فصل ومن ذلك : إجماع المسلمين على ما سنه لهم النبيAمن جواز
الاستجمار بالأحجار في زمن الشتاء والصيف مع أن المحل يعرق فينضح على الثوب ولم يأمر بغسله
ومن ذلك : أنه يعفي عن يسير أرواث البغال والحمير والسباع في إحدى الروايتين عن أحمد اختارها شيخنا لمشقة الاحتراز
قال الوليد بن مسلم : قلت للأوزاعي : فأبوال الدواب مما لا يؤكل لحمه كالبغل والحمار والفرس فقال : قد كانوا يبتلون بذلك في مغازيهم فلا يغسلونه من جسد ولا ثوب
ومن ذلك : نص أحمد على أن الودي يعفى عن يسيره كالمذي وكذلك يعفى عن يسير القىء نص عليه أحمد
وقال شيخنا : لا يجب غسل الثوب ولا الجسد من المدة والقيح والصديد قال : ولم يقم دليل على نجاسته
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه طاهر حكاه أبو البركات وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا ينصرف منه من الصلاة وينصرف من الدم وعن الحسن نحوه
وسئل أبو مجلز عن القيح يصيب البدن والثوب فقال : ليس بشيء إنما ذكر الله الدم ولم يذكر القيح
وقال إسحاق بن راهويه : كل ما كان سوى الدم فهو عندي مثل العرق المنتن وشبهه ولا يوجب وضوءا
وسئل أحمد رحمه الله : الدم والقيح عندك سواء فقال : لا الدم لم يختلف الناس فيه والقيح قد اختلف الناس فيه وقال مرة : القيح والصديد والمدة عندي أسهل من الدم
ومن ذلك : ما قاله أبو حنيفة : أنه لو وقع بعر الفأر في حنطة فطحنت أو في دهن مائع جاز أكله ما لم يتغير لأنه لا يمكن صونه عنه قال : فلو وقع في الماء نجسه (58/151)
وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى جواز أكل الحنطة التي أصابها بول الحمير عند الدياس من غير غسل قال : لأن السلف لم يحترزوا من ذلك
وقالت عائشة رضي الله عنهما : كنا نأكل اللحم والدم خطوط على القدر
وقد أباح الله عز و جل صيد الكلب وأطلق ولم يأمر بغسل موضع فمه من الصيد ومعضه ولا تقويره ولا أمر به رسوله ولا أفتى به أحد من الصحابة
ومن ذلك : ما أفتى به عبدالله بن عمر وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وطاوس وسالم ومجاهد والشعبي وابراهيم النخعي والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري والحكم والأوزاعي ومالك واسحق بن راهويه وأبو ثور والإمام أحمد في أصح الروايتين وغيرهم أن الرجل إذا رأى على بدنه أو ثوبه نجاسة بعد الصلاة لم يكن عالما بها أو كان يعلمها لكنه نسيها أو لم ينسها لكنه عجز عن إزالتها : أن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه
فصل ومن ذلك : أن النبي : صلى الله عليه و سلمكان يصلي وهو حامل أمامة بنت ابنته
زينب فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها متفق عليه
ولأبي داود : أن ذلك كان في إحدى صلاتي العشي
وهو دليل على جواز الصلاة في ثياب المربية والمرضع والحائض والصبي ما لم يتحقق نجاستها
وقال أبو هريرة : كنا مع النبيAفي صلاة العشاء فلما سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فلما رفع رأسه أخذهما بيديه من خلفه أخذا رفيقا ووضعهما على الأرض فإذا عاد عادا حتى قضى صلاته رواه الامام أحمد
وقال شداد بن الهاد : عن أبيه خرج علينا رسول اللهAوهو حامل الحسن أو الحسين فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها فلما قضى الصلاة قال : إن ابني ارتحلني فكرهت أن اعجله ورواه أحمد والنسائي
وقالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول اللهAيصلي بالليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعلي مرط وعليه بعضه رواه أبو داود (58/152)
وقالت : كنت أنا ورسول اللهAنبيت في الشعار الواحد وأنا طامث حائض فإن أصابه منى شىء غسل مكانه ولم يعده وصلى فيه رواه أبو داود
فصل ومن ذلك : أن النبيAكان يلبس الثياب التي نسجها المشركون ويصلي
فيها
وتقدم قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهمه أن ينهى عن ثياب بلغه أنها تصبغ بالبول وقال أبي له : مالك أن تنهى عنها فإن رسول اللهAلبسها ولبست في زمانه ولو علم الله أنها حرام لبينه لرسوله قال : صدقت
قلت : وعلى قياس ذلك : الجوخ بل أولى بعدم النجاسة من هذه الثياب فتجنبه من باب الوسواس ولما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية استعار ثوبا من نصراني فلبسه حتى خاطوا له قميصه وغسلوه وتوضأ من جرة نصرانية
وصلى سلمان وأبو الدرداء رضي الله عنهما في بيت نصرانية فقال لها أبو الدرداء : هل في بيتك مكان طاهر فنصلي فيه فقالت : طهرا قلوبكما ثم صليا أين أحببتما فقال له سلمان : خذها من غير فقيه
فصل ومن ذلك : أن الصحابة والتابعين كانوا يتوضئون من الحياض
والأواني المكشوفة ولا يسألون : هل أصابتها نجاسة أو وردها كلب أو سبع ففي الموطأ عن يحيى بن سعيد : أن عمر رضي الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو : يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع فقال عمر رضي الله عنه : لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا (58/153)
وفي سنن ابن ماجه أن رسول اللهA سئل : أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال : نعم وبما أفضلت السباع
ومن ذلك : أنه لو سقط عليه شىء من ميزاب لا يدري هل هو ماء أو بول لم يجب عليه أن يسأل عنه فلو سأل لم يجب على المسئول أن يجيبه ولم علم أنه نجس ولا يجب عليه غسل ذلك
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما فسقط عليه شىء من ميزاب ومعه صاحب له فقال : يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس فقال عمر رضي الله عنه : يا صاحب الميزاب لا تخبرنا ومضى ذكره أحمد
