكونوا جماعات أو مذاهب، ولم يتبعهم جمهور من المسلمين، أي أنّهم لم يكونوا يعبّرون عن الرأي العامّ الإسلاميّ، ولا حتّى عن قسم منه.لذلك ليس من الصواب أخذ أبحاثهم بعين الاعتبار حين دراسة الثقافة السائدة في الأمّة الإسلاميّة آنذاك. فليس كلّ من كتب كتاباً أو صنّف مصنّفاً يشكّل تيّاراً فكريّاً في المجتمع، وهو لا يكتسب أيّة أهميّة ما لم تنتشر أفكاره لدى جمهور من الناس. بل إنّنا نرى هؤلاء الفلاسفة منبوذين من قِبَل الرأي العامّ الّذي كان ينظر بعين الريبة، بل والسخط، إلى أبحاثهم وانحرافاتهم الفكريّة، ولا سيّما أنّ الرأي العامّ كان يستلهم معظم مواقفه من آراء المجتهدين والفقهاء الّذين وقفوا بالمرصاد أمام تلك الانحرافات الفكريّة. ويمكننا القول إنّ هؤلاء الفلاسفة لم يحظوا طوال التاريخ بالأهمّيّة الّتي حظوا بها في التاريخ الحديث والمعاصر. وربّما ذاع صيتهم في البلاد الغربيّة قبل الإسلاميّة في التاريخ المعاصر، نتيجة حركة الاستشراق الّتي توجّهت دائماً نحو الإعلاء من شأن الفرق الضالّة والمبتدعة والباطنيّة، وكذلك الإعلاء من شأن الفلاسفة أمثال ابن سينا والفارابيّ والكنديّ وابن حيّان وابن رشد. وحاول هؤلاء المستشرقون دائماً إظهار هؤلاء الفلاسفة في صورة المفكِّرين المتنوّرين والعباقرة المبدعين الّذين انتفضوا على جمود "العصور الوسطى" وتخلّفها وتزمّتها، والّذين كانوا ضحيّة الفقهاء والرجعيّين من رجالات الدولة وحكّامها، تماماً كما كانوا يصوّرون مفكّري عصر النهضة الأوربيّة أو الفلاسفة المتنوّرين الّذين انتفضوا في وجه الاستبداد الدينيّ والظلم والتعسّف الّذي مارسه رجال الدين والكنيسة المتحكّمون بالمجتمع وثقافته.(1/291)
ولكن مهما يكن شأن هؤلاء الفلاسفة ضئيلاً في ذلك الوقت، إلاّ أنّ أبحاثهم كانت ممرّاً لبعض الأفكار الفلسفيّة الّتي لم يكن لها أن تنتشر وتتركّز في أذهان المسلمين لولا أن أسدى لها بعض العلماء خدمة جليلة بإضفاء الصفة الشرعيّة عليها. وأبرز تلك الأفكار ما صُنّف تحت عنوان "التصوّف".
