نداءات القرآن لبني الإنسان
أبو يوسف محمد زايد
نداءات القرآن لبني الإنسان
الحمد لله الذي ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه ، وجعل لهم في الأرض مستقراً ومتاعاً إلى حين ، فبعث فيهم النبيين مبشرين ومنذرين ، وأرسل إليهم الرسل مبلغين ناصحين ، وأنزل عليهم الكتب فيها شرعه وأمره ونهيه ، فوعد من آمن وصدق وعمل صالحا بحسن المآب وكريم الثواب ، وتوعد من كذب وأعرض وأفسد في الأرض بشديد العقاب وأليم العذاب...
الحمد لله ، نحمده حمد الفقراء إليه ، هو ربنا الغني الحميد ، ونشكر له شكر المحتاجين السائلين من فضله المزيد ، هو الله ذو العرش المجيد ،الفعال لما يريد ؛وصلى الله وسلم على حبيبه المجتبى وخليله المصطفى محمد خاتم الأنبياء والرسل ، وعلى آله البررة الأطهار ، وصحابته الأجلة الأخيار ، وعلى كل من على نهجهم سار ، ما تعاقب الليل والنهار ،إلى يوم الوقوف بين يدي العزيز الغفار ...
أما بعد،فإن القرآن الكريم تضمن نداءات يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام : 1- نداءات خص الله تعالى بها المصطفين الأخيار ممن اجتباهم لتبليغ رسالاته.. 2-نداءات خاصة جاءت بإحدى هذه الصيغ : - يا أيها الذين كفروا...- يا أيها الكافرون- يا أيها الذين هادوا...- يا بني إسرائيل...- يا أهل الكتاب...- يا ايها الذين آمنوا ... 3- نداءات عامة وردت بإحدى الصيغ التالية : - يا أيها الناس......- يا أيها الإنسان.....- يا بني آدم.....
وقد خصصت هذا الكتاب لهذا القسم الثالث حيث جمعت فيه الآيات وأتبعت كل آية بتفسيرها نقلا عن أحد أعلام التفسير ، أذكر منهم : الطبري ، ابن كثير ، القرطبي ، السعدي ، السيوطي ، رحمهم الله .
بسم الله الرحمن الرحيم
1***** يَا أَيُّهَا النَّاسُ ...................................................(1/1)
1*? يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ *وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ*وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? ( البقرة : 21 - 25 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله "(1/2)
شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشاً أي مهداً كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات والسماء بناء وهو السقف, كما قال في الاَية الأخرى {وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون}... {وأنزل لهم من السماء ماء} والمراد به السحاب ههنا في وقته عند احتياجهم إليه فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد رزقاً لهم ولأنعامهم كما قرر هذا في غير موضع من القرآن, ومن أشبه آية بهذه الاَية قوله تعالى: {الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين} ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم, فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ولهذا قال: {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت :يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" الحديث, وكذا حديث معاذ : أتدري ما حق الله على عباده ؟ "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" الحديث, وفي الحديث الاَخر "لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء فلان, ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان" وقال حماد بن سلمة حدثنا عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة أم المؤمنين لأمها قال: رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت من أنتم ؟ قالوا نحن اليهود, قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله, قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وما شاء محمد, قال ثم مررت بنفر من النصارى فقلت من أنتم ؟ قالوا نحن النصارى, قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله, قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد, فلما أصبحت أخبرت(1/3)
بها من أخبرت ثم أتيت النبي ( فأخبرته فقال: "هل أخبرت بها أحداً ؟" قلت: نعم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده" هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الاَية من حديث حماد بن سلمة به, وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر عن عبد الملك بن عمير به بنحوه, وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي ( ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله نداً ؟ قل ما شاء الله وحده" رواه ابن مردويه وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح به, هذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد, والله أعلم...(1/4)
وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} للفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين, أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم وبه عن ابن عباس {فلا تجعلوا لله انداداً وأنتم تعلمون} أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول ( من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه, وهكذا قال قتادة, وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبو عمرو حدثنا أبو الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {فلا تجعلوا لله أنداداً} قال الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل, وهو أن يقول والله وحياتك يا فلان وحياتي, ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ولولا البط في الدار لأتى اللصوص, وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت, وقول الرجل لولا الله وفلان لا تجعل فيها فلان هذا كله به شرك, وفي الحديث أن رجلاً قال لرسول الله ( ما شاء وشئت, قال: "أجعلتني لله نداً" وفي الحديث الاَخر: "نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون تقولون ما شاء الله وشاء فلان" قال أبو العالية فلا تجعلوا لله أنداداً أي عدلاء شركاء, وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد, وقال مجاهد {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} قال تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.
ذكر حديث في معنى هذه الاَية الكريمة "(1/5)
قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري أن نبي الله ( قال: "إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن وأنه كاد أن يبطى بها فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهم وإما أن إبلغهن, فقال يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهم وآمركم أن تعملوا بهن, أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً, فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده, فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً, وآمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفوا, وآمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك, وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك, وآمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه, وقال لهم هل لكم أن أفتدي نفسي منكم, فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه, وآمركم بذكر الله كثيراً وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره, فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله" قال: وقال رسول الله ( : "وأنا آمركم بخمسٍ الله أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله, فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي(1/6)
جهنم" قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلى ؟ فقال: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسملين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله" هذا حديث حسن والشاهد منه في هذه الاَية قوله: "وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً" وهذه الاَية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى وهي دالة على ذلك بطريق الأولى فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة, علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه, كما قال بعض الأعراب, وقد سئل ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير, وإن أثر الأقدام لتدل على المسير, فسماء ذات أبراج, وأرض ذات فجاج, وبحار ذات أمواج ؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟.(1/7)
وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوال والنغمات, وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى, فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها, وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها, وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد, فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل, فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع, فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا علي يديه. وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع, فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم, وتأكله النحل فيخرج منه العسل وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعراً وروثاً, وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد, وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال ههنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ, ظاهره كالفضة البيضاء, وباطنه كالذهب الإبريز, فبينا هو كذلك إذا انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح, يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
وقال ابن المعتز:
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد(1/8)
وقال آخرون من تأمل هذه السموات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت, وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها, ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب, والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال تعالى: {ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك, إنما يخشى الله من عباده العلماء} وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه, عليه توكلت وإليه أنيب, والاَيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً.
** (وإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ )(1/9)
ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو ، فقال مخاطباً للكافرين: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} يعني محمداً ( فأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك, قال ابن عباس: شهداءكم أعوانكم, وقال السدي عن أبي مالك شركاءكم أي قوماً آخرين يساعدونكم على ذلك, أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم, وقال مجاهد وادعوا شهداءكم قال ناس يشهدون به يعني حكام الفصحاء, وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} وقال في سورة سبحان {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} وقال في سورة هود: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} وقال في سورة يونس: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعوا ما استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} وكل هذه الاَيات مكية, ثم تحداهم بذلك أيضاً في المدينة فقال في هذه الاَية {وإن كنتم في ريب ـ أي شك ـ مما نزلنا على عبدنا ـ يعني محمداً ( ـ فأتوا بسورة من مثله} يعني من مثل القرآن, قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير والطبري والزمخشري والرازي, ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري, وأكثر المحققين, ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل من التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم وبدليل قوله تعالى: {فأتوا بعشر سور مثله} وقوله {لا يأتون(1/10)
بمثله} وقال بعضهم من مثل محمد ( , يعني من رجل أمي مثله, والصحيح الأول, لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ومع هذا عجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} ولن لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبداً وهذه أيضاً معجزة أخرى, وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً مقدماً غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الاَبدين ودهر الداهرين وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن, وأنى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء, وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين, ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى, قال الله تعالى: {الر * كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذى ولا يدانى, فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء, وأمر بكل خير, ونهى عن كل شر كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام, فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها ، كما قيل في الشعر إن أعذبه أكذبه, وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئاً إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح, ثم تجد له فيه بيت أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته, وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلاً(1/11)
وإجمالاً ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير, فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة وسواء تكررت أم لا, وكلما تكرر حلا وعلا, لا يخلق عن كثرة الرد, ولا يمل منه العلماء, وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات, فما ظنك بالقلوب الفاهمات, وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والاَذان, ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} وقال: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} وقال في الترهيب: {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر} {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير} وقال في الزجر: {فكلاً أخذنا بذنبه} وقال في الوعظ: {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة, وإن جاءت الاَيات في الأحكام والأوامر والنواهي, اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب, والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء, كما قال ابن مسعود وغيره من السلف, إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن: {يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك فإنها خير يأمر به أو شر ينهى عنه, ولهذا قال تعالى: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} الاَية, وان جاءت الاَيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم, بشرت به وحذرت وأنذرت, ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات, وزهدت في الدنيا ورغبت في الاَخرة, وثبتت على الطريقة المثلى, وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم, ونفت عن القلوب رجس الشيطان(1/12)
الرجيم. ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ( قال: "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الاَيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" ـ لفظ مسلم ـ وقوله (: "وإنما كان الذي أوتيته وحياً" أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليس معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم, وله عليه الصلاة والسلام من الاَيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ولله الحمد والمنة.
وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة, فقال: إن كان هذا القرآن معجزاً في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته فقد حصل المدعى وهو المطلوب, وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له كان ذلك دليلاً على أنه من عند الله لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك, وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر وإنا أعطيناك الكوثر.(1/13)
وقوله تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} أما الوقود, بفتح الواو, فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه, كما قال تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} وقال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون} والمراد بالحجارة ههنا هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة, وهي أشد الأحجار حراً إذا حميت أجارنا الله منها, وقال عبد الملك بن ميسرة الزراد عن عبد الرحمن بن سابط بن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {وقودها الناس والحجارة} قال هي حجارة من كبريت, خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين. رواه ابن جرير وهذا لفظه وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين. وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرّة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة, أما الحجارة فهي من كبريت أسود يعذبون به مع النار, وقال مجاهد حجارة من كبريت أنتن من الجيفة, وقال أبو جعفر محمد بن علي حجارة من كبريت, وقال ابن جريج حجارة من كبريت أسود في النار, وقال لي عمرو بن دينار: أصلب من هذه الحجارة وأعظم. وقيل المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} الاَية, حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول, قال لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمستنكر فجعلها هذه الحجارة أولى. وهذا الذي قاله ليس بقوي, وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك, ثم أخذ النار بهذه الحجارة أيضاً مشاهد, وهذا الجص يكون أحجاراً فيعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار(1/14)
تفخرها النار وتحرقها وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها, وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال تعالى: {كلما خبت زدناهم سعيراً} وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها قال ليكون ذلك أشد عذاباً لأهلها, قال وقد جاء في الحديث عن النبي ( أنه قال: "كل مؤذ في النار" وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف, ثم قال القرطبي وقد فسر بمعنيين, أحدهما أن كل من آذى الناس دخل النار, والاَخر أن كل ما يؤذي في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك.
وقوله تعالى: {أعدت للكافرين} الأظهر أن الضمير في أعدت عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة, ويحتمل عوده إلى الحجارة كما قال ابن مسعود, ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان وأعدت أي رصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {أعدت للكافرين} أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر, وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الاَية على أن النار موجودة الاَن لقوله تعالى: {أعدت} أي أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها "تحاجت الجنة والنار" ومنها "استأذنت النار ربها فقالت رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف" وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله ( : "هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الاَن وصل إلى قعرها" وهو عند مسلم, وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس.(1/15)
(تنبيه ينبغي الوقوف عليه) قوله تعالى: { فأتوا بسورة من مثله} وقوله في سورة يونس: {بسورة مثله} يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أم قصيرة لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عن المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه, فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها, وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين الناس سلفاً وخلفاً وقد قال الرازي في تفسيره فإن قيل قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} يتناول سورة الكوثر وسورة العصر, وقل يا أيها الكافرون ونحن نعلم بالضرورة أن الاتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار البشر كان مكابرة والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين (قلنا) فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني وقلنا إن بلغت هذه السور في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود, وإن لم يكن كذلك, كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزاً, فعلى التقديرين يحصل المعجز, هذا لفظه بحروفه والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة قال الشافعي رحمه الله, لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم {والعصر إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم, فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين ؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال وما هي فقال {والعصر إن الإنسان لفي خسر} ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال ولقد أنزل علي مثلها, فقال: وما هو ؟ فقال: يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر, وسائرك حقر فقر, ثم قال كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب.(1/16)
(وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هََذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال, عطف يذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة, وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه, وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه, وحاصله ذكر الشيء ومقابله. وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله فلهذا قال تعالى: {وبشر الذين أمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها, وقد جاء في الحديث: أن أنهارها تجري في غير أخدود, وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف, ولا منافاة بينها فطينها المسك الأذفر, وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر, نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم. وقال ابن أبي حاتم: قرأ على الربيع بن سليمان, حدثنا أسد بن موسى, حدثنا أبو ثوبان عن عطاء بن قرة, عن عبد الله بن ضمرة, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ( : "أنهار الجنة تفجر تحت تلال أو من تحت جبال المسك" وقال أيضاً حدثنا أبو سعيد حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق, قال: قال عبد الله: أنهار الجنة تفجر من جبل المسك.(1/17)
وقوله تعالى: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قالوا هذا الذي رزقنا من قبل, قال إنهم أُتُوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا, وهكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ونصرة بن جرير, وقال عكرمة {قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} قال معناه مثل الذي كان بالأمس, وكذا قال الربيع بن أنس. وقال مجاهد يقولون ما أشبهه به قال ابن جرير: وقال آخرون: بل تأويل هذا الذي رزقنا من قبل ثمار الجنة من قبل هذا لشدة مشابهة بعضه بعضاً لقوله تعالى: {وأتوا به متشابهاً} قال سنيد بن داود حدثنا شيخ من أهل المصيصة عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال يؤتى أحدهم بالصفحة من الشيء فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل, فتقول الملائكة كُلْ فاللون واحد والطعم مختلف. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا عامر بن يساف عن يحيى بن أبي كثير, قال عشب الجنة الزعفران وكثبانها المسك, ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها, ثم يؤتون بمثلها, فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي أتيتمونا آنفاً به, فتقول لهم الوالدان: كلوا فاللون واحد والطعم مختلف, وهو قول الله تعالى: {وأتوا به متشابهاً} وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية {وأتوا به متشابهاً} قال: يشبه بعضه بعضاً, ويختلف في الطعم, قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة, عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى: {وأتوا به متشابهاً} يعني في اللون والمرأى وليس يشتبه في الطعم, وهذا اختيار ابن جرير, وقال عكرمة {وأتوا به متشابهاً} قال يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب,(1/18)
وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس لا يشبه شيئاً مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء, وفي رواية: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء, ورواه ابن جرير من رواية الثوري وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وأتوا به متشابهاً} قال يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا التفاح بالتفاح والرمان بالرمان, قالوا في الجنة هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا وأتوا به متشابهاً يعرفونه وليس هو مثله في الطعم.(1/19)
وقوله تعالى: {ولهم فيها أزواج مطهرة} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: مطهرة من القذر والأذى, وقال مجاهد, من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد, وقال قتادة مطهرة من الأذى والمأثم, وفي رواية عنه لا حيض ولا كلف, وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك. وقال ابن جرير حدثني يونس بن عبد الأعلى. أنبأنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, قال: المطهرة التي لا تحيض, قال وكذلك خلقت حواء عليها السلام, فلما عصت قال الله تعالى: إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة ـ وهذا غريب, وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد حدثني حعفر بن محمد بن حرب وأحمد بن محمد الجوري قالا: حدثنا محمد بن عبيد الكندي, حدثنا عبد الرزاق بن عمر البزيعي, حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي ( في قوله تعالى: {ولهم فيها أزواج مطهرة} قال: من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق. هذا حديث غريب ـ وقد رواه الحاكم في مستدركه عن محمد بن يعقوب بن الحسن بن علي بن عفان عن محمد بن عبيد به, وقال صحيح على شرط الشيخين, وهذا الذي ادعاه فيه نظر, فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي: لا يجوز الاحتجاج به (قلت) والأظهر أن هذا من كلام قتادة كما تقدم, والله أعلم.
وقوله تعالى: {وهم فيها خالدون} هذا هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام, والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم, إنه جواد كريم بر رحيم.
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله(1/20)
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون )"
هذا أمر لكل الناس بأمر عام وهو العبادة الجامعة لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه وتصديق خبره فأمرهم تعالى بما خلقهم له قال تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "
ثم استدل على وجوب عبادته وحده بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم فخلقكم بعد العدم وخلق الذين من قبلكم وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها وتنتفعون بالأبنية والزراعة والحراثة والسلوك من محل إلى محل وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها وجعل السماء بناء لمسكنكم وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم كالشمس والقمر والنجوم..." وأنزل من السماء ماء ".. والسماء : [ هو ] كل ما علا فوقك فهو سماء ولهذا قال المفسرون : المراد بالسماء هاهنا : السحاب فأنزل منه تعالى ماء ..." فأخرج به من الثمرات " كالحبوب والثمار من نخيل وفواكه [ وزروع ] وغيرها ..." رزقا لكم " به ترتزقون وتقوتون وتعيشون وتفكهون
" فلا تجعلوا لله أندادا " أي : نظراء وأشباها من المخلوقين فتعبدونهم كما تعبدون الله وتحبونهم كما تحبونه وهم مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبرون لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ولا ينفعونكم ولا يضرون" وأنتم تعلمون "
أن الله ليس له شريك ولا نظير لا في الخلق والرزق والتدبير ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك ؟ هذا من أعجب العجب وأسفه السفه ...(1/21)
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة ما سواه وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته وبطلان عبادة من سواه وهو [ ذكر ] توحيد الربوبية المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك فكذلك فليكن الإقرار بأن [ الله ] ليس له شريك في العبادة وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري وبطلان الشرك ...
وقوله تعالى : " لعلكم تتقون " يحتمل أن المعنى : أنكم إذا عبدتم الله وحده اتقيتم بذلك سخطه وعذابه لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك ويحتمل أن يكون المعنى : أنكم إذا عبدتم الله صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى وكلا المعنيين صحيح وهما متلازمان فمن أتى بالعبادة كاملة كان من المتقين ومن كان من المتقين حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه ثم قال تعالى :
" وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين "(1/22)
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال : " وإن كنتم " معشر المعاندين للرسول الرادين دعوته الزاعمين كذبه في شك واشتباه مما نزلنا على عبدنا هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف فيه الفيصلة بينكم وبينه وهو أنه بشر مثلكم ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم ولا يكتب ولا يقرأ فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله وقلتم أنتم أنه تقوله وافتراه فإن كان الأمر كما تقولون فأتوا بسورة من مثله واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم فإن هذا أمر يسير عليكم خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة والعداوة العظيمة للرسول فإن جئتم بسورة من مثله فهو كما زعمتم وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز ولن تأتوا بسورة من مثله ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزيل معكم فهذا آية كبرى ودليل واضح [ جلي ] على صدقه وصدق ما جاء به فيتعين عليكم اتباعه واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [ والشدة ] أن كانت وقودها الناس والحجارة ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله فاحذروا الكفر برسوله بعدما تبين لكم أنه رسول الله ...
وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن قال تعالى : " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " وكيف يقدر المخلوق من تراب أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب ؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه أن يأتي بكلام ككلام الكامل الذي له الكمال المطلق والغنى الواسع من جميع الوجوه ؟ هذا ليس في الإمكان ولا في قدرة الإنسان وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [ بأنواع ] الكلام إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء ظهر له الفرق العظيم(1/23)
وفي قوله : " وإن كنتم في ريب " إلى آخره دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة : [ هو ] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق ، وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه فهذا لا يمكن رجوعه لأنه ترك الحق بعدما تبين له ولم يتركه عن جهل فلا حيلة فيه وكذلك الشاك الذي ليس بصادق في طلب الحق بل هو معرض غير مجتهد في طلبه فهذا في الغالب لا يوفق ... وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم قيامه بالعبودية التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء فقال : " سبحان الذي أسرى بعبده " وفي مقام الإنزال فقال : " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده "
وفي قوله : " أعدت للكافرين " ونحوها من الآيات دليل لمذهب أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة وفيها أيضا أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار لأنه قال : " أعدت للكافرين " فلو كان [ عصاة الموحدين ] يخلدون فيها لم تكن معدة للكافرين وحدهم خلافا للخوارج والمعتزلة وفيه دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه وهو الكفر وأنواع المعاصي على اختلافها...
( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون)(1/24)
- لما ذكر جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أهل الأعمال الصالحات على طريقته تعالى في القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب ليكون العبد راغبا راهبا خائفا راجيا فقال : " وبشر " أي : [ يا أيها الرسول ومن قام مقامه ] " الذين آمنوا " بقلوبهم " وعملوا الصالحات " بجوارحهم فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة ... ووصفت أعمال الخير بالصالحات لأن بها تصلح أحوال العبد وأمور دينه ودنياه وحياته الدنيوية والأخروية ويزول بها عنه فساد الأحوال فيكون بذلك من الصالحين الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته فبشرهم " أن لهم جنات " أي : بساتين جامعة للأشجار العجيبة والثمار الأنيقة والظل المديد [ والأغصان والأفنان وبذلك ] صارت جنة يجتن بها داخلها وينعم فيها ساكنها " تجري من تحتها الأنهار " أي : أنهار الماء واللبن والعسل والخمر يفجرونها كيف شاؤوا ويصرفونها أين أرادوا وتسقى منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل "
أي : هذا من جنسه وعلى وصفه كلها متشابهة في الحسن واللذة ليس فيها ثمرة خاصة وليس لهم وقت خال من اللذة فهم دائما متلذذون بأكلها وقوله : " وأتوا به متشابها " قيل : متشابها في الاسم مختلفا في الطعم وقيل : متشابها في اللون مختلفا في الاسم وقيل : يشبه بعضه بعضا في الحسن واللذة والفكاهة ولعل هذا هو الصحيح ...(1/25)
ثم لما ذكر مسكنهم وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم ذكر أزواجهم فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه وأوضحه فقال : " ولهم فيها أزواج مطهرة " فلم يقل مطهرة من العيب الفلاني ليشمل جميع أنواع التطهير فهن مطهرات الأخلاق مطهرات الخلق مطهرات اللسان مطهرات الأبصار فأخلاقهن أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن وحسن التبعل والأدب القولي والفعلي ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني والبول والغائط والمخاط والبصاق والرائحة الكريهة ومطهرات الخلق أيضا بكمال الجمال فليس فيهن عيب ولا دمامة خلق بل هن خيرات حسان مطهرات اللسان والطرف قاصرات طرفهن على أزواجهن وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح ففي هذه الآية الكريمة ذكر المبشر والمبشر والمبشر به والسبب الموصل لهذه البشارة فالمبشر : هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته والمبشر : هم المؤمنون العاملون الصالحات والمبشر به : هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات والسبب الموصل لذلك هو الإيمان والعمل الصالح فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة إلا بهما وهذا أعظم بشارة حاصلة على يد أفضل الخلق بأفضل الأسباب ... وفيه استحباب بشارة المؤمنين وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها [ وثمراتها ] فإنها بذلك تخف وتسهل وأعظم بشرى حاصلة للإنسان توفيقه للإيمان والعمل الصالح فذلك أول البشارة وأصلها ومن بعده البشرى عند الموت ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم نسأل الله أن يجعلنا منهم
**************************
2*? يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ? (البقرة : 168 -169 )(1/26)
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله "
لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو, وأنه المستقل بالخلق, شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه, فذكر في مقام: الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالاً من الله طيباً, أي مستطاباً في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول, ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان وهي طرائقه ومسالكه فيما أضلّ اتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها, مما كان زينه لهم في جاهليتهم, كما في حديث عياض بن حمَار الذي في صحيح مسلم عن رسول ( أنه قال "يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال ـ وفيه ـ وإني خلقت عبادي حنفاء, فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم, وحرمت عليهم ما أحللت لهم" وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة المصري , حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الاحتياطي, حدثنا أبو عبد الله الجوزجاني رفيق إبراهيم بن أدهم, حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس, قال تليت هذه الاَية عند النبي ({يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله, ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة, فقال "يا سعد أطب مطعمك, تكن مستجاب الدعوة, والذي نفس محمد بيده, إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً, وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به".(1/27)
وقوله: {إنه لكم عدو مبين} تنفير عنه وتحذير منه, كما قال: {إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونا من أصحاب السعير} وقال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوّ بئس للظالمين بدلاً} وقال قتادة والسدي في قوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}: كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان, وقال عكرمة: هي نزغات الشيطان, وقال مجاهد: خطاه أو قال خطاياه, وقال أبو مجلز: هي النذور في المعاصي, وقال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه, فأفتاه مسروق بذبح كبش, وقال: هذا من خطوات الشيطان, وقال أبو الضحىَ عن مسروق أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح, فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم, فقال: لا أريده, فقال: أصائم أنت قال: لا, قال: فما شأنك ؟ قال: حرمت أن آكل ضرعاً أبداً, فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان, فاطعم وكفّر عن يمينك, رواه ابن أبي حاتم, وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا حسان بن عبد الله المصري عن سليمان التيمي, عن أبي رافع, قال: غضبت يوماً على امرأتي, فقالت: هي يوماً يهودية ويوماً نصرانية, وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك, فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان, وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة, وهي يومئذ أفقه أمرأة في المدينة, وأتيت عاصماً وابن عمر فقالا مثل ذلك: وقال عبد بن حميد: حدثنا أبو نعيم عن شريك, عن عبد الكريم, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب, فهو من خطوات الشيطان, وكفارته كفارة يمين. وقوله: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} أي إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة, وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه, وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم, فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضاً.
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله "(1/28)
الآية: 168 {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}
قوله تعالى: "يا أيها الناس" قيل: إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الأنعام، واللفظ عام. والطيب هنا الحلال، فهو تأكيد لاختلاف اللفظ، وهذا قول مالك في الطيب. وقال الشافعي: الطيب المستلذ، فهو تنويع، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر. وسيأتي بيان هذا في "الأنعام" و"الأعراف" إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: "حلالا طيبا" "حلالا" حال، وقيل مفعول. وسمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الحظر عنه. قال سهل بن عبد الله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي (. وقال أبو عبدالله الساجي واسمه سعيد بن يزيد: خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة اللّه عز وجل، ومعرفة الحق ، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل. قال سهل: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم ، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال: الربا والحرام والسحت - وهو اسم مجمل - والغلول والمكروه والشبهة.
قوله تعالى: "ولا تتبعوا" نهي "خطوات الشيطان" "خطوات" جمع خطوة وخطوة بمعنى واحد. قال الفراء: الخطوات جمع خطوة، بالفتح. وخطوة (بالضم): ما بين القدمين. وقال الجوهري: وجمع القلة خطوات وخطوات وخطوات، والكثير خطا. والخطوة (بالفتح): المرة الواحدة، والجمع خطوات (بالتحريك) وخطاء، مثل ركوة وركاء، قال امرؤ القيس:
لها وثبات كوثب الظباء فواد خطاء وواد مطر(1/29)
وقرأ أبو السمال العدوي وعبيد بن عمير "خطوات" بفتح الخاء والطاء. وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون والأعمش "خطؤات" بضم الخاء والطاء والهمزة على الواو. قال الأخفش: وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطيئة، من الخطأ لا من الخطو. والمعنى على قراءة الجمهور: ولا تقفوا أثر الشيطان وعمله، وما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان. قال ابن عباس: "خطوات الشيطان" أعماله. مجاهد: خطاياه. السدي: طاعته. أبو مجلز: هي النذور في المعاصي.
قلت: والصحيح أن اللفظ عام في كل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي. وتقدم القول في "الشيطان" مستوفى.(1/30)
قوله تعالى: "إنه لكم عدو مبين" أخبر تعالى بأن الشيطان عدو، وخبره حق وصدق. فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم، وقد أمر اللّه تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل: "ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين"، "إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" [البقرة: 169] وقال: "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء" [البقرة: 268] وقال: "ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا" [النساء: 60] وقال: "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون" [المائدة: 91] وقال: "إنه عدو مضل مبين" [القصص:15] وقال: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" [فاطر: 6]. وهذا غاية في التحذير، ومثله في القرآن كثير. وقال عبدالله بن عمر: إن إبليس موثق في الأرض السفلى، فإذا تحرك فإن كل شر الأرض بين اثنين فصاعدا من تحركه. وخرج الترمذي من حديث أبي مالك الأشعري وفيه: (وآمركم أن تذكروا اللّه فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر اللّه) الحديث. وقال فيه: حديث حسن صحيح غريب.
الآية: 169 {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}
قوله تعالى: "إنما يأمركم بالسوء والفحشاء" سمي السوء سوءا لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه. وهو مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه. وسؤته فسيء إذا أحزنته فحزن، قال اللّه تعالى: "سيئت وجوه الذين كفروا" [الملك: 27]. وقال الشاعر:
إن يك هذا الدهر قد ساءني فطالما قد سرني الدهر
الأمر عندي فيهما واحد لذاك شكر ولذاك صبر
والفحشاء أصله قبح المنظر، كما قال: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش(1/31)
ثم استعملت اللفظة فيما يقبح من المعاني. والشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء. وقال مقاتل: إن كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنى، إلا قوله: "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء" [البقرة: 268] فإنه منع الزكاة.
قلت: فعلى هذا قيل: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه حد. وحكي عن ابن عباس وغيره، واللّه تعالى أعلم.
قوله تعالى: "وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" قال الطبري: يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها مما جعلوه شرعا. "وأن تقولوا" في موضع خفض عطفا على قوله تعالى: "بالسوء والفحشاء"....
***********************************
3*? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ? (النساء : 1 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/32)
يقول تعالى آمراً خلقه بتقواه, وهي عبادته وحده لا شريك له, ومنبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة, وهي آدم عليه السلام {وخلق منها زوجها} وهي حواء عليها السلام خلقت من ضلعه الأيسر, من خلفه وهو نائم, فاستيقظ فرآها فأعجبته, فأنس إليها وأنست إليه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن مقاتل, حدثنا وكيع عن أبي هلال عن قتادة, عن ابن عباس, قال: خلقت المرأة من الرجل فجعل نهمتها في الرجل وخلق الرجل من الأرض فجعل نهمته في الأرض, فاحبسوا نساءكم. وفي الحديث الصحيح: "إن المرأة خلقت من ضلع, وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه, فإن ذهبت تقيمه كسرته, وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج". وقوله: {وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} أي وذرأ منهما أي من آدم وحواء رجالاً كثيراً ونساء, ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم, ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر. ثم قال تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} أي واتقوا الله بطاعتكم إياه. قال إبراهيم ومجاهد والحسن {الذي تساءلون به} أي كما يقال: أسألك بالله وبالرحم, وقال الضحاك: واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به, واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها, قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن والضحاك والربيع وغير واحد وقرأ بعضهم: والأرحام بالخفض على العطف على الضمير في به أي تساءلون بالله وبالأرحام, كما قال مجاهد وغيره. وقوله: {إن الله كان عليكم رقيباً} أي هو مراقب لجميع أحولكم وأعمالكم, كما قال: {والله على كل شيء شهيد}. وفي الحديث الصحيح "اعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه, فإنه يراك" وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب. ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة ليعطف بعضهم على بعض, ويحننهم على ضعفائهم. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله ( حين قدم عليه أولئك النفر من مضر وهم(1/33)
مجتابو النّمار ـ أي من عريهم وفقرهم ـ قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة}, حتى ختم الاَية. وقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد}, ثم حضهم على الصدقة فقال: "تصدق رجل من ديناره, من درهمه, من صاع بره, من صاع تمره" وذكر تمام الحديث, وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة, وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها {يا أيها الناس اتقوا ربكم} الاَية.
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا )(1/34)
افتتح تعالى هذه السورة ، بالأمر بتقواه ، والحث على عبادته ، والأمر بصلة الأرحام ، والحث على ذلك . وبين السبب الداعي ، الموجب لكل من ذلك ، وأن الموجب لتقواه أنه " ربكم الذي خلقكم " ورزقكم ، ورباكم بنعمه العظيمة ، التي من جملتها خلقكم " من نفس واحدة وخلق منها زوجها " ليناسبها ، فيسكن إليها، وتتم بذلك النعمة ، ويحصل به السرور . وكذلك ، من الموجب الداعي لتقواه ، تساؤلكم به ، وتعظيمكم . حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم ، توسلتم به ، بالسؤال . فيقول من يريد ذلك لغيره : أسألك بالله ، أن تفعل الأمر الفلاني؛ لعلمه بما قام في قلبه ، من تعظيم الله الداعي ، أن لا يرد من سأله بالله . فكما عظمتموه بذلك ، فلتعظموه بعبادته وتقواه . وكذلك الإخبار بأنه رقيب ، أي : مطلع على العباد ،في حال حركاتهم وسكونهم ، وسرهم وعلنهم ،وجميع الأحوال ، مراقبا لهم فيها ، مما يوجب مراقبته ، وشدة الحياء منه ، بلزوم تقواه . وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة ، وأنه بثهم في أقطار الأرض ، مع رجوعهم إلى أصل واحد ـ ليعطف بعضهم على بعض ، ويرقق بعضهم على بعض . وقرن الأمر بتقواه ، بالأمر ببر الأرحام ، والنهي عن قطيعتها ، ليؤكد هذا الحق . وإنه كما يلزم القيام بحق الله ، كذلك يجب القيام بحقوق الخلق ، خصوصا الأقربين منهم ، بل القيام بحقوقهم ، هو من حق الله الذي أمر به . وتأمل كيف افتتح هذه السورة ، بالأمر بالتقوى ، وصلة الأرحام والأزواج عموما . ثم بعد ذلك ، فصل هذه الأمور أتم تفصيل ، من أول السورة إلى آخرها . فكأنها مبنية على هذه الأمور المذكورة ، مفصلة لما أجمل منها ، موضحة لما أبهم . وفي قوله :
" وجعل منها زوجها " تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به ، لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج فبينهم وبينهن أقرب نسب ، وأشد اتصال ، وأوثق علاقة ....
*******************************************************(1/35)
4*? (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ? (النساء : 170 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله
{يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم} أي قد جاءكم محمد صلوات الله وسلامه عليه بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله عز وجل, فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه, يكن خيراً لكم. ثم قال: {وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض} أي فهو غني عنكم وعن إيمانكم, ولا يتضرر بكفرانكم, كما قال تعالى: {وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد} وقال ههنا: {وكان الله عليماً} أي بمن يستحق منكم الهداية فيهدية, وبمن يستحق الغواية فيغويه, {حكيماً} أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله
يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما}
قوله تعالى: "يا أيها الناس" هذا خطاب للكل. "قد جاءكم الرسول" يريد محمدا (. "بالحق" بالقرآن. وقيل: بالدين الحق؛ وقيل: بشهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: الباء للتعدية؛ أي جاءكم ومعه الحق؛ فهو في موضع الحال. "فآمنوا خيرا لكم" في الكلام إضمار؛ أي وأتوا خيرا لكم؛ هذا مذهب سيبويه، وعلى قول الفراء نعت لمصدر محذوف؛ أي إيمانا خيرا لكم، وعلى قول أبي عبيدة يكن خيرا لكم.
