ناس لا يحبهم الْقهَّار
من الكتاب والسنة والآثار
تأليف
أبو يوسف محمد زايد
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله ،نحمده حمد الفقراء إليه،هو ربنا الغني الحميد ؛ ونشكر له شكر المحتاجين السائلين من فضله المزيد .. لا إله إلا هو وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، يحب من عباده من اتبع هداه ، وتمسك بما جاء به خيرُ خلقه أجمعين ،خاتمُ الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى ءاله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ؛ فتحلى بمكارم الأخلاق؛... ويبغض من عبيده من اتخذ إلهه هواه ، فأعرض عن ذكره وسنة نبيه ، وكان في قوله وفعله مغضبا لربه...
وأشهد أن لا إله إلا الله ،وأن محمدا رسول الله ؛ أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ،وكفى بالله شهيدا..
أما بعد، فتبعا لكتابي الآول الذي خصصته لمن يحبهم الله من عباده ، تحت عنوان : عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والآثار ؛ وجمعت فيه ما يسر الله لي من تفسير " آيات المحبة " ؛ هذا كتاب ثان أوردت فيه الآيات التي أخبر فيها رب العالمين عن أناس لا يحبهم ، مع ما جاء في تفسيرها ؛ وذلك في جولة مباركة رفقة ثلة من المفسرين : الطبري ، ابن كثير، القرطبي ، البغوي، الشوكاني ، السعدي .. رحمهم الله وجميع أئمة الاسلم؛ وختمته بجملة من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ذكر فيها ناسا لا يحبهم الخالق الباريء المصور؛ لذميم أخلاقهم، وقبيح أفعالهم وخبيث أقوالهم... وسميته : ناس لا يحبهم القهار من الكتاب والسنة والآثار..(1/1)
أسأل الله القريب المجيب أن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، وأن ينفع به ؛ كما أسأله التوفيق والسداد للقائمين على هذا الموقع الذي أعتبره منبعا عذبا زلالا لكل من أحب أن يغترف منه ما به يروي ظمأه، ويشفي غلته...وأن يجزيهم الله أجزل الخير وأوفاه على ما يقدمونه لطلاب العلم النافع ، ذلكم الثلث الذي يبقى وأخويه: دعاء الولد الصالح والصدقة الجارية ، بعد الرحيل إلى دار القرار...
( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ... اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبنا ، ورحمتك أرجى عندنا من كل شيء ، إلا منك ومن رحمتك ، أنت أرحم الراحمين ربنا ..
1- (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّىَ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ) (البقرة : 187-190 )
قال ابن كثير رحمه الله(1/2)
قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية في قوله تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة, فلما نزلت كان رسول الله ( يقاتل من قاتله, ويكف عمن كف عنه, حتى نزلت سورة براءة, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, حتى قال: هذه منسوخة بقوله: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 5 ) وفي هذا نظر, لأن قوله (الذين يقاتلونكم) إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين هِمَّتُهم قتال الإسلام وأهله, أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم, كما قال: ( وقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة : 36 ) ولهذا قال في الاَية: ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ) أي لتكون هِمَّتُكم منبعثة على قتالهم, كما أنَّ هِمَّتَهم منبعثة على قتالكم, وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً. وقوله: ( وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ ) أي قاتلوا في سبيل الله, ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي, كما قاله الحسن البصري: من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم, والرهبان وأصحاب الصوامع, وتحريق الأشجار, وقتل الحيوان لغير مصلحة... كما قال ذلك ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان وغيرهم...(1/3)
ولهذا جاء في صحيح مسلم, عن بريدة أن رسول الله ( كان يقول: "اغزوا في سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله, اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع" ورواه الإمام أحمد ...
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله ( إذا بعث جيوشه قال :"اخرجوا باسم الله.. قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله .. لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" رواه الإمام أحمد,
ولأبي داود عن أنس مرفوعاً نحوه, وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: وجدت امرأة في بعض مغازي النبي ( مقتولة, فأنكر رسول الله ( قتل النساء والصبيان.
وقال الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن سلام, حدثنا الأحلج عن قيس بن أبي مسلم, عن ربعي بن حراش, قال: سمعت حذيفة يقول: ضرب لنا رسول الله ( أمثالاً واحداً وثلاثة وخمسة وسبعة وتسعة, وأحد عشر, فضرب لنا رسول الله ( منها مثلاً وترك سائرها, قال "إن قوماً كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداوة, فأظهر الله أهل الضعف عليهم, فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم, فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة" هذا حديث حسن الإسناد, ومعناه أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء فاعتدوا عليهم فاستعملوهم فيما لا يليق بهم, أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء, والأحاديث والاَثار في هذا كثيرة جداً.(1/4)
ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتل الرجال, نبه تعالى على أن ماهم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله, أبلغ وأشد وأعظم وأطم من القتل, ولهذا قال: ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ الْقَتْلِ ) قال أبو مالك: أي ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل. ولهذا قال: ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ الْقَتْلِ ), يقول الشرك أشد من القتل, وقوله: ( وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) كما جاء في الصحيحين "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, ولم يحل إلا ساعة من نهار وإنها ساعتي هذه, حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, لا يعضد شجره ولا يختلي خلاه, فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ( , فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم", يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهله يوم فتح مكة, فإنه فتحها عنوة وقتلت رجال منهم عند الخندمة, وقيل صلحاً لقوله "من أغلق بابه فهو آمن, ومن دخل المسجد فهو آمن, ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وقوله تعالى : (حَتّىَ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ } يقول تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدؤوكم بالقتال فيه, فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعاً للصائل, كما بايع النبي ( أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال, لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ, ثم كف الله القتال بينهم فقال : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (الفتح : 24) ... وقال (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء(1/5)
مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (الفتح : 25 ) ...
وقوله تعالى : ( فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ ) أي فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة, فإن الله يغفر ذنوبهم ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه, ثم أمر الله بقتال الكفار ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي شرك ، قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن حيان والسدي وزيد بن أسلم ؛ (وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ ) أي يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان, كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: سئل النبي ( عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء, أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وفي الصحيحين "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله".(1/6)
وقوله تعالى : ( فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ) ، يقول تعالى فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفُّوا عنهم, فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين, وهذا معنى قول مجاهد أن لا يقاتل إلا من قاتل أو يكون تقديره فإن انتهوا تخلصوا من الظلم وهو الشرك, فلا عدوان عليهم بعد ذلك, والمراد بالعدوان ههنا المعاقبة والمقاتلة كقوله: ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة : 194 ) }... وقوله: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا َ) (الشورى : 40 ) } وقوله :(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) (النحل : 126 ) ولهذا قال عكرمة وقتادة: الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله, وقال البخاري في قوله تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ) , حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع, عن ابن عمر قال: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي( فما يمنعك أن تخرج ؟ فقال يمنعني أن الله حرم دم أخي, قالا: ألم يقل الله : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) ؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله, وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة, وحتى يكون الدين لغير الله , وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب, أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمر المغافري, أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع, أن رجلاً أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتقيم عاماً وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل, وقد علمت ما رغب الله فيه ؟ فقال: يا ابن أخي بني(1/7)
الإسلام على خمس: الإيمان بالله ورسوله والصلوات الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت. قالوا: يا أبا عبد الرحمن, ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات : 9 ) وقال :( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) ؟ قال فعلنا على عهد رسول الله ( وكان الإسلام قليلاً, فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه أو عذبوه, حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة, قال فما قولك في علي وعثمان ؟ قال: أما عثمان فإن الله عفا عنه, وأما أنتم فكرهتم أن يعفو عنه, وأما علي فابن عمّ رسول الله ( وختنه, فأشار بيده, فقال: هذا بيته حيث ترون....
وقال القرطبي رحمه الله
الآية: 190 (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ)(1/8)
قوله تعالى: "وقاتلوا...." هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظوراً قبل الهجرة بقوله: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت : 34 ) وقوله: " (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة : 13 ) وقوله: " (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (المزّمِّل : 10 ) وقوله: "لسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (الغاشية: 22) وما كان مثله مما نزل بمكة. فلما هاجر إلى المدينة أُمِر بالقتال فنزل: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" قاله الربيع بن أنس وغيره.(1/9)
وروي عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في القتال: " (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج : 39 )..والأول أكثر، وأن آية الإذن إنما نزلت في القتال عامة لمن قاتل ولمن لم يقاتل من المشركين، وذلك أن النبي ( خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فلما نزل الحديبية بقرب مكة - والحديبية اسم بئر، فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر - فصده المشركون عن البيت، وأقام بالحديبية شهرا، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المستقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين، ورجع إلى المدينة. فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية، أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار. فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت من ظهورها، فكان ( يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه، حتى نزل " (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 5 ) فنسخت هذه الآية، قاله جماعة من العلماء. وقال ابن زيد والربيع: نسخها قوله تعالى : ( وقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة : 36 ) فأمر بالقتال لجميع الكفار.(1/10)
وقال ابن عباس وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد: هي محكمة أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم، على ما يأتي بيانه. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر، فأما السنة فحديث ابن عمر أن رسول الله ( رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان، رواه الأئمة. وأما النظر فإن "فاعَل" لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية، أخرجه مالك وغيره، وللعلماء فيهم صور ست:
الأولى: النساء إن قاتلن قتلن، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها، لعموم قوله: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم"، "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" [البقرة: 191]. وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار، وذلك يبيح قتلهن، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.
الثانية: الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل الصبي قُتل.(1/11)
الثالثة: الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد: "وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له" فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا. ولو ترهبت المرأة فروى أشهب أنها لا تهاج. وقال سحنون: لا يغير الترهب حكمها. قال القاضي أبو بكر بن العربي: "والصحيح عندي رواية أشهب، لأنها داخلة تحت قوله: "فذرهم وما حبسوا أنفسهم له".
الرابعة: الزمنى. قال سحنون: يقتلون. وقال ابن حبيب: لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة.
الخامسة: الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول الجماعة. والثاني: يقتل هو والراهب. والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيرا بين خمسة أشياء: القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية.
السادسة: العسفاء، وهم الأجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية. والأول أصح، لقوله (في حديث رباح بن الربيع (الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا). وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذي لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبدالعزيز لا يقتل حراثا، ذكره ابن المنذر.(1/12)
روى أشهب عن مالك أن المراد بقوله تعالى : "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" أهل الحديبية أمروا بقتال من قاتلهم. والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين، أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه. ألا تراه كيف بينها في سورة "براءة" بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة : 123 ) وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة، ممتد إلى غاية هي قوله ( : (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم). وقيل: غايته نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وهو موافق للحديث الذي قبله، لأن نزوله من أشراط الساعة.
قوله تعالى: "ولا تعتدوا" قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة. فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة. ومن أسر الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب. وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق. وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، يعني دينا وإظهارا للكلمة. وقيل: "لا تعتدوا" أي لا تقاتلوا من لم يقاتل. فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار، والله أعلم
وقال السعدي رحمه الله(1/13)
هذه الآيات تتضمن الأمر بالقتال في سبيل الله وهذا كان بعد الهجرة إلى المدينة.. لما قوي المسلمون للقتال أمرهم الله به بعدما كانوا مأمورين بكف أيديهم وفي تخصيص القتال " في سبيل الله " حث على الإخلاص ونهي عن الاقتتال في الفتن بين المسلمين ..." الذين يقاتلونكم " أي : الذين هم مستعدون لقتالكم وهم المكلفون الرجال غير الشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال.. والنهي عن الاعتداء يشمل أنواع الاعتداء كلها من قتل من لا يقاتل من النساء والمجانين والأطفال والرهبان ونحوهم والتمثيل بالقتلى وقتل الحيوانات وقطع الأشجار ونحوها لغير مصلحة تعود للمسلمين ؛ ومن الاعتداء مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها فإن ذلك لا يجوز ...
2- ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ *) (البقرة : 204-206 ).
قال البغوي رحمه الله(1/14)
قوله تعالى: " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا " قال الكلبي و مقاتل و عطاء : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ، واسمه أُبَيّ، وسمي الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله (: وكان رجلاً حلو الكلام، حلو المنظر، وكان يأتي رسول الله ( فيجالسه ويظهر الإسلام، ويقول إني لأحبك، ويحلف بالله على ذلك، وكان منافقاً، فكان رسول الله ( يدني مجلسه فنزل قوله تعالى " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا " أي تستحسنه ويعظم في قلبك، ويقال في الاستحسان أعجبني كذا وفي الكراهية والإنكار عجبت من كذا... " ويشهد الله على ما في قلبه " يعني قول المنافق: والله إني بك مؤمن ولك محب... " وهو ألد الخصام " أي شديد الخصومة، يقال لددت يا هذا وأنت تلد لداً ولدادة، فإذا أردت أنه غلب على خصمه قلت: لده يلده لداً، يقال: رجل ألد وامرأة لداء وقوم لد، قال الله تعالى: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً) (مريم : 97 ) قال الزجاج : اشتقاقه من لديدي العنق وهما صفحتاه، وتأويله: أنه في وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الخصومة غلب، والخصام مصدر خاصمه خصاماً ومخاصمة قاله أبو عبيدة. وقال الزجاج : هو جمع خصم يقال: خصم وخصام وخصوم مثل بحر وبحار وبحور قال الحسن : ألد الخصام أي كاذب القول، قال قتادة : شديد القسوة في المعصية، جدل بالباطل يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ( قال: " إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم "(1/15)
" وإذا تولى " أي أدبر وأعرض عنك.. " سعى في الأرض " أي عمل فيها، وقيل: سار فيها ومشى" ليفسد فيها " قال ابن جريج قطع الرحم وسفك دماء المسلمين... " ويهلك الحرث والنسل " وذلك أن الأخنس كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلاً فأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم. قال مقاتل : خرج إلى الطائف مقتضياً مالاً له على غريم فأحرق له كدساً وعقر له أتاناً، والنسل: نسل كل دابة والناس منهم، وقال الضحاك : " وإذا تولى " أي ملك الأمر وصار والياً " سعى في الأرض " قال مجاهد : في قوله عز وجل " وإذا تولى سعى في الأرض " قال إذا ولي فعمل بالعدوان والظلم أمسك الله المطر وأهلك الحرث والنسل " والله لا يحب الفساد " أي لا يرضى بالفساد، قال سعيد بن المسيب : قطع الدرهم من الفساد في الأرض.
قوله " وإذا قيل له اتق الله " أي خف الله " أخذته العزة بالإثم " أي حملته العزة وحمية الجاهلية على الفعل بالإثم أي بالظلم، والعزة: التكبر والمنعة، وقيل معناه " أخذته العزة " للإثم الذي في قلبه، فأقام الباء مقام اللام. قوله " فحسبه جهنم " أي كافية " ولبئس المهاد " أي الفراش، قال عبد الله بن مسعود: إن من أكبر الذنب عند الله أن يقال: للعبد اتق الله، فيقول: عليك بنفسك. وروي أنه قيل لعمر بن الخطاب: اتق الله، فوضع خده على الأرض تواضعاً لله عز وجل.
وقال السعدي رحمه الله(1/16)
لما أمر تعالى بالإكثار من ذكره ، وخصوصا في الأوقات الفاضلة ، الذي هو خير ومصلحة وبر؛ بقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ *ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )( البقرة 199-203 ) أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه ويخالف فعلُه قولَه... فالكلام إما أن يرفع الإنسان أو يخفضه فقال : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا " أي : إذا تكلم راق كلامه للسامع وإذا نطق ظننته يتكلم بكلام نافع ويؤكد ما يقول بأنه صادق " ويشهد الله على ما في قلبه " بأن يخبر أن الله يعلم أن ما في قلبه موافق لما نطق به وهو كاذب في ذلك لأنه يخالف قوله فعله ؛ فلو كان صادقا لتوافق القول والفعل كحال المؤمن غير المنافق ولهذا قال الله تعالى فيه : " وهو ألد الخصام " أي : وإذا خاصمته وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب وما يترتب على ذلك ما هو من(1/17)
مقابح الصفات ليس كأخلاق المؤمنين الذين جعلوا السهولة مركبهم والانقياد للحق وظيفتهم والسماحة سجيتهم... " وإذا تولى " هذا الذي يعجبك قوله إذا حضر عندك ؛ ( سعى في الأرض ليفسد فيها)أي : يجتهد على أعمال المعاصي التي هي إفساد في الأرض " ويهلك " بسبب ذلك " الحرث والنسل " فالزروع والثمار والمواشي تتلف وتنقص وتقل بركتها بسبب العمل في المعاصي ..(والله لا يحب الفساد) فإذا كان لا يحب الفساد فهو يبغض العبد المفسد في الأرض غاية البغض وإن قال بلسانه قولا حسنا ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص ليست دليلا على صدق ولا كذب ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها المزكي لها وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود والمحق والمبطل من الناس بسبر أعمالهم والنظر لقرائن أحوالهم وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم ... ثم ذكر أن هذا المفسد في الأرض بمعاصي الله إذا أُمِر بتقوى الله تكبر وأنف و "أخذته العزة بالإثم " فيجمع بين العمل بالمعاصي والكبر على الناصحين " فحسبه جهنم"" التي هي دار العاصين والمتكبرين " ولبئس المهاد " أي : المستقر والمسكن عذاب دائم وهم لا ينقطع ويأس مستمر لا يخفف عنهم العذاب ولا يرجون الثواب جزاء لجناياتهم ومقابلة لأعمالهم فعياذا بالله من أحوالهم ....(1/18)
3- (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ* وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * ) (البقرة : 276 -281 )
قال ابن كثير رحمه الله(1/19)
يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا, أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه, أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به, بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة, كما قال تعالى: (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة : 100 ) وقال تعالى: (لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال : 37 ) وقال : (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (الروم : 39 ), وقال ابن جرير: في قوله تعالى : ( يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا ) وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قِلٍّ, وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده, فقال: حدثنا حجاج. حدثنا شريك, عن الركين بن الربيع عن أبيه, عن ابن مسعود عن النبي ( قال: "إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قِلٍّ", وقد رواه ابن ماجه: عن العباس بن جعفر عن عمرو بن عون, عن يحيى بن زائدة عن إسرائيل عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري, عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي ( أنه قال "ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قل", وهذا من باب المعاملة, بنقيض المقصود, كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا الهيثم بن نافه الظاهري, حدثني أبو يحيى رجل من أهل مكة, عن فروخ مولى عثمان, أن عمر وهو يومئذٍ أمير المؤمنين, خرج من المسجد فرأى طعاماً منشوراً, فقال: ما هذا الطعام ؟ فقالوا: طعام جلب إلينا, قال: بارك الله فيه وفيمن جلبه, قيل:(1/20)
يا أمير المؤمنين إنه قد احتكر, قال: من احتكره ؟ قالوا: فروخ مولى عثمان وفلان مولى عمر, فأرسل إليهما, فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين ؟ قالا: يا أمير المؤمنين نشتري بأموالنا ونبيع, فقال عمر: سمعت رسول الله ( يقول: "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام", فقال فروخ عند ذلك: أعاهد الله وأعاهدك أن لا أعود في طعام أبداً, وأما مولى عمر فقال: إنما نشتري بأموالنا ونبيع, قال أبو يحيى: فلقد رأيت مولى عمر مجذوماً, ورواه ابن ماجه من حديث الهيثم بن رافع به, ولفظه "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس والجذام".(1/21)
وقوله تعالى : ( وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) قُريء بضم الياء والتخفيف, من رَبَا الشيء يَربو وأرباه يُربيه, أي كثره ونماه ينميه, وقُريء يربي بالضم والتشديد من التربية, قال البخاري: حدثنا عبد الله بن كثير, أخبرنا كثير سمع أبا النصر, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار, عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله ( "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب, ولا يقبل الله إلا الطيب, فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه, حتى يكون مثل الجبل" كذا رواه في كتاب الزكاة, وقال في كتاب التوحيد: وقال خالد بن مخلد بن سليمان بن بلال, عن عبد الله بن دينار فذكره بإسناده نحوه, وقد رواه مسلم في الزكاة, عن أحمد بن عثمان بن حكيم, عن خالد بن مخلد, فذكره, قال البخاري ورواه مسلم بن أبي مريم, وزيد بن أسلم, وسهيل, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, عن النبي (..., قلت: أما رواية مسلم بن أبي مريم, فقد تفرد البخاري بذكرها, وأما طريق زيد بن أسلم, فرواها مسلم في صحيحه, عن أبي الطاهر بن السرح عن أبي وهب, عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم به, وأما حديث سهيل, فرواه مسلم عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل به, والله أعلم, قال البخاري: وقال ورقاء عن ابن دينار عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة, عن النبي ( , وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي, عن الحاكم وغيره, عن الأصم, عن العباس المروزي, عن أبي النضر, هاشم بن القاسم, عن ورقاء وهو ابن عمر اليشكري, عن عبد الله بن دينار, عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله ( : "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب, ولا يصعد إلى الله إلا الطيب, فإن الله يقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلّوه, حتى يكون مثل أحد" وهكذا روى هذا الحديث مسلم والترمذي والنسائي جميعا, عن قتيبة, عن الليث بن سعد, عن سعد المقبري, وأخرجه النسائي من رواية مالك, عن(1/22)
يحيى بن سعيد الأنصاري, ومن طريق يحيى القطان, عن محمد بن عجلان, ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني, عن أبي هريرة, عن النبي ( , فذكره, وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر, فقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي, حدثنا وكيع, عن عباد بن منصور, حدثنا القاسم بن محمد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله ( "إن الله عز وجل يقبل الصدقة, ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه, حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد" وتصديق ذلك في كتاب الله:( يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) وكذا رواه أحمد, عن وكيع, وهو في تفسير وكيع, ورواه الترمذي, عن أبي كريب عن وكيع به, وقال: حسن صحيح, وكذا رواه الثوري عن عباد بن منصور به, ورواه أحمد أيضاً عن خلف بن الوليد, عن ابن المبارك, عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن منصور, كلاهما عن أبي نضرة, عن القاسم به, وقد رواه ابن جرير, عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق, عن عبد الرزاق, عن معمر, عن أيوب, عن القاسم بن محمد, عن أبي هريرة, قال: قال رسول, الله ( "إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه, فيأخذهابيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله, وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله, أو قال في كف الله حتى تكون مثل أحد, فتصدقوا" وهكذا رواه أحمد: عن عبد الرزاق, وهذا طريق غريب صحيح الإسناد, ولكن لفظه عجيب, والمحفوظ ما تقدم, وروي عن عائشة أم المؤمنين, فقال الإمام أحمد, حدثنا عبد الصمد, حدثنا حماد عن ثابت, عن القاسم بن محمد, عن عائشة, أن رسول الله ( قال: " إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلّوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد" تفرد به أحمد من هذا الوجه.. وقال البزار حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور حدثنا إسماعيل حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي (... وعن الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة, عن النبي ( قال: " إن(1/23)
الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب, ولا يقبل الله إلا الطيب, فيتلقاها الرحمن بيده, فيربيها كما يربي أحدكم فلّوه أو وصيفه" أو قال فصيله, ثم قال: لا نعلم أحداً رواه عن يحيى بن سعيد عن عمرة إلا أبا أويس.
وقولهتعالى : (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم)ٍ أي لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل, ولا بد من مناسبة في ختم هذه الاَية بهذه الصفة, وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال, ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح, فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل, بأنواع المكاسب الخبيثة, فهو جحود لما عليه من النعمة, ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل ـ ثم قال تعالى مادحاً للمؤمنين بربهم, المطيعين أمره المؤدين شكره, المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة, مخبراً عما أعد لهم من الكرامة, وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.)...(1/24)
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه, ناهياً لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ) أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون ( وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ) أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال, بعد هذا الإنذار ( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك, وقد ذكر زيد بن أسلم, وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي, أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف, وبني المغيرة من بني مخزوم, كان بينهم ربا في الجاهلية, فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه, طلبت ثقيف أن تأخذه منهم, فتشاورا وقالت بني المغيرة لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام, فكتب في ذلك عتاب بن أسيد, نائب مكة إلى رسول الله ( فنزلت هذه الاَية, فكتب بها رسول الله ( إليه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) فقالوا نتوب إلى الله, ونذر ما بقي من الربا فتركوه كلهم, وهذا تهديد ووعيد أكيد, لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار قال ابن جريج: قال ابن عباس: ( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) أي استيقنوا بحرب من الله و رسوله, وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم, عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: يقال يوم القيامة لاَكل الربا: خذ سلاحك للحرب, ثم قرأ :( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس :(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه, كان حقاً على إمام المسلمين أن يستتيبه, فإن نزع وإلا ضرب عنقه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عبد(1/25)
الأعلى, حدثنا هشام بن حسان, عن الحسن وابن سيرين, أنهما قالا: والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا, وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله, ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم, فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح.
وقال قتادة: أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون, وجعلهم بهرجاً أين ما أتوا, فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا, فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه, فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن أبي حاتم, وقال الربيع بن أنس: أوعد الله آكل الربا بالقتل, رواه ابن جرير, وقال السهيلي: ولهذا قالت عائشة لأم محبة مولاة زيد بن أرقم في مسألة العينة: أخبريه أن جهاده مع النبي ( قد بطل إلا أن يتوب, فخصت الجهاد لأنه ضد قوله: :(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) قال: وهذا المعنى ذكره كثير, قال: ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف.(1/26)
ـ ثم قال تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ) أي بأخذ الزيادة ( وَلَا تُظْلَمُونَ) أي بوضع رؤوس الأموال أيضاً, بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن أشكاب, حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان, عن شبيب بن غرقدة المبارقي, عن سليمان بن عمرو بن الأحوص, عن أبيه, قال: خطب رسول الله ( في حجة الوداع, فقال "ألا إن كل رباً كان في الجاهلية موضوع عنكم كله, لكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولاتظلمون, وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب, موضوع كله" وكذا وجده سليمان بن الأحوص, وقال ابن مردويه: حدثنا الشافعي, حدثنا معاذ بن المثنى, أخبرنا مسدد, أخبرنا أبو الأحوص, حدثنا شبيب بن غرقدة, عن سليمان بن عمرو, عن أبيه, قال: سمعت رسول الله ( يقول "ألا إن كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع, فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون" وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد, عن أبي حمزة الرقاشي عن عمر وهو ابن خارجة, فذكره.
وقوله تعالى : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء, فقال ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي, ثم يندب إلى الوضع عنه, ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل, فقال: ( وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين, وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي ( بذلك.(1/27)
(فالحديث الأول) عن أبي أمامة أسعد بن زرارة. قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن شعيب الرجاني, حدثنا يحيى بن حكيم المقوم, حدثنا محمد بن بكر البرساني, حدثنا عبد الله بن أبي زياد, حدثني عاصم بن عبيد الله, عن أبي أمامة أسعد بن زرارة, قال: قال رسول الله ( : "من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله, فلييسر على معسر أو ليضع عنه".
(حديث آخر) عن بريدة. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا عبد الوارث, حدثنا محمد بن جحادة, عن سليمان بن بريدة, عن أبيه, قال: سمعت النبي ( يقول "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة" قال: ثم سمعته يقول: "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثلاه صدقة" قلت: سمعتك يا رسول الله تقول "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة". ثم سمعتك تقول "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثلاه صدقة", قال: "له لكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين, فإذا حل الدين فأنظره, فله بكل يوم مثلاه صدقة".
(حديث آخر) عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري. قال أحمد: حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا أبو جعفر الخطمي, عن محمد بن كعب القرظي, أن أبا قتادة كان له دين على رجل, وكان يأتيه يتقاضاه فيختبى منه, فجاء ذات يوم فخرج صبي, فسأله عنه, فقال: نعم هو في البيت يأكل خزيرة, فناداه, فقال: يا فلان, اخرج فقد أخبرت أنك هاهنا, فخرج إليه, فقال: ما يغيبك عني ؟ فقال إني معسر وليس عندي شيء, قال: آلله أنك معسر ؟ قال: نعم, فبكى أبو قتادة, ثم قال سمعت رسول الله ( يقول "من نفس عن غريمه, أو محا عنه, كان في ظل العرش يوم القيامة", ورواه مسلم في صحيحه.(1/28)
(حديث آخر) عن حذيفة بن اليمان, قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا الأخنس أحمد بن عمران, حدثنا محمد بن فضيل, حدثنا أبو مالك الأشجعي, عن ربعي بن خراش, عن حذيفة, قال: قال رسول الله ( : "أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال: ماذا عملت في الدينا ؟ فقال: ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها ـ قالها ثلاث مرات ـ قال العبد عند آخرها: يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال, وكنت رجلاً أبايع الناس, وكان من خلقي الجواز, فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر, قال: فيقول الله عز وجل: أنا أحق من ييسر, ادخل الجنة". وقد أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه من طرق عن ربعي بن حراش, عن حذيفة, زاد مسلم وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي ( بنحوه, ولفظ البخاري: حدثنا هشام بن عمار, حدثنا يحيى بن حمزة, حدثنا الزهري عن عبد الله بن عبد الله, أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه, عن ( , قال: "كان تاجر يداين الناس, فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزا عنه لعل الله يتجاوز عنا, فتجاوز الله عنه".
(حديث آخر) عن سهل بن حنيف, قال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب, حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى, حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك, حدثنا عمرو بن ثابت, حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل, عن عبد الله بن سهل بن حنيف, أن سهلاً حدثه: أن رسول الله (, قال: "من أعان مجاهداً في سبيل الله أو غازياً أو غارماً في عسرته أو مكاتباً في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(حديث آخر) عن عبد الله بن عمر, قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد, عن يوسف بن صهيب, عن زيد العمى عن ابن عمر, قال: قال رسول الله ( : "من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته, فليفرج عن معسر". انفرد به أحمد.(1/29)
(حديث آخر) عن أبي مسعود عقبة بن عمرو. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا أبو مالك عن ربعي بن حراش, عن حذيفة, أن رجلاً أتى به الله عز وجل, فقال: ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال له الرجل: ما عملت مثقال ذرة من خير, فقال ثلاثاً, وقال في الثالثة: إني كنت أعطيتني فضلاً من المال في الدنيا, فكنت أبايع الناس, فكنت أيسر على الموسر, وأنظر المعسر. فقال تبارك وتعالى: نحن أولى بذلك منك, تجاوزا عن عبدي, فغفر له. قال أبو مسعود: هكذا سمعت من النبي ( , وهكذا رواه مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به.
(حديث آخر) عن عمران بن حصين. قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, أخبرنا أبو بكر, عن الأعمش, عن أبي دواد, عن عمران بن حصين قال, قال: رسول الله ( : "من كان له على رجل حق فأخره, كان له بكل يوم صدقة", غريب من هذا الوجه, وقد تقدم عن بريدة نحوه.(1/30)
(حديث آخر) عن أبي اليسر كعب بن عمرو. قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو, حدثنا زائدة, عن عبد الملك بن عمير, عن ربعي, قال: حدثنا أبو اليسر, أن رسول الله ( , قال "من أنظر معسراً أو وضع عنه, أظله الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله". وقد أخرجه مسلم في صحيحه ومن وجه آخر من حديث عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت, قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا, فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله ( , ومعه غلام له معه ضمامة من صحف, وعلى أبي اليسر بردة ومعافري, وعلى غلامة بردة ومعافري, فقال له أبي: يا عم, إني أرى في وجهك سفعة من غضب, قال: أجل كان لي على فلان بن فلان ـ الحرامي ـ مال, فأتيت أهله, فسلمت فقلت: أثم هو ؟ قالوا: لا , فخرج عليّ ابن له جفر, فقلت: أين أبوك ؟ فقال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي, فقلت: اخرج إلي فقد علمت أين أنت, فخرج, فقلت ما حملك على أن اختبأت مني ؟ قال: أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك, خشيت والله أن أحدثك فأكذبك أو أعدك فأخلفك, وكنت صاحب رسول الله ( , وكنت والله معسراً. قال: قلت: آلله. قال: قلت: آلله ؟ قال: الله, ثم قال: فأتى بصحيفته فمحاها بيده, ثم قال: فإن وجدت قضاء فاقضني وإلا فأنت في حل, فأشهد بصر عيناي هاتان ـ ووضع أصبعيه على عينيه ـ وسمع أذناي هاتان, ووعاه قلبي ـ وأشار إلى نياط قلبه, رسول الله ( وهو يقول: من أنظر معسراً أو وضع عنه, أظله الله في ظله. وذكر تمام الحديث.
(حديث آخر) عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان, قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحمن, حدثنا الحسن بن أسد بن سالم الكوفي, حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري, عن هشام بن زياد القرشي, عن أبيه, عن محجن مولى عثمان, عن عثمان, قال: سمعت رسول الله ( يقول "أظل الله عيناً في ظله يوم لا ظل إلا ظله, من أنظر معسراً, أو ترك لغارم".(1/31)
(حديث آخر) عن ابن عباس. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد, حدثنا نوح بن جعونة السلمي الخراساني, عن مقاتل بن حيان, عن عطاء, عن ابن عباس, قال خرج رسول الله ( إلى المسجد وهو يقول بيده: هكذا, وأومأ عبد الرحمن بيده إلى الأرض "من أنظر معسراً أو وضع عنه, وقاه الله من فيح جهنم ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ـ ثلاثا ـ ألا إن عمل النار سهل بسهوة, والسعيد من وقي الفتن, وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد, ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيماناً" تفرد به أحمد.
(طريق آخر) قال الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد البوراني قاضي الحديبية من ديار ربيعة, حدثناالحسن بن علي الصدائي, حدثنا الحكم بن الجارود, حدثنا ابن أبي المتئد خال ابن عيينة, عن أبيه, عن عطاء, عن ابن عباس قال: رسول الله ( "من أنظر معسراً إلى ميسرته أنظره اللهبذنبه إلى توبته"....(1/32)
ثم قال تعالى يعظ عباده, ويذكرهم زوال الدنيا, وفناء ما فيها من الأموال وغيرها, وإتيان الاَخرة, والرجوع إليه تعالى, ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا, ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر, ويحذرهم عقوبته, فقال: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) وقد روي أن هذه الاَية آخر آية نزلت من القرآن العظيم, فقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار, عن سعيد بن جبير قال: آخر ما نزل من القرآن كله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) ... وعاش النبي ( بعد نزول هذه الاَية تسع ليال, ثم مات يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول, رواه ابن أبي حاتم, وقد رواه ابن مردويه من حديث المسعودي عن حبيب ابن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: آخر آية نزلت (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) وقد رواه النسائي من حديث يزيد النحوي, عن عكرمة, عن عبد الله بن عباس, قال: آخر شيء نزل من القرآن: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) , وكذا رواه الضحاك والعوفي عن ابن عباس, وروى الثوري عن الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس, قال: آخر آية نزلت : (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).. فكان بين نزولها وموت النبي ( واحد وثلاثون يوماً, وقال ابن جريج: يقولون: إن النبي ( عاش بعدها تسع ليال وبدء يوم السبت ومات يوم الإثنين, رواه ابن جرير, ورواه ابن عطية عن أبي سعيد, قال آخر آية نزلت : (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى(1/33)
اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)..
وقال السعدي رحمه الله :
قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ )
أخبر تعالى أنه يمحق مكاسب المرابين ويربي صدقات المنْفقين عكس ما يتبادر لأذهان كثير من الخلق أن الإنفاق ينقص المال وأن الربا يزيده فإن مادة الرزق وحصول ثمراته من الله تعالى ... وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وامتثال أمره ...فالمتجرىء على الربا يعاقبه بنقيض مقصوده وهذا مشاهد بالتجربة ومن أصدق من الله قيلا ... ( وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) وهو الذي كفر نعمة الله وجحد منة ربه وأثِم بإصراره على معاصيه ومفهوم الآية أن الله يحب من كان شكورا على النعماء تائبا من المآثم والذنوب ثم أدخل هذه الآية بين آيات الربا وهي قوله تعالى : : ( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)... لبيان أن أكبر الأسباب لاجتناب ما حرم الله من المكاسب الربوية تكميل الإيمان وحقوقه خصوصا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وإن الزكاة إحسان إلى الخلق ينافي تعاطي الربا الذي هو ظلم لهم وإساءة عليهم ثم وجه الخطاب للمؤمنين وأمرهم أن يتقوه ويذروا ما بقي من معاملات الربا التي كانوا يتعاطونها قبل ذلك وأنهم إن لم يفعلوا ذلك فإنهم محاربون لله ورسوله وهذا من أعظم ما يدل على شناعة الربا حيث جعل المُصِرَّ عليه محاربا لله ورسوله ...
4- (قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران : 32 )
قال البغوي رحمه الله(1/34)
قوله تعالى:(قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ ) أي أعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله ( فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) لايرضى فعلهم ولا يغفر لهم.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا احمد بن عبد الله النعيمي،أنا محمد بن يوسف،أنامحمد بن إسماعي،أنامحمد بن سنان،أنا فليح،أنا هلال بن علي عنعطاء بن يسار عن ابي هريره رضي الله عنه ان رسول الله ( قال:"كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى .. قالوا : ومن يأبىيا رسول الله ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".
أخبرنا عبد الواحد المليحي،أنااحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف،أنا محمد اسماعيل أنا محمد بن عبادة ، أخبرنا يزيد، أخبرنا سليم بن حيان - واثنى عليه - أخبرنا سعيد بن ميناء قال: حدثنا او سمعت جابر بن عبد الله يقول: "جاءت ملائكة إلى النبي( وهو نائم .فقال بعضهم : إنه نائم وقال بعضهم : إن العين نائمة والقلب يقظان.. فقالوا : إن لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً ، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ، فقالوا: أولوها له يفقهها ، فقالوا: أما الدار الجنة والداعي محمد ( فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله ومن عصى محمداً فقد عصى الله... ومحمد ( فرق بين الناس.
وقال السعدي رحمه الله :(1/35)
هذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة ومن ادعى ذلك دعوى مجردة فعلامة محبة الله اتباع محمد ( الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه طريقا إلى محبته ورضوانه فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما فمن فعل ذلك أحبه الله وجازاه جزاء المحبين وغفر له ذنوبه وستر عليه عيوبه فكأنه قيل ومع ذلك فما حقيقة اتباع الرسول وصفتها فأجاب بقوله :( قل أطيعوا الله والرسول) بامتثال الأمر واجتناب النهي وتصديق الخبر فإن تولوا عن ذلك فهذا هو الكفر والله لا يحب الكافرين...
وقال الشوكاني رحمه الله:
قوله تعالى :(قل أطيعوا الله والرسول) حذف المتعلق مشعر بالتعميم، أي: في جمع الأوامر والنواهي.وقوله ( فإن تولوا) يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى فيكون ماضياً. وقوله (فإن الله لا يحب الكافرين) نفي المحبة كناية عن البغض والسخط. ووجه الإظهار في قوله(فإن الله) مع كون المقام مقام إضمار لقصد التعظيم أو التعميم.(1/36)
قلت : أمر اللهُ عز وجل بطاعته وطاعة رسوله( ، وقال إنه سبحانه لا يحب المعرِضين الذين كلما دُعوا إليه وإلى نبيِّه تولوا ، وسماهم كافرين في هذه الآية...وضالين في أخرى ؛ قال : ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) (الأحزاب36 ) ؛ وأخبر عن حالهم ومقالهم يوم يلِجون النار ويذوقون مس سقَر التي لا تُبقي ولا تَذر، قال: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (الأحزاب : 66 ) كما أخبر عما يودونه يوم القيامة، قال : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً) (النساء : 42 )...وبيَّن عاقبة عصيانهم ، كما في قوله جل جلاله :(وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (النساء : 14 ) ، ،وقوله:(وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) (الجن 23)...