حين دخلت أفكار التصوّف بادئ الأمر إلى الميدان الثقافيّ في العالم الإسلاميّ، عبر ترجمات الكتب الهنديّة والفارسيّة وغيرها واعتنقها بعض الناس وأخذوا أفكارها، عاملها المسلمون –وفي مقدّمتهم الفقهاء– كما عاملوا سائر الفلسفات والفلاسفة، بل كان موقفهم إزاءها أشدّ قسوة وأكثر وضوحاً، وذلك لبُعد الشقّة بينها وبين العقيدة الإسلاميّة من حيث الأساس. ذلك أنّ الفلسفة الصوفيّة الوافدة من الهند وغيرها والّتي تأثّر بها النصارى قبل المسلمين، بل قبل ظهور الإسلام، حوت من الأفكار والآراء ما يخالف الإسلام، بل ويُعدّ كفراً صريحاً بنظره. ففيها أفكار الحلول والاتحّاد، وارتقاء المتصوّفة إلى سدّة الذات الإلهيّة، أو تجسّد الذات الإلهيّة في شخص المتصوّفة، وفيها الاعتقاد بحدوث المعجزات على أيدي المتصوّفة وما شاكل ذلك، ممّا لا يمكن بشكل من الأشكال أن يلقى قبولاً أو حتّى تجاهلاً من قبل المسلمين. لذلك كان "الأفراد" الّذين أخذوا الأفكار الصوفيّة واعتنقوها مثل الحلاّج وغيره من المنبوذين المغضوب عليهم في المجتمع الإسلاميّ، ومعدودين في عداد الزنادقة والكفّار المرتدّين.(1/292)
إلى أن جاء الوقت الّذي بدأت فيه الصوفيّة تلقى القبول، حين لقيت العناية من بعض العلماء المسلمين الّذين تكفّلوها بالرعاية وأخذوا على عاتقهم تهذيبها وتنقيتها مما يخالف العقيدة الإسلاميّة. وكان من أبرز هؤلاء الإمام "أبو حامد الغزاليّ" المتوفّى سنة 505هـ. إلاّ أنّ هذا الأمر أدّى للأسف إلى تبنّي الأساس الّذي تقوم عليه الصوفيّة. فبدأت أفواج المتصوّفين تسلك دروب "رياضة النفس والروح"، من خلال التقشّف وتعذيب الجسد والبعد عن متاع الحياة الدنيا وزخرفها وهجر المجتمع وترك الأسباب واحتقار العمل والنضال السياسيّ والمكوث في الزوايا والتكايا. كلّ ذلك حتّى يتغلّب الروح على الجسد ويصل "الأتقياء" إلى مصافّ الملائكة والأولياء. مع أنّ تلك الفلسفة الّتي تقوم عليها "الصوفيّة" ليست من الإسلام في شيء، بل هي مخالفة له كلّ المخالفة. وهكذا كانت تلك الفكرة من عوامل الهبوط في المجتمع الإسلاميّ، فهي تدفع الإنسان إلى هجر المجتمع وازدراء الحياة إلى
حدّ يجعل من المتصوِّف إنساناً عديم الغايّة فاقد الهدف، فلا نشاط لديه ولا عمل يؤدّي إلى عمارة الدنيا على أساس من تقوى الله سبحانه وتعالى الّذي استخلف الإنسان في الأرض فقال له: { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها(1) } وكان ضغثاً على إبالة أن اندمجت فكرة الصوفيّة تلك مع القَدَريّة الغيبيّة الّتي تؤمن بأنّ الإنسان كالريشة في مهبِّ الريح أو كالخشبة الّتي تتلاطمها الأمواج، فلا قيمة لإرادة الإنسان ولا لقدرته ولا جهده، فكلّ ما في هذه الدنيا يحصل نتيجة خطّة محكمة لا يملك الإنسان التأثير في شيء منها. ولا يخفى على واع ما في تلك المفاهيم من خطر مدمّر على أيّ مجتمع من المجتمعات.
__________
(1) - سورة هود – الآية61(1/293)
هكذا دخلت المؤثِّرات الحضاريّة والفكريّة الواحدة تلو الأخرى إلى الميدان الثقافيّ في الأمّة الإسلاميّة،ما أفقد المسلمين نقاء الفكر وصفاءه ووضوحه إلى حدّ من الحدود.
إلاّ أنّه بأيّ حال من الأحوال، لم يصل الأمر إلى أن يفقد المسلمون هويّتهم، أو تتغيّر حضارتهم وتُسلب شخصيّتهم. فكلّ تلك المؤثِّرات لم تكن في يوم من الأيام لتقوى على إيمان المسلمين بعقيدتهم وثقتهم بتشريعهم ومفاهيمهم الإسلاميّة. لا زالت العقيدة الإسلاميّة هي القاعدة الفكريّة الّتي يبني المسلمون عليها أفكارهم، ولا زال القرآن والسنّة وما أرشدا إليه، مصادر التشريع لديهم. وعلماء الكلام إنّما كانوا يبذلون طاقتهم وجهدهم في دراسة المنطق بغاية تثبيت العقيدة الإسلاميّة، وجعلوا العقيدة الإسلاميّة أساساً لأبحاثهم. والفلاسفة الّذين ظهروا بين المسلمين بقوا أفراداً ولم يكن لهم شأن يذكر في الرأي العامّ. والصوفيّة على خطرها ومجانبتها للإسلام لم تكن تقوى على مزاحمة العقائد الأساسيّة لدى المسلمين.
