بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة حق أَرْسَل الله بها الأولين والآخرين، مبشرين ومنذرين، فانقسم الناس بها إلى مؤمنين وكافرين، فكانت السعادة لمن آمن واهتدى وكانت الشقاوة لمن ضلَّ وغوى، والصلاة والسلام على هادي البشرية الموصوف بتمام الأخلاق وكمالها وعظمتها، المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
وبعد:
* ما أجمل الدنيا يوم أن تشع بضياء الإيمان ويوم أن تمطر بقطرات كلها أمن وأمان على قلب مليء بالحرمان.
ما أجملها يوم أن يسعى فيها الإنسان نحو الأفضل ليحيا كريمًا، ويموت حميدًا، الكل أو بعضٌ من الكل يثني على كريم خصاله وسمو أخلاقه وارتفاع إنسانيته، وكم هم الحالمون بعالم يحيا بسلام يبحثون عنه هنا وهناك، بعيدًا عن دكتاتورية عصر الألفية الذي يسعى لإيجاد حل لمأزقه الذي يمر به، فمن حرب ودمار وتشريد لأطفال إلى فوضى أخلاقية وحزبية وطائفية، إلى العبث الماجن الذي بدأ يتسلل لمعاشر المسلمين من بنين وبنات صغارًا وكبارًا، فأصبحنا نحن الفتيات المسلمات نبحث عن حل عند ذوي القلوب الرؤوفة الرحيمة، علنا نجدُ مسلكًا وطريقًا، وكأني بتلك العيون الشاردة والعقول الحائرة تنادي: هل من سبيل هل من مخرج ؟، فلقد بلغ السيل الزُبا، وطال ليل الحرمان وشهدنا مآسي وأحزانًا.
فاحتضنتنا قلوب لا تعرف إلا الهوى والهوان، وآذان لا تسمع إلا مزامر الشيطان، وها نحن – إلا من حفظ الله – أصبحنا بأخلاقياتنا العوجاء لا نرحمُ صغيرًا، ولا نحترمُ كبيرًا، ولا نعرفُ لعالم قدره.(1/1)
عجزت فنون الغرب أن تهذبنا وليالي السمر أن تسعدنا، عجزت بيوت الشعر أن تُنشد أحرفًا تسطرُ أمانينا، نعم عجزت.. نعم عجزت.. كم من فتاة وامرأة ضائعة بكل ما تعنيه كلمة الضياع؛ ضياع أخلاقي، ضياع أسري، ضياع ديني، ضياع اجتماعي، لا تعرف برًا ولا صلة رحم، لا تعرف إخاءً في الله ولا قلبًا رحيمًا على بني الإنسان، وإن وجد شيء من ذلك فُقد أشياء أخرى هي أساس الراحة والاطمئنان في هذه الحياة وكما قلت إلا من حفظ الله.
إن السؤال الملح على النفس: ماذا جنينا من أخلاقياتنا التي قد تكون في بعض الأحيان عوجاء؟ وماذا جنى المجتمع بأسره ؟ إنها حرقة لا يعلمها إلا من أمعن النظر والتفكير في أحوالنا نحن الفتيات المسلمات، ومن أمعنتْ وفكرتْ قليلاً ستجد في طريقها من تشتكي همومًا لا تنقطع، ومشاكل لا تنتهي مع من هم حولها «الأسرة – الأصدقاء – المحيطون من المعارف» ستجدين من همها الزمر والطبل، وحب كل من له في كل وادٍ فن، ثم تأتيك تشتكي من الهم والفراغ والطفش و ... ولك الحرية في الإكمال وحرية التعبير عن كل ما تعانيه تلك وأمثالها.
وبعد ذلك أصبح المجتمع يعاني من حب الذات والأنانية، وتجاهل مشاعر الآخرين، وحرية التصرف دون وازع من خلق أو دين.
ولأن الضائع يا أُخية والضال يظل دائمًا يحاسب نفسه على تفريطه وإهماله، يظل يبحث عن ضالته حتى يجدها جاهدًا نفسه، يظل يسأل ويسأل علَّ قلبًا رحيمًا مشفقًا ناصحًا يدله على الطريق الموصل للأمن من أجل ذلك كله جئناك أُخية ومعنا كلمة صادقة علَّ قلبك وعقلك يقبلها وينتفع بها، شعارنا قوله تعالى: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات: 55].