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
( يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما )(1/36)
يأمر تعالى جميع الناس ، أن يؤمنوا بعبده ورسوله محمد ( . وذكر السبب الموجب للإيمان به ، والفائدة في الإيمان والمضرة ، في عدم الإيمان به . فالسبب الموجب ، هو : إخباره بأنه جاءهم بالحق . فمجيئه نفسه حق ، وما جاء به من الشرع حق . فإن العاقل ، يعرف أن بقاء الخلق في جهلهم يعمهون ، وفي كفرهم يترددون ، والرسالة قد انقطعت عنهم ، غير لائق بحكمة الله ورحمته . فمن حكمته ورحمته العظيمة ، نفس إرسال الرسول إليهم ، ليعرفهم الهدى من الضلال ، والغي من الرشد . فمجرد النظر في رسالته ، دليل قاطع على صحة نبوته . وكذلك النظر إلى ما جاء به ، من الشرع العظيم ، والصراط المستقيم . فإنه فيه من الإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة ، والخبر عن الله ، وعن اليوم الآخر ـ ما لا يعرفه أحد إلا بالوحي والرسالة . وما فيه من الأمر ، بكل خير وصلاح ، ورشد ، وعدل ، وإحسان ، وصدق ، وبر ، وصلة ، وحسن خلق ، ومن النهي عن الشر والفساد ، والبغي والظلم ، وسوء الخلق ، والكذب والعقوق ، مما يقطع به أنه من عند الله . وكلما ازداد به العبد بصيرة ، ازداد إيمانه ويقينه ، فهذا السبب الداعي للإيمان . وأما الفائدة في الإيمان ، فأخبر أنه " خيرا لكم " والخير ، ضد الشر . فالإيمان ، خير للمؤمنين ، في أبدانهم ، وقلوبهم ، وأرواحهم ، ودنياهم ، وأخراهم . وذلك لما يترتب عليه ، من المصالح والفوائد . فكل ثواب ، عاجل وآجل ، فمن ثمرات الإيمان . فالنصر ، والهدى ، والعلم ، والعمل الصالح ، والسرور ، والأفراح ، والجنة ، وما اشتملت عليه ، من النعيم ـ كل ذلك ، سبب عن الإيمان . كما أن الشقاء الدنيوي ، والأخروي ، من عدم الإيمان ، أو نقصه . وأما مضرة عدم الإيمان به ( ، فيعرف بضد ما يترتب عليه الإيمان . وأن العبد لا يضر إلا نفسه ، والله تعالى ، غني عنه ، لا تضره معصية العاصين . ولهذا قال : " فإن لله ما في السماوات والأرض " أي : الجميع خلقه وملكه ، وتحت(1/37)
تدبيره وتصريفه " وكان الله عليما " بكل شيء " حكيما " في خلقه وأمره . فهو العليم بمن يستحق الهداية والغواية ، الحكيم في وضع الهداية والغواية ، موضعهما .
***********************************************************
5*? يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا *? (النساء : 174 -175 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله
يقول تعالى مخاطباً جميع الناس ومخبراً بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم, وهو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبهة, ولهذا قال: {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} أي ضياء واضحاً على الحق, قال ابن جريج وغيره: وهو القرآن {فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به} أي جمعوا بين مقامي العبادة, والتوكل على الله في جميع أمورهم, وقال ابن جريج: آمنوا بالله واعتصموا بالقرأن. رواه ابن جرير {فسيدخلهم في رحمة منه وفضل} أي يرحمهم فيدخلهم الجنة, ويزيدهم ثواباً ومضاعفة ورفعاً في درجاتهم من فضله عليهم وإحسانه إليهم, {ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً} أي طريقاً واضحاً قصداً قواماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والاَخرة, فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات, وفي الاَخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات. وفي حديث الحارث الأعور, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, عن النبي (أنه قال: "القرآن صراط الله المستقيم, وحبل الله المتين" وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير, ولله الحمد والمنة.(1/38)
قلت : أشار رحمه الله إلى ما ذكره في تفسير الفاتحة عند قوله جل من قائل : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ؛ قال :
وأما الصراط المستقيم فقال الإمام أبو جعفر بن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه وذلك في لغة العرب فمن ذلك قال جرير بن عطية الخطفي:
= أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم = قال والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر, قال ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل ووصف باستقامة أو اعوجاج فتصف المستقيم باستقامته والمعوج باعوجاجه. ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط, وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو المتابعة لله وللرسول, فروي أنه كتاب الله, قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثني يحيى بن يمان عن حمزة الزيات عن سعيد وهو ابن المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( "الصراط المستقيم كتاب الله" وكذلك رواه ابن جرير من حديث حمزة بن حبيب الزيات وقد تقدم في فضائل القرآن فيما رواه أحمد والترمذي من رواية الحارث الأعور عن علي مرفوعاً "وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم" وقد روي موقوفاً على علي رضي الله عنه وهو أشبه والله أعلم: وقال الثوري عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله قال الصراط المستقيم كتاب الله, وقيل هو الإسلام, قال الضحاك عن ابن عباس قال: قال جبريل لمحمد عليهما السلام "قل يا محمد اهدنا الصراط المستقيم" يقول ألهمنا الطريق الهادي وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه, وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} قال ذاك الإسلام, وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه(1/39)
وسلم اهدنا الصراط المستقيم قالوا هو الإسلام, وقال عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر اهدنا الصراط المستقيم قال هو الإسلام أوسع مما بين السماء والأرض وقال ابن الحنفية في قوله تعالى {اهدنا الصراط المستقيم} قال هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم اهدنا الصراط المستقيم قال هو الإسلام وفي هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء حدثنا ليث يعني ابن سعد عن معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان عن رسول الله ( قال: "ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول ياأيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا, وداعٍ يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه ـ فإنك إن فتحته تلجه ـ فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم" وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث الليث بن سعد به, ورواه الترمذي والنسائي جميعاً عن علي بن حجر عن بقية عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان به, وهو إسناد حسن صحيح والله أعلم. وقال مجاهد اهدنا الصراط لمستقيم قال: الحق وهذا أشمل ولا منافاة بينه وبين ما تقدم, وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم حدثنا حمزة بن المغيرة عن عاصم الأحول عن أبي العالي {اهدنا الصراط المستقيم} قال هو النبي ( وصاحباه من بعده. قال عاصم فذكرنا ذلك للحسن فقال صدق أبو العالية ونصح. وكل هذه الأقوال صحيحة وهي متلازمة فإن من اتبع الإسلام فقد اتبع النبي ( واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر فقد اتبع الحق ومن اتبع(1/40)
الحق فقد اتبع الإسلام ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن وهو كتاب الله وحبله المتين وصراطه المستقيم, فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضاً, و لله الحمد. وقال الطبراني حدثنا محمد بن الفضل السقطي حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسول الله ( . ولهذا قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: والذي هو أولى بتأويل هذه الاَية عندي أعني ـ اهدنا الصراط المستقيم ـ أن يكون معنياً به وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل ذلك هو الصراط المسقيم لأن من وفق لما وفق له مَن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل والتمسك بالكتاب والعمل بما أمره الله به والانزجار عما زجره عنه واتباع منهاج النبي ( ومنهاج الخلفاء الأربعة, وكل عبد صالح وكل ذلك من الصراط المستقيم
قلت : والحديث أخرجه السيوطي في الجامع الصغير وعزاه لأحمد عن علي. ... عن رسول الله ( قال :
أتاني جبريل فقال: يا محمد إن الأمة مفتونة بعدك... قلت له : فما المخرج يا جبريل ؟ قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين وهو الصراط المستقيم وهو قول فصل ليس بالهزل إن هذا القرآن لا يليه من جبار فيعمل بغيره إلا قصمه الله ولا يبتغي علما سواه إلا أضله الله ولا يخلق عن رده وهو الذي لا تفنى عجائبه من يقل به يصدق ومن يحكم به يعدل ومن يعمل به يؤجر ومن يقسم به يقسط ....
( وضعفه الألباني )
ورواه الترمذي عن علي؛ وقال الألباني : (ضعيف جدا) ....ومتنه :(1/41)
إنها ستكون فتنة قيل: فما المخرج منها ؟ قال :كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تشبع منه العلماء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن الرد ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تفته الجن إذ سمعته عن أن قالوا { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد } من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط المستقيم .
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله
-{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا}
قوله تعالى: "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم" يعني محمدا ( ؛ عن الثوري؛ وسماه برهانا لأن معه البرهان وهو المعجزة. وقال مجاهد: البرهان ههنا الحجة؛ والمعنى متقارب؛ فإن المعجزات حجته ( . والنور المنزل هو القرآن؛ عن الحسن؛ وسماه نورا لأن به تتبين الأحكام ويهتدى به من الضلالة، فهو نور مبين، أي واضح بين.
{فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما}
قوله تعالى: "فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به" أي بالقرآن عن معاصيه، وإذا اعتصموا بكتابه فقد اعتصموا به وبنبيه. وقيل: "اعتصموا به" أي بالله. والعصمة الامتناع، ....(1/42)
قوله تعالى: "ويهديهم" أي وهو يهديهم؛ فأضمر هو ليدل على أن الكلام مقطوع مما قبله. "إليه" أي إلى ثوابه. وقيل: إلى الحق ليعرفوه. "صراطا مستقيما" أي دينا مستقيما. و"صراطا" منصوب بإضمار فعل دل عليه "ويهديهم" التقدير؛ ويعرفهم صراطا مستقيما. وقيل: هو مفعول ثان على تقدير؛ ويهديهم إلى ثوابه صراطا مستقيما. وقيل: هو حال. والهاء في "إليه" قيل: هي للقرآن، وقيل: للفضل، وقيل للفضل والرحمة؛ لأنهما بمعنى الثواب. وقيل: هي لله عز وجل على حذف المضاف كما تقدم من أن المعنى ويهديهم إلى ثوابه. أبو علي: الهاء راجعة إلى ما تقدم من اسم الله عز وجل، والمعنى ويهديهم إلى صراطه؛ فإذا جعلنا "صراطا مستقيما" نصبا على الحال كانت الحال من هذا المحذوف. وفي قوله: "وفضل" دليل على أنه تعالى يتفضل على عباده بثوابه؛ إذ لو كان في مقابلة العمل لما كان فضلا. والله أعلم.
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله(1/43)
يمتن تعالى ، على سائر الناس ، بما أوصل إليهم ، من البراهين القاطعة ، والأنوار الساطعة ، ويقيم عليهم الحجة ، ويوضح لهم المحجة فقال :" يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم " أي : حجج قاطعة على الحق ، تبينه وتوضحه ، وتبين ضده . وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية ، والآيات الأفقية والنفسية " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " . وفي قوله : " من ربكم " ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته ، حيث كان من ربكم ، الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية . فمن تربيته لكم ، التي يحمد عليها ويشكر ، أن أوصل إليكم البينات ، ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم ، والوصول إلى جنات النعيم ." وأنزلنا إليكم نورا مبينا " وهو هذا القرآن العظيم ، الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين ، والأخبار الصادقة النافعة ، والأمر بكل عدل وإحسان وخير ، والنهي عن كل ظلم وشر . فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا بأنواره ، وفي شقاء عظيم إن لم يقتبسوا من خيره . ولكن انقسم الناس ـ حسب الإيمان بالقرآن ، والانتفاع به ـ قسمين . " فأما الذين آمنوا بالله " أي : اعترفوا بوجوده ، واتصافه بكل وصف كامل ، وتنزيهه من كل نقص وعيب ." واعتصموا به " أي : لجأوا إلى الله ، واعتمدوا عليه ، وتبرأوا من حولهم وقوتهم ، واستعانوا بربهم . " فسيدخلهم في رحمة منه وفضل " أي : فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة ، فيوفقهم للخيرات ، ويجزل لهم المثوبات ، ويدفع عنهم البليات . " ويهديهم إليه صراطا مستقيما " أي : يوفقهم للعلم والعمل ومعرفة الحق والعمل به . أي : ومن لم يؤمن بالله ويعتصم به ، ويتمسك بكتابه ، منعهم من رحمته ، وحرمهم من فضله ،وخلى بينهم وبين أنفسهم ، فلم يهتدوا ،بل ضلوا ضلالا مبينا ،عقوبة لهم على تركهم الإيمان ، فحصلت لهم الخيبة والحرمان . نسأله تعالى ، العفو ، والعافية ، والمعافاة .(1/44)
************************************************************
6*? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ? (الأعراف : 158 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله
يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد ( {قل} يا محمد {يا أيها الناس} وهذا خطاب للأحمر والأسود والعربي والعجمي {إني رسول الله إليكم جميعاً} أي جميعكم وهذا من شرفه وعظمته (أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث إلى الناس كافة كما قال الله تعالى: {قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} وقال تعالى: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وقال تعالى: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ} والاَيات في هذا كثيرة كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر, وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه ( رسول الله إلى الناس كلهم.(1/45)
* قال البخاري رحمه الله في تفسير هذه الاَية: حدثنا عبد الله حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا: حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الله بن العلاء بن زير حدثني يُسْر بن عبيد الله حدثني أبو إدريس الخولاني قال سمعت أبا الدرداء, رضي الله عنه يقول: كانت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه عمر مغضباً فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه فأقبل أبو بكر إلى رسول الله ( فقال أبو الدرداء ونحن عنده فقال رسول الله ( "أما صاحبكم هذا فقد غامر" أي غاضب وحاقد. قال وندم عمر على ما كان منه, فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي ( وقص على رسول الله ( الخبر قال أبو الدرداء فغضب رسول الله (وجعل أبو بكر يقول والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم فقال رسول الله (: "هل أنتم تاركو لي صاحبي ؟ إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت" انفرد به البخاري.
* وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس مرفوعاً أن رسول الله (قال "أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي ولا أقوله فخراً بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي يوم القيامة فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً" إسناد جيد ولم يخرجوه(1/46)
* وقال الإمام أحمد أيضاً حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ( عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم "لقد أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبلي أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه, ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملى مني رعباً وأحلت لي الغنائم أكلها, وكان من قبلي يعظمون أكلها كانوا يحرقونها وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم, والخامسة هي ما هي قيل لي سل فإن كل نبي قد سأل فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله" إسناد جيد قوي أيضاً ولم يخرجوه ...
* وقال أيضاً حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله (قال "من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني فلم يؤمن بي لم يدخل الجنة" وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي موسى قال: قال رسول الله ( "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار".
* وقال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو يونس وهو سليم بن جبير عن أبي هريرة عن رسول الله (أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" تفرد به أحمد ..(1/47)
* وقال الإمام أحمد حدثنا حسين بن محمد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( "أعطيت خمساً بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة وإني قد اختبأت شفاعتي ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئاً" وهذا أيضاً إسناد صحيح ولم أرهم خرجوه والله أعلم ...
* وله مثله من حديث ابن عمر بسند جيد أيضاً وهذا الحديث ثابت في الصحيحين أيضاً من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ( " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة" وقوله {الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت} صفة الله تعالى في قول رسول الله ( : " إن الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي بيده الملك والإحياء والإماتة وله الحكم" وقوله {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي} أخبرهم أنه رسول الله إليهم ثم أمرهم باتباعه والإيمان به {النبي الأمي} أي الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة فإنه منعوت بذلك في كتبهم ولهذا قال النبي الأمي وقوله {الذي يؤمن بالله وكلماته} أي يصدق قوله عمله وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه {واتبعوه} أي اسلكوا طريقه واقتفوا أثره {لعلكم تهتدون} أي إلى الصراط المستفيم.
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله(1/48)
( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) " أي : عربيكم ، وعجميكم ، أهل الكتاب فيكم ، وغيرهم . " الذي له ملك السماوات والأرض " يتصرف فيها بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية ، وبأحكامه الشرعية الدينية ، التي من جملتها : أن أرسل إليكم رسولا عظيما يدعوكم إلى الله ، وإلى دار كرامته ، ويحذركم من كل ما يباعدكم منه ، ومن دار كرامته . " لا إله إلا هو " أي : لا معبود بحق ، إلا الله وحده لا شريك له ، ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله . " يحيي ويميت " أي : من جملة تدابيره : الإحياء والإماتة ، التي لا يشاركه فيها أحد ، وقد جعل الله الموت ، جسرا ، ومعبرا ، يعبر الإنسان منه إلى دار البقاء ، التي من آمن بها ، صدق الرسول محمد ( قطعا . " فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي " إيمانا في القلب ، متضمنا لأعمال القلوب والجوارح ، " الذي يؤمن بالله وكلماته " ، أي : آمنوا بهذا الرسول المستقيم في عقائده ، وأعماله ،" واتبعوه لعلكم تهتدون " في مصالحكم الدينية والدنيوية ، فإنكم إذا لم تتبعوه ، ضللتم ضلالا بعيدا .
****************************************************************
7*? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ? (يونس : 23 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/49)
( يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) أي إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحدا غيركم كما جاء في الحديث: ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ... وقوله ( متاع الحياة الدنيا ) أي إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة ( ثم إلينا مرجعكم ) أي مصيركم ومآلكم ( فننبئكم ) أي فنخبركم بجميع أعمالكم ونوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ...
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
( يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا )
أي : غاية ما تؤملون ببغيكم ، وشرودكم عن الإخلاص لله ، أن تنالوا شيئا من حطام الدنيا وجاهها ، النزر اليسير الذي سينقضي سريعا ، ويمضي جميعا ، ثم تنتقلون عنه بالرغم . " ثم إلينا مرجعكم " في يوم القيامة " فننبئكم بما كنتم تعملون " وفي هذا غاية التحذير لهم عن الاستمرار على عملهم .
( وقال الإمام أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن أبو بكر السيوطي ( 911 هـ ) رحمه الله :
- أخرج أبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم والخطيب في تاريخه والديلمي في مسند الفردوس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( "ثلاث هن رواجع على أهلها، المكر، والنكث، والبغي، ثم تلا رسول الله( {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) (فاطر الآية 42) (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه) (الفتح الآية 10) ".(1/50)
- وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن نفيل الكناني رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( : ثلاث قد فرغ الله من القضاء فيهن لا يبغين أحدكم، فإن الله تعالى يقول {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} ( يونس 23 ) ولا يمكرن أحد فإن الله تعالى يقول (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) (النساء الآية 147) ولا ينكث أحد فإن الله يقول (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه) (الفرقان الآية 77) ".
- وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكر قال: قال رسول الله ( "لا تبغ ولا تكن باغيا، فإن الله يقول {إنما بغيكم على أنفسكم} ".
- وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري قال: بلغنا أن رسول الله (قال "لا تبغ ولا تكن باغيا فإن الله يقول {إنما بغيكم على أنفسكم} ".
- وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله ("لا يؤخر الله عقوبة البغي فإن الله قال {إنما بغيكم على أنفسكم} ".
- وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( "ما من ذنب أجدر من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم".
- وأخرج أبو داود والبيهقي في الشعب عن عياض بن جابر: إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد.
- وأخرج البيهقي في الشعب من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي ( قال: لا يبغي على الناس إلا ولد بغي أو فيه عرق منه.(1/51)
- وأخرج ابن المنذر والبيهقي عن رجاء بن حيوة. أنه سمع قاصا في مسجد منى يقول: ثلاث خلال هن على من عمل بهن البغي، والمكر، والنكث، قال الله {إنما بغيكم على أنفسكم} (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) (فاطر الآية 43) (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه) (الفتح الآية 10) ثم قال: ثلاث خلال لا يعذبكم الله ما عملتم بهن: الشكر، والدعاء، والاستغفار، ثم قرأ (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) (فاطر الآية 43) (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) (الفتح الآية 10) و (ما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) (الأنفال الآية 33).
- وأخرج أبو الشيخ عن مكحول قال: ثلاث من كن فيه كن عليه: المكر والبغي والنكث. قال الله {إنما بغيكم على أنفسكم}.
- وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ( "لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما".
- وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه قال: ما من عبادة أفضل من أن يسأل، وما يدفع القضاء إلا الدعاء، وإن أسرع الخير ثوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحول عنه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه".
**********************************************
8* ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ? (يونس : 57 - 58)
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/52)
يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم : (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ) أي زاجر عن الفواحش ( وشفاء لما في الصدور ) أي من الشبه والشكوك وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس ( وهدى ورحمة ) أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه كقوله تعالى: ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا )... وقوله: ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ) الآية... وقوله تعالى : ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به ( هو خير مما يجمعون ) أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لامحالة ؛ كما قال بن أبي حاتم في تفسير هذه الآية وذكر بسنده عن بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يقول لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه خرج عمر ومولى له فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك فجعل عمر يقول : الحمد لله تعالى ... ويقول مولاه : هذا والله من فضل الله ورحمته. فقال عمر : كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى ( قل بفضل الله وبرحمته ) الآية .. وهذا مما يجمعون وقد أسنده الحافظ أبو القاسم الطبراني فرواه عن أبي زرعة الدمشقي عن حيوة بن شريح عن بقية فذكره...
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
" يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون "(1/53)
يقول تعالى ـ مرغبا الخلق ، في الإقبال على هذا الكتاب الكريم ، بذكر أوصافه الحسنة الضرورية للعباد فقال : " يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم "أي : تعظكم ، وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله ، المقتضية لعقابه ، وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها . " وشفاء لما في الصدور " وهو : هذا القرآن ، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع ، وأمراض الشبهات ، القادحة في العلم اليقيني . فإن ما فيه من المواعظ ، والترغيب ، والترهيب ، والوعد والوعيد ، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة . وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير ، والرهبة عن الشر ، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن ، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس ، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه . وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله ، غاية التصريف ، وبينها أحسن بيان ، مما يزيل الشبه القادحة في الحق ، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين . وإذا صح القلب من مرضه ، ورفل بأثواب العافية ، تبعته الجوارح كلها ، فإنها تصلح بصلاحه ، وتفسد بفساده ، " وهدى ورحمة للمؤمنين " فالهدى هو العلم بالحق والعمل به . والرحمة هي : ما يحصل من الخير والإحسان ، والثواب العاجل والآجل ، لمن اهتدى به . فالهدى ، أجل الوسائل ، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب ، ولكن لا يهتدي به ، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين . وإذا حصل الهدى وحلت الرحمة الناشئة عنه ، حصلت السعادة والفلاح ، والربح والنجاح ، والفرح والسرور . ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك فقال : " قل بفضل الله " الذي هو القرآن ، الذي هو أعظم نعمة ومنة ، وفضل تفضل الله به على عباده " ورحمته " الدين والإيمان ، وعبادة الله ومحبته ومعرفته . " فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " من متاع الدنيا ولذاتها . فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين ، لا نسبة بينها وبين جميع ما في الدنيا(1/54)
، مما هو مضمحل زائل عن قريب . وإنما أمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته ، لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها ، وشكرها لله تعالى وقوتها ، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي للازدياد منهما ، وهذا فرح محمود ، بخلاف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها ، أو الفرح بالباطل ، فإن هذا مذموم كما قال تعالى عن قوم قارون له : " لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ". وكما قال تعالى في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل ، المناقض لما جاءت به الرسل : " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم "
*****************************************************
9* ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * ? (يونس : 104 - 107 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/55)
يقول تعالى لرسوله محمد ( قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إلي فأنا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم ثم إليه مرجعكم فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقا فأنا لا أعبدها فادعوها فلتضرني فإنها لا تضر ولا تنفع وإنما الذي بيده الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له وأمرت أن أكون من المؤمنين وقوله ( وأن أقم وجهك للدين حنيفا ) الآية أي أخلص العبادة لله وحده حنيفا أي منحرفا عن الشرك ولهذا قال ( ولا تكونن من المشركين ) وهو معطوف على قوله ( وأمرت أن أكون من المؤمنين ) وقوله ( وإن يمسسك الله بضر ) الآية فيه بيان لأن الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده لا يشاركه في ذلك أحد فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له روى الحافظ بن عساكر في ترجمة صفوان بن سليم من طريق عبد الله بن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن موسى عن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك أن رسول الله ( قال : اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات ربكم فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده واسألوه أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم ...ثم رواه من طريق الليث عن عيسى بن موسى عن صفوان عن رجل من أشجع عن أبي هريرة مرفوعا بمثله سواء.. وقوله: ( وهو الغفور الرحيم ) أي لمن تاب إليه وتوكل عليه ولو من أي ذنب كان حتى من الشرك به فإنه يتوب عليه ...
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله
الآية: 104 {قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين}(1/56)
قوله تعالى: "قل يا أيها الناس" يريد كفار مكة. "إن كنتم في شك من ديني" أي في ريب من دين الإسلام الذي أدعوكم إليه. "فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله" من الأوثان التي لا تعقل. "ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم" أي يميتكم ويقبض أرواحكم. "وأمرت أن أكون من المؤمنين " أي المصدقين بآيات ربهم.
الآيتان: 105 - 106 {وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين، ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين}
قوله تعالى: "وأن أقم وجهك للدين" "أن" عطف على "أن أكون" أي قيل لي كن من المؤمنين وأقم وجهك. قال ابن عباس: عملك، وقيل: نفسك؛ أي استقم بإقبالك على ما أمرت به من الدين. "حنيفا" أي قويما به مائلا عن كل دين. قال حمزة بن عبدالمطلب (رضي الله عنه): = حمدت الله حين هدى فؤادي من الإشراك للدين الحنيف =
"ولا تكونن من المشركين" أي وقيل لي ولا تشرك؛ والخطاب له والمراد غيره؛ وكذلك قوله: "ولا تدع" أي لا تعبد. "من دون الله ما لا ينفعك" إن عبدته. "ولا يضرك" إن عصيته. "فإن فعلت" أي عبدت غير الله. "فإنك إذا من الظالمين" أي الواضعين العبادة في غير موضعها.
الآية: 107 {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم}
قوله تعالى: "وإن يمسسك الله بضر" أي يصيبك به. "فلا كاشف له إلا هو" أي لا دافع "له إلا هو وإن يردك بخير" أي يصبك برخاء ونعمة "فلا راد لفضله يصيب به" أي بكل ما أراد من الخير والشر. "من يشاء من عباده وهو الغفور" لذنوب عباده وخطاياهم "الرحيم" بأوليائه في الآخرة ...
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله(1/57)
( قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين )
يقول تعالى لنبيه ( ، سيد المرسلين ، وإمام المتقين وخير الموقنين : " قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني " أي : في ريب واشتباه ، فإني لست في شك منه ، بل لدي العلم اليقين أنه الحق ، وأن ما تدعون من دون الله باطل ، ولي على ذلك ، الأدلة الواضحة ، والبراهين الساطعة . ولهذا قال تعالى : " فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله " من الأنداد ، والأصنام وغيرهما ، لأنها لا تخلق ولا ترزق ، ولا تدبر شيئا من الأمور ، وإنما هي مخلوقة مسخرة ، ليس فيها ما يقتضي عبادتها . " ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم " أي : هو الله الذي خلقكم ، وهو الذي يميتكم ، ثم يبعثكم ، ليجازيكم بأعمالكم ، فهو الذي يستحق أن يعبد ، ويصلى له ويسجد . " وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفا " أي : أخلص أعمالك الظاهرة والباطنة لله ، وأقم جميع شرائع الدين حنيفا ، أي : مقبلا على الله ، معرضا عما سواه ، " ولا تكونن من المشركين " لا في حالهم ، ولا تكن معهم . " ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك " وهذا وصف لكل مخلوق ، أنه لا ينفع ولا يضر ، وإنما النافع الضار ، هو الله تعالى " فإن فعلت " أي : دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك " فإنك إذا من الظالمين " أي : الضارين أنفسهم بإهلاكها . وهذا الظلم هو الشرك كما قال تعالى : " إن الشرك لظلم عظيم " ، فإذا كان خير الخلق ، لو دعا مع الله غيره ، لكان من الظالمين المشركين فكيف بغيره ؟ (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم )" هذا من أعظم الأدلة على أن الله(1/58)
وحده المستحق للعبادة ، فإنه النافع الضار ، المعطي ، المانع ، الذي إذا مس بضر ، كفقر ومرض ، ونحوها " فلا كاشف له إلا هو " لأن الخلق ، لو اجتمعوا على أن ينفعوا بشيء ، لم ينفعوا إلا بما كتبه الله ، ولو اجتمعوا على أن يضروا أحدا ، لم يقدروا على شيء من ضرره ، إذا لم يرده . ولهذا قال : " وإن يردك بخير فلا راد لفضله " أي : لا يقدر أحد من الخلق ، أن يرد فضله وإحسانه ، كما قال تعالى : (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده).... ( يصيب به من يشاء من عباده )" أي : يختص برحمته من شاء من خلقه ، والله ذو الفضل العظيم ، " وهو الغفور " لجميع الزلات ، الذي يوفق عبده ، لأسباب مغفرته ، ثم إذا فعلها العبد ، غفر الله ذنوبه ، كبارها ، وصغارها . " الرحيم " الذي وسعت رحمته كل شيء ووصل جوده إلى جميع الموجودات ، بحيث لا تستغني عن إحسانه طرفة عين . فإذا عرف العبد بالدليل القاطع أن الله هو المفرد بالنعم ، وكشف النقم ، وإعطاء الحسنات ، وكشف السيئات والكربات ، وأن أحدا من الخلق ، ليس بيده من هذا شيء ، إلا ما أجراه الله على يده ، جزم بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ...
***********************************************
10* ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ? (يونس : 108 - 109)
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/59)
يقول تعالى آمراً لرسوله( أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك الإتباع على نفسه ومن ضل عنه فإنما يرجع وبال ذلك عليه ( وما أنا عليكم بوكيل ) أي وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين وإنما أنا نذير لكم والهداية على الله تعالى وقوله ( واتبع ما يوحى إليك واصبر ) أي تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك واصبر على مخالفة من خالفك من الناس ( حتى يحكم الله ) أي يفتح بينك وبينهم ( وهو خير الحاكمين ) أي خير الفاتحين بعدله وحكمته ...
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله
الآية: 108 {قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل}
قوله تعالى: "قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق" أي القرآن. وقيل: الرسول (. "فمن اهتدى" أي صدق محمدا( وآمن بما جاء به. "فإنما يهتدي لنفسه" أي لخلاص نفسه. "ومن ضل" أي ترك الرسول والقرآن واتبع الأصنام والأوثان. "فإنما يضل عليها" أي وبال ذلك على نفسه. "وما أنا عليكم بوكيل" أي بحفيظ أحفظ أعمالكم إنما أنا رسول ...
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ) أي : " قل " يا أيها الرسول ، لما تبين البرهان(1/60)
" يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم "أي : الخبر الصادق المؤيد بالبراهين ، الذي لا شك فيه ،بوجه من الوجوه ، وهو واصل إليكم من ربكم الذي من أعظم تربيته لكم ، أن أنزل إليكم هذا القرآن ، الذي فيه تبيان لكل شيء ، وفيه من أنواع الأحكام والمطالب الإلهية ، والأخلاق المرضية ، ما فيه أعظم تربية لكم ، وإحسان منه إليكم ، فقد تبين الرشد من الغي ، ولم يبق لأحد شبهة . " فمن اهتدى " بهدي الله بأن علم الحق وتفهمه ، وآثره على غيره " فإنما يهتدي لنفسه " والله تعالى غني عن عباده ، وإنما ثمرة أعمالهم ، راجعة إليهم . " ومن ضل " عن الهدى بأن أعرض عن العلم بالحق ، أو عن العمل به ، " فإنما يضل عليها " ولا يضر الله شيئا ، فلا يضر إلا نفسه . " وما أنا عليكم بوكيل "
فأحفظ أعمالكم وأحاسبكم عليها ، وإنما أنا لكم نذير مبين ، والله عليكم وكيل . فانظروا لأنفسكم ما دمتم في مدة الإمهال .... " واتبع " أيها الرسول " ما يوحى إليك " علما ، وعملا ، وحالا ، ودعوة إليه ، " واصبر " على ذلك ، فإن هذا أعلى أنواع الصبر ،وإن عاقبته حميدة ، فلا تكسل ، ولا تضجر ،بل دم على ذلك واثبت ، " حتى يحكم الله " بينك وبين من كذبك " وهو خير الحاكمين " فإن حكمه مشتمل عل العدل التام ، والقسط الذي يحمد عليه . وقد امتثل ( أمر ربه ، وثبت على الصراط المستقيم ، حتى أظهر الله دينه على سائر الأديان ، ونصره على أعدائه بالسيف والسنان بعدما نصره الله عليهم ، بالحجة والبرهان . فلله الحمد ، والثناء الحسن ، كما ينبغي لجلاله ، وعظمته ، وكماله ، وسعة إحسانه .
********************************************************************(1/61)
11*? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ*كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ? ( الحج 1- 4)
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/62)
يقول تعالى آمراً عباده بتقواه ومخبراً لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها, وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة: هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة, أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم ؟ كما قال تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها} وقال تعالى: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة, فيومئذ وقعت الواقعة} الاَية, وقال تعالى: {إذا رجت الأرض رجاً, وبست الجبال بساً} الاَية, فقال قائلون: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال الساعة. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا يحيى, حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} قال: قبل الساعة, ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري عن منصور والأعمش عن إبراهيم عن علقمة فذكره, قال: وروي عن الشعبي وإبراهيم وعبيد بن عمير نحو ذلك. وقال أبو كدينة عن عطاء بن عامر الشعبي {ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} قال: هذا في الدنيا قبل يوم القيامة. وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور من رواية إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة عن يزيد بن أبي زياد, عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي, عن رجل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ( : "إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل, فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر" قال أبو هريرة: يا رسول الله وما الصور ؟ قال: قرن. قال: فكيف هو ؟ قال: "قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع, والثانية نفخة الصعق, والثالثة نفخة القيام لرب العالمين, يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى. فيقول: انفخ نفخة الفزع, فيفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله, ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر, وهي التي يقول الله تعالى: {وما ينظر هؤلاء إلا(1/63)
صيحة واحدة مالها من فواق} فيستر الجبال فتكون سراباً, وترج الأرض بأهلها رجاً, وهي التي يقول الله تعالى: {يوم ترجف الراجفة, تتبعها الرادفة, قلوب يومئذ واجفة} فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها, وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح فيمتد الناس على ظهرها, فتذهل المراضع وتضع الحوامل, ويشيب الولدان, وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب في وجوهها فترجع, ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً, وهي التي يقول الله تعالى: {يوم التناد يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فماله من هاد} فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر, ورأوا أمراً عظيماً, فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به. ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل, ثم خسف شمسها وقمرها, وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم ـ قال رسول الله (: "والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك" قال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول {ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} قال "أولئك الشهداء, وإنما يصل الفزع إلى الأحياء, أولئك أحياء عند ربهم يرزقون, وقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم, وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه, وهو الذي يقول الله: {ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}"
وهذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم وغير واحد مطولاً جداً, والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة أضيفت إلى الساعة لقربها منها, كما يقال أشراط الساعة ونحو ذلك, والله أعلم,
وقال آخرون بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال كائن يوم القيامة في العرصات بعد القيام من القبور, واختار ذلك ابن جرير, واحتجوا بأحاديث:(1/64)
(الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن هشام, حدثنا قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن رسول الله ( قال وهو في بعض أسفاره, وقد تفاوت بين أصحابه السير رفع بهاتين الاَيتين صوته. {ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم, يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي, وعرفوا أن عنده قول يقوله, فلما دنوا حوله قال: "أتدرون أي يوم ذاك, ذاك يوم ينادى آدم عليه السلام فيناديه ربه عز وجل, فيقول: يا آدم ابعث بعثك إلى النار, فيقول: يا رب وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة" قال: فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة, فلما رأى ذلك قال: "أبشروا واعملوا, فو الذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج, ومن هلك من بني آدم وبني إبليس" قال: فسري عنهم, ثم قال: "اعملوا وأبشروا, فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو الرقمة في ذراع الدابة" وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما عن محمد بن بشار عن يحيى وهو القطان, عن هشام وهو الدستوائي عن قتادة به بنحوه, وقال الترمذي: حسن صحيح.(1/65)
(طريق آخر) لهذا الحديث. قال الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان بن عيينة, حدثنا ابن جدعان عن الحسن عن عمران بن حصين أن النبي ( قال لما نزلت: {يا أيها الناس اتقوا ربكم ـ إلى قوله ـ ولكن عذاب الله شديد} قال: نزلت عليه هذه الاَية وهو في سفر, فقال: "أتدرون أي يوم ذلك ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال ـ ذلك يوم يقول الله لاَدم: ابعث بعث النار, قال: يا رب وما بعث النار ؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة" فأنشأ المسلمون يبكون, فقال رسول الله (: "قاربوا وسددوا, فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية, قال: فيؤخذ العدد من الجاهلية, فإن تمت, وإلا كملت من المنافقين, وما مثلكم ومثل الأمم الا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" ـ فكبروا ثم قال ـ: "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" ـ فكبروا ثم قال ـ: "إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبروا ثم قال: ولا أدري قال الثلثين أم لا, وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة به. ثم قال الترمذي أيضاً: هذا حديث حسن صحيح. وقد ذكره سعيد بن أبي عروبة عن الحسن عن عمران بن الحصين ورواه ابن أبي حاتم من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن والعلاء بن زياد العدوي عن عمران بن الحصين فذكره, وهكذا روى ابن جرير عن بندار عن غندر عن عوف عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله ( لما قفل من غزوة العسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} وذكر الحديث فذكر نحو سياق ابن جدعان, والله أعلم.(1/66)
(الحديث الثاني) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن الطباع, حدثنا أبو سفيان المعمري, عن معمر عن قتادة عن أنس قال: نزلت {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} وذكر, يعني نحو سياق الحسن عن عمران غير أنه قال: ومن هلك من كثرة الجن والإنس. ورواه ابن جرير بطوله من حديث معمر.