والأهم من ذلك كلّه أنّ أصحاب السهم الأكبر والأعظم في تشكيل الرأي العامّ والتوجيه الثقافيّ في العالم الإسلاميّ كانوا "الفقهاء". وهؤلاء كانوا بكلّ تأكيد بعيدين عن التأثّر بالثقافات والأفكار غير الإسلاميّة. فلقد كانت أبحاثهم تنصبّ على دراسة اللغة العربيّة لغة القرآن والسنّة، وعلى فهم المدلولات اللغويّة والشرعيّة للقرآن والسنّة من أجل استنباط الأحكام الشرعيّة وضبط سلوك المسلمين بها. فحياة المسلمين في مجتمعهم ودولتهم، كانت تسيّرها مجموعة من الأحكام الشرعيّة المستنبطة من الكتاب والسنّة، ولم يكن لحاكم أن يفكّر في استبدال أنظمة وضعيّة بالأنظمة الإسلاميّة أو أن يتجرّأ على ذلك.(1/294)
وأمّا ما حاول بعض المستشرقين وأتباعهم من المثقّفين المتغرّبين ترويجه، من أنّ الفقه الإسلاميّ قد تأثّر بغيره من التشريعات، ولاسيّما التشريع الرومانيّ، فلا أساس له من الصحّة، بل هو حقّاً خرافة لا حظّ لها من الحقيقة.
خاتمة
لقد كان وجود المجتهدين والفقهاء، وما يُجْرونه من مناظرات ومناقشات فقهيّة وتنافس على درك الرأي الأصوب في المسائل الفقهيّة، كان كلّ ذلك صمام الأمان للمجتمع الإسلاميّ، والضمان لمعالجة أيّ خلل يمكن أن يطرأ عليه. ولذلك كانت الطامة، حين انزلق المسلمون في قضيّة إقفال باب الاجتهاد. فقد كان ذلك يعني أنّ الحيويّة الفكريّة الأساسيّة لدى المسلمين والّتي هي سبب ارتقائهم ونهضتهم قد حكم عليها بالإعدام. وربّما كان ذلك الحكم هو أكثر الأحكام جوراً وظلماً في التاريخ الإسلاميّ. فقد أصبح واجباً على كلّ المسلمين بما في ذلك العلماء والفقهاء أن لا يخرجوا عن أطر المذاهب الّتي استقرّت قبل إقفال باب الاجتهاد. صحيح أنّه ظهر مجموعة من المجتهدين الّذين لم يأبهوا لفكرة إغلاق باب الاجتهاد وتابعوا أداء تلك الفريضة، إلاّ أنّ ذلك الإقفال لاقى من الاستجابة ما كان له أثر بالغ في جمود التفكير وشحّ العلم والعلماء. فإنّنا إذا شهدنا في عصر ازدهار الفقه ظهور مدارس فقهيّة عظيمة مثل الشافعيّة والحنفيّة والمالكيّة، فإنّنا لم نعد نعثر على تلك الظاهرة بعد إغلاق باب الاجتهاد، بل كان معظم الفقهاء والمجتهدين الّذين ظهروا بعد ذلك ينتسبون إلى أحد تلك المذاهب القديمة.(1/295)
من الطبيعيّ أن يتوقّع الباحث أنّ إغلاق باب الاجتهاد سيؤدّي إلى تغلغل مزيد من الأفكار الوافدة إلى ثقافة المسلمين وإلى مزيد من التلوّث الفكريّ في العالم الإسلاميّ. إلاّ أنّ الواقع كان غير ذلك. صحيح أنّ البنيان الفكريّ لدى المسلمين قد فقد مناعته بعد إغلاق باب الاجتهاد، إلاّ أنّ ذلك لم يكن كافياً لتغلغل العناصر الفكريّة والثقافيّة إلى ذلك البنيان، ذلك أنّ تلك العناصر لم يعد لها وجود آنذاك. فالحضارات الّتي احتكّ بها المسلمون في صدر التاريخ الإسلاميّ مع اندفاع الفتوحات الإسلاميّة -وعلى رأسها الحضارتان الرومانيّة