قال شيخنا : وكذلك إذا أصاب رجله أو ذيله بالليل شىء رطب ولا يعلم ما هو لم يجب عليه أن يشمه ويتعرف ما هو واحتج بقصة عمر رضي الله عنه في الميزاب وهذا هو الفقه فإن الأحكام إنما تترتب على المكلف بعد علمه بأسبابها وقبل ذلك هي على العفو فما عفا الله عنه فلا ينبغي البحث عنه
فصل ومن ذلك : الصلاة مع يسير الدم ولا يعيد
قال البخاري : قال الحسن رحمه الله : ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم
قال : وعصر ابن عمر رضي الله عنه بثرة فخرج منها دم فلم يتوضأ وبصق ابن أبي أوفى دما ومضى في صلاته وصلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجرحه يثعب دما (58/154)
ومن ذلك أن المراضع ما زلن من عهد رسول اللهAوإلى الآن يصلين في ثيابهن والرضعاء يتقيئون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها فلا يغسلن شيئا من ذلك ولأن ريق الرضيع مطهر لفمه لأجل الحاجة كما أن ريق الهرة مطهر لفمها
وقد قال رسول اللهA إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات وكان يصغي لها الإناء حتى تشرب وكذلك فعل أبو قتادة مع العلم اليقيني أنها تأكل الفأر والحشرات والعلم القطعي أنه لم يكن بالمدينة حياض فوق القلتين تردها السنانير وكلاهما معلوم قطعا
ومن ذلك : أن الصحابة ومن بعدهم كانوا يصلون وهم حاملو سيوفهم وقد أصابها الدم وكانوا يمسحونها ويجتزئون بذلك
وعلى قياس هذا مسح المرآة الصقيلة إذا أصابتها النجاسة فإنه يطهرها
وقد نص أحمد على طهارة سكين الجزار بمسحها
ومن ذلك : أنه نص على حبل الغسال أنه ينشر عليه الثوب النجس ثم تجففه الشمس فينشر عليه الثوب الطاهر فقال : لا بأس به وهذا كقول أبي حنيفة : إن الأرض النجسة يطهرها الريح والشمس وهو وجه لأصحاب أحمد حتى إنه يجوز التيمم بها وحديث ابن عمر رضي الله عنهما كالنص في ذلك وهو قوله كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (58/155)
وهذا لا يتوجه إلا على القول بطهارة الأرض بالريح والشمس
ومن ذلك : أن الذي دلت عليه سنة رسول اللهAوآثار أصحابه : أن الماء لا ينجس إلا بالتغير وإن كان يسيرا
وهذا قول أهل المدينة وجمهور السلف وأكثر أهل الحديث وبه أفتى عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد والأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الرحمن بن مهدي واختاره ابن المنذر وبه قال أهل الظاهر ونص عليه أحمد في إحدى روايتيه واختاره جماعة من أصحابنا منهم ابن عقيل في مفرداته وشيخنا أبو العباس وشيخه ابن أبي عمر
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : قال رسول اللهAالماء لا ينجسه شىء رواه الإمام أحمد وفي المسند والسنن عن أبي سعيد قال : قيل : يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال : الماء طهور لا ينجسه شىء قال الترمذي : هذا حديث حسن وقال الإمام أحمد : حديث بئر بضاعة صحيح
وفي لفظ للإمام أحمد : إنه يستقى لك من بئر بضاعة وهي بئر يطرح فيها محايض النساء ولحم الكلاب وعذر الناس فقال رسول اللهA إن الماء طهور لا ينجسه شىء
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي أمامه مرفوعا الماء لا ينجسه شىء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه
وفيها من حديث أبي سعيد : أن رسول اللهA سئل عن لحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة بها فقال : لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور
وإن كان في إسناد هذين الحديثين مقال : فانا ذكرناهما للاستشهاد لا للاعتماد
وقال البخاري : قال الزهري : لا بأس بالماء ما لم يتغير منه طعم أو ريح او لون (58/156)
وقال الزهري أيضا : إذا ولغ الكلب في الإناء ليس له وضوء غيره يتوضأ به ثم يتيمم
قال سفيان : هذا الفقه بعينه يقول الله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا [ المائده : 6 ] وهذا ماء وفي النفس منه شىء يتوضأ به ثم يتيمم ونص أحمد رحمه الله : في حب زيت ولغ فيه كلب فقال : يؤكل
فصل ومن ذلك : أن النبيAكان يجيب من دعاه فيأكل من طعامه وأضافه
يهودي بخبز شعير وإهالة سنخة وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب
وشرط عمر رضي الله تعالى عنه عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين وقال : أطعموهم مما تأكلون وقد أحل الله عز و جل ذلك في كتابه ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعاما فدعوه فقال : اين هو قالوا : في الكنيسة فكره دخولها وقال لعلي رضي الله عنه : اذهب بالناس فذهب علي بالمسلمين فدخلوا وأكلوا وجعل علي رضي الله عنه : ينظر إلى الصور وقال : ما على أمير المؤمنين لو دخل فأكل
وكان النبي عليه السلام يقبل ابني ابنته في أفواههما ويشرب من موضع فم عائشة وضي الله عنها ويتعرق العرق فيضع فاه على موضع فيها وهي حائض
وحمل أبو بكر رضي الله عنه الحسن على عاتقه ولعابه يسيل عليه
وأتى رسول الله عليه السلام بصبي فوضعه في حجره فبال عليه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله
وكان يؤتي بالصبيان فيضعهم في حجره يبرك عليهم ويدعو لهم (58/157)
وهذا الذي ذكرناه قليل من كثير من السنة ومن له اطلاع على ما كان عليه رسول اللهAوأصحابه لا يخفى عليه حقيقة الحال
وقد روى الإمام أحمد في مسنده عنهA بعثت بالحنيفية السمحة فجمع بين كونها حنيفية وكونها سمحة فهي حنيفية في التوحيد سمحة في العمل وضد الأمرين : الشرك وتحريم الحلال وهما اللذان ذكرهما النبيAفيما يروى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : إني خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