(الحديث الثالث) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سعيد بن سلمان حدثنا عباد يعني ابن العوام, حدثنا هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال: تلا رسول الله ( هذه الاَية فذكر نحوه, وقال فيه "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة" ففرحوا, وزاد أيضاً "وإنما أنتم جزء من ألف جزء".
(الحديث الرابع) قال البخاري عند تفسير هذه الاَية: حدثنا عمر بن حفص, حدثنا أبي, حدثنا الأعمش, حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد قال: قال النبي (: "يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم, فيقول: لبيك ربنا وسعديك, فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار, قال: يا رب وما بعث النار ؟ قال: من كل ألف ـ أراه قال ـ تسعمائة وتسعة وتسعون, فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد {وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم. قال النبي ("من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد, أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض, أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود, وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ـ فكبرنا ثم قال ـ ثلث أهل الجنة ـ فكبرنا ثم قال ـ شطر أهل الجنة" فبكرنا, وقد وراه البخاري أيضاً في غير هذا الموضع, ومسلم والنسائي في تفسيره من طرق عن الأعمش به.(1/67)
(الحديث الخامس) قال الإمام أحمد: حدثنا عمارة بن محمد ابن أخت سفيان الثوري وعبيدة المعني, كلاهما عن إبراهيم بن مسلم عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله (: "إن الله يبعث يوم القيامة منادياً ينادي: يا آدم إن الله يأمرك أن تبعث بعثاً من ذريتك إلى النار, فيقول آدم: يا رب من هم ؟ فيقال له: من كل مائة تسعة وتسعون" فقال رجل من القوم: من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله ؟ قال: "هل تدرون ما أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير" انفرد بهذا السند وهذا السياق الإمام أحمد.
(الحديث السادس) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن حاتم بن أبي صفيرة, حدثنا ابن أبي مليكة أن القاسم بن محمد أخبره عن عائشة عن النبي ( قال: "إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاة عراة غرلاً" قالت عائشة: يا رسول لله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض, قال "يا عائشة إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك" أخرجاه في الصحيحين.
(الحديث السابع) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله, هل يذكر الحبيب حبيبه, يوم القيامة ؟ قال: "يا عائشة أما عند ثلاث فلا, أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف فلا, وأما عند تطاير الكتب إما يعطى بيمينه وإما يعطى بشماله فلا, وحين يخرج عنق من النار فينطوي عليهم ويتغيظ عليهم ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة, وكلت بثلاثة, وكلت بثلاثة, وكلت بمن ادعى مع الله إلهاً آخر, ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب, ووكلت بكل جبار عنيد ـ قال ـ فينطوي عليهم. ويرميهم في غمرات جهنم, ولجهنم جسر أرق من الشعر وأحد من السيف, عليه كلاليب وحسك يأخذن من شاء الله, والناس عليه كالبرق وكالطرف وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب, والملائكة يقولون: رب سلم, سلم. فناج مسلم, ومخدوش مسلم, مكور في النار على وجهه".(1/68)
والأحاديث في أهوال يوم القيامة والاَثار كثيرة جداً لها موضع آخر, ولهذا قال تعالى: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} أي أمر عظيم, وخطب جليل, وطارق مفظع, وحادث هائل, وكائن عجيب, والزلزال هو ما يحصل للنفوس من الرعب والفزع, كما قال تعالى: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً} ثم قال تعال: {يوم ترونها} هذا من باب ضمير الشأن, ولهذا قال مفسراً له: {تذهل كل مرضعة عما أرضعت} أي فتشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها, والتي هي أشفق الناس عليه تدهش عنه في حال إرضاعها له, ولهذا قال: {كل مرضعة} ولم يقل مرضع, وقال: {عما أرضعت} أي عن رضيعها قبل فطامه. وقوله: {وتضع كل ذات حمل حملها} أي قبل تمامه لشدة الهول {وترى الناس سكارى} وقرىء {سكرى} أي من شدة الأمر الذي قد صاروا فيه قد دهشت عقولهم, وغابت أذهانهم, فمن رآهم حسب أنهم سكارى {وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}.
** (وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّبِعُ كُلّ شَيْطَانٍ مّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنّهُ مَن تَوَلاّهُ فَأَنّهُ يُضِلّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىَ عَذَابِ السّعِيرِ )(1/69)
يقول تعالى ذاماً لمن كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى, معرضاً عما أنزل الله على أنبيائه متبعاً في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن, وهذا حال أهل البدع والضلال المعرضين عن الحق المتبعين للباطل يتركون ما أنزله الله على رسوله من الحق المبين, ويتبعون أقوال رؤوس الضلالة الدعاة إلى البدع بالأهواء والاَراء, ولهذا قال في شأنهم وأشباههم {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} أي علم صحيح {ويتبع كل شيطان مريد, كتب عليه} قال مجاهد: يعني الشيطان, يعني كتب عليه كتابة قدرية {أنه من تولاه} أي اتبعه وقلده {فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} أي يضله في الدنيا, ويقوده في الاَخرة إلى عذاب السعير, وهو الحار المؤلم المقلق المزعج, وقد قال السدي عن أبي مالك: نزلت هذه الاَية في النضر بن الحارث, وكذلك قال ابن جريج.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري, حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة, حدثنا العمر, حدثنا أبو كعب المكي قال: قال خبيث من خبثاء قريش أخبرنا عن ربكم من ذهب هو, أو من فضة هو, أو من نحاس هو ؟ فقعقعت السماء قعقعة ـ والقعقعة في كلام العرب الرعد ـ فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: جاء يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو من در أم من ياقوت ؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته....
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
" يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد "(1/70)
يخاطب الله الناس كافة ، بأن يتقوا ربهم ، الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فحقيق بهم أن يتقوه ، بترك الشرك ، والفسوق ، والعصيان ويمتثلوا أوامره ، مهما استطاعوا . ثم ذكر ما يعينهم على التقوى ، ويحذرهم من تركها ، وهو : الإخبار بأهوال القيامة ، فقال : " إن زلزلة الساعة شيء عظيم " لا يقدر قدره ، ولا يبلغ كنهه ، ذلك بأنها إذا وقعت الساعة ، رجفت الأرض ، وزلزلت زلزالها ، وتصدعت الجبال ، واندكت ، وكانت كثيبا مهيلا ، ثم كانت هباء منبثا ، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج . فهناك تنفطر السماء ، وتكور الشمس والقمر ، وتنتثر النجوم ، ويكون من القلاقل والبلابل ، ما تنصدع له القلوب ، وتوجل منه الأفئدة ، وتشيب منه الولدان ، وتذوب له الصم الصلاب ، ولهذا قال : " يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت " مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها ، خصوصا في هذه الحال ، التي لا يعيش إلا بها . " وتضع كل ذات حمل حملها " من شدة الفزع والهول . " وترى الناس سكارى وما هم بسكارى " أي : تحسبهم ـ أيها الرائي لهم ـ سكارى من الخمر ، وليسوا سكارى . " ولكن عذاب الله شديد " : فلذلك أذهب عقولهم ، وفرغ قلوبهم ، وملأها من الفزع ، وبلغت القلوب الحناجر ، وشخصت الأبصار ، وفي ذلك اليوم ، لا يجزي والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا . ويوم " يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " . وهناك يعض الظالم على يديه ، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ، يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ، وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه . وتنصب الموازين ، التي يوزن بها مثاقيل الذر ، من الخير والشر ، وتنشر صحائف الأعمال ، وما فيها من جميع الأعمال والأقوال ، والنيات ، من صغير وكبير ، وينصب الصراط على متن جهنم ، وتزلف الجنة للمتقين ، وبرزت الجحيم للغاوين . إذا رأتهم من مكان بعيد ، سمعوا لها تغيظا وزفيرا ، وإذا(1/71)
ألقوامنها مكانا ضيقا مقرنين ، دعوا هنالك ثبورا ، ويقال لهم : " لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا " ، وإذا نادوا ربهم ، ليخرجهم منها ، قال : " اخسؤوا فيها ولا تكلمون " . قد غضب عليهم الرب الرحيم وحضرهم العذاب الأليم ، وأيسوا من كل خير ، ووجدوا أعمالهم كلها ، لم يفقدوا منها نقيرا ولا قطميرا . هذا ، والمتقون في روضات الجنات يحبرون ، وفي أنواع اللذات يتفكهون ، وفيما اشتهت أنفسهم خالدون . فحقيق بالعاقل ، الذي يعرف أن كل هذا أمامه ، أن يعد له عدته ، وأن لا يلهيه الأمل ، فيترك العمل ، وأن تكون تقوى الله شعاره ، وخوفه دثاره ، ومحبة الله ، وذكره ، روح أعماله " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير " أي : ومن الناس طائفة وفرقة ، سلكوا طريق الضلال ، وجعلوا يجادلون بالباطل الحق . يريدون إحقاق الباطل ، وإبطال الحق ، والحال ، أنهم في غاية الجهل ما عندهم من العلم شيء ، وغاية ما عندهم ، تقليد أئمة الضلال ،من كل شيطان مريد ،متمرد على الله وعلى رسله ، معاند لهم ، قد شاق الله ورسوله ، وصار من الأئمة الذين يدعون إلى النار . " كتب عليه " أي : قدر على هذا الشيطان المريد " أنه من تولاه " أي : اتبعه " فأنه يضله " عن الحق ، ويجنبه الصراط المستقيم " ويهديه إلى عذاب السعير " . وهذا نائب إبليس حقا ، فإن الله قال عنه : " إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ". فهذا الذي يجادل في الله ، قد جمع بين ضلاله بنفسه ، وتصديه إلى إضلال الناس ، وهو متبع ، ومقلد لكل شيطان مريد ، ظلمات بعضها فوق بعض ، ويدخل في هذا ، جمهور أهل الكفر والبدع ، فإن أكثرهم مقلدة ، يجادلون بغير علم ....
******************************************(1/72)
12*? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ *وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ* ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ( * يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ *إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ(1/73)
يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ * مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ * ?
(الحج : 5- 16 )
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله
قوله تعالى: "إن كنتم في ريب" متضمنة التوقيف. وقرأ الحسن بن أبي الحسن "البعث" بفتح العين؛ وهي لغة في "البعث" عند البصريين. وهي عند الكوفيين بتخفيف "بعث". والمعنى: يا أيها الناس إن كنتم في شك من الإعادة. "فإنا خلقناكم" أي خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر، يعني آدم عليه السلام "من تراب". "ثم" خلقنا ذريته. "من نطفة" وهو المني؛ سمي نطفة لقلته، وهو القليل من الماء، وقد يقع على الكثير منه؛ ومنه الحديث (حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جورا). أراد بحر المشرق وبحر المغرب. والنطف: القطر. نطف ينطف وينطف. وليلة نطوفة دائمة القطر. "ثم من علقة" وهو الدم الجامد. والعلق الدم العبيط؛ أي الطري. وقيل: الشديد الحمرة. "ثم من مضغة" وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ؛ ومنه الحديث (ألا وإن في الجسد مضغة). وهذه الأطوار أربعة أشهر. قال ابن عباس: (وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح)، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها؛ أربعة أشهر وعشر.(1/74)
روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثنا داود عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود وعن ابن عمر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: "يا رب، ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، ما الأجل والأثر، بأي أرض تموت؟ فيقال له انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، فتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها؛ ثم قرأ عامر "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب". وفي الصحيح عن أنس بن مالك - ورفع الحديث - قال: (إن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة. أي رب علقة. أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد. فما الرزق فما الأجل. فيكتب كذلك في بطن أمه). وفي الصحيح أيضا عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله ( يقول: (إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم يقول أي رب أذكر أم أنثى...) وذكر الحديث. وفي الصحيح عن عبدالله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله (وهو الصادق المصدوق (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد...) الحديث. فهذا الحديث مفسر للأحاديث الأول؛ فإنه فيه: (يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح) فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح، وهذه عدة المتوفى عنها زوجها كما قال ابن عباس. وقوله: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه) قد فسره ابن مسعود، سئل الأعمش: ما يجمع في بطن أمه؟ فقال: حدثنا خيثمة قال قال عبدالله: إذا وقعت النطفة في الرحم فأراد أن يخلق منها بشرا طارت في بشرة المرأة تحت كل(1/75)
ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تصير دما في الرحم؛ فذلك جمعها، وهذا وقت كونها علقة.
نسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية، وأن ما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عند التصوير والتشكيل بقدرة الله وخلقه واختراعه؛ ألا تراه سبحانه قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال: "ولقد خلقناكم ثم صورناكم" [الأعراف: 11]. وقال: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين" [المؤمنون: 12 - 13]. وقال: "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة". وقال تعالى: "هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن" [التغابن: 2]. ثم قال: "وصوركم فأحسن صوركم" [غافر: 64]. وقال: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" [التين: 4]. وقال: "خلق الإنسان من علق" [العلق: 2]. إلى غير ذلك من الآيات، مع ما دلت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين. وهكذا القول في قوله: "ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح" أي أن النفخ سبب خلق الله فيها الروح والحياة. وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة؛ فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره. فتأمل هذا الأصل وتمسك به، ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال الطبعيين وغيرهم.
لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس؛ كما بيناه بالأحاديث. وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات؛ وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل: إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهذا الدخول في الخامس يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل.(1/76)
النطفة ليست بشيء يقينا، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم، فهي كما لو كانت في صلب الرجل؛ فإذا طرحته علقة فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال يتحقق به أنه ولد. وعلى هذا فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل، تبرأ به الرحم، وتنقضي به العدة، ويثبت به لها حكم أم الولد. وهذا مذهب مالك رضي الله عنه وأصحابه. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا اعتبار بإسقاط العلقة، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط؛ فإن خفي التخطيط وكان لحما فقولان بالنقل والتخريج، والمنصوص أنه تنقضي به العدة ولا تكون أم ولد. قالوا: لأن العدة تنقضي بالدم الجاري، فبغيره أولى.
قوله تعالى: "مخلقة وغير مخلقة" قال الفراء: "مخلقة" تامة الخلق، "وغير مخلقة" السقط. وقال ابن الأعرابي: "مخلقة" قد بدأ خلقها، "وغير مخلقة" لم تصور بعد. ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء. قال ابن العربي: إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإن النطفة والعلقة والمضغة مخلقة؛ لأن الكل خلق الله تعالى، وإن رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال الله تعالى: "ثم أنشأناه خلقا آخر" [المؤمنون: 14] فذلك ما قال ابن زيد. قلت: التخليق من الخلق، وفيه معنى الكثرة، فما تتابع عليه الأطوار فقد خلق خلقا بعد خلق، وإذا كان نطفة فهو مخلوق؛ ولهذا قال الله تعالى: "ثم أنشأناه خلقا آخر" [المؤمنون: 14] والله أعلم. وقد قيل: إن قوله: "مخلقة وغير مخلقة" يرجع إلى الولد بعينه لا إلى السقط؛ أي منهم من يتم الرب سبحانه مضغته فيخلق له الأعضاء أجمع، ومنهم من يكون خديجا ناقصا غير تمام. وقيل: (المخلقة أن تلد المرأة لتمام الوقت). ابن عباس: المخلقة ما كان حيا، وغير المخلقة السقط. قال: أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ، ويحك ، والحياء ...(1/77)
أجمع العلماء على أن الأمة تكون أم ولد بما تسقطه من ولد تام الخلق. وعند مالك والأوزاعي وغيرهما بالمضغة كانت مخلقة أو غير مخلقة. قال مالك: إذا علم أنها مضغة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن كان قد تبين له شيء من خلق بني آدم أصبع أو عين أو غير ذلك فهي له أم ولد. وأجمعوا على أن المولود إذا استهل صارخا يصلى عليه؛ فإن لم يستهل صارخا لم يصل عليه عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم. وروي عن ابن عمر أنه يصلى عليه؛ وقال ابن المسيب وابن سيرين وغيرهما. وروي عن المغيرة بن شعبة أنه (كان يأمر بالصلاة على السقط، ويقول سموهم واغسلوهم وكفنوهم وحنطوهم؛ فإن الله أكرم بالإسلام كبيركم وصغيركم، ويتلو هذه الآية "فإنا خلقناكم من تراب - إلى - وغير مخلقة".) قال ابن العربي: لعل المغيرة بن شعبة أراد بالسقط ما تبين خلقه فهو الذي يسمى، وما لم يتبين خلقه فلا وجود له. وقال بعض السلف: يصلى عليه متى نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر. وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( قال: (إذا استهل المولود ورث). الاستهلال: رفع الصوت؛ فكل مولود كان ذلك منه أو حركة أو عطاس أو تنفس فإنه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة. وإلى هذا ذهب سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي. قال الخطابي: وأحسنه قول أصحاب الرأي. وقال مالك: لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل. وروي عن محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة.
قال مالك رضي الله عنه: ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرة. وقال الشافعي: لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه. قال مالك: إذا سقط الجنين فلم يستهل صارخا ففيه الغرة. وسواء تحرك أو عطس فيه الغرة أبدا، حتى يستهل صارخا ففيه الدية كاملة. وقال الشافعي رضي الله عنه وسائر فقهاء الأمصار: إذا علمت حياته بحركة أو بعطاس أو باستهلاك أو بغير ذلك مما تستيقن به حياته ففيه الدية.(1/78)
ذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع، واحتج عليه بأنه حمل، وقال قال الله تعالى: "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن". قال القاضي إسماعيل: والدليل على ذلك أنه يرث أباه، فدل على وجوده خلقا وكونه ولدا وحملا. قال ابن العربي: ولا يرتبط به شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقا.
قلت: ما ذكرناه من الاشتقاق وقول عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه) يدل على صحة ما قلناه، ولأن مسقطة العلقة والمضغة يصدق على المرأة إذا ألقته أنها كانت حاملا وضعت ما استقر في رحمها، فيشملها قوله تعالى: "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" [الطلاق: 4] ولأنها وضعت مبدأ الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط، وهذا بين.
روى ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا يزيد عن عبدالملك النوفلي عن يزيد بن رومان عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( : (لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه [خلفي]). وأخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث له عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فقال: (أحب إلي من ألف فارس أخلفه ورائي).(1/79)
"لنبين لكم" يريد: كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم. "ونقر في الأرحام" قرئ بنصب "نقر" و"نخرج"، رواه أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم قال قال أبو حاتم: النصب على العطف. وقال الزجاج: "نقر" بالرفع لا غير؛ لأنه ليس المعنى: فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء، وإنما خلقهم عز وجل ليدلهم على الرشد والصلاح. وقيل: المعنى لنبين لهم أمر البعث؛ فهو اعتراض بين الكلامين. وقرأت هذه الفرقة بالرفع "ونقر"؛ المعنى: ونحن نقر. وهي قراءة الجمهور. وقرئ: "ويقر" و"يخرجكم" بالياء، والرفع على هذا سائغ. وقرأ. ابن وثاب "ما نشاء" بكسر النون. والأجل المسمى يختلف بحسب جنين جنين؛ فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حيا. وقال "ما نشاء" ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل؛ أي يقر في الأرحام ما نشاء من الحمل ومن المضغة وهي جماد فكنى عنها بلفظ ما.(1/80)
قوله تعالى: "ثم نخرجكم طفلا" أي أطفالا؛ فهو اسم جنس. وأيضا فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد؛ قال الشاعر: = يلحينني في حبها ويلمنني إن العواذل ليس لي بأمير = ولم يقل أمراء. وقال المبرد: وهو اسم يستعمل مصدرا كالرضا والعدل، فيقع على الواحد والجمع؛ قال الله تعالى: "أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء" [النور: 31]. وقال الطبري: وهو نصب على التمييز، كقوله تعالى: "فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا" [النساء: 4]. وقيل: المعنى ثم نخرج كل واحد منكم طفلا. والطفل يطلق من وقت انفصال الولد إلى البلوغ. وولد كل وحشية أيضا طفل. ويقال: جارية طفل، وجاريتان طفل وجوار طفل، وغلام طفل، وغلمان طفل. ويقال أيضا: طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال. ولا يقال: طفلات. وأطفلت المرأة صارت ذات طفل. والمطفلة: الظبية معها طفلها، وهي قريبة عهد بالنتاج. وكذلك الناقة، [والجمع] مطافل ومطافيل. والطفل (بالفتح في الطاء) الناعم؛ يقال: جارية طفلة أي ناعمة، وبنان طفل. وقد طفل الليل إذا أقبل ظلامه. والطفل (بالتحريك): بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب. والطفل (أيضا): مطر؛ قال: لوهد جاده طفل الثريا ...
قوله تعالى: "ثم لتبلغوا أشدكم" قيل: إن "ثم" زائدة كالواو في قوله "حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها" [الزمر: 73]؛ لأن ثم من حروف النسق كالواو. "أشدكم" كمال عقولكم ونهاية قواكم .... "ومنكم من يرد إلى أرذل العمر" أي أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل؛ ولهذا قال: "لكيلا يعلم من بعد علم شيئا" كما قال في سورة يس: "ومن نعمره ننكسه في الخلق" [يس: 68]. وكان النبي ( يدعو فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر). أخرجه النسائي عن سعد، وقال: وكان يعلمهن بنيه كما يعلم المكتب الغلمان ...(1/81)
قوله تعالى: "وترى الأرض هامدة" ذكر دلالة أقوى على البعث فقال في الأول: "فإنا خلقناكم من تراب" فخاطب جمعا. وقال في الثاني: "وترى الأرض" فخاطب واحدا، فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن المعنى متصل من حيث الاحتجاج على منكري البعث. "هامدة" يابسة لا تنبت شيئا؛ قال ابن جريج. وقيل: دارسة. والهمود الدروس. قال الأعشى: = قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همدا = قال الهروي: "هامدة" أي جافة ذات تراب. وقال شمر: يقال: همد شجر الأرض إذا بلي وذهب. وهمدت أصواتهم إذا سكنت. وهمود الأرض ألا يكون فيها حياة ولا نبت ولا عود ولم يصبها مطر. وفي الحديث: (حتى كاد يهمد من الجوع) أي يهلك. يقال: همد الثوب يهمد إذا بلي. وهمدت النار تهمد.(1/82)
قوله تعالى: "فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت" أي تحركت. والاهتزاز: شدة الحركة؛ يقال: هززت الشيء فاهتز؛ أي حركته فتحرك. وهز الحادي الإبل هزيزا فاهتزت هي إذا تحركت في سيرها بحدائه. واهتز الكوكب في انقضاضه. وكوكب هاز. فالأرض تهتز بالنبات؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية؛ فسماه اهتزازا مجازا. وقيل: اهتز نباتها، فحذف المضاف؛ قال المبرد، واهتزازه شدة حركته، كما قال الشاعر: = تثنى إذا قامت وتهتز إن مشت كما اهتز غصن البان في ورق خضر = والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض. "وربت" أي ارتفعت وزادت. وقيل: انتفخت؛ والمعنى واحد، وأصله الزيادة. ربا الشيء يربو ربوا أي زاد؛ ومنه الربا والربوة. وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس "وربأت" أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة، وهو الذي يحفظ القوم على شيء مشرف؛ فهو رابئ وربيئة على المبالغة. قال امرؤ القيس: = بعثنا ربيئا قبل ذاك مخملا كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي = "وأنبتت" أي أخرجت. "من كل زوج" أي لون. "بهيج" أي حسن؛ عن قتادة. أي يبهج من يراه. والبهجة الحسن؛ يقال: رجل ذو بهجة. وقد بهج (بالضم) بهاجة وبهجة فهو بهيج. وأبهجني أعجبني بحسنه. ولما وصف الأرض بالإنبات دل على أن قوله: "اهتزت وربت" يرجع إلى الأرض لا إلى النبات. والله أعلم.
الآيتان: 6 - 7 {ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور}(1/83)
قوله تعالى: "ذلك بأن الله هو الحق" لما ذكر افتقار الموجودات إليه وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره في قوله: "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث - إلى قوله - بهيج". قال بعد ذلك: "ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير. وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور". فنبه سبحانه وتعالى بهذا على أن كل ما سواه وإن كان موجودا حقا فإنه لا حقيقة له من نفسه؛ لأنه مسخر مصرف. والحق الحقيقي: هو الموجود المطلق الغني المطلق؛ وأن وجود كل ذي وجود عن وجوب وجوده؛ ولهذا قال في آخر السورة: "وأن ما يدعون من دونه هو الباطل" [الحج: 62]. والحق الموجود الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، وهو الله تعالى. وقيل: ذو الحق على عباده. وقيل: الحق بمعنى في أفعاله. وقال الزجاج: "ذلك" في موضع رفع؛ أي الأمر ما وصف لكم وبين. "بأن الله هو الحق" أي لأن الله هو الحق. وقال: ويجوز أن يكون "ذلك" نصبا؛ أي فعل الله ذلك بأنه هو الحق. "وأنه يحيي الموتى" أي بأنه "وأنه على كل شيء قدير" أي وبأنه قادر على ما أراد. "وأن الساعة آتية" عطف على قوله: "ذلك بأن الله هو الحق" من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى؛ إذ لا يقال فعل الله ما ذكر بأن الساعة آتية، بل لابد من إضمار فعل يتضمنه؛ أي وليعلموا أن الساعة آتية "لا ريب فيها" أي لا شك. "وأن الله يبعث من في القبور" يريد للثواب والعقاب.
الآيات: 8 - 10 {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد}(1/84)
قوله تعالى: "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" أي نير بين الحجة. نزلت في النضر بن الحارث. وقيل: في أبي جهل بن هشام؛ قال ابن عباس: والمعظم على أنها نزلت في النضر بن الحارث كالآية الأولى، فهما في فريق واحد، والتكرير للمبالغة في الذم؛ كما تقول للرجل تذمه وتوبخه: أنت فعلت هذا! أنت فعلت هذا! ويجوز أن يكون التكرير لأنه وصفه في كل آية بزيادة؛ فكأنه قال: إن النضر بن الحارث يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، والنضر بن الحارث يجادل في الله من غير علم ومن غير هدى وكتاب منير؛ ليضل عن سبيل الله). وهو كقولك: زيد يشتمني وزيد يضربني؛ وهو تكرار مفيد؛ قال القشيري. وقد قيل: نزلت فيه بضع عشرة آية. فالمراد بالآية الأولى إنكاره البعث، وبالثانية إنكاره النبوة، وأن القرآن منزل من جهة الله. وقد قيل: كان من قول النضر بن الحارث أن الملائكة بنات الله، وهذا جدال في الله تعالى: "من" في موضع رفع بالابتداء. والخبر في قوله: "ومن الناس". "ثاني عطفه" نصب على الحال. ويتأول على معنيين: أحدهما: روي عن ابن عباس أنه قال: (هو النضر بن الحارث، لوى عنقه مرحا وتعظما). والمعنى الآخر: وهو قول الفراء: أن التقدير: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ثاني عطفه، أي معرضا عن الذكر؛ ذكره النحاس. وقال مجاهد وقتادة: لاويا عنقه كفرا. ابن عباس: معرضا عما يدعى إليه كفرا. والمعنى واحد. وروى الأوزاعي عن مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن ابن عباس في قوله عز وجل: ("ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله" قال: هو صاحب البدعة.وقال المبرد: العطف ما انثنى من العنق. وقال المفضل: والعطف الجانب؛ ومنه قولهم: فلان ينظر في أعطافه، أي في جوانبه. وعطفا الرجل من لدن رأسه إلى وركه. وكذلك عطفا كل شيء جانباه. ويقال: ثنى فلان عني عطفه إذا أعرض عنك. فالمعنى: أي هو معرض عن الحق في جداله ومول عن النظر في كلامه؛ وهو كقوله تعالى:(1/85)
"ولى مستكبرا كأن لم يسمعها" [لقمان: 7]. وقوله تعالى: "لووا رؤوسهم" [المنافقون: 5]. وقوله: "أعرض ونأى بجانبه" [الإسراء: 83]. وقوله: "ذهب إلى أهله يتمطى" [القيامة: 33]. "ليضل عن سبيل الله" أي عن طاعة الله تعالى. وقرئ "ليضل" بفتح الياء. واللام لام العاقبة؛ أي يجادل فيضل؛ كقوله تعالى: "ليكون لهم عدوا وحزنا" [القصص: 8]. أي فكان لهم كذلك. ونظيره "إذا فريق منكم بربهم يشركون. ليكفروا" [النحل: 54 - 55]. "له في الدنيا خزي" أي هوان وذل بما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة؛ كما قال: "ولا تطع كل حلاف مهين" [القلم: 10] الآية. وقوله تعالى: "تبت يدا أبي لهب وتب" [المسد: 1]. وقيل: الخزي ههنا القتل؛ فإن النبي ( قتل النضر بن الحارث يوم بدر صبرا .... "ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق" أي نار جهنم. "ذلك بما قدمت يداك" أي يقال له في الآخرة إذا دخل النار: ذلك العذاب بما قدمت يداك من المعاصي والكفر. وعبر باليد عن الجملة ؛ لأن اليد التي تفعل وتبطش للجملة. و"ذلك" بمعنى هذا ...
الآية: 11 {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين}(1/86)
قوله تعالى: "ومن الناس من يعبد الله على حرف" "من" في موضع رفع بالابتداء، والتمام "انقلب على وجهه" على قراءة الجمهور "خسر". وهذه الآية خبر عن المنافقين. قال ابن عباس: يريد شيبة بن ربيعة كان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله ( ؛ فلما أوحى إليه ارتد شيبة بن ربيعة. وقال أبو سعيد الخدري: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله؛ فتشاءم بالإسلام فأتى النبي ( فقال أقلني! فقال: (إن الإسلام لا يقال) فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيرا! ذهب بصري ومالي وولدي! فقال: (يا يهودي إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب)؛ فأنزل الله تعالى: "ومن الناس من يعبد الله على حرف". وروى إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ("ومن الناس من يعبد الله على حرف " قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح؛ فإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء). وقال المفسرون: نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبي ( فيسلمون؛ فإن نالوا رخاء أقاموا، وإن نالتهم شدة ارتدوا. وقيل نزلت في النضر بن الحارث. وقال ابن زيد وغيره: نزلت في المنافقين. ومعنى "على حرف" على شك؛ قاله مجاهد وغيره. وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه. وحرف كل شيء طرفه وشفيره وحده؛ ومنه حرف الجبل، وهو أعلاه المحدد. وقيل: "على حرف" أي على وجه واحد، وهو أن يعبده على السراء دون الضراء؛ ولو عبدوا الله على الشكر في السراء والصبر على الضراء لما عبدوا الله على حرف. وقيل: "على حرف" على شرط؛ وذلك أن شيبة بن ربيعة قال للنبي ( قبل أن يظهر أمره: ادع لي ربك أن يرزقني مالا وإبلا وخيلا وولدا حتى أومن بك وأعدل إلى دينك؛ فدعا له فرزقه الله عز وجل ما تمنى؛ ثم أراد الله عز وجل فتنته واختباره وهو أعلم به فأخذ منه ما كان رزقه بعد أن أسلم فارتد عن الإسلام فأنزل الله تبارك وتعالى فيه:(1/87)
"ومن الناس من يعبد الله على حرف" يريد شرط. وقال الحسن:هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه.وبالجملة فهذا الذي يعبد الله على حرف ليس داخلا بكليته ؛ وبين هذا بقوله: "فإن أصابه خير" صحة جسم ورخاء معيشة رضي وأقام على دينه. "وإن أصابته فتنة" أي خلاف ذلك مما يختبر به. "انقلب على وجهه" أي ارتد فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر. "خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين" قرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق - وروي عن يعقوب - "خاسر الدنيا" بألف، نصبا على الحال، وعليه فلا يوقف على "وجهه". وخسرانه الدنيا بأن لاحظ في غنيمة ولا ثناء، والآخرة بأن لا ثواب له فيها.
الآية: 12 {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد}
قوله تعالى: "يدعو من دون الله" أي هذا الذي يرجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي ولا ينفع ولا يضر. "ذلك هو الضلال البعيد" قال الفراء: الطويل.
الآية: 13 {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير}(1/88)
قوله تعالى: "يدعو لمن ضره أقرب من نفعه" أي هذا الذي انقلب على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه؛ أي في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار، ولم ير منه نفعا أصلا، ولكنه قال: ضره أقرب من نفعه ترفيعا للكلام؛ كقوله تعالى: "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" [سبأ: 24]. وقيل: يعبدونهم توهم أنهم يشفعون لهم غدا كما؛ قال الله تعالى: "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" [يونس: 18]. وقال تعالى: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" [الزمر: 3]. وقال الفراء والكسائي والزجاج: معنى الكلام القسم والتأخير؛ أي يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه. فاللام مقدمه في غير موضعها. و"من" في موضع نصب بـ "يدعو" واللام جواب القسم. و"ضره" مبتدأ. و"أقرب" خبره. وضعف النحاس تأخير الكلام وقال: وليس للام من التصرف ما يوجب أن يكون فيها تقديم ولا تأخير. قلت: حق اللام التقديم وقد تؤخر؛ قال الشاعر: = خالي لأنت ومن جرير خال ينل العلاء ويكرم الأخوالا = أي لخالي أنت؛ ....قال النحاس: وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: في الكلام حذف؛ والمعنى يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلها. قال النحاس: وأحسب هذا القول غلطا على محمد بن يزيد؛ لأنه لا معنى له، لأن ما بعد اللام مبتدأ فلا يجوز نصب إله، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلا قول الأخفش، وهو أحسن ما قيل في الآية عندي، والله أعلم، قال: "يدعو" بمعنى يقول. و"من" مبتدأ وخبره محذوف، والمعنى يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه.
قلت: وذكر هذا القول القشيري رحمه الله عن الزجاج والمهدوي عن الأخفش، وكمل إعرابه فقال: "يدعو" بمعنى يقول، و"من" مبتدأ، و"ضره" مبتدأ ثان، و"أقرب" خبره، والجملة صلة "من"، وخبر "من" محذوف، والتقدير يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه؛ ومثله قول عنترة: = يدعون عنتر والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم =(1/89)
قال القشيري: والكافر الذي يقول الصنم معبودي لا يقول ضره أقرب من نفعه؛ ولكن المعنى يقول الكافر لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين معبودي وإلهي. وهو كقوله تعالى: "يا أيها الساحر ادع لنا ربك" [الزخرف: 49]؛ أي يا أيها الساحر عند أولئك الذين يدعونك ساحرا. وقال الزجاج: يجوز أن يكون "يدعو" في موضع الحال، وفيه هاء محذوفة؛ أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، أي في حال دعائه إياه؛ ففي "يدعو" هاء مضمرة، ويوقف على هذا على "يدعو". وقوله: "لمن ضره أقرب من نفعه" كلام مستأنف مرفوع بالابتداء، وخبره "لبئس المولى" وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام. قال الزجاج: ويجوز أن يكون "ذلك" بمعنى الذي، ويكون في محل النصب بوقوع "يدعو" عليه؛ أي الذي هو الضلال البعيد يدعو؛ كما قال: "وما تلك بيمنك يا موسى" أي ما الذي. ثم قوله "لمن ضره" كلام مبتدأ، و"لبئس المولى" خبر المبتدأ؛ وتقدير الآية على هذا: يدعو الذي هو الضلال البعيد؛ قدم المفعول وهو الذي؛ كما تقول: زيدا يضرب؛ واستحسنه أبو علي. وزعم الزجاج أن النحويين أغفلوا هذا القول ؛ وأنشد:
=عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق = أي والذي. وقال الزجاج أيضا والفراء: يجوز أن يكون "يدعو" مكررة على ما قبلها، على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء، ولا تعديه إذ قد عديته أولا؛ أي يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره يدعو؛ مثل ضربت زيدا ضربت، ثم حذفت يدعو الآخرة اكتفاء بالأولى. قال الفراء: ويجوز "لمن ضره" بكسر اللام؛ أي يدعو إلى من ضره أقرب من نفعه، قال الله عز وجل: "بأن ربك أوحى لها" أي إليها. وقال الفراء أيضا والقفال: اللام صلة؛ أي يدعو من ضره أقرب من نفعه؛ أي يعبده. وكذلك هو في قراءة عبدالله بن مسعود. "لبئس المولى" أي في التناصر "ولبئس العشير" أي المعاشر والصاحب والخليل. مجاهد: يعني الوثن.(1/90)
الآية: 14 {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد}
قوله تعالى: "إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار" لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين والشياطين ذكر حال المؤمنين في الآخرة أيضا. "إن الله يفعل ما يريد" أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء؛ فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله، وللكافرين النار بما سبق من عدله؛ لا أن فعل الرب معلل بفعل العبيد.
