نزول القرآن الكريم
والعناية به في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
بحث مقدم لندوة
( عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه)
المدينة المنورة
إعداد
أ. د. محمد بن عبد الرحمن الشايع
قسم القرآن وعلومه - كلية أصول الدين
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الرياض
تقديم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا. والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وبعد.
فإن موضوعات علوم القرآن الكريم كثيرة انتدب العلماء والباحثون أنفسهم لدرسها والعناية بها فألفت فيها المؤلفات، وصنفت الموسوعات، وأفردت بعض الموضوعات بالدراسة والتأليف لأهميتها ومسيس حاجتها لمزيد بحث وعمق في الدرس. ومن هذه الموضوعات موضوع "نزول القرآن الكريم" وهو موضوع واسع الجنبات متنوع المسائل إذ يشمل:
1 - مسألة تنزلات القرآن الكريم.
2 - ومسألة القول بتكرار بعض السور والآيات.
3 - ومسألة نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف.(1/1)
وإذا نظرنا إلى مكان وزمان النزول دخل فيه المكي والمدني، وإذا نظرنا إلى مناسبات النزول دخل فيه أسباب النزول. فشمل ذلك صفة نزول القرآن الكريم وعدد مراته ومكانه وزمانه وأسبابه.
وكل ذلك يحتاج إلى عمق في الدرس وسعة في الوقت، وفسحة في المجال وهو ما لا يسمح به وقت وتنظيم هذه الندوة المباركة: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه. في طيبة الطيبة.
فرغبت عرض المسألة الأولى رجاء أن أوفق وأسدد في ذكر شيء مفيد في هذه المسألة وحتى لا تكون الكتابة تكرارًا لعموميات لا جديد فيها. فتناولت مدلول النزول لغة. وأنواعه في القرآن الكريم والفرق بين الإنزال والتنزيل ومذاهب العلماء في تنزلات القرآن الكريم ووقت النزول ويومه وشهره ومدته ومقداره كل ذلك بالأدلة والمناقشة والأمثلة والله الموفق للحق والمعين على الخير.
د. محمد بن عبد الرحمن الشايع(1/2)
ملخص بحث: نزول القرآن الكريم
أشار البحث إلى معنى النزول لغة وأن مادة "نزل" وردت في القرآن الكريم مائتين وخمسًا وتسعين مرة في أربعة وأربعين تصريفًا وأن لفظ الزوال في القرآن الكريم ورد على ثلاثة أنواع:
1 - نزول مقيد بأنه من الله جل وعلا. وهذا لم يرد إلا خاصًّا بالقرآن الكريم كقوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (السجدة:2).
2 - نزول مقيد بأنه من السماء وهذا يشمل نزول الملائكة، ونزول العذاب ونزول المطر من السحاب. وغير ذلك كقوله تعالى: { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } (الرعد:17).
3 - نزول مطلق عام لا يختص بنوع خاص كقوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } (الحديد:25).(1/3)
وبين البحث أن هناك من فرق بين نزّل وأنزله فجعل التنزيل للتكثير، والإنزال للمرة الواحدة. كما عرض البحث لمذاهب العلماء في تنزلات القرآن الكريم وأدلتهم، وأن أشهرها وأرجحها أن للقرآن الكريم تنزلان نزول جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا وكان ذلك في ليلة القدر وهي الليلة المباركة من شهر رمضان. ونزول تنجيم على الرسول صلى الله عليه وسلم في نحو ثلاث وعشرين سنة. والقول الثاني أن للقرآن نزولًا واحدًا هو النزول المباشر على الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر وهي الليلة المباركة من شهر رمضان.
وذكر البحث أن أكثر نزول القرآن الكريم كان نهارًا حضرًا وقد نزل يسير منه في السفر وقليل منه في الليل وأما يوم نزوله فكان يوم الاثنين لحديث أبي قتادة الأنصاري وفيه وسئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: « ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت - أو أنزل عليَّ فيه » .(1/4)
وأما شهره فقيل إنه في شهر ربيع الأول قيل في أوله وقيل في ثامنه سنة إحدى وأربعين من عام الفيل، وقد جعله ابن القيم قول الأكثرين. وقيل في الثاني عشر منه. والمشهور أنه في رمضان قال ابن كثير : والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان كما نص على ذلك عبيد بن عمير ومحمد بن إسحاق وغيرهما. وكان نزوله مفرقًا: الآية والآيتان والخمس والعشر وأقل وأكثر كما نزل جزء آية، وسورة كاملة ونزلت سورتا المعوذتين معًا.
د. محمد بن عبد الرحمن الشايع(1/5)
النزول في اللغة:
جاءت مادة "نزل" في اللغة بتصريفات كثيرة: نزل، وأنزل، وتنزل، ونزّل.. وغير ذلك. كما جاءت هذه المادة بكثرة في القرآن الكريم بتصريفاتها المختلفة حيث بلغت أربعة وأربعين تصريفًا في (295) آية. (1)
والنزول في الأصل: انحطاط من علو إلى سفل. (2) فيقال نزل فلان من الجبل، ونزل عن الدابة، ويطلق على الحلول فيقال: نزل فلان في المدينة أي حل بها، والإنزال: الإحلال، قال تعالى: { رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } (سورة المؤمنون : 29).
ويتعدى فعل "نَزَل" اللازم: بالحرف كقولك: نزلت به نازلة. وبالهمزة، كقولك: أنزل الله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، كقولك: نزّل الله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. (3)
والمنزل: موضع النزول، والمنزلة مثله، وهي أيضًا المكانة (4)
والنُّزُل: ما يعد للنازل من الزاد. (5) قال تعالى: { فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ } (الواقعة: 93).
_________
(1) انظر معجم ألفاظ القرآن الكريم، وضع مجمع اللغة العربية، مادة نزل (2 / 509). ومعجم الألفاظ والأعلام القرآنية، د. إسماعيل إبراهيم (227)
(2) مفردات الراغب الأصفهاني (744)
(3) انظر: المصباح المنير (734)، وتاج العروس، مادة «نزل» (8 / 132) - بتصرف
(4) المرجع السابق
(5) مفردات الراغب (745)(1/6)
النزول في القرآن الكريم:
ورد لفظ "النزول" في القرآن الكريم، على ثلاثة أنواع: (1)
النوع الأول: نزول مقيد بأنه من الله جل وعلا.
النوع الثاني: نزول مقيد بأنه من السماء.
النوع الثالث: نزول مطلق غير مقيد بهذا أو بذاك.
فالنوع الأول وهو المقيد بأنه من عند الله تعالى اختص بالقرآن الكريم فلم يرد إلا معه في آيات كثيرة، كقوله تعالى:
1. { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } (النحل: 102).
2. { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } . (2)
3. { حم }{ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } (سورة غافر: 1 ، 2)
4. { حم }{ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (فصلت: 1 ، 2).
5. { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (السجدة: 2).
6. { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . (3)
_________
(1) انظر: الفتاوى لابن تيمية (12 / 118،246)، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1 / 196) والتبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن للشيخ طاهر الجزائري (64)
(2) في ثلاثة مواضع: سورة الزمر / 1، وسورة الجاثية / 2، وسورة الأحقاف / 2
(3) في موضعين: سورة الواقعة / 80، وسورة الحاقة / 43(1/7)
وهذا التنصيص بأنه من الله جل وعلا وتخصيص القرآن بذلك له دلائله: ففيه بيان أنه منزل من الله لا من مخلوق من مخلوقات الله. كما تقول بذلك بعض الطوائف. وفيه بيان بطلان القول بخلق القرآن. وبطلان القول بأنه فاض على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من العقل الفعال أو غير ذلك من أقاويل أهل الكلام والفلسفة. (1)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية مستدلًا بصريح الآيات السابقة: "فعلم أن القرآن العربي منزل من الله لا من الهواء، ولا من اللوح، ولا من جسم آخر، ولا من جبريل، ولا من محمد ولا غيرهما..". (2)
واختيار مادة النزول وما تصرف منها للكلام عن مصدر القرآن الكريم فيه تشريف وتكريم لهذا الكتاب وبيان علو منزلته كما قال تعالى: { حم }{ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ }{ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }{ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } (الزخرف: 1-4) فالنزول لا يكون إلا من علو.
وأما النوع الثاني، وهو النزول المقيد بأنه من السماء. فيتناول نزول المطر من السحاب، ونزول العذاب، ونزول الملائكة من عند الله. وغير ذلك.
فقد ورد في آيات كثيرة ذكر إنزال الماء من السماء. كقوله تعالى:
_________
(1) انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (12 / 120)
(2) المصدر السابق (12 / 126)(1/8)
1. { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ } (البقرة: 22)
2. { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } (البقرة: 164)
3. { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } (الأنعام: 99)
4. { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } (الرعد: 17)
5. { وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } (النحل: 65) وغيرها كثير.
والمراد بالسماء في هذه الآيات: السحاب أو مطلق العلو حيث فُسِّر في قوله تعالى: { أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ } (الواقعة: 69) فالسماء اسم جنس لكل ما علا وارتفع.
وجاء في إنزال العذاب من السماء قوله تعالى:
1. { فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } (البقرة: 59)
2. { إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ } (العنكبوت: 34) والرجز هو العذاب.(1/9)
وقال تعالى: { إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } (الشعراء: 4)
وفسرت "الآية" هنا بما عظم من الأمور القاهرة، أو ما ظهر من الدلائل الواضحة. (1)
وقال تعالى في إنزال الملائكة من السماء: { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا } (الإسراء: 95)
وكذا قوله تعالى: { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ } (يس: 28) ففسر الجند هنا بالملائكة. (2)
وأما النوع الثالث، وهو الإنزال المطلق فهو عام لا يختص بنوع خاص من الإنزال. من ذلك قوله سبحانه:
1 - { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } (الحديد: 25) فقد فسر قوله: { وَأَنْزَلْنَا } بجعلنا، وأظهرنا وخلقنا. (3)
_________
(1) انظر: تفسير الماوردي (4 / 165)
(2) انظر تفسير الماوردي (5 / 15)
(3) انظر تفسير الماوردي (5 / 483)(1/10)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (... وجعل بعضهم نزول الحديد بمعنى الخلق لأنه أخرجه من المعادن وعلمهم صنعته. فإن الحديد إنما خلق من المعادن -ثم ربط هذا المعنى بأصل الإنزال لغة فقال -: والمعادن إنما تكون في الجبال فالحديد ينزله الله من معادنه التي في الجبال لينتفع به بنو آدم) (1)
وقد تبين لابن تيمية رحمه الله تعالى من استقرائه للآيات أنه ليس في القرآن ولا في السنة لفظ نزول إلا وفيه معنى النزول المعروف وأن هذا هو اللائق بالقرآن الكريم لأنه نزل بلغة العرب. (2)
وقوله سبحانه: { فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (الفتح: 26)
وقوله: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ } (الفتح: 4)
وقوله: { وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } (التوبة: 26)
وغيرها من الآيات، حيث لم يرد فيها تعيين المنزل منه. كما ورد في النوعين قبله، فهو إنزال مطلق يفسر بحسب السياق، أو بما ورد موضحًا له في مواضع أخرى.