فالشرك وتحريم الحلال قرينان وهما اللذان عابهما الله تعالى في كتابه على المشركين في سورة الأنعام والأعراف
وقد ذم النبيAالمتنطعين في الدين وأخبر بهلكتهم حيث يقول ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون
وقال ابن أبي شيبة : حدثنا أبو أسامه عن مسعر قال : أخرج إلي معن بن عبد الرحمن كتابا وحلف بالله أنه خط أبيه فإذا فيه : قال عبد الله : والله الذي لا إله غيره ما رأيت أحدا كان أشد على المتنطعين من رسول اللهAولا رأيت أحدا أشد خوفا عليهم من أبي بكر وإني لأظن عمر رضي الله عنه كان أشد أهل الأرض خوفا عليهم وكان عليه الصلاة و السلام يبغض المتعمقين حتى إنه لما واصل بهم ورأى الهلال قال : لو تأخر الهلال لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم كالمنكل بهم (58/158)
وكان الصحابة أقل الأمة تكلفا اقتداء بنبيهمA قال الله تعالى قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ]
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة : أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ولإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
وقال أنس رضي الله عنه : كنا عند عمر رضي الله عنه فسمعته يقول نهينا عن التكلف
وقال مالك قال عمر بن عبد العزيز : سن رسول اللهAوولاة الأمور بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيما خالفها من اقتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا
وقال مالك : بلغني أن عمر بن الخطاب كان يقول : سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تميلوا بالناس يمينا وشمالا وقال صلى اللهA يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين
فأخبر أن الغالين يحرفون ما جاء به والمبطلون ينتحلون بباطلهم غير ما كان عليه والجاهلون يتأولونه على غير تأويله وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاثة فلولا أن الله تعالى يقيم لدينه من ينفى عنه ذلك لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء (58/159)
فصل ومن ذلك الوسوسة في مخارج الحروف والتنطع فيها ونحن نذكر ما
ذكره العلماء بألفاظهم : قال أبو الفرج بن الجوزي : قد لبس إبليس على بعض المصلين في مخارج الحروف فتراه يقول : الحمد الحمد فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة وتارة يلبس عليه في تحقيق التشديد في إخراج ضاد المغضوب قال : ولقد رأيت من يخرج بصاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده والمراد تحقيق الحرف حسب وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عن فهم التلاوة وكل هذه الوساوس من إبليس
وقال محمد بن قتيبة في مشكل القرآن : وقد كان الناس يقرؤن القرآن بلغاتهم ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة ولا علم التكلف فهفوا في كثير من الحروف وذلوا فأخلوا ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح وقربه من القلوب بالدين فلم أر فيمن تتبعت في وجوه قراءته أكثر تخليطا ولا أشد اضطرابا منه لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره بغير علة ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز بإفراطه في المد والهمز والإشباع وإفحاشه في الإضجاع والإدغام وحمله المتعلمين على المذهب الصعب وتعسيره على الأمة ما يسره الله تعالى وتضييقه ما فسحه ومن العجب أنه يقرىء الناس بهذه المذاهب ويكره الصلاة بها ففي أي موضع يستعمل هذه القراءة إن كانت الصلاة لا تجوز بها وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه أو ائتم بإمام يقرأ بقراءته أن يعيد ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين منهم بشر بن الحارث والإمام أحمد بن حنبل وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقتهم وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها وطول اختلاف المتعلم إلى المقرىء فيها فإذا رأوه قد اختلف في أم الكتاب عشرا وفي مائة آية شهرا وفي السبع الطوال حولا ورأوه (58/160)
عند قراءته مائل الشدقين دار الوريدين راشح الجبين توهموا أن ذلك لفضله في القراءة وحذقه بها وليس هكذا كانت قراءة رسول اللهA ولا خيار السلف ولا التابعين ولا القراء العالمين بل كانت سهلة رسلة
وقال الخلال في الجامع : عن أبي عبدالله إنه قال : لا أحب قراءة فلان يعني هذا الذي أشار إليه ابن قتيبة وكرهها كراهية شديدة وجعل يعجب من قراءته وقال : لا يعجبني فإن كان رجل يقبل منك فانهه
وحكى عن ابن المبارك عن الربيع بن أنس : أنه نهاه عنها
وقال الفضل بن زياد : إن رجلا قال لأبي عبدالله : فما أترك من قراءته قال : الإدغام والكسر ليس يعرف في لغة من لغات العرب
وسأله عبدالله ابنه عنها فقال : أكره الكسر الشديد والإضجاع
وقال في موضع آخر : إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به
وسأله الحسن بن محمد بن الحارث : أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة قال أكرهه أشد كراهة إنما هي قراءة محدثة وكرهها شديدا حتى غضب
وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها فقال : أكرهها أشد الكراهة قيل له : ما تكره منها قال : هي قراءة محدثة ما قرأ بها أحد
وروى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها وقال : كرهها ابن إدريس وأراه قال : وعبدالرحمن بن مهدي وقال : ما أدري إيش هذه القراءة ثم قال : وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب
وقال عبدالرحمن بن مهدي : لو صليت خلف من يقرأ بها لأعدت الصلاة (58/161)
ونص أحمد رحمه الله على أنه يعيد وعنه رواية أخرى : أنه لا يعيد
والمقصود : أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو في النطق بالحرف
ومن تأمل هدي رسول اللهA وإقراراه أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته
فصل في الجواب عما احتج به أهل الوسواس أما قولهم : إن
ما نفعله احتياط لا وسواس
قلنا : سموه ما شئتم فنحن نسألكم : هل هو موافق لفعل رسول اللهAوأمره وما كان عليه أصحابه أو مخالف
فإن زعمتم أنه موافق فبهت وكذب صريح فإذن لابد من الإقرار بعدم موافقته وأنه مخالف له فلا ينفعكم تسمية ذلك احتياطا وهذا نظير من ارتكب محظورا وسماه بغير اسمه كما يسمي الخمر بغير اسمها والربا معاملةوالتحليل الذي لعن رسول اللهAفاعله : نكاحا ونقر الصلاة الذي أخبر رسول اللهAأن فاعله لم يصل وأنه لا تجزيه صلاته ولا يقبلها الله تعالى منه : تخفيفا فهكذا تسمية الغلو في الدين والتنطع : احتياطا
وينبغي أن يعلم أن الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه : الاحتياط في موافقة السنة وترك مخالفتها فالاحتياط كل الاحتياط في ذلك وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة بل ترك حقيقة الاحتياط في ذلك
وكذلك المتسرعون إلى وقوع الطلاق في موارد النزاع الذي اختلف فيه الأئمة كطلاق (58/162)
المكره وطلاق السكران والبتة وجمع الثلاث والطلاق بمجرد النية والطلاق المؤجل المعلوم مجيء أجله واليمين بالطلاق وغير ذلك مما تنازع فيه العلماء إذا أوقعه المفتي تقليدا بغير برهان وقال : ذلك احتياط للفروج فقد ترك معنى الاحتياط فإنه يحرم الفرج على هذا ويبيحه لغيره فأين الاحتياط ههنا بل لو أبقاه على حاله حتى تجمع الأمة على تحريمه وإخراجه عمن هو حلال له أو يأتي برهان من الله ورسوله على ذلك لكان قد عمل بالاحتياط ونص على مثل ذلك الإمام أحمد في طلاق السكران
فقال في رواية أبي طالب : والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر بالطلاق فقد أتى خصلتين : حرمها عليه وأحلها لغيره فهذا خير من هذا فلا يمكن الاحتياط في وقوع الطلاق إلا حيث أجمعت الأمة أو كان هناك نص عن الله ورسوله يجب المصير إليه
قال شيخنا : والاحتياط حسن ما لم يفض بصاحبه إلى مخالفة فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط
وبهذا خرج الجواب عن احتجاجهم بقولهA من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه وقوله : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقوله الإثم ما حاك في الصدر فهذا كله من أقوى الحجج على بطلان الوسواس فإن الشبهات ما يشتبه فيه الحق بالباطل والحلال بالحرام على وجه لا يكون فيه دليل على أحد الجانبين أو تتعارض الأمارتان عنده فلا تترجح في ظنه إحداهما فيشتبه عليه هذا بهذا فأرشده النبيAإلى ترك المشتبه والعدول إلى الواضح الجلي
ومعلوم أن غاية الوسواس أن يشتبه على صاحبه : هل هو طاعة وقربة أم معصية وبدعة هذا أحسن أحواله والواضح الجلي هو اتباع طريق رسول اللهA وما سنه للأمة قولا وعملا فمن أراد ترك الشبهات عدل عن ذلك المشتبه إلى هذا الواضح فكيف ولا شبهة بحمد الله هناك إذ قد ثبت بالسنة أنه تنطع وغلو فالمصير إليه ترك للسنة وأخذ بالبدعة وترك لما يحبه الله تعالى ويرضاه وأخذ بما يكرهه ويبغضه ولا يتقرب به إليه ألبتة فإنه لا يتقرب إليه إلا بما شرع لا بما يهواه العبد ويفعله من تلقاء (58/163)
نفسه فهذا هو الذي يحيك في الصدر ويتردد في القلب وهو حواز القلوب
وأما التمرة التي ترك رسول اللهAأكلها وقال : أخشى أن تكون من الصدقة فذلك من باب اتقاء الشبهات وترك ما اشتبه فيه الحلال بالحرام فإن التمرة كانت قد وجدها في بيته وكان يؤتى بتمر الصدقة يقسمه على من تحل له الصدقة ويدخل بيته تمر يقتات منه أهله فكان في بيته النوعان فلما وجد تلك التمرة لم يدر عليه الصلاة و السلام من أي النوعين هي فأمسك عن أكلها فهذا الحديث أصل في الورع واتقاء الشبهات فما لأهل الوسواس وماله
وأما قولكم : إن مالكا أفتى فيمن طلق ولم يدر : أواحدة طلق أم ثلاثا : إنها ثلاث احتياطا فنعم هذا قول مالك فكان ماذا أفحجة هو على الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وعلى كل من خالفه في هذه المسألة حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله وهذا القول مما يحتج له لا مما يحتج به على أن هذا ليس من باب الوسواس في شيء وإنما حجة هذا القول : أن الطلاق يوجب تحريم الزوجة والرجعة ترفع ذلك التحريم فهو يقول : قد تيقن سبب التحريم وهو الطلاق وشك في رفعه بالرجعة فإنه يحتمل أن يكون رجعيا فترفعه الرجعة ويحتمل أن يكون ثلاثا فلا ترفعه الرجعة فقد تيقن سبب التحريم وشك فيما يرفعه
والجمهور يقولون : النكاح متيقن والقاطع له المزيل لحل الفرج مشكوك فيه فإنه يحتمل أن يكون المأتي به رجعيا فلا ييزل النكاح ويحتمل أن يكون بائنا فيزيله فقد تيقنا يقين النكاح وشككنا فيما يزيله فالأصل بقاء النكاح حتى يتيقن بما يرفعه
فإن قلتم : فقد تيقن التحريم وشك في التحليل قلنا : الرجعية ليست بحرام عندكم ولهذا تجوزون وطأها ويكون رجعة إذا نوى به الرجعة
فإن قلتم : بل هي حرام والرجعة حصلت بالنية حال الوطء قلنا : لا ينفعكم ذلك أيضا (58/164)
فإنه إنما تيقن تحريما يزول بالرجعة ولم يتيقن تحريما لا تؤثر فيه الرجعة
وليس المقصود تقرير هذه المسئلة والمقصود أنه لا راحة في ذلك لأهل الوسواس
فصل وأما من حلف بالطلاق : أن في هذه اللوزة حبتين ونحو ذلك