والفارسيّة– لم يعد لها وجود يذكر على الساحة الدوليّة. فدولة فارس سقطت والإمبراطوريّة البيزنطيّة وريثة الحضارة الرومانيّة تلفظ أنفاسها الأخيرة. وأوربّا الغربيّة الكاثوليكيّة كانت تعيش في دياجير العصور الوسطى وانحطاطها، وما من رسالة حضاريّة لديها تحملها إلى العالم. والمغول والتتار والتركمان الّذين لم يعتنقوا الإسلام بعد، كانوا أشدّ منهم انحطاطاً وأكثر تخلّفاً. أمّا حركة الترجمة والاطّلاع على المعارف والثقافات السابقة فقد توقّفت عند حدّ معيّن واستنفدت أغراضها. وهكذا بقيت الأمّة الإسلاميّة سيّدة المبادرة الحضاريّة والثقافيّة، فضلاً عن السياسيّة في الساحة الدوليّة، وبقيت تعيش على التراث الفقهيّ السابق وكتابة الشروح على المتون وربما الشروح على الشروح، أو على تلخيص تلك المصنّفات وربّما تلخيص شروحها.(1/296)
إنّ قروناً عدّة، منذ العهد العبّاسيّ، مضت، والأمّة الإسلاميّة لا تجد من ينازعها فكريّاً وحضارياّ. وازدادت ثقتها بنفسها حين انتصرت على أعدائها عسكريّاً، بعد أن طردت الصليبيّين والمغول والتتار، وانتصبت الخلافة الإسلاميّة في عهد العثمانيّين لتوحّد معظم العالم الإسلاميّ، ولتعود أقوى دولة في العالم، ولتملك الجيش الّذي لا يقهر. فركن المسلمون إلى أوضاعهم الثقافيّة والفكريّة والتشريعيّة عموماً، إذ ما من ناقوس يُدقّ حولهم وينبهّهم إلى الخطر المحدق بهم. وبات العقل المسلم يواجه -من حيث لا يدري- خطر الترهّل والضمور. بعد أن فقد حيويّته وركن إلى الراحة والدعة.(1/297)
وجاء التاريخ فيما بعد ليثبت أنّ الكيان الإسلاميّ كان ينتظر حضارة واحدة على قدر من الرقيّ والنهوض، تقف بمواجهته حتّى تتزعزع أركانه وينهار بنيانه. فإذا كانت الأمّة الإسلاميّة قد تغلّبت في الماضي على جميع الأمم فكريّاً بقوّة مبدئها، وهو الإسلام الّذي تحسن فهمه وتطبيقه وتحمله رسالة إلى العالم، وانتصرت عسكريّاً بسبب قوّة إيمانها وطاقتها الروحيّة وحبّها للجهاد والشهادة في سبيل الله، فقد جاء الوقت الّذي يقوم فيه كيان جديد يواجه المسلمين حضاريّاً وفكريّاً بما يحمله من مبدأ جديد، ويواجههم عسكريّاً بما يتمتّع به من قوّة صناعيّة وتكنولوجيّة. ألا وهو كيان الحضارة الغربيّة المعاصرة الّذي تكاملت صورته مع بداية القرن التاسع عشر الميلاديّ. ولسنا هنا بصدد البحث في الصراع العسكريّ والمادّيّ الذي نشب بين الدولة الإسلاميّة والدول الغربيّة، فبحثنا منصبّ على الاحتكاك الفكريّ والثقافيّ بين المسلمين وسائر الثقافات والحضارات، وإن كان ذلك الصراع العسكريّ والمادّيّ يكتسب أهميّته في البحث لما أسفر عنه من تفوّق للغرب على الدولة الإسلاميّة ومن ثَمّ انتصاره عليها، الأمر الّذي أصاب المسلمين بصدمة عنيفة أفقدتهم ثقتهم بأنفسهم وحضارتهم وتشريعهم، فكانت تلك أعظم صدمة وأبلغ إصابة أصيبت بها الأمّة الإسلاميّة.