فإذا كان مصير هؤلاء العُتاة العُصاة النار- وبيس القرار - فما هو جزاء من لزِم طاعةَ الله ورسوله ؟
فاعلم أولاً - وفقني الله وإياك لما يحب ويرضى-أن رب العالمين جعل طاعته في طاعة رسوله للناس أجمعين ، قال : (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) (النساء : 80 ) ؛ ووعد المطيعين الطائعين برحمته ،قال : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران : 132 ) وقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (النور : 56 ) وجعل الاهتداء إلى صراطه المستقيم مشروطاًَ بطاعة خليله المصطفى ( ، خاتم انبيائه، فقال - وهو الحق وقوله حق- : ( وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ) (النور : 54 )...(1/37)
وطاعة الله في الرضى به ربّاًَ واحداً أحداً لا شريك له، مع امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، والتمسك بكتابه... وبالإسلام الذي رضيه لنا دينا مع العمل به والدفاع عنه ... وبمحمد ( نبياًَ ورسولاً مع اتباعه في هديه ، وإحياء سنته ، والذود عنها بمقاومة أهل البدع والآهواء ، ومعاداة الغالين وكل موسوم بالجفاء... ولا يتأتى هذا إلا بحب صحابته الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله حتى رفرفت عاليةً، في سماء العِز، رايةُ الدين الذي لايقبل الله غيره كما قال : (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران 85 ).
5 - (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران : 57 )
قال الطبري رحمه الله :
القول في تأويل قوله تعالى:
(فَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ * وَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ )
يعني بقوله جلّ ثناؤه: (فَأمّا الّذِينَ كَفَرُوا): فأما الذين جحدوا نبوّتك يا عيسى, وخالفوا ملتك, وكذّبوا بما جئتهم به من الحقّ, وقالوا فيك الباطل, وأضافوك إلى غير الذي ينبغي أن يضيفوك إليه من اليهود والنصارى, وسائر أصناف الأديان فإني أعذّبهم عذابا شديدا... أما في الدنيا، فبالقتل والسباء والذلة والمسكنة ؛ وأما في الاَخرة، فبنار جهنم خالدين فيها أبدا. (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) يقول: وما لهم من عذاب الله مانع, ولا عن أليم عقابه لهم دافع، بقوّة ولا شفاعة, لأنه العزيز ذو الانتقام.(1/38)
وأما قوله: (وأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ) فإنه يعني تعالى ذكره: وأما الذين آمنوا بك يا عيسى, يقول: صدّقوك فأقرّوا بنبوّتك, وبما جئتهم به من الحقّ من عندي, ودانوا بالإسلام الذي بعثتك به, وعملوا بما فرضت من فرائضي على لسانك, وشرعت من شرائعي, وسننت من سنني. كما:
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: (وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ) يقول: أدَّوا فرائضه, فيوفيهم أجورهم, يقول: فيعطيهم جزاء أعمالهم الصالحة كاملاً لا يُبخَسون منه شيئا ولا ينقصونه.
وأما قوله: (وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ) فإنه يعني: والله لا يحبّ من ظلم غيره حقا له, أو وضع شيئا في غير موضعه. فنفى جلّ ثناؤه عن نفسه بذلك أن يظلم عباده, فيجازي المسيء ممن كفر جزاء المحسنين ممن آمن به, أو يجازي المحسن ممن آمن به واتبع أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه, جزاء المسيئين ممن كفر به وكذّب رسله وخالف أمره ونهيه, فقال: إني لا أحبّ الظالمين, فكيف أظلم خلقي.
وهذا القول من الله تعالى ذكره, وإن كان خرج مخرج الخبر, كأنه وعيد منه للكافرين به وبرسله, ووعد منه للمؤمنين به وبرسله, لأنه أعلم الفريقين جميعا أنه لا يبخس هذا المؤمن حقه, ولا يظلم كرامته, فيضعها فيمن كفر به, وخالف أمره ونهيه, فيكون لها بوضعها في غير أهلها ظالما.
وقال السعدي رحمه الله(1/39)
... وسينزل عيسى بن مريم في آخر هذه الأمة حكَماً عدلاً يقتل الخنزير ويكسِّر الصليب، ويتَّبع ما جاء به محمد ( ،ويعلَم الكاذبون غرورَهم وخداعَهم وأنهم مغرورون مخدوعون... وقوله تعالى لعيسى عليه السلام: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)( آل عمران 55) المراد بمَن اتَّبعه الطائفة التي آمنت به ونصرهم الله على من انحرف عن دينه... ثم لما جاءت أمة محمد ( فكانوا هم أتباعه حقا فأيدهم الله ونصرهم على الكفار كلهم وأظهرهم بالدين الذي جاءهم به محمد ( ..( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور : 55 )... ولكن حكمة الله عادلة فإنها اقتضت أن من تمسك بالدين نصره الله النصر المبين وأن من ترك أمره ونهيه ونبذ شرعه وتجرأ على معاصيه أن يعاقبه ويسلط عليه الأعداء والله عزيز حكيم .. ثم بين ما يفعله بهم (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) وهذا الجزاء عام لكل من اتصف بهذه الأوصاف من جميع أهل الأديان السابقة ثم لما بعث سيد المرسلين وخاتم النبيين ونَسخت رسالتُه الرسالاتِ كلِّها ونَسخ دينُه جميعَ الأديان صار المتمسك بغير هذا الدين من الهالكين ...(1/40)
6- (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران : 140 )
قال القرطبي رحمه الله :
قوله تعالى : (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ) القرح الجرح. والضم والفتح فيه لغتان عن الكسائي والأخفش؛ مثل عَقْر وعُقْر. الفراء: هو بالفتح الجُرح، وبالضم ألَمُه. والمعنى: إن يمسسكم يوم أحد قرح فقد مس القوم يوم بدر قرح مثله. وقرأ محمد بن السميقع "قرح" بفتح القاف والراء على المصدر.( وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) قيل: هذا في الحرب، تكون مرة للمؤمنين لينصر الله عز وجل دينه، ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم ويمحص ذنوبهم؛ فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون. وقيل: (نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر. والدُّولَة الكرة؛ قال الشاعر:
فيومٌ لنا ويوم علينا ويوم نُساء ويوم نُسَرُّ
وقوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ) معناه، وإنما كانت هذه المداولة ليُرى المؤمن من المنافق فيميز بعضهم من بعض؛ كما قال (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ) (آل عمران 167-167 ) وقيل: ليعلم صبر المؤمنين، العلم الذي يقع عليه الجزاء كما علمه غيبا قبل أن كلفهم.(1/41)
قوله تعالى: (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء) أي يكرمكم بالشهادة؛ أي ليُقتل قوم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم. وقيل: لهذا قيل شهيد: وقيل: سمي شهيدا لأنه مشهود له بالجنة وقيل: سمي شهيدا لأن أرواحهم احتضرت دار السلام، لأنهم أحياء عند ربهم، وأرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة؛ فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة، وهذا هو الصحيح ... والشهادة فضلها عظيم، ويكفيك في فضلها قوله تعالى (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة : 111 ) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 10 ) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 11 ) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ( الصف: 10 - 11 - 12) وفي صحيح البستي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ( *ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرحة*. وروى النسائي عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي ( أن رجلا قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة). وفي البخاري: "من قتل من المسلمين يوم أحد" منهم حمزة واليمان والنضر بن أنس ومصعب بن عمير، حدثني عمرو بن علي أن معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن قتادة(1/42)
قال: ما نعلم حيا من أحياء العرب أكثر شهيدا أعز يوم القيامة من الأنصار. قال قتادة: وحدثنا أنس بن مالك أنه قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون. قال: وكان بئر على عهد النبي ( ، ويوم اليمامة على عهد أبي بكر يوم مسيلمة الكذاب. وقال أنس: أتي النبي ( بعلي بن أبي طالب وبه نيف وستون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل النبي ( يمسحها وهي تلتئم بإذن الله تعالى كأن لم تكن.
وفي قوله تعالى: (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء) دليل على أن الإرادة غير الأمر كما يقول أهل السنة؛ فإن الله تعالى نهى الكفار عن قتل المؤمنين: حمزة وأصحابه وأراد قتلهم، ونهى آدم عن أكل الشجرة وأراده فواقعه آدم، وعكسه أنه أمر إبليس بالسجود ولم يرده فامتنع منه؛ وعنه وقعت الإشارة بقوله الحق: (وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة : 46 ). وإن كان قد أمر جميعهم بالجهاد، ولكنه خلق الكسل والأسباب القاطعة عن المسير فقعدوا.
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي ( يوم بدر فقال له: (خَيِّر أصحابك في الأسارى إن شاؤوا القتل وإن شاؤوا الفداء على أن يقتل منهم عام المقبل مثلهم فقالوا الفداء ويقتل منا) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. فأنجز الله وعده بشهادة أوليائه بعد أن خيرهم فاختاروا القتل.
(وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي المشركين، أي وإن أنال الكفارَ من المؤمنين فهو لا يحبهم، وإن أحلَّ ألماً بالمؤمنين فإنه يحب المؤمنين.
وقال السعدي رحمه الله : (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(1/43)
قوله تعالى : (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ " فأنتم وهم قد تساويتم في القرح ولكنكم ترجون من الله ما لا يرجون كما قال تعالى : (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء : 104 ) ومن الحكم في ذلك أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر والبر والفاجر فيداول الله الأيام بين الناس يوم لهذه الطائفة ويوم للطائفة الأخرى ؛ لأن هذه الدار الدنيا منقضية فانية وهذا بخلاف الدار الآخرة فإنها خالصة للذين آمنوا...( وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) هذا أيضا من الحكم أنه يبتلى الله عباده بالهزيمة والابتلاء ليتبين المؤمن من المنافق ؛ لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده فإذا حصل في بعض الوقائع بعض أنواع الابتلاء تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في الإسلام في الضراء والسراء واليسر والعسر ممن ليس كذلك (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ) وهذا أيضا من بعض الحكم لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها فهذا من رحمته بعباده المؤمنين أن قيض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم
(وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم وتقاعدوا عن القتال في سبيله...(1/44)
7-(وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا* الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً * وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً) (النساء 36 -39)
قال ابن كثير رحمه الله :(1/45)
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له, فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الاَنات والحالات, فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته, كما قال النبي ( لمعاذ بن جبل :"أتدري ما حق الله على العباد ؟ قال: الله ورسوله أعلم, قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً", ثم قال: "أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ أن لا يعذبهم" ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين, فإن الله سبحانه جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود وكثيراً ما يقرن الله سبحانه بين عبادته والإحسان إلى الوالدين, كقوله تعالى :(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان : 14 )؛ وكقوله : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (الإسراء : 23 )... ثم عطف على الإحسان إليهما الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء كما جاء في الحديث "الصدقة على المسكين صدقة, وعلى ذي الرحم صدقة وصلة", ثم قال تعالى: (واليتامى) وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم ثم قال (والمساكين) وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم, فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم ...(1/46)
وقوله تعالى: (والجار ذي القربى والجار الجنب) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (والجار ذي القربى), يعني الذي بينك وبينه قرابة, (والجار الجنب) الذي ليس بينك وبينه قرابة, وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وميمون بن مهران والضحاك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة, وقال أبو إسحاق عن نوف البكالي في قوله تعالى : (والجار ذي القربى), : يعني الجار المسلم, والجار الجنب يعني اليهودي والنصراني, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم, وقال جابر الجعفي عن الشعبي عن علي وابن مسعود: (والجار ذي القربى), يعني المرأة وقال مجاهد أيضاً في قوله: (والجار الجنب) يعني الرفيق في السفر, وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار, فلنذكر منها ما تيسر وبالله المستعان.
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن عمر بن محمد بن زيد أنه سمع أباه محمداً يحدث عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله (قال : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" أخرجاه في الصحيحين من حديث عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر به...
(الحديث الثاني) قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن داود بن شابور, عن مجاهد, عن عبد الله بن عَمْرو, قال: قال رسول الله ( :"مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" وروى أبو داود والترمذي نحوه من حديث سفيان بن عيينة, عن بشير أبي إسماعيل, زاد الترمذي: وداود بن شابور, كلاهما عن مجاهد به, ثم قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه, وقد روى عن مجاهد عائشة وأبي هريرة عن النبي ( ...(1/47)
(الحديث الثالث) قال أحمد أيضاً: حدثنا عبد الله بن يزيد, أخبرنا حيوة, أخبرنا شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ( أنه قال: "خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره" ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد, عن عبد الله بن المبارك, عن حيوة بن شريح به, وقال حسن غريب...
(الحديث الرابع) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا سفيان عن أبيه, عن عباية بن رفاعة, عن عمر, قال: قال رسول الله ( "لا يشبع الرجل دون جاره", تفرد به أحمد...
(الحديث الخامس) قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان, حدثنا محمد بن سعد الأنصاري, سمعت أبا ظبية الكلاعي, سمعت المقداد بن الأسود يقول: قال رسول الله ( لأصحابه :"ما تقولون في الزنا ؟" قالوا حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة, فقال رسول الله (: "لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره", قال "ما تقولون في السرقة ؟" قالوا: حرمها الله ورسوله, فهي حرام, قال "لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره" تفرد به أحمد, وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال : قلت : يا رسول الله, أي الذنب أعظم ؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قلت: ثم أي ؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك". قلت ثم أي ؟ قال "أن تزاني حليلة جارك"...(1/48)
(الحديث السادس) قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا هشام عن حفصة, عن أبي العالية, عن رجل من الأنصار قال: خرجت من أهلي أريد النبي ( , فإذا به قائم ورجل معه مقبل عليه, فظننت أن لهما حاجة, قال الأنصاري: لقد قام رسول الله ( حتى جعلت أرثي لرسول الله ( من طول القيام, فلما انصرف قلت: يا رسول الله, لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام. قال: "ولقد رأيته ؟" قلت: نعم. قال "أتدري من هو ؟". قلت: لا, قال "ذاك جبريل, ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" ثم قال "أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام"...
(الحديث السابع) قال عبد بن حميد في مسنده: حدثنا يعلى بن عبيد, حدثنا أبو بكر يعني المدني, عن جابر بن عبد الله, قال: جاء رجل من العوالي ورسول الله ( , وجبريل عليه السلام, يصليان حيث يصلى على الجنائز, فلما انصرف قال الرجل: يا رسول الله, من هذا الرجل الذي رأيت معك ؟ قال "وقد رأيته ؟" قال: نعم. قال "لقد رأيت خيرا كثيراً, هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رأيت أنه سيورثه", تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله...
(الحديث الثامن) قال أبو بكر البزار: حدثنا عبيد الله بن محمد أبو الربيع الحارثي, حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك, أخبرني عبد الرحمن بن الفضل عن عطاء الخراساني, عن الحسن, عن جابر بن عبد الله, قال: قال رسول الله ( "الجيران ثلاثة: جار له حق واحد, وهو أدنى الجيران حقاً, وجار له حقان, وجار له ثلاثة حقوق, وهو أفضل الجيران حقاً, فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له, له حق الجوار, وأما الذي له حقان فجار مسلم, له حق الإسلام وحق الجوار, وأماالذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم" قال البزار: لا نعلم أحداً روى عن عبد الرحمن بن الفضل إلا ابن أبي فديك...(1/49)
(الحديث التاسع) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي عمران, عن طلحة بن عبد الله, عن عائشة, أنها سألت رسول الله ( فقالت: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال "إلى أقربهما منك بابا", ورواه البخاري من حديث شعبة به,...
(الحديث العاشر) روى الطبراني وأبو نعيم عن عبد الرحمن, فزاد: قال: إن رسول الله ( توضأ فجعل الناس يتمسحون بوضوئه, فقال "ما يحملكم على ذلك" ؟ قالوا: حب الله ورسوله. قال "من سره أن يحب الله ورسوله فليصدق الحديث إذا حدث, وليؤد الأمانة إذا ائتمن".
(الحديث الحادي عشر) قال أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا ابن لهيعة, قال: قال رسول الله ( "إن أول خصمين يوم القيامة جاران"
وقوله تعالى: (والصاحب بالجنب) قال الثوري, عن جابر الجعفي, عن الشعبي, عن علي وابن مسعود, قالا: هي المرأة, وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وإبراهيم النخعي والحسن وسعيد بن جبير في إحدى الروايات, نحو ذلك, وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة: هو الرفيق في السفر, وقال سعيد بن جبير: هو الرفيق الصالح, وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر, وأما ابن السبيل, فعن ابن عباس وجماعة: هو الضيف, وقال مجاهد وأبو جعفر الباقر والحسن والضحاك ومقاتل: هو الذي يمر عليك مجتازاً في السفر, وهذا أظهر, وإن كان مراد القائل بالضيف المار في الطريق, فهما سواء, وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة, وبالله الثقة وعليه التكلان.
وقوله تعالى: (وما ملكت أيمانكم) وصية بالأرقاء, لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس, فلهذا ثبت أن رسول الله ( جعل يوصي أمته في مرض الموت, يقول "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم" فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه,(1/50)
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس, حدثنا بقية, حدثنا بَحير بن سعد عن خالد بن معدان, عن المقدام بن معد يكرب, قال: قال رسول الله ( "ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة, وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة, وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة, وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة" ورواه النسائي من حديث بقية, وإسناده صحيح, ولله الحمد.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم, فإن رسول الله ( قال: "كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم" رواه مسلم.
وعن أبي هريرة عن النبي ( قال: "للمملوك طعامه وكسوته, ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق" رواه مسلم أيضاً
وعن أبي هريرة, عن النبي ( , قال "إذا أتى أحدَكم خادمُه بطعامه فإن لم يُجلسه معه فليُناوله لقمة أو لقمتين, أو أكلة أو أكلتين, فإنه ولي حره وعلاجه" أخرجاه, ولفظه للبخاري ولمسلم " فليقعده معه فليأكل, فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً, فليضع في يده أكلة أو أكلتين".
وعن أبي ذر رضي الله عنه,عن النبي ( قال "هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم, فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل, وليلبسه مما يلبس, ولا تكلفوهم ما يغلبهم, فإن كلفتموهم فأعينوهم" أخرجاه,
وقوله تعالى:( إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) أي مختالا في نفسه, معجبا متكبراً فخورا على الناس, يرى أنه خير منهم فهو في نفسه كبير, وهو عند الله حقير, وعند الناس بغيض,
قال مجاهد في قوله (إن الله لا يحب من كان مختالا) يعني متكبراً (فخوراً) يعني يَعُدّ ما أعطى, وهو لا يشكر الله تعالى يعني يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه, وهو قليل الشكر لله على ذلك,(1/51)
وقال ابن جرير: حدثني القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا محمد بن كثير, عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي, قال: لا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالا فخوراً, وتلا :(وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) (النساء : 36 ), ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً, وتلا: (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) (مريم : 32 ) },
وروى ابن أبي حاتم عن العوام بن حوشب مثله في المختال الفخور, وقال: حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم عن الأسود بن شيبان, حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشخير, قال: قال مطرف: كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه, فلقيته, فقلت: يا أبا ذر, بلغني أنك تزعم أن رسول الله ( حدثكم "إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة" ؟ فقال: أجل, فلا إخالني, أكذب على خليلي ثلاثا ؟ قلت: من الثلاثة الذين يبغض الله ؟ قال: المختال الفخور. أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل, ثم قرأ الاَية (إن الله لا يحب من كان مختالا فخوراً).., وحدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا وهيب بن خالد, عن أبي تميمة عن رجل من بَلْهُجَم, قال: قلت: يا رسول الله, أوصني, قال "إياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة, وإن الله لا يحب المخيلة".
* قلت : وحديث أبي ذر كما رواه الترمذي هو :
حدثنا محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا محمد ابن جعفر، أخبرنا شعبة عن منصور بن المعتمر قال سمعت ربعي بن خراش يحدث عن زيد بن ظبيان رفعه الى أبي ذر عن النبي (قال:(1/52)
- "ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله، فأما الذين يحبهم الله فرجل أتى قوما فسألهم بالله، ولم يسألهم لقرابة بينه وبينهم فمنعوه فتخلف رجل بأعيانهم فأعطاه سرا لا يعلم بعطيته الا الله والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب اليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم قام رجل يتملقني ويتلو آياتي، ورجل كان في سرية فلقي العدو فهزموا، فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له. والثلاثة الذين يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم".
حدثنا محمود بن غيلان، أخبرنا النضر بن شميل عن شعبة نحوه. هذا حديث صحيح.
وهكذا روى شيبان عن منصور... اهـ
وقوله تعالى : ( الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً * وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً )
يقول تعالى ذاماً الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين والإحسان إلى الأقارب, واليتامى, والمساكين, والجار ذي القربى, والجار الجنب, والصاحب بالجنب, وابن السبيل, وما ملكت أيمانكم من الأرقاء, ولا يدفعون حق الله فيها, ويأمرون الناس بالبخل أيضاً, وقد قال رسول الله ( "وأي داء أدوأ من البخل". وقال: "إياكم والشح, فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالقطيعة فقطعوا, وأمرهم بالفجور ففجروا".(1/53)
وقوله تعالى: (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) فالبخيل جحود لنعمة الله لا تظهر عليه ولا تبين, لا في مأكله ولا في ملبسه ولا في إعطائه وبذله, كما قال تعالى: ( إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) أي بحاله وشمائله ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )( العاديات 6-8 ) ... وقال ههنا (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) ولهذا توعدهم بقوله: (وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) والكفر هو الستر والتغطية, فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعم الله عليه, وفي الحديث "إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه", وفي الدعاء النبوي "واجعلنا شاكرين لنعمتك, مثنين بها عليك قابليها, وأتممها علينا" وقد حمل بعض السلف هذه الاَية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد ( وكتمانهم ذلك, ولهذا قال تعالى: (وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) .. رواه ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس, وقاله مجاهد و غير واحد,.. ولا شك أن الاَية محتملة لذلك, والظاهر أن السياق في البخل بالمال, وإن كان البخل بالعلم داخلاً في ذلك بطريق الأولى, فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء, وكذلك الاَية التي بعدها وهي قوله (الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس) فإنه ذكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء, ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم, ولا يريدون بذلك وجه الله, وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار وهم: العالم, والغازي, والمنفق ، المراؤون بأعمالهم, "يقول صاحب المال: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك, فيقول الله: كذبت إنما أردت أن يقال: جواد فقد قيل" أي فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك, وفي الحديث أن رسول الله ( , قال لعدي بن حاتم "إن أباك رام أمراً(1/54)
فبلغه". وفي حديث آخر: أن رسول الله ( سئل عن عبد الله بن جدعان: هل ينفعه إنفاقه وإعتاقه ؟ فقال: "لا, إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين", ولهذا قال تعالى: ( وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً ) أي إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان, فإنه سوَّل لهم وأملى لهم, وقارنهم فحسن لهم القبائح,.. ولهذا قال تعالى: (ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً), ولهذا قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
ثم قال تعالى: ( وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً ) , أي وأي شيء يضرهم لو آمنوا بالله وسلكوا الطريق الحميدة, وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله ورجاء موعوده في الدار الاَخرة لمن أحسن عملاً, وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها, وقوله: (وكان الله بهم عليماً) أي وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة, وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه, ويلهمه رشده, ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه, وبمن يستحق الخذلان والطرد عن الجناب الأعظم الإلهي الذي من طرد عن بابه, فقد خاب وخسر في الدنيا والاَخرة, عياذاً بالله من ذلك.
وقال السعدي رحمه الله :(1/55)
يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له ، وهو الدخول تحت رق عبوديته ، والانقياد لأوامره ونواهيه ، محبة ، وذلا ،وإخلاصا له ، في جميع العبادات الظاهرة والباطنة .وينهى عن الشرك به شيئا ، لا شركا أصغر ، ولا أكبر ، لا ملَكاً ، ولا نبيّاً ، ولا وليّاً ولا غيرهم من المخلوقين ، الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا . بل الواجب المتعين ، إخلاص العبادة ، لمن له الكمال المطلق ، من جميع الوجوه ، وله التدبير الكامل ، الذي لا يشركه فيه ولا يعينه عليه أحد . ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه ، أمر بالقيام بحقوق العباد ، الأقرب ، فالأقرب . فقال : ( وبالوالدين إحسانا )أي : أحسنوا إليهم بالقول الكريم ، والخطاب اللطيف ، والفعل الجميل ، بطاعة أمرهما ، واجتناب نهيهما ، والإنفاق عليهما ، وإكرام من له تعلق بهما ، وصلة الرحم ، التي لا رحم لك إلا بهما . وللإحسان ضدان ، الإساءة ، وعدم الإحسان . وكلاهما منهي عنه.( وبذي القربى) أيضا إحسانا ، ويشمل ذلك جميع الأقارب ، قربوا ، أو بعدوا ، بأن يحسن إليهم ، بالقول ، والفعل ، وأن لا يقطع رحمه ، بقوله أو فعله ..( واليتامى ) أي : الذين فقدوا آباءهم وهم صغار ، فلهم حق على المسلمين ، سواء كانوا أقارب أو غيرهم ، بكفالتهم ، وبرهم ، وجبر خواطرهم ، وتأديبهم ، وتربيتهم أحسن تربية ، في مصالح دينهم ودنياهم.. ( والمساكين ) وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر ، فلم يحصلوا على كفايتهم ، ولا كفاية من يمونون . فأمر الله تعالى بالإحسان إليهم ، بسد خلتهم ، وبدفع فاقتهم ، والحض على ذلك ، والقيام بما يمكن منه ... ( والجار ذي القربى ) أي : الجار القريب ، الذي له حقان ، حق الجوار ، وحق القرابة ، فله على جاره حق ، وإحسان راجع إلى العرف ... ( والجار الجنب ) أي : الذي ليس له قرابة . وكلما كان الجار أقرب باباً ، كان آكد حقا . فينبغي للجار ، أن يتعاهد جاره(1/56)
بالهدية والصدقة ، والدعوة ، واللطافة بالأقوال والأفعال ، وعدم أذيته ، بقول أو فعل ... ( والصاحب بالجنب ) قيل : الرفيق في السفر ، وقيل : الزوجة ، وقيل الصاحب مطلقا ،ولعله أولى، فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر ، ويشمل الزوجة . فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه ، من مساعدته على أمور دينه ودنياه ، والنصح له؛ والوفاء معه ، في اليسر والعسر ، والمنشط والمكره ، وأن يحب له ما يحب لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه ، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد ...( وابن السبيل ) هو : الغريب الذي احتاج في بلد الغربة ، أو لم يحتج ، فله حق على المسلمين ، لشدة حاجته ، وكونه في غير وطنه ، بتبليغه إلى مقصوده ، أو بعض مقصوده ، وبإكرامه ، وتأنيسه ...( وما ملكت أيمانكم ) أي : من الآدميين والبهائم ، بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم وإعانتهم على ما تحملوه ، وتأديبهم لما فيه مصلحتهم ...(1/57)
فمن قام بهذه المأمورات ، فهو الخاضع لربه ، المتواضع لعباد الله ، المنقاد لأمر الله وشرعه ، الذي يستحق الثواب الجزيل ، والثناء الجميل . ومن لم يقم بذلك ، فإنه عبد معرِض عن ربه ، غير منقاد لأوامره ، ولا متواضع للخلق . بل هو متكبر على عباد الله ، معجب بنفسه ، فخور بقوله ، ولهذا قال : (إن الله لا يحب من كان مختالا )أي : معجبا بنفسه ، متكبرا على الخلق ..( فخورا ) يثني على نفسه ويمدحها ، على وجه الفخر والبطر ، على عباد الله . فهؤلاء ، ما بهم من الاختيال والفخر ، يمنعهم من القيام بالحقوق . ولهذا ذمهم بقوله (الذين يبخلون ) أي : يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة .( ويأمرون الناس بالبخل ) بأقوالهم وأفعالهم . ( ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) أي : من العلم الذي يَهتدي به الضالون ويسترشد به الجاهلون ، فيكتمونه عنهم ، ويظهرون لهم من الباطل ، ما يحول بينهم وبين الحق . فجمعوا بين البخل بالمال ، والبخل بالعلم ، وبين السعي في خسارة أنفسهم ، وخسارة غيرهم ، وهذه هي صفات الكافرين ، فلهذا قال تعالى :( وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) أي : كما تكبروا على عباد الله ، ومنعوا حقوقه ، وتسببوا في منع غيرهم ، من البخل ، وعدم الاهتداء ، أهانهم بالعذاب الأليم ، والخزي الدائم . فعياذا بك اللهم من كل سوء .....(1/58)
ثم أخبر عن النفقة الصادرة ،عن رياء وسمعة ،وعدم إيمان به ،فقال :( والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ) أي ليروهم ، ويمدحوهم ، ويعظموهم ... (ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) أي : ليس إنفاقهم صادرا عن إخلاص وإيمان بالله ، ورجاء ثوابه . أي : فهذا من خطوات الشيطان وأعماله ، التي يدعو حزبه إليها ، ليكونوا من أصحاب السعير . وصدرت منهم بسبب مقارنته لهم وأزهم إليها ، فلهذا قال :( ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ) أي : بئس المقارن والصاحب الذي يريد إهلاك من قارنه ، ويسعى فيه أشد السعي . فكما أن مَن بخل بما أتاه الله ، وكتم ما مَنَّ اللهُ به عليه ، عاصٍ آثم ، مخالف لربه . فكذلك من أنفق وتعبد لغير الله ، فإنه آثم عاص لربه ، مستوجب للعقوبة . لأن الله إنما أمر بطاعته ، وامتثال أمره ، على وجه الإخلاص ، كما قال تعالى : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة : 5 ) فهذا هو العمل المقبول الذي يستحق صاحبه المدح والثواب ، فلهذا حث تعالى عليه بقوله : ( وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ) ( وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً ) أي : أي شيء عليهم ، وأي حرج ومشقة ، تلحقهم ، لو حصل منهم الإيمان بالله ، الذي هو الإخلاص ؛ وأنفقوا من أموالهم ، التي رزقهم الله وأنعم بها عليهم ، فجمعوا بين الإخلاص والإنفاق . ولما كان الإخلاص ، سرا بين العبد وربه ، لا يطلع عليه إلا الله ، أخبر تعالى بعلمه بجميع الأحوال فقال : ( وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً ) ... ((إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ))....(1/59)
8- (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا * وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا *)(النساء : 105 - 113)
قال السعدي رحمه الله :(1/60)
يخبر تعالى ، أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق ، أي : محفوظ في إنزاله من الشياطين ، أن يتطرق إليه منهم باطل . بل نزل بالحق ، ومشتملا أيضا على الحق . فأخباره صدق ، وأوامره ونواهيه عدل ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام : 115 ). وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس وفي الآية الأخرى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : 44 ). فيحتمل أن هذه الآية ، في الحكم بين الناس ، في مسائل النزاع والاختلاف . وتلك في تبيين جميع الدين ، وأصوله ، وفروعه . ويحتمل أن الآيتين كلتيهما ، معناهما واحد . فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد ، وفي جميع مسائل الأحكام . وقوله تعالى:( بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ )أي : لا بهواك ، بل بما علمك الله وألهمك . كقوله تعالى :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى *) ( النجم 3-4) . وفي هذا دليل على عصمته صلى الله عليه وسلم ، فيما يبلغ عن الله من جميع الأحكام وغيرها . وأنه يشترط في الحكم ، العلم والعدل لقوله : :( بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ) ولم يقل : بما رأيت . ورتب أيضا ، الحكم بين الناس على معرفة الكتاب . ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط ، نهاه عن الجور والظلم ، الذي هو ضد العدل فقال : ( ولا تكن للخائنين خصيما ) أي : لا تخاصم عن من عرفت خيانته ، من مدع ما ليس له ، أو منكر حقا عليه ، سواء علم ذلك ، أو ظنه . ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل ، والنيابة عن المبطل ، في الخصومات الدينية ، والحقوق الدنيوية . ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم .( واستغفر الله ) مما صدر منك إن صدر(1/61)
.(إن الله كان غفورا رحيما) أي : يغفر الذنب العظيم ، لمن استغفره ، وتاب إليه وأناب ،ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك ، الموجب لثوابه ، وزوال عقابه . (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) . " الاختيان " و " الخيانة " بمعنى الجناية ، والظلم ، والإثم ، وهذا يشمل النهي عن المجادلة ، عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة ، من حد أو تعزير ، فإنه لا يجادل عنه ، بدفع ما صدر منه من الخيانة ، أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية . (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ) أي : كثير الخيانة والإثم . وإذا انتفى الحب ، ثبت ضده ، وهو البغض ، وهذا كالتعليل للنهي المتقدم . ثم ذكر عن هؤلاء الخائنين أنهم ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ) . وهذا من ضعف الإيمان ، ونقصان اليقين ، أن تكون مخافة الخلق عندهم ، أعظم من مخافة الله فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة ، على عدم الفضيحة عند الناس ، وهم ـ مع ذلك ـ قد بارزوا الله بالعظائم ، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم . وهو معهم بالعلم ، في جميع أحوالهم ، خصوصا في حال تبييتهم ما لا يُرضيه من القول ، من تبرئة الجاني ، ورمي البريء بالجناية ، والسعي في ذلك للرسول (، ليفعل ما بيتوه . فقد جمعوا بين عدة جنايات ، ولم يراقبوا رب الأرض والسموات المطلع على سرائرهم وضمائرهم ، ولهذا توعدهم تعالى بقوله : ( وكان الله بما يعملون محيطا ) أي : قد أحاط بذلك علما . ومع هذا ، لم يعاجلهم بالعقوبة بل استأنى بهم ، وعرض عليهم التوبة وحذرهم من الإصرار على ذنبهم ، الموجب للعقوبة البليغة . ( ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ) أي : هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا ، ودفع عنهم جدالكم بعض ما يحذرون من العار والفضيحة ، عند الخلق . فماذا يغني عنهم وينفعهم ؟ ومن يجادل(1/62)
الله عنهم يوم القيامة حين تتوجه عليهم الحجة ، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ؟ ( يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ) . فمن يجادل عنهم ، من يعلم السر وأخفى ، ومن أقام عليهم من الشهود ما لا يمكن معه الإنكار ؟ وفي هذه الآية ، الإرشاد إلى المقابلة ، بين ما يتوهم من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر الله ، أو فعل مناهيه . وبين ما يفوت من ثواب الآخرة ، أو يحصل من عقوباتها . فيقول من أمرته نفسه بترك أمر الله ها أنت تركت أمره كسلا وتفريطا ، فما النفع الذي انتفعت به ؟ وماذا فاتك من ثواب الآخرة ؟ وماذا ترتب على هذا الترك من الشقاء والحرمان والخيبة والخسران ؟ وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما تشتهيه من الشهوات المحرمة ، قالها : هبك فعلت ما اشتهيت ، فإن لذته تنقضي ، ويعقبها من الهموم والغموم ، والحسرات ، وفوات الثواب ، وحصول العقاب ـ ما بعضه يكفي العاقل في الإحجام عنها . وهذا من أعظم ما ينفع العبد تدبره ، وهو خاصة ، العقل الحقيقي . بخلاف من يدعي العقل ، وليس كذلك . فإنه ـ بجهله وظلمه ـ يؤثر اللذة الحاضرة ، والراحة الراهنة ، ولو ترتب عليها ما ترتب . والله المستعان . ثم قال تعالى: ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) أي : من تجرأ على المعاصي ، واقتحم على الإثم ، ثم استغفر الله استغفارا تاماً ، يستلزم الإقرار بالذنب ، والندم عليه ، والإقلاع ، والعزم على أن لا يعود . فهذا قد وعده مَن لا يخلف الميعاد ، بالمغفرة والرحمة . فيغفر له ما صدر منه من الذنب ، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب ، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة ، ويوفقه فيما يستقبله من عمره ، ولا يجعل ذنبه حائلا عن توفيقه ، لأنه قد غفره ، وإذا غفره ، غفر ما يترتب عليه . واعلم أن عمل السوء عند الإطلاق ، يشمل سائر المعاصي، الصغيرة والكبيرة . وسمي "(1/63)
سوءا " لكونه يسوء عامله بعقوبته ولكونه ـ في نفسه ـ سيئا ، غير حسن . وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق ، يشمل ظلمها بالشرك ، فما دونه . ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر ، قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه : فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس ، وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ... ويفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده . وسمي ظلم النفس " ظلما " لأن نفس العبد ، ليس ملكا له ، يتصرف فيها بما يشاء . وإنما هي ، ملك لله تعالى ، قد جعلها أمانة عند العبد ، وأمره أن يقيمها على طريق العدل ، بإلزامها الصراط المستقيم ، علما وعملا ، فيسعى في تعليمها ما أمر به ، ويسعى في العمل بما يجب . فسعيه في غير هذا الطريق ، ظلم لنفسه ، وخيانة ، وعدول بها عن العدل ، الذي ضده ، الجور والظلم . ثم قال : (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه ) وهذا يشمل كل ما يؤثم ، من صغير وكبير . فمن كسب سيئة ، فإن عقوبتها الدنيوية والأخروية ، على نفسه ، لا تتعداها إلى غيرها ، كما قال تعالى :( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )+(1/64)
لكن إذا ظهرت السيئات ، فلم تنكر ، عمت عقوبتها ، وشمل إثمها . فلا تخرج أيضا ، عن حكم هذه الآية الكريمة ، لأن من ترك الإنكار الواجب ، فقد كسب سيئة . وفي هذا بيان عدل الله وحكمته ، أنه لا يعاقب أحدا بذنب أحد ، ولا يعاقب أحدا أكثر من العقوبة الناشئة عن ذنبه ، ولهذا قال : ( وكان الله عليما حكيما ) أي : له العلم الكامل ، والحكمة التامة . ومن علمه وحكمته ، أنه يعلم الذنب ، ومن صدر منه ، والسبب الداعي لفعله ، والعقوبة المترتبة على فعله .ويعلم حالة المذنب، أنه إن صدر منه الذنب ، بغلبة دواعي نفسه الأمارة بالسوء ، مع إنابته إلى ربه ، في كثير من أوقاته ، أنه سيغفر له ، ويوفقه للتوبة . وإن صدر بتجرؤه على المحارم ، استخفافا بنظر ربه ، وتهاونا بعقابه ، فإن هذا بعيد من المغفرة ، بعيد من التوفيق للتوبة . ثم قال :( ومن يكسب خطيئة ) أي : ذنبا كبيرا ( أو إثما ) ما دون ذلك .( ثم يرم به ) أي : يتهم بذنبه ( بريئا) من ذلك الذنب وإن كان مذنبا ( فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا )أي : فقد حمل فوق ظهره ، بهتا للبريء وإثما ظاهرا بينا . وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب وموبقاتها . فإنه قد جمع عدة مفاسد : كسب الخطيئة ، والإثم . ثم رمى من لم يفعلها بفعلها . ثم الكذب الشنيع ، بتبرئة نفسه ، واتهام البريء . ثم ما يترتب على ذلك ، من العقوبة الدنيوية ، تندفع عمن وجبت عليه ، وتقام على من لا يستحقها . ثم ما يترتب على ذلك أيضا ، من كلام الناس في البريء ، إلى غير ذلك من المفاسد ، التي نسأل الله العافية منها ، ومن كل شر . ثم ذكر منته على رسوله( بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال : ( ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك ). وذلك أن هذه الآيات الكريمات ، قد ذكر المفسرون ، أن سبب نزولها ، أن أهل بيت ، سرقوا في المدينة . فلما اطلع على سرقتهم ، خافوا الفضيحة ، وأخذوا سرقتهم ، فرموها ببيت من هو بريء من ذلك(1/65)
. واستعان السارق بقومه ، أن يأتوا رسول الله ( ويطلبوا منه أن يبرىء صاحبهم ، على رؤوس الناس . وقالوا : إنه لم يسرق ، وإنما الذي سرق ، من وجدت السرقة ببيته ، وهو البريء . فهم رسول الله ( ، أن يبرىء صاحبهم . فأنزل الله هذه الآيات ، تذكيرا ، وتبيينا لتلك الواقعة ، وتحذيرا للرسول ( ، من المخاصمة عن الخائنين ، فإن المخاصمة عن المبطل ، من الضلال . فإن الضلال نوعان : ضلال في العلم ، وهو الجهل بالحق ؛ وضلال في العمل ، وهو العمل بغير ما يجب . فحفظ الله رسوله ، عن هذا النوع من الضلال ، كما حفظه عن الضلال في الأعمال . وأخبر أن كيدهم ومكرهم ، يعود على أنفسهم ، كحالة كل ماكر ، فقال : (وما يضلون إلا أنفسهم ) لكون ذلك المكر ، وذلك التحيل ، لم يحصل لهم فيه مقصودهم ، ولم يحصل لهم إلا الخيبة والحرمان ، والإثم والخسران . وهذه نعمة كبيرة ، على رسوله ( ، تتضمن النعمة بالعمل ، وهو : التوفيق لفعل ما يحب،والعصمة له عن كل محرم . ثم ذكر نعمته عليه بالعلم فقال : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ) أي : أنزل عليك هذا القرآن العظيم ، والذكر الحكيم ، الذي فيه تبيان كل شيء ، وعلم الأولين والآخرين . والحكمة : إما السنة ، التي قد قال فيها بعض السلف : إن السنة تنزل عليه ، كما ينزل القرآن . وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة ، على معرفة أحكامها ، وتنزيل الأشياء منازلها ، وترتيب كل شيء بحسبه .( وعلمك ما لم تكن تعلم ) وهذا يشمل جميع ما علمه الله تعالى . فإنه ( كما وصفه الله قبل النبوة بقوله : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الشورى : 52 ) وقال :(وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى) (الضحى : 7 ).... ثم لم يزل يوحي الله إليه ، ويعلمه(1/66)
، ويكمله ، حتى ارتقى مقاما من العلم ، يتعذر وصوله على الأولين والآخرين . فكان أعلم الخلق على الإطلاق ، وأجمعهم لصفات الكمال ، وأكملهم فيها . ولهذا قال :( وكان فضل الله عليك عظيما ) ففضله على الرسول محمد ( ، أعظم من فضله على كل الخلق . وأجناس الفضل التي قد فضله الله به ، لا يمكن استقصاؤها ولا يتيسر إحصاؤها .....