_________
(1) الفتاوى (12 / 254)، وانظر (12 / 118)
(2) انظر: المصدر السابق(1/11)
الفرق بين الإنزال والتنزيل:
ذهب إلى القول بالفرق بين اللفظتين جمع من اللغويين والمفسرين فهو قول الواحدي، والزمخشري، والراغب الأصفهاني، والسمين الحلبي، وابن الزبير الغرناطي، وغيرهم. (1)
وذلك استدلالًا بالآيات التي فرقت بين اللفظتين حين ذكرت نزول الكتب السماوية وجمعت بينها، كقوله تعالى في سورة آل عمران: { الم }{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ }{ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } (آل عمران: 1-4)
ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة النساء: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } (النساء: 136)
_________
(1) كالقرطبي في تفسيره (4 / 5)، وابن الجوزي (1 / 349)، وأبي السعود (2 / 4)، وبيان الحق النيسابوري في كتابه وضح البرهان في مشكلات القرآن (1 / 233)(1/12)
يقول الواحدي عند تفسيره لقوله تعالى في سورة آل عمران: { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } إنما قال "نزّل" وقال: { وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } لأن التنزيل للتكثير، والقرآن نزل نجومًا، شيئًا بعد شيء، والتوراة والإنجيل نزلتا دفعة واحدة. (1)
وقال الجرجاني في كتابه التعريفات مفرقًا بين اللفظتين: "الفرق بين الإنزال والتنزيل: الإنزال يستعمل في الدفعة، والتنزيل يستعمل في التدريج". (2)
وقال الزمخشري عند تفسيره لقوله تعالى من سورة آل عمران: { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } : "فإن قلت: لم قيل: نزل الكتاب وأنزل التوراة والإنجيل؟ قلت: لأن القرآن نزل منجمًا ونزل الكتابان جملة". (3)
وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته: "والفرق بين الإنزال والتنزيل في وصف القرآن والملائكة أن التنزيل يختص بالموضع الذي يشير إليه إنزاله مفرقًا ومرة بعد أخرى والإنزال عام". فمما ذكر فيه التنزيل قوله تعالى..: { وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } (الإسراء: 106) وقوله: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } (الحجر: 9)...
_________
(1) البسيط للواحدي، (152)، رسالة دكتوراه للباحث: أحمد محمد صالح الحمادي، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض
(2) التعريفات للجرجاني (73)
(3) الكشاف (1 / 411)(1/13)
وأما الإنزال فكقوله: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } (القدر:1) وإنما خص لفظ الإنزال دون التنزيل لما روي أن القرآن نزل دفعة واحدة إلى سماء الدنيا ثم نزل نجماً فنجمًا". (1)
وقال ابن الزبير الغرناطي في معرض حديثه عن آية سورة آل عمران السابقة: "إن لفظ نزّل يقتضي التكرار لأجل التضعيف.. فقوله تعالى: { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } مشير إلى تفصيل المنزل وتنجيمه بحسب الدعاوى وأنه لم ينزل دفعة واحدة، أما لفظ أنزل فلا يعطي ذلك إعطاء نزّل وإن كان محتملًا.." (2)
ومن هنا قيل: بأن بين اللفظتين فرقًا وأن التعبير القرآني عما نزل دفعة واحدة يأتي بلفظ "أنزل"، وما نزل مفرقًا منجمًا يأتي بلفظ "نزّل" فاختلاف التعبير دال على اختلاف صفة التنزيل ولذلك لما جمع الله بين القرآن والتوراة والإنجيل في آية سورة آل عمران جاء مع القرآن لفظ نزَّل، ومع التوراة والإنجيل لفظ أنزل للدلالة على ذلك المعنى.
وقد رد أبو حيان القول بالتفريق بين نزّل وأنزل المبني على أن التضعيف في نزّل دليل على التكثير وا لتنجيم؛ من وجوه:
1 - أن التضعيف في نَزَّل مفيد لنقل الفعل من اللازم إلى المتعدي وليس للتكثير.
_________
(1) مفردات الراغب، مادة نزل (744) - بتصرف - وبصائر ذوي التمييز للفيروزأبادي (5 / 40)
(2) ملاك التأويل لأحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي (1 / 286) تحقيق: د. سعيد الفلاح(1/14)
2 - أنه لو كان التضعيف في "نزّل" لإفادة التكثير والتنجيم لما جاء قوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } (الفرقان: 32) جامعًا بين التضعيف وقوله { جُمْلَةً وَاحِدَةً } وهما متنافيان في الدلالة. (1)
3 - إن من أدلة عدم الفرق بين اللفظتين وأنهما بمعنى واحد؛ القراءة بالوجهين في كثير مما جاء كذلك. يقول أبو حيان : "ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان من "ينزِّل" مشددًا؛ بالتخفيف - إلا ما استثني - فلو كان أحدهما يدل على التنجيم والآخر على النزول دفعة واحدة لتناقض الإخبار وهو محال". (2)
ويؤيد هذا قراءة قوله تعالى: { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ } بالتشديد فرَّقناه والتخفيف { فَرَقْنَاهُ } (3) كما أنه قد جاء مع القرآن أنزل، قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ } (النحل: 44) يقول سيبويه : "فعّل وأفعل يتعاقبان".
_________
(1) انظر: البحر المحيط (1 / 103) والتحرير والتنوير (3 / 148) وفتح الرحمن بكشف ما يلبس من القرآن لزكريا الأنصاري (197)
(2) البحر المحيط (2 / 378)، والدر المصون (3 / 21)
(3) راجع توثيق القراءة. ص13، حاشية (3)(1/15)
4 - مجيء "نزّل" المضعف في آيات كثيرة بحيث لا يراد منها إفادة التكثير والتنجيم إلا على تأويل متكلف وبعيد جدًّا كقوله تعالى: { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ } (الأنعام: 37) وقوله: { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا } (الإسراء: 95) فالمراد هنا مطلق الإنزال لا تكثير المنزل. (1)
ومن أجل هذا ذهب بعضهم إلى جعل هذا التفريق غالبًا في استعمال القرآن لا قاعدة مطردة محاولة للجمع بين القولين. (2)
_________
(1) انظر: البحر المحيط (2 / 378) والدر المصون (3 / 21)
(2) انظر: المدخل لدراسة القرآن للشيخ محمد محمد أبو شهبة (49)(1/16)
القائلون به :
قاله ابن عباس وجماعة وقال عنه الزركشي في البرهان: (1) إنه أشهر وأصح وإليه ذهب الأكثرون ووصفه ابن حجر بأنه: الصحيح المعتمد (2) وقال ذلك عنه -أيضًا- القسطلاني في لطائف الإشارات. (3) وذكر السيوطي أن القرطبي حكى الإجماع على أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا. (4)
وحكاية الإجماع في ذلك لا تصح لوجود المخالف في ذلك وتعدد المذاهب فيه.
(5)
_________
(1) البرهان (1 / 228)
(2) فتح الباري (9 / 4)
(3) لطائف الإشارات للقسطلاني (22)
(4) الإتقان (1 / 148)، ومناهل العرفان (1 / 39)، تفسير القرطبي (2 / 297)
(5) وقد حكى ابن حجر عن شيخه البلقين معنى غريبًا في نزول القرآن جملة لم يتابَع عليه وذلك عند بيان معنى قول جبريل عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم في بدء الوحي: اقرأ. فقيل: «أي القدر الذي أقرأه إياه وهي الآيات الأولى من اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ويحتمل أن يكون جملة القرآن، وعلى هذا يكون القرآن نزل جملة واحدة باعتبار ونزل منجمًا باعتبار آخر. قال: وفي إحضاره له جملة واحدة إشارة إلى أن آخره يكمل باعتبار الجملة ثم تكمل باعتبار التفصيل)، فتح الباري (12 / 357)(1/17)
أدلته :
1 - قوله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } (القدر:1) وقوله سبحانه: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } (الدخان: 3) وقوله جل وعلا: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } (البقرة: 185)
فقد دل ظاهر هذه الآيات الثلاث أن القرآن الكريم أنزل جملة في ليلة واحدة توصف بأنها مباركة من شهر رمضان. وهذا وصف مغاير لصفة نزول القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم حيث إنه من المعلوم المقطوع به أن القرآن نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجمًا مفرقًا في نحو ثلاث وعشرين سنة حسب الوقائع والأحداث.