أخيتي: إن طريق الحق واحد يا حبيبتي في الرحمن، طريق عرفه الأولون والآخرون، طريق أتباع شرع الله وهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/2)
إن منا يا أخية مَن منَّ الله عليها بالهداية والإيمان، ومنا من هي حيرى لا إلى ذلك ولا إلى ذلك، لكننا في بعض الأحيان متساوون أو مختلفون، ومنبع التساوي أو الاختلاف في اتباع الشرع، قال تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } [النساء: 80].
ما أحوجنا – حبيبتي في الله – إلى الرجوع إلى صفحات السيرة النبوية العطرة، التي يجد الحالم فيها أمانيه، والمحروم حاجته ومقصده، تلك السيرة التي جملتها الأخلاق النبيلة الفاضلة، التي كلما بعدنا عنها ضجَّ عالمنا بفوضى أخلاقية عارمة، ولم لا نحتاج إلى الرجوع إليها وهي الأخلاق الإسلامية الفاضلة.
لم يا أخية لا نرجع إليها وهي شيء أساسي ينادي ربه حتى الكافرات على الرغم من كفرهن، ولأنهم أدركوا قيمتها في جذب المسلمين، وحملوا أنفسهم مهمة تكفير المسلمين والمسلمات في قضية التبشير، فاختاروا المبشرين المتحلين بالأخلاق «فوجهوا وصاياهم ونصائحهم لهم بأن يتحلوا بها، واهتموا بانتقاء الأشخاص الذين لهم من الصفات ما يجعل لهم جاذبية، ويحبب الناس بهم، ليكون تأثيرهم أعظم، وليقربهم من قلوب المجموعات التي يتولون التأثير فيها. وكم كنا نشاهد مبلغ الأناقة التي يظهر بها «الفريرات» وهم الإخوة والأخوات من الرهبان والراهبات في مدارس التبشير بالنصرانية، أو المدارس التي تتظاهر بالعلمانية (اللايبك)، وكم كنا نشاهد مبلغ توددهم لطلابهم وطالباتهم وتأثيرهم فيهم بما يظهرون به من أناقة ونظام، وبما يعاملونهم به من رقة ولطف وإحسان وتودد» (1) .
قيمة الأخلاق
__________
(1) «غزو في الصميم»، الميداني، ص(143).(1/3)
أخيتي في الله: إن للأخلاق الفاضلة قيمةً عظيمةً إذ لولا تحلِّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها لما استمرت الدعوة قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 4]، ولما استمر هذا الدين الذي أولى الأخلاق عناية فائقة، عناية تفوق الديانات الأخرى، فهو دين «يحرص على سلامة المجتمع، وأن يعيش الناس في وئام ووفاق، لا منازعات بيتهم ولا خصومات، كما يحرص على سلامة الفرد وأن يعيش في هذه الدنيا سعيدًا يألف ويؤلف، ويكرم ولا يؤذى، ويخرج منها فائزًا رابحًا» (1) .
حبيبتي في الرحمن: لو فتشنا بين جموع خلق الله لوجدنا أناسًا سعداء يعيشون ويتلذذون بالراحة والطمأنينة، وإن وجد في الكافرين سعداء لوجدتهم أناسًا قد نالوا قسطًا وافرًا من رقة القلب الرحيم والعقل الحكيم، ومزيجًا من أخلاقيات تهفو إليها النفوس وترتاح، بعيدًا عن فظاظة الطبع وغلظة القلب، وإذ لولاها – يا أخية – لما عرفنا الحب والإيثار بمعانيه السامية، والرأفة والرحمة في صورها المتعددة، والحياء الذي يجمل رؤوس المسلمات الطاهرات العفيفات، والصدق الذي يغشى الصالحات (صدق مع الله وصدق مع الناس) وغيرها من أخلاقيات، ومن ينظر في حالنا يعرف مدى حاجتنا لهذه المعاني الجميلة.