قلت : ورد قوله تعالى :( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) في القرآن الكريم في خمس آيات ، وهي :
* (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الأنعام : 164 )
* (مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء : 15 )
* (ياَ أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * )
(فاطر : 15-18 )(1/67)
* (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الزمر : 7 )
*وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى *وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى )( النجم37-41)
9-(لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً * إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) (النساء : 148 -149 )
قال اللغوي رحمه الله :
قوله تعالى : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) يعني: لا يحب الله الجهر بالقبح من القول إلا من ظلم ، يجوز للمظلوم أن يخبر عن ظلم الظالم وأن يدعوَ عليه، قال الله تعالى: (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) (الشورى : 41 ) ... قال الحسن: دعاؤه عليه أن يقول: اللهم أعني عليه ..اللهم استخرج حقي منه.. وقيل:إن شئتم جاز أن يشتم بمثله لا يزيد عليه:
أخبرنا أبو عبد الله الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أخبرنا إسماعيل بن جعفر أنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (قال:"المستبان ما قالا ، فعلى البادىء ما لم يعتد المظلوم". وقال مجاهد هذا في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ويذكر ما صنع به .(1/68)
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا احمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسمعيل أنا قتيبة بن سعيد أنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن ابي الخير عن عقبة بن عامر أنه قال: "قلنا يا رسول الله إنك تبعثُنا فننزِل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله ( :إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم". وقرأ الضحاك بن مزاحم وزيد بن أسلم:"إلا من ظَلَم" بفتح الظاء واللام، معناه: لكن الظالم اجهروا له بالسوء من القول، وقيل معناه: لا يحب الله الجهر بالسور من القول لكن يجهر من ظُلِم.. والقراءة الأولى هي المعروفة .. (وكان الله سميعا) لدعاء المظلوم،(عليماً)، بعقاب الظالم.
وقوله تعالى: (إن تبدوا خيرا) يعني: حسنةً فيعمل بها كتبت له عشراً، وإن لهم بها ولم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وهو قوله : ( أو تخفوه) . قيل المراد من الخير: المال ، يريد :إن تبدوا صدقة تعطونها جهراً أو تخفوها فتعطونها سراً،( أو تعفوا عن سوء )،أي: عن مظلمة،( فإن الله كان عفواً قديرا ً)، فهو أولى بالتجاوز عنكم يوم القيامة
قال السعدي رحمه الله :(1/69)
يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ، أي : يبغض ذلك ويمقته ، ويعاقب عليه . ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة ، التي تسوء وتحزن ، كالشتم ، والقذف ، والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله ، من المنهي عنه ، الذي يبغضه الله . ويدل مفهومها ، أنه يحب الحسن من القول ، كالذكر ، والكلام الطيب اللين . وقوله : ( إلا من ظلم ) أي : فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ، ويشتكي منه ، ويجهر بالسوء لمن جهر له به ، من غير أن يكذب عليه ، ولا يزيد على مظلمته ، ولا يتعدى بشتمه غيرَ ظالمه . ومع ذلك ، فعفوه ، وعدم مقابلته ، أولى كما قال تعالى :( َمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى : 40 )...وقوله تعالى: ( وكان الله سميعا عليما ). ولما كانت الآية ، قد اشتملت على الكلام السيء ، والحسن ، والمباح ، أخبر تعالى ، أنه سميع ، فيسمع أقوالكم ، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم . وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن ؛ وأنه عليم بنياتكم ومصدر أقوالكم . ثم قال تعالى ( إن تبدوا خيرا أو تخفوه) وهذا يشمل كل خير ، قولي ، وفعلي ، ظاهر ، وباطن ، من واجب ، ومستحب . ( أو تعفوا عن سوء) أي : عمن أساء إليكم في أبدانكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، فتسمحوا عنه ، فإن الجزاء من جنس العمل . فمن عفا لله ، عفا الله عنه ، ومن أحسن ، أحسن الله إليه ، فلهذا قال : ( فإن الله كان عفوا قديرا ) أي : يعفو عن زلات عباده ، وذنوبهم العظيمة . فيسدل عليهم ستره ، ثم يعاملهم بعفوه التام ، الصادر عن قدرته . وفي هذه الآية ، إرشاد إلى التدبر في معاني أسماء الله وصفاته ، وأن الخلق والأمر ، صادر عنها ، وهي مقتضية له ، ولهذا يعلل الأحكام ، بالأسماء الحسنى ، كما في هذه الآية . لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء ، رتب على ذلك ، بأن أحالنا على معرفة أسمائه ، وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص...(1/70)
قلت : ما دام الله عز وجل ( لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ ) فإنه تعالى يبغض من يجهر بالسوء ، فليحذر المرءُ خطرَ لسانه...وليذكر قول رسول الله ( : (ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن... فإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء) . رواه الترمذي
أما من ظُلم فقد أُبيح له الرد على من ظلمه ، بقوله تعالى :( إِلاَّ مَن ظُلِمَ ) ، وباعتبار الظلم اعتداء، جاز للمعتَدى عليه الرد ،بقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة : 194 )... وإنْ يتركِ المظلوم الرد بالمثل ويلجأْ إلى الله يشكو إليه ظالمه ويدعو، يكنْ له خيراًَ ..لأن الله تعالى ( يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) (الحج : 38 ) ولأن النبي( قال :
"ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا شكَّ فيهنَّ: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم". رواه أبو داود..
وقال رسول الله ( : ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل. والصائم حتى يفطر. ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين). رواه ابن ماجه
و عن ابن عباس؛ أن النبي ( بعث معاذاً إلى اليمن،- فقال: ... واتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب . رواه البخاري ومسلم...
قال ابن حجر في فتح الباري :(1/71)
قوله واتق دعوة المظلوم أي تجنب الظلم لئلا يدعوَ عليك المظلومُ .. وفيه تنبيه علىالمنع من جميع أنواع الظلم والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم= فإياك وكرائم أموالهم=، الإشارة إلى أن أخذها ظلم.. وقال بعضهم عطف واتق على عامل إياك المحذوف وجوبا فالتقدير اتق نفسك أن تتعرض للكرائم وأشار بالعطف إلى أن أخذ الكرائم ظلم ولكنه عمم إشارة إلى التحرز عن الظلم مطلقا...وقوله ليس بينها وبين الله حجاب ، أي ليس لها صارف يصرفها ولا مانع والمراد أنها مقبولة وإن كان عاصيا كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا = دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه= وإسناده حسن.. وليس المراد أن لله تعالى حجابا يحجبه عن الناس وقال الطيبي قوله اتق دعوة المظلوم تذييل لاشتماله على الظلم الخاص من أخذ الكرائم وعلى غيره ...وقوله فإنه ليس بينها وبين الله حجاب تعليل للإتقاء وتمثيل للدعاء كمن يقصد دار السلطان متظلما فلا يحجب ... قال بن العربي إلا أنه وإن كان مطلقا فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي على ثلاث مراتب إما أن يعجل ما طلب وإما أن يدخر له أفضل منه وإما أن يدفع عنه من السوء مثله وهذا كما قيَّد مطلقَ قوله تعالى: (َمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ.. ) (النمل : 62 )) بقوله تعالى: ( فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء ..) (الأنعام : 41 )(1/72)
10-(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة : 64 )
قال ابن كثير رحمه الله :(1/73)
يخبر تعالى عن اليهود ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ بأنهم وصفوا الله عز وجل وتعالى عن قولهم علواً كبيراً بأنه بخيل, كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا (يد الله مغلولة). قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الطهراني, حدثنا حفص بن عمر العدني, حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس (مغلولة) أي بخيلة, وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس في قوله تعالى : (وقالت اليهود يد الله مغلولة) قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة, ولكن يقولون: بخيل يعني أمسك ما عنده.. تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك, وقرأ : (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً) (الإسراء : 29 )) يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير, وهو زيادة الإنفاق في غير محله, وعبر عن البخل بقوله (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله, وقد قال عكرمة: إنها نزلت في فنحاص اليهودي, عليه لعنة الله, وقد تقدم أنه الذي قال فيه الله الغني الكبير : (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ) (آل عمران : 181 ) فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه... وقال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس إن ربك بخيل لا ينفق, فأنزل الله :( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ) وقد ردّ الله عز وجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه, فقال: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ) وهكذا وقع لهم, فإن عندهم من(1/74)
البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم, كما قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً) (النساء : 53- 54 ), وقال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) (آل عمران : 112 )...
ثم قال تعالى: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) أي بل هو الواسع الفضل, الجزيل العطاء, الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه, وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له, الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه, في ليلنا ونهارنا, وحضرنا وسفرنا, وفي جميع أحوالنا, كما قال: (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم : 34 ) والاَيات في هذا كثيرة,...
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله ("إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض, فإنه لم يغض ما في يمينه ـ قال( ـ: وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض يرفع ويخفض. وقال( : يقول الله تعالى: "أنفق, أنفق عليك" أخرجاه في الصحيحين, البخاري في التوحيد عن علي بن المديني, ومسلم فيه عن محمد بن رافع, كلاهما عن عبد الرزاق به.(1/75)
وقوله تعالى:( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً) أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم, فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً, يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغياناً, وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء, وكفراً أي تكذيباً, كما قال تعالى: ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) (فصلت : 44 ) وقال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً) (الإسراء : 82 ),
وقوله تعالى:( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) يعني أنه لا تجتمع قلوبهم بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائماً, لأنهم لا يجتمعون على حق, وقد خالفوك وكذبوك, وقال إبراهيم النخعي: ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قال: الخصومات والجدال في الدين, رواه ابن أبي حاتم.
وقوله :(كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ) أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها, وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها, أبطلها الله ورد كيدهم عليهم, وحاق مكرهم السيء بهم... (وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإفساد في الأرض, والله لا يحب من هذه صفته,...
وقال السعدي رحمه الله :(1/76)
وقالت اليهود( يد الله مغلولة ) أي : عن الخير والإحسان ، والبر . (غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) وهذا دعاء عليهم ، بجنس مقالتهم . فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم ، بالبخل ، وعدم الإحسان . فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم . فكانوا أبخل الناس ، وأقلهم إحسانا ، وأسوأهم ظنا بالله ، وأبعدهم عن رحمته ، التي وسعت كل شيء ، وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي .ولهذا قال:( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) لا حجر عليه ، ولا مانع يمنعه ، مما أراد . فإنه تعالى ، قد بسط فضله ، وإحسانه الديني والدنيوي ، وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده ، وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه ، بمعاصيهم . فيده سحاء الليل والنهار ، وخيره في جميع الأوقات مدرارا . يفرج كربا ،ويزيل غما ،ويغني فقيرا ، ويفك أسيرا ويجبر كسيرا ، ويجيب سائلا ، ويعطي فقيرا عائلا ، ويجيب المضطرين ، ويستجيب للسائلين . وينعم على من لم يسأله ، ويعافي من طلب العافية ، ولا يحرم من خيره عاصيا ... بل خيره ، يرتع فيه البر والفاجر ، ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال . ثم يحمدهم عليها ، ويضيفها إليهم ، وهي من جوده ، ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل ، ما لا يدركه الوصف ، ولا يخطر على بال العبد . ويلطف بهم في جميع أمورهم ، ويوصل إليهم من الإحسان ، ويدفع عنهم من النقم ما لا يشعرون بكثير منه . فسبحان من كل النعم التي بالعباد فمنه ، وإليه يجأرون في دفع المكاره . وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه . وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين ، بل ولا وجود لهم ولا بقاء إلا بجوده . وقبح الله من استغنى بجهله عن ربه ، ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله . بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة ، ونحوهم ممن حاله كحالهم ، ببعض قولهم ، لهلكوا ، وشقوا في دنياهم . ولكنهم يقولون تلك الأقوال؛ وهو تعالى يحلم عنهم ويصفح ،(1/77)
ويمهلهم ولا يهملهم . وقوله : ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) . وهذا من أعظم العقوبات على العبد ، أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله ، الذي فيه حياة القلب والروح ، وسعادة الدنيا والآخرة ، وفلاح الدارين ، الذي هو أكبر منه ، امتن الله بها على عباده ، توجب عليهم المبادرة إلى قبولها ، والاستسلام لله بها ، وشكرا لله عليها ، أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه ، وطغيان إلى طغيانه ، وكفر إلى كفره . وذلك ، بسبب ، إعراضه عنها ، ورده لها ، ومعاندته إياها ، ومعارضته لها ، بالشبه الباطلة . ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) فلا يتألفون ، ولا يتناصرون ، ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم . بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم ، متعادين بأفعالهم ، إلى يوم القيامة . (كلما أوقدوا نارا للحرب ) ليكيدوا بها الإسلام وأهله ، وأبدوا ، وأعادوا ، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم ( أطفأها الله ) بخذلانهم ، وتفرق جنودهم ، وانتصار المسلمين عليهم . ( ويسعون في الأرض فسادا ) أي : يجتهدون ويجدون ، ولكن بالفساد في الأرض . أي : بعمل المعاصي ، والدعوة إلى دينهم الباطل ، والتعويق عن الدخول في الإسلام . ( والله لا يحب المفسدين ) بل يبغضهم أشد البغض ، وسيجازيهم على ذلك
قلت : فمن تولى المغضوب عليهم وجعل يده في أيديهم القذرة معيناً إياهم على زرع الفساد في الأرض لا محالة ينالُه نصيبُه من غضب الله تعالى، متمثلاً في الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ...(1/78)
وكيف يتوَلاهم مسلمُُ عاقل ، وهم لا يألون جهداً لصدنا عما أُنزل إلينا وجعلنا مثلهم نحرفه أو نؤمن ببعضه ونكفر ببعض ؟ أما يقرأ المسلم قول الباري سبحانه : (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء : 46 )وقوله : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة : 85 ) ...
وكيف يتخذهم أولياء وهم يهدمون المساجد ويمنعون المصلين منها ؟ أما يتلو قوله عز وجل : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة : 114 ) ،
وكيف يوادهم وهم لا هَمَّ لهم إلا محاربة الله ورسوله والدين الحق ؟ أما سمع قول القاهر فوق عباده: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة : 33 ) ،(1/79)
وكيف يسارع إليهم ويتبع أهواءهم وهو يعلم يقينا أنهو قوم لا عهد لهم ولا ميثاق رانت على قلوبهم الغلف البعفِّنة كلُّ الخصال الذميمة وزيادة :الكفر والنفاق ، الكذب والخداع ، التحريف والإنحراف،...؟ أما قرع أذنيه قول الله العزيز ذي انتقام : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة : 41 )
عجبا... متى نعقل قوله تعالى : (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران : 28 ) ؟ . وقوله : ( وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ) ؟ (التوبة : 123 ) ؟
وكيف يظن الموالون لهم أنهم رضوا عنهم ؟ لعلهم نسوا قوله تعالى : (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) (البقرة : 120 ) ..أم اتبعوا ملتهم الزائفة ؟ ما كانوا ليفعلوا لو أنهم عقلوا قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ) (المائدة : 82 )...(1/80)
أما يكفي هؤلاء زاجراً عن موالاتهم قولُه عز وجل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة : 51 ) ؟
متى نصيح في وجوههم صادعين بقول ربنا : ( إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) (الممتحنة : 4 ) ؟؟؟
11-(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ) (المائدة 87 - 88)
قال القرطبي رحمه الله :
أسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي (فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم؛ فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب رسول الله ( منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وعبدالله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن رضي الله عنهم، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض، ويترهبوا ويجبوا المذاكير؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. والأخبار بهذا المعنى كثيرة وإن لم يكن فيها ذكر النزول ...(1/81)
خرج مسلم عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي ( سألوا أزواج النبي ( عن عمله في السر؛ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء؛ وقال بعضهم: لا آكل اللحم؛ وقال بعضهم: لا أنام على الفراش؛ فحمد الله وأثنى عليه فقال: وما بال أقوام قالوا كذا وكذا.. لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء.. فمن رغب عن سنتي فليس مني.
وخرجه البخاري عن أنس أيضا ولفظه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ( يسألون عن عبادته؛ فلما أخبروا كأنهم تقالوها - فقالوا: وأين نحن من النبي ( ؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله ( فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا.. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ... فمن رغب عن سنتي فليس مني.
وخرجا عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه النبي ( ولو أجاز له ذلك لاختصينا.(1/82)
وخرج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسنده قال حدثنا أبو المغيرة قال حدثنا معان بن رفاعة، قال حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله ( في سرية من سراياه؛ قال: فمر رجل بغار فيه شيء من الماء فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء، ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى عن الدنيا؛ قال: لو أني أتيت إلى النبي ( فذكرت له ذلك، فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل؛ فأتاه فقال: يا نبي الله ، إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا؛ قال: فقال له النبي ( : إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين؛ إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه؛(1/83)
قال الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقة؛ ولذلك رد النبي ( التبتل على ابن مظعون فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله ( ، وسنة أمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد ( ، فإذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء. قال الطبري: فإن ظن ظان أن الخير في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ؛ وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته.
وقد جاء رجل إلى الحسن البصري؛ فقال: إن لي جارا لا يأكل الفالوذج فقال: ولم؟ قال: يقول لا يؤدي شكره؛ فقال الحسن: أفيشرب الماء البارد؟ فقال: نعم. فقال: إن جارك جاهل، فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج.
قال ابن العربي قال علماؤنا: هذا إذا كان الدين قواما، ولم يكن المال حراما؛ فأما إذا فسد الدين عند الناس وعمَّ الحرام فالتبتل أفضل، وترك اللذات أولى، وإذا وجد الحلال فحال النبي ( أفضل وأعلى.
قال المهلب: إنما نهى ( عن التبتل والترهب من أجل أنه مكاثر بأمته الأمم يوم القيامة، وأنه في الدنيا مقاتل بهم طوائف الكفار، وفي آخر الزمان يقاتلون الدجال؛ فأراد النبي (أن يكثر النسل.(1/84)
قوله تعالى:(ولا تعتدوا) قيل: المعنى لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله ؛ فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين؛ أي لا تشددوا فتحرموا حلالا، ولا تترخصوا فتحلوا حراما؛ قاله الحسن البصري. وقيل: معناه التأكيد لقوله: "تحرموا"؛ قاله السدي وعكرمة وغيرهما؛ أي لا تحرموا ما أحل الله وشرع. والأول أولى. والله أعلم.
من حرم على نفسه طعاما أو شرابا أو أَمَة له، أو شيئا مما أحل الله فلا شيء عليه، ولا كفارة في شيء من ذلك عند مالك؛ إلا أنه إن نوى بتحريم الأَمَة. عتقها صارت حرة وحرم عليه وطؤها إلا بنكاح جديد بعد عتقها. وكذلك إذا قال لامرأته أنت علي حرام فإنه تطلق عليه ثلاثا؛ وذلك أن الله تعالى قد أباح له أن يحرم امرأته عليه بالطلاق صريحا وكناية، وحرام من كنايات الطلاق ... وقال أبو حنيفة: إن من حرم شيئا صار محرما عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة؛ وهذا بعيد والآية ترد عليه. وقال سعيد بن جبير: لغو اليمين تحريم الحلال. وهو معنى قول الشافعي على ما يأتي.
وقوله تعالى : (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون)(1/85)
قوله تعالى: "وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا" فيه مسألة واحدة: الأكل في هذه الآية عبارة عن التمتع بالأكل والشرب واللباس والركوب ونحو ذلك. وخص، الأكل بالذكر؛ لأنه أعظم المقصود وأخص الانتفاعات بالإنسان. ... وأما شهوة الأشياء الملذة، ومنازعة النفس إلى طلب الأنواع الشهية، فمذاهب الناس في تمكين النفس منها مختلفة؛ فمنهم من يرى صرف النفس عنها وقهرها عن اتباع شهواتها أحرى ليذل له قيادها، ويهون عليه عندها؛ فإنه إذا أعطاها المراد يصير أسير شهواتها، ومنقادا بانقيادها. حكي أن أبا حازم كان يمر على الفاكهة فيشتهيها فيقول: موعدك الجنة. وقال آخرون: تمكين النفس من لذاتها أولى لما فيه من ارتياحها ونشاطها بإدراك إرادتها. وقال آخرون: بل التوسط في ذلك أولى؛ لأن في إعطائها ذلك مرة ومنعها أخرى جمع بين الأمرين؛ وذلك النصف من غير شين. . .
وقال السعدي رحمه الله :
قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) من المطاعم والمشارب ، فإنها نعم أنعم الله بها عليكم ، فاحمدوه إذ أحلها لكم ، واشكروا له ، ولا تردوا نعمته بكفرها ، أو عدم قبولها ، أو اعتقاد تحريمها . فتجمعوا بذلك بين قول الكذب على الله ، وكفر النعمة ، واعتقاد الحلال الطيب حراما خبيثا ، فإن هذا من الاعتداء . والله قد نهى عن الاعتداء فقال :( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) بل يبغضهم ويمقتهم ، ويعاقبهم على ذلك .(1/86)
ثم أمر بضد ما عليه المشركون ، الذين يحرمون ، ما أحل الله فقال :( وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) أي : كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم ، بما يسره من الأسباب ، إذ كان حلالا ، لا سرقة ، ولا غصبا ، ولا غير ذلك ، من أنواع الأموال ، التي تؤخذ بغير حق . وكان أيضا طيبا ، وهو : الذي لا خبث فيه . فخرج بذلك الخبيث من السباع والخبائث . ( واتقوا الله ) في امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه... ( الذي أنتم به مؤمنون ) فإن إيمانكم بالله ، يوجب عليكم تقواه ومراعاة حقه . فإنه لا يتم إلا بذلك . ودلت الآية الكريمة ، على أنه إذا حرم حلالا عليه ، من طعام ، وشراب ، وسرية ، وأمة ، ونحو ذلك ، فإنه لا يكون حراما بتحريمه . لكن لو فعله ، فعليه كفارة يمين ،كما قال تعالى :(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) (التحريم :1-2) . إلا أن تحريم الزوجة ، فيه كفارة ظهار . ويدخل في هذه الآية ، أنه لا ينبغي للإنسان ، أن يتجنب الطيبات ، ويحرمها على نفسه ، بل يتناولها ، مستعينا بها ، على طاعة ربه .
وقال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف : 32 )(1/87)
يقول تعالى ـ منكرا على من تعنت ، وحرم ما أحل الله من الطيبات ـ (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) من أنواع اللباس ، على اختلاف أصنافه ، والطيبات من الرزق ، من مأكل ، ومشرب ، بجميع أنواعه ، أي : مَن هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم الله على العباد ، ومَن ذا الذي يُضيِّق عليهم ، ما وسَّعه الله ؟ وهذا التوسيع من الله لعباده ، بالطيبات ، جعله لهم ليستعينوا به على عبادته ، فلم يبحه إلا لعباده المؤمنين ، ولهذا قال : ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) أي : لا تبعة عليهم فيها . ومفهوم الآية ، أن من لم يؤمن بالله ، بل استعان بها على معاصيه ، فإنها غير خالصة له ولا مباحة ، بل يعاقب عليها ، وعلى التنعم بها ، ويسأل عن النعيم يوم القيامة . ( كذلك نفصل الآيات ) أي : نوضحها ونبينها (لقوم يعلمون ) لأنهم الذين ينتفعون بما فصله الله من الآيات ، ويعلمون أنها من عند الله ، فيعقلونها ويفهمونها ....
وقال الشوكاني رحمه الله :
قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) ، الطيبات: هي المستلذات مما أحله الله لعباده، نهى الذين آمنوا عن أن يحرموا على أنفسهم شيئاً منها، إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله وتقرباً إليه، وأنه من الزهد في الدنيا لرفع النفس عن شهواتها، أو لقصد أن يحرموا على أنفسهم شيئاً مما أحله لهم كما يقع من كثير من العوام من قولهم: حرام علي وحرمته على نفسي ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني.
وقوله: (ولا تعتدوا) أي لا تعتدوا على الله بتحريم طيبات ما أحل الله لكم، أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله عليكم: أي تترخصوا فتحللوا حراماً كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال.(1/88)
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من حرم على نفسه شيئاً مما أحل الله له فلا يحرم عليه ولا يلزمه كفارة. وقال أبو حنيفة وأحمد ومن تابعهما: إن من حرم شيئاً صار محرماً عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة ...
وقوله: (إن الله لا يحب المعتدين) تعليل لما قبله، وظاهره إنه تحريم كل اعتداء: أي مجاوزة لما شرعه الله في كل أمر من الأمور.
وقوله : (وكلوا مما رزقكم الله) حال كونه (حلالاً طيباً) أي غير محرم ولا مستقذر، أو أكلاً حلالاً طيباً، أو كلوا حلالاً طيباً مما رزقكم الله، ثم وصاهم الله سبحانه بالتقوى فقال: (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في رهط من الصحابة قالوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي ( فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم، فقال النبي (: ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني". وقد ثبت نحو هذا في الصحيحين وغيرهما من دون ذكر أن ذلك سبب نزول الآية.(1/89)
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في المراسيل وابن جرير عن أبي مالك أن هؤلاء الرهط: هم عثمان بن مظعون وأصحابه، وفي الباب روايات كثيرة بهذا المعنى، وكثير منها مصرح بأن ذلك سبب نزول الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم "أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله، فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظاراً له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي هو حرام علي، فقالت امرأته: هو حرام علي فقال الضيف: هو حرام علي، فلما رأى ذلك وضع يده وقال: كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبي ( فأخبره، فقال رسول الله ( : قد أصبت فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"" وهذا أثر منقطع، ولكن في صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه ما هو شبيه بهذا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال: كنا عند عبد الله فجيء بضرع، فتنحى رجل، فقال له عبد الله: ادن، فقال: إني حرمت أن آكله، فقال عبد الله: ادن فاطعم وكفر عن يمينك، وتلا هذه الآية:( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) . وأخرجه أيضاً الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
12-(وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ *وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (الأنعام 141 -142 )
قال ابن كثيررحمه الله :(1/90)
يقول تعالى مبيناً أنه الخالق لكل شيء من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها هؤلاء المشركون بآرائهم الفاسدة, وقسموها وجزؤوها فجعلوا منها حراماً وحلالاً, فقال (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: معروشات مسموكات, وفي رواية فالمعروشات ما عرش الناس, وغير معروشات ما خرج في البر والجبال من الثمرات, وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس: معروشات ما عرش من الكرم وغير معروشات ما لم يعرش من الكرم, وكذا قال السدي, وقال ابن جريج في قوله تعالى :( مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ), قال: متشابهاً في المنظر وغير متشابه في المطعم, وقال محمد بن كعب في (كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) قال: من رطبه وعنبه, وقوله تعالى: (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) قال ابن جرير: قال بعضهم هي الزكاة المفروضة, حدثنا عمرو, حدثنا عبد الصمد, حدثنا يزيد بن درهم, قال: سمعت أنس بن مالك يقول (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: الزكاة المفروضة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وآتوا حقه يوم حصاده) يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيله, وكذا قال سعيد بن المسيب, وقال العوفي عن ابن عباس (وآتوا حقه يوم حصاده) وذلك أن الرجل كان إذا زرع, فكان يوم حصاده لم يخرج مما حصد شيئاً فقال الله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) وذلك أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد, وما يلقط الناس من سنبله,
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه من حديث محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان, عن عمه واسع بن حبان, عن جابر بن عبد الله, أن النبي ( أمر من كل جاذّ عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين, وهذا إسناد جيد قوي,(1/91)
وقال طاوس وأبو الشعثاء وقتادة والحسن والضحاك وابن جريج: هي الزكاة, وقال الحسن البصري: هي الصدقة من الحب والثمار, وكذا قال زيد بن أسلم, وقال آخرون: وهو حق آخر سوى الزكاة, وقال أشعث: عن محمد بن سيرين ونافع عن ابن عمر في قوله تعالى : (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: كانوا يعطون شيئاً سوى الزكاة رواه ابن مردويه
وروى عبد الله بن المبارك وغيره عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في قوله (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: يعطي من حضره يومئذ ما تيسر, وليس بالزكاة, وقال مجاهد: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه,
وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: عند الزرع يعطي القبضة وعند الصرام يعطي القبضة, ويتركهم فيتبعون آثار الصرام,
وقال الثوري: عن حماد عن إبراهيم النخعي قال: يعطي مثل الضغث, وقال ابن المبارك عن شريك عن سالم عن سعيد بن جبير (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: كان هذا قبل الزكاة, للمساكين القبضة والضغث لعلف دابته, وفي حديث ابن لهيعة: عن دراج عن أبي الهيثم عن سعيد مرفوعاً, (وآتوا حقه يوم حصاده) قال : ما سقط من السنبل.. رواه ابن مردويه,
وقال آخرون: هذا شيء كان واجباً ثم نسخه الله بالعشر أو نصف العشر, حكاه ابن جرير عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية وإبراهيم النخ عي والحسن والسدي وعطية العوفي وغيرهم, واختاره ابن جرير رحمه الله,
قلت: وفي تسمية هذا نسخاً نظر, لأنه قد كان شيئاً واجباً في الأصل ثم إنه فصل بيانه وبين مقدار المخرج وكميته, قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة, فا لله أعلم.(1/92)
وقد ذم الله سبحانه الذين يصرمون ولا يتصدقون كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة = القلم = قال : ( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ *فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (17-20 ) أي كالليل المدلهم سوداء محترق ( فتنادوا مصبحين * أن غدوا على حرثكم إن كنتم صارمين * فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين * وغدوا على حرد} أي قوة وجلد وهمة {قادرين * فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون * قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون * قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين * فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون * قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين * عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون * كذلك العذاب ولعذاب الاَخرة أكبر لو كانوا يعلمون)....(21-23)(1/93)
وقوله تعالى: (وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) قيل معناه لا تسرفوا في الإعطاء فتعطوا فوق المعروف, وقال أبو العالية: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئاً ثم تباروا فيه وأسرفوا, فأنزل الله : (ولا تسرفوا) وقال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس, جذ نخلاً له فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة, فأنزل الله تعالى: (وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) رواه ابن جرير عنه, وقال ابن جريج عن عطاء: نهوا عن السرف في كل شيء, وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف, وقال السدي في قوله (ولا تسرفوا) قال: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء, وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب في قوله (ولا تسرفوا) قال: لا تمنعوا الصدقة فتعصوا ربكم, ثم اختار ابن جرير قول عطاء, أنه نهي عن الإسراف في كل شيء ولا شك أنه صحيح, لكن الظاهر والله أعلم من سياق الاَية, حيث قال تعالى: (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا) أن يكون عائداً على الأكل, أي لا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن, كقوله تعالى: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ) (الأعراف : 31 ).
وفي صحيح البخاري تعليقاً "كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة" وهذا من هذا, والله أعلم(1/94)
وقوله عز وجل:( وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا) أي وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة وما هو فرش, قيل المراد بالحمولة ما يحمل عليه من الإبل, والفرش الصغار منها, كما قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله: حمولة ما حمل عليه من الإبل وفرشاً الصغار من الإبل, رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وقال ابن عباس: الحمولة هي الكبار والفرش الصغار من الإبل, وكذا قال مجاهد, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ( وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا) أما الحمولة فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه, وأما الفرش فالغنم, واختاره ابن جرير قال: وأحسبه إنما سمي فرشاً لدنوه من الأرض, وقال الربيع بن أنس والحسن والضحاك وقتادة وغيره: الحمولة الإبل والبقر والفرش الغنم, وقال السدي: أما الحمولة فالإبل وأما الفرش فالفصلان والعجاجيل والغنم, وما حمل عليه فهو حمولة, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الحمولة ما تركبون والفرش ما تأكلون وتحلبون, شاة لا تحمل تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافاً وفرشاً, وهذا الذي قاله عبد الرحمن: في تفسير هذه الاَية الكريمة حسن يشهد له قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ( يس 71-72 ) وقال تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ *وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ(1/95)
كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن(1/96)
بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ ) (النحل 66- 80 )
وقال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ) (غافر 79- 81 )(1/97)
وقوله تعالى: (كلوا مما رزقكم الله) أي من الثمار والزروع والأنعام فكلها خلقها الله وجعلها رزقاً لكم (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) أي طريقه وأوامره كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله, أي من الثمار والزروع افتراء على الله, (إنه لكم) أي أن الشيطان أيها الناس لكم (عدو مبين) أي بين ظاهر العداوة, كما قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر : 6 ) وقال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف : 27 ), وقال تعالى: ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (الكهف : 50 ) والاَيات في هذا كثيرة في القرآن.
وقال السعدي رحمه الله:(1/98)
لما ذكر تعالى تصرف المشركين في كثير مما أحله الله لهم ، من الحروث والأنعام ، ذكر تبارك وتعالى ، نعمته عليهم بذلك ، ووظيفتهم اللازمة عليهم ، في الحروث والأنعام فقال : ( وهو الذي أنشأ جنات ) أي : بساتين ، فيها أنواع الأشجار المتنوعة ، والنباتات المختلفة . (معروشات وغير معروشات ) أي : بعض تلك الجنات ، مجعول لها عرش ، تنتشر عليه الأشجار ، ويعاونها في النهوض عن الأرض . وبعضها خال من العروش ، تنبت على ساق ، أو تنفرش في الأرض . وفي هذا تنبيه على كثرة منافعها ، وخيراتها ، وأنه تعالى ، علم العباد كيف يعرشونها ، وينمونها . ( و) أنشأ تعالى ( النخل والزرع مختلفا أكله ) أي : كله في محل واحد ، ويشرب من ماء واحد ، ويفضل الله بعضه على بعض في الأكل . وخص تعالى ، النخل ، والزرع على اختلاف أنواعه ، لكثرة منافعها ، ولكونها هي القوت لأكثر الخلق . ( و ) أنشأ تعالى( الزيتون والرمان متشابها ) في شجره ( وغير متشابه ) في ثمره وطعمه . كأنه قيل : لأي شيء أنشأ الله هذه الجنات ، وما عطف عليها ؟ فأخبر أنه أنشأها لمنافع العباد ، فقال : (كلوا من ثمره ) أي : النخل والزرع ( إذا أثمر)...( وآتوا حقه يوم حصاده ) أي : أعطوا حق الزرع ، وهو الزكاة ذات الأنصباء المقدرة في الشرع . أمرهم أن يعطوها يوم حصاده ، وذلك لأن حصاد الزرع ، بمنزلة حولان الحول . لأنه الوقت ، الذي تتشوف إليه نفوس الفقراء ، ويسهل حينئذ إخراجه على أهل الزرع ، ويكون الأمر فيها ظاهرا ، لمن أخرجها ، حتى يتميز المخرج ممن لا يخرج . وقوله :( ولا تسرفوا ) يعم النهي عن الإسراف في الأكل ، وهو : مجاوزة الحد والعادة ، وأن يأكل صاحب الزرع أكلا يضر بالزكاة ، والإسراف في إخراج حق الزرع ، بحيث يخرج فوق الواجب عليه ، أو يضر نفسه أو عائلته أو غرماءه . فكل هذا ، من الإسراف الذي نهى الله عنه ،والذي لا يحبه الله ، بل يبغضه ويمقت عليه . وفي هذه الآية ، دليل على وجوب(1/99)
الزكاة في الثمار ، وأنه لا حول لها ، بل حولها ، حصادها في الزروع ، وجذاذ النخيل . وأنه لا تتكرر فيها الزكاة ، لو مكثت عند العبد أحوالا كثيرة ، إذا كانت لغير التجارة ، لأن الله لم يأمر بالإخراج منه ، إلا وقت حصاده . وأنه لو أصابها آفة قبل ذلك بغير تفريط من صاحب الزرع والثمر ، أنه لا يضمنها ، وأنه يجوز الأكل من النخل والزرع ، قبل إخراج الزكاة منه ، وأنه لا يحسب ذلك من الزكاة ، بل يزكى المال الذي يبقى بعده . وقد كان النبي (يبعث خارصا ، يخرص للناس ثمارهم ، ويأمره أن يدع لأهلها الثلث ، أو الربع ، بحسب ما يعتريها من الأكل وغيره ، من أهلها ، وغيرهم ....
13- (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف : 31-32 )
قال ابن كثير رحمه الله :
هذه الاَية الكريمة رد على المشركين فيما كانوا يعتمدونه, من الطواف بالبيت عراة كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير, واللفظ له من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء, الرجال بالنهار والنساء بالليل, وكانت المرأة تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلهُ وما بدا منه فلا أحله(1/100)
فقال الله تعالى (خذوا زينتكم عند كل مسجد) وقال العوفي: عن ابن عباس في قوله (خذوا زينتكم عند كل مسجد) , قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة, والزينة اللباس وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع, فأُمِروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد, وهكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك ومالك, عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة, وقد روى الحافظ بن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي, عن قتادة, عن أنس مرفوعاً, أنها نزلت في الصلاة في النعال, ولكن في صحته نظر, والله أعلم...
ولهذه الاَية وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة, ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد, والطيب لأنه من الزينة والسواك لأنه من تمام ذلك.
ومن أفضل اللباس البياض كما قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم, حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم, عن سعيد بن جبير وصححه عن ابن عباس مرفوعاً, قال: قال رسول الله ("البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم, وكفنوا فيها موتاكم وإن خير أكحالكم الإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر" هذا حديث جيد الإسناد, رجاله على شرط مسلم ، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم به, وقال الترمذي: حسن صحيح...