الآية: 15 {من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ}(1/91)
قوله تعالى: "من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء" قال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل فيها أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا ( وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه. "فليمدد بسبب إلى السماء" أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء. "ثم ليقطع" أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له "فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ" وحيلته ما يغيظه من نصر النبي (. والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر. وكذا قال ابن عباس: (إن الكناية في "ينصره الله" ترجع إلى محمد (، وهو وإن لم يجر ذكره فجميع الكلام دال عليه؛ لأن الإيمان هو الإيمان بالله وبمحمد ( ، والانقلاب عن الدين انقلاب عن الدين الذي أتى به محمد ( ؛ أي من كان يظن ممن يعادي محمدا ( ومن يعبد الله على حرف أنا لا ننصر محمدا فليفعل كذا وكذا). وعن ابن عباس أيضا (أن الهاء تعود على "من" والمعنى: من كان يظن أن الله لا يرزقه فليختنق، فليقتل نفسه؛ إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله). والنصر على هذا القول الرزق؛ تقول العرب: من ينصرني نصره الله؛ أي من أعطاني أعطاه الله. ومن ذلك قول العرب: أرض منصورة؛ أي ممطورة. قال الفقعسي: = وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره =(1/92)
وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: "من كان يظن أن لن ينصره الله" أي لن يرزقه. وهو قول أبي عبيدة. وقيل: إن الهاء تعود على الدين؛ والمعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله دينه. "فليمدد بسبب" أي بحبل. والسبب ما يتوصل به إلى الشيء. "إلى السماء" إلى سقف البيت. ابن زيد: هي السماء المعروفة. وقرأ الكوفيون "ثم ليقطع" بإسكان اللام. قال النحاس: وهذا بعيد في العربية؛ لأن "ثم" ليست مثل الواو والفاء، لأنها يوقف، عليها وتنفرد. وفي قراءة عبدالله "فليقطعه" ..." ثم لينظر هل يذهبن كيده ما يغيظه". قيل: "ما" بمعنى الذي؛ أي هل يذهبن كيده الذي يغيظه، فحذف الهاء ليكون أخف. وقيل: "ما" بمعنى المصدر؛ أي هل يذهبن كيده غيظه.
الآية: 16 {وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد}
قوله تعالى: "وكذلك أنزلناه آيات بينات" يعني القرآن. "وأن الله" أي وكذلك أن الله "يهدي من يريد" علق وجود الهداية بإرادته ؛ فهو الهادي لا هادي سواه ....
13* ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *? (الحج : 49 -51 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/93)
يقول تعالى لنبيه ( حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستعجلوه به {قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين} أي إنما أرسلني الله إليكم نذيراً لكم, بين يدي عذاب شديد, وليس إلي من حسابكم من شيء, أمركم إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب, وإن شاء أخره عنكم, وإن شاء تاب على من يتوب إليه, وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة, وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار {لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب} {وإنما أنا لكم نذير مبين * فالذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم {لهم مغفرة ورزق كريم} أي مغفرة لما سلف من سيئاتهم, ومجازاة حسنة على القليل من حسناتهم. قال محمد بن كعب القرظي: إذا سمعت الله تعالى يقول: {ورزق كريم} فهو الجنة.
وقوله: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين} قال مجاهد: يثبطون الناس عن متابعة النبي ( , وكذا قال عبد الله بن الزبير: مثبطين. وقال ابن عباس: معاجزين مراغمين {أولئك أصحاب الجحيم} وهي النار الحارة الموجعة, الشديد عذابها ونكالها, أجارنا الله منها. قال الله تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون}.
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
( قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم )(1/94)
يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا ( أن يخاطب الناس جميعا ، بأنه رسول الله حقا ، مبشرا للمؤمنين بثواب الله ، منذرا للكافرين والظالمين ، من عقابه . وقوله : " مبين " أي : بين الإنذار ، وهو التخويف ، مع الإعلام بالمخوف ، وذلك لأنه أقام البراهين الساطعة ، على صدق ما أنذرهم به . ثم ذكر تفصيل النذارة ، والبشارة ...فقال : " الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة " لما حصل منهم من الذنوب . " ورزق كريم " هي الجنة . والكريم من كل نوع : ما يجمع فضائله ويجوز كمالاته . وحاصل معنى الآية . فالذين آمنوا بالله ورسوله واستقر ذلك الإيمان بقلوبهم حتى أصبح إيمانا صاقا وعملوا الأعمال الصالحة لهم مغفرة من الله لذنوبهم التي وقعوا فيها ، كما أن لهم رزقا كريما في الجنة ، جمع هذا الرزق جميع الفضائل والكمالات . " والذين سعوا في آياتنا معاجزين " أي : سابقين أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم " أولئك " الموصوفون بما ذكر من السعي والمعاجزة " أصحاب الجحيم "
أي : ملازمون للنار الموقدة ، المصاحبون لها في كل أوقاتهم ، فلا يخفف عنهم من عذابها ولا يفتر عنهم لحظة من أليم عقابها . وحاصل المعنى . والذين أجهدوا أنفسهم في محاربة القرآن ، مسابقين المؤمنين في زعمهم ، معارضين لهم ، شاقين ، زاعمين ـ خطأ ـ أنهم بذلك يبلغون ما يريدون ، أولئك يخلدون في عذاب الجحيم .
*****************************************************(1/95)
14*? يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ*مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ*اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ*يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ * ? (الحج : 73-76 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/96)
يقول تعالى منبهاً على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها {يا أيها الناس ضرب مثل} أي لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به {فاستمعوا له} أي أنصتوا وتفهموا {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له} أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك. كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا شريك عن عمارة بن القعقاع, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة مرفوعاً قال: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي, فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة". وأخرجه صاحبا الصحيح من طريق عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة, عن النبي ( قال: "قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي, قليخلقوا ذرة, فليخلقوا شعيرة", ثم قال تعالى أيضاً: {وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه} أي هم عاجزون عن خلق ذباب واحد, بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والإنتصار منه لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطيب, ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك, هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها, ولهذا قال: {ضعف الطالب والمطلوب} قال ابن عباس: الطالب الصنم, والمطلوب الذباب, واختاره ابن جرير, وهو ظاهر السياق. وقال السدي وغيره: الطالب العابد, والمطلوب الصنم, ثم قال: {ما قدروا الله حق قدره} أي ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها {إن الله لقوي عزيز} أي هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} {إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدىء ويعيد} {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}. وقوله: {عزيز} أي قد عز كل شيء فقهره وغلبه, فلا يمانع ولا يغالب لعظمته وسلطانه, وهو الواحد القهار.(1/97)
** ( اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ )
يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلاً فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لإبلاغ رسالته {إن الله سميع بصير} أي سميع لأقوال عباده, بصير بهم, عليم بمن يستحق ذلك منهم, كما قال: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}, وقوله: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور} أي يعلم ما يفعل رسله فيما أرسلهم به, فلا يخفى عليه شيء من أمورهم, كما قال: {الِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً * } فهو سبحانه رقيب عليهم, شهيد على ما يقال لهم, حافظ لهم, ناصر لجنابهم {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} الاَية.
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
" يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز "(1/98)
هذا مثل ضربه الله ، لقبح عبادة الأوثان ، وبيان نقصان عقول من عبدها ، وضعف الجميع فقال : " يا أيها الناس " هذا خطاب للمؤمنين والكفار ، المؤمنون يزدادون علما وبصيرة ، والكافرون ، تقوم عليهم الحجة . " ضرب مثل فاستمعوا له " أي : ألقوا إليه أسماعكم وافهموا ما احتوى عليه ، ولا يصادف منكم قلوبا لاهية ، وأسماعا معرضة ، بل ألقوا إليه القلوب والأسماع ، وهو هذا . " إن الذين تدعون من دون الله " شمل ما يدعى من دون الله . " لن يخلقوا ذبابا " الذي هو من أحقر المخلوقات وأخسها ، فليس في قدرتهم ، خلق هذا المخلوق الضعيف ، فما فوقه من باب أولى . " ولو اجتمعوا له " بل أبلغ من ذلك " وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه " وهذا غاية ما يصير من العجز . " ضعف الطالب " الذي هو المعبود من دون الله " والمطلوب " الذي هو الذباب ، فكل منهما ضعيف . وأضعف منهما ، من يتعلقون بهذا الضعيف ، وينزلونه منزلة رب العالمين . فهؤلاء " ما قدروا الله حق قدره " حيث سووا الفقير العاجز من جميع الوجوه ، بالغني القوي من جميع الوجوه . سووا من لا يملك لنفسه ، ولا لغيره نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، بمن هو النافع الضار ، المعطي المانع ، مالك الملك ، والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف . " إن الله لقوي عزيز " أي : كامل القوة ، كامل العزة ، ومن كمال قوته وعزته ، أن نواصي الخلق بيديه ، وأنه لا يتحرك متحرك ، ولا يسكن ساكن ، إلا بإرادته ومشيئته ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن . ومن مال قوته ، أن يمسك السموات والأرض أن تزولا ، ومن كمال قوته ، أنه يبعث الخلق كلهم ، أولهم وآخرهم ، بصيحة واحدة . ومن كمال قوته ، أنه أهلك الجبابرة ، والأمم العاتية ، بشيء يسير ، وسوط من عذابه .
" الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور "(1/99)
لما بين تعالى كماله وضعف الأصنام ، وأنه المعبود حقا ، بين حالة الرسل ، وتميزهم عن الخلق ، بما تميزوا به ، من الفضائل فقال : " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس" أي: يختار ويجتبي من الملائكة رسلا ، ومن الناس رسلا ، يكونون أزكى ذلك النوع ، وأجمعه لصفات المجد ، وأحقه بالاصطفاء . فالرسل ، لايكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق ، والذي اختارهم ، واجتباهم ، ليس جاهلا بحقائق الأشياء ، أو يعلم شيئا دون شيء وأن المصطفي لهم ، السميع ،البصير ،الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء . فاختياره إياهم ، عن علم منه ،أنهم أهل لذلك ، وأن الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى :" الله أعلم حيث يجعل رسالته "..." وإلى الله ترجع الأمور " أي : هو يرسل الرسل ، يدعون الناس إلى الله ، فمنهم المجيب ، ومنهم الراد لدعوتهم ، ومنهم العامل ، ومنهم الناكل فهذا وظيفة الرسل ، وأما الجزاء على تلك الأعمال ، فمصيرها إلى الله ، فلا تعدم منه ، فضلا وعدلا .......
**************************************************
15*? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ *? (لقمان : 33 - 34 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/100)
** يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ
يقول تعالى منذراً للناس يوم المعاد, وآمراً لهم بتقواه والخوف منه والخشية من يوم القيامة حيث {لا يجزي والد عن ولده} أي لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه. وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه. لم يقبل منه, ثم عاد بالموعظة عليهم بقوله {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} أي لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الاَخرة {ولا يغرنكم بالله الغرور} يعني الشيطان. قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة, فإنه يغر ابن آدم ويعده ويمنيه, وليس من ذلك شيء بل كان ما قال تعالى: {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} قال وهب بن منبه: قال عزير عليه السلام: لما رأيت بلاء قومي, اشتد حزني وكثر همي وأرق نومي, فضرعت إلى ربي وصليت وصمت, فأنا في ذلك أتضرع أبكي, إذ أتاني الملك فقلت له, خبرني هل تشفع أرواح المصدقين للظلمة أو الاَباء لأبنائهم ؟ قال: إن القيامة فيها فصل القضاء, وملك ظاهر ليس فيه رخصة لا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الرحمن, ولا يؤخذ فيه والد عن ولده, ولا ولد عن والده, ولا أخ عن أخيه, ولا عبد عن سيده, ولا يهتم أحد به غيره, ولا يحزن لحزنه, ولا أحديرحمه, كل مشفق على نفسه, ولا يؤخذ إنسان عن إنسان, كل يهمه همه, ويبكي عوله, ويحمل وزره, ولا يحمل وزره معه غيره, رواه ابن أبي حاتم.
** إِنّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنّ اللّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ(1/101)
هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها, فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها, فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب {لا يجليها لوقتها إلا هو} وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك, ومن يشاء الله من خلقه, وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه, ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى أو شقياً أو سعيداً, علم الملائكة الموكلون بذلك, ومن شاء الله من خلقه, وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غداً في دنياها وأخراها {وما تدري نفس بأي أرض تموت} في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان, لا علم لأحد بذلك, وهذه شبيهة بقوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} الاَية. وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب.
- قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب, حدثني حسين بن واقد, حدثني عبد الله بن بريدة, سمعت أبي بريدة يقول: سمعت رسول الله ( يقول "خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير}" هذا حديث صحيح الإسناد, ولم يخرجوه.(1/102)
- (حديث ابن عمر) قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله ( "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلاالله {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير}" انفرد بإخراجه البخاري, فرواه في كتاب الإستسقاء في صحيحه عن محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان بن سعيد الثوري به. ورواه في التفسير من وجه آخر, فقال: حدثنا يحيى بن سليمان,حدثنا ابن وهب, حدثني عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر أن أباه حدثه أن عبد الله بن عمر قال: قال النبي ( "مفاتيح الغيب خمس" ثم قرأ {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام} انفرد به أيضاً. ورواه الإمام أحمد عن غندر عن شعبة عن عمر بن محمد أنه سمع أباه يحدث عن ابن عمر عن النبي ( قال "أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير}".
(حديث ابن مسعود) رضي الله عنه. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن شعبة, حدثني عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال: قال عبد الله: أوتي نبيكم ( مفاتيح كل شيء غير خمس {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} وكذا رواه عن محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن مرة به. وزاد في آخره. قال: قلت له أنت سمعته من عبد الله ؟ قال: نعم, أكثر من خمسين مرة, ورواه أيضاً عن وكيع عن مسعر عن عمرو بن مرة به. وهذا إسناد حسن على شرط أصحاب السنن, ولم يخرجوه.(1/103)
(حديث أبي هريرة) قال البخاري عند تفسير هذه الاَية: حدثنا إسحاق عن جرير عن أبي حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( كان يوماً بارزاً للناس إذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله, ما الإيمان ؟ قال "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته, وكتبه ورسله ولقائه, وتؤمن بالبعث الاَخر" قال: يا رسول الله ما الإسلام ؟ قال "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة المفروضة, وتصوم رمضان" قال: يا رسول الله ما الإحسان ؟ قال "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك" قال: يا رسول الله متى الساعة ؟ قال "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل, ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها, وإذا كان الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله, {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث, ويعلم مافي الأرحام} الاَية, ثم انصرف الرجل فقال "ردوه علي" فأخذوا ليردوه, فلم يروا شيئاً, فقال: "هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم" ورواه البخاري أيضاً في كتاب الإيمان, ومسلم عن طرق عن أبي حيان به. وقد تكلمنا عليه في أول شرح البخاري, وذكرنا ثم حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ذلك بطوله, وهو من أفراد مسلم.(1/104)
(حديث ابن عباس) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا عبد الحميد, حدثنا شهر, حدثنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, قال: جلس رسول الله ( مجلساً فأتاه جبريل, فجلس بين يدي رسول الله ( واضعاً كفيه على ركبتي النبي ( فقال يا رسول الله: حدثني ما الإسلام ؟ قال رسول الله ( "الإسلام أن تسلم وجهك لله عز وجل, وتشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله" قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت ؟ قال "إذا فعلت ذلك فقد أسلمت" قال: يا رسول الله, فحدثني ما الإيمان ؟ قال "الإيمان أن تؤمن بالله واليوم الاَخر, والملائكة والكتاب والنبيين, وتؤمن بالموت وبالحياة بعد الموت, وتؤمن بالجنة والنار, والحساب والميزان, وتؤمن بالقدر كله: خيره وشره" قال فإذا فعلت ذلك فقد آمنت ؟ قال "إذا فعلت ذلك فقد آمنت" قال: يا رسول الله حدثني ما الإحسان ؟ قال رسول الله ( "الإحسان أن تعمل لله كأنك تراه, فإن كنت لا تراه فإنه يراك" قال: يا رسول الله فحدثني متى الساعة ؟ قال رسول الله ("ـ سبحان الله ـ في خمس لا يعلمهن إلا هو {إن الله عنده علم الساعة, وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} ولكن إن شئت حدثتك بمعالم لها دون ذلك ـ قال: أجل يا رسول الله, فحدثني, قال رسول الله( : إذا رأيت الأمة ولدت ربتها ـ أو ربها ـ ورأيت أصحاب الشاء يتطاولون في البنيان, ورأيت الحفاة الجياع العالة كانوا رؤوس الناس, فذلك من معالم الساعة وأشراطها" قال: يا رسول الله ومن أصحاب الشاء الحفاة الجياع العالة ؟ قال "العرب" حديث غريب, ولم يخرجوه.(1/105)
(حديث رجل من بني عامر) روى الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي (فقال أألج ؟ فقال النبي (لخادمة "اخرجي إليه, فإنه لا يحسن الإستئذان, فقولي له فليقل: السلام عليكم, أأدخل ؟" قال: فسمعته يقول ذلك, فقلت: السلام عليكم, أأدخل ؟ فأذن لي فدخلت, فقلت: بمَ أتيتنا به ؟ قال "لم آتكم إلا بخير, أتيتكم بأن تعبدوا الله وحده لا شريك له, وأن تدعوا اللات والعزى, وأن تصلوا بالليل والنهار خمس صلوات, وأن تصوموا من السنة شهراً, وأن تحجوا البيت, وأن تأخذوا الزكاة من مال أغنيائكم فتردوها على فقرائكم" قال: فقال فهل بقي من العلم شيء لا تعلمه ؟ قال "قد علّمني الله عز وجل خيراً, وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل: الخمس {إن الله عنده علم الساعة, وينزل الغيث, ويعلم ما في الأرحام} الاَية, وهذا إسناد صحيح.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: جاء رجل من أهل البادية فقال: إن امرأتي حبلى, فأخبرني ما تلد, وبلادنا مجدبة, فأخبرني متى ينزل الغيث, وقد علمت متى ولدت, فأخبرني متى أموت فأنزل الله عز وجل {إن الله عنده علم الساعة ـ إلى قوله ـ عليم خبير} قال مجاهد: وهي مفاتيح الغيب التي قال الله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب, ثم قرأت {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً}.(1/106)
وقوله تعالى: {وما تدري نفس بأي أرض تموت} قال قتادة: أشياء استأثر الله بهن, فلم يطلع عليهنّ ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً {إن الله عنده علم الساعة} فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة, أو في أي شهر, أو ليل أو نهار {وينزل الغيث} فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلاً أو نهاراً {ويعلم ما في الأرحام} فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى, أحمر أو أسود, وما هو {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً} أخير أم شر, ولا تدري يا ابن آدم متى تموت لعلك الميت غداً, لعلك المصاب غداً {وما تدري نفس بأي أرض تموت} أي ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض, أفي بحر أم بر أو سهل أو جبل. وقد جاء في الحديث "إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة" فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير في مسند أسامة بن زيد: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي المليح عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله ("ما جعل الله ميتة عبد بأرض إلا جعل له فيها حاجة".
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة, حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن أبي إسحاق عن مطر بن عكاش قال: قال رسول الله ("إذا قضى الله ميتة عبد بأرض جعل له إليها حاجة" وهكذا رواه الترمذي في القدر من حديث سفيان الثوري به, ثم قال: حسن غريب, ولا يعرف لمطر عن النبي ( غير هذا الحديث, وقد رواه أبو داود في المراسيل, فالله أعلم.(1/107)
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا أيوب عن أبي المليح بن أسامة عن أبي عزة قال: قال رسول الله ( "إذا أراد الله قبض روح عبد بأرض جعل له فيها ـ أو قال ـ بها حاجة" وأبو عزة هذا هو يسار بن عبيد الله, ويقال ابن عبد الهذلي. وأخرجه الترمذي من حديث إسماعيل بن إبراهيم وهو ابن علية, وقال: صحيح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام الأصفهاني, حدثنا المؤمل بن إسماعيل, حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي عزة الهذلي قال: قال رسول الله ( "إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها" ثم قرأ رسول الله ({إن الله عنده علم الساعة ـ إلى ـ عليم خبير}.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن ثابت الجحدري ومحمد بن يحيى القطعي قالا: حدثنا عمر بن علي, حدثنا إسماعيل عن قيس عن عبد الله قال: قال رسول الله ("إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة" ثم قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم أحداً يرفعه إلا عمر بن علي المقدمي. وقال ابن أبي الدنيا: حدثني سليمان بن أبي مسيح قال: أنشدني محمد بن الحكم لأعشى همدان:
فما تزود مما كان يجمعه سوى حنوط غداة البين مع خرق
وغير نفحة أعواد تشب له وقل ذلك من زاد لمنطلق
لا تأسين على شيء فكل فتى إلى منيته سيار في عنق
وكل من ظن أن الموت يخطئه معلل بأعاليل من الحمق
بأيما بلدة تقدر منيته إن لا يسير إليها طائعاً يُسق(1/108)
أورده الحافظ ابن عساكر رحمه الله في ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث, وهو أعشى همدان, وكان الشعبي زوج أخته, وهو مزوج بأخت الشعبي أيضاً, وقد كان ممن طلب العلم والتفقه, ثم عدل إلى صناعة الشعر فعرف به, وقد روى ابن ماجه عن أحمد بن ثابت وعمر بن شبة, كلاهما عن عمر بن علي مرفوعاً إذا كان أجل أحدكم بأرض أوثبته له إليها حاجة, فإذا بلغ أقصى أثره قبضه الله عز وجل, فتقول الأرض يوم القيامة: رب هذا ما أودعتني, قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن أيوب عن أبي المليح عن أسامة أن رسول الله ( قال "ما جعل الله منية عبد بأرض إلا جعل له إليها حاجة".
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
" يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور "(1/109)
يأمر تعالى الناس بتقواه ، التي هي : امتثال أوامره ، وترك زواجره . ويستلفتهم لخشية يوم القيامة ، اليوم الشديد ، الذي فيه كل أحد ، لا يهمه إلا نفسه " واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا " زيد في حسناته ولا ينقص من سيئاته ، قد تم على كل عبد عمله ، وتحقق عليه جزاؤه . فلفت النظر لهذا اليوم المهول ، مما يقوي العبد ، ويسهل عليه تقوى الله . وهذا من رحمة الله بالعباد ، يأمرهم بتقواه التي فيها سعادتهم ، ويعدهم عليها الثواب ، ويحذرهم من العقاب ، ويزجرهم عنه بالمواعظ والمخوفات .فلك الحمد يا رب العالمين . " إن وعد الله حق " فلا تمتروا فيه ، ولا تعملوا عمل غير المصدق ، فلهذا قال : " فلا تغرنكم الحياة الدنيا " بزينتها وزخارفها ، وما فيها من الفتن والمحن . " ولا يغرنكم بالله الغرور " الذي هو الشيطان ، ما زال يخدع الإنسان ولا يغفل عنه في جميع الأوقات . فإن لله على عباده حقا ، وقد وعدهم موعدا يجازيهم فيه بأعمالهم ، وهل وفوا حقه ، أم قصروا فيه . وهذا أمر يجب الاهتمام به ، وأن يجعله العبد نصب عينيه ، ورأس مال تجارته التي يسعى إليها . ومن أعظم العوائق عنه والقواطع دونه ، الدنيا الفتانة ، والشيطان الموسوس المسول . فنهى تعالى عباده ، أن تغرهم الدنيا ، أو يغرهم بالله الغرور " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا "...(1/110)
" إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير " قد تقرر أن الله تعالى ، أحاط علمه بالغيب والشهادة ، والظواهر والبواطن ، وقد يطلع الله عباده على كثير من الأمور الغيبية ، وهذه الأمور الخمسة ، من الأمور التي طوى علمها عن جميع الخلق ، فلا يعلمها نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، فضلا عن غيرهما ، فقال : " إن الله عنده علم الساعة " أي : يعلم متى مرساها ، كما قال تعالى : " يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة " الآية . " وينزل الغيث " أي : هو المنفرد بإنزاله ، وعلم وقت نزوله . " ويعلم ما في الأرحام " فهو الذي أنشأ ما فيها ، وعلم ما هو ، هل هو ذكر أم أنثى . ولهذا يسأل الملك الموكل بالأرحام ربه : هل هو ذكر أم أنثى ؟ فيقضي الله ما يشاء . " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا " من كسب دينها ودنياها . " وما تدري نفس بأي أرض تموت " بل الله تعالى هو المختص بعلم ذلك جميعه . ولما خصص هذه الأشياء ، عمم علمه بجميع الأشياء فقال : " إن الله عليم خبير " محيط بالظواهر والبواطن ، والخفايا والخبايا ، والسرائر . ومن حكمته التامة ، أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد؛ لأن في ذلك من المصالح ، ما لا يخفى على من تدبر ذلك .
**************************************************
16*? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ? (فاطر : 3 -4 )
( قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ( 310 هـ) رحمه الله :(1/111)
يقول تعالى ذكره للمشركين به من قوم رسول الله ( من قُرَيش:( يَا أيّهَا الناسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ ) التي أنعمها عَلَيْكُم بفتحه لكم من خيراته ما فتح وبَسْطِه لكم من العيش ما بسط وفكّروا فانظروا ( هل من خالق )سوى فاطر السموات والأرض الذي بيده مفاتيح أرزاقكم ومغالقها (يَرْزُقُكُم مِنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ) فتعبدوه دونه (لا إلَهَ إلاّ هُوَ )يقول: لا معبود تنبغي له العبادة إلا الذي فطر السموات والأرض, القادر على كلّ شيء, الذي بيده مفاتح الأشياء وخزائنها, ومغالق ذلك كله, فلا تعبدوا أيها الناس شيئا سواه, فإنه لا يقدر على نفعكم وضرّكم سواه, فله فأخلصوا العبادة, وإياه فأفردوا بالألوهة( فَأنّى تُؤْفَكُونَ) يقول: فأيّ وجه عن خالقكم ورازقكم الذي بيده نفعكم وضرّكم تصرفون, كما حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فأنّى تُؤْفَكُونَ يقول الرجل: إنه ليوفك عنى كذا وكذا....
{وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ * يَأَيّهَا النّاسُ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ }.(1/112)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ( : وإن يكذّبك يا محمد هؤلاء المشركون بالله من قومك فلا يحزننك ذاك, ولا يعظم عليك, فإن ذلك سنة أمثالهم من كفرة الأمم بالله, من قبلهم, وتكذيبهم رسل الله التي أرسلها إليهم من قبلك, ولن يعدو مشركو قومك أن يكونوا مثلهم, فيتبعوا في تكذيبك منهاجهم, ويسلكوا سبيلهم...( وَإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ) يقول تعالى ذكره: وإلى الله مرجع أمرك وأمرهم, فمحلّ بهم العقوبة, إن هم لم ينيبوا إلى طاعتنا في اتباعك, والإقرار بنبوّتك, وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة, نظير ما أحللنا بنظرائهم من الأمم المكذّبة رسلها قبلك, ومنجّيك وأتباعك من ذلك, سنتنا بمن قبلك في رسلنا وأوليائنا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ( وَإنْ يُكَذّبوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) يعزّي نبيه كما تسمعون.
( وقال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله
ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له كما أنه المستقل بالخلق والرزق, فكذلك فليفرد بالعبادة ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان, ولهذا قال تعالى: {لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} أي فكيف تؤفكون بعد هذا البيان, ووضوح هذا البرهان, وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان, والله أعلم.
(وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ * يَأَيّهَا النّاسُ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ * إِنّ الشّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السّعِيرِ)(1/113)
ويقول تبارك وتعالى:( وإِن يكذبوك) يا محمد، هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيما جئتهم به من التوحيد, فلك فيمن سلف قبلك من الرسل أسوة, فإنهم كذلك جاؤوا قومهم بالبينات وأمروهم بالتوحيد فكذبوهم وخالفوهم {وإلى الله ترجع الأمور} أي وسنجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ...
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله
قوله تعالى: "يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم" معنى هذا الذكر الشكر. "هل من خالق غير الله" يجوز في "غير" الرفع والنصب والخفض، فالرفع من وجهين: أحدهما: بمعنى هل من خالق إلا الله؛ بمعنى ما خالق إلا الله. والوجه الثاني: أن يكون نعتا على الموضع؛ لأن المعنى: هل خالق غير الله، و"من" زائدة. والنصب على الاستثناء. والخفض، على اللفظ. قال حميد الطويل: قلت للحسن: من خلق الشر؟ فقال سبحان الله! هل من خالق غير الله جل وعز، خلق الخير والشر. وقرأ حمزة والكسائي: "هل من خالق غير الله" بالخفض. الباقون بالرفع. "يرزقكم من السماء" أي المطر. "والأرض" أي النبات. "لا إله إلا هو فأنى تؤفكون" من الأَفك (بالفتح) وهو الصرف؛ يقال: ما أفكك عن كذا، أي ما صرفك عنه. وقيل: من الإِفك (بالكسر) وهو الكذب، ويرجع هذا أيضا إلى ما تقدم؛ لأنه قول مصروف عن الصدق والصواب، أي من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد الله. والآية حجة على القدرية لأنه نفى خالقا غير الله وهم يثبتون معه خالقين ....
قوله تعالى: "وإن يكذبوك" يعني كفار قريش. "فقد كذبت رسل من قبلك" يعزي نبيه ويسليه ( وليتأسى بمن قبله في الصبر. "وإلى الله ترجع الأمور" قرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي وخلف (بفتح التاء) على أنه مسمى الفاعل. واختاره أبو عبيد لقوله تعالى: "ألا إلى الله تصير الأمور" [الشورى: 53] الباقون "تُرْجَع" على الفعل المجهول.(1/114)
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
( يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور )
يأمر تعالى ، جميع الناس أن يذكروا نعمته عليهم . وهذا شامل لذكرها بالقلب اعترافا ، وباللسان ثناء ، وبالجوارح انقيادا ، فإن ذكر نعمه تعالى ، داع لشكره . ثم نبههم على أصول النعم ، وهي : الخلق ، والرزق... فقال : " هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض " . ولما كان من المعلوم ، أنه ليس أحد يخلق ويرزق إلا الله ، نتج من ذلك ، أن كان ذلك ، دليلا على ألوهيته وعبوديتة ، ولهذا قال : " لا إله إلا هو فأنى تؤفكون " أي : تصرفون عن عبادة الخالق الرازق لعبادة المخلوق المرزوق ... " وإن يكذبوك " يا أيها الرسول ، فلك أسوة بمن قبلك من المرسلين
" فقد كذبت رسل من قبلك " فأهلك المكذبون ، ونجى الله الرسل وأتباعهم . " وإلى الله ترجع الأمور " في الآخرة ، فيجازي المكذبين ، وينصر المرسلين وأتباعهم .
********************************************
17* ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ *الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ *? (فاطر : 5 - 8 )(1/115)
( وقال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله
قال تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق} أي المعاد كائن لا محالة {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} أي العيشة الدنيئة بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم, فلا تتلهوا عن ذلك الباقي بهذه الزهرة الفانية {ولا يغرنكم بالله الغرور} وهو الشيطان قاله ابن عباس رضي الله عنهما, أي لا يفتننكم الشيطان ويصرفنكم عن اتباع رسل الله وتصديق كلماته, فإنه غرار كذاب أفاك, وهذه الاَية كالاَية التي في آخر لقمان {فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} وقال مالك عن زيد بن أسلم هو الشيطان, كما قال المؤمنون للمنافقين يوم القيامة حين يضرب {بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور}
ثم بين تعالى عداوة إبليس لابن آدم فقال: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً } أي هو مبارز لكم بالعداوة فعادوه أنتم أشد العداوة وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} أي إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير, فهذا هو العدو المبين نسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان وأن يرزقنا اتباع كتاب الله, والاقتفاء بطريق رسله, إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير, وهذه كقوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لاَدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً}.(1/116)
**( الّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوَءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنّ اللّهَ يُضِلّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)
لما ذكر تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى السعير, ذكر بعد ذلك أن الذين كفروا لهم عذاب شديد, لأنهم أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن, وأن الذين آمنوا بالله ورسله {وعملوا الصالحات لهم مغفرة} أي لما كان منهم من ذنب {وأجر كبير} على ما عملوه من خير. ثم قال تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً} يعني كالكفار والفجار يعملون أعمالاً سيئة وهم في ذلك يعتقدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً, أي أفمن كان هكذا قد أضله الله ألك فيه حيلة, لاحيلة لك فيه {فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} أي بقدره كان ذلك {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} أي لا تأسف على ذلك, فإن الله حكيم في قدره إنما يضل من يضل ويهدي من يهدي, لما له في ذلك من الحجة البالغة والعلم التام, ولهذا قال تعالى: {إن الله عليم بما يصنعون}(1/117)
وقال ابن أبي حاتم عند هذه الاَية: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عوف الحمصي, حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو السيباني أو ربيعة عن عبد الله بن الديلمي قال: أتيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائط بالطائف يقال له الوهط, قال: سمعت رسول الله ( يقول: "إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة, ثم ألقى عليهم من نوره, فمن أصابه من نوره يومئذ فقد اهتدى ومن أخطأه منه ضل, فلذلك أقول جف القلم على ما علم الله عز وجل" ثم قال: حدثنا محمد بن عبدة القزويني, حدثنا حسان بن حسان البصري, حدثنا إبراهيم بن بشير, حدثنا يحيى بن معن, حدثنا إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله ( فقال "الحمدلله الذي يهدي من الضلالة, ويلبس الضلالة على من أحب" وهذا أيضاً حديث غريب جداً....
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله(1/118)
قوله تعالى: "يا أيها الناس إن وعد الله حق" هذا وعظ للمكذبين للرسول بعد إيضاح الدليل على صحة قوله: إن البعث والثواب والعقاب حق. "فلا تغرنكم الحياة الدنيا" قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا ليتني قدمت لحياتي. "ولا يغرنكم بالله الغرور" قال ابن السكيت وأبو حاتم: "الغرور" الشيطان. وغرور جمع غر، وغر مصدر. ويكون "الغرور" مصدرا وهو بعيد عند غير أبي إسحاق؛ لأن "غررته" متعد، والمصدر المتعدي إنما هو على فعل؛ نحو: ضربته ضربا، إلا في أشياء يسيرة لا يقاس عليها؛ قالوا: لزمته لزوما، ونهكه المرض نهوكا. فأما معنى الحرف فأحسن ما قيل فيه ما قاله سعيد بن جبير، قال: الغرور بالله أن يكون الإنسان يعمل بالمعاصي ثم يتمنى على الله المغفرة. وقراءة العامة "الغرور" (بفتح الغين) وهو الشيطان؛ أي لا يغرنكم بوساوسه في أنه يتجاوز عنكم لفضلكم. وقرأ أبو حيوة وأبو المال العدوي ومحمد بن المقع "الغرور" (برفع الغين) وهو الباطل؛ أي لا يغرنكم الباطل. وقال ابن السكيت: والغرور (بالضم) ما اغتر به من متاع الدنيا. قال الزجاج: ويجوز أن يكون الغرور جمع غار؛ مثل قاعد وقعود. النحاس: أو جمع غر، أو يشبه بقولهم: نهكه المرض نهوكا ولزمه لزوما. الزمخشري: أو مصدر "غره" كاللزوم والنهوك.