فتعين أن يكون هذا النزول الذي دل عليه ظاهر الآيات نزولًا آخر غير النزول المباشر على النبي صلى الله عليه وسلم. جاءت الأخبار الصحيحة بتبيين مكانه وتوصيف نزوله وأنه جملة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وهذه الأخبار هي:(1/18)
1 - قال أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي : حدثنا يزيد (يعني ابن هارون ) عن داود بن أبي هند، عن عكرمة عن ابن عباس : قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. وقرأ: { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } (الإسراء: 106) (1)
قال أبو عبيد : ولا أدري كيف قرأ يزيد في حديثه "فرقناه" مشددة أم لا؟ إلا أنه لا ينبغي أن تكون على هذا التفسير إلا بالتشديد "فرَّقناه". (2)
2 - عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أنزل القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئًا أوحاه أو أن يحدث منه شيئًا أحدثه. (3)
_________
(1) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (368) وانظر طبعة المغرب بتحقيق أحمد الخياطي (2 / 202) وأخرجه الحاكم في المستدرك (2 / 222) و(2 / 368) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (1 / 368) وشعب الإيمان (2 / 415) رقم 2249، والنسائي في التفسير (2 / 131) رقم 392 وقال المحقق صحيح. وأخرجه ابن جرير في تفسيره (15 / 178) و(30 / 258). وانظر: فضائل القرآن للنسائي (59)، وابن الضريس (72). والمرشد الوجيز (14-) وذكره ابن كثير في فضائل القرآن (6) عن أبي عبيد ثم قال: هذا إسناد صحيح
(2) قراءة الجمهور بالتخفيف، وقرأ بالتشديد أبي، وعبد الله بن مسعود وعلي وابن عباس، وأبو رجاء وغيرهم. انظر تفسير ابن جرير (15 / 178)، والبحر المحيط (6 / 87). ومعجم القراءات القرآنية (3 / 342)
(3) أخرجه النسائي في فضائل القرآن (59)، والبيهقي في الأسماء والصفات (1 / 368). والحاكم في المستدرك (2 / 222) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي وأخرجه ابن الضريس بنحوه في فضائل القرآن (71-)(1/19)
3 - عن منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما- في قوله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } قال: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض قال الله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } (الفرقان: 32) (1)
4 - عن حسان بن حريث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل عليه السلام ينزله على النبي صلى الله عليه وسلم ويرتله ترتيلًا. (2)
5 - وعن سعيد بن جبير قال: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان فجعل في بيت العزة. (3)
6 - وعن سعيد بن جبير قال: نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان فجعل في بيت العزة، ثم أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة جواب كلام الناس. (4)
_________
(1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (1 / 367) وفي شعب الإيمان (3 / 320) رقم (3659)، والحاكم في المستدرك (2 / 222) وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وابن الضريس في فضائل القرآن (72). وذكره أبو شامة في المرشد الوجيز (17) وذكر السيوطي -نحوه- في الدر المنثور وزاد نسبته لابن جرير وابن مردويه ومحمد بن نصر والطبراني وأخرجه النسائي في تفسيره (2 / 539) رقم (709) وقال المحقق: صحيح
(2) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (1 / 368)، والطبراني في الكبير (12 / 26) رقم 12381، والحاكم في المستدرك (2 / 223) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وأخرجه النسائي في فضائل القرآن (59-60) وزاد في آخره: قال سفيان: خمس آيات، ونحوها. وانظر المرشد الوجيز لأبي شامة (20). وذكره السيوطي في الدر المنثور بنحوه (1 / 457) وزاد نسبته للفريابي وابن جرير ومحمد بن نصر وابن مردويه والضياء المقدسي في المختارة. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 157) وقال: رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم وهو ضعيف
(3) أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن (72)
(4) أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن (72). وذكره السيوطي في الدر المنثور (1 / 457) ولم ينسبه لغير ابن الضريس(1/20)
7 - عن الربيع بن أنس في قوله: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } قال: أنزل الله القرآن جملة في ليلة القدر كله. (1)
8 - وعن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة، في ليلة واحدة، في ليلة القدر إلى السماء الدنيا حتى رفع في بيت العزة. (2)
9 - عن مقسم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سأله عطيه بن الأسود فقال: إنه وقع في قلبي الشك في قوله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } (البقرة: 185) وقوله: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } (القدر: 1) وقوله: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } (الدخان: 3) وقد أنزل في شوال، وذي القعدة، وذي الحجة، والمحرم، وشهر ربيع الأول؟ فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: إنه أنزل في رمضان، وفي ليلة القدر، وفي ليلة مباركة؛ جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلًا (3) في الشهور والأيام. (4)
10 - وعن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا جملة ثم أنزل نجومًا. (5)
_________
(1) أخرجه عبد بن حميد كما ذكر السيوطي في الدر المنثور (8 / 567)
(2) أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن (73)، وذكره السيوطي في الدر المنثور ونسبه للطبراني والبزار
(3) رسلًا: قطعة قطعة وفرقة فرقة. انظر: حاشية تفسير الطبري (3 / 446)
(4) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (1 / 369-) وأخرجه الطبري في تفسيره بسنده (3 / 448) ولم يسم فيه السائل. وأخرجه الطبراني في الكبير (11 / 309) رقم (12095) والهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 316) وقال عنه: وفيه سعد بن طريف وهو متروك. وذكره السيوطي في الدر المنثور (1 / 456) وزاد نسبته لابن أبي حاتم، وابن مردويه، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة
(5) أخرجه الطبراني في الكبير (11 / 247) رقم (11839) والهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 140) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه عمران القطان وثقه ابن حبان وغيره، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات(1/21)
11 - وعن ابن عباس في قوله { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } قال أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونزله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم بجواب كلام العباد وأعمالهم. (1)
12 - عن حكيم بن جبير الأسدي عن سعيد بن جبير قال: نزل القرآن جملة من السماء العليا إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم نزل مفصلًا. (2)
13 - وعن إبراهيم النخعي في قوله عز وجل: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } قال: أنزل جملة على جبريل عليه السلام، وكان جبريل يجيء بعد إلى محمد صلى الله عليه وسلم. (3)
ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث والآثار التي أخرجها الأئمة وصححوا بعضها، والتي يعضد بعضها بعضًا أنها وإن كانت موقوفة في جملتها على ابن عباس رضي الله عنهما فإن لها حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن قول الصحابي الذي لا يأخذ عن الإسرائيليات، فيما لا مجال للرأي فيه له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس لن يقول ما قال من هذا التفصيل والتحديد بمحض رأيه ومن عند نفسه فهو إذًا محمول على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منه من الصحابة والصحابة كلهم عدول.
_________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (12 / 26) رقم (12382)، والهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 140) وقال عنه: رواه الطبراني والبزار باختصار ورجال البزار رجال الصحيح، وفي إسناد الطبراني عمرو بن عبد الغفار وهو ضعيف. وذكره السيوطي في الدر المنثور (8 / 567) وزاد نسبته لابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل
(2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه بسنده (2 / 294) رقم (79) وفيه حكيم بن جبير ضعيف. وذكره السيوطي في الدر المنثور (7 / 399) ولم ينسبه لغير سعيد بن منصور
(3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه بسنده (2 / 292) رقم (78) وذكره السيوطي في الدر المنثور (7 / 399) ولم ينسبه لغير سعيد بن منصور(1/22)
القائلون به :
قاله الشعبي (1) ومحمد بن إسحاق (2) والنسفي . (3)
وقد عدّ السخاوي في جمال القراء (4) الشعبي من القائلين بالقول الأول مع ابن عباس وابن جبير . ويؤيد هذا ما أخرجه الطبري في تفسيره عن الشعبي في قوله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } قال: بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا. (5)
وهذا خلاف لما هو مشهور عن الشعبي في هذا، وما أخرجه الطبري عن الشعبي هنا معارض بما رواه عنه - أيضًا - في تفسيره من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي . أنه قال في قوله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } قال: نزل أول القرآن في ليلة القدر. (6)
وقد ذكر أبو شامة عن الشعبي رواية عدها قولًا رابعًا في معنى قوله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } فعن داود بن أبي هند قال: قلت للشعبي قوله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أما نزل عليه القرآن في سائر السنة إلا في شهر رمضان؟! قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمدًا عليهما السلام بما ينزل عليه في سائر السنة في شهر رمضان. (7)
_________
(1) انظر البرهان للزركشي (229)، والإتقان للسيوطي 01 / 148) والمرشد الوجيز (20) وتفسير الماوردي (6 / 312) بتحقيق السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم والثعالبي (4 / 430)
(2) نسبه له الفخر الرازي في تفسيره (5 / 85)
(3) انظر تفسيره (1 / 94) حيث قال: ( الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) أي ابتدئ فيه إنزاله وكان في ليلة القدر..) وأشار إلى الإنزال جملة بصيغة التضعيف في تفسير سورة القدر (4 / 370) فقال: (روي أنه أنزل جملة..)
(4) ينظر جمال القراء للسخاوي (1 / 20)
(5) تفسير الطبري (2 / 145) (3 / 447) (30 / 258)
(6) تفسير الطبري (30 / 258)
(7) المرشد الوجيز (21)(1/23)
فالشعبي هنا نزّل عرضه وإحكامه في رمضان من كل سنة منزلة إنزاله فيه. وهو قول لا يعارض رأيه المشهور بأن المراد ابتداء نزول القرآن. ولذا قال أبو شامة "وإن ضم إلى ذلك كونه ابتداء نزوله في شهر رمضان ظهرت قوته" (1) -أي قوة القول ووجه ذكر شهر رمضان ظرفًا لإنزال القرآن - قال ابن حجر : (والمعتمد أن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان بما ينزل به عليه في طوال السنة. كذا جزم به الشعبي فيما أخرجه عنه أبو عبيد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح". (2)
_________
(1) المصدر السابق (24)
(2) فتح الباري (9 / 5)(1/24)
أدلته : (1)
1 - الواقع الفعلي لنزول القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه نزل منجمًا مفرقًا حسب الحوادث والوقائع على نحو من ثلاث وعشرين سنة.
2 - قوله تعالى: { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } (الإسراء: 106) فصريح القرآن، وواقع نزوله يدل على تنجيمه وتفريقه.
3 - أن الآيات الثلاث الواردة في وصف نزول القرآن المراد بها ابتداء نزول القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه ابتدأ نزوله في ليلة القدر من شهر رمضان وهي الليلة المباركة وفي هذا جمع بين هذه الآيات وقوله تعالى: { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } .
4 - أن ما جاء من الآثار الدالة على نزول القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا وإن كانت صحيحة الإسناد فهي موقوفة على ابن عباس وغير متواترة. وهذه مسألة غيبية عقدية ولا يؤخذ في الغيبيات إلا بما تواتر يقينًا في الكتاب والسنة فصحة الإسناد لا تكفي وحدها لوجوب اعتقاده. فكيف وقد نطق القرآن بخلافه!. (2)
_________
(1) راجع مناقشة هذه الأدلة في مبحث الترجيح ص(38)
(2) انظر: مباحث في علوم القرآن. د. صبحي الصالح. (51) وتفسير جزء «عم» للشيخ محمد عبده ص(122) ط. بولاق. والمدخل لدراسة القرآن الكريم (52). وراجع ص (38)(1/25)
القائلون به :
قاله ابن جريج، (1) وأبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي، (2) ومقاتل بن حيان، (3) وقال بنحوه مقاتل بن سليمان . (4)
ونسبه السيوطي للفخر الرازي (5) وهي نسبة غير محررة فقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره هذا القول وجعله محتملًا، وتوقف في الترجيح بينه وبين القول بنزوله جملة واحدة من اللوح المحفوظ ثم نزوله منجمًا بعد ذلك. لكنه في موضع آخر وبعد صفحة واحدة رجح القول الثاني. فقال: "..التنزيل مختص بالنزول على سبيل التدريج والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة، ولهذا قال الله تعالى: { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } إذا ثبت هذا فنقول: لما كان المراد ههنا من قوله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } . نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. لا جرم ذكره بلفظ الإنزال دون التنزيل وهذا يدل على أن هذا القول راجح على سائر الأقوال". (6)
كما ينسب هذا القول في كثير من كتب علوم القرآن للماوردي (7) وهي نسبة غير محررة من حيث تحديد القول، وتعيين القائل. (8)
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (3 / 447). وتفسير أبي الليث السمرقندي (1 / 563) والدر المنثور للسيوطي (1 / 457)
(2) قاله في كتابه المنهاج (2 / 234-)، وانظر: البرهان (1،229)، ولطائف الإشارات للقسطلاني (1 / 22)، والمرشد الوجيز (19)
(3) انظر: الإتقان للسيوطي (1 / 148)، والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي (1 / 215) بتحقيق د.محمد صفاء حقي. رسالة ماجستير غير منشورة. قسم القرآن وعلومه في كلية أصول الدين. الرياض
(4) انظر: حاشية المرشد الوجيز بتحقيق طيار آلتي قولاج (18). وتفسير مقاتل بن سليمان (1 / 22خ)، وتفسير أبي الليث السمرقندي (1 / 562)
(5) انظر الإتقان (1 / 148)
(6) تفسير الفخر الرازي (5 / 85)
(7) انظر: المرشد الوجيز لأبي شامة (18،19)، والبرهان (1 / 229)، والإتقان (1 / 148)، والزيادة والإحسان لابن عقيلة (1 / 215)
(8) انظر الكلام على القول الرابع لاحقًا. ص(25)(1/26)
وهذا القول ضعيف قال عنه ابن حجر : "وهذا أورده ابن الأنباري من طريق ضعيفة ومنقطعة أيضًا" (1) وقال عنه القرطبي : "قلت: وقول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الإجماع "أن القرآن أنزل جملة واحدة" (2) وحكاية القرطبي للإجماع هنا غير مسلمة لما علمته من الأقوال في ذلك.