وللإمام أحمد أيضاً وأهل السنن بإسناد جيد عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله ( "عليكم بثياب البياض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم"
وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين: أن تميماً الداري اشترى رداء بألف وكان يصلي فيه,
وقوله تعالى :(وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ), قال بعض السلف جمع الله الطب كله في نصف آية: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ).(1/101)
وقال البخاري قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأَتْك خصلتان = سرف ومخيلة,...
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب مالم يكن سرفاً أو مخيلة, إسناده صحيح,
وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز, حدثنا همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, أن رسول الله ( قال: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف, فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده" ورواه النسائي وابن ماجه من حديث قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ( قال : "كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة"
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا سليمان بن سليم الكلبي, حدثنا يحيى بن جابر الطائي سمعت المقدام بن معديكرب الكندي, قال: سمعت رسول الله( يقول "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان فاعلاً لا محالة, فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" .. ورواه النسائي والترمذي من طرق عن يحيى بن جابر به, وقال الترمذي: حسن وفي نسخة حسن صحيح.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا سويد بن عبد العزيز, حدثنا بقية عن يوسف بن أبي كثير عن نوح بن ذكوان عن الحسن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ( "إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت"
ورواه الدارقطني في الأفراد, وقال: هذا حديث غريب تفرد به بقية,(1/102)
وقال السدي: كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم, فقال الله تعالى لهم: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ),, يقول لا تسرفوا في التحريم, وقال مجاهد: أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :( وَلاَ تُسْرِفُواْ ), يقول: ولا تأكلوا حراماً ذلك الإسراف, وقال عطاء الخراساني: عن ابن عباس قوله :(وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ), في الطعام والشراب, وقال ابن جرير: وقوله:( إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ),, يقول الله تعالى: إن الله لا يحب المتعدين حده في حلال أو حرام الغالين فيما أحل بإحلال الحرام أو بتحريم الحلال, ولكنه يحب أن يحلل ما أحل ويحرم ما حرم وذلك العدل الذي أمر به.
قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِي لِلّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )(1/103)
يقول تعالى رداً على من حرم شيئاً من المآكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله (قل) يا محمد لهؤلاء المشركين, الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم (مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِي لِلّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) أي هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا, وإن شركهم فيها الكفار حباً في الدنيا فهي لهم خاصة ( لِلّذِينَ آمَنُواْ ) يوم القيامة, ولا يشركهم فيها أحد من الكفار, فإن الجنة محرمة على الكافرين, قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين القاضي, حدثنا يحيى الحماني, حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون, فأنزل الله (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) فأمروا بالثياب
وقوله تعالى:( قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله ( "لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن, ولا أحد أحب إليه المدح من الله" أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش, عن شقيق عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود...(1/104)
وقوله (والإثم والبغي بغير الحق) قال السدي: أما الإثم فالمعصية والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق, وقال مجاهد, الإثم المعاصي كلها وأخبر أن الباغي بغيه على نفسه, وحاصل ما فسر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه, والبغي هو التعدي إلى الناس فحرم الله هذا وهذا, وقوله تعالى: (وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً) أي تجعلوا له شركاء في عبادته (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولداً ونحو ذلك مما لا علم لكم به, كقوله:( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج : 30 ).
وقال القرطبي رحمه الله :
قوله تعالى: (يا بني آدم) هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا؛ فإنه عام في كل مسجد للصلاة. لأن العبرة للعموم لا للسبب. ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف؛ لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد، والذي يعم كل مسجد هو الصلاة. وهذا قول من خفي عليه مقاصد الشريعة. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: من يعيرني تِطوافا؟ تجعله على فرجها. وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية: (خذوا زينتكم عند كل مسجد). التِّطواف (بكسر التاء). وهذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن قرط؛ قاله القاضي عياض.(1/105)
وفي صحيح مسلم أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات. في غير مسلم: ويقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه؛ فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى؛
قال قائل من العرب: كفى حزنا كري عليه كأنه لقى بين أيدي الطائفين حريم
فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا (؛ فأنزل الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍة ) وأذن مؤذن رسول الله ( : ألَّا يطوف بالبيت عريان. قلت: ومن قال بأن المراد الصلاة فزينتها النعال؛ لما رواه كرز بن وبرة عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي ( أنه قال ذات يوم: خذوا زينة الصلاة ؛ قيل: وما زينة الصلاة؟ قال: البسوا نعالكم فصلوا فيها.
دلت الآية على وجوب ستر العورة كما تقدم. وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها فرض من فروض الصلاة. وقال الأبهري هي فرض في الجملة، وعلى الإنسان أن يسترها عن أعين الناس في الصلاة وغيرها. وهو الصحيح؛ لقوله ( للمسور بن مخرمة: أرجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة. أخرجه مسلم.
وذهب إسماعيل القاضي إلى أن ستر العورة من سنن الصلاة، واحتج بأنه لو كان فرضا في الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلي؛ لأن كل شيء من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه، أو بدله مع عدمه، أو تسقط الصلاة جملة، وليس كذلك.(1/106)
قال ابن العربي: وإذا قلنا إن ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمام فانكشف دبره وهو راكع فرفع رأسه فغطاه أجزأه؛
قاله ابن القاسم. وقال سحنون: وكل من نظر إليه من المأمومين أعاد. وروي عن سحنون أيضا: أنه يعيد ويعيدون؛ لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، فإذا ظهرت بطلت الصلاة. أصله الطهارة.
قال القاضي ابن العربي: أما من قال، إن صلاتهم لا تبطل فإنهم لم يفقدوا شرطا، وأما من قال إن أخذه مكانه صحت صلاته وتبطل صلاة من نظر إليه فصحيفة يجب محوها ولا يجوز الاشتغال بها.
وفي البخاري والنسائي عن عمرو بن سلمة قال: لما رجع قومي من عند النبي ( قالوا قال: ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن. قال: فدعوني فعلموني الركوع والسجود؛ فكنت أصلي بهم وكانت علي بردة مفتوقة، وكانوا يقولون لأبي: ألا تغطي عنا إست ابنك. لفظ النسائي.
وثبت عن سهل بن سعد قال: لقد كانت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر خلف رسول الله ( في الصلاة كأمثال الصبيان؛ فقال قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن حتى ترفع الرجال. أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود.(1/107)
واختلفوا إذا رأى عورة نفسه؛ فقال الشافعي: إذا كان الثوب ضيقا يزره أو يخلله بشيء لئلا يتجافى القميص فترى من الجيب العورة، فإن لم يفعل ورأى عورة نفسه أعاد الصلاة. وهو قول أحمد. ورخص مالك في الصلاة في القميص محلول الأزرار، ليس عليه سراويل. وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور. وكان سالم يصلي محلول الأزرار. وقال داود الطائي: إذا كان عظيم اللحية فلا بأس به. وحكى معناه الأثرم عن أحمد. فإن كان إماما فلا يصلي إلا بردائه؛ لأنه من الزينة. وقيل: من الزينة الصلاة في النعلين؛ رواه أنس عن النبي ( ولم يصح. وقيل: زينة الصلاة رفع الأيدي في الركوع وفي الرفع منه. قال أبو عمر: لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي. وقال عمر رضي الله عنه: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، جمع رجل عليه ثيابه، صلى في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء - وأحسبه قال: في تبان وقميص - في تبان ورداء، في تبان وقباء. رواه البخاري والدارقطني.(1/108)
قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) قال ابن عباس: أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة. فأما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوعة وسكن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس؛ ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال؛ لأنه يضعف الجسد ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع ويدفعه العقل. وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر ولا نصيب من زهد؛ لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابا وأعظم أجرا. وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين: فقيل حرام، وقيل مكروه. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطعمان. ثم قيل: في قلة الأكل منافع كثيرة؛ منها أن يكون الرجل أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأقل نوما وأخف نفسا. وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل. وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء. وقد بين النبي ( هذا المعنى بيانا شافيا يغني عن كلام الأطباء فقال: ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه. خرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب.(1/109)
قال علماؤنا: لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة. ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل: (وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا). فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب. فقال علي: جمع رسول الله ( الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء وأعط كل جسد ما عودته. فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.
قلت: ويقال إن معالجة المريض نصفان: نصف دواء ونصف حمية: فإن اجمعا فكأنك بالمريض قد برأ وصح. وإلا فالحمية به أولى؛ إذ لا ينفع دواء مع ترك الحمية. ولقد تنفع الحمية مع ترك الدواء. ولقد قال رسول الله ( : أصل كل دواء الحمية. والمعني بها - والله أعلم - أنها تغني عن كل دواء؛ ولذلك يقال: إن الهند جل معالجتهم الحمية، يمتنع المريض عن الأكل والشراب والكلام عدة أيام فيبرأ ويصح.
روى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله ( يقول: الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في مِعىً واحد . وهذا منه ( حض على التقليل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالبلغة. وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته. كما قال قائلهم: تكفيه فلذة كبد إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر
وقالت أم زرع في ابن أبي زرع: ويشبعه ذراع الجفرة. وقال حاتم الطائي يذم بكثرة الأكل:
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا(1/110)
وقال الخطاب: معنى قوله( : المؤمن يأكل في معى واحد ؛ أنه يتناول دون شبعه، ويؤثر على نفسه ويبقي من زاده لغيره؛ فيقنعه ما أكل. والتأويل الأول أولى والله أعلم. وقيل في قوله ( : والكافر يأكل في سبعة أمعاء ؛ ليس على عمومه؛ لأن المشاهدة تدفعه، فإنه قد يوجد كافر أقل أكلا من مؤمن، ويسلم الكافر فلا يقل أكله ولا يزيد. وقيل: هو إشارة إلى معين. ضاف النبي ( ضيف كافر يقال: إنه الجهجاه الغفاري. وقيل: ثمامة بن أثال. وقيل: نضلة بن عمرو الغفاري. وقيل: بصرة بن أبي بصرة الغفاري. فشرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فشرب حلاب شاة فلم يستتمه؛ فقال النبي ( ذلك. فكأنه قال: هذا الكافر. والله أعلم.
وقيل: إن القلب لما تنور بنور التوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوي على الطاعة، فأخذ منه قدر الحاجة، وحين كان مظلما بالكفر كان أكله كالبهيمة ترتع حتى تثلط. واختلف في هذه الأمعاء، هل هي حقيقة أم لا؟ فقيل: حقيقة، ولها أسماء معروفة عند أهل العلم بالطب والتشريح. وقيل: هي كنايات عن أسباب سبعة يأكل بها النهم: يأكل للحاجة والخبر والشم والنظر واللمس والذوق ويزيد استغناما. وقيل: المعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء. والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد؛ فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثال. والمعى في هذا الحديث هو المعدة.(1/111)
وإذا تقرر هذا فاعلم أنه يستحب للإنسان غسل اليد قبل الطعام وبعده؛ لقوله (: الوضوء قبل الطعام وبعده بركة. وكذا في التوراة. رواه زاذان عن سلمان. وكان مالك يكره غسل اليد النظيفة. والاقتداء بالحديث أولى. ولا يأكل طعاما حتى يعرف أحارا هو أم باردا؟ فإنه إن كان حارا فقد يتأذى. وروي عن رسول الله ( أنه قال: أبردوا بالطعام فإن الحار غير ذي بركة ؛ حديث صحيح. ولا يشمه فإن ذلك من عمل البهائم، بل إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، ويصغر اللقمة ويكثر مضغها لئلا يعد شرها. ويُسمي اللهَ تعالى في أوله ويحمدُه في آخره. ولا ينبغي أن يرفع صوته بالحمد إلا أن يكون جلساؤه قد فرغوا من الأكل؛ لأن في رفع الصوت منعا لهم من الأكل. وآداب الأكل كثيرة، هذه جملة منها .... وللشراب أيضا آداب معروفة، تركنا ذكرها لشهرتها. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله ( قال: إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشمال ويشرب بشماله.
قوله تعالى: (ولا تسرفوا) أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير. فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام الواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه. روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: أكلت ثريدا بلحم سمين، فأتيت النبي ( وأنا أتجشأ؛ فقال: اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة.... فما أكل أبو جحيفة بملء بطنه حتى فارق الدنيا، وكان إذا تغدى لا يتعشى، وإذا تعشى لا يتغدى. قلت: وقد يكون هذا معنى قوله ( : المؤمن يأكل في معى واحد.. أي التام الإيمان؛ لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه كأبي جحيفة تفكر فيما يصير إليه من أمر الموت وما بعده؛ فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته. والله أعلم.(1/112)
وقال ابن زيد: معنى (ولا تسرفوا) لا تأكلوا حراما. وقيل: من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت. رواه أنس بن مالك عن النبي ( ، خرجه ابن ماجة في سننه. وقيل: من الإسراف الأكل بعد الشبع. وكل ذلك محظور.
وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعا فوق شبع، فإنك إن تنبذه للكلب خير من أن تأكله. وسأل سمرة بن جندب عن ابنه ما فعل؟ قالوا: بشم البارحة. قال: بشم! فقالوا: نعم. قال: أما إنه لو مات ما صليت عليه.
وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسما في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة. فقيل لهم: (خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) في تحريم ما لم يحرم عليكم.
قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِي لِلّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )
قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله) بين أنهم حرموا من تلقاء أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم. والزينة هنا الملبس الحسن، إذا قدر عليه صاحبه. وقيل: جميع الثياب؛ كما روي عن عمر: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا. وقد تقدم. وروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب شيخ مالك رضي الله عنهم أنه كان يلبس كساء خز بخمسين دينارا، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدق به، أو باعه فتصدق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع بمصر ممشقين ويقول: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق).
وإذا كان هذا فقد دلت الآية على لباس الرفيع من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان. قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا.(1/113)
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله (: إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة. فما أنكر عليه ذكر التجمل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء. وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها. وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد. وكان ثوب أحمد بن حنبل يشترى بنحو الدينار. أين هذا ممن يرغب عنه ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب. ويقول: (ولباس التقوى ذلك خير) (الأعراف: 26) هيهات! أترى من ذكرنا تركوا لباس التقوى، لا والله ! بل هم أهل التقوى وأولو المعرفة والنهى، وغيرهم أهل دعوى، وقلوبهم خالية من التقوى. قال خالد بن شوذب: شهدت الحسن وأتاه فرقد، فأخذه الحسن بكسائه فمده إليه وقال: يا فريقد، يا ابن أم فريقد، إن البر ليس في هذا الكساء، إنما البر ما وقر في الصدر وصدقه العمل. ودخل أبو محمد ابن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن يسار وعليه جبة صوف، فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد، صوفت قلبك أو جسمك؟ صوف قلبك والبس القوهي على القوهي. وقال رجل للشبلي: قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع، فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط، فأنشأ يقول:
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائه
قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: وأنا أكره لبس الفوط والمرقعات لأربعة أوجه: أحدها: أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة. والثاني: أنه يتضمن ادعاء الفقر، وقد أمر الإنسان أن يظهر أثر نعم الله عليه. والثالث: إظهار التزهد؛ وقد أمرنا بستره. والرابع: أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة. ومن تشبه بقوم فهو منهم(1/114)
وقال الطبري: ولقد أخطأ من أثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله. ومن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر. ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض شهوة النساء.
وسئل بشر بن الحارث عن لبس الصوف، فشق عليه وتبينت الكراهة في وجهه ثم قال: لبس الخزز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف في الأمصار.
وقال أبو الفرج: وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة، لا المترفعة ولا الدون، ويتخيرون أجودها للجمعة والعيد وللقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود عندهم قبيحا. وأما اللباس الذي يزري بصاحبه فإنه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله تعالى، ويوجب احتقار اللابس؛ وكل ذلك مكروه منهي عنه. فإن قال قائل: تجويد اللباس هوى النفس وقد أمرنا بمجاهدتها، وتزين للخلق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق. فالجواب ليس كل ما تهواه النفس يذم، وليس كل ما يتزين به للناس يكره، وإنما ينهي عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو على وجه الرياء في باب الدين. فإن الإنسان يجب أن يرى جميلا. وذلك حظ للنفس لا يلام فيه. ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج. وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يذم. وقد روى مكحول عن عائشة قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله ( ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء؛ فجعل ينظر في الماء ويسوي لحيته وشعره. فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي ( قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال.. الكبر بطر الحق وغمط الناس. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة.(1/115)
وقد روى محمد بن سعد أخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا مندل عن ثور عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله ( يسافر بالمشط والمرآة والدهن والسواك والكحل.
وعن ابن جريج: مشط عاج يمتشط به. قال ابن سعد: وأخبرنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن ربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله ( يكثر دهن رأسه ويسرح لحيته بالماء.
أخبرنا يزيد بن هارون حدثنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانت لرسول الله ( مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثا في كل عين.
قوله تعالى: (والطيبات من الرزق) الطيبات اسم عام لما طاب كسبا وطعما. قال ابن عباس وقتادة: يعني بالطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي. وقيل: هي كل مستلذ من الطعام. وقد اختلف في ترك الطيبات والإعراض عن اللذات؛ فقال قوم: ليس ذلك من القربات، والفعل والترك يستوي في المباحات. وقال آخرون: ليس قربة في ذاته، وإنما هو سبيل إلى الزهد في الدنيا، وقصر الأمل فيها، وترك التكلف لأجلها؛ وذلك مندوب إليه، والمندوب قربة. وقال آخرون: ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: لو شئنا لاتخذنا صلاء وصلائق وصنابا، ولكني سمعت الله تعالى يذم أقواما فقال: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) (الأحقاف: 20). ويروى "صرائق" بالراء، وهما جميعا الجرادق. والصلائق (باللام): ما يلصق من اللحوم والبقول. والصلاء (بكسر الصاد والمد): الشواء: والصناب: الخردل بالزبيب. وفرق آخرون بين حضور ذلك كله بكلفة وبغير كلفة. قال أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي شيخ أشياخنا: وهو الصحيح إن شاء الله عز وجل؛ فإنه لم ينقل عن النبي ( أنه امتنع من طعام لأجل طيبه قط، بل كان يأكل الحلوى والعسل والبطيخ والرطب، وإنما يكره التكلف لما فيه من التشاغل بشهوات الدنيا عن مهمات الآخرة. والله تعالى أعلم.(1/116)
قلت: وقد كره بعض الصوفية أكل الطيبات؛ واحتج بقول عمر رضي الله عنه: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضرواة الخمر. والجواب أن هذا من عمر قول خرج على من خشي منه إيثار التنعم في الدنيا، والمداومة على الشهوات، وشفاء النفس من اللذات، ونسيان الآخرة والإقبال على الدنيا، ولذلك كان يكتب عمر إلى عماله: إياكم والتنعم وزي أهل العجم، واخشوشنوا. ولم يرد رضي الله عنه تحريم شيء أحله الله، ولا تحظير ما أباحه الله تبارك اسمه. وقول الله عز وجل أولى ما امتثل واعتمد عليه. قال الله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق). وقال (: سيد آدام الدنيا والآخرة اللحم. وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي ( كان يأكل الطبيخ بالرطب ويقول: يكسر حر هذا برد هذا .. وبرد هذا حر هذا. والطبيخ لغة في البِطيخ، وهو من المقلوب...
وقوله تعالى: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) يعني بحقها من توحيد الله تعالى والتصديق له؛ فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحده المنعَم عليه وصدقه فقد قام بحق النعمة، وإن كفر فقد أمكن الشيطان من نفسه. وفي صحيح الحديث : لا أحد أصبر على أذى من الله يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد. وتم الكلام على (الحياة الدنيا). ثم قال ( خالصةٌ ) بالرفع وهي قراءة ابن عباس ونافع. (خالصة يوم القيامة) أي يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها. ومجاز الآية: قل هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا مع غيرهم، وهي للمؤمنين خالصة يوم القيامة. فخالصة مستأنف على خبر مبتدأ مضمر. وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد.(1/117)
وقيل: المعنى أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة، للمؤمنين في الدنيا؛ وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون فقوله: (في الحياة الدنيا) متعلق بـ (آمنوا ). وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير.
وقرأ الباقون بالنصب( خالصةً ) على الحال والقطع؛ لأن الكلام قد تم دونه. ولا يجوز الوقف على هذه القراءة على (الدنيا)؛ لأن ما بعده متعلق بقول (للذين آمنوا) حال منه؛ بتقدير قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة؛ قاله أبو علي. وخبر الابتداء (للذين آمنوا). والعامل في الحال ما في اللام من معنى الفعل في قوله: (للذين) واختار سيبويه النصب لتقدم الظرف.
(كذلك نفصل الآيات) أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصل لكم ما تحتاجون إليه....
قوله تعالى :(قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)
قال الكلبي: لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت غيرهم المشركون؛ فنزلت هذه الآية. والفواحش: الأعمال المفرطة في القبح، ما ظهر منها وما بطن. وروى روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: ( ما ظهر منها ) نكاح الأمهات في الجاهلية. (وما بطن) الزنى. وقال قتادة: سرها وعلانيتها. وهذا فيه نظر؛ فإنه ذكر الإثم والبغي فدل أن المراد بالفواحش. بعضها، وإذا كان كذلك فالظاهر من الفواحش الزنى. والله أعلم. (والإثم) قال الحسن: الخمر. قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول
وقال آخر:
نشرب الإثم بالصواع جهارا وترى المسك بيننا مستعارا(1/118)
(والبغي) الظلم وتجاوز الحد فيه. وقد تقدم. وقال ثعلب: البغي أن يقع الرجل في الرجل فيتكلم فيه، ويبغي عليه بغير الحق؛ إلا أن ينتصر منه بحق. وأخرج الإثم والبغي من الفواحش وهما منه لعظمهما وفحشهما؛ فنص على ذكرهما تأكيدا لأمرهما وقصدا للزجر عنهما. وكذا وقد أنكر جماعة أن يكون الإثم بمعنى الخمر. قال الفراء: الإثم ما دون الحد والاستطالة على الناس. قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك، وحقيقة الإثم أنه جميع المعاصي؛ كما قال الشاعر:
إني وجدت الأمر أرشده تقوى الإله وشره الإثم
قلت: وأنكره ابن العربي أيضا وقال: ولا حجة في البيت؛ لأنه لو قال: شربت الذنب أو شربت الوزر لكان كذلك، ولم يوجب قول أن يكون الذنب والوزر اسما من أسماء الخمر كذلك، الإثم. والذي أوجب التكلم بمثل هذا الجهل باللغة وبطريق الأدلة في المعاني". قلت: وقد ذكرناه عن الحسن. وقال الجوهري في الصحاح: وقد يسمى الخمر إثما، وأنشد:
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول
وأنشده الهروي في غريبيه، على أن الخمر الإثم. فلا يبعد أن يكون الإثم يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضا لغة، فلا تناقض. والبغي: التجاوز في الظلم، وقيل: الفساد.
وقال السعدي رحمه الله :(1/119)
قوله تعالى : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) يقول تعالى ـ بعدما أنزل على بني آدم لباسا يواري سوءاتهم وريشا: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف : 26 ) ـ يقول : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) أي : استروا عوراتكم عند الصلاة كلها ، فرضها ونفلها ، فإن سترها زينة للبدن ؛ كما أن كشفها يدع البدن قبيحا مشوها . ويحتمل أن المراد بالزينة هنا ، ما فوق ذلك ، من اللباس النظيف الحسن ، ففي هذا ، الأمر بستر العورة في الصلاة ، وباستعمال التجميل فيها ، ونظافة السترة من الأدناس والأنجاس .
ثم قال : (وكلوا واشربوا ) أي : مما رزقكم الله من الطيبات ( ولا تسرفوا ) في ذلك . والإسراف ، إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي ، ولشره في المأكولات التي تضر بالجسم ؛ وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوق في المآكل ، والمشارب ، واللباس ؛ وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام ... ( إنه لا يحب المسرفين ) فإن السرف يبغضه الله ، ويضر بدن الإنسان ومعيشته ، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات ، ففي هذه الآية الكريمة ، الأمر بتناول الأكل والشرب ، والنهي عن تركهما ، وعن الإسراف فيهما .
( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون "(1/120)
يقول تعالىـ منكرا على من تعنت ، وحرم ما أحل الله من الطيبات ـ ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده)" من أنواع اللباس ، على اختلاف أصنافه ، والطيبات من الرزق ، من مأكل ، ومشرب ، بجميع أنواعه ، أي : من هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم الله على العباد ، ومن ذا الذي يُضيق عليهم ، ما وسعه الله ؟ وهذا التوسيع من الله لعباده ، بالطيبات ، جعله لهم ليستعينوا به على عبادته ، فلم يبحه إلا لعباده المؤمنين ، ولهذا قال : " قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " أي : لا تبعة عليهم فيها . ومفهوم الآية ، أن من لم يؤمن بالله ، بل استعان بها على معاصيه ، فإنها غير خالصة له ولا مباحة ، بل يعاقب عليها ، وعلى التنعم بها ، ويسأل عن النعيم يوم القيامة ( كذلك نفصل الآيات) أي : نوضحها ونبينها (لقوم يعلمون) لأنهم الذين ينتفعون بما فصله الله من الآيات ، ويعلمون أنها من عند الله ، فيعقلونها ويفهمونها .(1/121)
ثم ذكر المحرمات ، التي حرمها الله في كل شريعة من الشرائع فقال : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ) أي : الذنوب الكبار ، التي تستفحش تستقبح ، لشناعتها وقبحها ، وذلك ، كالزنا ، واللواط ، ونحوهما . وقوله : " ما ظهر منها وما بطن " أي : الفواحش التي تتعلق بحركات البدن ، والتي تتعلق بحركات القلوب ، كالكبر ، والعجب والرياء ، والنفاق ، ونحو ذلك . ( والإثم والبغي بغير الحق ) أي : الذنوب التي تؤثم ، وتوجب العقوبة في حقوق الله ، والبغي على الناس ، في دمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم ، فدخل في هذا ، الذنوب المتعلقة بحق الله ، والمتعلقة بحق العباد . ( وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ) أي : حجة ، بل أنزل الحجة والبرهان على التوحيد ... والشرك ، هو : أن يشرك مع الله في عبادته ، أحد من الخلق . وربما دخل في هذا ، الشرك الأصغر ، كالرياء ، والحلف بغير الله ، ونحو ذلك . ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) في أسمائه وصفاته وأفعاله ، وشرعه . فكل هذه قد حرمها الله ، ونهى العباد عن تعاطيها ، لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة ، ولما فيها من الظلم والتجرؤ على الله ، والاستطالة على عباد الله ، وتغيير دين الله وشرعه ...
14-(ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) (الأعراف : 55-56 )
قال ابن كثير رحمه الله :
أرشد تبارك وتعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم فقال :(ادعوا ربكم تضرعاً وخفية) قيل معناه تذللاً واستكانه, وخفية كقوله : ( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف : 205 )(1/122)
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله ("أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إن الذي تدعون سميع قريب" الحديث,
وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى : ( تضرعاً وخفية) قال: السِّر...
وقال ابن جرير( تضرعاً ) أي تذللاً واستكانة لطاعته( وخفية ) يقول: بخشوع قلوبكم وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه لا جهراً مراءاة
وقال عبد الله بن المبارك بن فضالة عن الحسن قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقوماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول: (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية) وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال :( إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً) (مريم : 3 )
وقال ابن جريج يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء ويؤمر بالتضرع والاستكانه.
ثم روي عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى : (إنه لا يحب المعتدين) في الدعاء ولا في غيره وقال أبو مجلز في قوله تعالى : (إنه لا يحب المعتدين) قال : لا يسأل منازل الأنبياء,(1/123)
وقال أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن زياد بن مخراق سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد أن سعداً سمع ابناً له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحواً من هذا وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال لقد سألت الله خيراً كثيراً وتعوذت به من شر كثير وإني سمعت رسول الله ( يقول "إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ـ وفي لفظ ـ يعتدون في الطهور والدعاء ـ وقرأ هذه الاَية (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) ـ وإن بحسبك أن تقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل" ورواه أبو داود من حديث شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن مولى لسعد عن سعد فذكره والله أعلم...
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا الحريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بني سل الله الجنة وعُذْ به من النار فإني سمعت رسول الله ( يقول "يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور" وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان به وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن سعيد بن إياس الجُريْري عن أبي نعامة واسمه قيس بن عباية الحنفي البصري وهو إسناد حسن لا بأس به والله أعلم.(1/124)
وقوله تعالى :(ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما أضره بعد الإصلاح فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه؛ فقال : (وادعوه خوفاً وطمعاً) أي خوفاً مما عنده من وبيل العقاب ، وطمعاً فيما عنده من جزيل الثواب... ثم قال (إن رحمت الله قريب من المحسنين) أي إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره كما قال تعالى ( .. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف : 156 ) وقال: ( قريب ) ولم يقل قريبة لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب أو لأنها مضافة إلى الله فلهذا قال ( قريب من المحسنين ) وقال مطر الوراق تنجزوا موعود الله بطاعته فإنه قضى أن رحمته ( قريب من المحسنين ). رواه ابن أبي حاتم.
وقال البغوي رحمه الله :
قوله تعالى :( ادعوا ربكم تضرعا وخفية) ،( تضرعا) أي تذللا واستكانة، ( وخفية) أي سرًا . قال الحسن بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، وإن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله سبحانه يقول:( ادعوا ربكم تضرعا وخفية) وإن الله ذكر عبدا صالحا ورضي فعله فقال ( إذ نادى ربه نداءً خفيًا) ( مريم 3).
( إنه لا يحب المعتدين) قيل: المعتدين في الدعاء. وقال أبو مجلز هم الذين يسألون منازل الأنبياء عليهم السلام...(1/125)
أخبرنا محمد بن عبد العزيز القاشاني، أنبأنا القاسم بن جعفر الهاشمي، أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي ، ثنا أبو داود السجستاني ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد يعني ابن سلمة،أنبأنا الجريري ، عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوذ من النار، فإني سمعت رسول الله ( يقول: " إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء". وقيل: أراد به الاعتداء بالجهر والصياح ...
قال ابن جريج : من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح. وروينا عن أبي موسى قال لما غزا رسول الله ( خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير، فقال رسول الله ( ": اربعوا على أتفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعًا قريبًا".
وقال عطية هم الذين يدعون على المؤمنين فيما لا يحل، فيقولون: اللهم أخزهم اللهم العنهم.
وقوله تعالى : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)، أي لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله ببعث الرسل وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي.
قال عطية: لا تعصوا في الأرض فيُمسك اللهُ المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم. فعلى هذا معنى قوله:( بعد إصلاحها )أي بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب.( وادعوه خوفًا وطمعًا )أي خوفًا مما عنده من أليم عذابه، وطمعاً فيما عنده من مغفرته وثوابه... وقال ابن جريج : خوف العدل وطمع الفضل.(1/126)
( إن رحمة الله قريب من المحسنين) ولم يقل قريبة، قال سعيد بن جبير: الرحمة هاهنا الثواب فرجع النعت إلى المعنىدون اللفظ كقوله تعالى:(وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه )(النساء 8 ) ولم يقل منها لأنه أراد الميراث والمال. وقال الخليل بن أحمد : القريب والبعيد فيهما في اللغة: المذكر والمؤنث والواحد والجمع. قال أبو عمر بن العلاء : القريب في اللغة يكون بمعنى القرب وبمعنى المسافة، تقول العرب: هذه امرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة، وقريب منك إذا كانت بمعنى المسافة....
وقال السعدي رحمه الله :(1/127)
ولما ذكر من عظمته وجلاله ، ما يدل ذوي الألباب على أنه وحده ، المعبود المقصود في الحوائج كلها بقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف : 54 ) أمر بما يترتب على ذلك فقال : (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) (الأعراف : 55 ) . الدعاء : يدخل فيه ، دعاء المسألة ، ودعاء العبادة ، فأمر بدعائه (تضرعا ) أي : إلحاحا في لمسألة ، ودؤوبا في العبادة ،( وخفية) أي : لا جهراً أو علانية ، يخاف منه الرياء ، بل خفية ، وإخلاصا لله تعالى . (إنه لا يحب المعتدين ) أي : المتجاوزين للحد في كل الأمور ، ومن الاعتداء : كون العبد يسأل الله مسائل ، لا تصلح له ، أو ينقطع في السؤال ، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء ، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه ... ( ولا تفسدوا في الأرض ) بعمل المعاصي (بعد إصلاحها) بالطاعات ، فإن المعاصي ، تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق ، كما قال تعالى : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم : 41 ) كما أن الطاعات ، تصلح بها الأخلاق ، والأعمال ، والأرزاق ، وأحوال الدنيا والآخرة .. ( وادعوه خوفا وطمعا ) أي : خوفا من عقابه ، وطمعا في ثوابه ، طمعا في قبولها ، وخوفا من ردها ، لا دعاء عبد مدل على ربه ، قد أعجبته نفسه ، ونزَّل نفسه فوق(1/128)
منزلته ، أو دعاء من هو غافل لاهٍ . وحاصل ما ذكر الله من آداب الدعاء : الإخلاص فيه لله وحده ، لأن ذلك يتضمنه الخفية . وإخفاؤه وإسراره ، أن يكون القلب خائفا طامعا ، لا غافلا ، ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة ، وهذا من إحسان الدعاء ، فإن الإحسان في كل عبادة ، بذل الجهد فيها ، وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه ، ولهذا قال :( إن رحمة الله قريب من المحسنين) في عبادة الله ، المحسنين إلى عباد الله ، فكلما كان العبد أكثر إحسانا ، كان أقرب إلى رحمة ربه ، وكان ربه قريبا منه برحمته ، وفي هذا من الحث على الإحسان ، ما لا يخفى ...(1/129)
15-(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ * وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *َ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ *وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * ) (الأنفال : 55-64)
قال البغوي رحمه الله :
قوله تعالى :( إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون )، قال الكلبي و مقاتل : يعني يهود بني قريظة ، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه .(1/130)
( الذين عاهدت منهم ) ، يعني عاهدتهم ؛ وقيل : عاهدت معهم ؛ وقيل أدخل ( من ) لأن معناه: أخذت منهم العهد ،( ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ) ، وهم بنو قريظة ، نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله ( ، وأعانوا المشركين بالسلاح على قتال النبي (وأصحابه ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا فعاهدهم الثانية ، فنقضوا العهد ومالؤوا الكفار على رسول الله ( يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة ، فوافقهم على مخالفة النبي ( ،.. ( وهم لا يتقون) ، لا يخافون الله تعالى في نقض العهد .
( فإما تثقفنهم )، تجدنَّهم ، ( في الحرب ) ، قال مقاتل : إن أدركتهم في الحرب وأسرتهم ، ( فشرد بهم من خلفهم ) ، قال ابن عباس : فنكِّل بهم من وراءهم .وقال سعيد بن جبير: أنذر بهم مَن خلفهم . وأصل التشريد : التفريق والتبديد ، معناه فرق بهم جمع كل ناقض ، أي : افعل بهؤلاء الذي نقضوا عهدك و جاؤوا لحربك فعلاً من القتل والتنكيل ، يَفْرَقُ منك ويخافلُك مَن خلفهم من أهل مكة واليمن. ( لعلهم يذكرون) ، يتذكرون ويعتبرون فلا ينقضون العهد .(1/131)
( وإما تخافنَّ ) أي : تعلمن يا محمد ،( من قوم ) ، معاهدين ، ( خيانةً )، نقض عهد بما يظهر لكم منهم من آثار الغدر كما ظهر من قريظة والنضير ، ( فانبذ إليهم ) ، فاطرح إليهم عهدهم ،( على سواء) ، يقول أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواءً ، فلا يتهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم ،( إن الله لا يحب الخائنين ) . أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أنا أبو سهل محمد بن عمر بن طرفة السجزي ، أنا أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق بن داسة التمار ، ثنا أبو داود سليما بن الأشعث السجستاني ، ثنا حفص بن عمر النمري ، ثنا شعبة عن أبي الفيض عن سليم بن عامر عن رجل من حمير قال : كان بين معاوية و بين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ،حتى إذا انقضى العهد غزاهم ، فجاء رجل على فرس وهو يقول : الله أكبر... الله أكبر ، وفاء لا غدر ،فنظر فإذا هو عمرو بن عبسة ، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال : سمعت رسول الله ( يقول : " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء " . فرجع معاوية رضي الله عنه .
وقوله عز وجل :( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا ) ، قرأ أبو جعفر و ابن عامر و حمزة و حفص ( يحسبن ) بالياء ،وقرأ آخرون بالتاء ( تحسبن)، ( سبقوا ) أي : فاتوا ، نزلت في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين . فمن قرأ بالياء يقول ( لا يحسبن الذين كفروا ) أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا ،ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب وقرأ ابن عامر ( أَنهم لا يعجزون ). بفتح الألف ، أي : لأنهم لا يعجزون ، ولا يفوتونني . وقرأ الآخرون بكسر الألف على الابتداء .( إِنهم لا يعجزون )..
وقوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، الإعداد : اتخاذ الشيء لوقت الحاجة .( من قوة )، أي : من الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاح .(1/132)
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن مسلم بن الحجاج ثنا هارون بن معروف ثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي علي ، ثمامة بن شفي أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله ( يقول، وهو على المنبر : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) : ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي " .
وبهذا الإسناد قال : سمعت رسول الله ( يقول " ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله عز وجل فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو نعيم ، ثنا عبد الرحمن بن الغسيل ، عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال : قال رسول الله ( يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا : " إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، ثنا حميد بن زنجويه ، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، ثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي نجيح السلمي قال : حاصرنا مع النبي ( الطائف فسمعت النبي ( يقول : " من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له درجة في الجنة " ، قال :فبلغت يومئذ ستة عشر سهماً . وسمعت رسول الله ( يقول :" من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، ثنا أحمد بن منصور الرمادي ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن يحيى بن كثير ، عن زيد بن سلام ، عن عبد الله بن زيد الأزرق عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي ( قال:" إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: صانعه ، والممد به ، والرامي به في سبيل الله " .(1/133)
وروي عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر عن رسول الله ( قال : " إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة :صانعه يحتسب في صنعته الخير ، والرامي به ومنبله ، وارموا واركبوا ، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ، كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق . ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فأنه نعمة تركها أو قال كفرها " .
وقوله تعالى : : (ومن رباط الخيل ) ، يعني : ربطها واقتناؤها للغزو . قال عكرمة : القوة الحصون ومن رباط الخيل الإناث .
وروي عن خالد بن الوليد أنه كان لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها . وعن أبي محيريز قال : كان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون ذكور الخيل عن الصفوف وإناث الخيل عند البيات والغارات .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ،ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو نعيم ، ثنا زكريا عن عامر ، ثنا عروة البارقي أن النبي ( قال : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، الأجر والمغنم " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا علي بن حفص ، ثنا ابن المبارك ، ثنا طلحة بن أبي سعيد قال : سمعت سعيداً المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة يقول :قال النبي ( : " من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده ، فأن شبعه ،وريه ، وروثه ، وبوله في ميزانه يوم القيامة " .(1/134)
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رسول الله ( قال : " الخيل ثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ،وهي لرجل وزر ، فأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها من ذلك المرج أو الروضة كان له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفاً أو شرفين ، كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقيها كان ذلك له حسنات ، فهي لذلك الرجل أجر ، وأما التي هي له ستر : فرجل ربطها تغنياً وتعففاً ، ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها ، فيه له ستر ، وأما التي هي له وزر : فرجل ربطها فخراً ورياءً ، ونواءً لأهل الإسلام ، فهي على ذلك وزر "
وسُئل رسول الله ( عن الحمر فقال : ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة : 7- 8 ) .
( ترهبون به ) ، تخوفون به .. ( عدو الله وعدوكم وآخرين ) ، أي : وتُرهبون به آخرين ،( من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ، قال مجاهد ومقاتل وقتادة : هم بنو قريظة . وقال السدي : هم أهل فارس . وقال الحسن و ابن زيد :هم المنافقون ( لا تعلمونهم ) لأنهم معكم يقولون : لا إله إلا الله .وقيل :هم كفار الجن . ( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم ) ، يُوَفَّ لكم أجره ،( وأنتم لا تظلمون) ، لا تنقص أجوركم ...