الآية: 6 - 7 {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير}(1/119)
قوله تعالى: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا" أي فعادوه ولا تطيعوه. ويدلكم على عداوته إخراجه أباكم من الجنة، وضمانه إضلالكم في قوله: "ولأضلنهم ولأمنينهم" [النساء: 119] الآية. وقوله: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم" [الأعراف: 16 - 17] الآية. فأخبرنا جل وعز أن الشيطان لنا عدو مبين؛ واقتص علينا قصته، وما فعل بأبينا آدم عليه السلام، وكيف أنتدب لعداوتنا وغرورنا من قبل وجودنا وبعده، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا. وكان الفضيل بن عياض يقول: يا كذاب يا مفتر، أتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر. وقال ابن السماك: يا عجبا لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه! وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته! .... و"عدو" في قوله: "إن الشيطان لكم عدو" يجوز أن يكون بمعنى معاد، فيثنى ويجمع ويؤنث. ويكون بمعنى النسب فيكون موحدا بكل حال؛ كما قال جل وعز: "فإنهم عدو لي" [الشعراء: 77]. وفي المؤنث على هذا أيضا عدو. النحاس: فأما قول بعض النحويين إن الواو خفية فجاؤوا بالهاء فخطأ، بل الواو حرف جلد. "إنما يدعو حزبه" كفت "ما" "إن" عن العمل فوقع بعدها الفعل. "حزبه" أي أشياعه. "ليكونوا من أصحاب السعير" فهذه عداوته. "الذين كفروا لهم عذاب شديد" .. يكون "الذين" بدلا من" أصحاب" فيكون في موضع خفض، أو يكون بدلا من "حزبه" فيكون في موضع نصب، أو يكون بدلا من الواو فكون في موضع رفع وقول رابع وهو أحسنها يكون في موضع رفع بالابتداء ويكون خبره " لهم عذاب شديد"؛ وكأنه. سبحانه بين حال موافقته ومخالفته، ويكون الكلام قد تم في قوله: "من أصحاب السعير" ثم ابتدأ فقال "الذين كفروا لهم عذاب شديد".
"والذين آمنوا وعملوا الصالحات" في موضع رفع بالابتداء أيضا، وخبره "لهم مغفرة" أي لذنوبهم. "وأجر كبير" وهو الجنة.(1/120)
الآية: 8 {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون}
قوله تعالى: "أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء" "من" في موضع رفع بالابتداء، وخبره محذوف. قال الكسائي: والذي يدل عليه قوله تعالى: "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" فالمعنى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ذهبت نفسك عليهم حسرات. قال: وهذا كلام عربي طريف لا يعرفه إلا قليل. وذكره الزمخشري عن الزجاج. قال النحاس: والذي قال الكسائي أحسن ما قيل في الآية، لما ذكره من الدلالة على المحذوف، والمعنى أن الله جل وعز نهى نبيه عن شدة الاغتمام بهم والحزن عليهم، كما قال جل وعز: "فلعلك باخع نفسك" [الكهف: 6] قال أهل التفسير: قاتل. قال نصر ابن علي: سألت الأصمعي عن قول النبي ( في أهل اليمن: (هم أرق قلوبا وأبخع طاعة) ما معنى أبخع؟ فقال: أنصح. فقلت له: إن أهل التفسير مجاهدا وغيره يقولون في قول الله عز وجل: "لعلك باخع نفسك": معناه قاتل نفسك. فقال: هو من ذاك بعينه، كأنه من شدة النصح لهم قاتل نفسه. وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، مجازه: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقيل: الجواب محذوف؛ المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هدي، ويكون يدل على هذا المحذوف "فإن الله يضل من، يشاء ويهدي من يشاء". وقرأ يزيد بن القعقاع: "فلا تذهب نفسك" وفي "أفمن زين له سوء عمله" أربعة أقوال، أحدها: أنهم اليهود والنصارى والمجوس؛ قال أبو قلابة. ويكون، "سوء عمله" معاندة الرسول عليه الصلاة والسلام. الثاني: أنهم الخوارج؛ رواه عمر بن القاسم. يكون "سوء عمله" تحريف التأويل. الثالث: الشيطان؛ قال الحسن. ويكون "سوء عمله" الإغواء. الرابع: كفار قريش؛ قاله الكلبي. ويكون "سوء عمله" الشرك. وقال: إنها نزلت في العاص بن وائل(1/121)
السهمي والأسود بن المطلب. وقال غيره: نزلت في أبي جهل بن هشام. "فرآه حسنا" أي صوابا؛ قال الكلبي. وقال: جميلا.
قلت: والقول بأن المراد كفار قريش أظهر الأقوال؛ لقوله تعالى: "ليس عليك هداهم" [البقرة: 272]، وقوله: "ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" [آل عمران: 176]، وقال: "فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا" [الكهف: 6]، وقوله: "لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين"، وقوله في هذه الآية: "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" وهذا ظاهر بين، أي لا ينفع تأسفك على مقامهم على كفرهم، فإن الله أضلهم ...؛ أي أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا تريد أن تهديه، وإنما ذلك إلى الله لا إليك، والذي إليك هو التبليغ. وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن محيصن: "فلا تُذهِب" بضم التاء وكسر الهاء "نفسك" نصبا على المفعول، والمعنيان متقاربان. "حسرات" منصوب مفعول من أجله؛ أي فلا تذهب نفسك للحسرات. و"عليهم" صلة "تذهب"، كما تقول: هلك عليه حبا ومات عليه حزنا. وهو بيان للمتحسر عليه. ولا يجوز أن يتعلق بالحسرات؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته. ويجوز أن يكون حالا كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر؛ كما قال جرير: = مَشَقَ الهواجر لحمَهن مع السُّرى حتى ذهبن كلاكلا وصدورا = يريد: رجعن كلاكلا وصدورا؛ أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها. ومنه قول الآخر:= فعلى إثرهم تساقط نفسي حسرات وذكرهم لي سقام = أو مصدرا....
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
" يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير "(1/122)
يقول تعالى : " يا أيها الناس إن وعد الله "بالبعث ، والجزاء على الأعمال " حق " أي : لا شك فيه ، ولا مرية ، ولا تردد ، قد دلت على ذلك الأدلة السمعية ، والبراهين العقلية . فإذا كان وعده حقا ، فتهيئوا له وبادروا أوقاتكم شريفة . بالأعمال الصالحة ، ولا يقطعكم عن ذلك قاطع . " فلا تغرنكم الحياة الدنيا " بلذاتها وشهواتها ، ومطالبها النفسية ، فتليهكم عما خلقتم له . " ولا يغرنكم بالله الغرور " الذي هو : " الشيطان " وهو لكم" عدو " في الحقيقة
" فاتخذوه عدوا " أي : لتكن منكم عداوته ، ولا تهملوا محاربته كل وقت ، فإنه يراكم ، وأنتم لا ترونه ، وهو دائما لكم بالمرصاد . " إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " هذا غايته ومقصوده ممن تبعه ، أن يهان غاية الإهانة ، بالعذاب الشديد . ثم ذكر أن الناس ، انقسموا بحسب طاعة الشيطان وعدمها ، إلى قسمين ، وذكر جزاء كل منهما فقال : " الذين كفروا " أي : جحدوا ما جاءت به الرسل ، ودلت عليه الكتب " لهم عذاب شديد " في نار جهنم ، شديد في ذاته ، ووصفه ، وأنهم خالدون فيها أبدا ... " والذين آمنوا " بقلوبهم ، بما دعا الله إلى الإيمان به " وعملوا "
بمقتضى ذلك الإيمان ،بجوارحهم ،الأعمال " الصالحات لهم مغفرة " لذنوبهم ،ويزول بها عنهم الشر والمكروه " وأجر كبير " يحصل به المطلوب....
" أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون "(1/123)
يقول تعالى : " أفمن زين له سوء عمله " القبيح ، زينه له الشيطان ، وحسنه في عينه ، " فرآه حسنا " أي : كمن هداه الله إلى الصراط المستقيم ، والدين القويم ، فهل يستوي هذا وهذا ؟ فالأول : عمل السيىء ، ورأى الحق باطلا ، والباطل حقا . والثاني : عمل الحسن ، ورأى الحق حقا ، والباطل باطلا . ولكن الهداية والإضلال بيد الله تعالى . " فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم " أي : على الضالين الذين زين لهم سوء أعمالهم ، وصدهم الشيطان عن الحق " حسرات " أي : فلا تهلك نفسك حزنا على الضالين وحسرة عليهم . فليس عليك إلا البلاغ ، وليس عليك من هداهم من شيء ، والله هو الذي يجازيهم بأعمالهم " إن الله عليم بما يصنعون " فيجازيهم عليها .
**************************************************
18*?يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * ? (فاطر : 15 - 18 )....
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/124)
يخبر تعالى بغناه عما سواه, وبافتقار المخلوقات كلها وتذللها بين يديه, فقال تعالى: {يا أيهاالناس أنتم الفقراء إلى الله} أي هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات, وهو تعالى الغني عنهم بالذات, ولهذا قال عز وجل: {والله هو الغني الحميد} أي هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له, وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه. وقوله تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} أي لو شاء لأذهبكم أيها الناس وأتى بقوم غيركم, وما هذا عليه بصعب ولا ممتنع, ولهذا قال تعالى: {وما ذلك على الله بعزيز}.(1/125)
وقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} أي يوم القيامة {وإن تدع مثقلةٌ إلى حملها} أي وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تساعد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه {لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} أي وإن كان قريباً إليها حتى ولو كان أباها أو ابنها, كل مشغول بنفسه وحاله. قال عكرمة في قوله تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها} الاَية, قال هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة, فيقول: يا رب سل هذا لم كان يغلق بابه دوني, وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة, فيقول له: يا مؤمن إن لي عندك يداً قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا وقد احتجت إليك اليوم, فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه حتى يرده إلى منزل دون منزله, وهو في النار, وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول: يا بني أي والد كنت لك, فيثني خيراً, فيقول له: يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى, فيقول له ولده: يا أبت ما أيسر ما طلبت, ولكني أتخوف مثلما تتخوف, فلا أستطيع أن أعطيك شيئاً, ثم يتعلق بزوجته فيقول: يا فلانة, أو يا هذه أي زوج كنت لك ؟ فتثني خيراً, فيقول لها: إني أطلب إليك حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو بها ممن ترين, قال: فتقول: ما أيسر ما طلبت, ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئاً, إني أتخوف مثل الذي تتخوف. يقول الله تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها} الاَية, ويقول تبارك وتعالى: {لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً} ويقول تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} رواه ابن أبي حاتم رحمه الله عن أبي عبد الله الطهراني عن حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة به.(1/126)
ثم قال تبارك وتعالى: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة} أي إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنّهى, الخائفون من ربهم, الفاعلون ما أمرهم به {ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه} أي ومن عمل صالحاً فإنما يعود نفعه على نفسه {وإلى الله المصير} أي وإليه المرجع والمآب, وهو سريع الحساب, وسيجزي كل عامل بعمله إن خيراً فخير, وإن شراً فشر.
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله
{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}
قوله تعالى: "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله" أي المحتاجون إليه في بقائكم وكل أحوالكم. الزمخشري: فإن قلت لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم لأن الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر كلهم وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله: "وخلق الإنسان ضعيفا" [النساء: 28]، وقال: "الله الذي خلقكم من ضعف" [الروم: 54] ولو نكر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء. فإن قلت: قد قوبل "الفقراء" بـ "الغني" فما فائدة "الحميد"؟ قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم، وليس كل غني نافعا بغناه إلا إذا كان الغني جوادا منعما، وإذا جاد وأنعم حمده المنعَم عليهم واستحق عليهم الحمد... ذكر "الحميد" ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه". وتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل، ويجوز تخفيف الأولى وحدها وتخفيفهما وتحقيقهما جميعا. "والله هو الغني الحميد" تكون "هو" زائدة، فيكون لها موضع من الإعراب، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا.
{إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز}(1/127)
قوله تعالى: "إن يشأ يذهبكم" فيه حذف؛ المعنى إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم؛ أي يفنيكم. "ويأت بخلق جديد" أي أطوع منكم وأزكى. "وما ذلك على الله بعزيز" أي ممتنع عسير متعذر. وقد مضى.
{ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير}
قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" تقدم الكلام فيه، وهو مقطوع مما قبله. والأصل "توزر" حذفت الواو اتباعا ليزر. "وازرة" نعت لمحذوف، أي نفس وازرة. وكذا "وإن تدع مثقلة إلى حملها" قال الفراء: أي نفس مثقلة أو دابة. قال: وهذا يقع للمذكر والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها وهو ذنوبها. والحمل ما كان على الظهر، والحمل حمل المرأة وحمل النخلة؛ حكاهما الكسائي بالفتح لا غير. وحكى ابن السكيت أن حمل النخلة يفتح ويكسر. "لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى" التقدير على قول الأخفش: ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى. وأجاز الفراء ولو كان ذو قربى. وهذا جائز عند سيبويه، ومثله "وإن كان ذو عسرة" [البقرة: 280] فتكون "كان" بمعنى وقع، أو يكون الخبر محذوفا؛ أي وإن كان فيمن تطالبون ذو عسرة. وحكى سيبويه: الناس مجزيون بأعمالهم إن خير فخير؛ على هذا. وخيرا فخير؛ على الأول. وروي عن عكرمة أنه قال: بلغني أن اليهودي والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له: ألم أكن قد أسديت إليك يدا، ألم أكن قد أحسنت إليك؟ فيقول بلى. فيقول: أنفعني؛ فلا يزال المسلم يسأل الله تعالى حتى ينقص، من عذابه. وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك بارا، وعليك مشفقا، وإليك محسنا، وأنت ترى ما أنا فيه، فهب لي حسنة من حسناتك، أو احمل عني سيئة؛ فيقول: إن الذي سألتني يسير؛ ولكني أخاف مثل ما تخاف. وأن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيرد عليه نحوا من هذا. وأن الرجل ليقول(1/128)
لزوجته: ألم أكن أحسن العشرة لك، فاحملي عني خطيئة لعلي أنجو؛ فتقول: إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه. ثم تلا عكرمة: "وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى". وقال الفضيل بن عياض: هي المرأة تلقى ولدها فتقول: يا ولدي، ألم يكن بطني لك وعاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن حجري لك وطاء؛ يقول: بلى يا أماه؛ فتقول: يا بني، قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنبا واحدا؛ فيقول: إليك عني يا أماه، فإني بذنبي عنك مشغول.
قوله تعالى: "إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة" أي إنما يقبل إنذارك من يخشى عقاب الله تعالى، وهو كقوله تعالى: "إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب" [يس: 11]. "ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه" أي من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. وقرئ: "ومن أزكى فإنما يزكى لنفسه". "وإلى الله المصير" أي إليه مرجع جميع الخل....
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير)(1/129)
يخاطب تعالى ، جميع الناس ، ويخبرهم بحالهم ووصفهم ، وأنهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه : فقراء في إيجادهم ، فلولا إيجاده إياهم ، لم يوجدوا . فقراء في إعدادهم ، بالقوى ، والأعضاء ، والجوارح ، التي لولا إعداده إياهم بها ، لما استعدوا لأي عمل كان . فقراء في إمدادهم ، بالأقوات ،والأرزاق والنعم ،الظاهرة والباطنة . فلولا فضله وإحسانه ، وتيسيره الأمور ، لما حصل لهم من الرزق والنعم ، شيء . فقراء في صرف النقم عنهم ، ودفع المكاره ، وإزالة الكروب والشدائد . فلولا دفعه عنهم ، وتفريجه لكرباتهم ، وإزالته لعسرهم ، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد . فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية ، وأجناس التدبير . فقراء إليه ، في تألههم له وحبهم له ، وتعبدهم ، وإخلاص العبادة له تعالى . فلو لم يوفقهم لذلك ، لهلكوا ، وفسدت أرواحهم ، وقلوبهم ، وأحوالهم . فقراء إليه ، في تعليمهم ما لا يعلمون ، وعملهم بما يصلهم . فلولا تعليمه ، لم يتعلموا ، ولولا توفيقه ، لم يصلحوا . فهم فقراء بالذات إليه ، بكل معنى ، وبكل اعتبار ، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر ، أم لم يشعروا . ولكن الموفق منهم ، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه ، ويتضرع له ، ويسأله أن لا يلكه إلى نفسه طرفة عين ، وأن يعينه على جميع أموره ، ويستصحب هذا المعنى فى كل وقت ، فهذا حري بالإعانة التامة من ربه وإلهه ، الذي هو أرحم به من الوالدة بوالدها .(1/130)
" والله هو الغني الحميد " أي : الذي له الغنى التام ، من جميع الوجوه ، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه ، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق ، وذلك لكمال صفاته ، وكونها كلها صفات كمال ، ونعوت جلال . ومن غناه تعالى ، أن قد أغنى الخلق في الدنيا والآخرة . فهو الحميد في ذاته ، وأسمائه ، لأنها حسنى ، وأوصافه ، لكونها عليا ، وأفعاله ، لأنها فضل وإحسان ، وعدل ، وحكمة ، ورحمة . وفي أوامره ونواهيه ، فهو الحميد على ما فيه من الصفات ، وعلى ما منه من الفضل والإنعام ، وعلى الجزاء بالعدل ، وهو الحميد في غناه ، الغني في حمده .
" إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد " يحتمل أن المراد : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ، ويأت بغيركم من الناس ، أطوع لله منكم . ويكون في هذا ، تهديد لهم بالهلاك والإبادة ، وأن مشيئته غير قاصرة عن ذلك . ويحتمل أن المراد بذلك ، إثبات البعث والنشور ، وأن مشيئة الله تعالى ، نافذة في كل شيء ، وفي إعادتكم بعد موتكم ، خلقا جديدا ، ولكن لذلك الوقت أجل ، قدره الله ، لا يتقدم عنه ولا يتأخر .
" وما ذلك على الله بعزيز " أي : بممتنع ، ولا معجز له . ويدل على المعنى الأخير ، ما ذكره بعده في قوله : " ولا تزر وازرة وزر أخرى " أي : في يوم القيامة كل أحد يجازى بعمله ، ولا يحمل أحد ذنب أحد . " وإن تدع مثقلة " أي : نفس مثقلة بالخطايا والذنوب " إلى حملها " أي : تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها " لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى " فإنه لا يحمل قريب عن قريب . فليست حال الآخرة ، بمنزلة حال الدنيا ، يساعد الحميم حميمه ، والصديق صديقه . بل يوم القيامة ، يتمنى العبد أن يكون له حق على أحد ، ولو على والديه وأقاربه .(1/131)
" إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة " أي : هؤلاء الذين يقبلون النذارة ، وينتفعون بها ، هم أهل الخشية لله بالغيب ، الذين يخشونه في حال السر والعلانية ، والمشهد والمغيب ، وأهل إقامة الصلاة ، بحدودها ، وشروطها ، وأركانها ، وواجباتها ، وخشوعها . لأن الخشية لله تستدعي من العبد ، العمل بما يخشى من تضييعه العقاب والهرب مما يخشى من ارتكابه العذاب . والصلاة تدعو إلى الخير ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر .
" ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه " أي : ومن زكى نفسه بالتنقي من العيوب ، كالرياء والكبر ، والكذب والغش ، والمكر والخداع ، والنفاق ، ونحو ذلك من الأخلاق الرذيلة ، وتحلى بالأخلاق الجميلة ، من الصدق ، والإخلاص ، والتواضع ، ولين الجانب ، والنصح للعباد ، وسلامة الصدر ، من الحقد والحسد ، وغيرهما من مساوىء الأخلاق ، فإن تزكيته ، يعود نفعها إليه ، ويصل مقصودها إليه ، ليس يضيع من عمله شيء .
" وإلى الله المصير " فيجازي الخلائق على ما أسلفوه ، ويحاسبهم على ما قدموه وعملوه ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، إلا أحصاها .
19*? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ? (الحجرات : 13 )
( وقال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله
يقول تعالى مخبراً للناس أنه خلقهم من نفس واحدة وجعل منها زوجها, وهما آدم وحواء, وجعلهم شعوباً وهي أعم من القبائل, وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك, وقيل: المراد بالشعوب بطون العجم, وبالقبائل بطون العرب, كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل....(1/132)
... فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء عليهما السلام سواء, وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية وهي طاعة الله تعالى ومتابعة رسوله (, ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضاً, منبهاً على تساويهم في البشرية {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} أي ليحصل التعارف بينهم كل يرجع إلى قبيلته, وقال مجاهد في قوله عز وجل {لتعارفوا} كما يقال فلان بن فلان من كذا وكذا أي قبيلة كذا وكذا, وقال سفيان الثوري: كانت حمير ينتسبون إلى مخاليفها, وكانت عرب الحجاز ينتسبون إلى قبائلها, وقد قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا أحمد بن محمد, حدثنا عبد الله بن المبارك عن عبد الملك بن عيسى الثقفي, عن يزيد مولى المنبعث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( قال: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم, فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر" ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} أي إنما تتفاضلون عند الله تعالى بالتقوى لا بالأحساب, وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله ( .
-قال البخاري: حدثنا محمد بن سلام, حدثنا عبدة عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد رضي الله عنه عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله (أي الناس أكرم ؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم" قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فأكرم الناس يوسف نبي الله, ابن نبي الله, ابن نبي الله ابن خليل الله" قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فعن معادن العرب تسألوني" ؟ قالوا: نعم. قال: "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" وقد رواه البخاري في غير موضع من طرق عن عبدة بن سليمان, ورواه النسائي في التفسير من حديث عبيد الله وهو ابن عمر العمري به.(1/133)
(حديث آخر) قال مسلم رحمه الله: حدثنا عمرو الناقد, حدثنا كثير بن هشام, حدثنا جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" ورواه ابن ماجه عن أحمد بن سنان عن كثير بن هشام به.
(حديث آخر) وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن أبي هلال عن بكر عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن النبي ( قال له: "انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله" تفرد به أحمد رحمه لله.
(حديث آخر) وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم العسكري, حدثنا عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة, حدثنا عبيد بن حنين الطائي, سمعت محمد بن حبيب بن خراش العصري يحدث عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله (يقول: "المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى".
(حديث آخر) قال أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أحمد بن يحيى الكوفي, حدثنا الحسن بن الحسين, حدثنا قيس يعني ابن الربيع عن شبيب بن غرقدة, عن المستظل بن حصين عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (: "كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب, ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان". ثم قال لا نعرفه عن حذيفة إلا من هذا الوجه.(1/134)
(حديث آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان, حدثنا أسد بن موسى, حدثنا يحيى بن زكريا القطان, حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: طاف رسول الله( يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده, فما وجد لها مناخاً في المسجد حتى نزل ( على أيدي الرجال, فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت, ثم إن رسول الله ( خطبهم على راحلته فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: "يا أيها الناس إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها, فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله تعالى, ورجل فاجر شقي هين على الله تعالى, إن الله عز وجل يقول: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} ـ ثم قال ( ـ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم" هكذا رواه عبد بن حميد عن أبي عاصم الضحاك عن مخلد عن موسى بن عبيدة به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح, عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما قال إن رسول الله ( قال: "إن أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد, كلكم بنو آدم طف الصاع لم يملؤوه, ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى, وكفى بالرجل أن يكون بذياً بخيلاً فاحشاً". وقد رواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن ابن لهيعة به ولفظه "الناس لاَدم وحواء طف الصاع لم يملؤوه, إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة, إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.(1/135)
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك, حدثنا شريك عن سماك عن عبد الله بن عميرة زوج درة بنت أبي لهب, عن درة بنت أبي لهب رضي الله عنها قالت: قام رجل إلى النبي ( وهو على المنبر فقال: يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال (: "خير الناس أقرأهم وأتقاهم لله عز وجل, وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا أبو الأسود عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما أعجب رسول الله ( شيء من الدنيا ولا أعجبه أحد قط إلا ذو تقى, تفرد به أحمد.
وقوله تعالى: {إن الله عليم خبير} أي عليم بكم خبير بأموركم, فيهدي من يشاء ويضل من يشاء, ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء, ويفضل من يشاء على من يشاء, وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كله, وقد استدل بهذه الاَية الكريمة وهذه الاَحاديث الشريفة من ذهب من العلماء إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط ولا يشترط سوى الدين لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وذهب الاَخرون إلى أدلة مذكورة في كتب الفقه .... وقد روى الطبراني عن عبد الرحمن أنه سمع رجلاً من بني هاشم يقول: أنا أولى الناس برسول الله (فقال غيره: أنا أولى به منك ولي منه نسبة.
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله
الآية: 13 {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}(1/136)
قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم بن ذكر وأنثى" يعني آدم وحواء. ونزلت الآية في أبي هند، ذكره أبو داود في (المراسيل)، حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني الزهري قال: أمر رسول الله ( بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا لرسول الله ( : نزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله عز وجل: "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا" الآية. قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة. وقيل: إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وقوله في الرجل الذي لم يتفسح له: ابن فلانة، فقال النبي (: [من الذاكر فلانة]؟ قال ثابت: أنا يا رسول الله، فقال النبي (: [انظر في وجوه القوم] فنظر، فقال: [ما رأيت]؟ قال رأيت أبيض وأسود وأحمر، فقال: [فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى] فنزلت في ثابت هذه الآية. ونزلت في الرجل الذي لم يتفسح له: "يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس" [المجادلة: 11] الآية. قال ابن عباس: لما كان يوم فتح مكة أمر النبي ( بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن ، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. قال الحارث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا. وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء، فأتى جبريل النبي ( وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. زجرهم عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء، فإن المدار على التقوى. أي الجميع من آدم وحواء، إنما الفضل بالتقوى. وفي الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله ( خطب بمكة فقال: (يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى: "يا(1/137)
أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير"). خرجه من حديث عبدالله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف، ضعفه يحيى بن معين وغيره. وقد خرج الطبري في كتاب (آداب النفوس) وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة قال: حدثني أو حدثنا من شهد خطب رسول الله ( بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال: [أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت؟ - قالوا نعم قال - ليبلغ الشاهد الغائب]. وفيه عن أبو مالك الأشعري قال: قال رسول الله ( : [إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إليه أتقاكم]. ولعلي رضي الله عنه في هذا المعنى وهو مشهور من شعره:
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
نفس كنفس وأرواح مشاكلة وأعظم خلقت فيهم وأعضاء
فإن يكن لهم من أصلهم حسب يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه وللرجال على الأفعال سيماء
وضد كل امرئ ما كان يجهله والجاهلون لأهل العلم أعداء.(1/138)
بين الله تعالى في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى، وكذلك في أول سورة "النساء" في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء : 1 ). ولو شاء لخلقه دونهما كخلقه لآدم، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام، أو دون أنثى كخلقه حواء من إحدى الجهتين. وهذا الجائز في القدرة لم يرد به الوجود. وقد جاء أن آدم خلق الله منه حواء من ضلع انتزعها من أضلاعه، فلعله هذا القسم، قاله ابن العربي.
خلق الله الخلق بين الذكر والأنثى أنسابا وأصهارا وقبائل وشعوبا، وخلق لهم منها التعارف، وجعل لهم بها التواصل للحكمة التي قدرها وهو أعلم بها، فصار كل أحد يحوز نسبه، فإذا نفاه رجل عنه استوجب الحد بقذفه، مثل أن ينفيه عن رهطه وحسبه، بقول للعربي: يا عجمي، وللعجمي: يا عربي، ونحو ذلك مما يقع به النفي حقيقة. انتهى.(1/139)
ذهب قوم من الأوائل إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الأم، ويستمد من الدم الذي يكون فيه. واحتجوا بقوله تعالى: "ألم نخلقكم من ماء مهين. فجعلناه في قرار مكين" [المرسلات: 21]. وقوله تعالى: "ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين" [السجدة:8]. وقوله: "ألم يك نطفة من مني يمنى" [القيامة:37]. فدل على أن الخلق من ماء واحد. والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الآية، فإنها نص لا يحتمل التأويل. وقوله تعالى: "خلق من ماء دافق. يخرج من بين الصلب والترائب" [الطارق: 6] والمراد منه أصلاب الرجال وترائب النساء، على ما يأتي بيانه. وأما ما احتجوا به فليس فيه أكثر من أن الله تعالى ذكر خلق الإنسان من الماء والسلالة والنطفة ولم يضفها إلى أحد الأبوين دون الآخر. فدل على أن الماء والسلالة لهما والنطفة منهما بدلالة ما ذكرنا. وبأن المرأة تمني كما يمني الرجل، وعن ذلك يكون الشبه، ... وقد قال في قصة نوح عليه السلام : "فالتقى الماء على أمر قد قدر" [القمر: 12] وإنما أراد ماء السماء وماء الأرض، لأن الالتقاء لا يكون إلا من أثنين، فلا ينكر أن يكون "ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين" [السجدة:8]. وقوله تعالى: "ألم نخلقكم من ماء مهين" [المرسلات: 21] ويريد ماءين. والله أعلم.(1/140)
قوله تعالى: "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" الشعوب رؤوس القبائل، مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج، وأحدها شَعْب بفتح الشين، سموا به لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة. والشعب من الأضداد، يقال شعبته إذا جمعته، ومنه المشعب (بكسر الميم) وهو الإشفي، لأنه يجمع به ويشعب. قال: = فكاب على حر الجبين ومتق بمدرية كأنه ذلق مشعب = وشعبته إذا فرقته، ومنه سميت المنية شعوبا لأنها مفرقة. فأما الشعب (بالكسر) فهو الطريق في الجبل، والجمع الشعاب. قال الجوهري: الشعب: ما تشعب من قبائل العرب والعجم، والجمع الشعوب. والشعوبية: فرقة لا تفضل العرب على العجم. وأما الذي في الحديث: أن رجلا من الشعوب أسلم، فإنه يعني من العجم. والشعب: القبيلة العظيمة، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم. قال ابن عباس: الشعوب الجمهور، مثل مضر. والقبائل الأفخاذ. وقال مجاهد: الشعوب البعيد من النسب، والقبائل دون ذلك. وعنه أيضا أن الشعوب النسب الأقرب. وقال قتادة. ذكر الأول عنه المهدوي، والثاني الماوردي. قال الشاعر: = رأيت سعودا من شعوب كثيرة فلم أر سعدا مثل سعد بن مالك = وقال آخر: = قبائل من شعوب ليس فيهم كريم قد يعد ولا نجيب=(1/141)
وقيل: إن الشعوب عرب اليمن من قحطان، والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقيل: إن الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب. وقال ابن عباس في رواية: إن الشعوب الموالي، والقبائل العرب. قال القشيري: وعلى هذا فالشعوب من لا يعرف لهم أصل نسب كالهند والجبل والترك، والقبائل من العرب. الماوردي: ويحتمل أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب، والقبائل هم المشركون في الأنساب. قال الشاعر: = وتفرقوا شعبا فكل جزيرة فيها أمير المؤمنين ومنبر = وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه: الشعب أكبر من القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ. وقيل: الشعب ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة، وقد نظمها بعض الأدباء فقال:
اقصد الشعب فهو أكثر حي عددا في الحواء ثم القبيله
ثم تتلوها العمارة ثم البطن والفخذ بعدها والفصيله
ثم من بعدها العشيرة لكن هي في جنب ما ذكرناه قليله
وقال آخر:
قبيلة قبلها شعب وبعدهما عمارة ثم بطن تلوه فخذ
وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته ولا سداد لسهم ماله قذذ..(1/142)
قوله تعالى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" .... وفي هذه الآية ما يدلك على أن التقوى هي المراعى عند الله تعالى وعند رسوله دون الحسب والنسب. وقريء "أن" بالفتح. كأنه قيل: لم يتفاخر بالأنساب؟ قيل: لأن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم. وفي الترمذي عن سمرة عن النبي ( قال: (الحسب المال والكرم التقوى). قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وذلك يرجع إلى قوله تعالى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وقد جاء منصوصا عنه عليه السلام: (من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله). والتقوى معناه مراعاة حدود الله تعالى أمرا ونهيا، والاتصاف بما أمرك أن تتصف به، والتنزه عما نهاك عنه..... وفي الخبر من رواية أبي هريرة عن النبي ( : (إن الله تعالى يقول يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان وأنا اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم أين المتقون أين المتقون). وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول الله ( قال: (إن أوليائي المتقون يوم القيامة وإن كان نسب أقرب من نسب. يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد فأقول هكذا وهكذا). وأعرض في كل عطفيه. وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن عمرو قال: سمعت رسول الله ( جهارا غير سر يقول: (إن آل أبي ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين). وعن أبي هريرة أن النبي (سئل: من أكرم الناس؟ فقال: (يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: (فأكرمهم عند الله أتقاهم) فقالوا: ليس عن هذا نسألك، فقال: (عن معادن العرب؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) وأنشدوا في ذلك:
ما يصنع العبد بعز الغني والعز كل العز للمتقي
من عرف الله فلم تغنه معرفة الله فذاك الشقي(1/143)
- ذكر الطبري حدثني عمر بن محمد قال حدثنا عبيد بن إسحاق العطار قال حدثنا مندل بن علي عن ثور بن يزيد عن سالم بن أبي الجعد قال: تزوج رجل من الأنصار امرأة فطُعِن عليها في حسبها، فقال الرجل: إني لم أتزوجها لحسبها إنما تزوجتها لدينها وخلقها، فقال النبي ( : (ما يضرك ألا تكون من آل حاجب بن زرارة). ثم قال النبي (: (إن الله تبارك وتعالى جاء بالإسلام فرفع به الخسيسة وأتم به الناقصة وأذهب به اللوم فلا لوم على مسلم إنما اللوم لوم الجاهلية). وقال النبي (: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي) ولذلك كان أكرم البشر على الله تعالى. قال ابن العربي: وهذا الذي لحظ مالك في الكفاءة في النكاح. روى عبدالله عن مالك: يتزوج المولى العربية، واحتج بهذه الآية. وقال أبو حنيفة والشافعي: يراعى الحسب والمال. وفي الصحيح عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة - وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم - تبني سالما وأنكحه هندا بنت أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار. وضباعة بنت الزبير كانت تحت المقداد بن الأسود.(1/144)
قلت: وأخت عبدالرحمن بن عوف كانت تحت بلال. وزينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة. فدل على جواز نكاح الموالي العربية، وإنما تراعى الكفاءة في الدين. والدليل عليه أيضا ما روى سهل بن سعد في صحيح البخاري أن النبي ( مر عليه رجل فقال: (ما تقولون في هذا)؟ فقالوا: حَري إن خطب أن يُنكَح، وإن شفع أن يُشْفَّع وإن قال أن يُسْمَع. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: (ما تقولون في هذا) قالوا: حري إن خطب ألا يُنْكَح، وإن شفع ألا يُشَفّع، وإن قال ألا يُسمَع. فقال رسول الله ( : (هذا خير من ملء الأرض مثل هذا). وقال ( : (تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها - وفي رواية - ولحسبها فعليك بذات الدين تربت يداك). وقد خطب سلمان إلى أبي بكر ابنته فأجابه، وخطب إلى عمر ابنته فالتوى عليه، ثم سأله أن ينكحها فلم يفعل سلمان. وخطب بلال بنت البكير فأبى إخوتها، قال بلال: يا رسول الله، ماذا لقيت من بني البكير خطبت إليهم أختهم فمنعوني وآذوني، فغضب رسول الله ( من أجل بلال، فبلغهم الخبر فأتوا أختهم فقالوا: ماذا لقينا من سببك؟ فقالت أختهم: أمري بيد رسول الله (، فزوجوها. وقال النبي ( في أبي هند حين حجمه: (أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه). وهو مولى بني بياضة. وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا هند مولى بني بياضة كان حجاما فحجم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي (: (من سره أن ينظر إلى من صور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى أبي هند). وقال رسول الله ( (أنكحوه وأنكحوا إليه). قال القشيري أبو نصر: وقد يعتبر النسب في الكفاءة في النكاح وهو الاتصال بشجرة النبوة أو بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، أو بالمرموقين في الزهد والصلاح. والتقي المؤمن أفضل من الفاجر النسيب، فإن كانا تقيين فحينئذ يقدم النسيب منهما، كما تقدم الشاب على الشيخ في الصلاة إذا استويا في التقوى.....(1/145)
*************************************************
2 ***** يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ ............................................................