__________
(1) «الوافي في شرح الأربعين النووية»، مصطفى البغا، محيى الدين مستو، ص(90).(1/4)
لقد أهملنا كثيرًا من أمور ديننا – عفا الله عنا وعن جميع المسلمين – فكم نرى من يغتر بالحياة الدنيا، ويجعل كل همه أن يحقق مصالحه في هذه الدنيا قبل أن يموت، فهو يتكالب على أطماع الدنيا، يأخذها من حلال أو حرام، لا يهمه أن يُلحق ضررًا بغيره، وفي كل مرة يحاول الهروب من واقع المعاناة ولكن دون إيجاد حل لها وهو يأخذ منحنى سلبيًّا يؤدي إلى تزاحم أكوام من الزلات والعثرات الماضية، والرغبة المستقبلية في تصيد الأخطاء والتشفي عند مرور ما يستدعي ذلك، حيث يفرز ذلك كراهية ممقوتة وحسدًا وبغضًا يعاني منه من يحمله قبل أن يوجهه للآخرين، وهذا هو مقصد الشيطان وغايته، وهذا هو ما حذرنا منه الله عز وجل، قال تعالى: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا } [الإسراء: 53].
وحتى نأخذ – يا أُخيتي – ذلك المنحنى الإيجابي وهو الذي يسعى لإيجاد الطريق الآمن؛ لعلاج تلك الأخلاقيات التي نعاني منها، أو نمر بها، أو يعاني منها الآخرون نتيجة سلوكياتنا الخاطئة.
تعالي معي، يدي بيدك، وخطواتي تلازم خطواتك، لنمشي في هذا الطريق الآمن يا أُخية.
ولكن عليك بالتزام التعليمات التالية:
أولاً: اللهم كما حَسَّنت خَلْقي فحسِّن خُلقي.
«الدعاء سلاح قوي يستخدمه المسلم في جلب الخير أو دفع الضر بإذن الله تعالى، وينبغي أن يكون المسلم على صلة بربه في سرائه وضرائه، وفي شدته ورضائه، وفي عسره ويسره، فالاستعانة بالله فرار إليه، وتوجه إليه، وتعلق به وطلب العون منه، استعانة عاجز إلى عظيم» (1) .
فعليك أخية بترديد «اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.. اللهم كما حَسَّنت خَلْقي فحسِّن خُلقي».
__________
(1) «اتق دعوة المظلوم».(1/5)
ثانيًا: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ } .
لقد بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسمى درجات الرقي الإنساني، رقي جعل القلوب تهفو إليه، والآذان تصغي لكل كلمة ينطق بها، فاشتاقت له النفوس وأحبته وآمنت به، وآثرته على الأهل والمال والولد، كان ذا قلب رؤوف رحيم وكلمات نافعة جميلة، يرحم الصغير ويحترم الكبير، ويعطف على الضعيف، ما كان يكره أو يحمل حقدًا أو كراهية على أحد من المسلمين، يعفو ويصفح وهو الكريم ابن الكريم ملك القلوب بعفوه ورحمته، عن أنس خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كنت أمشي مع رسول الله وعليه بُرْدٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذةً شديدة، ورجع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في نحر الأعرابي، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء».
وعن عائشة قالت: «لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا، ولا متفحشًا، ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح».
ومن يقرأ سيرة هذا القدوة - صلى الله عليه وسلم - لوجد العجب العجاب من كريم الخصال، فلنقتدي به، والاقتداء به دليل على حبه - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران: 13].
ثالثًا: حذار.. حذار في الطريق منحدر:(1/6)
إن من الأمور التي تساعد المسلمة على المضي في طريق الأخلاق الطيبة التي رغبنا الله فيها ورسوله - صلى الله عليه وسلم - «التأمل في المحاذير التي حذر الله منها النكدين المتشددين العسيرين، وما يجلبه لهم خلقهم وظواهره السلوكية من مضار عاجلة وآجلة ومتاعب، وكل ما يهمه هو مصلحته الشخصية، وبهذه الروح الأنانية يتفكك المجتمع، وتفسد المعاملة بين أبنائه، ويكون بعضهم حربًا على بعضه» (1) .