_________
(1) فتح الباري (9 / 4)، ونقله القسطلاني في لطائف الإشارات (1 / 22)
(2) تفسير القرطبي (2 / 298)، وانظر الإتقان (1 / 148)(1/27)
القول الرابع:
أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة. وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة.(1/28)
وهذا القول هو ما ورد في تفسير الماوردي، وقد ذكره عن ابن عباس رضي الله عنه فهو رواية عن ابن عباس، وليس قولًا للماوردي، وعبارته في تفسيره: "قوله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } فيه وجهان: أحدهما: يعني جبريل، أنزله الله في ليلة القدر بما نزل به من الوحي. الثاني: يعني القرآن، وفيه قولان: أحدهما ما روي عن ابن عباس قال: نزل القرآن في رمضان وفي ليلة القدر في ليلة مباركة جملة واحدة من عند الله تعالى في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل في عشرين ليلة ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة. وكان ينزل على مواقع النجوم إرسالًا في الشهور والأيام (1) -ثم قال- القول الثاني: أن الله تعالى ابتدأ بإنزاله في ليلة القدر. قال الشعبي " (2) وبهذا النص يتبين أنه قول مغاير لما قبله، وأنه رواية عن ابن عباس وليس قولًا للماوردي إلا أن يكون نسب إليه لأنه ذكره ولم يتعقبه. ولا يكفي هذا في جعله قولًا له ولذا كانت عبارة ابن حجر أدق وأصوب حين قال: "وحكى الماوردي في تفسير ليلة القدر، ثم ذكره وأعقبه بقوله عنه "وهذا -أيضًا- غريب" (3) ومثل ذلك عبارة
_________
(1) أخرجه - بنحوه - ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس. وانظر الزيادة والإحسان (1 / 172،218)
(2) تفسير الماوردي: النكت والعيون (6 / 311-) بتحقيق السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم
(3) انظر فتح الباري لابن حجر (9 / 4-)، ونقل القسطلاني كلام ابن حجر في كتابه لطائف الإشارات (1 / 22)(1/29)
أبي شامة حيث قال: "وذكر أبو الحسن الماوردي في تفسيره" (1) ثم أورده. وهو قول مردود لأنه ليس بين الله وجبريل واسطة في تلقي القرآن الكريم.
يقول ابن العربي متعقبًا هذا القول: "ومن جهلة المفسرين أنهم قالوا: إن السفرة ألقته إلى جبريل في عشرين ليلة وألقاه جبريل إلى محمد - عليهما السلام - في عشرين سنة وهذا باطل، ليس بين جبريل وبين الله واسطة، ولا بين جبريل ومحمد صلى الله عليهما واسطة". (2)
وقد نقل أبو شامة في المرشد الوجيز عن تفسير علي بن سهل النيسابوري عن جماعة من العلماء أن جبريل هو من أملاه على السفرة. قال: "قال جماعة من العلماء: تنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت يقال له بيت العزة، فحفظه جبريل عليه السلام، وغشى على أهل السماوات من هيبة كلام الله فمر بهم جبريل وقد أفاقوا فقالوا: { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } (سبأ: 23) يعني القرآن وهو معنى قوله: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } (سبأ: 23) فأتى به جبريل إلى بيت العزة فأملاه جبريل على السفرة الكتبة. يعني الملائكة وهو قوله تعالى: { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ }{ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } (عبس: 15-16) (3)
_________
(1) المرشد الوجيز لأبي شامة (19)
(2) أحكام القرآن لابن العربي (4 / 1961-) وانظر تفسير القرطبي (20 / 130)
(3) المرشد الوجيز (23)، وانظر تفسير القرطبي (20 / 130)(1/30)
وذهب إلى هذا المعنى من إملاء جبريل القرآن على السفرة علم الدين السخاوي في جمال القرآن في معرض حديثه عن حكمة إنزاله جملة فقال: "..وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل عليه السلام بإملائه على السفرة الكرام البررة -عليهم السلام- وإنساخهم إياه، وتلاوتهم له" (1) فيكون قولًا خامسًا.
وقد حاول ابن عقيلة المكي الإجابة عما تضمنه ذلك الخبر من عدم أخذ جبريل للقرآن من الله. فقال بعد أن ساق الخبر:
"..فهذا يقضي أن جبريل ما أخذه إلا عن السفرة. قلت: لا تنافي، لاحتمال أن جبريل -عليه السلام- سمعه من الله سبحانه وتعالى كما تقدم بصفة التجلي فعلمه جميعه ثم أمره الله أن يأخذه من اللوح المحفوظ فيضعه في بيت العزة عند السفرة، ثم أمر الله سبحانه وتعالى السفرة أن تنجمه على جبريل عليه السلام في عشرين ليلة لكل سنة ليلة وإنما كان التنجيم من السفرة على جبريل لما ذكره الحكيم الترمذي : إن سر وضع القرآن في السماء الدنيا ليدخل في حدها لأنه رحمة لأهلها. فأخذ جبريل عن السفرة إشارة إلى أنه صار مخصوصًا بهم فلا يؤخذ إلا عنهم..". (2)
_________
(1) جمال القراء وكمال الإقراء للسخاوي (1 / 20)
(2) الزيادة والإحسان لابن عقيلة (1 / 172) بتحقيق: د. محمد صفاء حقي(1/31)
وفي كون جبريل عليه السلام يأخذ القرآن إلى السفرة ثم يأخذه منهم؛ نظر. أي نظر في الصفة لا في الصلة. فإن صلة السفرة بالقرآن ظاهرة من قوله تعالى: { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ }{ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ }{ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ }{ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } (عبس: 13-16).(1/32)
الترجيح :
الاتفاق حاصل والإجماع قائم على صفة نزول القرآن الكريم المباشر على الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه نزل منجمًا مفرقًا من بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قرب وفاته ينزل أحيانًا ابتداء بغير سبب وهو أكثر القرآن الكريم وأحيانًا أخرى ينزل مرتبطًا بالأحداث والوقائع والأسباب.
وأما نزوله جملة فهو ظاهر القرآن في قوله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } وقوله: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } وقوله سبحانه: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } فهو أنزل في ليلة اسمها ليلة القدر، وصفتها أنها مباركة، وشهرها شهر رمضان. وهو صريح الأخبار الواردة عن ابن عباس، والتي لها حكم الرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما دام أن النزول جملة لا يعارض صراحة النزول السابق، ولا يرتبط به من خلال تلك النصوص. بل هو نزول خاص، ووجود معين حيث القرآن الكريم كلام الله ومنزل من عند الله يتلقاه جبريل عليه السلام من الله بلا واسطة عند نزوله به على الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة.(1/33)
وإن كان قد نزل به إلى بيت العزة فذلك نزول خاص. وأحد وجودات القرآن الكريم المتعددة. حيث يوجد القرآن الكريم في اللوح المحفوظ. (1)
وقال تعالى: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ }{ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ }{ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (الواقعة: 77-79) وقال سبحانه: { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } (الزخرف: 4).
ويوجد - أيضًا - في الصحف المطهرة الموجودة في أيدي الكرام البررة من الملائكة كما قال تعالى: { كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ }{ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ }{ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ }{ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ }{ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ }{ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } (عبس: 11-16)
ويوجد - كذلك - في بيت العزة من السماء الدنيا كما دلت على ذلك الأخبار عن ابن عباس . وجائز أن يكون الوجودان الأخيران مختلفين متغايرين وجائز أن يكونا وجودًا واحدًا بأن يكون القرآن الكريم في تلك الصحف في بيت العزة وبأيدي أولئك الملائكة الكرام كما يوجد في الأرض بنزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم والنزول مقترن بما عدا الأول من الوجودات المذكورة.
_________
(1) عدَّ الشيخ عبد العظيم الزرقاني هذا الوجود تنزلًا. وجعله التنزل الأول والصواب أنه وجود إذ لم يرد لفظ النزول مقترنًا به فلا يصح أن يعد نزولًا أو تنزلًا. وانظر: المدخل لدراسة القرآن للشيخ محمد أبو شهبة (47)(1/34)
يقول البيهقي - رحمه الله -: "وقوله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } يريد به والله أعلم إنا أسمعناه الملك، وأفهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع فيكون الملك منتقلًا به من علو إلى سفل". (1)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بعد عرضٍ قرر فيه أن القرآن الكريم كلام الله منزل من عند الله كما هو صريح القرآن، قال: (فعلم أن القرآن العربي منزل من الله لا من الهواء، ولا من اللوح، ولا من جسم آخر، ولا من جبريل، ولا من محمد، ولا غيرهما، وإذا كان أهل الكتاب يعلمون ذلك (2) فمن لم يقر بذلك من هذه الأمة كان أهل الكتاب المقرون بذلك خيرًا منه من هذا الوجه.