1* ? يا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ*فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ *كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ( 14 ) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ *وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ *? (الإنفطار : 6 - 19 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/146)
قوله تعالى : ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ) قال ابن عمر : غره والله جهله... قال وروي عن ابن عباس والربيع بن خثيم والحسن مثل ذلك وقال قتادة : ( ما غرك بربك الكريم ) شيء ما غر ابن آدم غير هذا العدو الشيطان... وقال الفضيل بن عياض: لو قال لي ما غرك بي لقلت ستورك المرخاة ... وقال أبو بكر الوراق: لو قال لي ما غرك بربك الكريم لقلت غرني كرم الكريم... وقال بعض أهل الإشارة إنما قال( بربك الكريم )دون سائر أسمائه وصفاته كأنه لقنه الإجابة ؛ وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس بطائل لأنه إنما أتى باسمه الكريم لينبه على أنه لا ينبغي أن يقابَل الكريم بالأفعال القبيحة وأعمال الفجور ... وقد حكى البغوي عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا: نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق ضرب النبي ولم يعاقب في الحالة الراهنة فأنزل الله تعالى ( ماغرك بربك الكريم ) وقوله تعالى: ( الذي خلقك فسواك فعدلك ) أي ما غرك بربك الكريم ( الذي خلقك فسواك فعدلك ) أي جعلك سويا مستقيما معتدل القامة منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال(1/147)
-قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر حدثنا جرير حدثني عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بشر بن جحاش القرشي أن رسول الله( بصق يوما في كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال: قال الله عز وجل يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة ... وكذا رواه بن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن جرير بن عثمان به قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي وتابعه يحيى بن حمزة عن ثور بن يزيد عن عبد الرحمن بن ميسرة .. وقوله تعالى ( في أي صورة ما شاء ركبك ) قال مجاهد في أي شبه أب أو أم أو خال أو عم... وقال بن جرير حدثني محمد بن سنان القزاز حدثنا مطهر بن الهيثم حدثنا موسى بن علي بن رباح حدثني أبي عن جدي أن النبي (قال له: ما ولد لك ؟ قال يا رسول الله ما عسى ان يولد لي إما غلام وإما جارية.. قال: فمن يشبه ؟ قال يا رسول الله من عسى أن يشبه إما أباه وإما أمه .. فقال النبي عندها : مه لا تقولن هكذا إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله تعالى كل نسب بينها وبين آدم أما قرأت هذه الآية في كتاب الله تعالى ( في أي صورة ما شاء ركبك ) قال شكلك... وهكذا رواه بن أبي حاتم والطبراني من حديث مطهر بن الهيثم به وهذا الحديث لو صح لكان فيصلا في هذه الآية ولكن إسناده ليس بالثابت لأن مطهر بن الهيثم قال فيه أبو سعيد بن يونس كان متروك الحديث وقال بن حبان يروي عن موسى بن علي وغيره ما لا يشبه حديث الأثبات... ولكن في الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود .. قال : هل لك من إبل ؟ قال نعم.. قال : فما ألوانها ؟ قال حمر .. قال: فهل فيها من أورق؟ قال نعم.. قال: فأنى أتاها ذلك ؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق.. قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق .... وقد قال عكرمة في قوله تعالى ( في أي صورة(1/148)
ما شاء ركبك ) إن شاء في صورة قرد وإن شاء في صورة خنزير وكذا قال أبو صالح ( في أي صورة ما شاء ركبك ) إن شاء في صورة كلب وإن شاء في صورة حمار وإن شاء في صورة خنزير وقال قتادة ( في أي صورة ما شاء ركبك ) قال قادر والله ربنا على ذلك ومعنى هذا القول عند هؤلاء أن الله عز وجل قادر على خلق النطفة على شكل قبيح من الحيوانات المنكرة الخلق ولكن بقدرته ولطفه وحلمه يخلقه على شكل حسن مستقيم معتدل تام حسن المنظر والهيئة ...
وقوله تعالى ( كلا بل تكذبون بالدين ) أي إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي تكذيب في قلوبكم بالمعاد والجزاء والحساب .. وقوله تعالى ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) يعني وإن عليكم لملائكة حفظة كراما فلا تقابلوهم بالقبائح فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم ...(1/149)
- قال بن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا وكيع حدثنا سفيان ومسعر عن علقمة بن مرثد عن مجاهد قال ، قال رسول الله (: أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين الجنابة والغائط فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائط أو ببعيره أو ليستره أخوه ... وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار فوصله بلفظ آخر فقال حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة حدثنا عبيد الله بن موسى عن حفص بن سليمان عن علقمة بن مرثد عن مجاهد عن بن عباس قال ، قال رسول الله( : إن الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات الغائط والجنابة والغسل فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجرم حائط أو ببعيره ...ثم قال حفص بن سليمان لين الحديث وقد روي عنه واحتمل حديثه وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا زياد بن أيوب حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي حدثنا تمام بن نجيح عن الحسن يعني البصري عن أنس قال ، قال رسول الله( : ما من حافظين يرفعان إلى الله عز وجل ما حفظا في يوم فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفارا إلا قال الله تعالى قد غفرت لعبدي مابين طرفي الصحيفة ... ثم قال تفرد به تمام بن نجيح وهو صالح الحديث قلت وثقه بن معين وضعفه البخاري وابو زرعة وبن أبي حاتم والنسائي وبن عدي ورماه بن حبان بالوضع وقال الإمام أحمد لا أعرف حقيقة أمره ...وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا إسحاق بن سليمان البغدادي المعروف بالقلوسي حدثنا بيان بن حمران حدثنا سلام عن منصور بن زاذان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال، قال رسول الله(: إن لله ملائكة يعرفون بني آدم وأحسبه قال: ويعرفون أعمالهم فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا أفلح الليلة فلان نجا الليلة فلان وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا هلك الليلة فلان ... ثم قال(1/150)
البزار سلام هذا أحسبه سلام المدائني وهو لين الحديث .
قوله تعالى : ( إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ*يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ *وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ * ) يخبر تعالى عما يصير الأبرار إليه من النعيم وهم الذين أطاعوا الله عز وجل ولم يقابلوه بالمعاصي وقد روى بن عساكر في ترجمة موسى بن محمد عن هشام بن عمار عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق عن عبيد الله عن محارب عن بن عمر عن النبي قال إنما سماهم الله الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء ثم ذكر ما يصير إليه الفجار من الجحيم والعذاب المقيم ولهذا قال: ( يصلونها يوم الدين ) أي يوم الحساب والجزاء والقيامة ( وما هم عنها بغائبين ) أي لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة ولا يخفف عنهم من عذابها ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة ولو يوما واحدا.. وقوله تعالى ( وما أدراك ما يوم الدين ) تعظيم لشأن يوم القيامة ثم أكده بقوله تعالى ( ثم ما أدراك ما يوم الدين ) ثم فسره بقوله ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ) أي لا يقدر أحد على نفع أحد ولا خلاصة مما هو فيه إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ونذكر ها هنا حديث : يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار لا أملك لكم من الله شيئا.....ولهذا قال ( والأمر يومئذ لله ) كقوله ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) وكقوله ( الملك يومئذ الحق للرحمن ) وكقوله ( مالك يوم الدين ) قال قتادة ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) والأمر والله اليوم لله ولكنه لا ينازعه فيه يومئذ أحد ....
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله(1/151)
قوله تعالى : {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك، كلا بل تكذبون بالدين}
قوله تعالى: "يا أيها الإنسان" خاطب بهذا منكري البعث. وقال ابن عباس: الإنسان هنا: الوليد بن المغيرة. وقال عكرمة: أبي بن خلف. وقيل: نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي. عن ابن عباس أيضا: "ما غرك بربك الكريم" أي ما الذي غرك حتى كفرت؟ "بربك الكريم" أي المتجاوز عنك. قال قتادة: غرة شيطانه المسلط عليه. الحسن: غرة شيطانه الخبيث. وقيل: حمقه وجهله. رواه الحسن عن عمر رضي الله عنه. وروى غالب الحنفي قال: لما قرأ رسول الله ( "يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم" [الانفطار: 6] قال: "غره الجهل" وقال صالح بن مسمار: بلغنا أن رسول الله ( قرأ "يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم"؟ فقال: "غره جهله". وقال عمر رضي الله عنه: كما قال الله تعالى "إنه كان ظلوما جهولا" [الأحزاب: 72]. وقيل: غره عفو الله، إذ لم يعاقبه في أول مرة. قال إبراهيم بن الأشعث: قيل: للفضيل بن عياض: لو أقامك الله تعالى يوم القيامة بين يديه، فقال لك: "ما غرك بربك الكريم"؟ [الانفطار: 6] ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول غرني ستورك المرخاة، لأن الكريم هو الستار. نظمه ابن السماك فقال:
يا كاتم الذنب أما تستحي والله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله وستره طول مساويكا
وقال ذو النون المصري: كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر ...
وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري:
يا من غلا في العجب والتيه وغره طول تماديه
أملى لك الله فبارزته ولم تخف غب معاصيه(1/152)
وروي عن علي رضي الله عنه أنه صاح بغلام له مرات فلم يلبه فنظر فإذا هو بالباب، فقال: مالك لم تجبني؟ فقال. لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك. فاستحسن جوابه فأعتقه. وناس يقولون: ما غرك: ما خدعك وسول لك حتى أضعت ما وجب عليك؟ وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا وسيخلو الله به يوم القيامة، فيقول له: يا ابن آدم ماذا غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ "الذي خلقك" أي قدر خلقك من نطفة "فسواك" في بطن أمك، وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك "فعدلك" أي جعلك معتدلا سوى الخلق؛ كما يقال: هذا شيء معدل. وهذه قراءة العامة وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ قال الفراء: وأبو عبيد: يدل عليه قوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" [التين: 4]. وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي: "فعدلك" مخففا أي: أمالك وصرفك إلى أي صورة شاء، إما حسنا وإما قبيحا، وإما طويلا وإما قصيرا. وقال [موسى بن علي بن أبي رباح اللخمي عن أبيه عن جده] قال: قال لي النبي ( "إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم". أما قرأت هذه الآية "في أي صورة ما شاء ركبك" فيما بينك وبين آدم، وقال عكرمة وأبو صالح: "في أي صورة ما شاء ركبك" إن شاء في صورة إنسان، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير. وقال مكحول: إن شاء ذكرا، وإن شاء أنثى. قال مجاهد: "في أي صورة" أي في أي شبه من أب أو أم أو عم أو خال أو غيرهم. و"في" متعلقة بـ"ركب"، ولا تتعلق بـ"عدلك"، على قراءة من خفف؛ لأنك تقول عدلت إلى كذا، ولا تقول عدلت في كذا؛ ولذلك منع الفراء التخفيف؛ لأنه قدر "في" متعلقة بـ"عدلك"، و"ما" يجوز أن تكون صلة مؤكدة؛أي في أي صورة شاء ركبك. ويجوز أن تكون شرطية أي إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة قرد أو حمار أو خنزير، فـ"ما" بمعنى الشرط والجزاء؛ أي في صورة ما شاء يركبك ركبك.(1/153)
قوله تعالى: "كلا بل تكذبون بالدين" يجوز أن تكون "كلا" بمعنى حقا و"ألا" فيبتدأ بها. ويجوز أن تكون بمعنى "لا"، على أن يكون المعنى ليس الأمر كما تقولون من أنكم في عبادتكم غير الله محقون. يدل على ذلك قوله تعالى: "ما غرك بربك الكريم" [الانفطار: 6] وكذلك يقول الفراء: يصير المعنى: ليس كما غررت به. وقيل: أي ليس الأمر كما يقولون، من أنه لا بعث. وقيل: هو بمعنى الردع والزجر. أي لا وقتروا بحلم الله وكرمه، فتتركوا التفكر في آياته. ابن الأنباري: الوقف الجيد على "الدين"، وعلى "ركبك"، والوقف على "كلا" قبيح. "بل تكذبون" يا أهل مكة "بالدين" أي بالحساب، و"بل" لنفي شيء تقدم وتحقيق غيره. وإنكارهم للبعث كان معلوما، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة.
{وإن عليكم لحافظين، كراما كاتبين، يعلمون ما تفعلون}
قوله تعالى: "وإن عليكم لحافظين" أي رقباء من الملائكة "كراما" أي علي؛ كقوله: "كرام بررة" [عبس: 16]. وهنا ثلاث مسائل:
الأولى: روي عن رسول الله ( (أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند حدى حالتين: الخراءة أو الجماع، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم [حائط] أو بغيره، أو ليستره أخوه). وروي عن علي رضي الله عنه قال: (لا يزال الملك موليا عن العبد ما دام بادي العورة) وروي (إن العبد إذا دخل الحمام بغير مئزر لعنه ملكاه).(1/154)
الثانية: واختلف الناس في الكفار هل عليهم حفظة أم لا؟ فقال بعضهم: لا؛ لأن أمرهم ظاهر، وعملهم واحد؛ قال الله تعالى: "يعرف المجرمون بسيماهم" [الرحمن: 41]. وقيل: بل عليهم حفظة؛ لقوله تعالى: "كلا بل تكذبون بالدين. وإن عليكم لحافظين. كراما كاتبين. يعلمون ما تفعلون" [الانفطار: 9 - 12]. وقال: "وأما من أوتي كتابه بشمال" [الحاقة: 25] وقال: "وأما من أوتي كتابه وراء ظهره" [الإنشقاق:10]، فأخبر أن الكفار يكون لهم كتاب، ويكون عليهم حفظة. فإن قيل: الذي على يمينه أي شيء يكتب ولا حسنة له؟ قيل له: الذي يكتب عن شمال يكون بإذن صاحبه، ويكون شاهدا على ذلك وإن لم يكتب. والله أعلم.
الثالثة: سئل سفيان: كيف تعلم الملائكة أن العبد قد هم بحسنة أو سيئة؟ قال: إذا هم العبد بحسنة وجدوا منه ريح المسك، وإذا هم بسيئة وجدوا منه ريح النتن. وقد مضى في "ق" قوله: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" [ق: 18] زيادة بيان لمعنى هذه الآية. وقد كره العلماء الكلام عن الغائط والجماع، لمفارقة الملك العبد عند ذلك. ... وعن الحسن: يعلمون لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم. وقيل: يعلمون ما ظهر منكم دون ما حدثتم به أنفسكم. والله أعلم.
{إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم، يصلونها يوم الدين، وما هم عنها بغائبين، وما أدراك ما يوم الدين، ثم ما أدراك ما يوم الدين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}(1/155)
قوله تعالى: "إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم" تقسيم مثل قوله: "فريق في الجنة وفريق في السعير" [الشورى: 7] وقال: "يومئذ يصدعون" [الروم: 43] الآيتين. "يصلونها" أي يصيبهم لهبها وحرها "يوم الدين" أي يوم الجزاء والحساب، وكرر ذكره تعظيما لشأنه؛ نحو قوله تعالى: "القارعة ما القارعة. وما أدراك ما القارعة" [القارعة: 1] وقال ابن عباس فيما روي عنه: كل شيء من القرآن من قوله: "وما أدراك" فقد أدراه. وكل شيء من قوله "وما يدريك" فقد طوي عنه. "يوم لا تملك نفس" قرأ ابن كثير وأبو عمرو "يوم" بالرفع على البدل من "يوم الدين" أو ردا على اليوم الأول، فيكون صفة ونعتا لـ "يوم الدين". ويجوز أن يرفع بإضمار هو. الباقون بالنصب على أنه في موضع رفع إلا أنه، نصب، لأنه مضاف غير متمكن؛ كما تقول: أعجبني يوم يقوم زيد. وأنشد المبرد:
من أي يومي من الموت أفر أيومَ لم يقدر أم يوم قدر
فاليومان الثانيان مخفوضان بالإضافة، عن الترجمة عن اليومين الأولين، إلا أنهما نصبا في اللفظ؛ لأنهما أضيفا إلى غير محض. وهذا اختيار الفراء والزجاج. وقال قوم: اليوم الثاني منصوب على المحل، كأنه قال في يوم لا تملك نفس لنفس شيئا. وقيل: بمعنى: إن هذه الأشياء تكون يوم، أو على معنى يدانون يوم؛ لأن الدين يدل عليه، أو بإضمار اذكر. "والأمر يومئذ لله" لا ينازعه فيه أحد، كما قال: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم" [غافر:17] ...
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون )(1/156)
يقول تعالى ، معاتبا للإنسان المقصر في حقه ، المتجرىء على معاصيه : " يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم " أتهاونا منك في حقوقه ؟ أم احتقارا منك لعذابه ؟ أم عدم إيمان منك بجزائه ؟ أليس هو " الذي خلقك فسواك " في أحسن تقويم ؟ " فعدلك " وركبك تركيبا قويما معتدلا ، في أحسن الأشكال ، وأجمل الهيئات . فهل يليق بك أن تكفر نعمة المنعم ، أو تجحد إحسان المحسن ؟ إن هذا إلا من جهلك وظلمك ، وعنادك وغشمك ، فاحمد الله إذ لم يجعل صورتك صورة كلب أو حمار أو نحوهما من الحيوانات . ولهذا قال تعالى : " في أي صورة ما شاء ركبك " . وقوله :
" كلا بل تكذبون بالدين " ، أي : مع هذا الوعظ والتذكير ، لا تزالوا مستمرين على التكذيب بالجزاء . وأنتم لا بد أن تحاسبوا على ما عملتم ، وقد أقام الله عليكم ملائكة كراما يكتبون أقوالكم وأفعالكم ويعلمونها ، فدخل في هذا أفعال القلوب ، وأفعال الجوارح ، فاللائق بكم ، أن تكرموهم وتجلوهم . " إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله " المراد بالأبرار ، هم القائمون بحقوق الله ، وحقوق عباده ، الملازمون للبر ، في أعمال القلوب ، وأعمال الجوارح ، فهؤلاء جزاؤهم النعيم في القلب ، والروح والبدن ، في دار الدنيا ، وفي دار البرزخ ، وفي دار القرار . " وإن الفجار " الذين قصروا في حقوق الله وحقوق عباده ، الذين فجرت قلوبهم ففجرت أعمالهم(1/157)
" لفي جحيم " ، أي : عذاب أليم ، في دار الدنيا ، ودار البرزخ ، وفي دار القرار . " يصلونها " ويعذبون بها أشد العذاب " يوم الدين " ، أي : يوم الجزاء على الأعمال . " وما هم عنها بغائبين " ، أي : بل هم ملازمون لها ، لا يخرجون منها . " وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين " في هذا تهويل لذلك اليوم الشديد ، الذي يحير الأذهان . " يوم لا تملك نفس لنفس شيئا " ولو كانت قريبة أو حبيبة مصافية فكل مشتغل بنفسه لا يطلب الفكاك لغيرها . " والأمر يومئذ لله " فهو الذي يفصل بين العباد ، ويأخذ للمظلوم حقه من ظالمه ، والله أعلم .
******************************************************
2*?يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ* فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا *وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ *فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا *إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا *َفلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ *لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ*بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * ? (الانشقاق : 6 - 25)
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/158)
قوله تعالى : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا ) أي إنك ساع إلى ربك سعيا وعامل عملا ( فملاقيه ) ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر ويشهد لذلك ما رواه أبو داود الطيالسي عن الحسن بن أبي جعفر عن أبي الزبير عن جابر قال، قال رسول الله ( ، قال جبريل: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب ما شئت فانك مفارقه وأعمل ما شئت فإنك ملاقيه... ومن الناس من يعيد الضمير على قوله ربك أي فملاق ربك ومعناه فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك وعلى هذا فكلا القولين متلازم قال العوفي عن بن عباس ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا ) يقول تعمل عملا تلقى الله به خيرا كان أو شرا وقال قتادة ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا ) إن كدحك يا بن آدم لضعيف فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله ؛ ثم قال تعالى: ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) أي سهلا بلا تعسير أي لا يحقق عليه جميع دقائق أعماله فإن من حوسب كذلك هلك لا محالة ..
- وقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله ( : من نوقش الحساب عذب.. قالت: فقلت أفليس قال الله تعالى ( فسوف يحاسب حسابا يسيرا )؟ قال: ليس ذاك بالحساب ولكن ذلك العرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب... وهكذا رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير من حديث أيوب السختياني به ...(1/159)
- وقال بن جرير حدثنا بن وكيع حدثنا روح بن عبادة حدثنا أبو عامر الخزاز عن بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله( : إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا معذبا ..فقلت: أليس الله يقول ( فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) قال : ذاك العرض إنه من نوقش الحساب عذب ..وقال بيده على إصبعه كأنه ينكت... وقد رواه أيضا عن عمرو بن علي عن بن أبي عدي عن أبي يونس القشيري عن بن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة فذكر الحديث أخرجاه من طريق أبي يونس القشيري واسمه حاتم بن أبي صغيرة به قال بن جرير حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا مسلم عن الحريش بن الخريت أخي الزبير عن بن أبي مليكة عن عائشة قالت من نوقش الحساب أو من حوسب عذب قال ثم قالت إنما الحساب اليسير عرض على الله تعالى وهو يراهم وقال أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا محمد بن إسحاق حدثني عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت سمعت رسول الله ( يقول في بعض صلاته : اللهم حاسبني حسابا يسيرا ... فلما انصرف قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه إنه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك... صحيح على شرط مسلم..
وقوله تعالى ( وينقلب إلى أهله مسرورا ) أي ويرجع ألى أهله في الجنة قاله قتادة والضحاك ( مسرورا ) أي فرحا مغتبطا بما أعطاه الله عز وجل وقد روى الطبراني عن ثوبان مولى رسول الله( أنه قال: إنكم تعملون أعمالا لا تعرف ويوشك الغائب أن يثوب إلى أهله فمسرور أو مكظوم..(1/160)
وقوله تعالى ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره ) أي بشماله من وراء ظهره تثنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه بها كذلك ( فسوف يدعو ثبورا ) أي خسارا وهلاكا ( ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا ) أي فرحا لا يفكر في العواقب ولا يخاف مما أمامه فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل ( إنه ظن أن لن يحور ) أي كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله ولا يعيده بعد موته قاله بن عباس وقتادة وغيرهما والحور هو الرجوع قال الله ( بلى إن ربه كان به بصيرا ) يعني بلى سيعيده الله كما بدأه ويجازيه على أعماله خيرها وشرها فإنه كان به بصيرا أي عليما خبيرا ....(1/161)
روي عن علي وبن عباس وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وشداد بن أوس وبن عمر ومحمد بن علي بن الحسين مكحول وبكر بن عبد الله المزني وبكير بن الأشج ومالك وبن أبي ذئب وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون أنهم قالوا الشفق الحمرة وقال عبد الرزاق عن معمر عن بن خثيم عن بن لبيبة عن أبي هريرة قال الشفق البياض فالشفق هو حمرة الأفق إما قبل طلوع الشمس كما قاله مجاهد وإما بعد غروبها كما هو معروف عند أهل اللغة قال الخليل بن أحمد الشفق الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الاخرة فإذا ذهب قيل غاب الشفق وقال الجوهري الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب من العتمة وكذا قال عكرمة الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله( أنه قال: وقت المغرب ما لم يغب الشفق.. ففي هذا كله دليل على أن الشفق هو كما قاله الجوهري والخليل ولكن صح عن مجاهد أنه قال في هذه الآية ( فلا أقسم بالشفق ) هو النهار كله, وفي رواية عنه أيضا أنه قال الشفق الشمس رواهما بن أبي حاتم وإنما حمله على هذا قرنه بقوله تعالى ( والليل وما وسق ) أي جمع كأنه أقسم بالضياء والظلام وقال بن جرير أقسم الله بالنهار مدبرا وبالليل مقبلا وقال بن جرير وقال آخرون الشفق اسم للحمرة والبياض وقالوا هو من الأضداد قال بن عباس ومجاهد والحسن وقتادة ( وما وسق ) وما جمع قال قتادة وما جمع من نجم ودابة واستشهد بن عباس بقول الشاعر = مستوسقات لو يجدن سائقا =(1/162)
وقد قال عكرمة ( والليل وما وسق ) يقول ما ساق من ظلمة إذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه وقوله تعالى ( والقمر إذا اتسق ) قال بن عباس إذا اجتمع واستوى وكذا قال عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير ومسروق وأبو صالح والضحاك وبن زيد ( والقمر إذا اتسق ) إذا استوى وقال الحسن إذا اجتمع إذا امتلأ وقال قتادة إذا استدار ومعنى كلامهم أنه إذا تكامل نوره وأبدر جعله مقابلا لليل وما وسق وقوله تعالى ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال البخاري أخبرنا سعيد بن النضر أخبرنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن مجاهد قال قال بن عباس ( لتركبن طبقا عن طبق ) حالا بعد حال قال هذا نبيكم هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ وهو محتمل أن يكون بن عباس أسند هذا التفسير عن النبي ( كأنه قال سمعت هذا من نبيكم فيكون قوله نبيكم مرفوعا على الفاعلية من قال وهو الأظهر والله أعلم كما قال أنس لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه سمعته من نبيكم وقال بن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن مجاهد أن بن عباس كان يقول ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال يعني نبيكم يقول حالا بعد حال هذا لفظه وقال علي بن أبي طلحة عن بن عباس طبقا عن طبق حالا بعد حال وكذا قال عكرمة ومرة والطيب ومجاهد والحسن والضحاك ومسروق وأبو صالح ويحتمل أن يكون المراد ( لتركبن طبقا عن طبق ) حالا بعد حال قال هذا يعني المراد بهذا نبيكم فيكون مرفوعا على أن هذا ونبيكم يكونان مبتدأ وخبرا والله اعلم ولعل هذا قد يكون هو المتبادر إلى كثير من الرواة كما قال أبو داود الطيالسي وغندر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن بن عباس ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال محمد ويؤيد هذا المعنى قراءة عمر وبن مسعود وبن عباس وعامة أهل مكة والكوفة ( لتركبن ) بفتح التاء والباء وقال بن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل عن الشعبي ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال لتركبن يا محمد سماء بعد سماء وهكذا روي(1/163)
عن بن مسعود ومسروق وأبي العالية ( طبقا عن طبق ) سماء بعد سماء قلت يعنون ليلة الإسراء وقال أبو إسحاق والسدي عن رجل عن بن عباس ( طبقا عن طبق ) منزلا على منزل وكذا رواه العوفي عن بن عباس مثله وزاد ويقال أمرا بعد أمر وحالا بعد حال وقال السدي نفسه ( لتركبن طبقا عن طبق ) أعمال من قبلكم منزلا بعد منزل قلت كأنه أراد معنى الحديث الصحيح لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن وهذا محتمل وقال بن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة حدثنا بن جابر أنه سمع مكحولا يقول في قول الله ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال في كل عشرين سنة تحدثون أمرا لم تكونوا عليه وقال الأعمش حدثنا إبراهيم قال قال عبد الله ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال السماء تتشقق ثم تحمر ثم تكون لونا بعد لون قال الثوري عن قيس بن وهب عن مرة عن بن مسعود ( طبقا عن طبق ) قال السماء مرة كالدهان ومرة تنشق وروى البزار من طريق جابر الجعفي عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود ( لتركبن طبقا عن طبق ) يا محمد يعني حالا بعد حال ثم قال ورواه جابر عن مجاهد عن بن عباس وقال سعيد بن جبير ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال قوم كانوا في الدنيا خسيس أمرهم فارتفعوا في الآخرة وآخرون كانوا أشرافا في الدنيا فاتضعوا في الآخرة وقال عكرمة ( طبقا عن طبق ) حالا بعد حال فطيما بعد ما كان رضيعا وشيخا بعد ما كان شابا وقال الحسن البصري ( طبقا عن طبق ) يقول حالا بعد حال رخاء بعد شدة وشدة بعد رخاء وغنى بعد فقر وفقرا بعد غنى وصحة بعد سقم وسقما بعد صحة وقال بن أبي حاتم ذكر عن عبد الله بن زاهر حدثني أبي عن عمرو بن شمر عن جابر هو الجعفي عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله( يقول : إن ابن آدم لفي غفلة مما خلق له إن الله تعالى إذا أراد خلقه قال للملك أكتب رزقه أكتب أجله أكتب أثره(1/164)
أكتب شقيا أو سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله إليه ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك ثم يرتفع ذلك الملك ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا حضره الموت ارتفع ذانك الملكان وجاءه ملك الموت فقبض روحه فإذا دخل قبره رد الروح في جسده ثم ارتفع ملك الموت وجاء ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فانتشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحدا سائقا وآخر شهيدا ثم قال ، قال الله تعالى :( لقد كنت في غفلة من هذا )... قال رسول الله( ( لتركبن طبقا عن طبق ) قال :حالا بعد حال ؛ ثم قال النبي ( :إن قدامكم لأمرا عظيما لا تقدرونه فاستعينوا بالله العظيم.... هذا حديث منكر وإسناده فيه ضعفاء ولكن معناه صحيح والله سبحانه وتعالى أعلم ...ثم قال بن جرير بعد ما حكى أقوال الناس في هذه الاية من القراء والمفسرين والصواب من التأويل قول من قال لتركبن أنت يا محمد حالا بعد حال وأمرا بعد أمر من الشدائد والمراد بذلك، وإن كان الخطاب موجها إلى رسول الله( ، جميع الناس وأنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأحواله أهوالا وقوله تعالى ( فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ) أي فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر وما لهم إذا قرئت عليهم أيات الله وكلامه وهو هذا القرآن لا يسجدون إعظاما وإكراما واحتراما... وقوله تعالى ( بل الذين كفروا يكذبون ) أي من سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق ( والله أعلم بما يوعون ) قال مجاهد وقتادة يكتمون في صدورهم ( فبشرهم بعذاب أليم ) أي فأخبرهم يا محمد بأن الله عز وجل قد أعد لهم عذابا أليما وقوله تعالى ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) هذا استثناء منقطع يعني لكن الذين آمنوا أي بقلوبهم وعملوا الصالحات أي بجوارحهم ( لهم أجر) أي في الدار الآخرة ( غير ممنون ) قال بن عباس غير منقوص وقال مجاهد والضحاك غير محسوب وحاصل(1/165)
قولهما أنه غير مقطوع كما قال تعالى ( عطاء غير مجذوذ ) وقال السدي قال بعضهم غير ممنون غير منقوص وقال بعضهم غير ممنون عليهم وهذا القول الأخير عن بعضهم قد أنكره غير واحد فإن الله عز وجل له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم فله عليهم المنة دائما سرمدا والحمد لله وحده أبدا ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس وأخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
" يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " أي : إنك ساع إلى الله ، وعامل بأوامره ونواهيه ، ومتقرب إليه إما بالخير ، وإما بالشر ، ثم تلاقي الله يوم القيامة فلا تعدم منه جزاء بالفضل أو العدل ، بالفضل إن كنت سعيدا ، وبالعقوبة العادلة إن كنت شقيا . ولهذا ذكر تفصيل الجزاء ، فقال : " فأما من أوتي كتابه بيمينه " ، وهم أهل السعادة " فسوف يحاسب حسابا يسيرا " وهو العرض اليسير على الله ، فيقرره الله بذنوبه ، حتى إذا ظن العبد أنه قد هلك ، قال الله تعالى : ( إني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أسترها لك اليوم ) . " وينقلب إلى أهله " في الجنة . " مسرورا " لأنه قد نجا من العذاب وفاز بالثواب . " وأما من أوتي كتابه وراء ظهره " ، أي : بشماله من وراء ظهره . " فسوف يدعو ثبورا " من الخزي والفضيحة ، وما يجد في كتابه من الأعمال التي قدمها ولم يتب منها . " ويصلى سعيرا " ، أي تحيط به السعير من كل جانب ويقبل على عذابها ، وذلك " إنه كان في أهله مسرورا " لا يخطر البعث على باله ، وقد أساء ، ولا يظن أنه راجع إلى ربه وموقوف بين يديه . " بلى إن ربه كان به بصيرا " فلا يحسن أن يتركه سدى لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب .(1/166)
" فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون " أقسم في هذا الموضع بآيات الليل ، فأقسم " بالشفق " الذي هو بقية نور الشمس ، الذي هو مفتتح الليل . " والليل وما وسق " ، أي : احتوى عليه من حيوانات وغيرها . " والقمر إذا اتسق " ، أي : امتلأ نورا بإبداره ، وذلك أجسم ما يكون وأكثر منافع ، والمقسم عليه قوله : لتركبن " ، أي : أيها الناس " طبقا عن طبق " ، أي : أطوارا متعددة وأحوالا متباينة من النطفة إلى العلقة ، إلى المضغة ، إلى نفخ الروح . ثم يكون وليدا وطفلا ومميزا ، ثم يجري عليه قلم التكليف ، والأمر والنهي ، ثم يموت بعد ذلك ، ثم يبعث ويجازى بأعماله . فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد ، دالة على أن الله وحده هو المعبود ، الموحد ، المدبر لعباده ، بحكمته ورحمته ، وأن العبد فقير ، عاجز ، تحت تدبير العزيز الرحيم . ومع هذا ، فكثير من الناس لا يؤمنون " وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون " ، أي : لا يخضعون للقرآن ، ولا ينقادون لأوامره ، ونواهيه . " بل الذين كفروا يكذبون " ، أي : يعاندون الحق بعد ما تبين ، فلا يستغرب عدم إيمانهم وانقيادهم للقرآن ، فإن المكذب بالحق عنادا ، لا حيلة فيه .(1/167)
" والله أعلم بما يوعون " ، أي : بما يعملونه وينوونه سرا ، فالله يعلم سرهم وجهرهم ، وسيجازيهم بأعمالهم ، ولهذا قال : " فبشرهم بعذاب أليم " ، وسميت البشارة بشارة لأنها تؤثر في البشرة سرورا أو غما . فهذه حال أكثر الناس ، التكذيب بالقرآن ، وعدم الإيمان به . ومن الناس فريق هداهم الله ، فآمنوا بالله ، وقبلوا ما جاءتهم به الرسل ، فآمنوا وعملوا الصالحات . فهؤلاء لهم أجر غير ممنون ، أي : غير مقطوع ، بل هو أجر دائم مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، والحمد لله .
****************************************
3 ***** يَا بَنِي آدَمَ ..........................................................................................
1*? يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ? (الأعراف : 26 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/168)
يمتن تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش, فاللباس ستر العورات وهي السوآت, والرياش والريش ما يتجمل به ظاهراً, فالأول من الضروريات والريش من التكملات والزيادات, قال ابن جرير: الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وحكاه البخاري عنه: الرياش المال وهكذا قال مجاهد وعروة بن الزبير والسدي والضحاك وغير واحد, وقال العوفي عن ابن عباس: الريش اللباس والعيش والنعيم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرياش الجمال, وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا أصبع عن أبي العلاء الشامي, قال: لبس أبو أمامة ثوباً جديداً فلما بلغ ترقوته قال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي, ثم قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله ( "من استجد ثوباً فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي, ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به كان في ذمة الله وفي جوار الله وفي كنف الله حياً وميتاً" ورواه الترمذي وابن ماجه من رواية يزيد بن هارون عن أصبع هو ابن زيد الجهني, وقد وثقه يحيى بن معين وغيره, وشيخه أبو العلاء الشامي لا يعرف إلا بهذا الحديث, ولكن لم يخرجه أحد, والله أعلم.(1/169)
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا مختار بن نافع التمار عن أبي مطر, أنه رأى علياً رضي الله عنه أتى غلاماً حدثاً فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم ولبسه ما بين الرسغين إلى الكعبين, يقول حين لبسه: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي, فقيل هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن النبي ( , قال: هذا شيء سمعته من رسول الله ( يقول عند الكسوة: "الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي" ورواه الإمام أحمد, وقوله تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير} قرأ بعضهم ولباس التقوى بالنصب, وقرأ الاَخرون بالرفع على الابتداء, و{ذلك خير} خبره, واختلف المفسرون في معناه, فقال عكرمة: يقال هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة, رواه ابن أبي حاتم, وقال زيد بن علي والسدي وقتادة وابن جريج: ولباس التقوى الإيمان, وقال العوفي عن ابن عباس: العمل الصالح , قال الديال بن عمرو عن ابن عباس: هو السمت الحسن في الوجه, وعن عروة بن الزبير: لباس التقوى خشية الله, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ولباس التقوى يتقي الله فيواري عورته فذاك لباس التقوى, وكلها متقاربة, ويؤيد ذلك الحديث الذي رواه ابن جرير حيث قال: حدثني المثنى حدثنا إسحاق بن الحجاج, حدثني إسحاق بن إسماعيل عن سليمان بن أرقم عن الحسن, قال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه على منبر رسول الله ( عليه قميص فوهي محلول الزر, وسمعته يأمر بقتل الكلاب وينهى عن اللعب بالحمام, ثم قال: يا أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر, فإني سمعت رسول الله ( يقول "والذي نفس محمد بيده ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية, إن خيراً فخير وإن شراً فشر" ثم قرأ هذه الاَية {وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله} قال: السمت الحسن, هكذا رواه ابن جرير من رواية سليمان بن أرقم, وفيه ضعف, وقد روى الأئمة الشافعي وأحمد والبخاري في كتاب(1/170)
الأدب من طرق صحيحة عن الحسن البصري, أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام يوم الجمعة على المنبر, وأما المرفوع منه فقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير له شاهداً من وجه آخر حيث قال حدثنا....).