لقد واجهت الأمّة الإسلاميّة عبر تاريخها الطويل الكثير من الأعداء من كلّ حدب وصوب، إلاّ أنّ العدوّ اللدود الّذي استمرّ الصراع معه منذ صدر التاريخ الإسلاميّ وحتّى يومنا هذا هو الدول الأوربيّة، سواء تمثَّل هذا العدوّ التاريخيّ بالإمبراطوريّة البيزنطيّة الّتي حاربها المسلمون حتّى أسقطوها عام 1453م، أم بممالك أوربّا الغربيّة الكاثوليكيّة الّتي اقتحم المسلمون ديارها عبر الأندلس، أم تمثّلت بالدول الغربيّة الاستعماريّة المعاصرة الّتي قامت على أساس حضاريّ جديد هو الرأسماليّة اللبراليّة.(1/298)
ولمّا لم يكن للدول الأوربيّة من رسالة حضاريّة تحملها إلى العالم خلال العصور الوسطى، وتواجه بها المسلمين على الأخصّ، كان سلاحها الوحيد هو الحروب الصليبيّة. لذلك لم تكن تشكّل آنذاك ذلك الخطر العظيم، ولاسيّما على أمّة تقوم على حضارة عريقة راقية كالأمّة الإسلاميّة بل إنّ تلك الحروب ذاتها لم تكن لتلاقي النجاح لولا الظروف الّتي لاقتها في العالم الإسلاميّ من تفكّك وتشرذم ونزاع داخليّ وتسابق على الولايات والإمارات. لذلك ما إن عاد المسلمون إلى توحيد صفوفهم حتّى أُرغم الصليبيّون على أن يجرّوا أذيال الخيبة إلى بلادهم. إلاّ أنّ الكارثة الكبرى وقعت حين بدأ المجتمع الغربيّ يتشكّل على أسس جديدة، جعلت منه كياناً حضاريّاً جديداً، يملك من الأفكار والمفاهيم والأنظمة ما يستطيع أن يواجه به العالم بأسره، ولاسيّما الأمّة الإسلاميّة الّتي كانت المارد المخيف لأوربّا على مرّ السنين.
مع بداية القرن التاسع عشر، ومع اندلاع ثورات التحرّر في الغرب، والّتي كانت فاتحتها الثورة الفرنسيّة عام 1789م، تبلورت معالم الحضارة الغربيّة المعاصرة وتكامل بنيانها الفكريّ، وقام المجتمع الغربيّ على أساس أفكار وأنظمة جديدة تتمثّل في الرأسماليّة اللبراليّة بعد أن كانت تسوده الأنظمة الإقطاعيّة. وبما أنّ تلك الحضارة تقوم على أساس عقيدة عقليّة سياسيّة تنبثق منها أنظمة للحياة والمجتمع والدولة، فقد أحدثت في الغرب تلك النهضة الّتي كانت كافية لتقف في وجه أمّة تبلّد تفكيرها وتحجّرت أفكارها وأساءت تطبيق نظامها وعاشت على "هامش" حضارتها العظيمة، أعني الأمّة الإسلاميّة.(1/299)
ها هو الغرب في القرن التاسع عشر تزدهر حضارته، وتتكوّن مؤسّساته السياسيّة على أساس قويّ، ويستقرّ مجتمعه إلى حدّ كبير ويمضي مرتقياً نحو النهضة، ويقوى اقتصاديّاً وعسكريّاً، ويبدع مدنيّاً وعمرانيّاً وتقنيّاً، في وقت تتصدّع فيه الدولة الإسلاميّة وتفقد ثغورها الواحد تلو الآخر، وتتفاقم فيها المشاكل والأزمات السياسيّة والاقتصاديّة، وتضعف عسكريّاً، وتتخلّف على الصعيد المدنيّ والتقنيّ، وتهوي بسرعة هائلة لصالح الحضارة الغربيّة.