معاناة أخلاقية
كأن الدنيا لا تسعها، وكأن الجميع أمامها قطع أثاث قد تضربها إذا ما اعترضتها في طريقها، وكأن والديها نوع من ذلك الأثاث، أسلوب جاف، وطريقة تعامل خاطئة، وارتفاع للصوت في غالب الأحيان، وإذا ما قلتِ لها «عيب عليك أمك.. عيب عليك أبوك» فالإجابة جاهزة: لقد اعتادا على هذه الطريقة.. أنا لا أستطيع أن أغير أسلوبي..
* ذات يوم رأيتها تكيل لها الشتائم وتلعنها وتنهرها بشدة، بل ربما يومًا ضربتها لأنها لم تقدم لمخدومتها ما طلبته بالطريقة التي تريد، وليتها تلك الخادمة اعترضتها في وقت هي غاضبة، أو حدث لها موقف أنساها سوء تصرفها هذا، بل هي في جو الجميعُ فيه فرح لمناسبة هم فيها، دون أن يكون هناك أي ضغط نفسي.
* تجرأت عليها طالبة من طالبتها وتعالت ودون حياءٍ قالت: «كما أنت الآن معلمة سأكون أنا يومًا مثلك»، وأخرى تقول عن معلماتها: «إنهن عوانس.. أو يالعوانس»، وأخرى تقول على معلمتها: «تتدلع علينا بشهادتها» بل وأخريات بلغ بهن الأمر ضرب المعلمة وإهانتها.. وأترك لكنَّ ضرب أمثلة أخرى تشهد على سوء معاملة الطالبات للمعلمات.
__________
(1) «كتاب التوحيد»، عبد المجيد الزنداني (1/13).(1/7)
* أنكرت على معلمتها ذات يوم لأنها ارتكبت محظورًا شرعيًّا وبأسلوب لبق، سطرت لها كلمات تذكرها بالله عز وجل أولاً خوفًا عليها من لعن الله وغضبه عليها، وثانيًا لما تكنه من محبة صادقة لهذه المعلمة، وماذا كان الرد من المعلمة إنها سخافة ثم مزقت الرسالة إهانة لها أمام إحدى قريبات تلك الطالبة، وقالت: من هي حتى تتجرأ وتبعث لي برسالة، وتخاطب تلك القريبة التي فوجئت بمعلمتها تتصرف بهذا الأسلوب، وتردف قائلة: تذكري من أنت ومن أهلك؟ وغيرها من الكلمات التي من الصعب أن تتعامل بها معلمة، فكيف إذا كانت معلمة الدين.
* إن وجود معلمة مسالمة مع معلمة سليطة اللسان يؤدي إلى وجو معاناة. قالت: إنني أعاني منها ومن لسانها السليط وقدرتها على قذفي وقذف الأخريات دون تحرج أمامهن.
* قالت: كانت ذات يوم خارجة إلى السوق، وبعد أن أفطرت هي ومجموعة صغيرة من أهلها ذهبت إلى إحدى البوفيهات المتواجدة في السوق وقفت للشراء، وإذا بفتاة لابسة عباءة على الكتف، وواضعة سماعات التسجيل في أذنيها، وتردد للأغنية بصوت مسموع، وتقوم بهز لأطراف جسمها وتصفق بيدها أو بإحدى أصابعها، قالت أختنا: أستغفر الله. ردت قائلة: ليه تستغفرين أو من إيش تستغفرين؟ قالت لها: ألا تخافين الله وذكرتها بالله، قالت بعد حوار: انظري أنت لهذه الخيمة التي تلبسينها.(1/8)
حبيبتي وأخيتي في الله لا أعتقد أنك تعارضين على وجود مثل هذه الأخلاقيات أو صور من المعاناة التي قد أعاني منها أنا أو أنت أو هي، وقد تكون جميع الأطراف مساعدة على وجود هذه الأنواع والصور من الأخلاقيات والسلوكيات الخاطئة، التي يكون لها مردود نفسي عميق على النفس، وذكريات مرة نحو الآخرين من الصعب نسيانها، ويمازج ذلك أو يعقبه رغبة عميقة نفسية في البكاء والإفصاح عما تحمله النفوس وتعانيه، وهذا يأخذ منحنى إيجابيًّا، ولكن حين يكون هناك كبت وآلام كثيرة، وخسارة مادية ومعنوية، إن من تلك الخسائر يا أخيتي في الله انعدام التقدير والاحترام المتبادل، وغياب المحبة الأخوية الصادقة التي هي سمة الصالحات، وتغير الأنفس نتيجة سوء التصرفات وجفاء المعاملة، والتعالي على الآخرين حتى تكون النهاية خاسرة، لأنك حينها ستخسرين من هم حولك، إن الله إذا أبغض عبدًا لفجوره وكبره وكثرة شره، بغض به جبريل، ثم أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله تعالى إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، ثم توضع له البغضاء في الأرض».