وقوله تعالى : (وإن جنحوا للسلم )، أي : مالوا إلى الصلح ،( فاجنح لها) ، أي : مِلْ إليها وصالحهم .(1/135)
روي عن قتادة و الحسن : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 5 )...
( وتوكل على الله ) أي : ثِقْ بالله ، ( إنه هو السميع العليم )... (وإن يريدوا أن يخدعوك) ، يغدروا بك . قال مجاهد : يعني بني قريظة . ( فإن حسبك الله) ، كافيك الله ،( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ) ، أي : بالأنصار..( وألف بين قلوبهم) ، أي : بين الأوس والخزرج ، كانت بينهم إحن وثارات في الجاهلية ، فصيرهم الله إخواناً بعد أن كانوا أعداء ، ( لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم . إنه عزيز حكيم ).
وقوله تعالى :( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين )، قال سعيد بن جبير : أسلم مع رسول الله ( ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ، ثم أسلم عمر بن الخطاب فتم به الأربعون ، فنزلت هذه الآية . واختلفوا في محل ( من ) فقال أكثر المفسرين محله خفض ، عطفاً على الكاف في قوله : (حسبك الله )وحسب من اتبعك ، وقال بعضهم : هو رفع عطفاً على اسم الله معناه : حسبك الله ومتبعوك من المؤمنين
وقال السعدي رحمه الله :
قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * )(1/136)
( إن ) هؤلاء الذين جمعوا هذه الخصال الثلاث : الكفر ، وعدم الإيمان ، والخيانة ـ بحيث لا يثبتون على عهد عاهدوه ، ولا قول قالوه ، هم( شر الدواب عند الله) فهم شر من الحمير والكلاب وغيرها ، لأن الخير معدوم منهم ، والشر متوقع فيهم . فإذهاب هؤلاء ومحقهم ، هو المتعين ، لئلا يسري داؤهم لغيرهم ولهذا قال :( فإما تثقفنهم في الحرب )أي : تجِدنَّهم في حال المحاربة ، بحيث لا يكون لهم عهد وميثاق .( فشرد بهم من خلفهم ) أي : نكِّل بهم غيرهم ، وأوقع بهم من العقوبة ما يصيرون به عبرة لمن بعدهم ،( لعلهم )أي : مَن خلفهم (يذكرون ) صنيعهم ، لئلا يصيبهم ما أصابهم . وهذه من فوائد العقوبات والحدود ، المرتبة على المعاصي ، أنها سبب لازدجار من لم يعمل المعاصي ، بل وزجرا لمن عملها ، أن لا يعاودها . ودل تقييد هذه العقوبة في الحرب ، أن الكافر ـ ولو كان كثير الخيانة سريع الغدر ـ أنه إذا أعطي عهدا ، لا يجوز خيانته وعقوبته .
وقوله تعالى : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ * وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ)(1/137)
(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) أي : وإذا كان بينك وبين قوم ، عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة .( فانبذ إليهم ) عهدهم ، أي : ارمه عليهم ، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم .( على سواء ) أي : حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك ، ولا يحل لك أن تغدرهم ، أو تسعى في شيء مما منعه ، موجب العهد ، حتى تخبرهم بذلك . (إن الله لا يحب الخائنين) بل يبغضهم أشد البغض ، فلا بد من أمر بيِّن ، يبرئكم من الخيانة . ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم ، لأنه لم يخف منهم ، بل علم ذلك ، ولعدم الفائدة ولقوله : ( على سواء) ، وهنا قد كان معلوما عند الجميع غدرهم . ودل مفهومها أيضا ، أنه إذا لم يخف منهم خيانة ، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك ، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم ، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته .( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) أي : لا يحسب الكافرون بربهم ، المكذبون بآياته ، أنهم سبقوا الله وفاتوه ، فإنهم لا يعجزونه ، والله لهم بالمرصاد . وله تعالى الحكمة البالغة ، في إمهالهم ، وعدم معاجلتهم بالعقوبة ، التي من جملتها ، ابتلاء عباده المؤمنين ، وامتحانهم ، وتزودهم من طاعته ومراضيه ، ما يصلون به المنازل العالية ، واتصافهم بأخلاق وصفات لم يكونوا بغيره بالغيها ،(1/138)
فلهذا قال لعباده المؤمنين :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ *) أي : ( وأعدوا ) لأعدائكم الكفار ، الساعين في هلاككم ، وإبطال دينكم ، ( ما استطعتم من قوة ) أي : كل ما تقدرون عليه ، من القوة العقلية والبدنية ، وأنواع الأسلحة ونحو ذلك ، مما يعين على قتالهم . فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع ، والرشاشات ، والبنادق ، والطيارات الجوية ، والمراكب البرية والبحرية ، والقلاع ، والخنادق ، وآلات الدفاع ، والرأي والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم ، وتعلم الرمي ، والشجاعة والتدبير . ولهذا قال النبي ( :" ألا إن القوة الرمي " ومن ذلك : الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال ، ولهذا قال تعالى : ( ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) ، وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان ، وهي إرهاب الأعداء ،والحكم يدور مع علته .فإذا كان شيء موجودا أكثر إرهابا منها ، كالسيارات البرية والهوائية ، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد ، كانت مأمورا بالاستعداد بها ، والسعي لتحصيلها ، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلم الصناعة ، وجب ذلك ، لأن " ما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب " . وقوله : ( ترهبون به عدو الله وعدوكم) ممن تعلمون أنهم أعداؤكم .( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم) ممن سيقاتلونكم بعد هذا الوقت ،الذي يخاطبهم الله به (الله يعلمهم ) فلذلك أمرهم بالاستعداد لهم . ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلك ، النفقات المالية في جهاد الكفار . ولهذا قال تعالى مرغبا في ذلك : ( وما تنفقوا من شيء في(1/139)
سبيل الله ) قليلا كان أو كثيرا( يوف إليكم ) أجره يوم القيامة مضاعفا أضعافا كثيرة ، حتى إن النفقة في سبيل الله ، تضاعف إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة .( وأنتم لا تظلمون) أي : لا تنقصون من أجرها وثوابها شيئا .
وقوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*َوَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ *وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *)(1/140)
يقول تعالى : ( وإن جنحوا) أي : الكفار المحاربون ، أي : مالوا( للسلم ) أي : الصلح وترك القتال .( فاجنح لها وتوكل على الله) أي : أجبهم إلى ما طلبوا ، متوكلا على ربك ، فإن في ذلك فوائد كثيرة . منها : أن طلب العافية مطلوب كل وقت ، فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك ، كان أولى لإجابتهم . ومنها : أن في ذلك استجماعاً لقواكم ، واستعداداً منكم لقتالهم في وقت آخر ، إن احتيج إلى ذلك . ومنها : أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضا ، وتمكن كل من معرفة ما عليه الآخر ، فإن الإسلام يعلو ، ولا يُعلى عليه . فكل من له عقل وبصيرة ، إذا كان معه إنصاف ، فلا بد أن يؤثره على غيره من الأديان ، لحسنه في أوامره ونواهيه ، وحسنه في معاملته للخلق ، والعدل فيهم ، وأنه لا جوْر فيه ولا ظلم بوجه ، فحينئذ يكثر الراغبون فيه ، والمتبعون له . فصار هذا السلم عونا للمسلمين على الكافرين ، ولا يخاف من السلم إلا خصلة واحدة ، وهي أن يكون الكفار قصدهم بذلك خدع المسلمين ، وانتهاز الفرصة فيهم . فأخبرهم الله ، أنه حسبهم وكافيهم خداعهم ، وأن ذلك يعود عليهم ضرره فقال :( وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله) أي : كافيك ما يؤذيك ،وهو القائم بمصالحك ومهماتك ، فقد سبق لك من كفايته لك ونصره ، ما يطمئن به قلبك . وإنه ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) أي : أعانك بمعونة سماوية وهو : النصر منه الذي لا يقاومه شيء ، ومعونة بالمؤمنين بأن قيضهم لنصرك . (وألَّف بين قلوبهم ) فاجتمعوا وائتلفوا ، وازدادت قوتهم ، بسبب اجتماعهم ، ولم يكن هذا بسعي أحد ، ولا بقوة ، غير قوة الله . وإنك( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ) من ذهب ، وفضة وغيرهما ، لتأليفهم بعد تلك النفرة ، والفرقة الشديدة ( ما ألفت بين قلوبهم ) لأنه لا يقدر على تقليب القلوب إلا الله تعالى.. ((وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ(1/141)
كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران : 103 ) " .
ثم قال تعالى :( يا أيها النبي حسبك الله ) أي : كافيك( ومن اتبعك من المؤمنين ) أي : وكافي أتباعك من المؤمنين ، وهذا وعد من الله ، لعباده المؤمنين المتبعين لرسوله ، بالكفاية ، والنصرة على الأعداء . فإذا أتوا بالسبب الذي هو الإيمان والاتباع ، فلا بد أن يكفيهم ما أهمهم من أمور الدين والدنيا ، وإنما تتخلف الكفاية بتخلف شرطها ....(1/142)
16- ( إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ قُلُوبُهُم مّنكِرَةٌ وَهُم مّسْتَكْبِرُونَ* لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مّاذَآ أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ * لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقّونَ فِيهِمْ قَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسّوَءَ عَلَى الْكَافِرِينَ* الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ *) (النحل :22- 29 )
يخبر تعالى أنه لا إله هو الواحد الأحد الفرد الصمد, وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك, كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (صـ : 5 ) وقال تعالى: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الزمر : 45 )(1/143)
وقوله: (وهم مستكبرون) أي عن عبادة الله مع إنكار قلوبهم لتوحيده كما قال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر : 60 )
ولهذا قال ههنا ( لا جرم ) أي حقاً ( أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) أي وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء (إنه لا يحب المستكبرين)
وقوله تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مّاذَآ أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ * لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ )
يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء المكذبين (ماذا أنزل ربكم؟) ( قالوا) معرضين عن الجواب (أساطير الأوّلين) أي لم ينزل شيئاً, إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين, أي مأخوذ من كتب المتقدمين, كما قال تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان : 5 ) أي يفترون على الرسول ( ويقولون أقوالاً متضادة مختلفة كلها باطلة, كما قال تعالى: (انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً) (الإسراء : 48 ) وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ, وكانوا يقولون: ساحر، وشاعر، وكاهن ، ومجنون... ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم الوحيد المسمى بالوليد بن المغيرة المخزومي الذي قال فيه الله تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ...) (المدثر 18- 26 ) أي ينقل ويحكى, فتفرقوا عن قوله ورأيه قبحهم الله...(1/144)
قال تعالى: ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) أي إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم, وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم, كما جاء في الحديث: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه, لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً, ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه, لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ً" وقال تعالى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (العنكبوت : 13 )
وهكذا روى العوفي عن ابن عباس في الاَية (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) أنها كقوله: ( وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) وقال مجاهد: يحملون أثقالهم ذنوبهم وذنوب من أطاعهم, ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئاً.
وقوله تعالى : ( قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقّونَ فِيهِمْ قَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسّوَءَ عَلَى الْكَافِرِينَ )(1/145)
قال العوفي عن ابن عباس في قوله: (قد مكر الذين من قبلهم) قال: هو النمرود الذي بنى الصرح, قال ابن أبي حاتم وروي عن مجاهد نحوه. وقال عبد الرزاق عن معمر, عن زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض النمرود, فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره, فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق, وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه وكان جباراً أربعمائة سنة, فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه, ثم أماته, وهو الذي بنى الصرح إلى السماء الذي قال الله تعالى: (فأتى الله بنيانهم من القواعد) وقال آخرون: بل هو بختنصر, وذكروا من المكر الذي حكاه الله ههنا كما قال في سورة إبراهيم (وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) (46 ) وقال آخرون: هذا من باب المثل لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره, كما قال نوح عليه السلام: ((وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) (نوح : 22 ) أي احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة, كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة: ( بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (سبأ : 33 )(1/146)
وقوله: ( فأتى الله بنيانهم من القواعد) أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم, كقوله تعالى: ( كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة : 64 ), وقوله: ( فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر : 2 ), وقال الله ههنا: (فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم) أي يظهر فضائحهم, وما كانت تجنه ضمائرهم فيجعله علانية, كقوله تعالى: {يوم تبلى السرائر} أي تظهر وتشتهر كما في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله (: "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند أسته بقدر غدرته, فيقال هذه غدرة فلان بن فلان" وهكذا يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ويخزيهم الله على رؤوس الخلائق ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعاً لهم وموبخاً (أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم) تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم ههنا ؟ (هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ) (الشعراء : 93 )... (فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) (الطارق : 10 ) فإذا توجهت عليهم الحجة وقامت عليهم الدلالة, وحقت عليهم الكلمة وسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار؛ (قال الذين أوتوا العلم) وهم السادة في الدنيا والاَخرة, والمخبرون عن الحق في الدنيا والاَخرة, فيقولون حينئذ: (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) أي الفضيحة والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله وأشرك به ما لا يضره وما لا ينفعه.(1/147)
وقوله تعالى : ( الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ مَا كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوَءٍ بَلَىَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ )
يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمين أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة (فألقوا السلم) أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين: (ما كنا نعمل من سوء) كما يقولون يوم المعاد (وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) (الأنعام : 23 ) ؛ (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (المجادلة : 18 ) .. قال الله مكذباً لهم في قيلهم ذلك: (بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون * فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) أي بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان لمن كان متكبراً عن آيات الله واتباع رسله, وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم, وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها, فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار ( لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (فاطر : 36 ) كما قال الله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر : 46 ).
وقال السعدي رحمه الله :(1/148)
قوله تعالى : (إلهكم إله واحد )= هو الله الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . فأهل الإيمان والعقول ، أحلته قلوبهم وعظمته ، وأحبته حبا عظيما ، وصرفوا له كل ما استطاعوا من القربات البدنية والمالية ، وأعما*ل القلوب وأعمال الجوارح ، وأثنوا عليه بأسمائه الحسنى ، وصفاته وأفعاله المقدسة ، (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ) لهذا الأمر العظيم الذي لا ينكره إلا أعظم الخلق جهلا وعنادا ...، وهو : توحيد الله ...( وهم مستكبرون ) عن عبادته .( لا جرم ) أي : حقا .. لا بُد ( أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) من الأعمال القبيحة .. ( إنه لا يحب المستكبرين) بل يبغضهم أشد البغض ، وسيجازيهم من جنس عملهم ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )..
(وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ) أي : إذا سئلوا عن القرآن والوحي ، الذي هو أكبر نعمة أنعم الله بها على العباد . فماذا قولكم به ؟ وهل تشكرون هذه النعمة وتعترفون بها ، أم تكفرون وتعاندون ؟ فيكون جوابهم أقبح جواب وأسمجه ، فيقولون عنه : إنه (أساطير الأولين ) أي : كذب اختلقه محمد على الله ، وما هو إلا قصص الأولين التي يتناقلها الناس ، جيلا بعد جيل ، منها الصدق ومنها الكذب ، فقالوا هذه المقالة ، ودعوا أتباعهم إليها ، وحملوا وزرهم ، ووزر من انقاد لهم إلى يوم القيامة . وقوله : وقوله : ( ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) أي : من أوزار المقلدين الذين لا علم عندهم ، إلا ما دعوهم إليه ، فيحملون إثم ما دعوهم إليه ، وأما الذين يعلمون ، فكل مستقل بجرمه ، لأنه عرف ما عرفوا ..( ألا ساء ما يزرون) أي : بئس ما حملوا من الوزر المثقل لظهورهم ، من وزرهم ، ووزر من أضلوه .(1/149)
(قد مكر الذين من قبلهم )برسلهم ، واحتالوا بأنواع الحيل ، على رد ما جاؤوهم به ، وبنوا من مكرهم ، قصورا هائلة ،( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) أي : جاءها الأمر من أساسها وقاعدتها ، ( فخر عليهم السقف من فوقهم ) فصار ما بنوه عذابا ، عذبوا به ، ( وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) وذلك أنهم ظنوا أن هذا البنيان سينفعهم ، ويقيهم العذاب ، فصار عذابهم فيما بنوه وأصلوه . وهذا من أحسن الأمثال ، في إبطال الله مكر أعدائه . فإنهم فكروا وقدروا فيما جاءت به الرسل لما كذبوهم ، وجعلوا لهم أصولا وقواعد من الباطل ، يرجعون إليها ، ويردون بها ما جاءت به الرسل ، واحتالوا أيضا على إيقاع المكروه والضرر بالرسل ومن تبعهم ، فصار مكرهم وبالاً عليهم ، فصار تديبرهم فيه تدميرهم ، وذلك لأن مكرهم سيىء ( وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) (فاطر : 43 )، هذا في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى ، ولهذا قال :( ثم يوم القيامة يخزيهم) أي : يفضحهم على رؤوس الخلائق ، ويبين لهم كذبهم ، وافتراءهم على الله . ( ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ) أي : تحاربون وتعادون الله وحزبه لأجلهم ، وتزعمون أنهم شركاء لله ، فإذا سألهم هذا السؤال ، لم يكن لهم جواب ، إلا الإقرار بضلالهم ، والاعتراف بعنادهم فيقولون :( ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) (الأعراف : 37 )
(قال الذين أوتوا العلم ) أي : العلماء الربانيون (إن الخزي اليوم )أي : يوم القيامة (والسوء ) أي : سوء العذاب (على الكافرين ) . وفي هذا فضيلة أهل العلم ، وأنهم الناطقون بالحق في هذه الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد ، وأن لقولهم ، اعتبارا عند الله وعند خلقه .(1/150)
ثم ذكر ما يفعل بهم ،أي بالكافرين ،عند الوفاة ،وفي القيامة فقال :( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) أي : تتوفاهم في هذه الحال ، التي كثر فيها ظلمهم وغيهم ، وقد علم ما يلقى الظلمة في ذلك المقام ، من أنواع العذاب والخزي والإهانة ... (فألقوا السلم ) أي : استسلموا ، وأنكروا ما كانوا يعبدون من دون الله وقالوا :( ما كنا نعمل من سوء) ، فيقال لهم :( بلى ) كنتم تعملون السوء ، و ( إن الله عليم بما كنتم تعملون ) فلا يفيدكم الجحود شيئا ، وهذا في بعض مواقف القيامة ، ينكرون ما كانوا عليه في الدنيا ، ظنا منهم أنه ينفعهم ، فإذا شهدت عليهم جوارحهم ، وتبين ما كانوا عليه أقروا ، واعترفوا ، ولهذا لا يدخلون النار ، حتى يعترفوا بذنوبهم . فإذا دخلوا أبواب جهنم ، فكل أهل عمل يدخلون من الباب اللائق بحالهم ،( فلبئس مثوى المتكبرين )... نار جهنم ، فإنها مثوى الحسرة والندم ، ومنزل الشقاء والألم ، ومحل الهموم والغموم ، وموضع السخط من الحي القيوم ، لا يفتر عنهم من عذابها ، ولا يرفع عنهم يوما من أليم عقابها ، قد أعرض عنهم الرب الرحيم ، وأذاقهم العذاب العظيم ....
17-(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحج : 38 )
قال الطبري رحمه الله :
القول في تأويل قوله تعالى: (إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ ).
يقول تعالى ذكره: إن الله يدفع غائلة المشركين عن الذين آمنوا بالله وبرسوله, إن الله لا يحبّ كلّ خوان يخون الله فيخالف أمره ونهيه ويعصيه ويطيع الشيطان ؛ كَفُورٍ ، يقول: جَحود لنعمه عنده, لا يعرف لمنعمها حقه فيشكره عليها. وقيل: إنه عني بذلك دفع الله كفار قريش عمن كان بين أظهرهم من المؤمنين قبل هجرتهم.
وقال القرطبي رحمه الله :(1/151)
روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة؛ أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال؛ فنزلت هذه الآية:( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ". فوعد فيها سبحانه بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر. وقد مضى في "الأنفال" التشديد في الغدر؛ وأنه (ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان). وقيل: المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم؛ وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم. وقيل: يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة. ثم قتل كافر مؤمنا نادر، وإن فيدفع الله عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته. وقرأ نافع (يدافع)... (ولولا دفاع). وقرأ أبو عمرو وابن كثير (يدفع)... (ولولا دفع). وقرأ عاصم وحمزة والكسائي (يدافع)...(ولولا دفع الله). ويدافع بمعنى يدفع؛ مثل عاقبت اللص، وعافاه الله؛ والمصدر دفعا. وحكى الزهراوي أن "دفاعا" مصدر دفع؛ كحسب حسابا.(1/152)
*** قال عند تفسيره لقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال : 27 ) روي أنها نزلت في أبي لبابة بن عبدالمنذر حين أشار إلى بني قريظة بالذبح. قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله؛ فنزلت هذه الآية. فلما نزلت شد نفسه إلى سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت، أو يتوب الله علي. الخبر مشهور. وعن عكرمة قال: لما كان شأن قريظة بعث النبي (عليا رضي الله عنه فيمن كان عنده من الناس؛ فلما انتهى إليهم وقعوا في رسول الله (، وجاء جبريل عليه السلام على فرس أبلق فقالت عائشة رضي الله عنها: فلكأني أنظر إلى رسول الله (يمسح الغبار عن وجه جبريل عليهما السلام؛ فقلت: هذا دحية يا رسول الله ؟ فقال: "هذا جبريل عليه السلام". قال: "يا رسول الله ما يمنعك من بني قريظة أن تأتيهم؟ فقال رسول الله ( : "فكيف لي بحصنهم"؟ فقال جبريل: "فإني أدخل فرسي هذا عليهم". فركب رسول الله ( فرسا معروري؛ فلما رآه علي رضي الله عنه قال: يا رسول الله، لا عليك ألا تأتيهم، فإنهم يشتمونك. فقال: "كلا إنها ستكون تحية". فأتاهم النبي ( فقال: يا إخوة القردة والخنازير فقالوا: يا أبا القاسم، ما كنت فحاشا! فقالوا: لا ننزل على حكم محمد، ولكنا ننزل على حكم سعد بن معاذ؛ فنزل. فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم. فقال رسول الله ( : "بذلك طرقني الملك سحرا". فنزل فيهم ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون). نزلت في أبي لبابة، أشار إلى بني قريظة حين قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، لا تفعلوا فإنه الذبح، وأشار إلى حلقه.(1/153)
وقيل: نزلت الآية في أنهم يسمعون الشيء من النبي ( فيلقونه إلى المشركين ويفشونه. وقيل: المعنى بغلول الغنائم. ونسبتها إلى الله؛ لأنه هو الذي أمر بقسمتها. وإلى رسول الله ( ؛ لأنه المؤدي عن الله عز وجل والقيم بها. والخيانة: الغدر وإخفاء الشيء؛ ومنه:(يعلم خائنة الأعين) (غافر: 19) وكان عليه السلام يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ومن الخيانة فإنها بئست البطانة). خرجه النسائي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله ( يقول؛ فذكره.
(وتخونوا أماناتكم) في موضع جزم، نسقا على الأول. وقد يكون على الجواب؛ كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. والأمانات: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد. وسميت أمانة لأنها يؤمن معها من منع الحق؛ مأخوذة من الأمن ... (وأنتم تعلمون) أي ما في الخيانة من القبح والعار. وقيل: تعلمون أنها أمانة.
*** وقال عند تفسيره لقوله تعالى : ((وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) (الأنفال : 58 )
قوله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة) أي غشا ونقضا للعهد. (فانبذ إليهم على سواء) وهذه الآية نزلت في بني قريظة وبني النضير. وحكاه الطبري عن مجاهد. قال ابن عطية: والذي يظهر في ألفاظ القرآن أن أم بني قريظة انقضى عند قول (فشرد بهم من خلفهم) ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره فيما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة، فتترتب فيهم هذه الآية. وبنو قريظة لم يكونوا في حد من تخاف خيانته، وإنما كانت خيانتهم ظاهرة مشهورة.(1/154)
قال ابن العربي: فإن قيل كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة، والخوف ظن لا يقين معه، فكيف يسقط يقين العهد مع ظن الخيانة. فالجواب من وجهين: أحدهما - أن الخوف قد يأتي بمعنى اليقين، كما قد يأتي الرجاء بمعنى العلم، قال الله تعالى: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) (نوح : 13 ) الثاني - إذا ظهرت آثار الخيانة وثبتت دلائلها، وجب نبذ العهد لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة، وجاز إسقاط اليقين هنا ضرورة. وأما إذا علم اليقين فيستغنى عن نبذ العهد إليهم، وقد سار النبي ( إلى أهل مكة عام الفتح، لما إذا اشتهر منهم نقض العهد من غير أن ينبذ إليهم عهدهم. والنبذ: الرمي والرفض. وقال الأزهري: معناه إذا عاهدت قوما فعلمت منهم النقض بالعهد فلا توقع بهم سابقا إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت العهد والمواعدة، فيكونوا في علم النقض مستويين، ثم أوقع بهم. قال النحاس: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه. والمعنى: وإما تخافن من قوم بينك وبينهم عهد خيانة فأنبذ إليهم العهد، أي قل لهم قد نبذت إليكم عهدكم، وأنا مقاتلكم، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك، فيكون ذلك خيانة وغدرا. ثم بين هذا بقوله:(إن الله لا يحب الخائنين).
قلت: ما ذكره الأزهري والنحاس من إنباذ العهد مع العلم بنقضه يرده فعل النبي (في فتح مكة، فإنهم لما نقضوا لم يوجه إليهم بل قال: "اللهم اقطع خبري عنهم" وغزاهم. وهو أيضا معنى الآية، لأن في قطع العهد منهم ونكثه مع العلم به حصول نقض عهدهم والاستواء معهم. فأما مع غير العلم بنقض العهد منهم فلا يحل ولا يجوز.(1/155)
روى الترمذي وأبو داود عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية والروم عهد وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاءه رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية فسأل فقال: سمعت رسول الله ( يقول: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء) فرجع معاوية بالناس. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. والسواء: المساواة والاعتدال.
وقال الراجز : فاضرب وجوه الغدر الأعداء حتى يجيبوك إلى السواء
وقال الكسائي: السواء العدل. وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله تعالى:( فِي سَوَاء الْجَحِيمِ) (الصافات : 55 ). ومنه قول حسان: يا ويح أصحاب النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد
الفراء: ويقال (فانبذ إليهم على سواء) جهرا لا سرا.
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ( : (لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما كان الغدر في حق الإمام أعظم وأفحش منه في غيره لما في ذلك من المفسدة، فإنما إذا غدروا وعلم ذلك منهم ولم ينبذوا بالعهد لم يأمنهم العدو على عهد ولا صلح، فتشتد شوكته ويعظم ضرره، ويكون ذلك منفرا عن الدخول في الدين، وموجبا لذم أئمة المسلمين. فأما إذا لم يكن للعدو عهد فينبغي أن يتحيل عليه بكل حيلة، وتدار عليه كل خديعة. وعليه يحمل قوله ( : "الحرب خدعة". وقد اختلف العلماء هل يجاهد مع الإمام الغادر، على قولين. فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقاتل معه، بخلاف الخائن والفاسق. وذهب بعضهم إلى الجهاد معه. والقولان في مذهبنا.
وقال البغوي رحمه الله :(1/156)
قوله تعالى: ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا )، قرأ ابن كثير وأهل البصرة: ( يدفع ) وقرأ الآخرون: ( يدافع ) بالألف، يريد: يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم عن المؤمنين. ( إن الله لا يحب كل خوان كفور )، أي: خوان في أمانة الله ، كفور لنعمته ؛ قال ابن عباس: خانوا الله فجعلوا معه شريكاً وكفروا نعمه. قال الزجاج : من تقرب إلى الأصنام بذبيحته وذكر عليها اسم غير الله فهو خوان كفور.
وقال السعدي رحمه الله :
قوله تعالى : (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور )
هذا إخبار ، ووعد ، وبشارة من الله ، للذين آمنوا ، أن الله يدفع عنهم كل مكروه . ويدفع عنهم ـ بسبب إيمانهم ـ كل شر من شرور الكفار ، وشرور وسوسة الشيطان ، وشرور أنفسهم ، وسيئات أعمالهم ويحمل عنهم عند نزول المكاره ، ما لا يتحملون ، فيخفف عنهم غاية التخفيف . كل مؤمن ، له من هذه المدافعة والفضيلة ، بحسب إيمانه ، فمستقل ، ومستكثر .( إن الله لا يحب كل خوان ) أي : خائن في أمانته ، التي حمله الله إياها ، فيبخس حقوق الله عليها ، ويخونها ، ويخون الخلق .( كفور ) لنعم الله ، يوالي الله عليه الإحسان ،ويتوالى منه الكفر والعصيان .فهذا لا يحبه الله ، بل يبغضه ويمقته ، وسيجازيه على كفره وخيانته ، ومفهوم الآية ، أن الله يحب كل أمين قائم بأمانته ، شكور لمولاه .
18-( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) (القصص : 76 )
قال القرطبي رحمه الله :(1/157)
قوله تعالى:(إن قارون كان من قوم موسى) لما قال تعالى:( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (القصص: 60) بين أن قارون أوتيها واغتر بها ولم تعصمه من عذاب الله كما لم تعصم فرعون، ولستم أيها المشركون بأكثر عددا ومالا من قارون وفرعون، فلم ينفع فرعون جنوده وأمواله ولم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه...
قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى لحا؛ وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب؛ وموسى بن عمران بن قاهث وقال ابن إسحاق: كان عم موسى لأب وأم وقيل: كان ابن خالته ولم ينصرف للعجمة والتعريف وما كان على وزن فاعول أعجميا لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف في المعرفة وانصرف في النكرة، فإن حسنت فيه الألف واللام انصرف إن كان اسما لمذكر نحو طاوس وراقود قال الزجاج: ولو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف.(1/158)
قوله تعالى: (فبغى عليهم) بغيه أنه زاد في طول ثوبه شبرا؛ قاله شهر بن حوشب وفي الحديث :"لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا" ـ وقيل: بغيه كفره بالله عز وجل؛ قاله الضحاك ـ وقيل: بغيه استخفافه بهم بكثرة مال وولده؛ قاله قتادة ـ وقيل: بغيه نسبته ما آتاه الله من الكنوز إلى نفسه بعلمه وحيلته؛ قاله ابن بحر ـ وقيل: بغيه قوله : إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان في هارون فمالي ! فروى أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة لموسى والحبورة لهارون؛ يقرب القربان ويكون رأسا فيهم، وكان القربان لموسى فجعله موسى إلى أخيه، وجد قارون في نفسه وحسدهما ، فقال لموسى: الأمر لكما وليس لي شيء، إلى متى أصبر ؟ قال موسى: هذا صنع الله ..قال: والله لا أصدقنك حتى تأتي بآية؛ فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل واحد منهم بعصاه، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا وإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر - وكانت من شجر اللوز - فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر ..(فبغى عليهم)من البغي وهو الظلم
وقال يحيى بن سلام وابن المسيب: كان قارون غنيا عاملا لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم وكان منهم(1/159)
وقول سابع: روي عن ابن عباس قال: لما أمر الله تعالى برجم الزاني عمد قارون إلى امرأة بغي وأعطاها مالا، وحملها على أن ادعت على موسى أنه زنى بها وأنه أحبلها؛ فعظم على موسى ذلك وأحلفها بالله الذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت فتداركها الله فقالت: أشهد أنك بريء، وأن قارون أعطاني مالا، وحملني على أن قلت ما قلت، وأنت الصادق، وقارون الكاذب... فجعل الله أمر قارون إلى موسى، وأمر الأرض أن تطيعه... فجاءه وهو يقول للأرض: يا أرض خذيه؛ يا أرض خذيه ..وهي تأخذه شيئا فشيئا .. وهو يستغيث : يا موسى..! إلى أن ساخ في الأرض، هو وداره وجلساؤه الذين كانوا على مذهبه ..
وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى: استغاث بك عبادي فلم ترحمهم، أما أنهم لو دعوني لوجدوني قريبا مجيبا ابن جريج: بلغنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة، فلا يبلغون إلى أسفل الأرض إلى يوم القيامة، وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج: حدثني إبراهيم بن راشد قال حدثني داود بن مهران عن الوليد بن مسلم عن مروان بن جناح عن يونس بن ميسرة بن حلبس قال: لقي قارون يونس في ظلمات البحر، فنادى قارون يونس، فقال: يا يونس تب إلى الله ، فإنك تجده عند أول قدم ترجع بها إليه.. فقال يونس: ما منعك من التوبة ؟ فقال: إن توبتي جعلت إلى ابن عمي فأبى أن يقبل مني ..
وفي الخبر: إذا وصل قارون إلى قرار الأرض السابعة نفخ إسرافيل في الصور.. والله أعلم...
قال السدي: وكان اسم البغي سبرتا، وبذل لها قارون ألفي درهم ـ وقال قتادة: وكان قطع البحر مع موسى وكان يسمى المنور من حسن صورته في التوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري.(1/160)
قوله تعالى: (وآتيناه من الكنوز) قال عطاء: أصاب كثيرا من كنوز يوسف عليه السلام ...وقال الوليد بن مروان: إنه كان يعمل الكيمياء... (ما إن مفاتحه) = "إن" واسمها وخبرها في صلة "ما" و"ما" مفعولة "آتيناه" قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول ما أقبح ما يقول الكوفيون في الصلات؛ إنه لا يجوز أن تكون صلة الذي وأخواته "إن" وما عملت فيه، وفي القرآن (ما إن مفاتحه) وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به ، ومن قال مفتاح قال مفاتيح ، ومن قال هي الخزائن فواحدها مفتح بالفتح (لتنوء بالعصبة) أحسن ما قيل فيه أن المعنى لتنيء العصبة أي تميلهم بثقلها، فلما انفتحت التاء دخلت الباء كما قالوا هو يذهب بالبؤس ومذهب البؤس فصار (لتنوء بالعصبة) فجعل العصبة تنوء أي تنهض متثاقلة؛ كقولك قم بنا أي أجعلنا نقوم يقال: ناء ينوء نوءا إذا نهض بثقل قال الشاعر: تنوء بأخراها فلايا قيامها وتمشي الهوينى عن قريب فتبهر
وقال آخر: أخذت فلم أملك ونوت فلم أقم كأني من طول الزمان مقيد
وأناءني إذا أثقلني؛ عن أبي زيد وقال أبو عبيدة: قوله: (لتنوء بالعصبة) مقلوب، والمعنى لتنوء بها العصبة أي تنهض بها، وقال أبو زيد: نؤت بالحمل إذا نهضت قال الشاعر:
إنا وجدنا خلفا بئس الخلف عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
والأولى معنى قول ابن عباس وأبي صالح والسدي وهو قول الفراء واختاره النحاس كما يقال: ذهبت به وأذهبته وجئت به وأجأته ونؤت به وأنأته؛ فأما قولهم: له عندي ما ساءه وناءه فهو إتباع كان يجب أن يقال وأناءه ومثله هنأني الطعام ومرأني، وأخذه ما قدم وما حدث وقيل: هو مأخوذ من النأي وهو البعد ومنه قول الشاعر:
ينأون عنا وما تنأى مودتهم فالقلب فيهم رهين حيثما كانوا
وقرأ بديل بن ميسرة: "لينوء" بالياء؛ أي لينوء الواحد منها أو المذكور فحمل على المعنى وقال أبو عبيدة: قلت لرؤبة بن العجاج في قوله: فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق(1/161)
إن كنت أردت الخطوط فقل كأنها، وإن كنت أردت السواد والبلق فقل كأنهما فقال: أردت كل ذلك واختلف في العصبة وهي الجماعة التي يتعصب بعضهم لبعض على أحد عشر قولا: الأول: ثلاثة رجال؛ قاله ابن عباس وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة وقال مجاهد: العصبة هنا ما بين العشرين إلى خمسة عشر وعنه أيضا: ما بين العشرة إلى الخمسة عشر وعنه أيضا: من عشرة إلى خمسة ذكر الأول الثعلبي، والثاني القشيري والماوردي، والثالث المهدوي وقال أبو صالح والحكم بن عتيبة وقتادة والضحاك: أربعون رجلا. السدي ما بين العشرة إلى الأربعين وقاله قتادة أيضا وقال عكرمة: منهم من يقول أربعون، ومنهم من يقول سبعون وهو قول أبي صالح إن العصبة سبعون رجلا؛ ذكره الماوردي والأول ذكره عنه الثعلبي وقيل: ستون رجلا وقال سعيد بن جبير: ست أو سبع وقال عبدالرحمن بن زيد: ما بين الثلاثة والتسعة وهو النفر وقال الكلبي: عشرة لقول إخوة يوسف (ونحن عصبة) (يوسف: 8) وقاله مقاتل وقال خيثمة: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا غراء محجلة، وأنها لتنوء بها ثقلها، وما يزيد مفتح منها على إصبع، لكل مفتح منها كنز مال، لو قسم ذلك الكنز على أهل البصرة لكفاهم قال مجاهد: كانت المفاتيح من جلود الإبل وقيل: من جلود البقر لتخف عليه، وكانت تحمل معه إذا ركب على سبعين بغلا فيما ذكره القشيري وقيل: على أربعين بغلا وهو قول الضحاك وعنه أيضا: إن مفاتحه أوعيته وكذا قال أبو صالح: إن المراد بالمفاتح الخزائن؛ فالله أعلم
قوله تعالى: (إذ قال له قومه) أي المؤمنون من بني إسرائيل، قاله السدي وقال يحيى بن سلام: القوم هنا موسى وقال الفراء وهو جمع أريد به واحد كقوله: (الذين قال لهم الناس) (آل عمران: 173) وإنما هو نعيم ابن مسعود على ما تقدم. ( لا تفرح ) أي لا تأشر ولا تبطر قال الشاعر:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ولا ضارع في صرفه المتقلب(1/162)
وقال الزجاج: المعنى لا تفرح بالمال فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه... وقال مبشر بن عبدالله: لا تفرح أي لا تفسد قال الشاعر: إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع
أي أفسدتك وقال أبو عمرو: أفرحه الدين أثقله وأنشده:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع
وأفرحه سره فهو مشترك قال الزجاج: والفرحين والفارحين سواء وفرق بينهما الفراء فقال: معنى الفرحين الذين هم في حال فرح، والفارحين الذين يفرحون في المستقبل وزعم أن مثله طمع وطامع وميت ومائت ويدل على خلاف ما قال قول الله عز وجل: (إنك ميت وإنهم ميتون) (الزمر: 30) ولم يقل مائت وقال مجاهد أيضا: معنى ( لا تفرح) لا تبغ. (إن الله لا يحب الفرحين) أي البطرين؛ قاله مجاهد والسدي (إن الله لا يحب الفرحين) أي الباغين وقال ابن بحر: لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين...
وقال ابن كثير رحمه الله :
قوله تعالى: ( إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىَ فَبَغَىَ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْفَرِحِينَ * )(1/163)
قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال (إن قارون كان من قوم موسى) قال: كان ابن عمه, وهكذا قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن الحارث بن نوفل وسماك بن حرب وقتادة ومالك بن دينار وابن جريج وغيرهم أنه كان ابن عم موسى عليه السلام. قال ابن جريج: هو قارون بن يصهر بن قاهث وموسى بن عمران بن قاهث. وزعم محمد بن إسحاق بن يسار أن قارون كان عم موسى بن عمران عليه السلام, قال ابن جريج: وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه, والله أعلم. وقال قتادة بن دعامة: كنا نحدث أنه كان ابن عم موسى, وكان يسمى المنور لحسن صوته بالتوراة, ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري, فأهلكه البغي لكثرة ماله. وقال شهر بن حوشب: زاد في ثيابه شبراً طولاً ترفعاً على قومه.