مما لا يتيقنه الحالف فبان كما حلف عليه
فهذا لا يحنث عند الأكثرين وكذلك لو لم يتبين الحال واستمر مجهولا فإن النكاح ثابت بيقين فلا يزيله بالشك
ولمالك أصل نازعه فيه غيره وهو إيقاع الطلاق بالشك في الحنث وإيقاعه بالشك في عدده كما تقدم وإيقاعه بالشك في المطلقة كما لو طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها ووقف الحال مدة الإيلاء ولم يتبين طلق عليه الجميع
وكما لو حلف أن هذا فلان أو حيوان وهو غير متيقن له بل هو شاك حال الحلف فتبين أن الأمر كما حلف عليه فإنه يحنث عنده وتطلق امرأته فمن حلف على رجل أنه زيد فتبين أنه غيره أو لم يتبين : أهو المحلوف عليه أم لا حنث عنده وإن تبين أنه المحلوف عليه وكان حال اليمين لا يعلم حقيقته ولا يغلب على ظنه ولا طريق له إلى العلم به في العادة فإنه يحنث عنده لشكه حال الحلف فالحالف يحنث بالمخالفة لما حلف عليه أما في الطلب فبأن يفعل ما حلف على تركه وأما في الخبر فبأن يتبين كذبه وعند مالك يحنث بأمر آخر وهو الشك حال اليمين سواء تبين صدقه أم لا
وأبلغ من هذا : أنه يحنث من حلف بالطلاق على إنسان إلى جانبه إنسان أو حجر : أنه حجر ونحو ذلك مما لا شك فيه
وعمدته في الموضعين : أن الحالف هازل فإن من قال : أنت طالق إذ لم تكوني امرأة أو إن لم أكن رجلا لا معنى لكلامه إلا الهزل فإن هذا مما لا غرض للعقلاء فيه قالوا إن لم يكن هذا هزلا فإن الهزل لا حقيقة له (58/165)
وربما عللوا الحنث بأنه أراد أن يجزم الطلاق ثم ندم فوصله بما لا يفيد ليرفعه
وأما في القسم الأول : فأصله فيه : تغليب الحنث بالشك كمن حلف ثم شك : هل حنث أم لا فإنهم يأمرونه بفراق زوجته وهل هو للوجوب أم للاستحباب على قولين الأول : لابن القاسم والثاني : لمالك
فمالك يراعي بقاء النكاح وقد شككنا في زواله والأصل البقاء وابن القاسم يقول :
قد صار حل الوطء مشكوكا فيه فيجب عليه مفارقتها والأكثرون يقولون : لا يجب عليه مفارقتها ولا يستحب له فإن قاعدة الشريعة : أن الشك لا يقوى على إزالة الأصل المعلوم ولا يزول اليقين إلا بيقين أقوى منه أو مساو له
فصل وأما من طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها أو طلق واحدة مبهمة
ولم يعينها فقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوال : فقال أبو حنيفة والشافعي والثوري وحماد : يختار أيتهن شاء فيوقع عليها الطلاق في المبهمة وأما في المنسية فيمسك عنهن وينفق عليهن حتى ينكشف الأمر فإن مات الزوج قبل أن يقرع فقال أبو حنيفة : يقسم بينهن كلهن ميراث امرأة
وقال الشافعي : يوقف ميراث امرأة حتى يصطلحن
وقالت المالكية : إذا طلق واحدة منهن غير معلومة عنده بأن قال : أنت طالق ولا يدري من هي طلق الجميع وإن طلق واحدة معلومة ثم أنسيها وقف عنهن حتى يتذكر فإن طال ذلك ضرب له مدة المولى فإن تذكر فيها وإلا طلق عليه الجميع ولو قال :
إحداكن طالق ولم يعينها بالنية طلق الجميع
وقال أحمد : يقرع بينهن في الصورتين نص على ذلك في رواية جماعة من أصحابه وحكاه عن علي وابن عباس
وظاهر المذهب الذي عليه جل الأصحاب أنه لا فرق بين المبهمة والمنسية (58/166)
وقال صاحب المغني : يخرج المبهمة بالقرعة وأما المنسية فإنه يحرم عليه الجميع حتى تتبين المطلقة ويؤخذ بنفقة الجميع فإن مات أقرع بينهن للميراث قال : وقد روى إسماعيل ابن سعيد عن أحمد ما يدل على أن القرعة لا تستعمل في المنسية لمعرفة الحل وإنما تستعمل لمعرفة الميراث فإنه قال : سألت أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه ولا يعلم أيتهن طلق قال : أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة قلت : أفرأيت إن مات هذا قال : أقول بالقرعة وذلك لأنه تصير القرعة على المال قال : وجماعة من روى عنه القرعة في المطلقة المنسية إنما هو في التوريث وأما في الحل فلا ينبغي أن تثبت القرعة قال : وهذا قول أكثر أهل العلم واحتج الشيخ لصحة قوله : بأنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلم تحل له إحداهما بالقرعة كما لو اشتبهت عليه بأجنبية لم يكن له عليها عقد ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة فلا ترفع الطلاق عمن وقع عليها ولاحتمال كون المطلقة غير من خرجت عليها القرعة ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه ولو ارتفع التحريم أو زال بالطلاق لما عاد بالذكر فيجب بقاء التحريم بعد القرعة كما كان قبلها قال : وقد قال الخرقي فيمن طلق امرأته فلم يدر أواحدة طلق أم ثلاثا ومن حلف بالطلاق لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة : لا تحل له امرأته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها فحرمها مع أن الأصل بقاء النكاح ولم يعارضه يقين التحريم فههنا أولى قال : وهكذا الحكم في كل موضع أوقع الطلاق على امرأة بعينها ثم اشتبهت بغيرها مثل أن يرى امرأة في روزنة أو مولية فيقول : أنت طالق ولا يعلم ولا يعلم عينها من نسائه وكذلك إذا أوقع الطلاق على واحدة من نسائه في مسألة الطائر وشبهها فإنه يحرم عليه جميع نسائه حتى تتبين المطلقة ويؤخذ بنفقة الجميع لأنهن محبوسات عليه وإن أقرع بينهن لم تفد القرعة شيئا ولا يحل لمن وقعت عليها القرعة التزويج لأنها يجوز أن تكون غير المطلقة ولا يحل للزوج غيرها لاحتمال أن تكون المطلقة
وقال أصحابنا : إذا أقرع بينهن فخرجت القرعة على إحداهن ثبت حكم الطلاق فيها (58/167)
فحل لها النكاح بعد انقضاء عدتها وحل للزوج من سواها كما لو كان الطلاق في واحدة غير معينة
وقال شيخنا : الصحيح استعمال القرعة في الصورتين