_________
(1) كتاب الأسماء والصفات للبيهقي (1 / 362)
(2) إشارة إلى قوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الأنعام، من الآية / 114(1/35)
- ثم قال - (وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } أنه أنزله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أنزله بعد ذلك منجمًا مفرقًا بحسب الحوادث. ولا يتنافى أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله، كما قال تعالى: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ }{ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } وقال تعالى: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ }{ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ }{ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } وقال تعالى: { كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ }{ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ }{ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ }{ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ }{ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ }{ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } . وقال تعالى: { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } . فإن كونه مكتوبًا في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك وإذ كان قد أنزله مكتوبًا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله..). (1)
_________
(1) الفتاوى لابن تيمية (12 / 126-)(1/36)
فعلى هذا الوجه لا إشكال في القول بأن للقرآن تنزلين: نزول جملة، ونزول مفرق، ولا يترتب عليه محذور. وإنما يقع المحذور ويحصل الإشكال في القول بأن جبريل يأخذ القرآن من الكتاب أو من بيت العزة عند نزوله به على الرسول صلى الله عليه وسلم من دون سماع من الله تعالى. كما نقل أبو شامة عن الحكيم الترمذي - في معرض حديثه عن حكمة نزول القرآن جملة - قوله: "ثم أجرى من السماء الدنيا الآية بعد الآية عند نزول النوائب..". (1)
أو كما قد يفهم من ظاهر بعض الآثار فمثل هذا القول، ومثل هذا الفهم للقول بأن للقرآن تنزلين؛ لا يصح. فهو أولًا لم يرد في تلك النصوص المفسرة والمفصلة لنزول القرآن جملة. وثانيًا أنه يلزم منه أن جبريل عليه السلام لم يسمع القرآن من الله عز وجل وأن القرآن نزل من مخلوق لا من الله وهذا باطل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
_________
(1) المرشد الوجيز (26)(1/37)
"والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، وهو الذي نزل عليه به، وجبريل سمعه من الله تعالى، كما نص على ذلك أحمد وغيره من الأئمة. قال تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } فأخبر سبحانه أنه نزله روح القدس وهو الروح الأمين، وهو جبريل من الله بالحق.." (1)
وذكر ابن تيمية عن أبي حامد الإسفرائيني قوله: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال: مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعًا من الله، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا: مسموعًا، ومكتوبًا، ومحفوظًا.." (2)
"فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه سمعه منه جبريل، وبلغه عن الله إلى محمد، ومحمد سمعه من جبريل وبلغه إلى أمته، فهو كلام الله حيث سمع، وكتب، وقرئ، كما قال تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } (3)
_________
(1) الفتاوى (12 / 298) باختصار
(2) الفتاوى (12 / 306)
(3) المصدر السابق (12 / 566)(1/38)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أيضًا (ومن قال إن جبريل أخذ القرآن من الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلًا من وجوه: منها أن يقال إن الله سبحانه وتعالى قد كتب التوراة لموسى بيده فبنو إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه هو سبحانه وتعالى فيه فإن كان محمد أخذه عن جبريل، وجبريل عن الكتاب كان بنو إسرائيل أعلى من محمد بدرجة. (1)
_________
(1) الفتاوى (12 / 127-)(1/39)
وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - هذا المعنى في موضع آخر موضحًا نزول القرآن الكريم من عند الله لا من شيء من مخلوقاته مستدلًا له ومبينًا لمعناه فقال: (.. وكذلك قد أخبر في غير موضع من القرآن أن القرآن نزل منه، وأنه نزل به جبريل منه.. قال تعالى: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } (الأنعام: 114) قال تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } (النحل:102) وروح القدس هو جبريل كما قال في الآية الأخرى: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }{ عَلَى قَلْبِكَ } (الشعراء: 193،194) وقال هنا: { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } (النحل: 102) فبين أن جبريل نزله من الله لا من هواء، ولا من لوح، ولا غير ذلك، وكذلك سائر آيات القرآن كقوله: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } (الزمر: 1)(1/40)
وقوله: { حم }{ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (غافر: 1 ، 2) وقوله { حم }{ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (فصلت: 1 ، 2) وقوله: { الم }{ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (السجدة: 1 ، 2) وقوله: { يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } (المائدة: 67)
فقد بين في غير موضع أنه منزل من الله. فمن قال إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح، والهواء فهو مفتر على الله، مكذب لكتاب الله، متبع لغير سبيل المؤمنين، ألا ترى أن الله فرق بين ما نزل منه وما نزله من بعض المخلوقات كالمطر بأن قال: { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } (البقرة: 22) فذكر المطر في غير موضع وأخبر أنه نزله من السماء، والقرآن أخبر أنه منزل منه.. ثم قال:(1/41)
ولو كان جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ لكان اليهود أكرم على الله من أمة محمد لأنه قد ثبت بالنقل الصحيح أن الله كتب لموسى التوراة بيده وأنزلها مكتوبة. فيكون بنو إسرائيل قد قرأوا الألواح التي كتبها الله. وأما المسلمون فأخذوه عن محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد أخذه عن جبريل، وجبريل عن اللوح. فيكون بنو إسرائيل بمنزلة جبريل، وتكون منزلة بني إسرائيل أرفع من منزلة محمد صلى الله عليه وسلم على قول هؤلاء الجهمية.(1/42)
والله سبحانه جعل من فضائل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه أنزل عليهم كتابًا لا يغسله الماء وأنه أنزله عليهم تلاوة لا كتابة وفرقه فيهم لأجل ذلك، فقال: { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } (الإسراء: 106) وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } (الفرقان: 32) ثم إن كان جبريل لم يسمعه من الله وإنما وجده مكتوبًا كانت العبارة عبارة جبريل، وكان الكلام كلام جبريل ترجم به عن الله كما يترجم عن الأخرس الذي كتب كلامًا ولم يقدر أن يتكلم به، وهذا خلاف دين المسلمين). (1)
فقد جعل شيخ الإسلام ابن تيمية القول بأخذ جبريل للقرآن من اللوح المحفوظ أو غيره تفريعًا للقول بخلق القرآن (2) وصرح بذلك الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - في رسالته: "الجواب الواضح المستقيم في التحقيق في كيفية إنزال القرآن الكريم" وبسطه في معرض رده على قول السيوطي بأن جبريل عليه السلام أخذ القرآن من اللوح المحفوظ وجاء به إلى محمد صلى الله عليه وسلم (3) فقال:
_________
(1) الفتاوى (12 / 519-520)
(2) انظر الفتاوى (12 / 120)
(3) انظر الاتقان للسيوطي (1 / 157)(1/43)
"هذه المقالة اغتر بها كثير من الجهلة وراجت عليهم، والسيوطي -رحمه الله- مع طول باعه، وسعة اطلاعه، وكثرة مؤلفاته؛ ليس من يعتمد عليه في مثل هذه الأصول العظيمة. وهذه المقالة مبنية على أصل فاسد وهو القول بخلق القرآن وهذه مقالة الجهمية والمعتزلة ومن نحى نحوهم وهذه المقالة الخاطئة حقيقتها إنكار أن يكون الله متكلمًا حقيقة.. ثم - قال -
والقائلون بخلق القرآن منهم من يقول خلقه في اللوح المحفوظ وأخذ جبريل ذلك المخلوق من اللوح وجاء به إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومنهم من يقول خلقه في جبريل، ومنهم من يقول خلقه في محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من أقوالهم) (1) فهذا ما ينتهي إليه هذا القول ويؤول إليه وإن لم يكن كثير من الناقلين له يقصدونه.
ثم أبان الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - مذهب أهل السنة فقال: "فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة أن الله تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وأن جبريل عليه السلام، سمع القرآن الكريم من الله تعالى وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم). (2)
ومن تمام الترجيح توجيه أدلة القول الآخر أو الرد عليها. فيجاب على أدلة القول الثاني - على سبيل الإيجاز - بما يلي:
_________
(1) الجواب الواضح المستقيم في التحقيق في كيفية إنزال القرآن الكريم للعلامة الشيخ محمد بن إبراهيم، ص(2-). مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، عام 1369ه
(2) المصدر السابق. ص(3)(1/44)
1 - أن صفة نزول القرآن المباشر على الرسول صلى الله عليه وسلم وكونه نزل عليه مفرقًا، وكونه صريح قوله تعالى: { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } هو محل إجماع ولا خلاف حوله ولا يعارض النزول جملة.
2 - القول بأن المراد بالآيات الثلاث من سور البقرة، والدخان، والقدر، هو ابتداء النزول؛ هو صرف لها عن ظاهرها بغير صارف ويجعلها تحتاج إلى تقدير محذوف. فقوله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } أي ابتدأنا إنزاله. وهو يقتضي حمل القرآن على أن المراد به بعض أجزائه وأقسامه (1) فقوله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } أي أنزلنا بعضه.
3 - أن القول بأن المسألة عقدية لا بد لها من أدلة متواترة قطعية الثبوت لإفادة العلم اليقيني ولا يكفي فيها الآثار الموقوفة؛ قول غير مسلم. واستبعاد الاستدلال بأحاديث الآحاد على العقائد غير صحيح فالعبرة بصحة الحديث فمتى صح الحديث احتج به سواء كان آحادًا أم متواترًا وسواء كان في الأحكام أم العقائد. (2)
وبهذا اتضح أن القول الأول أرجح وأن للقرآن نزول جملة ونزول تفريق يتلخص ذلك بما يلي:
_________
(1) انظر الفخر الرازي (5 / 85)
(2) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم (52)(1/45)
1 - أنه ظاهر الآيات الثلاث في سور البقرة، والدخان، والقدر.
2 - أنه صريح الآثار الواردة عن ابن عباس، والتي لها حكم الرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 - عدم معارضته للقول الثاني مع توجيه أدلة هذا القول والرد عليها.
4 - ضعف الأقوال الأخرى.
5 - انتفاء المحذور العقدي بالتصريح بسماع جبريل للقرآن من الله عز وجل دون واسطة.
6 - شهرة القول وكثرة القائلين به، والمصححين له، حتى حكى القرطبي الإجماع عليه.(1/46)
حكمة نزول القرآن الكريم جملة :
التمست بعض الحكم لنزول القرآن جملة إلى السماء الدنيا فقيل :
إن فيه تفخيم شأن المنزل وهو القرآن الكريم، وتعظيم قدر من سوف ينزل عليه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكريم من سوف ينزل إليهم وهم المسلمون. وذلك بإعلام سكان السماوات بأن هذا القرآن آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم. (1)
يقول السخاوي في جمال القراء:
"فإن قيل: ما في إنزاله جملة إلى سماء الدنيا؟ قلت: في ذلك تكريم بني آدم، وتعظيم شأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله عز وجل بهم، ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفًا من الملائكة لما أنزل سورة الأنعام أن تزفها. (2)
وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل عليه السلام بإملائه على السفرة الكرام البررة - عليهم السلام - وإنساخهم إياه، وتلاوتهم له وفيه أيضًا إعلام عباده من الملائكة وغيرهم أنه علام الغيوب لا يغرب عنه شيء إذ كان في هذا الكتاب العزيز ذكر الأشياء قبل وقوعها". (3)
_________
(1) انظر: المرشد الوجيز (24)
(2) قال ابن الصلاح في الخبر الوارد بذلك: وفي إسناده ضعف ولم نر له إسنادًا صحيحًا..) فتاوى ابن الصلاح (1 / 248)
(3) جمال القراء للسخاوي (1 / 20)، وانظر: المرشد الوجيز (27) والإتقان للسيوطي 01 / 149)(1/47)
وفيه من الحكم أيضًا تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية الأخرى وذلك بأن جمع الله له النزولين جملة واحدة، والنزول مفرقًا وبذلك شارك الكتب السابقة في صفة وتميز عنها في الصفة الثانية. سواء قيل بنزول الكتب السابقة جملة أو مفرقة، ففي اجتماع الصفتين تميز للقرآن الكريم، ولمن نزل عليه، ولمن نزل إليهم.