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون» (1) .
رابعًا: لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي:
__________
(1) «الأخلاق»، الميداني (2/263).(1/9)
إن «من وسائل اكتساب الأخلاق الحميدة صحبة الأتقياء والعلماء وذوي الأخلاق الفاضلة، ومجانبة الأشرار وذوي الفعال الدنيئة» (1) ، وأنت يا أختي كبقية البشر تعيشين مع الناس وتحتاجين إليهم فاختاري من تعينك على نفسك، وتقوِّم سلوكياتك، وتصحح ما اعوجَّ من أخلاقك دون خدش لمشاعرك وأحاسيسك، ولا تستصعبي المسألة فلقد كان أحد الصحابة رضوان الله عليهم يشكو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلظ طباعه وفحش لسانه فيرشده ويدله - صلى الله عليه وسلم - .
خامسًا: عاملي الناس بما تحبي أن يعاملوك والعكس بالعكس:
إن هذه القاعدة لهي شعار القلوب المرهفة الحساسة، وإن كان قلبك منهم فتمثلي بهذه القاعدة الجميلة، إنك ترحمين لأنك تحبين أن يرحمك الناس، وتستحين من قول الفحش وبذيء الكلام لأنك لا تحبين أن تقذفي أو تشتمي أو...
سادسًا: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا:
محاسبة النفس وإجراء مراجعات دقيقة لها في كل يوم كفيل في إعداد علاج فعال مساعد يضاف إلى تلك العلاجات السابقة، لأنها ستدفعك إلى التصحيح والاعتراف بالخطأ الصادر، ثم الرغبة في التنفيس بالبكاء والندم، ثم بيان وجهة نظرك للآخرين، وفتح باب النقاش والحوار الحر بعيدًا عن التعصب للآراء، وحتى يا أخيتي لا تمتلئ القلوب عليك حقدًا إن كنت خاطئة ولو حاولت تجاهل مشاعر الآخرين فإنك حتمًا لن تربحي، ولن تدوم لك راحة وأنت تنظرين لتلك الأعين التي ترمقك بكراهية، أو تكادين تكونين أمامها شبحًا مرعبًا يعاني منك كل من هم حولك، وتذكري أن «من حسُن خُلقه طابت معيشته ودامت سلامته في الغالب، وتأكدت في النفوس محبته، ومن ساء خُلقه تنكدت عيشته ودامت بغضته ونفرت النفوس منه» (2) .
__________
(1) «الوافي في شرح الأربعين النووية»، مصطفى البغا، محيي الدين مستو، ص(129).
(2) «إيقاظ أولي الهمم إلى اغتنام الأيام الخالية»، عبد العزيز السلمان، ص(22).(1/10)
كيف يمكنني أن أجلب محبة الآخرين وأحظى مع ذلك بخلق رفيع محبب؟
(1) قدمي كلمات الثناء لكل من يستحقها، وبالذات ذوي الأخلاق الرفيعة.
(2) بري والديك، فهذا كفيل في تمتعك بالأخلاق الفاضلة واحترام الآخرين لك، ولا تنسي أن توجهي إشعارَ توجيهي لكل عاقة ومهملة لحاجات والديها، وبالذات من لا تهتم في مساعدة والدتها في أعمال المنزل، وإن طُلِب منها رأيت سيلاً من الحجج مقرونًا برفع الصوت والجفاء مع الأم المسكينة.
(3) اهتمي بحاجات الناس واقضي حوائجهم، ولا تعتبري أن فعل ذلك سيكون على حساب وقتك، وتذكري أن من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، مثلاً من يحتاج لتصوير أو طبع أوراق أو تقارير عاجلة أو فحوصات يحتاجها مريض، وإياك وإسباغ ذلك بذلك التعنت والتشديد غير المعتاد والتعسير على العباد [فرجي الكرب وأدخلي السرور على قلوب عباد الله].