قلت : وهو منصوص أحمد في رواية الجماعة وأما رواية الشالنجي فإنه توقف وكره أن يقول في الطلاق بالقرعة ولم يعين المنسية ولا المبهمة وأكثر نصوصه على القرعة في الصورتين
قال في رواية الميموني فيمن له أربع نسوة طلق واحدة منهن ولم يدر : يقرع بينهن وكذلك في الأعبد فإن أقرع بينهن فوقعت القرعة على واحدة ثم ذكر التي طلق رجعت هذه التي وقعت عليها القرعة ويقع الطلاق على التي ذكر فإن تزوجت فذاك شيء قد مر
وكذلك نقل أبو الحرث عنه في رجل له أربع نسوة طلق إحداهن ولم يكن له نية في واحدة بعينها يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهي المطلقة وكذلك إن قصد إلى واحدة بعينها ونسيها
فنص على القرعة في الصورتين مسويا بينهما
والذي أفتى به علي رضى الله عنه هو في المنسية وبه احتج أحمد رحمه الله
قال وكيع : سمعت عبدالله قال : سألت أبا جعفر عن رجل كان له أربع نسوة وطلق إحداهن لا يدري أيتهن طلق فقال قال على رضي الله عنه : يقرع بينهن
والأدلة الدالة على القرعة تتناول الصورتين والمنسية قد صارت كالمجهولة شرعا فلا فرق بينها وبين المبهمة المجهولة ولأن في الايقاف والإمساك حتى يتذكر وتحريم الجميع عليه وإيجاب النفقة على الجميع عدة مفاسد له وللزوجات مندفعة شرعا ولأن القرعة أقرب إلى مقاصد الشرع ومصلحة الزوج والزوجات من تركهن معلقات لا ذوات زوج ولا أيامى وتركه هو معلقا لاذا زوج ولا عزبا وليس في الشريعة نظير ذلك بل ليس فيها وقف الأحكام بل الفصل وقطع الخصومات بأقرب الطرق فإذا ضاقت الطرق ولم يبق إلا القرعة تعينت طريقا كما عينها الشارع في عدة قضايا حيث لم يكن هناك غيرها ولم (58/168)
يوقف الأمر إلى وقت الانكشاف فإنه إذا علم أنه لا سبيل له إلىانكشاف الحال كان إيقاف الأمر إلى آخر العمر من أعظم المفاسد التي لا تأتي بها الشريعة وغاية ما يقدر أن القرعة تصيب التي لم يقع عليها الطلاق وتخطىء المطلقة وهذا لا يضرها ههنا فإنها لما جهل كونها هي التي وقع عليها الطلاق صار المجهول كالمعدوم وكل ما يقدر من المفسدة في ذلك فمثلها في العتق سواء وقد دلت سنة رسول الله عليه الصلاة و السلام الصحيحة الصريحة على إخراج المعتق من غيره بالقرعة وقد نص أحمد على حلع البضع بالقرعة
فقال في رواية ابن منصور وحنبل : إذا زوجها الوليان من رجلين ولم يعلم السابق منهما أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حكم أنه الأول
فإذا قويت القرعة على تعيين الزوج في حل البضع له فلأن تقوى على تعيين المطلقة في تحريم بضعها عنه أولى فإن الطلاق مبنى على التغليب والسراية وهو أسرع نفوذا وثبوتا من النكاح من وجوه كثيرة
وقول الشيخ أبي محمد قدس الله تعالى روحه : إنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلم تحل له إحداهما بالقرعة كما لو اشتبهت بأجنبية لم يكن عليها عقد
جوابه : بالفرق بين حالتي الدوام والابتداء فإنه هناك شك في هذه الأجنبية هل حصل عقد أم لا والأصل فيها التحريم فإذا اشتبهت بها الزوجة لم يقدم على واحدة منهما وههنا ثبت الحل والنكاح وحصل الشك بعده هل يزول في هذه أو في هذه فإما أن يحرما جميعا أو يحلا جميعا أو يقال له : اختر من ينزل عليه التحريم أو يوقف الأمر أبدا أو يستعمل القرعة والأقسام الأربعة الأول باطلة لا أصل لها في السنة ولم يعتبرها الشارع بخلاف القرعة وبالجملة فلا يصح إلحاق إحدى الصورتين بالأخرى إذ هناك تحريم متيقن ونحن (58/169)
نشك في حله وهنا حل متيقن نشك في تحريمه بالنستة إلى كل واحدة
قوله : ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة ولا ترفع الطلاق على من وقع عليه
فيقال : إذا جهلت المطلقة ولم يكن له سبيل إلى تعيينها قامت القرعة مقام الشاهد والمخبر بأنها المطلقة للضرورة حيث تعينت طريقا فالمطلقة المجهولة قد صار طلاقها بعينها كالمعدوم ولو كانت مطلقة في نفس الأمر فإن الشارع لم يكلفنا بما في نفس الأمر بل بما ظهر وبدا ولهذا لو نسي الطلاق بالكلية وأقام على وطئها حتى توفي كانت أحكامه أحكام الزوج والنسب لاحق به والميراث ثابت وهي مطلقة في نفس الأمر ولكن ليست مطلقة في حكم الله كما لو طلع الهلال في نفس الأمر ولم يره أحد من الناس أو كان الهلال تحت الغيم فإنه لا يترتب عليه حكم الشهر ولا يكون طالعا في حكم الله تعالى وإن كان طالعا في نفس الأمر ونظائر هذا كثيرة جدا
فغاية الأمر : أن هذه مطلقة في نفس الأمر ولا علم له بطلاقها فلا تكون مطلقة في الحكم كما لو نسي طلاقها
قوله : ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه ولو ارتفع التحريم أو زال الطلاق لما عاد بالذكر
جوابه : أن القرعة إنما عملت مع استمرار النسيان فإذا زال النسيان بطل عمل القرعة كما أن المتيمم إذا قدر على استعمال الماء بطل حكم تيممه فإن التراب إنما يعمل عند العجز عن الماء فإذا قدر عليه بطل حكمه ونظائر ذلك كثيرة
منها : أن الاجتهاد إنما يعمل به عند عدم النص فإذا تبين النص فلا اجتهاد إلا في إبطال ما خالفه
قوله : وقد قال الخرقي فيمن طلق امرأته ولم يدر أواحدة طلق أم ثلاثا يلزمه الثلاث ومن حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة لا تحل له امرأته حتى يعلم (58/170)
أنها ليست التي وقعت اليمين عليها فحرمها مع أن الأصل بقاء النكاح ولم يعارضه يقين التحريم فههنا أولى
فيقال : الخرقي نص على المسئلتين مفرقا بينهما في مختصره فقال : وإذا طلق واحدة من نسائه وأنسيها أخرجت بالقرعة وقال : ما حكاه الشيخ عنه في الموضعين فأما من شك : هل طلق واحدة أم ثلاثا فأكثر النصوص أنه إنما يلزمه واحدة وهو ظاهر المذهب والخرقي اختار الرواية الأخرى وهي مذهب مالك وقد تقدم مأخذ القولين وبيان الراجح منهما