يقول السخاوي : "وفيه أيضًا التسوية بينه وبين موسى عليه السلام في إنزال كتابه جملة، والتفضيل لمحمد صلى الله عليه وسلم في إنزاله عليه منجمًا ليحفظه. قال الله عز وجل: { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } (الفرقان: 32) وقال عز وجل: { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى } (الأعلى: 6)" (1)
_________
(1) جمال القراء للسخاوي (1 / 20). وانظر ما استحسنه أبو شامة فنقله من كلام للحكيم الترمذي في تفسيره بهذا الشأن. المرشد الوجيز (26)(1/48)
وقت نزول القرآن الكريم :
أكثر نزول القرآن الكريم نهارًا حضرًا، وقد نزل يسير منه في السفر وقليل منه في الليل، وقد تتبع العلماء ذلك فذكروا ما وقفوا عليه منه، فمن ذلك:
ما نزل في الثلاثة الذين خلفوا في قوله تعالى: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } (التوبة: 118) ففي الصحيح من حديث كعب : فأنزل الله توبتنا حين بقي الثلث الأخير من الليل. (1)
ومنه سورة "المنافقون" فقد أخرج الترمذي عن زيد بن أرقم أنها نزلت ليلًا في غزوة تبوك. (2) وذكر ابن إسحاق أنها نزلت في غزوة بني المصطلق. (3)
ومنه سورتا المعوذتين فعن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزلت الليلة آيات لم يرَ مثلهن: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس". (4)
ومنه قوله تعالى في سورة المائدة (67): { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فعن عائشة -رضي الله عنها - قالت: « كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال لهم: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله » (5)
_________
(1) من حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى لقد تاب الله على النبي.. 6 / 209، وفي المغازي باب حديث كعب بن مالك، 5 / 130 وأخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب، 4 / 2120 رقم 2769
(2) أخرجه الترمذي: كتاب التفسير، باب سورة المنافقين، (5 / 89) رقم 3369 وقال حديث حسن صحيح
(3) انظر السيرة النبوية لابن كثير (3 / 300)
(4) أخرجه مسلم في صحيحه (1 / 558) حديث رقم 814
(5) أخرجه الترمذي في جامعه في كتاب التفسير باب ومن سورة المائدة (5 / 251) حديث رقم 3046، وقال عنه: حديث غريب. وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، ووافقه الذهبي (2 / 313) وذكره نحوه الواحدي في أسباب النزول (195-)(1/49)
قال ابن عقيلة : وكان ذلك في غزوة ذات الرقاع. (1) وأخرج الطبراني عن عصمة بن مالك الخطمي قال: كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل حتى نزلت. فترك الحرس. (2) فدلت هاتان الروايتان أنها نزلت في السفر ليلًا.
وقد ذكر أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري (ت406) في كتابه التنبيه على فضل علوم القرآن من وجوه شرف علوم القرآن؛ معرفة تفصيل نزول القرآن الكريم زمانًا، ومكانًا، وأوصافًا. فقال:
_________
(1) انظر الزيادة والإحسان (1 / 326)، وقد أخرجه ابن أبي حاتم عن جابر كذلك (1 / 318)
(2) ذكره السيوطي في الإتقان (1 / 83)(1/50)
"من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدنية، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، وما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، وما نزل ليلًا، وما نزل نهارًا، وما نزل مشيعًا، وما نزل مفردًا، والآيات المدنيات، وما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى الحبشة، وما نزل مجملًا، وما نزل مفسرًا، وما اختلف فيه فقال بعضهم: مدني، وقال بعضهم: مكي، فهذه خمسة وعشرون وجهًا من لم يعرفها، ويميز بينها، لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى". (1)
وقد فسرت وفصلت هذه الأنواع مع التمثيل لها بما وردت به الروايات في البرهان للزركشي، والإتقان للسيوطي، والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي مما لا حاجة معه لزيادة الكلام في بسطه ونقله. (2)
وما ذكره النيسابوري هنا من وجوب معرفة هذه الأنواع والتمييز بينها وجعل ذلك شرطًا للتفسير لا يسلَّم له وفيه نظر. فليس كله مما له أثر في التفسير.
_________
(1) التنبيه على فضل علوم القرآن. لأبي القاسم النيسابوري. منشور في مجلة المورد العراقية. بتحقيق محمد عبد الكريم كاظم. عدد (4)، مجلد (17)، عام 1409ه. الصفحات (305-322)
(2) انظر البرهان للزركشي (1 / 192)، والإتقان للسيوطي (1 / 36-) والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي (1 / 263)(1/51)
مدة نزول القرآن الكريم :
اختلف العلماء في تحديد مدة نزول القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم على أقوال:
1 - أنها ثماني عشرة سنة. روي هذا القول غير المشتهر عن الحسن . وأنه كان يقول ذكر لنا أنه كان بين أوله وآخره ثماني عشرة سنة. وأنه أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ثماني سنين في مكة قبل الهجرة وعشر سنين بعدها. (1)
وهو قول ضعيف ينتج عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي عن ثمان وخمسين سنة وهو ما لم يقل به أحد. ولذا قال ابن عطية عن هذا القول: "وهذا قول مختل لا يصح عن الحسن والله أعلم". (2)
2 - أنها عشرون سنة: روي عن ابن عباس، وعكرمة، والشعبي وقتادة، واختاره ابن جزي الكلبي . (3)
3 - أنها ثلاث وعشرون سنة. وهو قول الجمهور. (4)
4 - أنها خمس وعشرون سنة. وهو قول من يذهب إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاش خمسًا وستين سنة خلافًا للمشهور. (5)
_________
(1) انظر تفسير ابن جرير (15 / 179-180)، وابن عطية (10 / 375)، وابن الجوزي (1 / 5)، وأبي حيان (6 / 87)، وابن الضريس في فضائل القرآن (74)
(2) تفسير ابن عطية (10 / 357)
(3) تفسير ابن جزي الكلبي (1 / 6، 4 / 210) وانظر المصادر السابقة
(4) انظر البرهان (1 / 228)، والإتقان 1 / 146 وانظر علوم القرآن من خلال مقدمات التفاسير، رسالة دكتوراه، د. محمد صفاء حقي، 2 / 412
(5) المرجع السابق(1/52)
ومنشأ هذا الاختلاف هو الخلاف في مدة إقامته I بمكة بعد البعثة فقيل: ثمان، وقيل عشر، وقيل ثلاث عشرة، وقيل خمس عشرة سنة. بناء على اختلاف الروايات في ذلك. فإذا أضيف إليها عشر سنين وهي مدة إقامته I بالمدينة بعد الهجرة المتفق عليها كما نص على ذلك ابن كثير حيث قال: "أما إقامته بالمدينة عشرًا فهذا مما لا خلاف فيه.." (1) فينتج عن ذلك الأقوال السابقة.
كما يعود هذا الاختلاف - أيضًا - إلى اختلاف الاعتبار الذي يبدأ منه حساب تلك المدة، هل هو من بداية الرؤيا الصادقة، أو من البعثة التي تلاها فتور في نزول الوحي، أو من الرسالة وتتابع الوحي بعد ذلك.
يضاف إلى ذلك التسامح والتساهل في تحديد الوقت، وجبر الكسور في حساب السنوات. اختصارًا وعادة يقول ابن كثير : "إن العرب كثيرًا ما يحذفون الكسور من كلامهم" (2) وكذلك الخلاف في عمره عليه الصلاة والسلام. حيث قيل إنه ستون سنة. وقيل ثلاث وستون، وقيل خمس وستون.
_________
(1) فضائل القرآن لابن كثير. بتحقيق: ابن إسحاق الحويني الأثري (36)
(2) فضائل القرآن لابن كثير (36)(1/53)
والمعتمد كما يقول ابن حجر أنه صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثًا وستين سنة وأن ما ورد مما يخالف ذلك فهو محمول إما على إلغاء الكسر في السنين أو جبر الكسر في الشهور. (1) وأضاف ابن كثير معنى جديدًا في الجمع وهو: اعتبار قرن جبريل بالرسول صلى الله عليه وسلم في نزول الوحي حيث روي أنه قرن به عليه السلام ميكائيل في ابتداء الأمر. يلقي إليه الكلمة والشيء ثم قرن به جبريل. (2)
كما أنه بعث صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة. كما قال النووي : "واتفقوا أنه صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين وبمكة قبل النبوة أربعين سنة وإنما الخلاف في قدر إقامته بمكة بعد النبوة وقبل الهجرة. والصحيح أنها ثلاث عشرة فيكون عمره ثلاثًا وستين وهذا الذي ذكرناه أنه بعث على رأس أربعين سنة هو الصواب المشهور الذي أطبق عليه العلماء". (3)
وقد حاول الشيخ محمد الخضري اختيار تحديد دقيق للمدة فذكر أن مدة مقامه صلى الله عليه وسلم بمكة هي اثنتا عشرة سنة، وخمسة أشهر، وثلاثة عشر يومًا من يوم 17رمضان سنة 41 من ميلاده الشريف إلى أول ربيع الأول سنة 54 منه.
_________
(1) انظر فتح الباري (9 / 4)
(2) فضائل القرآن الكريم لابن كثير (36)
(3) شرح صحيح مسلم للنووي (15 / 99)، وانظر الزيادة والإحسان (1 / 252)(1/54)
ومدة إقامته بالمدينة بعد الهجرة هي تسع سنوات، وتسعة أشهر، وتسعة أيام من أول ربيع الأول سنة 45 إلى تاسع ذي الحجة سنة 63 من ميلاده الشريف، وهي سنة عشر من هجرته صلى الله عليه وسلم. (1) فصارت المدة بين مبتدأ التنزيل ومختتمه اثنتان وعشرون سنة وشهران واثنان وعشرون يومًا. (2)
وهذا التحديد هو ما أشار إليه الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه مناهل العرفان حيث ذكره وتعقبه فقال: "لكن هذا التحقيق لا يزال في حاجة إلى تحقيقات ثلاث: ذلك لأنه أهمل من حسابه باكورة الوحي إليه صلى الله عليه وسلم عن طريق الرؤيا الصادقة ستة أشهر على أنها ثابتة في الصحيح. ثم جرى فيه على أنه ابتداء نزول القرآن كان ليلة السابع عشر من رمضان وهي ليلة القدر على بعض الآراء، غير أنه يخالف المشهور الذي يؤيده الصحيح.