وقولهتعالى : (وآتيناه من الكنوز) أي الأموال (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) أي ليثقل حملها الفئام من الناس لكثرتها. قال الأعمش عن خيثمة: كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود, كل مفتاح مثل الإصبع, كل مفتاح على خزانة على حدته, فإذا ركب حملت على ستين بغلاً أغر محجلاً, وقيل غير ذلك, والله أعلم.
وقوله: (إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) أي وعظه فيما هو فيه صالحو قومه, فقالوا على سبيل النصح والإرشاد: لا تفرح بما أنت فيه, يعنون لا تبطر بما أنت فيه من المال, (إن الله لا يحب الفرحين) قال ابن عباس: يعني المرحين. وقال مجاهد: يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.
وقال السعدي رحمه الله :
قوله عالى : (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ )(1/164)
( إن قارون كان من قوم موسى ) أي : من بني إسرائيل ،الذين فضلوا على العالمين ، وفاقوهم في زمانهم ، وامتن الله عليهم بما امتن به ، فكانت حالهم مناسبة للاستقامة . ولكن قارون هذا ، انحرف عن سبيل قومه ( فبغى عليهم ) وطغى ، بما أوتيه من الأمور العظيمة المطغية . ( وآتيناه من الكنوز ) أي : كنوز الأموال شيئا كثيرا . ( ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ) والعصبة ، من العشرة إلى التسعة إلى السبعة ، ونحو ذلك . أي : حتى إن مفاتح خزائن أمواله ، تثقل الجماعة القوية عن حملها ... هذه المفاتيح ، فما ظنك بالخزائن ؟( إذ قال له قومه ) ناصحين له محذرين له عن الطغيان :(لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ) أي : لا تفرح بهذه الدنيا العظيمة ، وتفتخر بها ، وتلهيك عن الآخرة ، فإن الله لا يحب الفرحين بها ، المنكبين على محبتها .
19-(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص : 77 )
قال القرطبي رحمه الله :
قوله تعالى:(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) أي أطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة؛ فإن من حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي... (ولا تنس نصيبك من الدنيا) اختلف فيه؛ فقال ابن عباس والجمهور: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك؛ إذ الآخرة إنما يعمل لها، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها ؛ فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة.
وقال الحسن وقتادة: معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه،ونظرك لعاقبة دنياك ؛ فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبْوة من الشدة؛ قاله ابن عطية ..(1/165)
قلت: وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله: احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا....وعن الحسن: قدم الفضل، وأمسك ما يبلغ.... وقال مالك: هو الأكل والشرب بلا سرف وقيل: أراد بنصيبه الكفن فهذا وعظ متصل؛ كأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن ونحو هذا قول الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط
وقال آخر: وهي القناعة لا تبغي بها بدلا فيها النعيم وفيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
قال ابن العربي: وأبدع ما فيه عندي قول قتادة: ولا تنس نصيبك الحلال، فهو نصيبك من الدنيا.. وما أحسن هذا.
(وأحسن كما أحسن الله إليك) أي أطع الله وأعبده كما أنعم عليك... ومنه الحديث: ما الإحسان ؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه" ... وقيل: هو أمر بصلة المساكين.
قال ابن العربي: فيه أقوال كثيرة جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله ...وقال مالك: الأكل والشرب من غير سرف... قال ابن العربي: أرى مالكا أراد الرد على الغالين في العبادة والتقشف؛ فإن النبي ( كان يحب الحلواء، ويشرب العسل، ويستعمل الشواء، ويشرب الماء البارد ...
(ولا تبغ الفساد في الأرض) أي لا تعمل بالمعاصي (إن الله لا يحب المفسدين).
وقال ابن كثير رحمه الله :(1/166)
قوله تعالى : : (وابتغ فيما آتاك الله الدار الاَخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات, التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والاَخرة ... (ولا تنس نصيبك من الدنيا) أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح, فإن لربك عليك حقاً, ولنفسك عليك حقاً, ولأهلك عليك حقاً, ولزورك عليك حقاً, فآت كل ذي حق حقه (وأحسن كما أحسن الله إليك) أي أحسن إلى خلقه, كما أحسن هو إليك... (ولا تبغ الفساد في الأرض) أي لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض, وتسيء إلى خلق الله (إن الله لا يحب المفسدين).
وقال السعدي رحمه الله :
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ) أي : قد حصل عندك من وسائل الآخرة ، ما ليس عند غيرك من الأموال فابتغ بها ما عند الله ، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات ، وتحصيل اللذات . ( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) أي : لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك ، وتبقى ضائعا ، بل أنفق لآخرتك ، واستمتع بدنياك ، استمتاعا لا يثلم دينك ، ولا يضر بآخرتك .( وأحسن كما أحسن الله إليك ) أي أحسن إلى عباد الله بهذه الأموال . ( ولا تبغ الفساد في الأرض) بالتكبر ، والعمل بمعاصي الله والاشتغال بالنعم عن المنعم . (إن الله لا يحب المفسدين ) بل يعاقبهم على ذلك ، أشد العقوبة .(1/167)
20-( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) (الروم :42- 45 )
قال الطبري رحمه الله :
القول في تأويل قوله تعالى: (قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مّشْرِكِينَ ).
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك: سِيروا في البلاد, فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم, وكذّبوا رسلَه, كيف كان آخر أمرهم, وعاقبة تكذيبهم رسُلَ الله وكفرهم .. ألم نهلكْهم بعذاب منا, ونجعلهم عبرة لمن بعدهم؟...( كان أكثرهم مشركين)، يقول: فَعَلنا ذلك بهم, لأن أكثرهم كانوا مشركين بالله مثلَهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ الْقِيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ ).(1/168)
يقول تعالى ذكره: فوجّه وجْهَك يا محمد نحوَ الوجه الذي وجّهك إليه ربك للدّينِ القَيّمِ لطاعة ربك, والمِلةِ المستقيمةِ التي لا اعوجاج فيها عن الحقّ.(مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ ) يقول تعالى ذكره: من قبل مجيءِ يومٍ من أيام الله لا مردّ له لمجيئه, لأن الله قد قضى بمجيئه فهو لا محالة جاءٍ..( يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ) يقول: يوم يجيء ذلك اليومُ يصدّع الناسُ, يقول: يتفرّق الناس فرقتين من قولهم: صَدَعتُ الغنم صدعتين: إذا فرقتها فرقتين: فريق في الجنة, وفريق في السعير...
القول في تأويل قوله تعالى: (مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ).
يقول تعالى ذكره:( من كفر) بالله ، (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي أوزار كفره, وآثام جحوده نِعَمَ ربه... (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحا) يقول: ومن أطاع الله, فعمل بما أمره به في الدنيا, وانتهى عما نهاه عنه فيها (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) يقول: فلأنفسهم يستعدون, ويسوّون المضجع ليسلموا من عقاب ربهم, وينجوا من عذابه, كما قال الشاعر: امْهَدْ لنَفْسِكَ حانَ السّقْمُ والتّلَفُ وَلا تُضِيعَنّ نَفْسا ما لَهَا خَلَفُ
القول في تأويل قوله تعالى: (لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ ).
يقول تعالى ذكره: يومئذ يصّدّعون... لِيَجزيَ الّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يقول: وعملوا بما أمرهم الله مِنْ فَضْلِهِ الذي وعد من أطاعه في الدنيا أن يجزيه يوم القيامة إنّهُ لا يُحِبّ الكافِرِينَ يقول تعالى ذكره: إنما خصّ بجزائه من فضله الذين آمنوا وعملوا الصالحات دون من كفر بالله, إنه لا يحبّ أهل الكفر به. واستأنف الخبر بقوله إنّه لا يُحِبّ الكافِرِينَ وفيه المعنى الذي وصفت.
قال القرطبي رحمه الله :(1/169)
قوله تعالى: ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ )
(قل سيروا في الأرض) أي قل لهم ، يا محمد ، سيروا في الأرض.. ليعتبروا بمن قبلهم، وينظروا كيف كان عاقبة من كذب الرسل.. ( كان أكثرهم مشركين) أي كافرين فأُهلِكوا....
قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ)
(فأقم وجهك للدين القيم) قال الزجاج: أي أقم قصدك، واجعل جهتك اتباع الدين القيم؛ يعني الإسلام. وقيل: المعنى أوضح الحق وبالغ في الإعذار، واشتغل بما أنت فيه ولا تحزن عليهم... (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) أي لا يرده الله عنهم، فإذا لم يرده لم يتهيأ لأحد دفعه ... والمراد يوم القيامة. (يومئذ يصدعون) قال ابن عباس: معناه يتفرقون. وقال الشاعر: وكنا كنَدْمانَي جَذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
أي لن يتفرقا؛.. نظيره قوله تعالى: (يومئذ يتفرقون) (الروم: 149 ) :فريق في الجنة ، وفريق في السعير. والأصل يتصدعون؛ ويقال: تصدع القوم إذا تفرقوا؛ ومنه اشتق الصداع، لأنه يفرق شعب الرأس.
قوله تعالى :( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)
(من كفر فعليه كفره) أي جزاء كفره. ( ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) أي يوطئون لأنفسهم في الآخرة فراشا ومسكنا وقرارا بالعمل الصالح؛.. ومنه: مهد الصبي. والمهاد الفراش، وقد مهدت الفراش مهدا: بسطته ووطأته. وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها. وتمهيد العذر: بسطه وقبوله. والتمهد: التمكن. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : (فلأنفسهم يمهدون) قال: في القبر.
قوله تعالى:( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ )(1/170)
(ليجزي الذين آمنوا) أي يمهدون لأنفسهم ليجزيهم الله من فضله. وقيل يصدعون ليجزيهم الله؛ أي ليتميز الكافر من المسلم.... (إنه لا يحب الكافرين).
قال البغوي رحمه الله :
قوله تعالى : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل)، لتروا منازلهم ومساكنهم خاوية، (كان أكثرهم مشركين) ، أي: كانوا مشركين بالله، فأهلكهم بكفرهم... (فأقم وجهك للدين القيم) ؛أي الدين المستقيم ، وهو دين الإسلام... (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله)، يعني: يوم القيامة، لا يقدر أحد على رده من الله... (يومئذ يصدعون)، أي يتفرقون: فريق في الجنة ، وفريق في السعير...
(من كفر فعليه كفره)، أي وبال كفره... (ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون)، يوطئون المضاجع ويسوونها في القبور.. (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم، (إنه لا يحب الكافرين).
وقال السعدي رحمه الله :(1/171)
قوله تعالى : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين) والأمر بالسير في الأرض ، يدخل فيه السير بالأبدان ، والسير بالقلوب للنظر والتأمل ، في عواقب المتقدمين ... (كان أكثرهم مشركين ) تجدون عاقبتهم شر العواقب ، ومآلهم شر مآل . عذاب استأصلهم ، وذم ولعن من خلق الله يتبعهم ، وخزي متواصل . فاحذروا أن تفعلوا أفعالهم ، لئلا يحذى بكم حذوهم ، فإن عدل الله وحكمته في كل زمان ومكان ( فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين )أي : أقبل بقلبك ، وتوجه بوجهك ، واسع ببدنك ، لإقامة الدين القيم المستقيم . فنفذ أوامره ونواهيه ، بجد واجتهاد ، وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة . وبادر زمانك ، وحياتك ، وشبابك ، ( من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ) وهو يوم القيامة ، الذي إذا جاء ، لا يمكن رده ، ولا يرجأ العاملون ليستأنفوا العمل ، بل فرغ من الأعمال ، لم يبق إلا جزاء العمال ( يومئذ يصدعون) أي : يتفرقون عن ذلك اليوم ، ويصدرون أشتاتا متفاوتين ، ليروا أعمالهم . ( من كفر ) منهم ( فعليه كفره ) ويعاقب هو بنفسه ، لا تزر وازرة وزر أخرى . ( ومن عمل صالحا ) من الحقوق التي لله ، والتي للعباد ، الواجبة والمستحبة .( فلأنفسهم ) لا لغيرهم ( يمهدون) أي : يهيئون ، ولأنفسهم يعمرون آخرتهم ، ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفاتها . ومع ذلك ، جزاؤهم ليس مقصورا على أعمالهم ، بل يجزيهم الله من فضله الممدود ، وكرمه غير المحدود ، ما لا تبلغه أعمالهم . وذلك لأنه أحبهم ، وإذا أحب الله عبدا ، صب عليه الإحسان صبا ، وأجزل له العطايا الفاخرة ، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة . وهذا بخلاف الكافرين ، فإن الله لما أبغضهم ومقتهم ،عاقبهم وعذبهم ، ولم يزدهم كما زاد من(1/172)
قبلهم ، فلهذا قال : (إنه لا يحب الكافرين)..
21- (و- (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ *وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ*وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ *) (الشورى :36- 46 )
قال ابن كثير رحمه الله :(1/173)
قوله تعالى :(وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ )
اختلف السلف في لقمان: هل كان نبياً أو عبداً صالحاً من غير نبوة ؟ على قولين, الأكثرون على الثاني.وقال سفيان الثوري عن الأشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً. وقال قتادة عن عبد الله بن الزبير: قلت لجابر بن عبد الله: ما انتهى إليكم من شأن لقمان ؟ قال: كان قصيراً أفطس من النوبة. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر, ذا مشافر, أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة. وقال الأوزاعي: حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله, فقال له سعيد بن المسيب: لا تحزن من أجل أنك أسود, فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال, ومهجع مولى عمر بن الخطاب, ولقمان الحكيم كان أسود نوبياً ذا مشافر.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبي عن أبي الأشهب عن خالد الربعي قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً, فقال له مولاه: اذبح لنا هذه الشاه, فذبحها, قال: أخرج أطيب مضغتين فيها, فأخرج اللسان والقلب, ثم مكث ما شاء الله, ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة, فذبحها, قال: أخرج أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب, فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها, فأخرجتهما, وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها, فأخرجتهما ؟ فقال لقمان:إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا, ولا أخبث منهما إذا خبثا. وقال شعبة عن الحكم عن مجاهد: كان لقمان عبداً صالحاً ولم يكن نبياً.(1/174)
وقال الأعمش: قال مجاهد: كان لقمان عبداً أسود عظيم الشفتين, مشقق القدمين. وقال حكام بن سالم عن سعيد الزبيدي عن مجاهد: كان لقمان الحكيم عبداً حبشياً, غليظ الشفتين, مصفح القدمين, قاضياً على بني إسرائيل, وذكر غيره أنه كان قاضياً على بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا الحكم, حدثنا عمرو بن قيس قال: كان لقمان عبداً أسود, غليظ الشفتين, مصفح القدمين, فأتاه رجل وهو في مجلس ناس يحدثهم, فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا ؟ قال: نعم, قال: فما بلغ بك ما أرى ؟ قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا عبد الرحمن بن يزيد عن جابر قال: إن الله رفع لقمان الحكيم بحكمته, فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك, فقال له: ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس ؟ قال: بلى, قال: فما بلغ بك ما أرى ؟ قال: قدر الله, وأداء الأمانة, وصدق الحديث, وتركي ما لا يعنيني, فهذه الاَثار منها ما هو مصرح فيه بنفي كونه نبياً, ومنها ما هو مشعر بذلك, لأن كونه عبداً قد مسه الرق ينافي كونه نبياً, لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها, ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبياً, وإنما ينقل كونه نبياً عن عكرمة إن صح السند إليه, فإنه رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة, قال: كان لقمان نبياً, وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي, وهو ضعيف, والله أعلم.(1/175)
وقال عبد الله بن وهب: أخبرني عبد الله بن عياش القتباني عن عمر مولى غفرة, قال: وقف رجل على لقمان الحكيم, فقال: أنت لقمان, أنت عبد بني الحسحاس ؟ قال: نعم, قال: أنت راعي الغنم ؟ قال: نعم, قال: أنت الأسود ؟ قال: أما سوادي فظاهر, فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال: وطء الناس بساطك, وغشيهم بابك, ورضاهم بقولك. قال: يا ابن أخي إن صَغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك, قال لقمان: غَضي بصري وكَفي لساني, وعفة طعمتي وحفظي فرجي, وقولي بصدق, ووفائي بعهدي, وتكرمتي ضيفي, وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني, فذاك الذي صيرني إلى ما ترى. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن نفيل, حدثنا عمرو بن واقد, عن عبدة بن رباح, عن ربيعة عن أبي الدرداء أنه قال يوماً وذكر لقمان الحكيم, فقال: ما أوتي ما أوتي عن أهل ولا مال ولا حسب ولا خصال, ولكنه كان رجلاً صمصامة سكيتاً, طويل التفكر, عميق النظر, لم ينم نهاراً قط, ولم يره أحد قط يبزق ولا يتنخع, ولا يبول ولا يتغوط, ولا يغتسل, ولا يعبث ولا يضحك, وكان لا يعيد منطقاً نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد, وكان قد تزوج وولد أولاد, فماتوا فلم يبك عليهم, وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر, فبذلك أوتي ما أوتي.(1/176)
وقد ورد أثر غريب عن قتادة رواه ابن أبي حاتم فقال: حدثنا أبي, حدثنا العباس بن الوليد, حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي, حدثنا سعيد عن ابن بشير قتادة قال: خير الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة, فاختار الحكمة على النبوة, قال: فأتاه جبريل وهو نائم, فذر عليه الحكمة, أو رش عليه الحكمة, قال: فأصبح ينطق بها, قال سعيد: فسمعت عن قتادة يقول: قيل للقمان: كيف اخترت الحكمة على النبوة, وقد خيرك ربك ؟ فقال: إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيه الفوز منه, ولكنت أرجو أن أقوم بها, ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة, فكانت الحكمة أحب إلي. فهذا من رواية سعيد بن بشير, وفيه ضعف قد تكلموا فيه بسببه, فالله أعلم, والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) أي الفقه في الإسلام,ولم يكن نبياً ولم يوح إليه...
وقوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) أي الفهم والعلم والتعبير (أن أشكر لله) أي أمرناه أن يشكر الله عز وجل على ما آتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه, ثم قال تعالى: (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه) أي إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين لقوله تعالى: ( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (الروم : 44 ). وقوله { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان : 12 } أي غني عن العباد لا يتضرر بذلك ولوكفر أهل الأرض كلهم جميعاً, فإنه الغني عما سواه, فلا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه.(1/177)
قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَبُنَيّ لاَ تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىَ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَن ْ أَنَابَ إِلَيّ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ *)(1/178)
يقول تعالى مخبراً عن وصية لقمان لولده, وهو لقمان بن عنقاء بن سدون, واسم ابنه ثاران في قول حكاه السهيلي, وقد ذكره الله تعالى بأحسن الذكر, وأنه آتاه الحكمة, وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه, فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف ولهذا أوصاه أولاً بأن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً, ثم قال محذراً له (إن الشرك لظلم عظيم) أي هو أعظم الظلم. قال البخاري: حدثنا قتيبة, حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) (الأنعام : 82 ) شق ذلك على أصحاب رسول الله (وقالوا: أينا لم يلبس إ يمانه بظلم ؟ فقال رسول الله ("إنه ليس بذاك, ألا تسمع إلى قول لقمان {(يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم)}" ورواه مسلم من حديث الأعمش به, ثم قرن بوصيته إياه بعبادة الله وحده البر بالوالدين, كما قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) (الإسراء : 23 ) وكثيراً ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن, وقال ههنا (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن) قال مجاهد: مشقة وهن الولد, وقال قتادة جهداً على جهد, وقال عطاء الخراساني ضعفاً على ضعف.(1/179)
وقوله (وفصاله في عامين) أي تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين, كما قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة : 233 ), ومن ههنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر, لأنه قال في الاَية الأخرى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف : 15 ) وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً, ليذكر الولد بإحسانها المتقدم إليه, كما قال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء : 24 ) ولهذا قال (أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير) أي فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء.(1/180)
قال ابن حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبد الله بن أبي شيبة ومحمود بن غيلان قالا: حدثنا عبيد الله, أخبرنا إسرائيل عن أبي اسحاق عن سعيد بن وهب قال: قدم علينا معاذ بن جبل, وكان بعثه النبي ( فقام فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: إني رسول رسول الله ( إليكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً, وأن تطيعوني لا آلوكم خيراً, وإن المصير إلى الله إلى الجنة أو إلى النار إقامة فلا ظعن, وخلود فلا موت.
وقوله تعالى : ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ) أي إن حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك, ولا يمنعك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً, أي محسناً إليهما, (واتبع سبيل من أناب إلى) يعني المؤمنين, ( ثم إِلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعلمون) قال الطبراني في كتاب العشرة: حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد, حدثنا مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند أن سعد بن مالك قال: أنزلت في هذه الاَية (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَلَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ), قال: كنت رجلاً براً بأمي, فلما أسلمت قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي , فيقال: يا قاتل أمه, فقلت: لا تفعلي يا أمه, فإني لا أدع ديني هذا لشيء. فمكثت يوماً وليلة لم تأكل, فأصبحت قد جهدت, مكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل, فأصبحت قد اشتد جهدها, فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا لشيء, فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي, فأكلت...(1/181)
** (يَبُنَيّ إِنّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَبُنَيّ أَقِمِ الصّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىَ مَآ أَصَابَكَ إِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ * وَلاَ تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنّ أَنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ )
هذه وصايا نافعة قد حكاها الله سبحانه عن لقمان الحكيم, ليمتثلها الناس ويقتدوا بها, فقال (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل) أي إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة من خردل, وجوز بعضهم أن يكون الضمير في قوله إنها ضمير الشأن والقصة, وجوز على هذا رفع مثقال, والأول أولى. وقوله عز وجل ( يأت بها الله) أي أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط, وجازى عليها إن خيراً فخير, وإن شراً فشر, كما قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء : 47 ). وقال تعالى:( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) الزلزلة 7- 8 ) ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء, أو غائبة ذاهبة في ارجاء السموات والأرض, فإن الله يأتي بها, لأنه لا تخفى عليه خافية, ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض, ولهذا قال تعالى: (إن الله لطيف خبير) أي لطيف العلم, فلا تخفى عليه الأشياء وإن دقت ولطفت وتضاءلت, ( خبير ) بدبيب النمل في الليل البهيم.(1/182)
وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله: ( فتكن في صخرة ) أنها صخرة تحت الأرضين السبع, وذكره السدي بإسناده ذلك المطروق عن ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة إن صح ذلك, ويروى هذا عن عطية العوفي وأبي مالك والثوري والمنهال بن عمرو وغيرهم, وهذا ـ والله أعلم ـ كأنه متلقى من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب, والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد أن هذه الحبة في حقارتها لو كانت داخل صخرة, فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف علمه. كما قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ( قال "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان".
ثم قال (يا بني أقم الصلاة) أي بحدودها وفروضها وأوقاتها.. (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) أي بحسب طاقتك وجهدك ..(واصبر على ما أصابك) علم أن الاَمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يناله من الناس أذى, فأمره بالصبر... وقوله: (إن ذلك من عزم الأمور) أي إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور... وقوله (ولا تصعر خدك للناس) يقول لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك احتقاراً منك لهم, واستكباراً عليهم, ولكن ألِن جانبك وابسط وجهك إليهم, كما جاء في الحديث : "ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط, وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة, والمخيلة لا يحبها الله".(1/183)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (ولا تصعر خدك للناس) يقول لا تتكبر فتحقر عباد الله, وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك, وكذا روى العوفي وعكرمة عنه. وقال مالك عن زيد بن أسلم ( ولا تصعر خدك للناس) لا تتكلم وأنت معرض, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة ويزيد بن الأصم وأبي الجوزاء وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد وغيرهم. وقال إبراهيم النخعي: يعني بذلك التشديق في الكلام. والصواب القول الأول. وقال ابن جرير: وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها, حتى تلفت أعناقها عن رؤوسها, فشبه به الرجل المتكبر, ومنه قول عمرو بن حيي التغلبي.
وكنا إذا الجبار صعر خده أقمنا له من ميله فتقوما
وقال أبو طالب في شعره: وكنا قديماً لا نقر ظلامةإذا ما ثنوا صعر الرؤوس نقيمها
وقوله (ولا تمش في الأرض مرحا) أي خيلاء متكبراً جباراً عنيداً, لا تفعل ذلك يبغضك الله, ولهذا قال (إن الله لا يحب كل مختال فخور) أي مختال معجب في نفسه, فخور أي على غيره. وقال تعالى: ( وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) (الإسراء : 37 ) .... وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي, حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى, حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى عن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ثابت بن قيس بن شماس قال: ذكر الكبر عند رسول الله ( فشدد فيه, فقال "(إن الله لا يحب كل مختال فخور)" فقال رجل من القوم: والله يا رسول الله ، إني لأغسل ثيابي فيعجبني بياضها, ويعجبني شراك نعلي, وعلاقة سوطي, فقال "ليس ذلك الكبر, إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس" ورواه من طريق أخرى بمثله, وفيه قصة طويلة, ومقتل ثابت ووصيته بعد موته.(1/184)
وقوله : (واقصد في مشي ) أي امش مقتصداً مشياً ليس بالبطيء المتثبط, ولا بالسريع المفرط, بل عدلاً وسطا بين بين. وقوله : (واغضض من صوتك) أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه, ولهذا قال: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير, أي غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه, ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى, وهذا التشبيه في هذا بالحمير, يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم, لأن رسول الله ( قال: "ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه".
وقال النسائي عند تفسير هذه الاَية: حدثنا قتيبة بن سعيد , حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله, وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان, فإنها رأت شيطاناً" وقد أخرجه بقية الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن جعفر بن ربيعة به, وفي بعض الألفاظ: بالليل, فالله أعلم.
فهذه وصايا نافعة جداً, وهي من قصص القرآن عن لقمان الحكيم, وقد روي عنه من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة, فلنذكر منها أنموذجاً ودستوراً إلى ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, أخبرنا ابن المبارك, أخبرنا سفيان, أخبرني نهشل بن مجمع الضبي عن قزعة عن ابن عمر قال: أخبرنا رسول الله ( قال "إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئاً حفظه". وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن موسى بن سليمان, عن القاسم يحدث عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله ( قال "قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني إياك والتقنع, فإنه مخوفة بالليل مذمة بالنهار".(1/185)
وقال: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عثمان عن ضمرة, حدثنا الثري بن يحيى قال: قال لقمان لابنه: يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عبدة بن سليمان , أخبرنا ابن المبارك, حدثنا عبد الرحمن المسعودي عن عون بن عبد الله قال: قال لقمان لابنه: يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام, يعني السلام, ثم اجلس في ناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا, فإن أفاضوا في ذكر الله, فأجل سهمك معهم, وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن سعيد بن كثير بن دينار, حدثنا ضمرة عن حفص بن عمر قال: وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه, وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة حتى نفذ الخردل, فقال: يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر, قال: فتفطر ابنه.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني, حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي, حدثنا أنس بن سفيان المقدسي عن خليفة بن سلام عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله ( :"اتخذوا السودان, فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم, والنجاشي, وبلال المؤذن" قال أبو القاسم الطبراني أراد الحبش.
فصل في الخمول والتواضع
وذلك متعلق بوصية لقمان عليه السلام لابنه. وقد جمع في ذلك الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا كتاباً مفرداً, ونحن نذكر منه مقاصده, قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر, حدثنا عبد الله بن موسى المدني عن أسامة بن زيد بن حفص بن عبد الله بن أنس عن جده أنس بن مالك, سمعت رسول الله ( يقول "رب أشعث ذي طمرين يصفح عن أبواب الناس إذا أقسم على الله لأبره" ثم رواه من حديث جعفر بن سليمان عن ثابت, وعلي بن زيد عن أنس عن النبي ( فذكره, وزاد "منهم البراء بن مالك".(1/186)
وقال أبو بكر بن سهل التميمي: حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا نافع بن زيد عن عياش بن عباس عن عيسى بن عبد الرحمن, عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه دخل المسجد, فإذا هو بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله ( فقال له: ما يبكيك يا معاذ ؟ قال: حديث سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعته يقول "إن اليسير من الرياء شرك, وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأثرياء, الذين إذا غابوا لم يفتقدوا, وإذا حضروا لم يعرفوا, قلوبهم مصابيح الهدى, ينجون من كل غبراء مظلمة".
حدثنا الوليد بن شجاع, حدثنا عفان بن علي عن حميد بن عطاء الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, عن النبي ( قال "رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره, لو قال: اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة, ولم يعطه من الدنيا شيئاً". وقال أيضاً: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال: قال رسول الله ( "إن من أمتي من لو أتى باب أحدكم يسأله ديناراً أو درهماً أو فلساً لم يعطه, ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها, ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها, ولم يمنعها إياه لهوانه عليه, ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره" وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقال أيضاً: حدثنا إسحاق ابن إبراهيم, أخبرنا جعفر بن سليمان, حدثنا عوف قال: قال أبو هريرة, قال: قال رسول الله ( "إن من ملوك الجنة من هو أشعث أغبر ذو طمرين لا يؤبه له الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم, وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا, وإذا قالوا لم ينصت لهم, حوائج أحدهم تتجلجل في صدره, لو قسم نوره يوم القيامة بين الناس لوسعهم". قال: وأنشدني عمر بن شبة عن ابن عائشة قال: قال عبد الله بن المبارك:
ألا رب ذي طمرين في منزل غدا زرابيه مبثوثة ونمارقه
قد اطردت أنهاره حول قصر هو أشرق والتفت عليه حدائقه(1/187)
وروي أيضاً من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم, عن أبي أمامة مرفوعاً "قال الله: من أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذ, ذو حظ من صلاة, أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر, وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع إن صبر على ذلك" قال: ثم أنفذ رسول الله ( بيده, وقال "عجلت منيته, وقل تراثه, وقلت بواكيه" وعن عبد الله بن عمرو قال: أحب عباد الله إلى الله الغرباء, قيل: ومن الغرباء ؟ قال: الفرارون بدينهم يجمعون يوم القيامة إلى عيسى بن مريم.
وقال الفضيل بن عياض: بلغني أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أنعم عليك, ألم أعطك, ألم أسترك ؟ ألم... ألم... ألم أُخمل ذكرك. ثم قال الفضيل: إن استطعت ألا تُعْرَف فافعل, وما عليك أن لا يثنى عليك, وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس محموداً عند الله. وكان ابن محيريز يقول: اللهم إني أسألك ذكراً خاملاً. وكان الخليل بن أحمد يقول: اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك, واجعلني في نفسي من أوضع خلقك. وعند الناس من أوسط خلقك.
باب ما جاء في الشهرة
ثم قال: حدثنا أحمد بن عيسى المصري, حدثنا ابن وهب عن عمر بن الحارث وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب, عن سنان بن سعد عن أنس عن رسول الله ( أنه قال: حسب امرىء من الشر إلا من عصم الله أن يشير الناس إليه بالإصابع في دينه ودنياه, وإن الله لاينظر إلى صوركم, ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم"
وروي مثله عن إسحاق بن البهلول عن ابن أبي فديك, عن محمد بن عبد الواحد الأخنسي, عن عبد الواحد بن أبي كثير عن جابر بن عبد الله مرفوعاً مثله, وروي عن الحسن مرسلاً نحوه فقيل للحسن: فإنه يشار إليك بالأصابع, فقال: إنما المراد من يشار إليه في دينه بالبدعة وفي دنياه بالفسق.
وعن علي رضي الله عنه قال: لاتبدأ لأن تشتهر, ولا ترفع شخصك لتذكر, وتعلم واكتم, واصمت تسلم, تسر الأبرار وتغيظ الفجار.(1/188)
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال أيوب: ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه. وقال محمد بن العلاء: من أحب الله أحب أن لا يعرفه الناس. وقال سماك بن سلمة: إياك وكثرة الأخلاء وقال أبان بن عثمان: إن أحببت أن يسلم إليك دينك فأقل من المعارف. كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة نهض وتركهم.
وقال: حدثنا علي بن الجعد, أخبرنا شعبة عن عوف عن أبي رجاء قال: رأى طلحة قوماً يمشون معه فقال: ذباب طمع وفراش النار.
وقال ابن إدريس عن هارون بن ابن عنترة عن سليم بن حنظلة قال: بينا نحن حول أبي إذ علاه عمر بن الخطاب بالدرة وقال: إنها مذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وقال ابن عون عن الحسن: خرج ابن مسعود فاتبعه أناس, فقال: والله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان. وقال حماد بن زيد: كنا إذا مررنا على المجلس ومعنا أيوب فسلم, ردوا رداً شديداً, فكان ذلك يغمه. وقال عبد الرزاق عن معمر: كان أيوب يطيل قميصه, فقيل له في ذلك, فقال: إن الشهرة فيما مضى كانت في طول القميص, واليوم في تشميره. واصطنع مرة نعلين على حذو نعلي النبي ( , فلبسهما أياماً ثم خلعهما, وقال: لم أر الناس يلبسونهما. وقال إبراهيم النخعي: لا تلبس من الثياب ما يشهر في الفقهاء ولا ما يزدريك السفهاء. وقال الثوري: كانوا يكرهون من الثياب الجياد التي يشتهر بها ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم. والثياب الرديئة التي يحتقر فيها ويستذل دينه.(1/189)
وحدثنا خالد بن خداش, حدثنا حماد عن أبي حسنة صاحب الزيادي قال: كنا عند أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية فقال: إياكم وهذا الحمار النهاق. وقال الحسن رحمه الله: إن قوماً جعلوا الكبر في قلوبهم والتواضع في ثيابهم, فصاحب الكساء بكسائه أعظم من صاحب المطرف بمطرفه ما لهم تفاقدوا. وفي بعض الأخبار أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: ما لكم تأتوني عليكم ثياب الرهبان, وقلوبكم قلوب الذئاب, البسوا ثياب الملوك, وألينوا قلوبكم بالخشية.
فصل في حسن الخلق
قال أبو التياح عن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله ( من أحسن الناس خلقاً وعن عطاء عن ابن عمر: قيل يا رسول الله ، أي المؤمنين أفضل ؟ قال "أحسنهم خلقاً". وعن نوح بن عباد عن ثابت عن أنس مرفوعاً "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجات الاَخرة وشرف المنازل, وإنه لضعيف العبادة, وإنه ليبلغ بسوء خلقه درك جهنم وهو عابد" وعن سيار بن هارون عن حميد عن أنس مرفوعاً "ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والاَخرة" وعن عائشة مرفوعاً "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار".
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس, حدثنا عبد الله بن إدريس, أخبرني أبي وعمي عن جدي عن أبي هريرة رضي الله عنه سئل رسول الله ( عن أكثر ما يدخل الناس الجنة, فقال "تقوى الله وحسن الخلق". وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار, فقال "الأجوفان: الفم والفرج" وقال أسامة بن شريك: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته الأعراب من كل مكان, فقالوا: يا رسول الله ما خير ما أعطي الإنسان ؟ قال "حسن الخلق".
وقال يعلى بن سماك عن أم الدرداء عن أبي الدرداء يبلغ به قال: ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق, وكذا رواه عطاء عن أم الدرداء به. وعن مسروق عن عبد الله مرفوعاً "إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً".(1/190)
حدثنا عبد الله بن أبي بدر, حدثنا محمد بن عيسى عن محمد بن أبي سارة عن الحسن بن علي قال: قال رسول الله ( "إن الله ليعطي العبد على الثواب من حسن الخلق, كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدو عليه الأجر ويروح".
وعن مكحول عن أبي ثعلبة مرفوعاً "إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً, وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني منزلاً في الجنة مساويكم أخلاقاً الثرثارون المتشدقون المتفيهقون"
وعن أبي أويس عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعاً "ألا أخبركم بأكملكم إيماناً أحاسنكم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً الذين يؤلفون ويألفون".
وقال الليث عن يزيد بن عبد الله بن أسامة عن بكر ابن أبي الفرات قال: قال رسول الله ( "ما حسن الله خلق رجل وخلقه فتطعمه النار".
وعن عبد الله بن غالب الحداني عن أبي سعيد مرفوعاً "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق". وقال ميمون بن مهران عن رسول الله ( "ما من ذنب أعظم عند الله من سوء الخلق" وذلك أن صاحبه لا يخرج من ذنب إلا وقع في آخر. قال: حدثنا علي بن الجعد, حدثنا أبو المغيرة الأحمسي, حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن رجل من قريش قال: قال رسول الله ( "ما من ذنب أعظم عند الله من سوء الخلق, إن الخلق الحسن ليذيب الذنوب. كما تذيب الشمس الجليد, وإن الخلق السيء ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل".
وقال عبد الله بن إدريس عن أبيه عن جده عن أبي هريرة مرفوعاً "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم, ولكن يسعهم منكم بسط وجوه وحسن خلق". وقال محمد بن سيرين: حسن الخلق عون على الدين.
فصل في ذم الكبر
قال علقمة عن ابن مسعود رفعه "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر, ولا يدخل النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان"
وقال إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً "من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر, أكبه الله على وجهه في النار"(1/191)
حدثنا إسحاق بن إسماعيل, حدثنا أبو معاوية عن عمر بن راشد عن إياس بن سلمة عن أبيه مرفوعاً "لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب عند الله من الجبارين, فيصيبه ما أصابهم من العذاب".
وقال مالك بن دينار: ركب سليمان بن داود عليهما السلام ذات يوم البساط في مائتي ألف من الإنس ومائتي ألف من الجن, فرفع حتى سمع تسبيح الملائكة في السماء, ثم خفضوه حتى مست قدمه ماء البحر, فسمعوا صوتاً : لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسف به أبعد مما رفع ..
قال: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: كان أبو بكر يخطبنا فيذكر بدء خلق الإنسان حتى إن أحدنا ليقذر نفسه فيقول: خرج من مجرى البول مرتين.
وقال الشعبي: من قتل اثنين فهو جبار, ثم تلا (َتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (القصص : 19 )
وقال الحسن: عجباً لابن آدم يغسل الخرء بيده في اليوم مرتين, ثم يتكبر يعارض جبار السموات. قال: حدثنا خالد بن خداش, حدثنا حماد بن زيد عن علي بن الحسن عن الضحاك بن سفيان, فذكر حديث ضرب مثل الدنيا بما يخرج من ابن آدم وقال الحسن عن يحيى عن أبي قال: إن مطعم بن آدم ضرب مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه.
وقال محمد بن الحسين بن علي ـ من ولد علي رضي الله عنه ـ ما دخل قلب رجل شيء من الكبر, إلا نقص من عقله بقدر ذلك.
وقال يونس بن عبيد: ليس مع السجود كبر, ولا مع التوحيد نفاق. ونظر طاوس إلى عمر بن عبد العزيز وهو يختال في مشيته, وذلك قبل أن يستخلف, فطعن طاوس في جنبه بأصبعه, وقال: ليس هذا شأن من في بطنه خرء ؟ فقال له كالمعتذر إليه: يا عم لقد ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمتها قال أبو بكر بن أبي الدنيا: كانت بنو أمية يضربون أولادهم حتى يتعلمون هذه المشية.
فصل في الإختيال(1/192)
عن أبي ليلى عن ابن بريدة عن أبيه مرفوعاً "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه" ورواه عن إسحاق بن إسماعيل عن سفيان بن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعاً مثله. وحدثنا محمد بن بكار, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره, وبينما رجل يتبختر في برديه أعجبته نفسه خسف الله به الأرض, فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" وروى الزهري عن سالم عن أبيه بينما رجل إلى آخره.