(4) شاركي في المجالات الاجتماعية التي يكون فيها حل لمشاكل المجتمع، ساهمي في كتابة مقال أو نظم أبيات شعرية أو إعداد نشرات توجيهية، لا تتركي لأصحاب الكتابات المغرضة المجالَ في بث سمومهم بين بنات جنسك، ولقد بثوه – حسبنا الله ونعم الوكيل – ولكن يبقى لك دور.. لا تجعلي ذلك السم يصل لقلوب أخواتك الصالحات، وما وصل منه للبعض فعالجيه.
(5) ليكن لك دور في حل المشاكل التي تكاد تكثر، وبالذات، في محيط المدارس بين المعلمة والطالبة في بعض الأحيان، وفي المحيط الأسري بين الإخوة والأقارب، وتذكري الأجر والثواب الذي ستنالينه لإصلاحك بين المسلمين ورغبتك في تأليف القلوب.
(6) الدعاء بظهر الغيب لإخوانك المسلمين، وهذا كما قال العلماء دليل على توفر خلق الرحمة والعطاء في الإنسان، وتذكري أن ملكًا يقول كلما دعوتِ: ولك مثل ذلك.(1/11)
(7) احفظي معي هذه اللاءات الثلاث «لا للقسوة على الصغير.. لا لإهانة الكبير.. لا لجهل فضل العالم الجليل» قبلي رأس الكبيرات في السن، وادعي كل فتاة وامرأة بأحب الأسماء عندها.. داعبي الأطفال.. ساعدي معلمتك فيما تحتاجه، وإن عجزتِ فكُفِّي الأذى عن الجميع.
(8) زوري المرضى، وقدمي العزاء لأهل الموتى وقدمي الصدقات بأنواعها، ومنها التبسم والمشاركة في الأعمال الخيرية والتطوعية كالأطباق وتنظيم الحفلات التابعة لها، وكوني في عون الأرملة، وامسحي على رأس اليتيم، وابتعدي عن تلك العنصرية المفرقة، عنصرية: تلك سوداء، وتلك بيضاء، تلك بدوية، وتلك حضرية.
حوار صامت مع النفس:
أيًّا كنتِ طالبة، أو معلمة، أو مديرة، أو أختًا أو أمًّا، فأنت بحاجة إلى الآخرين، وبحاجة إلى الأخلاق، فإن كنت من ذوي الطبائع الصعبة فسوف تعانين وستواجهين عقبات كثيرة، وها أنا أطلب من نفسي ومنك الإجابة على هذه الأسئلة التي أعتقد أن فيها بدايةً لمشوار جديد في الحوار مع النفس بعيدًا عن مجاملتها، فهاك الأسئلة رعاك الله وسدد خطاك.
(1) هل أنت ممن يهتم بالسعي إلى تحقيق مصالحه دون الاهتمام بحاجات الآخرين؟
(2) هل شعرت يومًا أنك تحرمين غيرك من حرية التفكير أو حرية العمل؟
(3) هل سبق وأن اتهمك أحد بأنك إنسانة مغرورة ومعجبة بنفسك وتنالين قسطًا وافرًا من الكبر والتعالي أو بعضًا من هذا وذاك؟
(4) هل أنت شخصية غير محبوبة أو إنسانة لا تملك ثقة الآخرين واحترامهم؟
(5) هل من هم حولك ينفرون من أسلوبك؟
(6) هل أنت تتصفين بالتصلب والتشدد في الأمور خاصة إذا كان في الأمر فسحة؟
ختامًا:
لا شك أني قد أطلت الكلمات، ولكن لأهمية الموضوع حاجتنا إليه تطلب مزيدًا من الاهتمام.(1/12)
كل الرجاء أن تكون هذه الكلمات قد أخذت حيِّزًا في القلب وفي العقل، وكل الرجاء والطلب من رب الأرباب أن تكون كلماتٍ مباركةً وخالصةً لوجهه الكريم، وصلى الله على الحبيب المصطفى محمد بن عبد الله، والحمد لله رب العالمين.
قلبٌ ناصحٌ ومشفق
* * * *(1/13)