ثم ذهب فيه مذهب القائلين بأن آخر ما نزل من القرآن هو آية: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (المائدة: 3) وذلك في تاسع ذي الحجة سنة عشر من الهجرة، وسترى في مبحث آخر ما نزل من القرآن أن هذا المذهب غير صحيح (3) " (4)
_________
(1) انظر تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري بك. ص8 وتاريخ القرآن لأبي عبد الله الزنجاني ص71. فقد ذكر تحديد الفترة المكية كما هنا
(2) انظر تاريخ التشريع (5)
(3) الراجح في آخر ما نزل قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (البقرة / 281)
(4) مناهل العرفان (1 / 45)(1/55)
ومما يعترض به على هذا التحديد أن يوم الفرقان 17رمضان هو يوم الجمعة يقول الخضري عن يوم الفرقان، ويوم ابتداء إنزال القرآن الكريم (...فهما متحدان في الوصف، وهو أنهما جميعًا يوافقان الجمعة 17 رمضان وإن لم يكونا في سنة واحدة). (1) والقول بأن يوم ابتداء إنزال القرآن يوافق يوم الجمعة معارض لما ثبت في صحيح مسلم عن يوم الاثنين وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عنه: « ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت - أو أنزل علي فيه » ." (2)
كما حدد الشيخ محمد محمد أبو شهبة مدة نزول القرآن الكريم بأنها اثنتان وعشرون سنة وخمسة أشهر، ونصف الشهر. راعى في هذا التحديد ما ذهب إليه الجمهور من أنه صلى الله عليه وسلم ولد في الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل، وتوفي في الثاني عشر أيضًا من ربيع الأول عام إحدى عشرة من الهجرة.
_________
(1) تاريخ التشريع ص(6،7)
(2) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث طويل (2 / 819) رقم (1162). وراجع ص(49)(1/56)
وبين ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نبئ على رأس الأربعين من ميلاده الشريف وذلك من الثاني عشر من ربيع الأول وقد بدئ الوحي إليه بالرؤيا الصادقة ومكث على ذلك إلى السابع عشر من رمضان وجملة ذلك ستة أشهر وخمسة أيام حين نزل عليه صدر سورة اقرأ. وآخر آية نزلت عليه من القرآن هي قوله تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ } الآية (البقرة: 281) وقد روي أن ذلك قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بتسعة أيام، وقيل بأحد عشر يومًا، وقيل بواحد وعشرين يومًا فلو أخذنا بالمتوسط تكون جملة المدة التي لم ينزل فيها القرآن ستة أشهر وستة عشر يومًا. وجملة عمر صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون عامًا، ومدة نبوته ثلاث وعشرون سنة فإذا أنقصنا منها ستة أشهر وستة عشر يومًا يكون الباقي اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وأربعة عشر يومًا.
ثم قال أبو شهبة بعد هذا معبرًا عن فرحه به: والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ثم انتقد حساب الخضري السابق بأنه بني على أن آخر آية نزلت هي قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية (المائدة: 3)" (1)
_________
(1) المدخل لدراسة القرآن الكريم. (55،56)(1/57)
وما ذكره أبو شهبة - رحمه الله - من تحديد فيه نظر كذلك. إذ جعل يوم السابع عشر من رمضان بداية إنزال القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تقدم أنه يوافق يوم الجمعة - على قول الخضري - وأنه بهذا يعارض ما ثبت في الصحيح.
وكذلك أنه بناه على الأخذ بأحد الأقوال في مدة بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد آخر آية نزلت عليه دون دراسة ترجيحية له. فيبقى ملخص القول أن المدة نحوًا من ثلاث وعشرين سنة تقريبًا لا تحديدًا.(1/58)
يوم إنزال القرآن :
الصحيح أن أول يوم أنزل فيه القرآن هو يوم الاثنين. لحديث أبي قتادة الأنصاري الصحيح، وفيه: وسئل عن صوم يوم الاثنين. قال: « ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت - أو أنزل عليّ فيه » (1) وفي رواية أخرى: ..فقال: « فيه ولدتُ، وفيه أنزل عليّ » (2) وأخرج الواحدي عن أبي قتادة « أن رجلًا قال لرسول الله: أرأيت صوم يوم الإثنين: "قال فيه أنزل عليّ القرآن » (3) وقد ذكر ابن سعد في طبقاته عن ابن عباس قال: نبئ نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين. (4) وعن أنس قال: استنبأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين. (5)
قال الواحدي : وأول يوم أنزل القرآن فيه يوم الاثنين. (6) وذكر البلقيني أنه يوم الاثنين نهارًا. (7)
ولذا قال ابن القيم : ولا خلاف أن مبعثه -صلى الله عليه وسلم- كان يوم الاثنين. (8) وقال ابن كثير : وهكذا قال عبيد بن عمير وأبو جعفر الباقر وغير واحد من العلماء أنه -عليه الصلاة والسلام- أوحي إليه يوم الاثنين. وهذا ما لا خلاف فيه بينهم". (9)
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث طويل. كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام، حديث 1162، (2 / 819)
(2) صحيح مسلم (2 / 820)
(3) أسباب النزول للواحدي، (13-14)
(4) طبقات ابن سعد (1 / 193)
(5) طبقات ابن سعد (1 / 194)
(6) أسباب النزول للواحدي. تحقيق السيد أحمد صقر (13)
(7) انظر فتح الباري (12 / 356)
(8) زاد المعاد (1 / 18)
(9) السيرة النبوية لابن كثير (1 / 392)(1/59)
شهر إنزال القرآن الكريم :
اختلف في شهر إنزال القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم على أقوال:
الأول: أنه شهر رجب، في السابع عشر منه. وهو قول غير مشهور لكنه مذكور. (1)
الثاني: أنه في شهر ربيع الأول. قيل في أوله، والمشهور في ثامنه سنة إحدى وأربعين من عام الفيل. وقد جعله ابن القيم قول الأكثرين. (2)
وقيل في الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين كما روي عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات. (3)
وعن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في ربيع الأول، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في أول شهر بيع الأول وأنزلت عليه البقرة في ربيع الأول. (4)
_________
(1) انظر: فتح الباري - كتاب التعبير (12 / 357). وزاد المعاد لابن القيم (1 / 18). والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي (1 / 250)
(2) انظر المصادر السابقة
(3) انظر السيرة النبوية لابن كثير (1 / 199)، و(1 / 392). وقال: رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عفان عن سعيد بن ميناء عنهما
(4) ذكره ابن كثير في السيرة النبوية (1 / 200) بسنده وقال عنه: وهذا غريب جدًّا، رواه ابن عساكر(1/60)
الثالث: أنه في شهر رمضان، قال الواحدي : وأول شهر أنزل فيه القرآن شهر رمضان، (1) قال الله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } (البقرة: 185) وجعله ابن كثير : المشهور. فقال: والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان كما نص على ذلك عبيد بن عمير، ومحمد بن إسحاق وغيرهما. (2)
قال ابن القيم : وإليه ذهب جماعة منهم يحيى الصرصري حيث يقول في نونيته: شمس النبوة منه في رمضان (3) وأتت عليه أربعون فأشرقت وقال ابن إسحاق : ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في رمضان - ثم استدل له فقال- قال الله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } (البقرة: 185) وقال سبحانه: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } (القدر: 1) وقال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } (4)
_________
(1) أسباب النزول للواحدي (14)
(2) انظر السيرة النبوية (1 / 392)
(3) زاد المعاد (1 / 18)
(4) سورة الدخان / 3. انظر: مختصر السيرة لابن هشام (39) والسيرة النبوية للذهبي (75)(1/61)
واختلف في أي الأوقات من رمضان: فقيل في سابعه، (1) وقيل في الرابع عشر. (2) وقيل في السابع عشر منه. فقد أخرج ابن سعد عن الواقدي عن أبي جعفر الباقر، قال نزل الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان. ورسول الله يوميئذ ابن أربعين سنة. وجبريل الذي كان ينزل عليه بالوحي. (3)
وقيل في الرابع والعشرين من رمضان، قال أبو عبد الله الحليمي : "يريد ليلة خمس وعشرين" (4) وقال ابن كثير : "ولهذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين" (5) واستدل لهذا بحديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "". (6)
وجعله السخاوي في النزول المباشر على الرسول صلى الله عليه وسلم فقال بعد أن ساقه بنحوه: "فهذا الإنزال يريد به - صلى الله عليه وسلم أول نزول القرآن عليه- ثم قال: وقوله عز وجل: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } يشمل الإنزالين" (7)
أما البيهقي فقد حمل حديث واثلة بن الأسقع على أن المراد به الإنزال جملة فقال: "قلت: وإنما أراد - والله أعلم - نزول الملك بالقرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا". (8)
_________
(1) انظر فتح الباري (12 / 356)
(2) المصدر السابق
(3) أخرجه ابن سعد في الطبقات بسنده (1 / 194). وانظر: السيرة النبوية لابن كثير (1 / 392) والزيادة والإحسان في علوم القرآن لابن عقيلة المكي (1 / 250-251). وانظر: تاريخ التشريع للخضري (6،7). فقد ذكر هذا التاريخ لكن جعله يوم الجمعة. وراجع ص(47)
(4) المرشد الوجيز لأبي شامة (13)
(5) السيرة النبوية لابن كثير (1 / 392)
(6) أخرجه أحمد في المسند (4 / 107) وأبو عبيد في فضائل القرآن (368) وأخرجه ابن الضريس بسنده عن أبي الخلد (74) بزيادة في آخره. وابن جرير في تفسيره (2 / 145). والواحدي في أسباب النزول (14). والطبراني في المعجم الكبير (22 / 75) حديث (185). غير أنه وقع في النسخة: «وأنزل القرآن لأربع عشرة» بدلًا من أربع وعشرين. فلعله خطأ. وذكره الألباني في الصحيح رقم (1575) وقال عنه: «هذا إسناد حسن، رجاله ثقات، وفي القطان كلام يسير، وله شاهد من حديث ابن عباس مرفوعًا نحوه، وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (1،367)، وقال عنه: خالفه عبيد الله بن أبي حميد وليس بالقوي فرواه عن أبي المليح عن جابر بن عبد الله d من قوله. ورواه إبراهيم بن طهمان عن قتادة من قوله لم يجاوز به إلا أنه قال: لاثنتي عشرة »وكذلك وجده جرير بن حازم في كتاب أبي قلابة دون ذكر صحف إبراهيم. وانظر السيرة النبوية لابن كثير (1 / 393). وتفسير الماوردي بتحقيق الباحث (2 / 569) والمرشد الوجيز (12) والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي (1 / 252)
(7) جمال القراء (1 / 22-)
(8) الأسماء والصفات للبيهقي (1 / 367)، والمرشد الوجيز (14)(1/62)
ويشهد لهذا المعنى ما رواه ابن أبي شيبة عن أبي قلابة قال: "..أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان.." (1)
وقد ذهب صفي الرحمن المباركفوري في كتابه الرحيق المختوم إلى تحديد دقيق، ورأي جديد وهو أن يوم نزول القرآن وشهره كان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من رمضان ليلًا. الموافق عشرة أغسطس سنة 610م، وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك أربعون سنة قمرية وستة أشهر و12 يومًا، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر و22 يومًا. وهو قول لم يقل به أحد قبله وقد بناه على مايلي:
1 - كونه يوم الاثنين بناء على ما صح من حديث أبي قتادة الأنصاري وفيه ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أنزل عليّ فيه، وهو ما اتفق عليه أهل السير.