وقال السعدي رحمه الله :(1/193)
قوله تعالى : ( وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ *وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَلَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ*يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ *) ( لقمان 12-19 )
قال:(1/194)
يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان ، بالحكمة ، وهي العلم بالحق على وجهه وحكمته ، فهي العلم بالأحكام ، ومعرفة ما فيها ، من الأسرار والإحكام . فقد يكون الإنسان عالما ، ولا يكون حكيما . وأما الحكمة ، فهي مستلزمة للعلم ، بل وللعمل ، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع ، والعمل الصالح . ولما أعطاه الله هذه المنة العظيمة ، أمره أن يشكره على ما أعطاه ،ليبارك له فيه ،وليزيده من فضله ، وأخبره أن شكر الشاكرين يعود نفعه عليهم ، وأن من كفر فلم يشكر لله ، عاد وبال ذلك عليه . (والله غني ) عنه( حميد ) فيما يقدره ويقضيه ، على من خالف أمره . فغناه تعالى ، من لوازم ذاته ، وكونه حميدا في صفات كماله ، حميدا في جميل صنعه ، من لوازم ذاته ، وكل واحد من الوصفين ، صفة كمال ، واجتماع أحدهما إلى الآخر ، زيادة كمال إلى كمال . واختلف المفسرون : هل كان لقمان نبيا ، أو عبدا صالحا ؟ والله تعالى لم يذكر عنه إلا أنه آتاه الحكمة ، وذكر بعض ما يدل على حكمته ، في وعظه لابنه . فذكر أصول الحكمة وقواعدها الكبار فقال :( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه ). وقال له قولا يعظه به ، والوعظ : الأمر ، والنهي ، المقرون بالترغيب والترهيب فأمره بالإخلاص ، ونهاه عن الشرك ، وبين له السبب في ذلك فقال :( إن الشرك لظلم عظيم ) ووجه كونه ظلما عظيما ، أنه لا أفظع ولا أبشع ممن سوى المخلوق من تراب ، بمالك الرقاب . وسوى الذي لا يملك من الأمر شيئا ، بمالك الأمر كله . وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه ، بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه وسوى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النعم ، بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ،ودنياهم ،وأخراهم ، وقلوبهم ، وأبدانهم ، إلا منه ، ولا يصرف السوء إلا هو . فهل أعظم من هذا الظلم شيء ؟ وهل أعظم ظلما ، ممن خلقه الله لعبادته وتوحيده ، فذهب بنفسه الشريفة ، فجعلها في أخس المراتب ؟ جعلها عابدة لمن لا يسوى(1/195)
شيئا ، فظلم نفسه ظلما كبيرا . ولما أمر بالقيام بحقه ، بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد ، أمر بالقيام بحق الوالدين فقال : ( ووصينا الإنسان ) أي : عهدنا إليه ، وجعلناه وصية عنده ، سنسأله عن القيام بها ، وهل حفظها أم لا ؟ فوصيناه ( بوالديه ) وقلنا له ( اشكر لي ) بالقيام بعبوديتي ، وأدار حقوقي ، وأن لا تستعين بنعمي على معصيتي . ( ولوالديك ) بالإحسان إليهما بالقول اللين ، والكلام اللطيف ، والفعل الجميل ، والتواضع لهما ، وإكرامهما ، وإجلالهما ، والقيام بمؤونتهما واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه ، بالقول والفعل .فوصيناه بهذه الوصية ، وأخبرناه أن( إلي المصير ) أي : سترجع أيها الإنسان إلى من وصاك ، وكلفك بهذه الحقوق ، فيسألك : هل قمت بها ، فيثيبك الثواب الجزيل ؟ أم ضيعتها ، فيعاقبك العقاب الوبيل ؟ وذلك السبب الموجب لبر الوالدين في الأم فقال :( حملته أمه وهنا على وهن ) أي : مشقة على مشقة ، فلا تزال تلاقي المشاق ، من حين يكون نطفة ، من الوحم ، والمرض ، والضعف ، والثقل ، وتغير الحال ، وثم وجع الولادة ، ذلك الوجع الشديد.. . (وفصاله في عامين ) وهو ملازم لحضانة أمه وكفالتها ، ورضاعها . أفما يحسن بمن تحمل على ولده هذه الشدائد ، مع شدة الحب ، أن يؤكد على ولده ، ويوصي إليه بتمام الإحسان إليه ؟..( وإن جاهداك )أي : اجتهد والداك ( على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ) ولا تظن أن هذا داخل في الإحسان إليهما ، لأن حق الله ، مقدم على حق كل أحد ، وقد جاء في الحديث : " لا طاعة لمخلوق ، في معصية الخالق " . ولم يقل الله تعالى:( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم) " فعقهما " . بل قال : ( فلا تطعهما ) أي : في الشرك ، وأما برهما ، فاستمر عليه . ولهذا قال :(وصاحبهما ف ي الدنيا معروفا ) أي : صحبة إحسان إليهما بالمعروف . وأما اتباعهما ، وهما بحالة الكفر والمعاصي ، فلا تتبعهما .((1/196)
واتبع سبيل من أناب إلي )وهم المؤمنون بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، المستسلمون لربهم ، المنيبون إليه . واتباع سبيلهم ، أن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى الله ، التي هي انجذاب دواعي القلب وإرادته ، إلى الله ، ثم يتبعها سعي البدن ، فيما يرضي الله ، ويقرب منه ... (ثم إلي مرجعكم ) الطائع والعاصي ، والمنيب ، وغيره .. ( فأنبئكم بما كنتم تعملون ) ، فأجازيك على إيمانكم ، وأجازيهما على كفرهما ، ثم أجازي كلا منكم بما صدر عنه من الخير والشر . فلا يخفى على الله من أعمالهم خافية .
( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ) التي هي أصغر الأشياء وأحقرها .( فتكن في صخرة ) أي : في وسطها ( أو في السماوات أو في الأرض )في أي : جهة من جهاتهما( يأت بها الله ) سعة علمه ، وتمام خبرته وكمال قدرته . ولهذا قال :( إن الله لطيف خبير) أي : لطف في علمه وخبرته ، حتى اطلع على البواطن والأسرار ، وخفايا القفار والبحار . والمقصود من هذا ، الحث على مراقبة الله ، والعمل بطاعته ، مهما أمكن ، والترهيب من عمل القبيح ، قل أو كثر .(1/197)
( يا بني أقم الصلاة ) حثه عليها ، وخصها لأنها أكبر العبادات البدنية .( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) وذلك يستلزم العلم بالمعروف ، ليأمر به ، والعلم بالمنكر ، لينهى عنه . والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر إلا به ، من الرفق ، والصبر ، وقد صرح به في قوله : ( واصبر على ما أصابك ) ومن كونه فاعلا لما يأمر به ، كافا لما ينهى عنه ، فتضمن هذا تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر ، وتكميل غيره بذلك ، بأمره ونهيه . ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس ، أمره بالصبر على ذلك فقال: ( واصبر على ما أصابك إن ذلك ) الذي وعظ به لقمان ابنه ( من عزم الأمور ) أي : من الأمور التي يعزم عليها ، ويهتم بها ، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم .( ولا تصعر خدك للناس ) أي : لا تمله وتعبس بوجهك للناس ، تكبرا عليهم ، وتعاظما .( ولا تمش في الأرض مرحا) أي : بطرا ، فخرا بالنعم ناسيا المنعم ، معجبا بنفسك .( إن الله لا يحب كل مختال ) في نفسه وهيئته وتعاظمه ( فخور) بقوله . (واقصد في مشيك ) أي : امش متواضعا مستكينا ، لا مشي البطر والتكبر، ولا مشي التماوت .( واغضض من صوتك ) أدبا مع الناس ومع الله .( إن أنكر الأصوات ) أي : أفظعها وأبشعها ( لصوت الحمير ) . فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة ، لما اختص بذلك الحمار ، الذي قد علمت خسته وبلادته .(1/198)
***وهذه الوصايا ، التي وصى بها لقمان ابنه ، تجمع أمهات الحكم ، وتستلزم ما لم يذكر منها . وكل وصية يقرن بها ، ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمرا ، وإلى تركها إن كانت نهيا . وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة ، أنها العلم بالأحكام ، وحكمها ومناسباتها . فأمره بأصل الدين ، وهو التوحيد ، ونهاه عن الشرك ، وبين له الموجب لتركه . وأمره ببر الوالدين ، وبين له السبب الموجب لبرهما ، وأمره بشكره وشكرهما ، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما ، ما لم يأمرا بمعصية ، ومع ذلك ، فلا يعقهما ، بل يحسن إليهما ، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك . وأمره بمراقبة الله ، وخوفه القدوم عليه . وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر ، إلا أتى بها . ونهاه عن التكبر ، وأمره بالتواضع ، ونهاه عن البطر والأشر ، والمرح ، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات ، ونهاه عن ضد ذلك . وأمره بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الصلاة وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر ، كما قال تعالى : ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ) (البقرة : 45 )) . فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا ، أن يكون مخصوصا بالحكمة ، مشهورا بها . ولهذا من منة الله على عباده ، أن قص عليهم من حكمته ، ما يكون لهم به أسوة حسنة .***(1/199)
22- (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ *وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ*وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ *) (الشورى :36- 46 )
قال القرطبي رحمه الله :
قوله تعالى : (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)(1/200)
(فما أوتيتم من شيء) يريد من الغنى والسعة في الدنيا. (فمتاع الحياة الدنيا) أي فإنما هو متاع في أيام قليلة تمضى وتذهب؛ فلا ينبغي أن يتفاخر به. والخطاب للمشركين... (وما عند الله خير وأبقى) يريد من الثواب على الطاعة ( للذين آمنوا ) صدقوا ووحدوا ( وعلى ربهم يتوكلون ) نزلت في أبي بكر الصديق حين أنفق جميع ماله في طاعة الله فلامه الناس. وجاء في الحديث أنه: أنفق ثمانين ألفا.
وقوله تعالى : (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون)(1/201)
( والذين يجتنبون) الذين في موضع جر معطوف على قوله: (خير وأبقى للذين آمنوا ) أي وهو للذين يجتنبون (كبائر الإثم) ... وقرأ حمزة والكسائي ( كبائر الإثم ) والواحد قد يراد به الجمع عند الإضافة؛ كقوله تعالى: ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) (النحل: 18)، وكما جاء في الحديث: "منعت العراق درهمها وقفيزها".وقرأ الباقون بالجمع هنا وفي سورة النجم... (والفواحش) قال السدي: يعني الزنى... وقاله ابن عباس... وقال: كبير الإثم الشرك. وقال قوم: كبائر الإثم ما تقع على الصغائر مغفورة عند اجتنابها. والفواحش داخلة في الكبائر، ولكنها تكون أفحش وأشنع كالقتل بالنسبة إلى الجرج، والزنى بالنسبة إلى المراودة. وقيل: الفواحش والكبائر بمعنى واحد، فكرر لتعدد اللفظ ؛ أي يجتنبون المعاصي لأنها كبائر وفواحش. وقال مقاتل: الفواحش موجبات الحدود. (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) أي يتجاوزون ويحملون عمن ظلمهم. قيل: نزلت في عمر حين شتم بمكة. وقيل: في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاق مال كله وحين شتم فحلم. وعن علي رضي الله عنه قال: اجتمع لأبي بكر مال مرة، فتصدق به كله في سبيل الخير؛ فلامه المسلمون وخطأه الكافرون فنزلت: (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ). وقال ابن عباس: شتم رجل من المشركين أبا بكر فلم يرد عليه شيئا؛ فنزلت الآية. وهذه من محاسن الأخلاق؛ يشفقون على ظالمهم ويصفحون عمن جهل عليهم؛ يطلبون بذلك ثواب الله تعالى وعفوه؛ لقوله تعالى في آل عمران: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) ( 134). وهو أن يتناولك الرجل فتكظم غيظك عنه. وأنشد بعضهم:
إني عفوت لظالمي ظلمي ووهبت ذاك له على علمي(1/202)
مازال يظلمني وأحرمه حتى بكيت له من الظلم
وقوله تعالى : ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)
(والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة) قال عبدالرحمن بن زيد: هم الأنصار بالمدينة؛ استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثنى عشر نقيبا منهم قبل الهجرة. (وأقاموا الصلاة) أي أدوها لمواقيتها بشروطها وهيئاتها. (وأمرهم شورى بينهم) أي يتشاورون في الأمور. والشورى مصدر شاورته؛ مثل البشرى والذكرى ونحوه. فكانت الأنصار قبل قدوم النبي ( إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملوا عليه؛ فمدحهم الله تعالى به؛ قاله النقاش. وقال الحسن: أي إنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون؛ فمدحوا باتفاق كلمتهم. قال الحسن: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم. وقال الضحاك: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله ( ، وورد النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له. وقيل تشاورهم فيما يعرض لهم؛ فلا يستأثر بعضهم بخبر دون بعض. وقال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة ومسبار للعقول وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا. وقد قال الحكيم:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن برأي لبيب أومشورة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة فإن الخوافي قوة للقوادم(1/203)
فمدح الله المشاورة في الأمور بمدح القوم الذين كانوا يمتثلون ذلك. وقد كان النبي ( يشاور أصحابه في الآراء المتعلقة بمصالح الحروب؛ وذلك في الآراء كثير. ولم يكن يشاورهم في الأحكام؛ لأنها منزلة من عند الله على جميع الأقسام من الفرض والندب والمكروه والمباح والحرام. فأما الصحابة بعد استئثار الله تعالى به علينا فكانوا يتشاورون في الأحكام ويستنبطونها من الكتاب والسنة. وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة؛ فإن النبي ( لم ينص عليها حتى كان فيها بين أبي بكر والأنصار ما كان... وقال عمر رضي الله عنه: نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله ( لديننا... وتشاوروا في أهل الردة فاستقر رأي أبي بكر على القتال.... وتشاوروا في الجد وميراثه، وفي حد الخمر وعدده ... وتشاوروا بعد رسول الله ( في الحروب؛ حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما في المغازي، فقال له الهرمزان: مثلها ومثل من فيها من الناس من عدو المسلمين مثل طائر له ريش وله جناح فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس وإن كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس وإن شدخ الرأس ذهب الرجلان والجناحان. والرأس كسرى والجناح الواحد قيصر والآخر فارس؛؛ فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى... وذكر الحديث. وقال بعض العقلاء: ما أخطأت قط ! إذا حزبني أمر شاورت قومي ففعلت الذي يرون؛ فإن أصبت فيهم المصيبون، وإن أخطأت فهم المخطئون.
والمشورة بركة. والمشورة: الشورى، وكذلك المشورة بضم الشين؛ تقول منه: شاورته في الأمر واستشرته بمعنى. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ( : "إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها ". قال حديث غريب.
وقوله تعالى : (ومما رزقناهم ينفقون) أي ومما أعطيناهم يتصدقون.(1/204)
وقوله تعالى : (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين، ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم، ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)
(والذين إذا أصابهم البغي) أي أصابهم بغي المشركين. قال ابن عباس: وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله ( وعلى أصحابه وآذوهم وأخرجوهم من مكة فأذن الله لهم بالخروج ومكن لهم في الأرض ونصرهم على من بغى عليهم؛ وذلك قوله في سورة الحج: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج : 39-40 ) وقيل: هو عام في بغي كل باغ من كافر وغيره، أي إذا نالهم ظلم. من ظالم لم يستسلموا لظلمه. وهذه إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود. قال ابن العربي: ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح؛ فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للأخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالتين؛ إحداهما أن يكون الباغي معلنا بالفجور؛ وقحا في الجمهور، مؤذيا للصغير والكبير؛ فيكون الانتقام منه أفضل. وفي مثله قال إبراهيم النخعي: كانوا يكوهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق. الثانية: أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ويسأل المغفرة؛ فالعفو ها هنا أفضل، وفي مثله نزلت: (وأن تعفوا أقرب للتقوى) (البقرة: 237). وقوله: (فمن تصدق(1/205)
به فهو كفارة له) (المائدة: 45). وقوله: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) [النور: 22].
قلت: هذا حسن، وهكذا ذكر الكيا الطبري في أحكامه قال: قوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي ينتصرون) يدل ظاهره على أن الانتصار في هذا الموضع أفضل؛ ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله سبحانه وتعالى وإقام الصلاة؛ وهو محمول على ما ذكر إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق؛ فهذا فيمن تعدى وأصر على ذلك. والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادما مقلعا. وقد قال عقيب هذه الآية: (ولمن أنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل). ويقتضي ذلك إباحة الانتصار لا الأمر به، وقد عقبه بقوله: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور). وهو محمول على الغفران عن غير المصر، فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه بدلالة الآية التي قبلها. وقيل: أي إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزيلوه عنهم ويدفعوه؛ قال ابن بحر. وهو راجع إلى العموم على ما ذكرنا.(1/206)
قوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) قال العلماء: جعل الله المؤمنين صنفين؛ صنف يعفون عن الظالم فبدأ بذكرهم في قوله (وإذا ما غضبوا هم يغفرون)(الشورى: 37). وصنف ينتصرون من ظالمهم. ثم بين حد الانتصار بقول: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) فينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي. قال مقاتل وهشام بن حجير: هذا في المجروج ينتقم من الجارج بالقصاص دون غيره من سب أوشتم. وقاله الشافعي وأبو حنيفة وسفيان. قال سفيان: وكان ابن شبرمة يقول: ليس بمكة مثل هشام. وتأول الشافعي في هذه الآية أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل ما خانه من غير علمه؛ واستشهد في ذلك بقول النبي ( لهند زوج أبي سفيان: "خذي من ماله ما يكفيك وولدك" فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه... وقال ابن أبي نجيح: إنه محمول على المقابلة في الجراح. وإذا قال: أخزاه الله أو لعنه الله أن يقول مثله. ولا يقابل القذف بقذف ولا الكذب بكذب. وقال السدي: إنما مدح الله من انتصر ممن بغى عليه من غير اعتداء بالزيادة على مقدار ما فعل به؛ يعني كما كانت العرب تفعله. وسمي الجزاء سيئة لأنه في مقابلتها؛ فالأول ساء هذا في مال أو بدن، وهذا الاقتصاص يسوءه بمثل ذلك أيضا؛ ...(1/207)
قوله تعالى: (فمن عفا وأصلح) قال ابن عباس: من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو ( فأجره على الله) أي إن الله يأجره على ذلك. قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة .... وذكر أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين رضي الله عنهم قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيكم أهل الفضل ؟ فيقوم ناس من الناس؛ فيقال: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة؛ فيقولون إلى أين ؟ فيقولن إلى الجنة؛ قالوا قبل الحساب ؟ قالوا من أنتم ؟ قالوا أهل الفضل؛ قالوا وما كان فضلكم ؟ قالوا كنا إذا جهل علينا حلمنا ، وإذا ظلمنا صبرنا ، وإذا سيء إلينا عفونا؛.. قالوا ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. وذكر الحديث. (إنه لا يحب الظالمين) أي من بدأ بالظلم؛ قاله سعيد بن جبير. وقيل: لا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد؛ قاله ابن عيسى.(1/208)
وقوله تعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه) أي المسلم إذا انتصر من الكافر فلا سبيل إلى لومه، بل يحمد على ذلك مع الكافر. ولا لوم إن أنتصر الظالم من المسلم؛ فالانتصار من الكافر حتم، ومن المسلم مباح، والعفو مندوب ( فأولئك ما عليهم من سبيل) دليل على أن له أن يستوفي ذلك بنفسه. وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قصاصا في بدن يستحقه آدمي، فلا حرج عليه إن استوفاه من غير عدوان وثبت حقه عند الحكام، لكن يزجره الإمام في تفوته بالقصاص لما فيه من الجرأة على سفك الدم. وإن كان حقه غير ثابت عند الحاكم فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج؛ وهو الظاهر مطالب وبفعله مؤاخذ ومعاقب. القسم الثاني: أن يكون حد الله تعالى لاحق لآدمي فيه كحد الزنى وقطع السرقة؛ فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه، وإن ثبت عند حاكم نظر، فإن كان قطعا في سرقة سقط به الحد لزوال العضو المستحق قطعه، ولم يجب عليه في ذلك حق لأن التعزير أدب، وإن كان جلدا لم يسقط به الحد لتعديه مع بقاء محله فكان مأخوذا بحكمه. القسم الثالث: أن يكون حقا في مال؛ فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه حتى يصل إليه إن كان ممن هو عالم به، لان كان غير عالم نظر، فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه. لان كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه من عدم بينة تشهد له ففي جواز استسراره بأخذه مذهبان: أحدهما: جوازه؛ وهو قول مالك والشافعي. الثاني: المنع؛ وهو قول أبي حنيفة.
وقال السعدي رحمه الله :(1/209)
قوله تعالى :( فما أوتيتم من شيء ) من ملك ورياسة ، وأموال ، وبنين ، وصحة ، وعافية بدنية . ( فمتاع الحياة الدنيا ) لذة منغصة منقطعة . ( وما عند الله ) من الثواب الجزيل ، والأجر الجليل ، والنعيم المقيم ( خير ) من لذات الدنيا ، خيرية لا نسبة بينهما ( وأبقى ) لأنه نعيم لا مغص فيه ولا كدر ، ولا انتقال . ثم ذكر لمن هذا الثواب فقال : ( للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) أي : جمعوا بين الإيمان الصحيح ، المستلزم لأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة وبين التوكل ، الذي هو الآلة لكل عمل . فكل عمل لا يصحبه التوكل ، فغير تام وهو " أي : التوكل " الاعتماد بالقلب على الله . في جلب ما يحبه العبد ، ودفع ما يكرهه مع الثقة به تعالى . (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ) والفرق بين الكبائر والفواحش ـ مع أن جميعهما كبائر ـ أن الفواحش هي : الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها ، كالزنا ونحوه ، والكبائر ، ما ليس كذلك ، هذا عند الاقتران . وأما مع إفراد كل منهما عن الآخر فإنه يدخل فيه ... "( وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) أي : قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، فصار الحلم لهم سجية ، وحسن الخلق لهم ، طبيعة . حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله ، أو فعاله ، كظموا ذلك الغضب ، فلم ينفذوه ، بل غفروه ، ولم يقابلوا المسيء إلا بالإحسان والعفو والصفح . فترتب على هذا العفو والصفح ، من المصالح ، ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير ، كما قال تعالى : (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( فصلت 34-35 )(1/210)
( والذين استجابوا لربهم ) أي : انقادوا لطاعته ، ولبوا دعوته ،وصار قصدهم رضوانه ، وغايتهم الفوز بقربه.. ومن الاستجابة لله ، إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة . فلذلك عطفها على ذلك ، من باب عطف العام على الخاص ، الدال على شرفه وفضله فقال : ( وأقاموا الصلاة ) أي : ظاهرها وباطنها ، فرضها ونفلها . ( ومما رزقناهم ينفقون ) من النفقات الواجبة ، كالزكاة ، والنفقة على الأقارب ونحوهم ، والمستحبة ، كالصدقات على عموم الخلق . ( وأمرُهم ) الديني والدنيوي( شورى بينهم) أي : لا يستبد أحد منهم برأيه ، في أمر من الأمور المشتركة بينهم ، وهذا لا يكون إلا فرعا عن إجتماعهم ، وتوالفهم ، وتواددهم ، وتحاببهم . فمن كمال عقولهم أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور ، التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها ، اجتمعوا لها ، وتشاوروا ، وبحثوا فيها ، حتى إذا تبينت لهم المصلحة ، انتهزوها وبادروها . وذلك كالرأي في الغزو ، والجهاد ، وتولية الموظفين لإمارة ، أو قضاء ، أو غيرهما . وكالبحث في المسائل الدينية عموما ، فإنها من الأمور المشتركة ، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله ، وهو داخل في هذه الآية ... (والذين إذا أصابهم البغي ) أي : وصل إليهم من أعدائهم ( هم ينتصرون ) لقوتهم وعزتهم ، ولم يكونوا أذلاء عاجزين عن الانتصار . فوصفهم بالإيمان ، والتوكل على الله ، واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفَّر به الصغائر ، والانقياد التام ، والاستجابة لربهم ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق في وجوه الإحسان ،والمشاورة في أمورهم ،والقوة والانتصار على أعدائهم . فهذه خصال الكمال قد جمعوها ، ويلزم من قيامها فيهم ، فعل ما هو دونها ، وانتفاء ضدها . ( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن(1/211)
صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) ذكر الله في هذه الآيات ، مراتب العقوبات ، وأنها على ثلاث مراتب : عدل ، وفضل ، وظلم . فمرتبة العدل : جزاء السيئة بسيئة مثلها ، لا زيادة ولا نقص . فالنفس بالنفس ، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها ، والمال يضمن بمثله . ومرتبة الفضل : العفو عن المسيء والإصلاح له ، ولهذا قال : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) يجزيه أجرا عظيما ، وثوابا كثيرا . وشرط الله في العفو الإصلاح فيه ، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق بالعفو عنه ، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته ، فإنه في ـ هذه الحال ـ لا يكون مأمورا به . وفي جعل أجر العافي على الله ، ما يهيج على العفو ، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به . فكما يحب أن يعفو الله عنه ، فليعف عنهم ، وكما يحب أن يسامحه الله ، فليسامحهم ، فإن الجزاء من جنس العمل . وأما مرتبة الظلم : فقد ذكرها بقوله : ( إنه لا يحب الظالمين ) الذين يجنون على غيرهم ابتداء ،أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته ، فالزيادة ظلم..( ولمن انتصر بعد ظلمه ) أي : انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه( فأولئك ما عليهم من سبيل ) أي : لا حرج عليهم في ذلك . ودل قوله : (والذين إذا أصابهم البغي )وقوله :( ولمن انتصر بعد ظلمه ) أنه لا بد من إصابة البغي والظلم ووقوعه وأما إرادة البغي على الغير ، وإرادة ظلمه من غير أن يقع منه شيء ، فهذا لا يجازي بمثله ، وإنما يؤدب تأديبا ، يردعه عن قول أو فعل صدر منه ... ( إنما السبيل ) أي : إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية ( على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق) وهذا شامل للظلم والبغي على الناس ، في دمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم .( أولئك لهم عذاب أليم ) أي : موجع للقلوب والأبدان ، بحسب ظلمهم وبغيهم . ( ولمن صبر) على ما يناله من أذى الخلق ( وغفر ) لهم ، بأن سمح لهم عما صدر منهم .( إن ذلك لمن عزم الأمور)(1/212)
أي : الأمور التي حث الله عليها وأكدها وأخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة ، ومن الأمور التي لا يوفق لها إلا أولو العزائم والهمم ، وذوو الألباب والبصائر . فإن ترك الانتصار للنفس ، بالقول أو الفعل ، من أشق شيء عليها . والصبر على الأذى ، والصفح عنه ، ومغفرته ، ومقابلته بالإحسان ، أشق وأشق . ولكنه يسير على من يسره الله عليه وجاهد نفسه على الاتصاف به ، واستعان الله على ذلك . ثم إذا ذاق العبد حلاوته ، ووجد آثاره ، تلقاه برحب الصدر ، وسعة الخلق ، والتلذذ فيه .*
23- (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور*الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (الحديد 20- 24 )
قال ابن كثير رحمه الله :(1/213)
يقول تعالى موهناً أمر الحياة الدنيا ومحقراً لها: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد) أي إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا, كما قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران : 14 ).... ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية ونعمة زائلة فقال: (كمثل غيث) وهو المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (الشورى : 28 ) ... وقوله تعالى: (أعجب الكفار نباته) أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث, وكما يعجب الزراع ذلك ، كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار, فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها... (ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً) أي يهيج ذلك الزرع فتراه مصفراً بعد ما كان خضراً نضراً, ثم يكون بعد ذلك كله حطاماً أي يصير يبساً متحطماً, هكذا الحياة الدنيا تكون أوّلاً شابة ، ثم تكتهل ، ثم تكون عجوزاً شوهاء, والإنسان يكون كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضاً طرياً لين الأعطاف, بهي المنظر, ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه ويفقد بعض قواه, ثم يكبر فيصير شيخاً كبيراً ضعيف القوى, قليل الحركة يعجزه الشيء اليسير كما قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (الروم : 54 )... ولما كان هذا المثل دالاً على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة, وأن الاَخرة كائنة لا(1/214)
محالة, حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير فقال: ( وفي الاَخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان * وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) أي وليس في الاَخرة الاَتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد, وإما مغفرة من الله ورضوان.
وقوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) أي هي متاع فانٍ غارٌّ لمن ركَن إليه, فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها, وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى دار الاَخرة.
قال ابن جرير: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا المحاربي, حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها, اقرءوا :(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)" وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة والله أعلم.(1/215)
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير ووكيع كلاهما عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله (: "للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك" انفرد بإخراجه البخاري في الرقاق من حديث الثوري عن الأعمش به.. ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان, وإذا كان الأمر كذلك فلهذا حثه الله تعالى على المبادرة إلى الخيرات من فعل الطاعات، وترك المحرمات التي تكفر عنه الذنوب والزلات وتحصل له الثواب والدرجات.. فقال تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) والمراد جنس السماء والأرض، كما قال تعالى في الاَية الأخرى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران : 133 ) ..وقال ههنا: (أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) أي هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه إليهم, كما قدمناه في الصحيح أن فقراء المهاجرين قالوا: يارسول الله ، ذهب أهل الدثور بالأجور، بالدرجات العلى والنعيم المقيم. قال "وما ذاك ؟" قالوا: يصلون كما نصلي, ويصومون كما نصوم, ويتصدقون ولا نتصدق, ويعتقون ولا نعتق. قال: "أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين" قال: فرجعوا فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال مافعلنا ففعلوا مثله, فقال رسول الله ( : "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".(1/216)
وقوله تعالى : ( مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِيَ أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ * لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلّ فَإِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ )
يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم) ، أي في الاَفاق وفي أنفسكم ، (إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة. وقال بعضهم: من قبل أن نبرأها عائد على النفوس, وقيل: عائد على المصيبة, والأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها كما قال ابن جرير: حدثني يعقوب, حدثني ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن قال: كنت جالساً مع الحسن، فقال رجل: سلْه عن قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها).. فسألته عنها، فقال: سبحان الله ومن يشك في هذا ؟ كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة... وقال قتادة : (ما أصاب من مصيبة في الأرض) قال: هي السِّنون يعني الجدب ؛ (ولا في أنفسكم) يقول: الأوجاع والأمراض, قال: وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم ولاخلجان عرق إلا بذنب, وما يعفوالله عنه أكثر.(1/217)
وهذه الاَية الكريمة العظيمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق ـ قبحهم الله ـ وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثنا حيوة وابن لهيعة قالا: حدثنا أبو هانىء الخولاني أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله ( يقول: " قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ". ورواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن وهب وحيوة بن شريح ونافع بن زيد وثلاثتهم عن أبي هانىء به, وزاد ابن وهب "وكان عرشه على الماء" ورواه الترمذي وقال حسن صحيح... وقوله تعالى: ( إن ذلك على الله يسير) أي إن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله عز وجل, لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.(1/218)
وقوله تعالى: ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بماآتاكم ) أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها, وتقديرنا الكائنات قبل وجودها, لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم, فلا تأسوا على ما فاتكم لأنه لو قدر شيء لكان؛ ( ولا تفرحوا بما آتاكم ) أي جاءكم, وتفسير آتاكم أي أعطاكم وكلاهما متلازم أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم, فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم, وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم فلا تتخذوا نعم الله أشراً وبطراً تفخرون بها على الناس, ولهذا قال تعالى: ( والله لا يحب كل مختال فخور ) أي مختال في نفسه ، متكبر ؛ فخور أي على غيره. وقال عكرمة: ليس أحد إلا هو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً... ثم قال تعالى: ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ) أي يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه ( ومن يتول ) أي عن أمر الله وطاعته ( فإن الله هو الغني الحميد ) كما قال على لسان موسى عليه السلام :( إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (إبراهيم : 8 ).
وقال القرطبي رحمه الله :(1/219)
قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو) ، وجه الاتصال أن الإنسان قد يترك الجهاد خوفا على نفسه من القتل، وخوفا من لزوم الموت، فبين أن الحياة الدنيا منقضية فلا ينبغي أن يترك أمر الله محافظة على ما لا يبقى. و"ما" صلة، تقديره : اعلموا أن الحياة الدنيا لعب باطل ، ولهو أي فرح ، ثم تنقضي. وقال قتادة: لعب ولهو: أكل وشرب. وقيل: إنه على المعهود من اسمه، قال مجاهد: كل لعب لهو ... وقيل: اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة، أي شغل عنها. وقيل: اللعب الاقتناء، واللهو النساء. ( وزينة ) الزينة ما يتزبن به، فالكافر يتزين بالدنيا ولا يعمل للآخرة، وكذلك من تزين في غير طاعة الله. ( وتفاخر بينكم ) أي يفخر بعضكم على بعض بها . وقيل: بالخلقة والقوة. وقيل: بالأنساب على عادة العرب في المفاخرة بالآباء . وفي صحيح مسلم عن النبي (قال: "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد"... وصح عنه ( أنه قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ،والطعن في الأنساب ، والإستسقاء بالنجوم ،والنياحة ."... (وتكاثر في الأموال والأولاد) لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأبناء والأموال، و تكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعة. قال بعض المتأخرين: "لعب" كلعب الصبيان "ولهو" كلهو الفتيان "وزينة" كزينة النسوان "وتفاخر" كتفاخر الأقران "وتكاثر" كتكاثر الدهقان... وقيل: المعنى أن الدنيا كهذه الأشياء في الزوال والفناء. وعن علي رضي الله عنه قال لعمار: لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء: مأكول، ومشروب وملبوس، ومشموم، ومركوب، ومنكوح ؛ فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال، والله(1/220)
إن المرأة لتزيِّن أحسنها يراد به أقبحها.... ثم ضرب الله تعالى لها، أي للدنيا، مثلا بالزرع في غيث فقال: (كمثل غيث) أي مطر (أعجب الكفار نباته) الكفار هنا: الزراع لأنهم يغطون البذر. والمعنى أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن، وإذا أعجب الزراع فهو غاية ما يستحسن... وقيل: الكفار هنا الكافرون بالله عز وجل، لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين. وهذا قول حسن، فإن أصل الإعجاب لهم وفيهم، ومنهم يظهر ذلك، وهو التعظيم للدنيا وما فيها. وفي الموحدين من ذلك فروع تحدث من شهواتهم، وتتقلل عندهم وتدق إذا ذكروا الآخرة. وموضع الكاف رفع على الصفة. ( ثم يهيج ) أي يجف بعد خضرته، (فتراه مصفرا) أي متغيرا عما كان عليه من النضرة. ( ثم يكون حطاما ) أي فتاتا وتبنا فيذهب بعد حسنه، كذلك دنيا الكافر... (وفي الآخرة عذاب شديد) أي للكافرين. والوقف عليه حسن، ويبتدئ ( ومغفرة من الله ورضوان ) أي للمؤمنين. وقال الفراء: (وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة)، تقديره : إما عذاب شديد وإما مغفرة، فلا يوقف على "شديد". (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) هذا تأكيد ما سبق، أي تغر الكفار، فأما المؤمن فالدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة. وقيل: العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيدا في العمل للدنيا، وترغيبا في العمل للآخرة.(1/221)
وقوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم) أي سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم. وقيل: سارعوا بالتوبة، لأنها تؤدي إلى المغفرة، قاله الكلبي. وقيل التكبيرة الأولى مع الإمام، قاله مكحول. وقيل: الصف الأول. ( وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) لو وصل بعضها ببعض. قال الحسن: يعني جميع السموات والأرضين مبسوطتان كل واحدة إلى صاحبتها. وقيل: يريد لرجل واحد أي لكل واحد جنة بهذه السعة. وقال ابن كيسان: عني به جنة واحدة من الجنات. والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله. قال:
كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل
وقال طارق بن شهاب: قال قوم من أهل الحيرة لعمر رضي الله عنه: أرأيت قول الله عز وجل: (وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم الليل إذا ولى وجاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: لقد نزعت بما في التوراة مثله... (أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) شرط الإيمان لا غير، وفيه تقوية الرجاء. وقد قيل: شرط الإيمان هنا وزاد عليه في سورة آل عمران، فقال: " (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران :133- 134 )... ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) أي أن الجنة لا تنال ولا تدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله... (والله ذو الفضل العظيم).(1/222)
وقوله تعالى : ( مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِيَ أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ * لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلّ فَإِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ )
قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض) قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار. وقيل: الجوائح في الزرع. (ولا في أنفسكم) بالأوصاب والأسقام، قال قتادة. وقيل: إقامة الحدود، قال ابن حيان. وقيل: ضيق المعاش، وهذا معنى رواه ابن جريج. (إلا في كتاب) يعني في اللوح المحفوظ. (من قبل أن نبرأها) الضمير في (نبرأها) عائد على النفوس أو الأرض أو المصائب أو الجميع. وقال ابن عباس: من قبل أن يخلق المصيبة. وقال سعيد بن جبير: من قبل أن يخلق الأرض والنفس. (إن ذلك على الله يسير) أي خلق ذلك وحفظ جميعه (على الله يسير) هين. قال الربيع بن صالح: لما أخذ سعيد بن جبير رضي الله عنه بكيت، فقال: ما يبكيك ؟ قلت: أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه. قال: فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى: (مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِيَ أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ). وقال ابن عباس: لما خلق الله القلم قال له اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ولقد ترك لهذه الآية جماعة من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه، وقالوا قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى:( مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِيَ أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ إِنّ(1/223)
ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ) وقد قيل: إن هذه الآية تتصل بما قبل، وهو أن الله سبحانه هون عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له، وإنما على المرء امتثال الأمر.
قوله تعالى: ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ) أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه. وعن ابن مسعود أن نبي الله ( قال: "لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه" ثم قرأ (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم (ولا تفرحوا بما آتاكم ) أي من الدنيا، قاله ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: من العافية والخصب. وروى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، قال الله تعالى: (والله لا يحب كل مختال فخور) أي متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس. وقراءة العامة ( آتاكم ) بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا. واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو ( أَتاكم ) بقصر الألف واختاره أبو عبيد. أي جاءكم، وهو معادل لـ ( فاتكم ) ولهذا لم يقل أفاتكم. قال جعفر بن محمد الصادق: يا ابن آدم ، ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟.. وقيل لبرزجمهر: أيها الحكيم! مالك لا تحزن على ما فات، ولا تفرح بما هو آت؟ قال: لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة. وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى: الدنيا مبيد ومفيد، فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد آذن بالرحيل. وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار،(1/224)
والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، وكلاهما شرك خفي. والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدع فهو الفخور.
قوله تعالى: (الذين يبخلون) أي لا يحب المختالين ( الذين يبخلون ) فـ (الذين) في موضع خفض نعتا للمختال. وقيل: رفع بابتداء أي الذين يبخلون فالله غني عنهم. قيل: أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة محمد ( التي في كتبهم، لئلا يؤمن به الناس فيذهب ملكهم، قال السدي والكلبي. وقال سعيد بن جبير: (الذين يبخلون) يعني بالعلم (ويأمرون الناس بالبخل) أي بألا يعلموا الناس شيئا...وقال زيد بن اسلم: إنه البخل بأداء حق الله عز وجل... وقيل: إنه البخل بالصدقة والحقوق، قاله عامر بن عبدالله الأشعري... وقال طاوس: إنه البخل بما في يديه. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وفرق أصحاب الخواطر بين البخل والسخاء بفرقين: أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك. والسخي الذي يلتذ بالإعطاء. الثاني: أن البخيل الذي يعطي عند السؤال، والسخي الذي يعطي بغير سؤال... ( ومن يتول ) أي عن الإيمان ( فإن الله هو الغني الحميد ) غني عنه. ويجوز أن يكون لما حث على الصدقة أعلمهم أن الذين يبخلون بها ويأمرون الناس بالبخل بها فإن الله غني عنهم. وقراءة العامة ( بالبُخْل ) بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي ( بالبَخَل ) بفتحتين وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وابن السميقع ( بالبَخْل ) بفتح الباء وإسكان الخاء. وعن نصر بن عاصم ( البُخُل ) بضمتين وكلها لغات مشهورة...(1/225)
وقرأ نافع وابن عامر (فإن الله الغني الحميد) بغير (هو). والباقون (هو الغني) على أن يكون فصلا. ويجوز أن يكون مبتدأ و( الغني ) خبره والجملة خبر إن. ومن حذفها فالأحسن أن يكون فصلا، لأن حذف الفصل أسهل من حذف المبتدأ.