كلّ تلك الأوضاع، مضافاً إليها الذهول الّذي أصاب الأمّة الإسلاميّة بعدما أيقنت بتفوّق عدوّها عليها على هذا النحو، جعلت الأرض مفتوحة ليشنّ الغرب حرباً من نوع جديد على الأمّة الإسلاميّة، يستخدم فيها سلاحاً أمضى من أسلحة الحروب الصليبيّة. إنّها حرب حضاريّة سلاحها الأفكار ووجهات النظر وأنظمة الحياة، وميدانها الثقافة والمعرفة والمناظرات. ولمّا كان العامل المعنويّ هو العامل الأهمّ في الحروب، حتّى الفكريّة منها، كانت الأجواء تنذر منذ البداية بانتصار الغرب على المسلمين. ذلك أنّ المسلمين بسبب ما لمسوا من تخلّفهم وتفوّق عدوّهم عليهم، بدؤوا يفقدون الثقة بمفاهيمهم وأنظمتهم الإسلاميّة، ما جعل معنويّاتهم ضعيفة أمام عدوّ يتمتّع بارتفاع المعنويّات ويفتخر بحضارته وأفكاره وأنظمته"العصريّة الحديثة".
وهكذا تزاحمت التساؤلات في أذهان المسلمين: لماذا نهض الغرب؟ لماذا تخلّفنا؟ هل أخذ الغرب بأسباب القوّة وتركناها؟ هل يمكن أن تكون مفاهيمنا غير صحيحة؟ لعلّنا فهمنا الإسلام على نحو خطأ! لعلّ الغرب أخذ بمحاسن إسلامنا! ألا يجوز أن نأخذ من الغرب أسباب نهضته؟ ألم يأخذ هو منّا أسباب النهضة بعد أن كنّا روّادها؟! ألا يمكن التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربيّة؟ ألا يجوز أن نقتبس بعض الأنظمة من الغرب؟ هل يحرّم الإسلام الانتفاع بما عند الآخرين؟(1/300)
وأثناء تلك التساؤلات الّتي أربكت أذهان المسلمين وشوّشتها، راح الغرب يرشق سهامه الفكريّة يهاجم بها الإسلام وحضارته وأحكامه ومعالجاته وأنظمته ونمط عيشه. فأدّى ذلك بطبيعة الحال إلى أن تكون الحضارة الغربيّة في حال الهجوم، والأمّة الإسلاميّة في حال الدفاع.
وهكذا اختار المسلمون التوفيق بين الحضارة الغربيّة والإسلام، حتّى خلطوا أحكام الإسلام وأفكاره بأحكام الغرب وأفكاره وأنظمته. وإذا كانت مئات السنين مضت ولم يتأثّر المسلمون إلاّ بالقليل القليل من أفكار الحضارات والثقافات الّتي احتكّوا بها، فإنّ عشرات من السنين شنّ خلالها الغرب حربه الحضاريّة والفكريّة على المسلمين، كانت كافية لأن تجعل من ثقافتهم مزيجاً عجيباً مقيتاً من أفكار الإسلام وأفكار الحضارة الغربيّة.
إنّها حقّاً، حقبة "التواري الحضاريّ"، لأمّة جعلت حضارتها محور"النظام العالميّ"، مئاتٍ من السنين.
إلاّ أنّها –دون أدنى شكّ- كبوة. وسيعود بعدها المارد إلى حلبة الصراع، ليثبت للعالم أنّ التاريخ لمّا ينته بعد، وأنّ قطار البشريّة لم يختتم رحلتهُ عند محطّة الحضارة الغربيّة.(1/301)