2 - وكونه شهر رمضان عملًا بالآيات الثلاث في سور: البقرة، الدخان، والقدر. وكونه شهر الجوار والتحنث بحراء.
3 - وكونه لإحدى وعشرين مضت من رمضان. بناء على أن حساب التقويم العلمي لذلك الشهر في تلك السنة لا يوافق يوم الاثنين إلا يوم السابع، والرابع عشر، والحادي والعشرين، والثامن والعشرين. ولأن ليلة القدر إنما تقع في الوتر من ليالي العشر من شهر رمضان، تعين كون ذلك يوم واحد وعشرين. (2)
_________
(1) المرشد الوجيز (13)
(2) انظر: الرحيق المختوم ص(66) وحاشيته (2)(1/63)
وهذا جهد طيب ومنهج جيد في التحديد إلا أنه يرد عليه ما يلي:
1 - أن كون ذلك يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلًا. يجعل تلك الليلة هي ليلة الثلاثاء اثنتين وعشرين فلا تصير بذلك من ليالي الوتر التي تتحرى بها ليلة القدر. (1)
2 - أن الاستدلال بالآيات الثلاث في سور: البقرة، والدخان، والقدر. على ابتداء النزول ليس صريحًا، وقد فسرت بأن المراد بها النزول جملة إلى السماء الدنيا. وهو ما يتفق مع الروايات الأخرى الواردة عن ابن عباس وغيره في ذلك.
3 - أن حمله تلك الآيات على ابتداء النزول يعني أن ليلة القدر صارت معروفة على وجه اليقين لأن معرفة ابتداء نزول القرآن ميسور للصحابة رضي الله عنهم لو تعلق به أمر تعيين ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. ومعلوم أنها قد أخفيت عينها. فاختلف في تحديدها. وإذا سلم هذا الإيراد كان دليلًا على نزول القرآن في غير شهر رمضان. وكان ترجيحًا للقول بنزوله في شهر ربيع الأول إلا أن تكون ليلة تسع وعشرين على ما ذكر من الحساب.
_________
(1) يصدق تعليله على ما ذكره من موافقة يوم الاثنين لثمان وعشرين من رمضان حيث تكون ليلة تسع وعشرين. وهي من ليالي الوتر، ولكنه لم يذكره ولم يختره(1/64)
وقد رجح ابن حجر كون ابتداء النزول في رمضان فقال: "قلت: ورمضان هو الراجح لما تقدم من أنه الشهر الذي جاء فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حراء فجاءه الملك وعلى هذا يكون سنه حينئذٍ أربعين سنة وستة أشهر". (1)
كما رجح في موضع آخر أنه في آخر شهر رمضان ولم يحدده بتاريخ فقال: "..فيستفاد من ذلك أن يكون آخر شهر رمضان، وهو قول آخر يضاف لما تقدم ولعله أرجحها". (2) وجعل ابن حجر شهر رمضان زمانًا لنزول القرآن جملة، ونزوله مفرقًا أيضًا، فقال عن حديث مدارسة جبريل عليه السلام للرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن "..وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت من حديث ابن عباس .." (3)
_________
(1) فتح الباري، كتاب التعبير (12 / 356)
(2) فتح الباري كتاب التعبير (12 / 357)
(3) فتح الباري، كتاب بدء الوحي (1 / 31)(1/65)
وذكر ابن عرفة في تفسيره مثل هذا التوجيه بعد أن ساق بعض الأقوال في معنى قوله تعالى: { أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } قال: "قال الضحاك : أنزل القرآن في فرضه وتعظيمه، والحض عليه. وقيل: الذي أنزل القرآن فيه. قال ابن عرفة : ولا يبعد أن يراد الأمران فيكون أنزل القرآن فيه تعظيمًا له وتشريفًا.. وقيل: أنزل فيه القرآن جملة إلى سماء الدنيا. قال ابن عرفة فالقرآن على هذا الاسم للكل، وعلى القول الثاني: بأنه أنزل فيه بعضه يكون القرآن اسم جنس يصدق على القليل والكثير" (1)
وإلى مثل ذلك ذهب أبو شامة في تعليقه على ما نسب للشعبي من أن الله عز وجل ابتدأ إنزال القرآن في ليلة القدر فقال: "هو إشارة إلى ابتداء إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك كان وهو متحنث بحراء في شهر رمضان - ثم قال - وقد بينت ذلك في شرح حديث المبعث وغيره. (2)
_________
(1) تفسير ابن عرفة برواية تلميذه الأبي (2 / 539)
(2) كتاب للمؤلف سماه في كتابه الذيل على الروضتين: شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى. انظر المرشد الوجيز (20) حاشية (2)(1/66)
وهذا وإن كان الأمر فيه كذلك إلا أن تفسير الآية به بعيد مع ما قد صح من الآثار عن ابن عباس : أنه نزل جملة إلى السماء الدنيا" (1) ففرق أبو شامة بهذا بين جعل رمضان شهر نزول القرآن والاستدلال له بالآيات. وقال في موضع آخر مبينًا صلة شهر رمضان بالقرآن: "... ويجوز أن يكون قوله: { أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } إشارة إلى كل ذلك، وهو كونه أنزل جملة إلى السماء الدنيا، وأول نزوله إلى الأرض، وعرضه وإحكامه في شهر رمضان. فقويت ملابسة شهر رمضان للقرآن: إنزالًا جملة وتفصيلًا وعرضًا وإحكامًا فلم يكن شيء من الأزمان تحقق له من الظرفية للقرآن ما تحقق لشهر رمضان فلمجموع هذه المعاني قيل: { أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } (2)
_________
(1) المرشد الوجيز لأبي شامة المقدسي (20)
(2) المصدر السابق (24)(1/67)
مقدار التنزيل :
ثبت نزول القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم منجمًا مفرقًا ابتداء أو حسب الحاجة والوقائع. وغالب القرآن الكريم نزل آيات مفرقات وبعضه نزل سورًا كاملة، ونزلت سورتان من قصار السور معًا هما المعوذتان.
فأول ما نزل من القرآن الكريم الآيات الخمس الأولى من سورة العلق. وهي قوله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ }{ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ }{ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ }{ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ثم نزل باقيها بعد نزول سورة المدثر.
كما نزلت الخمس الآيات الأولى من سورة الضحى إلى قوله: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } وصح نزول عشر آيات من قصة الإفك جملة واحدة من سورة النور. وصح كذلك نزول عشر آيات جملة من أول سورة المؤمنون. ونزلت آية { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (المائدة: 3) في عرفة في يوم جمعة.(1/68)
وصح نزول قوله { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } وحدها، وهي بعض آية. فقد أخرج البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما نزلت: { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (النساء: 95) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا فكتبها فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته: فأنزل الله: { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } (1)
وكذا قوله: { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (التوبة: 28) نزلت بعد نزول أول الآية ، فهي بعض آية. (2)
وقد تنزل السورة كاملة ومن ذلك سورة الفاتحة، والإخلاص، والكوثر، والمسد، والنصر، والمرسلات، والصف.. وغيرها. (3)
وأما ما ورد من نزول سورة الأنعام جملة يشيعها سبعون ألف ملك. فلم يخل من خلاف. فقد قال ابن الصلاح في فتاويه: "الحديث الوارد في أنها نزلت جملة رويناه من طريق أبيّ بن كعب وفي إسناده ضعف، ولم نرَ له إسنادًا صحيحًا. وقد روي ما يخالفه فروي أنها لم تنزل جملة واحدة بل نزلت آيات منها بالمدينة اختلفوا في عددها، فقيل ثلاث، وقيل: ست، وقيل غير ذلك. (4)
_________
(1) أخرجه البخاري. كتاب التفسير، باب 18 لا يستوي القاعدون من المؤمنين.. (5 / 182-) وانظر: سنن أبي داود (3 / 17) والمرشد الوجيز (34-) وأسباب النزول للواحدي (168-) وانظر الإتقان (1 / 155)
(2) انظر تفسير الطبري (14 / 194). والتبيان للشيخ طاهر الجزائري (59)
(3) انظر: الإتقان (1 / 136). والزيادة والإحسان (1 / 399)
(4) فتاوى ابن الصلاح (1 / 248)، والبرهان (1 / 199)، والإتقان (1 / 137)(1/69)
وقد قال ابن عقيلة المكي في توجيه هذا الاعتراض. بأن نزول غالبها في حكم نزولها كلها. قال: "أقول: من قال: إن السورة نزلت كلها فإنما يعني - والله أعلم- الغالب، ولا يضر أن ينزل بعضها بعد ذلك وتمامها، فإن القرآن غالبه إنما ينزل مفرقًا آيات. ومثل هذه السورة العظيمة إذا نزل غالبها فيحكم لها بالكل، فإنه نادر الوقوع" (1)
وقد نزلت سورتا المعوذتين معًا بسبب سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله جل شأنه المعوذتين فقرأهما وتعوذ بهما فانحل السحر. (2)
فتبين مما سبق أن القرآن نزل مفرقًا: الآية ، والآيتان، والخمس، والعشر، وأقل وأكثر. كما نزل جزء الآية . ونزلت سورة كاملة، ونزلت سورتا المعوذتين معًا.
ولا شك أن هذه المتابعة الدقيقة من قبل العلماء لجزئيات نزول القرآن الكريم في وقته، وصفته، ومقداره، ويوم إنزاله، وشهره، وكون ذلك ليلًا ونهارًا، حضرًا وسفرًا؛ دليل عناية الأمة البالغة بالقرآن الكريم التي ميز الله بها كتابه فصارت من خصائصه التي تفرد بها، وجعلها الله وسيلة حفظ كتابه الذي تكفل به في قوله سبحانه: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر:9).
_________
(1) الزيادة والإحسان (1 / 401)
(2) انظر: أسباب النزول للواحدي. (515) والجامع لأحكام القرآن (20 / 254)، والزيادة والإحسان (1 / 405)(1/70)
كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى القرآن من جبريل فيحفظه ولا ينساه { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى } فيبلغه أصحابه، ويحفِّظهم إياه، ويأمرهم بكتابته. فتوفر للقرآن الكريم بالغ العناية به، وكامل وسائل حفظه، والمحافظة عليه. وتلك نعمة ومنّة من الله تعالى على الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولا يشكرون.(1/71)