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله
(يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون}
قوله تعالى: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا" قال كثير من العلماء: هذه الآية دليل على وجوب ستر العورة؛ لأنه قال: "يواري سوآتكم". وقال قوم إنه ليس فيها دليل على ما ذكروه، بل فيها دلالة على الإنعام فقط.(1/171)
قلت: القول الأول أصح. ومن جملة الإنعام ستر العورة؛ فبين أنه سبحانه وتعالى جعل لذريته ما يسترون به عوراتهم، ودل على الأمر بالستر. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس. واختلفوا في العورة ما هي؟ فقال ابن أبي ذئب: هي من الرجل الفرج نفسه، القبل والدبر دون غيرهما. وهو قول داود وأهل الظاهر وابن أبي عبلة والطبري؛ لقوله تعالى: "لباسا يواري سوآتكم"، "بدت لهما سوآتهما" [الأعراف: 22]، "ليريهما سوآتهما" [الأعراف: 27]. وفي البخاري عن أنس: "فأجرى رسول الله ( في زقاق خيبر - وفيه - ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله ( ". وقال مالك: السرة ليست بعورة، وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته. وقال أبو حنيفة: الركبة عورة. وهو قول عطاء. وقال الشافعي: ليست السرة ولا الركبتان من العورة على الصحيح. وحكى أبو حامد الترمذي أن للشافعي في السرة قولين. وحجة مالك قوله ( لجرهد: (غط فخذك فإن الفخذ عورة). خرجه البخاري تعليقا وقال: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط حتى يخرج من اختلافهم. وحديث جرهد هذا يدل على خلاف ما قال أبو حنيفة. وروي أن أبا هريرة قبل سرة الحسن بن علي وقال: أقبل منك ما كان رسول الله ( يقبل منك. فلو كانت السرة عورة ما قبلها أبو هريرة، ولا مكنه الحسن منها. وأما المرأة الحرة فعورة كلها إلا الوجه والكفين.. على هذا أكثر أهل العلم. وقد قال النبي ( : (من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها). ولأن ذلك واجب كشفه في الإحرام. وقال أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام: كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها. وروي عن أحمد بن حنبل نحوه. وأما أم الولد فقال الأثرم: سمعته - يعني أحمد بن حنبل - يسأل عن أم الولد كيف تصلي؟ فقال: تغطي رأسها وقدميها؛ لأنها لا تباع، وتصلي كما تصلي الحرة. وأما الأمة فالعورة منها ما تحت ثديها، ولها أن تبدي رأسها ومعصميها. وقيل: حكمها حكم الرجل.(1/172)
وقيل: يكره لها كشف رأسها وصدرها. وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على تغطيتهن رؤوسهن ويقول: لا تشبهن بالحرائر. وقال أصبغ: إن انكشف فخذها أعادت الصلاة في الوقت. وقال أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام: كل شيء من الأمة عورة حتى ظفرها. وهذا خارج عن أقوال الفقهاء؛ لإجماعهم على أن المرأة الحرة لها أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله، تباشر الأرض به. فالأمة أولى، وأم الولد أغلظ حالا من الأمة. والصبي الصغير لا حرمة لعورته. فإذا بلغت الجارية إلى حد تأخذها العين وتشتهى سترت عورتها. وحجة أبي بكر بن عبدالرحمن قوله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن" [الأحزاب: 59]. وحديث أم سلمة أنها سئلت: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ فقالت: تصلي في الدرع والخمار السابغ الذي يغيب ظهور قدميها. وقد روي مرفوعا. والذين أوقفوه على أم سلمة أكثر وأحفظ؛ منهم مالك وابن إسحاق وغيرهما. قال أبو داود: ورفعه عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة أنها سألت رسول الله ( . قال أبو عمر: عبدالرحمن هذا ضعيف عندهم؛ إلا أنه قد خرج البخاري بعض حديثه. والإجماع في هذا الباب أقوى من الخبر.
قوله تعالى: "أنزلنا عليكم لباسا" يعني المطر الذي ينبت القطن والكتان، ويقيم البهائم الذي منها الأصواف والأوبار والأشعار؛ فهو مجاز مثل "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" [الزمر: 6] على ما يأتي. وقيل: هذا الإنزال إنزال شيء من اللباس مع آدم وحواء، ليكون مثالا لغيره. وقال سعيد بن جبير: "أنزلنا عليكم" أي خلقنا لكم؛ كقوله: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أواج" أي خلق. على ما يأتي. وقيل: ألهمناكم كيفية صنعته.(1/173)
قرأ أبو عبدالرحمن والحسن وعاصم من رواية المفضل الضبي، وأبو عمرو من رواية الحسين بن علي الجعفي "ورياشا". ولم يحكه أبو عبيد إلا عن الحسن، ولم يفسر معناه. وهو جمع ريش. وهو ما كان من المال واللباس. وقال الفراء: ريش ورياش، كما يقال: لبس ولباس. وريش الطائر ما ستره الله به. وقيل: هو الخصب ورفاهية العيش. والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة. وأنشد سيبويه:
فريشي منكم وهواي معكم وإن كانت زياتكم لماما
وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة: وهت له دابة بريشها؛ أي بكسوتها وما عليها من اللباس.
قوله تعالى: "ولباس التقوى ذلك خير" بين أن التقوى خير لباس؛ كما قال:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عيانا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا
وروى قاسم بن مالك عن عوف عن معبدالجهني قال: "لباس التقوى" الحياء. وقال ابن عباس: "لباس التقوى" هو العمل الصالح. وعنه أيضا: السمت الحسن في الوجه. وقيل: ما علمه عز وجل وهدى به. وقيل: "لباس التقوى" لبس الصوف والخشن من الثياب، مما يتواضع به لله تعالى ويتعبد له خير من غيره. وقال زيد بن علي: "لباس التقوى" الدرع والمغفر؛ والساعدان، والساقان، يتقى بهما في الحرب. وقال عروة بن الزبير: هو الخشية لله. وقيل: هو استشعار تقوى الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه.(1/174)
قلت: وهو الصحيح، وإليه يرجع قول ابن عباس وعروة. وقول زيد بن علي حسن، فإنه خض على الجهاد. وقال ابن زيد: هو ستر العورة. وهذا فيه تكرار، إذ قال أولا: "قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم". ومن قال: إنه لبس الخشن من الثياب فإنه أقرب إلى التواضع وترك الرعونات فدعوى؛ فقد كان الفضلاء من العلماء يلبسون الرفيع من الثياب مع حصول التقوى، على ما يأتي مبينا إن شاء الله تعالى. وقرأ أهل المدينة والكسائي "لباس" بالنصب عطفا على "لباسا" الأول. وقيل: انتصب بفعل مضمر؛ أي وأنزلنا لباس التقوى. والباقون بالرفع على الابتداء. و"ذلك" نعته و"خير" خبر الابتداء. والمعنى: ولباس التقوى المشار إليه، الذي علمتموه، خير لكم من لباس الثياب التي تواري سوآتكم، ومن الرياش الذي أنزلنا إليكم؛ فألبسوه. وقيل: ارتفع بإضمار هو؛ أي وهو لباس التقوى؛ أي هو ستر العورة. وعليه يخرج قول ابن زيد. وقيل: المعنى ولباس التقوى هو خير؛ "فذلك" بمعنى هو. والإعراب الأول أحسن ما قيل فيه. وقرأ الأعمش "ولباس التقوى خير" ولم يقرأ "ذلك". وهو خلاف المصحف. "ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون" أي مما يدل على أن له خالقا. و"ذلك" رفع على الصفة، أو على البدل، أو عطف بيان.
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون )(1/175)
أي : لما أهبط الله آدم وزوجته وذريتهما إلى الأرض ، أخبرهما بحال إقامتهم فيها ، وأنه جعل لهم فيها حياة ، يتلوها الموت ، مشحونة بالامتحان والابتلاء ، وأنهم لا يزالون فيها ، يرسل إليهم رسله ، وينزل عليهم كتبه ، حتى يأتيهم الموت ، فيدفنون فيها . ثم إذا استكملوا ، بعثهم الله ، وأخرجهم منها إلى الدار التي هي الدار حقيقة ، التي هي دار المقامة :( قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ): ثم امتن عليهم بما يسر لهم ، من اللباس الضروري ، واللباس الذي المقصود منه ، الجمال ، وهكذا سائر الأشياء ، كالطعام ، والشراب ، والمراكب ، والمناكح ونحوها . قد يسر الله للعباد ضروريها ، ومكمل ذلك ، وبين لهما أن هذا ، ليس مقصودا بالذات ، وإنما أنزله الله ، ليكون معونة لهم على عبادته وطاعته ، ولهذا قال : " ولباس التقوى ذلك خير " من اللباس الحسي ، فإن لباس التقوى ، يستمر مع العبد ، ولا يبلى ولا يبيد ، وهو جمال القلب والروح . وأما اللباس الظاهري ، فغايته أن يستر العورة الظاهرة ، في وقت من الأوقات . أو يكون جمالا للإنسان ، وليس وراء ذلك منه نفع . وأيضا ، فبتقدير عدم هذا اللباس ، تنكشف عورته الظاهرة ، التي لا يضره كشفها ، مع الضرورة ، وأما بتقدير عدم لباس التقوى ، فإنها تنكشف عورته الباطنة ، وينال الخزي والفضيحة . وقوله : " ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون " أي : ذلك المذكور لكم من اللباس ، مما تذكرون به ، ما ينفعكم ويضركم ، وتستعينون باللباس الظاهر على الباطن.
********************************************(1/176)
2*? يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَىَ وَفَرِيقاً حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ إِنّهُمُ اتّخَذُوا الشّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُم مّهْتَدُونَ ? (الأعراف : 27 - 30 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله
يحذر تعالى بني آدم من إبليس وقبيله, مبيناً لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه السلام, في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم إلى دار التعب والعناء, والتسبب في هتك عورته بعد ما كانت مستورة عنه, وما هذا إلا عن عداوة أكيدة, وهذا كقوله تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا}.(1/177)
**( وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَىَ وَفَرِيقاً حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ إِنّهُمُ اتّخَذُوا الشّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُم مّهْتَدُونَ)
قال مجاهد: كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يقولون نطوف كما ولدتنا أمهاتنا فتضع المرأة على قبلها النسعة أو الشيء وتقول: = اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله =
فأنزل الله {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} الاَية, قلت: كانت العرب ما عدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها, وكانت قريش وهم الحمس يطوفون في ثيابهم, ومن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه, ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد, ومن لم يجد ثوباً جديداً, ولا أعاره أحمسي ثوباً طاف عرياناً, وربما كانت امرأة فتطوف عريانة فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر فتقول: = اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله . =(1/178)
وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل, وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم واتبعوا فيه آباءهم, ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع, فأنكر الله تعالى عليهم ذلك, فقال {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} فقال تعالى رداً عليهم {قل} أي يا محمد لمن ادعى ذلك {إن الله لا يأمر بالفحشاء} أي هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة, والله لا يأمر بمثل ذلك {أتقولون على الله مالا تعلمون} أي أتسندون إلى الله من الأقوال مالا تعلمون صحته, وقوله تعالى: {قل أمر ربي بالقسط} أي بالعدل والاستقامة {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات, فيما أخبروا به عن الله وما جاؤوا به من الشرائع وبالإخلاص له في عبادته, فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين, أن يكون صواباً موافقاً للشريعة وأن يكون خالصاً من الشرك.(1/179)
وقوله تعالى: {كما بدأكم تعودون} إلى قوله {الضلالة} اختلف في معنى قوله {كما بدأكم تعودون} فقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد {كما بدأكم تعودون} يحييكم بعد موتكم, وقال الحسن البصري: كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء, وقال قتادة {كما بدأكم تعودون} قال: بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئاً ثم ذهبوا ثم يعيدهم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كما بدأكم أولاً كذلك يعيدكم آخراً, واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير, وأيده بما رواه من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج كلاهما عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: قام فينا رسول الله ( بموعظة فقال "يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً ..(كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ) " وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث شعبة, وفي صحيح البخاري أيضاً من حديث الثوري به, وقال ورقاء بن إياس أبو يزيد عن مجاهد {كما بدأكم تعودون} قال يبعث المسلم مسلماً والكافر كافراً وقال أبو العالية {كما بدأكم تعودون} ردّوا إلى علمه فيهم وقال سعيد بن جبير كما بدأكم تعودون كما كتب عليكم تكونون, وفي رواية كما كنتم عليه تكونون, وقال محمد بن كعب القرظي: في قوله تعالى: {كما بدأكم تعودون} من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدىء عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة, ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدىء خلقه عليه وإن عمل بأعمال أهل الشقاء, كما أن السحرة عملوا بأعمال أهل الشقاء ثم صاروا إلى ما ابتدؤوا عليه, وقال السدي {كما بدأكم} تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} يقول {كما بدأكم تعودون} كما خلقناكم فريق مهتدون وفريق ضلال, كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم.(1/180)
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله {كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} قال: إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً, كما قال {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمناً وكافراً: قلت: ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري "فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها, وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب, فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة". وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا علي بن الجعد, حدثنا أبو غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله ( "إن العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار, وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم" هذا قطعة من حديث البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مطرف المدني في قصة قزمان يوم أحد, وقال ابن جرير: حدثني ابن بشار حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر, عن النبي ( أنه قال "تبعث كل نفس على ما كانت عليه" وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه, عن الأعمش به, ولفظه "يبعث كل عبد على ما مات عليه" وعن ابن عباس مثله, قلت: ويتأيد بحديث ابن مسعود, قلت: ولا بد من الجمع بين هذا القول إن كان هو المراد من الاَية, وبين قوله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها} وما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله ( قال: "كل مولود يولد على الفطرة, فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه".(1/181)
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله ( يقول الله تعالى "إني خلقت عبادي حنفاء, فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم" الحديث, ووجه الجمع على هذا, أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال, وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره, كما أخذ عليهم الميثاق بذلك وجعله في غرائزهم وفطرهم ومع هذا قدر أن منهم شقياً ومنهم سعيداً {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} وفي الحديث "كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" وقدر الله نافذ في بريته, فإنه هو {الذي قدر فهدى} و {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وفي الصحيحين "فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة, وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة" ولهذا قال تعالى: {فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} ثم علل ذلك فقال {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله} الاَية, قال ابن جرير: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها, إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عناداً منه لربه فيها, لأنه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه مهتد, وفريق الهدى فرق, وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الاَية.
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون )(1/182)
يقول تعالى ، محذرا لبني آدم ، أن يفعل بهم الشيطان ، كما فعل بأبيهم : " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان " بأن يزين لكم العصيان ، ويدعوكم إليه ، ويرغبكم فيه ، فتنقادون له " كما أخرج أبويكم من الجنة " وأنزلهما من المحل العالي ، إلى أنزل منه . فإياكم يريد أن يفعل بكم كذلك ، ولا يألو جهده عنكم ، حتى يفتنكم ، إن استطاع . فعليكم أن تجعلوا الحذر منه في بالكم ، وأن تلبسوا لأمة الحرب بينكم وبينه ، وأن لا تغفلوا عن المواضع التي يدخل منها إليكم .
" أنه " يراقبكم على الدوام ، و " يراكم هو وقبيله " من شياطين الجن " من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " . فعدم الإيمان ، هو الموجب لعقد الولاية بين الإنسان والشطان . " إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون " ...
"وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون "(1/183)
يقول تعالى ، مبينا لقبح حال المشركين ، الذين يفعلون الذنوب ، وينسبون لله أنه أمرهم بها . " وإذا فعلوا فاحشة " وهي : كل ما يستفحش ويستقبح ، ومن ذلك : طوافهم بالبيت عراة . " قالوا وجدنا عليها آباءنا " ، وصدقوا في هذا . " والله أمرنا بها " وكذبوا في هذا ، ولهذا رد الله عليهم هذه النسبة فقال : " قل إن الله لا يأمر بالفحشاء "أي : لا يليق بكماله وحكمته ، أن يأمر عباده بتعاطي الفواحش ، لا هذا الذي يفعله المشركون ولا غيره . " أتقولون على الله ما لا تعلمون " وأي افتراء أعظم من هذا . ثم ذكر ما يأمر به فقال : " قل أمر ربي بالقسط " أي : بالعدل في العبادات والمعاملات ، لا بالظلم والجور . " وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد " أي : توجهوا إلى الله ، واجتهدوا في تكميل العبادات ، خصوصا " الصلاة " أقيموها ، ظاهرا وباطنا ، ونقوها من كل نقص ومفسد . " وادعوه مخلصين له الدين " أي : قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له . والدعاء يشمل دعاء المسألة ، ودعاء العبادة أي : لا تريدوا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم ، سوى عبودية الله ورضاه . " كما بدأكم " أول مرة " تعودون " للبعث ، فالقادر على بدء خلقكم ، قادر على إعادته ، بل الإعادة ، أهون من البدء . " فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون "" فريقا " منكم " هدى " الله ، أي : وفقهم للهداية ، ويسر لهم أسبابها ، وصرف عنهم موانعها . " وفريقا حق عليهم الضلالة " أي : وجبت عليهم الضلالة ، بما تسببوا لأنفسهم ، وعملوا بأسباب الغواية . " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله " ومن يتخذ الشيطاين وليا من دون الله ، فقد خسر خسرانا مبينا . فحين انسلخوا من ولاية الرحمن ، واستحبوا ولاية الشيطان ، حصل لهم النصيب الوافر ، من الخذلان ، ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران . " ويحسبون أنهم مهتدون " لأنهم انقلبت عليهم الحقائق(1/184)
، فظنوا الباطل حقا ، والحق باطلا . وفي هذه الآيات ، دليل على أن الأوامر والنواهي ، تابعة للحكمة والمصلحة ، حيث ذكر تعالى ، أنه لا يتصور أن يأمر بما تستفحشه وتنكره العقول ، وأنه لا يأمر إلا بالعدل والإخلاص ، وفيه دليل على أن الهداية ، بفضل الله ومنه ، وأن الضلالة بخذلانه للعبد ، إذ تولى ـ بجهله وظلمه ـ الشيطان ، وتسبب لنفسه بالضلال . وأن من حسب أنه مهتد ، وهو ضال ، فإنه لا عذر له ، لأنه متمكن من الهدى ، وإنما أتاه حسبانه ، من ظلمه بترك الطريق الموصل إلى الهدى .
**********************************************
3*? يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ * ? (الأعراف: 31 34 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله(1/185)
هذه الاَية الكريمة رد على المشركين فيما كانوا يعتمدونه, من الطواف بالبيت عراة كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير, واللفظ له من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء, الرجال بالنهار والنساء بالليل, وكانت المرأة تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فقال الله تعالى {خذوا زينتكم عند كل مسجد} وقال العوفي: عن ابن عباس في قوله {خذوا زينتكم عند كل مسجد} الاَية, قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة, والزينة اللباس وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع, فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد, وهكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك ومالك, عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة, وقد روى الحافظ بن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي, عن قتادة, عن أنس مرفوعاً, أنها نزلت في الصلاة في النعال, ولكن في صحته نظر, والله أعلم, ولهذه الاَية وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة, ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد, والطيب لأنه من الزينة والسواك لأنه من تمام ذلك.(1/186)
ومن أفضل اللباس البياض كما قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم, حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم, عن سعيد بن جبير وصححه عن ابن عباس مرفوعاً, قال: قال رسول الله ( "البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم, وكفنوا فيها موتاكم وإن خير أكحالكم الإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر" هذا حديث جيد الإسناد, رجاله على شرط مسلم ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وللإمام أحمد أيضاً وأهل السنن بإسناد جيد عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله ( "عليكم بثياب البياض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم" وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين: أن تميماً الداري اشترى رداء بألف وكان يصلي فيه, وقوله تعالى {وكلوا واشربوا} الاَية, قال بعض السلف جمع الله الطب كله في نصف آية {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} وقال البخاري قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب مالم يكن سرفاً أو مخيلة, إسناده صحيح, وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز, حدثنا همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, أن رسول الله ( قال: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف, فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده" ورواه النسائي وابن ماجه من حديث قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ( قال "كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة" وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا سليمان بن سليم الكلبي, حدثنا يحيى بن جابر الطائي سمعت المقدام بن معديكرب الكندي, قال: سمعت رسول الله ( يقول "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان فاعلاً لا محالة, فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه"(1/187)
ورواه النسائي والترمذي من طرق عن يحيى بن جابر به, وقال الترمذي: حسن وفي نسخة حسن صحيح.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا سويد بن عبد العزيز, حدثنا بقية عن يوسف بن أبي كثير عن نوح بن ذكوان عن الحسن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ( "إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت" ورواه الدارقطني في الأفراد, وقال: هذا حديث غريب تفرد به بقية, وقال السدي: كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم, فقال الله تعالى لهم: {كلوا واشربوا} الاَية, يقول لا تسرفوا في التحريم, وقال مجاهد: أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {ولا تسرفوا} يقول: ولا تأكلوا حراماً ذلك الإسراف, وقال عطاء الخراساني: عن ابن عباس قوله {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} في الطعام والشراب, وقال ابن جرير: وقوله {إنه لا يحب المسرفين} يقول الله تعالى: إن الله لا يحب المتعدين حده في حلال أو حرام الغالين فيما أحل بإحلال الحرام أو بتحريم الحلال, ولكنه يحب أن يحلل ما أحل ويحرم ما حرم وذلك العدل الذي أمر به.
**( قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِي لِلّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )(1/188)
يقول تعالى رداً على من حرم شيئاً من المآكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين, الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم {من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} الاَية, أي هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا, وإن شركهم فيها الكفار حباً في الدنيا فهي لهم خاصة يوم القيامة, ولا يشركهم فيها أحد من الكفار, فإن الجنة محرمة على الكافرين, قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين القاضي, حدثنا يحيى الحماني, حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون, فأنزل الله {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} فأمروا بالثياب.
**( قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(1/189)
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله ( "لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن, ولا أحد أحب إليه المدح من الله" أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش, عن شقيق عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود, ... وقوله {والإثم والبغي بغير الحق} قال السدي: أما الإثم فالمعصية والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق, وقال مجاهد, الإثم المعاصي كلها وأخبر أن الباغي بغيه على نفسه, وحاصل ما فسر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه, والبغي هو التعدي إلى الناس فحرم الله هذا وهذا, وقوله تعالى: {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً} أي تجعلوا له شركاء في عبادته {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولداً ونحو ذلك مما لا علم لكم به, كقوله {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} الاَية.
** ( وَلِكُلّ أُمّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ)
يقول تعالى: {ولكل أمة} أي قرن وجيل {أجل فإذا جاء أجلهم} أي ميقاتهم المقدر لهم {لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون }
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله
{يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}(1/190)
قوله تعالى: "يا بني آدم" هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا؛ فإنه عام في كل مسجد للصلاة. لأن العبرة للعموم لا للسبب. ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف؛ لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد، والذي يعم كل مسجد هو الصلاة . وهذا قول من خفي عليه مقاصد الشريعة. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: من يعيرني تِطوافا؟ تجعله على فرجها. وتقول: =اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله =
فنزلت هذه الآية: "خذوا زينتكم عند كل مسجد". التطواف (بكسر التاء). وهذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن قرط؛ قاله القاضي عياض. وفي صحيح مسلم أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات. في غير مسلم: ويقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه؛ فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى؛ قال قائل من العرب: = كفى حزنا كري عليه كأنه لقى بين أيدي الطائفين حريم =(1/191)
فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا ( ؛ فأنزل الله تعالى: "يا بني آدم خذوا زينتكم" الآية. وأذن مؤذن رسول الله ( : ألا لا يطوف بالبيت عريان. قلت: ومن قال بأن المراد الصلاة فزينتها النعال؛ لما رواه كرز بن وبرة عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي ( أنه قال ذات يوم: (خذوا زينة الصلاة) قيل: وما زينة الصلاة؟ قال: (البسوا نعالكم فصلوا فيها).
دلت الآية على وجوب ستر العورة كما تقدم. وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها فرض من فروض الصلاة. وقال الأبهري هي فرض في الجملة، وعلى الإنسان أن يسترها عن أعين الناس في الصلاة وغيرها. وهو الصحيح؛ لقوله ( للمسور بن مخرمة: (أرجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة). أخرجه مسلم. وذهب إسماعيل القاضي إلى أن ستر العورة من سنن الصلاة، واحتج بأنه لو كان فرضا في الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلي؛ لأن كل شيء من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه، أو بدله مع عدمه، أو تسقط الصلاة جملة، وليس كذلك. قال ابن العربي: وإذا قلنا إن ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمام فانكشف دبره وهو راكع فرفع رأسه فغطاه أجزأه؛ قاله ابن القاسم. وقال سحنون: وكل من نظر إليه من المأمومين أعاد. وروي عن سحنون أيضا: أنه يعيد ويعيدون؛ لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، فإذا ظهرت بطلت الصلاة. أصله الطهارة. قال القاضي ابن العربي: أما من قال، إن صلاتهم لا تبطل فإنهم لم يفقدوا شرطا، وأما من قال إن أخذه مكانه صحت صلاته وتبطل صلاة من نظر إليه فصحيفة يجب محوها ولا يجوز الاشتغال بها. وفي البخاري والنسائي عن عمرو بن سلمة قال: لما رجع قومي من عند النبي ( قالوا قال: (ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن). قال: فدعوني فعلموني الركوع والسجود؛ فكنت أصلي بهم وكانت علي بردة مفتوقة، وكانوا يقولون لأبي: ألا تغطي عنا إست ابنك. لفظ النسائي. وثبت عن سهل بن سعد قال: لقد كانت الرجال عاقدي أزرهم(1/192)
في أعناقهم من ضيق الأزر خلف رسول الله ( في الصلاة كأمثال الصبيان؛ فقال قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن حتى ترفع الرجال. أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود.
واختلفوا إذا رأى عورة نفسه؛ فقال الشافعي: إذا كان الثوب ضيقا يزره أو يخلله بشيء لئلا يتجافى القميص فترى من الجيب العورة، فإن لم يفعل ورأى عورة نفسه أعاد الصلاة. وهو قول أحمد. ورخص مالك في الصلاة في القميص محلول الأزرار، ليس عليه سراويل. وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور. وكان سالم يصلي محلول الأزرار. وقال داود الطائي: إذا كان عظيم اللحية فلا بأس به. وحكى معناه الأثرم عن أحمد. فإن كان إماما فلا يصلي إلا بردائه ؛ لأنه من الزينة. وقيل: من الزينة الصلاة في النعلين؛ رواه أنس عن النبي ( ولم يصح. وقيل: زينة الصلاة رفع الأيدي في الركوع وفي الرفع منه. قال أبو عمر: لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي. وقال عمر رضي الله عنه: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، جمع رجل عليه ثيابه، صلى في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء - وأحسبه قال: في تبان وقميص - في تبان ورداء، في تبان وقباء. رواه البخاري والدارقطني.(1/193)
قوله تعالى: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا" قال ابن عباس: أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة. فأما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوعة وسكن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس؛ ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال؛ لأنه يضعف الجسد ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع وتدفعه العقل. وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر ولا نصيب من زهد؛ لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابا وأعظم أجرا. وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين: فقيل حرام، وقيل مكروه. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطعمان. ثم قيل: في قلة الأكل منافع كثيرة؛ منها أن يكون الرجل أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأقل نوما وأخف نفسا. وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل. وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء. وقد بين النبي ( هذا المعنى بيانا شافيا يغني عن كلام الأطباء فقال: (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه). خرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب. قال علماؤنا: لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة. ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل: "وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا". فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب. فقال علي: جمع رسول الله( الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: (المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء وأعط كل جسد ما عودته). فقال(1/194)
النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.
قلت: ويقال إن معالجة المريض نصفان: نصف دواء ونصف حمية: فإن اجمعا فكأنك بالمريض قد برأ وصح. وإلا فالحمية به أولى؛ إذ لا ينفع دواء مع ترك الحمية. ولقد تنفع الحمية مع ترك الدواء. ولقد قال رسول الله (: (أصل كل دواء الحمية). والمعني بها - والله أعلم - أنها تغني عن كل دواء؛ ولذلك يقال: إن الهند جل معالجتهم الحمية، يمتنع المريض عن الأكل والشراب والكلام عدة أيام فيبرأ ويصح.
روى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله (يقول: (الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في مِعىً واحد). وهذا منه ( حض على التقليل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالبلغة. وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته. كما قال قائلهم: =تكفيه فلذة كبد إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر = ...
وقالت أم زرع في ابن أبي زرع: ويشبعه ذراع الجفرة. وقال حاتم الطائي يذم بكثرة الأكل: فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا...(1/195)
وقال الخطاب: معنى قوله ( : (المؤمن يأكل في معى واحد) أنه يتناول دون شبعه، ويؤثر على نفسه ويبقي من زاده لغيره؛ فيقنعه ما أكل. والتأويل الأول أولى والله أعلم. وقيل في قوله عليه السلام: (والكافر يأكل في سبعة أمعاء) ليس على عمومه؛ لأن المشاهدة تدفعه، فإنه قد يوجد كافر أقل أكلا من مؤمن، ويسلم الكافر فلا يقل أكله ولا يزيد. وقيل: هو إشارة إلى معين. ضاف النبي ( ضيف كافر يقال: إنه الجهجاه الغفاري. وقيل: ثمامة بن أثال. وقيل: نضلة بن عمرو الغفاري. وقيل: بصرة بن أبي بصرة الغفاري. فشرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فشرب حلاب شاة فلم يستتمه ؛ فقال النبي ( ذلك. فكأنه قال: هذا الكافر. والله أعلم. وقيل: إن القلب لما تنور بنور التوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوي على الطاعة، فأخذ منه قدر الحاجة، وحين كان مظلما بالكفر كان أكله كالبهيمة ترتع حتى تثلط. واختلف في هذه الأمعاء، هل هي حقيقة أم لا؟ فقبل: حقيقة، ولها أسماء معروفة عند أهل العلم بالطب والتشريح. وقيل: هي كنايات عن أسباب سبعة يأكل بها النهم: يأكل للحاجة والخبر والشم والنظر واللمس والذوق ويزيد استغناما. وقيل: المعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء. والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد؛ فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثال. والمعى في هذا الحديث هو المعدة.(1/196)
وإذا تقرر هذا فاعلم أنه يستحب للإنسان غسل اليد قبل الطعام وبعده؛ لقوله عليه السلام: (الوضوء قبل الطعام وبعده بركة). وكذا في التوراة. رواه زاذان عن سلمان. وكان مالك يكره غسل اليد النظيفة. والاقتداء بالحديث أولى. ولا يأكل طعاما حتى يعرف أحارا هو أم باردا؟ فإنه إن كان حارا فقد يتأذى. وروي عن رسول الله ( أنه قال: (أبردوا بالطعام فإن الحار غير ذي بركة) حديث صحيح. ولا يشمه فإن ذلك من عمل البهائم، بل إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، ويصغر اللقمة ويكثر مضغها لئلا يعد شرها. ويسمي الله تعالى في أوله ويحمده في آخره. ولا ينبغي أن يرفع صوته بالحمد إلا أن يكون جلساؤه قد فرغوا من الأكل؛ لأن في رفع الصوت منعا لهم من الأكل. وآداب الأكل كثيرة ، هذه جملة منها. وسيأتي بعضها في سورة "هود" إن شاء الله تعالى. وللشراب أيضا آداب معروفة، تركنا ذكرها لشهرتها. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله ( قال: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشمال ويشرب بشماله).(1/197)
وقوله تعالى: "ولا تسرفوا" أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير. فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام الواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه. روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: أكلت ثريدا بلحم سمين، فأتيت النبي ( وأنا أتجشأ؛ فقال: (اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة). فما أكل أبو جحيفة بملء بطنه حتى فارق الدنيا، وكان إذا تغدى لا يتعشى، وإذا تعشى لا يتغدى. قلت: وقد يكون هذا معنى قوله ( : (المؤمن يأكل في معى واحد) أي التام الإيمان؛ لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه كأبي جحيفة تفكر فيما يصير إليه من أمر الموت وما بعده؛ فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته. والله أعلم. وقال ابن زيد: معنى "ولا تسرفوا" لا تأكلوا حراما. وقيل: (من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت). رواه أنس بن مالك عن النبي ( ، خرجه ابن ماجة في سننه. وقيل: من الإسراف الأكل بعد الشبع. وكل ذلك محظور. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعا فوق شبع، فإنك إن تنبذه للكلب خير من أن تأكله. وسأل سمرة بن جندب عن ابنه ما فعل؟ قالوا: بشم البارحة. قال: بشم! فقالوا: نعم. قال: أما إنه لو مات ما صليت عليه. وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسما في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة. فقيل لهم: "خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " في تحريم ما لم يحرم عليكم.