وقال السعدي رحمه الله :
قوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) .(1/226)
يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا ، وما هي عليه ،ويبين غايتها ، وغاية أهلها ، بأنها لعب ولهو تلعب بها الأبدان ، وتلهو بها القلوب ، وهذا مصداقه ما هو موجود وواقع من أبناء الدنيا ، فإنك تجدهم قد قطعوا أوقات عمرهم بلهو قلوبهم ، وغفلتهم عن ذكر الله ، وعما أمامهم من الوعد والوعيد ، تراهم قد اتخذوا دينهم لعبا ولهوا . بخلاف أهل اليقظة وعمال الآخرة ، فإن قلوبهم معمورة بذكر الله ، ومعرفته ومحبته ، وقد شغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقربهم إلى الله ، من النفع القاصر والمتعدي . وقوله : ( وزينة ) ، أي : تزين في اللباس والطعام ، والشراب والمراكب ، والدور والقصور ، والجاه وغير ذلك . ( وتفاخر بينكم ) ، أي : كل واحد من أهلها ، يريد مفاخرة الآخر ، وأن يكون هو الغالب في أمورها ، والذي له الشهرة في أحوالها . ( وتكاثر في الأموال والأولاد ) ، أي : كل يريد أن يكون هو الكاثر لغيره ، في المال والولد ، وهذا مصداقه ، وقوعه من محبي الدنيا ، والمطمئنين إليها . بخلاف من عرف الدنيا وحقيقتها ، فجعلها معبرا ، ولم يجعلها مستقرا ، فنافس فيما يقربه إلى الله ، واتخذ الوسائل التي توصله إلى دار كرامته ، وإذا رأى من يكاثره ، وينافسه في الأموال والأولاد ، نافسه بالأعمال الصالحة . ثم ضرب للدنيا مثلا ، بغيث نزل على الأرض ، فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام ، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ، وأعجب نباته الكفار ، الذين قصروا نظرهم وهممهم على الدنيا ، جاءها من أمر الله ، ما أتلفها ، فهاجت ويبست ، وعادت إلى حالها الأولى ، كأنه لم ينبت فيها خضراء ، ولا رؤي لها مرأى أنيق . كذلك الدنيا ، بينما هي زاهية لصاحبها ، زاهرة ، مهما أراد من مطالبها حصل ، ومهما توجه لأمر من أمورها وجد أبوابه مفتحة ، إذ أصابها القدر فأذهبها من يده ، وأزال تسلطه عليها ، أو ذهب به عنها ، فرحل منها صفر اليدين ، ولم يتزود منها سوى الكفن ، فتبا لمن أضحت هي(1/227)
غاية أمنيته ولها عمله وسعيه . وأما العمل للآخرة فهو الذي ينفع ، ويدخر لصاحبه ، ويصحب العبد على الأبد ، ولهذا قال تعالى : ( وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان) ، أي : حال الآخرة ، لا يخلو من هذين الأمرين : إما العذاب الشديد في نار جهنم ، وأغلالها وسلاسلها وأهوالها لمن كانت الدنيا هي غايته ، ومنتهى مطلبه ، فتجرأ على معاصي الله ، وكذب بآيات الله ، وكفر بأنعم الله... وإما مغفرة من الله للسيئات ، وإزالة العقوبات ، ورضوان من الله ،يحل من أحله عليه دار الرضوان لمن عرف الدنيا، وسعى للآخرة سعيها . فهذا كله ، مما يدعو إلى الزهد في الدنيا ،والرغبة في الآخرة ولهذا قال : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) أي : إلا متاع يتمتع به ، وينتفع به ، ويستدفع به الحاجات ، لا يغتر به ويطمئن إليه إلا أهل العقول الضعيفة الذين يغرهم بالله الغرور... ثم أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته ،قال :( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) .. وذلك يكون بالسعي بأسباب المغفرة ، من التوبة النصوح ، والاستغفار النافع ، والبعد عن الذنوب ومظانها ، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح ، والحرص على ما يرضي الله على الدوام ، من الإحسان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع ، ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك ، فقال : ( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ )، والإيمان بالله ورسله ،يدخل فيه أصول الدين وفروعه ، ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ) ، أي : هذا الذي بيناه لكم ، وذكرنا الطرق الموصلة إلى الجنة ، والطرق الموصلة إلى النار ، وأن ثواب الله بالأجر الجزيل ، والثواب الجميل ، من أعظم منته على عباده وفضله . (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، الذي لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ،(1/228)
وفوق ما يثني عليه أحد من خلقه ...
( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور*الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ )
ويقول تعالى مخبرا عن عموم قضائه وقدره : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ) ، وهذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق ، من خير وشر ، فكلها قد كتب في اللوح المحفوظ صغيرها وكبيرها . وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول ، بل تذهل عنه أفئدة أولي الألباب ، ولكنه على الله يسير . وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم ، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر . فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم ، مما طمحت له أنفسهم ، وتشوفوا إليه لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ، لا بد من نفوذه ووقوعه ، فلا سبيل إلى دفعه ، ولا يفرحوا بما آتاهم الله ، فرح بطر وأشر ، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم ، وإنما أدركوه بفضل الله ومنِّه ، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ، ودفع النقم ، ولهذا قال : ( والله لا يحب كل مختال فخور ) ، أي : متكبر فظ ، معجب بنفسه ، فخور بنعم الله ، ينسبها إلى نفسه ، وتطغيه وتلهيه كما قال تعالى : (فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر : 49 )(1/229)
( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ) أي : يجمعون بين الأمرين الذميمين ، الذين كل منهما كاف في الشر : البخل وهو منع الحقوق الواجبة ، ويأمرون الناس بذلك ، فلم يكفهم بخلهم ، حتى أمروا الناس بذلك ، وحثوهم على هذا الخلق الذميم بقولهم وفعلهم ، وهذا من إعراضهم عن طاعة ربهم وتوليهم عنها . ( ومن يتول ) عن طاعة الله ، فلا يضر إلا نفسه ، ولن يضر الله شيئا . ( فإن الله هو الغني الحميد ) الذي غناه من لوازم ذاته ، الذي له ملك السماوات والأرض ،وهو الذي أغنى عباده وأقناهم .الحميد الذي له كل اسم حسن ، وصف كامل ، وفعل جميل ، يستحق أن يحمد عليه ، وينثى ويعظم عليه ...***
الخلاصة مع الإمام السعدي رحمه الله تعالى
1-( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ ) (البقرة 187)
هذه الآيات تتضمن الأمر بالقتال في سبيل الله وهذا كان بعد الهجرة إلى المدينة.. لما قوي المسلمون للقتال أمرهم الله به بعدما كانوا مأمورين بكف أيديهم وفي تخصيص القتال " في سبيل الله " حث على الإخلاص ونهي عن الاقتتال في الفتن بين المسلمين ..." الذين يقاتلونكم " أي : الذين هم مستعدون لقتالكم وهم المكلفون الرجال غير الشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال.. والنهي عن الاعتداء يشمل أنواع الاعتداء كلها من قتل من لا يقاتل من النساء والمجانين والأطفال والرهبان ونحوهم والتمثيل بالقتلى وقتل الحيوانات وقطع الأشجار ونحوها لغير مصلحة تعود للمسلمين ؛ ومن الاعتداء مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها فإن ذلك لا يجوز ...(1/230)
2- ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة : 205-206 ).
..(والله لا يحب الفساد) فإذا كان لا يحب الفساد فهو يبغض العبد المفسد في الأرض غاية البغض وإن قال بلسانه قولا حسنا ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص ليست دليلا على صدق ولا كذب ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها المزكي لها وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود والمحق والمبطل من الناس بسبر أعمالهم والنظر لقرائن أحوالهم وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم ... ثم ذكر أن هذا المفسد في الأرض بمعاصي الله إذا أُمِر بتقوى الله تكبر وأنف و "أخذته العزة بالإثم " فيجمع بين العمل بالمعاصي والكبر على الناصحين " فحسبه جهنم"" التي هي دار العاصين والمتكبرين " ولبئس المهاد " أي : المستقر والمسكن عذاب دائم وهم لا ينقطع ويأس مستمر لا يخفف عنهم العذاب ولا يرجون الثواب جزاء لجناياتهم ومقابلة لأعمالهم فعياذا بالله من أحوالهم ....
3- (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة 276 )(1/231)
أخبر تعالى أنه يمحق مكاسب المرابين ويربي صدقات المنْفقين عكس ما يتبادر لأذهان كثير من الخلق أن الإنفاق ينقص المال وأن الربا يزيده فإن مادة الرزق وحصول ثمراته من الله تعالى ... وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وامتثال أمره ...فالمتجرىء على الربا يعاقبه بنقيض مقصوده وهذا مشاهد بالتجربة ومن أصدق من الله قيلا ... ( وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) وهو الذي كفر نعمة الله وجحد منة ربه وأثِم بإصراره على معاصيه ومفهوم الآية أن الله يحب من كان شكورا على النعماء تائبا من المآثم والذنوب...
4- (قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران : 32 )
هذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة ومن ادعى ذلك دعوى مجردة فعلامة محبة الله اتباع محمد ( الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه طريقا إلى محبته ورضوانه فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما فمن فعل ذلك أحبه الله وجازاه جزاء المحبين وغفر له ذنوبه وستر عليه عيوبه فكأنه قيل ومع ذلك فما حقيقة اتباع الرسول وصفتها فأجاب بقوله :( قل أطيعوا الله والرسول) بامتثال الأمر واجتناب النهي وتصديق الخبر فإن تولوا عن ذلك فهذا هو الكفر والله لا يحب الكافرين...
5- (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران : 57 )(1/232)
إن حكمة الله العادلة اقتضت أن من تمسك بالدين نصره الله النصر المبين ؛ وأن من ترك أمرَه ونهيَه ونبذ شرعَه وتجرَّأ على معاصيه أن يعاقبه ويسلط عليه الأعداء والله عزيز حكيم .. ثم بين ما يفعله بهم (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) وهذا الجزاء عام لكل من اتصف بهذه الأوصاف من جميع أهل الأديان السابقة ثم لما بعث سيد المرسلين وخاتم النبيين ونَسخت رسالتُه الرسالاتِ كلَّها ونَسخ دينُه جميعَ الأديان صار المتمسكُ بغير هذا الدين من الهالكين ...
6- (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران : 140 )
(وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم وتقاعدوا عن القتال في سبيله...
7-(وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) (النساء : 36 )(1/233)
(إن الله لا يحب من كان مختالا )أي : معجبا بنفسه ، متكبرا على الخلق ..( فخورا ) يثني على نفسه ويمدحها ، على وجه الفخر والبطر ، على عباد الله . فهؤلاء ، ما بهم من الاختيال والفخر ، يمنعهم من القيام بالحقوق . ولهذا ذمهم بقوله (الذين يبخلون ) أي : يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة .( ويأمرون الناس بالبخل ) بأقوالهم وأفعالهم . ( ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) أي : من العلم الذي يَهتدي به الضالون ويسترشد به الجاهلون ، فيكتمونه عنهم ، ويظهرون لهم من الباطل ، ما يحول بينهم وبين الحق . فجمعوا بين البخل بالمال ، والبخل بالعلم ، وبين السعي في خسارة أنفسهم ، وخسارة غيرهم ، وهذه هي صفات الكافرين ، فلهذا قال تعالى :( وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) أي : كما تكبروا على عباد الله ، ومنعوا حقوقه ، وتسببوا في منع غيرهم ، من البخل ، وعدم الاهتداء ، أهانهم بالعذاب الأليم ، والخزي الدائم . فعياذا بك اللهم من كل سوء .....
8- ( وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا )
(ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) . " الاختيان " و " الخيانة " بمعنى الجناية ، والظلم ، والإثم ، وهذا يشمل النهي عن المجادلة ، عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة ، من حد أو تعزير ، فإنه لا يجادل عنه ، بدفع ما صدر منه من الخيانة ، أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية . (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ) أي : كثير الخيانة والإثم . وإذا انتفى الحب ، ثبت ضده ، وهو البغض ، وهذا كالتعليل للنهي المتقدم .
9-( لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً * إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) (النساء : 148 -149 )(1/234)
يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ، أي : يبغض ذلك ويمقته ، ويعاقب عليه . ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة ، التي تسوء وتحزن ، كالشتم ، والقذف ، والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله ، من المنهي عنه ، الذي يبغضه الله . ويدل مفهومها ، أنه يحب الحسن من القول ، كالذكر ، والكلام الطيب اللين . وقوله : ( إلا من ظلم ) أي : فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ، ويشتكي منه ، ويجهر بالسوء لمن جهر له به ، من غير أن يكذب عليه ، ولا يزيد على مظلمته ، ولا يتعدى بشتمه غيرَ ظالمه . ومع ذلك ، فعفوه ، وعدم مقابلته ، أولى كما قال تعالى :( َمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى : 40 )...
10- (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة : 64 )
( ويسعون في الأرض فسادا ) أي : يجتهدون ويجدون ، ولكن بالفساد في الأرض . أي : بعمل المعاصي ، والدعوة إلى دينهم الباطل ، والتعويق عن الدخول في الإسلام . ( والله لا يحب المفسدين ) بل يبغضهم أشد البغض ، وسيجازيهم على ذلك...
11-( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة 87)(1/235)
قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) من المطاعم والمشارب ، فإنها نعم أنعم الله بها عليكم ، فاحمدوه إذ أحلها لكم ، واشكروا له ، ولا تردوا نعمته بكفرها ، أو عدم قبولها ، أو اعتقاد تحريمها . فتجمعوا بذلك بين قول الكذب على الله ، وكفر النعمة ، واعتقاد الحلال الطيب حراما خبيثا ، فإن هذا من الاعتداء . والله قد نهى عن الاعتداء فقال :( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) بل يبغضهم ويمقتهم ، ويعاقبهم على ذلك .
12-(وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )
قوله :( ولا تسرفوا ) يعم النهي عن الإسراف في الأكل ، وهو : مجاوزة الحد والعادة ، وأن يأكل صاحب الزرع أكلا يضر بالزكاة ، والإسراف في إخراج حق الزرع ، بحيث يخرج فوق الواجب عليه ، أو يضر نفسه أو عائلته أو غرماءه .فكل هذا ، من الإسراف الذي نهى الله عنه ؛ وقال:( إنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) والذي لا يحبه الله ، يبغضه ويمقت عليه.
13-( يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف31 )(1/236)
(وكلوا واشربوا ) أي : مما رزقكم الله من الطيبات ( ولا تسرفوا ) في ذلك . والإسراف ، إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي ، ولشره في المأكولات التي تضر بالجسم ؛ وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوق في المآكل ، والمشارب ، واللباس ؛ وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام ... ( إنه لا يحب المسرفين ) فإن السرف يبغضه الله ، ويضر بدن الإنسان ومعيشته ، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات ، ففي هذه الآية الكريمة ، الأمر بتناول الأكل والشرب ، والنهي عن تركهما ، وعن الإسراف فيهما .
14- (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (الأعراف : 54 )
الدعاء : يدخل فيه ، دعاء المسألة ، ودعاء العبادة ، فأمر بدعائه (تضرعا ) أي : إلحاحا في لمسألة ، ودؤوبا في العبادة ،( وخفية) أي : لا جهراً أو علانية ، يخاف منه الرياء ، بل خفية ، وإخلاصا لله تعالى . (إنه لا يحب المعتدين ) أي : المتجاوزين للحد في كل الأمور ، ومن الاعتداء : كون العبد يسأل الله مسائل ، لا تصلح له ، أو ينقطع في السؤال ، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء ، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه ...
15- ( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ) (الأنفال : 58)(1/237)
... وإذا كان بينك وبين قوم ، عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة .( فانبذ إليهم ) عهدهم ، أي : ارمه عليهم ، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم .( على سواء ) أي : حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك ، ولا يحل لك أن تغدرهم ، أو تسعى في شيء مما منعه ، موجب العهد ، حتى تخبرهم بذلك . (إن الله لا يحب الخائنين) بل يبغضهم أشد البغض ، فلا بد من أمر بيِّن ، يبرئكم من الخيانة . ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم ، لأنه لم يخف منهم ، بل علم ذلك ، ولعدم الفائدة ولقوله : ( على سواء) ، وهنا قد كان معلوما عند الجميع غدرهم . ودل مفهومها أيضا ، أنه إذا لم يخف منهم خيانة ، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك ، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم ، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته...
16 -( إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ قُلُوبُهُم مّنكِرَةٌ وَهُم مّسْتَكْبِرُونَ* لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ )(1/238)
قوله تعالى : (إلهكم إله واحد )= هو الله الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . فأهل الإيمان والعقول ، أحلته قلوبهم وعظمته ، وأحبته حبا عظيما ، وصرفوا له كل ما استطاعوا من القربات البدنية والمالية ، وأعمال القلوب وأعمال الجوارح ، وأثنوا عليه بأسمائه الحسنى ، وصفاته وأفعاله المقدسة ، (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ) لهذا الأمر العظيم الذي لا ينكره إلا أعظم الخلق جهلا وعنادا ...، وهو : توحيد الله ...( وهم مستكبرون ) عن عبادته .( لا جرم ) أي : حقا .. لا بُد ( أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) من الأعمال القبيحة .. ( إنه لا يحب المستكبرين) بل يبغضهم أشد البغض ، وسيجازيهم من جنس عملهم ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )..
17-(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحج : 38 )
هذا إخبار ، ووعد ، وبشارة من الله ، للذين آمنوا ، أن الله يدفع عنهم كل مكروه . ويدفع عنهم ـ بسبب إيمانهم ـ كل شر من شرور الكفار ، وشرور وسوسة الشيطان ، وشرور أنفسهم ، وسيئات أعمالهم ويحمل عنهم عند نزول المكاره ، ما لا يتحملون ، فيخفف عنهم غاية التخفيف . كل مؤمن ، له من هذه المدافعة والفضيلة ، بحسب إيمانه ، فمستقل ، ومستكثر .( إن الله لا يحب كل خوان ) أي : خائن في أمانته ، التي حمله الله إياها ، فيبخس حقوق الله عليها ، ويخونها ، ويخون الخلق .( كفور ) لنعم الله ، يوالي الله عليه الإحسان ،ويتوالى منه الكفر والعصيان .فهذا لا يحبه الله ، بل يبغضه ويمقته ، وسيجازيه على كفره وخيانته ، ومفهوم الآية ، أن الله يحب كل أمين قائم بأمانته ، شكور لمولاه .(1/239)
18- قوله عالى : (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ )
( إن قارون كان من قوم موسى ) أي : من بني إسرائيل ،الذين فضلوا على العالمين ، وفاقوهم في زمانهم ، وامتن الله عليهم بما امتن به ، فكانت حالهم مناسبة للاستقامة . ولكن قارون هذا ، انحرف عن سبيل قومه ( فبغى عليهم ) وطغى ، بما أوتيه من الأمور العظيمة المطغية . ( وآتيناه من الكنوز ) أي : كنوز الأموال شيئا كثيرا . ( ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ) والعصبة ، من العشرة إلى التسعة إلى السبعة ، ونحو ذلك . أي : حتى إن مفاتح خزائن أمواله ، تثقل الجماعة القوية عن حملها ... هذه المفاتيح ، فما ظنك بالخزائن ؟( إذ قال له قومه ) ناصحين له محذرين له عن الطغيان :(لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ) أي : لا تفرح بهذه الدنيا العظيمة ، وتفتخر بها ، وتلهيك عن الآخرة ، فإن الله لا يحب الفرحين بها ، المنكبين على محبتها .
19-(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص : 77 )(1/240)
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ) أي : قد حصل عندك من وسائل الآخرة ، ما ليس عند غيرك من الأموال فابتغ بها ما عند الله ، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات ، وتحصيل اللذات . ( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) أي : لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك ، وتبقى ضائعا ، بل أنفق لآخرتك ، واستمتع بدنياك ، استمتاعا لا يثلم دينك ، ولا يضر بآخرتك .( وأحسن كما أحسن الله إليك ) أي أحسن إلى عباد الله بهذه الأموال . ( ولا تبغ الفساد في الأرض) بالتكبر ، والعمل بمعاصي الله والاشتغال بالنعم عن المنعم . (إن الله لا يحب المفسدين ) بل يعاقبهم على ذلك ، أشد العقوبة ....
20-( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ*لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) (الروم :42- 45 )(1/241)
قوله تعالى : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين) والأمر بالسير في الأرض ، يدخل فيه السير بالأبدان ، والسير بالقلوب للنظر والتأمل ، في عواقب المتقدمين ... (كان أكثرهم مشركين ) تجدون عاقبتهم شر العواقب ، ومآلهم شر مآل . عذاب استأصلهم ، وذم ولعن من خلق الله يتبعهم ، وخزي متواصل . فاحذروا أن تفعلوا أفعالهم ، لئلا يحذى بكم حذوهم ، فإن عدل الله وحكمته في كل زمان ومكان ( فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين )أي : أقبل بقلبك ، وتوجه بوجهك ، واسع ببدنك ، لإقامة الدين القيم المستقيم . فنفذ أوامره ونواهيه ، بجد واجتهاد ، وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة . وبادر زمانك ، وحياتك ، وشبابك ، ( من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ) وهو يوم القيامة ، الذي إذا جاء ، لا يمكن رده ، ولا يرجأ العاملون ليستأنفوا العمل ، بل فرغ من الأعمال ، لم يبق إلا جزاء العمال ( يومئذ يصدعون) أي : يتفرقون عن ذلك اليوم ، ويصدرون أشتاتا متفاوتين ، ليروا أعمالهم . ( من كفر ) منهم ( فعليه كفره ) ويعاقب هو بنفسه ، لا تزر وازرة وزر أخرى . ( ومن عمل صالحا ) من الحقوق التي لله ، والتي للعباد ، الواجبة والمستحبة .( فلأنفسهم ) لا لغيرهم ( يمهدون) أي : يهيئون ، ولأنفسهم يعمرون آخرتهم ، ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفاتها . ومع ذلك ، جزاؤهم ليس مقصورا على أعمالهم ، بل يجزيهم الله من فضله الممدود ، وكرمه غير المحدود ، ما لا تبلغه أعمالهم . وذلك لأنه أحبهم ، وإذا أحب الله عبدا ، صب عليه الإحسان صبا ، وأجزل له العطايا الفاخرة ، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة . وهذا بخلاف الكافرين ، فإن الله لما أبغضهم ومقتهم ،عاقبهم وعذبهم ، ولم يزدهم كما زاد من(1/242)
قبلهم ، فلهذا قال : (إنه لا يحب الكافرين)..
21- ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) ( لقمان 18 )
( يا بني أقم الصلاة ) حثه عليها ، وخصها لأنها أكبر العبادات البدنية .( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) وذلك يستلزم العلم بالمعروف ، ليأمر به ، والعلم بالمنكر ، لينهى عنه . والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر إلا به ، من الرفق ، والصبر ، وقد صرح به في قوله : ( واصبر على ما أصابك ) ومن كونه فاعلا لما يأمر به ، كافا لما ينهى عنه ، فتضمن هذا تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر ، وتكميل غيره بذلك ، بأمره ونهيه . ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس ، أمره بالصبر على ذلك فقال: ( واصبر على ما أصابك إن ذلك ) الذي وعظ به لقمان ابنه ( من عزم الأمور ) أي : من الأمور التي يعزم عليها ، ويهتم بها ، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم .( ولا تصعر خدك للناس ) أي : لا تمله وتعبس بوجهك للناس ، تكبرا عليهم ، وتعاظما .( ولا تمش في الأرض مرحا) أي : بطرا ، فخرا بالنعم ناسيا المنعم ، معجبا بنفسك .( إن الله لا يحب كل مختال ) في نفسه وهيئته وتعاظمه ( فخور) بقوله .(1/243)
22- (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى : 40-43 )(1/244)
ذكر الله في هذه الآيات ، مراتب العقوبات ، وأنها على ثلاث مراتب : عدل ، وفضل ، وظلم . فمرتبة العدل : جزاء السيئة بسيئة مثلها ، لا زيادة ولا نقص . فالنفس بالنفس ، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها ، والمال يضمن بمثله . ومرتبة الفضل : العفو عن المسيء والإصلاح له ، ولهذا قال : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) يجزيه أجرا عظيما ، وثوابا كثيرا . وشرط الله في العفو الإصلاح فيه ، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق بالعفو عنه ، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته ، فإنه في ـ هذه الحال ـ لا يكون مأمورا به . وفي جعل أجر العافي على الله ، ما يهيج على العفو ، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به . فكما يحب أن يعفو الله عنه ، فليعف عنهم ، وكما يحب أن يسامحه الله ، فليسامحهم ، فإن الجزاء من جنس العمل . وأما مرتبة الظلم : فقد ذكرها بقوله : ( إنه لا يحب الظالمين ) الذين يجنون على غيرهم ابتداء ،أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته ، فالزيادة ظلم..( ولمن انتصر بعد ظلمه ) أي : انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه( فأولئك ما عليهم من سبيل ) أي : لا حرج عليهم في ذلك . ودل قوله : (والذين إذا أصابهم البغي )وقوله :( ولمن انتصر بعد ظلمه ) أنه لا بد من إصابة البغي والظلم ووقوعه وأما إرادة البغي على الغير ، وإرادة ظلمه من غير أن يقع منه شيء ، فهذا لا يجازي بمثله ، وإنما يؤدب تأديبا ، يردعه عن قول أو فعل صدر منه ... ( إنما السبيل ) أي : إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية ( على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق) وهذا شامل للظلم والبغي على الناس ، في دمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم .( أولئك لهم عذاب أليم ) أي : موجع للقلوب والأبدان ، بحسب ظلمهم وبغيهم . ( ولمن صبر) على ما يناله من أذى الخلق ( وغفر ) لهم ، بأن سمح لهم عما صدر منهم .( إن ذلك لمن عزم الأمور)(1/245)
أي : الأمور التي حث الله عليها وأكدها وأخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة ، ومن الأمور التي لا يوفق لها إلا أولو العزائم والهمم ، وذوو الألباب والبصائر . فإن ترك الانتصار للنفس ، بالقول أو الفعل ، من أشق شيء عليها . والصبر على الأذى ، والصفح عنه ، ومغفرته ، ومقابلته بالإحسان ، أشق وأشق . ولكنه يسير على من يسره الله عليه وجاهد نفسه على الاتصاف به ، واستعان الله على ذلك . ثم إذا ذاق العبد حلاوته ، ووجد آثاره ، تلقاه برحب الصدر ، وسعة الخلق ، والتلذذ فيه
23 - ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور* الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) ) ( الحديد 23-24)(1/246)
ويقول تعالى مخبرا عن عموم قضائه وقدره : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ) ، وهذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق ، من خير وشر ، فكلها قد كتب في اللوح المحفوظ صغيرها وكبيرها . وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول ، بل تذهل عنه أفئدة أولي الألباب ، ولكنه على الله يسير . وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم ، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر . فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم ، مما طمحت له أنفسهم ، وتشوفوا إليه لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ، لا بد من نفوذه ووقوعه ، فلا سبيل إلى دفعه ، ولا يفرحوا بما آتاهم الله ، فرح بطر وأشر ، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم ، وإنما أدركوه بفضل الله ومنِّه ، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ، ودفع النقم ، ولهذا قال : ( والله لا يحب كل مختال فخور ) ، أي : متكبر فظ ، معجب بنفسه ، فخور بنعم الله ، ينسبها إلى نفسه ، وتطغيه وتلهيه كما قال تعالى : (فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر : 49 ).........*
والآن مع جملة من حديث رسول الله (ذكر فيها ناساًَ لا يجبهم الله عز وجل بل يبغضهم ،ومن أبغضه كبه على وجهه في النار ... كما بيَّن رسول الله ( الصفاتِ الذميمةَ التي اتصف بها هؤلاء ؛ حتى يتخلى عنها أتباعه الصادقين ويتحلوا بمكارم الأخلاق التي بعث ليتممها ...فحيَّ على التحلي بما يجمل ويزين رغبة في التقرب إلى الله تعالى بما يرضيه ، بعد التخلي عن كل ما يقبح ويشين رهبة من البعد عن الله جل جلاله بما يسخطه...(1/247)
1-حدثنا عبد الله بن يوسف أنبأ أبو سعيد بن الأعرابي ثنا سعدان بن نصر ثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن بن أبي مليكة عن يعلى بن مملك عن أم الدرداء ترويه عن أبي الدرداء عن النبي ( قال: من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير.. وقال أثقل شيء في ميزان المؤمن خلق حسن... إن الله يبغض الفاحش البذيء البيهقي
2- أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن قال حدثنا أحمد بن يوسف السلمي قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله (: إن الله يبغض كل جعظري جواظ سخاب بالأسواق جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة ابن حبان
3- حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن مطر عن عبد الله بن بريدة قال شك عبيد الله بن زياد في الحوض فقال له أبو سبرة رجل من صحابة عبيد الله بن زياد فإن أباك حين انطلق وافدا إلى معاوية أنطلقت معه فلقيت عبد الله بن عمرو فحدثني من فيه إلى فيَّ حديثا سمعه من رسول الله ( فأملاه علي وكتبته قال: فإني أقسمت عليك لما أعرقت هذا البرذون حتى تاتيني بالكتاب.. قال فركبت البرذون فركضته حتى عرق فاتيته بالكتاب فإذا فيه: حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله (قال:(1/248)
-إن الله يبغض الفحش والتفحش ؛ والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يخون الأمين ويؤتمن الخائن حتى يظهر الفحش والتفحش وقطيعة الأرحام وسوء الجوار ؛ والذي نفس محمد بيده أن مثل المؤمن لكمثل القطعة من الذهب نفخ عليها صاحبها فلم تغير ولم تنقص ؛ والذي نفس محمد بيده أن مثل المؤمن لكمثل النحلة أكلت طيبا ووضعت طيبا ووقعت فلم تكسر ولم تفسد... قال : وقال(: ألا أن لي حوضا ما بين ناحيتيه كما بين إيلة إلى مكة أو قال صنعاء إلى المدينة ، وإن فيه من الأباريق مثل الكواكب ، هو أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل ، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا... قال أبو سبرة فاخذ عبيد الله بن زياد الكتاب فجزعت عليه، فلقيني يحيى بن يعمر فشكوت ذلك إليه فقال : والله لأنا أحفظ له مني لسورة من القرآن فحدثني به كما كان في الكتاب سواء. أحمد
4-حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن أبي ذر عن النبي ( قال:-إن الله عز وجل يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة : يبغض الشيخ الزاني، والفقير المختال، والمكثر البخيل ...ويحب ثلاثة: رجل كان في كتيبة فكر يحميهم حتى قتل أو يفتح الله عليه، ورجل كان في قوم فأدلجوا فنزلوا من آخر الليل وكان النوم أحب إليهم مما يعدل به فناموا وقام يتلو آياتي ويتملقني ، ورجل كان في قوم فأتاهم رجل يسألهم بقرابة بينهم وبينه فبخلوا عنه وخلف بأعقابهم فأعطاه حيث لا يراه إلا الله ومن أعطاه... أحمد(1/249)
5-حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل، المعنى واحد قالا: ثنا أبان قال: ثنا يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن ابن جابر بن عَتيك، عن جابر بن عتيك أن نبيَّ اللّه (كان يقول:"من الغيرة ما يحبُّ اللّه، ومنها ما يبغض اللّه: فأما التي يحبها اللّه عز وجل فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها اللّه فالغيرة في غير ريبةٍ، وإنَّ من الخيلاء ما يبغض اللّه، ومنها ما يحبُّ اللّه: فأمّا الخيلاء التي يحبُّ اللّه فاختيال الرجل نفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض اللّه عز وجل فاختياله في البغي" قال موسى: "والفخر". أبو داود
6-حدثنا محمد بن سنان الباهلي وكان ينزل العوقة، ثنا نافع بن عمر، عن بشر بن عاصم، عن أبيه، عن عبد اللّه. قال أبو داود: هو ابن عمروقال:قال رسول اللّه ( : "إن اللّه عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها" أبو داود
7-أخبرنا بن سلم قال حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم قال حدثنا الوليد قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني يحيى بن أبى كثير عن بن قيس بن طغفة الغفاري عن أبيه قال اتانا رسول الله ( ونحن في الصفة بعد المغرب فقال: يا فلان،انطلق مع فلان.. ويا فلان، انطلق مع فلان ..حتى بعث خمسة انا خامسهم . فقال: قوموا معي. ففعلنا. فدخلنا على عائشة، وذلك قبل ان ينزل الحجاب ، فقال: يا عائشة أطعمينا.. فقربت جشيشة.. ثم قال : يا عائشة أطعمينا.. فقربت حيسا.. ثم قال: يا عائشة اسقينا ..فجاءت بعس، فشرب ..ثم قال: يا عائشة اسقينا.. فجاءت بعس دونه، ثم قال: ان شئتم نمتم عندنا وان شئتم اتيتم المسجد فنمتم فيه ... قال فنمنا في المسجد ، فأتانا رسول الله ( في أخر الليل، فأصابنى نائما على بطني، فركضنى برجله ، فقال: ما لك ولهذه النومة ؟ هذه نومة يكرهها الله أو يبغضها الله .. ابن حبان(1/250)
8-أخبرنا أحمد بن على بن المثنى قال حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي قال حدثنا حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر عن سعيد المقبري عن أبى هريرة ان رسول الله ( قال: أربعة يبغضهم الله: البياع الحلاف، والفقير المختال، والشيخ الزاني، والأمام الجائر .. ابن حبان
9-وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج ثنا بقية بن الوليد ثنا يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل عن النبي ( قال : خطوتان إحداهما أحب الخطا إلى الله عز وجل ، والأخرى أبغض الخطا إلى الله.. فأما الخطوة التي يحبها الله عز وجل: فرجل نظر إلى خلل في الصف فسده ؛ وأما التي يبغض الله: فإذا أراد الرجل أن يقوم مد رجله اليمني ووضع يده عليها وأثبت اليسرى ثم قام البيهقي
10- أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال حدثنا صفوان بن صالح قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ( : ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم :رجل حلف بعد العصر على مال امرى مسلم فاقتطعه، ورجل حلف لقد أعطى بسلعته أكثر مما أعطى ، ورجل منع فضل الماء. يقول الله اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمله يداك ....ابن حبان
11- أخبرنا عبد الله بن صالح البخاري ببغداد قال حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال حدثنا بن أبي فديك عن ربيعة بن عثمان عن محمد بن المنكدر عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير عن أبي سعيد الخدري قال: مر أعرابي بشاة ، فقلت تبيعنيها بثلاثة دراهم ؟ قال: لا والله ...ثم باعنيها ..فذكرت ذلك لرسول الله ( فقال :باع آخرته بدنياه ... ابن حبان(1/251)
12- أخبرنا أبو يعلى قال حدثنا خلف بن هشام البزار قال حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة بن رافع الأنصاري ثم الزرقي عن أبيه عن جده رفاعة أنه خرج مع رسول الله ( إلى البقيع والناس يتبايعون فنادى : يا معشر التجار.. فاستجابوا له ورفعوا إليه أبصارهم ؛ وقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى وبر وصدق... ابن حبان
13-حدثنا مسدد، ثنا سفيان، عن ابن المنكدر، عن عروة، عن عائشة قالت:
استأذن رجل على النبي ( فقال: "بئس ابن العشيرة" أو "بئس رجل العشيرة" ثم قال: "ائذنوا له".. فلما دخل ألان له القول، فقالت عائشة: يارسول اللّه، ألنت له القول وقد قلت له ما قلت، قال: "إنَّ شرَّ الناس منزلة عند اللّه يوم القيامة من ودعه، أو تركه الناس لاتقاء فحشه".
14ـ حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي اللّه عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال النبي (: "بئس أخو العشيرة" فلما دخل انبسط إليه رسول اللّه ص( وكلَّمه، فلما خرج قلت: يارسول اللّه، لما استأذن قلت: "بئس أخو العشيرة" فلما دخل انبسطت إليه .؟ فقال رسول اللّه (: "يا عائشة، إن اللّه لا يحب الفاحش المتفحش ...أبو داود(1/252)
15 ـأخبرنا أبو يعلى قال حدثنا بندار قال حدثنا بن أبي عدي وأبو داود قالا حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن أبي كثير الزبيدي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ( قال: إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة... وإياكم والفحش، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ...وإياكم والشح ، فإنما أهلك من كان قبلكم الشح... أمرهم بالقطيعة فقطعوا أرحامهم ؛ وأمرهم بالفجور ففجروا ؛ وأمرهم بالبخل فبخلوا... فقال رجل:يا رسول الله ،وأي الإسلام أفضل؟ قال: أن يسلم المسلمون من لسانك ويدك ..قال يا رسول الله، فأي الهجرة أفضل ؟ قال :أن تهجر ما كره ربك ...قال: وقال رسول الله ( : الهجرة هجرتان: هجرة الحاضر، وهجرة البادي ..أما البادي فيجيب إذا دعي، ويطيع إذا أمر؛ وأما الحاضر فهو أعظمهما بلية وأعظمهما أجرا... ابن حبان
16- أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال حدثنا سفيان عن بن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة أن النبي ( قال: إياكم والفحش، فإن الله لا يحب الفاحش والمتفحش ..وإياكم والظلم ، فإن الظلم هي الظلمات يوم القيامة .. وإياكم والشح ، فإن الشح دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم .. ابن حبان
17-حدثنا أبو بكر قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا شريك عن عبد الملك ابن عمير عن حصين بن قبيصة عن المغيرة بن شعبة قال :قال رسول الله ( : يا سفيان ابن سهل،لا تسبل فإن الله لا يحب المسبلين. ابن أبي شيبة
ونختم هذه الجولة الحديثية بالحديث القدسي الذي رواه مسلم وأحمد وغيرهما
*-حدثنا زهير بن حرب. حدثنا جرير عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة. قال:(1/253)
قال رسول الله ( "إن الله، إذا أحب عبدا، دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه. قال فيحبه جبريل. ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه. فيحبه أهل السماء. قال ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه. قال فيبغضه جبريل. ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه. قال فيبغضونه. ثم توضع له البغضاء في الأرض". مسلم
وأخرخه أحمد في مسنده ، قال :
-حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا عفان قال حدثنا أبو عوانة قال حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ( قال:إن الله عز وجل إذا أحب عبدا دعا جبريل صلى الله عليه وسلم فقال:يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه. قال :فيحبه جبريل عليه السلام ... قال ثم ينادى في أهل السماء: إن الله يحب فلانا.. قال فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض... وإن الله عز وجل إذا أبغض عبدا، دعا جبريل فقال : يا جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه.. قال: فيبغضه جبريل.. قال: ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فابغضوه.. قال: فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض.
وأقول:
إن المسلم العاقل من كان له حظ من الشق الأول من هذا الحديث ، حيث نال رضا ربه ومحبته ، ومحبة أهل السماء من الملائكة الكرام ، والناس أجمعين بوضع القبول له في الأرض...
والشقي كل الشقي، البعيد كل البعد من رحمة الله الواسعة مَن كان نصيبه الشق الثاني: بغض الله العلي الكبير وملائكته في سمائه وعباده على ظهر أرضه... ـ والعياذ بالله .
كان الفراغ منه ـ ولله الحمد والمنة ـ
يوم 16 ذي القعدة من عام 1426
الموافق ليوم 18-12-2005
( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )
أبو يوسف محمد زايد
( العبد الراجي عفو ربه العفو الكريم.)(1/254)