وعلى القول بلزوم الثلاث فالفرق بين ذلك وبين إخراج المنسية بالقرعة : أن المجهول في الشرع كالمعدوم فقد جهلنا وقوع الطلاق بأي الزوجتين فلم يتحقق تحريم إحداهما ولم يكن لنا سبيل إلى تحريمهما ولا إباحتهما والوقف مفسدة ظاهرة فتعينت القرعة بخلاف من أوقع على زوجته طلاقا وشك في عدده فإنه قد شك : هل يرتفع ذلك الطلاق بالرجعة أولا يرتفع بها فألزمه بالثلاث فظهر الفرق بينهما على هذا القول وأما على المشهور من المذهب فلا إشكال
وأما من حلف بالطلاق لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة فقد قال الخرقي : إنه يمنع من وطء زوجته حتى يتيقن وهذا يحتمل الكراهة والتحريم ومذهب الشافعي وأبي حنيفة : أنه لا يحنث ولا يحرم عليه وطء زوجته هو اختيار أبي الخطاب وهو الصحيح وإن أراد به التحريم فهو يشبه ما قاله هو ومالك فيمن طلق وشك هل طلق واحدة أم ثلاثا
فصل وأما من حلف على يمين ثم نسيها وقولهم : يلزمه جميع ما
يحلف به فقول شاذ جدا وليس عن مالك إنما قاله بعض أصحابه وسائر أهل العلم على خلافه وأنه لا يلزمه شيء حتى يتيقن كما لو شك : هل حلف أو لا
فإن قيل فينبغي أن يلزمه كفارة يمين لأنها الأقل
قيل : موجب الأيمان مختلف فما من يمين إلا وهي مشكوك فيها هل حلف بها أم لا (58/171)
وعلى قول شيخنا : يلزمه كفارة يمين حسب لأن ذلك موجب الأيمان كلها عنده
فصل وأما من حلف ليفعلن كذا ولم يعين وقتا فعند الجمهور هو على
التراخي إلى آخر عمره إلا أن يعين بنيته وقتا فيتقيد به فإن عزم على الترك بالكلية حنث حال ه زمه نص عليه أحمد وقال مالك : هو على حنث حتى يفعل فيحال بينه وبين امرأته إلى أن يأتي بالمحلوف عليه وهذا صحيح على أصله في سد الذرائع فإنه إذا كان على التراخي إلى وقت الموت لم يكن لليمين فائدة وصار لا فرق بين الحلف وعدمه والحمل في ذلك على القرينة والعرف إن لم تكن نية ولا يكاد اليمين يتجرد عن هذه الثلاثة
فصل وأما تعليق الطلاق بوقت يجىء لا محالة كرأس الشهر والسنة وآخر
النهار ونحوه فللفقهاء في ذلك أربعة أقوال :
أحدها : أنها لا تطلق بحال وهذا مذهب ابن حزم واختيار أبي عبدالرحمن الشافعي وهو من أجل أصحاب الوجوه
وحجتهم : أن الطلاق لا يقبل التعليق بالشرط كما لا يقبله النكاح والبيع والإجارة والإبراء
قالوا : والطلاق لا يقع في الحال ولا عند مجىء الوقت أما في الحال فلأنه لم يوقعه منجزا وأما عند مجىء الوقت فلأنه لم يصدر منه طلاق حينئذ ولم يتجدد سوى مجىء الزمان ومجى الزمان لا يكون طلاقا
وقابل هذا القول آخرون وقالوا : يقع الطلاق في الحال وهذا مذهب مالك وجماعة من التابعين (58/172)
وحجتهم : أن قالوا : لو لم يقع في الحال لحصل منه استباحة وطء مؤقت وذلك غير جائز في الشرع لأن استباحة الوطء فيه لا تكون إلا مطلقا غير مؤقت ولهذا حرم نكاح المتعة لدخول الأجل فيه وكذلك وطء المكاتبة ألا ترى أنه لوعرى من الأجل بأن يقول : إن جئتني بألف درهم فأنت حرة لم يمنع ذلك الوطء
قال الموقعون عند الأجل : لا يجوز أن يؤخذ حكم الدوام من حكم الابتداء فإن الشريعة فرقت بينهما في مواضع كثيرة فإن ابتداء عقد النكاح في الإحرام فاسد دون دوامه وابتداء عقده على المعتدة فاسد دون دوامه وابتداء عقده على الأمة مع الطول وعدم خوف العنت فاسد دون دوامه وابتداء عقده على الزانية فاسد عند أحمد ومن وافقه دون دوامه ونظائر ذلك كثيرة جدا
قالوا : والمعنى الذي حرم لأجله نكاح المتعة : كون العقد مؤقتا من أصله وهذا العقد مطلق وإنما عرض له ما يبطله ويقطعه فلا يبطل كما لو علق الطلاق بشرط وهو يعلم أنها تفعله أو يفعله هو ولا بد ولكن يجوز تخلفه
والقول الثالث : أنه إن كان الطلاق المعلق بمجيء الوقت المعلوم ثلاثا وقع في الحال وإن كان رجعيا لم يقع قبل مجيئه وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد نص عليه في رواية مهنا : إذا قال : أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر : هي طالق الساعة كان سعيد ابن المسيب والزهري لا يوقتون في الطلاق قال مهنا : فقلت له : أفتتزوج هذه التي قال لها : أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر قال لا : ولكن يمسك عن الوطء أبدا حتى يموت هذا لفظه
وهو في غاية الإشكال فإنه قد أوقع عليها الطلاق منجزا فكيف يمنعها من التزويح (58/173)
وقوله : يمسك عن الوطء أبدا يدل على أنها زوجته إلا أنه لا يطؤها وهذا لا يكون
مع وقوع الطلاق فإن الطلاق إذا وقع زالت أحكام الزوجية كلها فقد يقال : أخذ بالاحتياط فأوقع الطلاق ومنعها من التزويج للخلاف في ذلك فحرم وطأها وهو أثر الطلاق ومنعها من التزويج لأن النكاح لم ينقطع بإجماع ولا نص
ووجه هذا : أنه إذا كان الطلاق ثلاثا لم يحل وطؤها بعد الأجل فيصير حال الوطء مؤقتا وإن كان رجعيا جاز له وطؤها بعد الأجل فلا يصير الحال مؤقتا وهذا أفقه من القول الأول
والقول الرابع : أنها لا تطلق إلا عند مجىء الأجل وهو قول الجمهور وإنما تنازعوا هل هو مطلق في الحال ومجىء الوقت شرط لنفوذ الطلاق كما لو وكله في الحال وقال : لاتتصرف إلى رأس الشهر فمجىء رأس الشهر شرط لنفوذ تصرفه لا لحصول الوكالة بخلاف ما إذا قال : إذا جاء رأس الشهر فقد وكلتك ولهذا يفرق الشافعي بينهما فيصحح الأولى ويبطل الثانية أو يقال : ليس مطلقا في الحال وإنما هو مطلق عند مجىء الأجل فيقدر حينئذ أنه قال : أنت طالق فيكون حصول الشرط وتقدير حصول : أنت طالق معا فعلى التقدير الأول : السبب تقدم وتأخر شرط تأثيره وعلى التقدير الثاني : نفس السبب تأخر تقديرا إلى مجىء الوقت وكأنه قال : إذا جاء رأس الشهر فحينئذ أنا قائل لك : أنت طالق فإذا جأء رأس الشهر قدر قائلا لذلك اللفظ المتقدم