{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون}(1/198)
قوله تعالى: "قل من حرم زينة الله" بين أنهم حرموا من تلقاء أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم. والزينة هنا الملبس الحسن، إذا قدر عليه صاحبه. وقيل: جميع الثياب؛ كما روي عن عمر: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا. وقد تقدم. وروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب شيخ مالك رضي الله عنهم أنه كان يلبس كساء خز بخمسين دينارا، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدق به، أو باعه فتصدق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع بمصر ممشقين ويقول: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق".(1/199)
وإذا كان هذا فقد دلت الآية على لباس الرفيع من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان. قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله ( : (إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة). فما أنكر عليه ذكر التجمل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء. وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها. وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد. وكان ثوب أحمد بن حنبل يشترى بنحو الدينار. أين هذا ممن يرغب عنه ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب. ويقول: "ولباس التقوى ذلك خير" [الأعراف: 26] هيهات! أترى من ذكرنا تركوا لباس التقوى، لا والله! بل هم أهل التقوى وأولو المعرفة والنهى، وغيرهم أهل دعوى، وقلوبهم خالية من التقوى. قال خالد بن شوذب: شهدت الحسن وأتاه فرقد، فأخذه الحسن بكسائه فمده إليه وقال: يا فريقد، يا ابن أم فريقد، إن البر ليس في هذا الكساء، إنما البر ما وقر في الصدر وصدقه العمل. ودخل أبو محمد ابن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن يسار وعليه جبة صوف، فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد، صوفت قلبك أو جسمك؟ صوف قلبك والبس القوهي على القوهي. وقال رجل للشبلي: قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع، فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط، فأنشأ يقول:
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائه(1/200)
قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: وأنا أكره ليس الفوط والمرقعات لأربعة أوجه: أحدها: أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة. والثاني: أنه يتضمن ادعاء الفقر، وقد أمر الإنسان أن يظهر أثر نعم الله عليه. والثالث: إظهار التزهد؛ وقد أمرنا بستره. والرابع: أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة. ومن تشبه بقوم فهو منهم ...وقال الطبري: ولقد أخطأ من أثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله. ومن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر. ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض شهوة النساء. وسئل بشر بن الحارث عن لبس الصوف، فشق عليه وتبينت الكراهة في وجهه ثم قال: لبس الخزز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف في الأمصار. وقال أبو الفرج: وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة، لا المترفعة ولا الدون، ويتخيرون أجودها للجمعة والعيد وللقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود عندهم قبيحا. وأما اللباس الذي يزري بصاحبه فإنه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله تعالى، ويوجب احتقار اللابس؛ وكل ذلك مكروه منهي عنه. فإن قال قائل: تجويد اللباس هوى النفس وقد أمرنا بمجاهدتها، وتزين للخلق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق. فالجواب ليس كل ما تهواه النفس يذم، وليس كل ما يتزين به للناس يكره، وإنما ينهي عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو على وجه الرياء في باب الدين. فإن الإنسان يجب أن يرى جميلا. وذلك حظ للنفس لا يلام فيه. ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج. وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يذم. وقد روى مكحول عن عائشة قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله ( ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء؛ فجعل ينظر في الماء ويسوي لحيته وشعره. فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: (نعم إذا خرج الرجل إلى(1/201)
إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال). وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي ( قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر). فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: (إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة. وقد روى محمد بن سعد أخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا مندل عن ثور عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله ( يسافر بالمشط والمرآة والدهن والسواك والكحل. وعن ابن جريج: مشط عاج يمتشط به. قال ابن سعد: وأخبرنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن ربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله ( يكثر دهن رأسه ويسرح لحيته بالماء. أخبرنا يزيد بن هارون حدثنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانت لرسول الله ( مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثا في كل عين.(1/202)
قوله تعالى: "والطيبات من الرزق" الطيبات اسم عام لما طاب كسبا وطعما. قال ابن عباس وقتادة: يعني بالطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي. وقيل: هي كل مستلذ من الطعام. وقد اختلف في ترك الطيبات والإعراض عن اللذات؛ فقال قوم: ليس ذلك من القربات، والفعل والترك يستوي في المباحات. وقال آخرون: ليس قربة في ذاته، وإنما هو سبيل إلى الزهد في الدنيا، وقصر الأمل فيها، وترك التكلف لأجلها؛ وذلك مندوب إليه، والمندوب قربة. وقال آخرون: ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: لو شئنا لاتخذنا صلاء وصلائق وصنابا، ولكني سمعت الله تعالى يذم أقواما فقال: "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" [الأحقاف: 20]. ويروى "صرائق" بالراء، وهما جميعا الجرادق. والصلائق (باللام): ما يلصق من اللحوم والبقول. والصلاء (بكسر الصاد والمد): الشواء: والصناب: الخردل بالزبيب. وفرق آخرون بين حضور ذلك كله بكلفة وبغير كلفة. قال أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي شيخ أشياخنا: وهو الصحيح إن شاء الله عز وجل؛ فإنه لم ينقل عن النبي ( أنه امتنع من طعام لأجل طيبه قط، بل كان يأكل الحلوى والعسل والبطيخ والرطب، وإنما يكره التكلف لما فيه من التشاغل بشهوات الدنيا عن مهمات الآخرة. والله تعالى أعلم.(1/203)
قلت: وقد كره بعض الصوفية أكل الطيبات؛ واحتج بقول عمر رضي الله عنه: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضرواة الخمر. والجواب أن هذا من عمر قول خرج على من خشي منه إيثار التنعم في الدنيا، والمداومة على الشهوات، وشفاء النفس من اللذات، ونسيان الآخرة والإقبال على الدنيا، ولذلك كان يكتب عمر إلى عمال: إياكم والتنعم وزي أهل العجم، واخشوشنوا. ولم يرد رضي الله عنه تحريم شيء أحله الله، ولا تحظير ما أباحه الله تبارك اسمه. وقول الله عز وجل أولى ما امتثل واعتمد عليه. قال الله تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق". وقال (: (سيد آدام الدنيا والآخرة اللحم). وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي ( كان يأكل الطبيخ بالرطب ويقول: (يكسر حر هذا برد هذا وبرد هذا حر هذا). والطبيخ لغة في البِطيخ، وهو من المقلوب. وقد مضى في "المائدة" الرد على من آثر أكل الخشن من الطعام. وهذه الآية ترد عليه وغيرها: والحمد لله.(1/204)
قوله تعالى: "قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا" يعني بحقها من توحيد الله تعالى والتصديق له؛ فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحده المنعم عليه وصدقه فقد قام بحق النعمة، وإن كفر فقد أمكن الشيطان من نفسه. وفي صحيح الحديث (لا أحد أصبر على أذى من الله يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد). وتم الكلام على "الحياة الدنيا". ثم قال "خالصة" بالرفع وهي قراءة ابن عباس ونافع. "خالصة يوم القيامة" أي يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها. ومجاز الآية: قل هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا مع غيرهم، وهي للمؤمنين خالصة يوم القيامة. فخالصة مستأنف على خبر مبتدأ مضمر. وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد. وقيل: المعنى أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة، للمؤمنين في الدنيا؛ وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون فقوله: "في الحياة الدنيا" متعلق بـ "آمنوا". وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير. وقرأ الباقون بالنصب على الحال والقطع؛ لأن الكلام قد تم دونه. ولا يجوز الوقف على هذه القراءة على "الدنيا"؛ لأن ما بعده متعلق بقول "للذين آمنوا" حال منه؛ بتقدير قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة؛ قاله أبو علي. وخبر الابتداء "للذين آمنوا". والعالم في الحال ما في اللام من معنى الفعل في قوله: "للذين" واختار سيبويه النصب لتقدم الظرف. "كذلك نفصل الآيات" أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصل لكم ما تحتاجون إليه.
{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}(1/205)
قال الكلبي: لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت غيرهم المشركون؛ فنزلت هذه الآية. والفواحش: الأعمال المفرطة في القبح، ما ظهر منها وما بطن. وروى روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: "ما ظهر منها" نكاح الأمهات في الجاهلية. "وما بطن" الزنى. وقال قتادة: سرها وعلانيتها. وهذا فيه نظر؛ فإنه ذكر الإثم والبغي فدل أن المراد بالفواحش. بعضها، وإذا كان كذلك فالظاهر من الفواحش الزنى. والله أعلم. "والإثم" قال الحسن: الخمر. قال الشاعر: = شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول =
وقال آخر: = نشرب الإثم بالصواع جهارا وترى المسك بيننا مستعارا =
"والبغي" الظلم وتجاوز الحد فيه. وقد تقدم. وقال ثعلب: البغي أن يقع الرجل في الرجل فيتكلم فيه، ويبغي عليه بغير الحق؛ إلا أن ينتصر منه بحق. وأخرج الإثم والبغي من الفواحش وهما منه لعظمهما وفحشهما؛ فنص على ذكرهما تأكيدا لأمرهما وقصدا للزجر عنهما. وكذا وقد أنكر جماعة أن يكون الإثم بمعنى الخمر. قال الفراء: الإثم ما دون الحد والاستطالة على الناس. قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك، وحقيقة الإثم أنه جميع المعاصي؛ كما قال الشاعر: = إني وجدت الأمر أرشده تقوى الإله وشره الإثم =
قلت: وأنكره ابن العربي أيضا وقال: "ولا حجة في البيت؛ لأنه لو قال: شربت الذنب أو شربت الوزر لكان كذلك، ولم يوجب قول أن يكون الذنب والوزر اسما من أسماء الخمر كذلك، الإثم. والذي أوجب التكلم بمثل هذا الجهل باللغة وبطريق الأدلة في المعاني". قلت: وقد ذكرناه عن الحسن. وقال الجوهري في الصحاح: وقد يسمى الخمر إثما، وأنشد:
شربت الإثم...... البيت
وأنشده الهروي في غريبيه، على أن الخمر الإثم. فلا يبعد أن يكون الإثم يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضا لغة، فلا تناقض. والبغي: التجاوز في الظلم، وقيل: الفساد.(1/206)
{ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}
قوله تعالى: "ولكل أمة أجل" أي وقت مؤقت. "فإذا جاء أجلهم" أي الوقت المعلوم عند الله عز وجل. وقرأ ابن سيرين "جاء آجالهم" بالجمع "لا يستأخرون" عنه ساعة ولا أقل من ساعة؛ إلا أن الساعة خصت بالذكر لأنها أقل أسماء الأوقات، وهي ظرف زمان. "ولا يستقدمون" فدل بهذا على أن المقتول إنما يقتل بأجله. وأجل الموت هو وقت الموت؛ كما أن أجل الدين هو وقت حلوله. وكل شيء وقت به شيء فهو أجل له. وأجل الإنسان هو الوقت الذي يعلم الله أنه يموت الحي فيه لا محالة. وهو وقت لا يجوز تأخير موته عنه، لا من حيث إنه ليس مقدورا تأخيره. وقال كثير من المعتزلة إلا من شذ منهم: إن المقتول مات بغير أجله الذي ضرب له، وإنه لو لم يقتل لحيي. وهذا غلط، لأن المقتول لم يمت من أجل قتل غيره له، بل من أجل ما فعله الله من إزهاق نفسه عند الضرب له. فإن قيل: فإن مات بأجله فلم تقتلون ضاربه وتقتصون منه؟. قيل له: نقتله لتعديه وتصرفه فيما ليس له أن يتصرف فيه، لا لموته وخروج الروح إذ ليس ذلك من فعله. ولو ترك الناس والتعدي من غير قصاص لأدى ذلك إلى الفساد ودمار العباد. وهذا واضح.
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين )
يقول تعالى ـ بعدما أنزل على بني آدم لباسا يواري سوءاتهم وريشا ـ (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) أي : استروا عوراتكم عند الصلاة كلها ، فرضها ونفلها ، فإن سترها زينة للبدن ، كما أن كشفها ، يدع البدن قبيحا مشوها . ويحتمل أن المراد بالزينة هنا ، ما فوق ذلك ، من اللباس النظيف الحسن ، ففي هذا ، الأمر بستر العورة في الصلاة ، وباستعمال التجميل فيها ، ونظافة السترة من الأدناس والأنجاس . ثم قال : " وكلوا واشربوا "(1/207)
أي : مما رزقكم الله من الطيبات " ولا تسرفوا " في ذلك . والإسراف ، إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي ، ولشره في المأكولات التي تضر بالجسم ، وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوق في المآكل ، والمشارب ، واللباس ، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام . " إنه لا يحب المسرفين " فإن السرف يبغضه الله ، ويضر بدن الإنسان ومعيشته ، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات ، ففي هذه الآية الكريمة ، الأمر بتناول الأكل والشرب ، والنهي عن تركهما ، وعن الإسراف فيهما .
" قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون "
يقول تعالى ـ منكرا على من تعنت ، وحرم ما أحل الله من الطيبات ـ " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده "
من أنواع اللباس ، على اختلاف أصنافه ، والطيبات من الرزق ، من مأكل ، ومشرب ، بجميع أنواعه ، أي : من هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم الله على العباد ، ومن ذا الذي يضيق عليهم ، ما وسعه الله ؟ وهذا التوسيع من الله لعباده ، بالطيبات ، جعله لهم ليستعينوا به على عبادته ، فلم يبحه إلا لعباده المؤمنين ، ولهذا قال : " قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " أي : لا تبعة عليهم فيها . ومفهوم الآية ، أن من لم يؤمن بالله ، بل استعان بها على معاصيه ، فإنها غير خالصة له ولا مباحة ، بل يعاقب عليها ، وعلى التنعم بها ، ويسأل عن النعيم يوم القيامة .(1/208)
" كذلك نفصل الآيات " أي : نوضحها ونبينها " لقوم يعلمون " لأنهم الذين ينتفعون بما فصله الله من الآيات ، ويعلمون أنها من عند الله ، فيعقلونها ويفهمونها . ثم ذكر المحرمات ، التي حرمها الله في كل شريعة من الشرائع فقال :
" قل إنما حرم ربي الفواحش " أي : الذنوب الكبار ، التي تستفحش وتستقبح ، لشناعتها وقبحها ، وذلك ، كالزنا ، واللواط ، ونحوهما . وقوله : " ما ظهر منها وما بطن " أي : الفواحش التي تتعلق بحركات البدن ، والتي تتعلق بحركات القلوب ، كالكبر ، والعجب والرياء ، والنفاق ، ونحو ذلك . " والإثم والبغي بغير الحق " أي : الذنوب التي تؤثم ، وتوجب العقوبة في حقوق الله ، والبغي على الناس ، في دمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم ، فدخل في هذا ، الذنوب المتعلقة بحق الله ، والمتعلقة بحق العباد . " وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا " أي : حجة ، بل أنزل الحجة والبرهان على التوحيد . والشرك ، هو : أن يشرك مع الله في عبادته ، أحد من الخلق . وربما دخل في هذا ، الشرك الأصغر ، كالرياء ، والحلف بغير الله ، ونحو ذلك . " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " في أسمائه وصفاته وأفعاله ، وشرعه . فكل هذه قد حرمها الله ، ونهى العباد عن تعاطيها ، لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة ، ولما فيها من الظلم والتجرؤ على الله ، والاستطالة على عباد الله ، وتغيير دين الله وشرعه . " ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " أي : وقد أخرج الله بني آدم إلى الأرض ، وأسكنهم فيها ، وجعل لهم أجلا مسمى لا تتقدم أمة من الأمم على وقتها المسمى ، ولا تتأخر ، لا الأمم المجتمعة ، ولا أفرادها .
**********************************************(1/209)
4*? يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَيَا * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * ? (الأعراف : 35 - 37 )
( وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( 671هـ ) رحمه الله
{يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}
قوله تعالى: "يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم" شرط. ودخلت النون توكيدا لدخول "ما". وقيل: ما صلة، أي إن يأتكم. أخبر أنه يرسل إليهم الرسل منهم لتكون إجابتهم أقرب. والقصص اتباع الحديث بعضه بعضا. "آياتي" أي فرائضي وأحكامي.
قوله تعالى: "فمن اتقى وأصلح" شرط، وما بعده جوابه، وهو جواب الأول. أي وأصلح منكم ما بيني وبينه. "فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" دليل على أن المؤمنين يوم القيامة لا يخافون ولا يحزنون، ولا يلحقهم رعب ولا فزع. وقيل: قد يلحقهم أهوال يوم القيامة، ولكن مآلهم الأمن. وقيل: جواب "إما يأتينكم" ما دل عليه الكلام، أي فأطيعوهم "فمن اتقى وأصلح" والقول الأول قول الزجاج.(1/210)
{فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}
قوله تعالى: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته" المعنى أي ظلم أشنع من الافتراء على الله تعالى والتكذيب بآياته. ثم قال: "أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب" أي ما كتب لهم من رزق وعمر وعمل؛ عن ابن زيد. ابن جبير: من شقاء وسعادة. ابن عباس: من خير وشر. الحسن وأبو صالح: من العذاب بقدر كفرهم. واختيار الطبري أن يكون المعنى: ما كتب لهم، أي ما قدر لهم من خير وشر ورزق وعمل وأجل؛ على ما تقدم عن ابن زيد وابن عباس وابن جبير. "حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم" يعني رسل ملك الموت. وقيل: "الكتاب" هنا القرآن؛ لأن عذاب الكفار مذكور فيه. وقيل: "الكتاب" اللوح المحفوظ. ذكر الحسن بن علي الحلواني قال: أملى علي علي بن المديني قال: سألت عبدالرحمن بن مهدي عن القدر فقال لي: كل شيء بقدر، والطاعة والمعصية بقدر، وقد أعظم الفرية من قال: إن المعاصي ليست بقدر. قال علي وقال لي عبدالرحمن بن مهدي: العلم والقدر والكتاب سواء. ثم عرضت كلام عبدالرحمن بن مهدي على يحيى بن سعيد فقال: لم يبق بعد هذا قليل ولا كثير. وروى يحيى بن معين حدثنا مروان الفزاي حدثنا إسماعيل بن سميع عن بكير الطويل عن مجاهد عن ابن عباس "أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب" قال: قوم يعملون أعمالا لا بد لهم من أن يعملوها. و"حتى" ليست غاية، بل هي ابتداء خبر عنهم. قال الخليل وسيبويه: حتى وإما وألا لا يملن لأنهن حروف ففرق بينها وبين الأسماء نحو حبلى وسكرى. قال الزجاج: تكتب حتى بالياء لأنها أشبهت سكرى، ولو كتبت ألا بالياء لأشبهت إلى. ولم تكتب إما بالياء لأنها "إن" ضمت إليها ما. "قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله" سؤال توبيخ. ومعنى "تدعون" تعبدون. "قالوا ضلوا(1/211)
عنا" أي بطلوا وذهبوا. قيل: يكون هذا في الآخرة. "وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين" أي أقروا بالكفر على أنفسهم.
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله
( يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) "
لما أخرج الله بني آدم من الجنة ، ابتلاهم بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب عليهم ، يقصون عليهم آيات الله ، ويبينون لهم أحكامه . ثم ذكر فضل من استجاب لهم ، وخسار من لم يستجب لهم فقال : " فمن اتقى " ما حرم الله ، من الشرك ، والكبائر ، والصغائر . " وأصلح " أعماله الظاهرة والباطنة " فلا خوف عليهم " من الشر الذي قد يخافه غيرهم " ولا هم يحزنون " على ما مضى ، وإذا انتفى الخوف والحزن ، حصل الأمن التام ، والسعادة ، والفلاح الأبدي . " والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها " أي : لا آمنت بها قلوبهم ، ولا انقادت لها جوارحهم ، " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " كما استهانوا بآياته ، ولازموا التكذيب بها ، أهينوا بالعذاب الدائم الملازم .
" فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين"(1/212)
" أي : لا أحد أظلم " ممن افترى على الله كذبا " بنسبة الشريك له ، والنقص له ، والتقول عليه ما لم يقل ، " أو كذب بآياته " الواضحة المبينة للحق المبين ، الهادية إلى الصراط المستقيم . فهؤلاء ، وإن تمتعوا بالدنيا ، ونالهم نصيبهم مما كان مكتوبا لهم في اللوح المحفوظ ، فليس ذلك بمغن عنهم شيئا ، يتمتعون قليلا ، ثم يعذبون طويلا . " حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم " أي : الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم ، واستيفاء آجالهم . " قالوا " لهم في تلك الحالة ـ توبيخا وعتابا ـ " أين ما كنتم تدعون من دون الله " من الأصنام والأوثان ، فقد جاء وقت الحاجة ، إن كان فيها منفعة لكم ، أو دفع مضرة . " قالوا ضلوا عنا " أي :اضمحلوا وبطلوا ،وليسوا مغنين عنا من عذاب الله من شيء ." وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين "" مستحقين للعذاب المهين الدائم .(1/213)
5*? أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ*وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ *الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ*وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ * وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ * ? (يس : 60 - 70 )
( قال ألإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير (774 هـ ) رحمه الله
قوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} هذا تقريع من الله تعالى للكفرة من بني آدم, الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين, وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم, ولهذا قال تعالى: {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} أي قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان, وأمرتكم بعبادتي, وهذا هو الصراط المستقيم, فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به ولهذا قال عز وجل: {ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً} يقال: جبلاً بكسر الجيم وتشديد اللام, ويقال جبلاً بضم الجيم والباء وتخفيف اللام, ومنهم من يسكن الباء, والمراد بذلك الخلق الكثير, قاله مجاهد وقتادة والسدي وسفيان بن عيينة.(1/214)
وقوله تعالى: {أفلم تكونوا تعقلون} أي أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته وحده لا شريك له, وعدولكم إلى اتباع الشيطان. قال ابن جريج: حدثنا أبو كريب, حدثنا عبدالرحمن بن محمد المحاربي عن إسماعيل بن رافع عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( قال: إذا كان يوم القيامة, أمر الله تعالى جهنم, فيخرج منها عنق ساطع مظلم يقول {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون} {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} فيتميز الناس ويجثون, وهي التي يقول الله عز وجل: {وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعلمون}".
** هََذِهِ جَهَنّمُ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىَ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىَ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصّرَاطَ فَأَنّىَ يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىَ مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ
يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة وقد برزت الجحيم لهم تقريعاً وتوبيخاً {هذه جهنم التي كنتم توعدون} أي هذه التي حذرتكم الرسل, فكذبتموهم {اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون} كما قال تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون}. وقوله تعالى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترحوه في الدنيا, ويحلفون ما فعلوه, فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت.(1/215)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة, حدثنا منجاب بن الحارث التميمي, حدثنا أبو عامر الأزدي, حدثنا سفيان عن عبيد المكتب عن الفضيل بن عمرو عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا عند النبي ( , فضحك حتى بدت نواجذه, ثم قال ( : "أتدرون ممّ أضحك ؟" قلنا: الله ورسوله أعلم , قال (: "من مجادلة العبد ربه يوم القيامة, يقول رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول: بلى, فيقول: لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي, فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً, والكرام الكاتبين شهوداً, فيختم على فيه, ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله, ثم يخلى بينه وبين الكلام, فيقول: بعداً لكن وسحقاً, فعنكن كنت أناضل" وقد رواه مسلم والنسائي, كلاهما عن أبي بكر بن أبي النضر عن أبي النضر, عن عبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي, عن سفيان هو الثوري به. ثم قال النسائي: لا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي, وهو حديث غريب, والله تعالى أعلم, كذا قال. وقد تقدم من رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو الأسدي وهو العقدي عن سفيان.(1/216)
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي ( , قال: "إنكم تدعون مفدماً على أفواهكم بالفدام, فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه, رواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به, وقال سفيان بن عيينة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله (في حديث القيامة الطويل, قال فيه: "ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت ؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك, وصمت وصليت وتصدقت, ويثني بخير ما استطاع ـ قال ـ فيقال له: ألا نبعث عليك شاهدنا ؟ ـ قال ـ فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه, فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي ـ قال ـ فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل وذلك المنافق, وذلك ليعذر من نفسه, وذلك الذي سخط الله تعالى عليه" ورواه مسلم وأبو داود من حديث سفيان بن عيينة به بطوله.
ثم قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله (يقول: "إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه, فخذه من الرجل اليسرى" وروى ابن جرير عن محمد بن عوف عن عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن عياش به مثله. وقد جود إسناده الإمام أحمد رحمه الله, فقال: حدثنا الحكم بن نافع, حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد الحضرمي عمن حدثه, عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: "إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال".(1/217)
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, حدثنا يونس بن عبيد عن حميد بن هلال قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى هو الأشعري رضي الله عنه: يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة, فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه, فيعترف فيقول: نعم أي رب عملت عملت عملت, قال: فيغفر الله تعالى له ذنوبه ويستره منها, قال: فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئاً وتبدو حسناته, فود أن الناس كلهم يرونها, ويدعى الكافر والمنافق للحساب, فيعرض عليه ربه عمله فيجحد ويقول: أي رب وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل, فيقول له الملك: أما علمت كذا يوم كذا في مكان كذا ؟ فيقول: لا وعزتك أي رب ما عملته, فإذا فعل ذلك ختم الله على فيه, قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى, ثم تلا {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون}.
وقوله تبارك وتعالى: {ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: يقول ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى, فكيف يهتدون ؟ وقال مرة: أعميناهم: وقال الحسن البصري: لو شاء الله لطمس على أعينهم فجعلهم عمياً يترددون. وقال السدي: يقول ولو نشاء أعمينا أبصارهم. وقال مجاهد وأبو صالح وقتادة والسدي: فاستبقوا الصراط, يعني الطريق. وقال ابن زيد: يعني بالصراط ههنا الحق, فأنى يبصرون وقد طمسنا على أعينهم. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فأنى يبصرون} لا يبصرون الحق.(1/218)
وقوله عز وجل: {ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم} قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أهلكناهم. وقال السدي: يعني لغيرنا خلقهم. وقال أبو صالح: لجعلناهم حجارة. وقال الحسن البصري وقتادة: لأقعدهم على أرجلهم, ولهذا قال تبارك وتعالى: {فما استطاعوا مضياً} أي إلى أمام {ولا يرجعون} إلى وراء بل يلزمون حالاً واحداً لا يتقدمون و لا يتأخرون.
** وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ * وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مّبِينٌ * لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ
يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره, رد إلى الضعف بعد القوة, والعجز بعد النشاط, كما قال تبارك وتعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} وقال عز وجل: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً} والمراد من هذا ـ والله أعلم الإخبار عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال, لا دار دوام واسقرار, ولهذا قال عز وجل: {أفلا يعقلون} أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم, ثم صيرورتهم إلى سن الشيبة, ثم إلى الشيخوخة ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى لا زوال لها ولا انتقال منها ولا محيد عنها, وهي الدار الاَخرة.(1/219)
وقوله تبارك وتعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} يقول عز وجل مخبراً عن نبيه محمد ( أنه ما علمه الشعر {وما ينبغي له} أي ما هو في طبعه فلا يحسنه ولا يحبه ولا تقتضيه جبلته, ولهذا ورد أنه (كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه. وقال أبو زرعة الرازي: حدثنا إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن الشعبي أنه قال: ما ولد عبد المطلب ذكراً ولا أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله (, ذكره ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب الذي أكله الأسد بالزرقاء. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن هو البصري قال: إن رسول الله (كان يتمثل بهذا البيت:كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً ... فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله :كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
قال أبو بكر أو عمر رضي الله عنهما: أشهد أنك رسول الله, يقول تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} وهكذا روى البيهقي في الدلائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه "أنت القائل:أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة ؟ فقال: إنما هو عيينة والأقرع, فقال (: "الكل سواء" يعني في المعنى, صلوات الله وسلامه عليه, والله أعلم.(1/220)
وقد ذكر السهيلي في الروض الأنف لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في كلامه ( في هذا البيت مناسبة أغرب فيها, حاصلها شرف الأقرع بن حابس على عيينة بن بدر الفزاري لأنه ارتد أيام الصديق رضي الله عنه بخلاف ذاك, والله أعلم, وهكذا روى الأموي في مغازيه أن رسول الله ( جعل يمشي بين القتلى يوم بدر وهو يقول "نفلق هاماً" فيقول الصديق رضي الله عنه متمماً للبيت: من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما ...وهذا لبعض الشعراء العرب في قصيدة له وهي في الحماسة. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم: حدثنا مغيرة عن الشعبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ( إذا استراث الخبر تمثل فيه ببيت طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود ـ وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة من طريق إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عنها. ورواه الترمذي والنسائي أيضاً من حديث المقدام بن شريح بن هانىء عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها كذلك, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا أسامة عن زائدة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كان رسول الله ( يتمثل من الأشعار: * ويأتك بالأخبار من لم تزود * ثم قال, ورواه غير زائدة عن سماك عن عطية عن عائشة رضي الله عنها, هذا في شعر طرفة بن العبد في معلقته المشهورة, وهذا المذكور منها أوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع لهبتاتاً ولم تضرب له وقت موعد(1/221)
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: قيل لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله ( يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت رضي الله عنها: كان أبغض الحديث إليه, غير أنه ( كان يتمثل ببيت أخي بني قيس, فيجعل أوله آخره, وآخره أوله, فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هذا هكذا يا رسول الله, فقال رسول الله ( : "إني والله ما أنا بشاعر وما ينبغي لي" رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وهذا لفظه. وقال معمر عن قتادة: بلغني أن عائشة رضي الله عنها سئلت: هل كان رسول الله ( يتمثل بشيء من الشعر ؟ فقالت رضي الله عنها: لا. إلا بيت طرفة.
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل ( يقول: "من لم تزود بالأخبار" فقال أبو بكر: ليس هذا هكذا, فقال ( : "إني لست بشاعر ولا ينبغي لي" وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم وكيل المتقي ببغداد, حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير, حدثنا علي بن عمرو الأنصاري, حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما جمع رسول الله( بيت شعر قط إلا بيتاً واحداً.
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما يقال لشيء كان إِلا تحققا
سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي عن هذا الحديث فقال: هو منكر, ولم يعرف شيخ الحاكم و لا الضرير, وثبت في الصحيح أنه ( تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه, ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي الله عنهم, فإنهم كانوا يرتجزون وهم يحفرون فيقولون:
لا همّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأُلى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع (صوته بقوله أبينا ويمدها, وقد روى هذا بزحاف في الصحيحين أيضاً, وكذا ثبت أنه (قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو: ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب )(1/222)
لكن قالوا هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر, بل جرى على اللسان من غير قصد إليه, وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه, قال: كنا مع رسول الله ( في غار, فنكبت أصبعه, فقال ( : هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت....
وكل هذا لا ينافي كونه ( ما علم شعراً وما ينبغي له, فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش, ولا كهانة, ولا مفتعل, ولا سحر يؤثر, كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال, وقد كانت سجيته ( تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً, كما رواه أبو داود قال: حدثنا عبيد الله بن عمر, حدثنا عبد الله بن يزيد, حدثنا سعيد بن أبي أيوب, حدثنا شرحبيل بن يزيد المعافري عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله ( يقول: "ما أبالي ما أوتيت إن أنا شربت ترياقاً, أو تعلقت تميمة, أو قلت الشعر من قبل نفسي" تفرد به أبو داود
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الأسود بن شيبان عن أبي نوفل قال: سألت عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله ( بسائغ عنده الشعر ؟ فقالت: قد كان أبغض الحديث إليه. وقال عن عائشة رضي عنها: كان رسول الله ( يعجبه الجوامع من الدعاء, ويدع ما بين ذلك: وقال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي: حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( "لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً" انفرد به من هذا الوجه, وإسناده على شرط الشيخين, ولم يخرجاه.(1/223)
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا قزعة بن سويد الباهلي عن عاص بن مخلد عن أبي الأشعث الصنعاني (ح) وحدثنا الأشيب, فقال عن أبي عاصم عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( "من قرض بيت شعر بعد العشاء الاَخرة, لم تقبل له صلاة تلك الليلة," وهذا حديث غريب من هذا الوجه, ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة, والمراد بذلك نظمه لا إنشاده, والله أعلم, على أن من الشعر ما هو مشروع, وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام, كحسان بن ثابت رضي الله عنه, وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة وأمثالهم وأضرابهم رضي الله عنهم أجمعين, ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب, كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية, ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه رسول الله ( : "آمن شعره, وكفر قلبه" وقد أنشد بعض الصحابة رضي الله عنهم للنبي ( مائة بيت يقول عقب كل بيت "هيه" يعني يستطعمه, فيزيده من ذلك, وقد روى أبو داود من حديث أبي بن كعب وبريده بن الحصيب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله ( قال: "إن من البيان سحراً, وإن من الشعر حكماً" ولهذا قال تعالى: {وما علمناه الشعر} يعني محمداً ( ما علمه الله الشعر "وما ينبغي له} أي وما يصلح له {إن هو ذكر وقرآن مبين} أي ما هذا الذي علمناه {إلا ذكر وقرآن مبين} أي بيّن واضح جلي لمن تأمله وتدبره, ولهذا قال تعالى: {لينذر من كان حياً} أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض, كقوله: {لأنذركم به ومن بلغ} وقال جل وعلا: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وإنما ينتفع بنذارته من هو حي القلب مستنير البصيرة, كما قال قتادة: حي القلب حي البصر. وقال الضحاك يعني عاقلاً {ويحق القول على الكافرين} أي هو رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين.
( وقال الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ( 1376 هـ ) رحمه الله(1/224)
"ألم أعهد إليكم " أي : ألم آمركم وأوصيكم ، على ألسنة رسلي ، وأقول لكم : " يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان "
أي : لا تطيعوه ؟ وهذا التوبيخ ، يدخل فيه التوبيخ عن جميع أنواع الكفر والمعاصي ، لأنها كلها طاعة للشيطان ، وعبادة له . " إنه لكم عدو مبين " فحذرتكم منه ، غاية التحذير ، وأنذرتكم عن طاعته ، وأخبرتكم بما يدعوكم إليه ، ( و ) أمرتكم " وأن اعبدوني " بامتثال أوامري وترك زواجري . " هذا " أي : عبادتي وطاعتي ، ومعصية الشيطان
" صراط مستقيم " . فعلوم الصراط المستقيم وأعماله ، ترجع إلى هذين الأمرين . أي : فلم تحفظوا عهدي ، ولم تعلموا بوصيتي ، " ولقد " واليتم عدوكم ، وهو الشيطان ، الذي " أضل منكم جبلا كثيرا " أي : خلقا كثيرا . " أفلم تكونوا تعقلون " أي : فلا كان لكم عقل ، يأمركم بموالاة ربكم ، ووليكم الحق ، ويزجركم عن اتخاذ أعدى الأعداء لكم وليا ، فلو كان لكم عقل صحيح لما فعلتم ذلك . فإذا أطعتم الشيطان ، وعاديتم الرحمن ، وكذبتم بلقائه ، ووردتم القيامة دار الجزاء ، وحق عليكم القول بالعذاب " هذه جهنم التي كنتم توعدون " وتكذبون بها ، فانظروا إليها عيانا ، فهناك تنزعج منهم القلوب ، وتزوغ الأبصار ، ويحصل الفزع الأكبر . ثم يكمل ذلك ، بأن يؤمر بهم إلى النار ، ويقال لهم : " اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون " أي : ادخلوها على وجه تصلاكم ، ويحيط بكم حرها ، ويبلغ منكم كل مبلغ ، بسبب كفركم بآيات الله ، وتكذيبكم لرسل الله . قال تعالى في بيان وصفهم الفظيع ، في دار الشقاء(1/225)
" اليوم نختم على أفواههم " بأن نجعلهم خرسا ، فلا يتكلمون ، فلا يقدرون على إنكار ما علموه ، من الكفر ، والتكذيب . " وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " أي : تشهد عليهم أعضاؤهم بما علموه ، وينطقها الذي أنطق كل شيء . " ولو نشاء لطمسنا على أعينهم " بأن نذهب أبصارهم ، كما طمسنا على نطقهم . " فاستبقوا الصراط " أي : فبادروا إليه؛ لأنه الطريق إلى الوصول إلى الجنة " فأنى يبصرون " وقد طمست أبصارهم .
" ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم " أي : لأذهبنا حركتهم " فما استطاعوا مضيا " إلى الأمام " ولا يرجعون "(1/226)
إلى ورائهم ، ليبعدوا عن النار . والمعنى : أن هؤلاء الكفار ، حقت عليهم كلمة العذاب ، ولم يكن بد من عقابهم . وفي ذلك الموطن ، ما ثم إلا النار قد برزت ، وليس لأحد نجاة إلا بالعبور على الصراط . وهذا لا يستطيعه إلا أهل الإيمان ، الذي يمشون في نورهم . وأما هؤلاء ، فليس لهم عند الله من عهد في النجاة من النار . فإن شاء طمس أعينهم ، وأبقى حركتهم ، فلم يهتدوا إلى الصراط لو استبقوا إليه وبادروه . وإن شاء ، أذهب حراكهم ، فلم يستطيعوا التقدم ولا التأخر . والمقصود : أنهم لا يعبرونه ، فلا تحصل لهم النجاة . " ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون " يقول تعالى : " ومن نعمره " من بني آدم " ننكسه في الخلق " أي : يعود إلى الحالة التي ابتدأ منها ، حالة الضعف ، ضعف العقل ، وضعف القوة . " أفلا يعقلون " أن الآدمي ناقص من كل وجه ، فيتداركوا قولهم وعقولهم ، فيستعملوها في طاعة ربهم . " وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين " ينزه تعالى نبيه محمدا ( عما رماه به المشركون ، من أنه شاعر ، وأن الذي جاء به شعر فقال : " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " أن يكون شاعرا ،أي : هذا من جنس المحال ، أن يكون شاعرا؛ لأنه رشيد مهتد ، والشعراء غاوون ، يتبعهم الغاوون . ولأن الله تعالى ، حسم جميع الشبه ، التي يتعلق بها الضالون ، عن رسوله . فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ ، وأخبر أنه ما علمه الشعر ، وما ينبغي له " إن هو إلا ذكر وقرآن مبين " أي : ما هذا الذي جاء به إلا ذكر يتذكر به أولو الألباب ، جميع المطالب الدينية ، فهو مشتمل عليها ، أتم اشتمال وهو يذكر العقول ، ما ركز الله في فطرها من الأمر بكل حسن ، والنهي عن كل قبيح . " وقرآن مبين "(1/227)
أي : مبين لما يطلب بيانه . ولهذا حذف المعمول ، ليدل على أنه مبين لجميع الحق ، بأدلته التفصيلية ، والإجمالية ، والباطل وأدلة بطلانه ، وأنزله الله كذلك على رسوله ." لينذر من كان حيا " أي : حي القلب واعيه ، فهو الذي يزكو على هذا القرآن . وهو الذي يزداد من العلم منه والعمل ، ويكون القرآن لقلبه ، بمنزلة المطر للأرض الطيبة الزاكية . " ويحق القول على الكافرين " لأنهم قامت عليهم به حجة الله ، وانقطع احتجاجهم ، فلم يبق لهم أدنى عذر وشبهة يدلون بها ...........
******* * *************************************** * *********
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
************************************************************
كان الفراغ من جمعه وتنسيقه
يوم 4 صفر الخير 1427
أبو يوسف محمد زايد(1/228)