فمذهب الحنفية : أن الشرط يمتنع به وجود العلة فإذا وجد الشرط وجدت العلة فيصير وجودها مضافا إلى الشرط وقبل تحققه لم يكن المعلق عليه علة بخلاف الوجوب فإنه ثابت قبل مجىء الشرط فإذا قال : إن دخلت الدار فأنت طالق فالعلة للوقوع : التلفظ بالطلاق والشرط الدخول وتأثيره في امتناع وجود العلة قبله فإذا وجد وجدت
وأصحاب الشافعي يقولون : أثر الشرط في تراخي الحكم والعلة قد وجدت وإنما تراخي تأثيرها إلى وقت مجيء الشرط فالمتقدم علة قد تأخر تأثيرها إلى مجىء الشرط (58/174)
فصل وأما ما أفتى به الحسن وإبراهيم النخعي ومالك في إحدى الروايتين
عنه : أن من شك هل انتقض وضوءه أم لا وجب عليه أن يتوضأ احتياطا ولا يدخل في الصلاة بطهارة مشكوك فيها
فهذه مسألة نزاع بين الفقهاء
وقد قال الجمهور منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وأصحابهم ومالك في الرواية الأخرى عنه إنه لا يجب عليه الوضوء وله أن يصلي بذلك الوضوء الذي تيقنه وشك في انتقاضه واحتجوا بما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهA إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه : أخرج منه شيء أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وهذا يعم المصلي وغيره
وأصحاب القول الأول يقولون : الصلاة ثابتة في ذمته بيقين وهو يشك في براءة الذمة منها بهذا الوضوء فإنه على تقدير بقائه هي صحيحة وعلى تقدير انتقاضه باطلة فلم يتيقن براءة ذمته ولأنه شك في شرط الصلاة : هل هو باق أم لا فلا يدخل فيها بالشك
والآخرون يجيبون عن هذا بأنها صلاة مستندة إلى طهارة معلومة قد شك في بطلانها فلا يلتفت إلى الشك ولا يزيل اليقين به كما لو شك : هل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة فإنه لا يجب عليه غسله وقد دخل في الصلاة بالشك
ففرقوا بينهما بفرقين :
أحدهما : أن اجتناب النجاسة ليس بشرط ولهذا لا يجب نيته وإنما هو مانع والأصل عدمه بخلاف الوضوء فإنه شرط وقد شك في ثبوته فأين هذا من هذا
الثاني : أنه قد كان قبل الوضوء محدثا وهو الأصل فيه فإذا شك في بقائه كان ذلك رجوعا إلى الأصل وليس الأصل فيه النجاسة حتى نقول : إذا شك في حصوله رجعنا إلى الأصل النجاسة فهنا يرجع إلى أصل الطهارة وهناك يرجع إلى أصل الحدث (58/175)
قال الآخرون : أصل الحدث قد زال بيقين الطهارة فصارت هي الأصل فإذا شككنا في الحدث رجعنا إليه فأين هذا من الوسواس المذموم شرعا وعقلا وعرفا
فصل وأما قولكم : إن من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب
عليه غسله كله : فليس هذا من باب الوسواس وإنما ذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به فإنه قد وجب عليه غسل جزء من ثوبه ولا يعلمه بعينه ولا سبيل إلى العلم بأداء هذا الواجب إلا بغسل جميعه
فصل وأما مسألة الثياب التي اشتبه الطاهر منها بالنجس فهذه مسألة
نزاع فذهب مالك في رواية عنه وأحمد : إلى أنه يصلي في ثوب بعد ثوب حتى يتيقن أنه صلى في ثوب طاهر
وقال الجمهور ومنهم أبو حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى إنه يتحرى فيصلي في واحد منها صلاة واحدة كما يتحرى في القبلة
وقال المزني وأبو ثور : بل يصلي عريانا ولا يصلي في شيء منها لأن الثوب النجس في الشرع كالمعدوم والصلاة فيه حرام وقد عجز عن السترة بثوب طاهر فسقط فرض السترة وهذا أضعف الأقوال
والقول بالتحري هو الراجح الظاهر سواء كثر عدد الثياب الطاهرة أو قل وهو اختيار شيخنا وابن عقيل يفصل فيقول : إن كثر عدد الثياب تحرى دفعا للمشقة وإن قل عمل باليقين
قال شيخنا : اجتناب النجاسة من باب المحظور فإذا تحرى وغلب على ظنه طهارة ثوب منها فصلى فيه لم يحكم ببطلان صلاته بالشك فإن الأصل عدم النجاسة وقد شك فيها في هذا الثوب فيصلي فيه كما لو استعار ثوبا أو اشتراه ولا يعلم حاله (58/176)
وقول أبي ثور في غاية الفساد فإنه لو تيقن نجاسة الثوب لكانت صلاته فيه خيرا وأحب إلى الله من صلاته متجردا بادى السوءة للناظرين وبكل حال فليس هذا من الوسواس المذموم
فصل وأما مسألة اشتباه الأواني فكذلك ليست من باب الوسواس وقد
اختلف فيها الفقهاء اختلافا متباينا
فقال أحمد : يتيمم ويتركها وقال مرة يريقها ويتيمم ليكون عادما للماء الطهور بيقين
وقال أبو حنيفة : إن كان عدد الأواني الطاهرة أكثر تحرى وإن تساوت أو كثرت النجسة لم يتحر وهذا اختيار أبي بكر وابن شاقلا والنجاد من أصحاب أحمد وقال الشافعي وبعض المالكية : يتحرى بكل حال وقال عبدالله بن الماجشون : يتوضأ بكل واحد منها وضوءا ويصلي وقال محمد بن مسلمة من المالكية : يتوضأ من أحدها ويصلي ثم يغسل ما أصابه منه ثم يتوضأ من الآخر ويصلي
وقالت طائفة منهم شيخنا يتوضأ من أيها شاء بناء على أن الماء لا ينجس إلا بالتغير فتستحيل المسألة وليس هذا موضع ذكر حجج هذه الأقوال وترجيح راجحها
فصل وأما إذا اشتبهت عليه القبلة فالذي عليه أهل العلم كلهم : أنه
يجتهد ويصلي صلاة واحدة (58/177)
وشذ بعض الناس فقال : يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات وهذا قول شاذ مخالف للسنة وإنما التزمه قائله في مسألة اشتباه الثياب وهذا ونحوه من وجوه الالتزامات عند المضايق طردا لدليل المستدل : مما لا يلتفت إليها ولا يعول عليها
ونظيره : التزام من التزم اشتراط النية لإزالة النجاسة لما ألزمهم أصحاب أبي حنيفة بذلك قال بعضهم : نقول به
ونظيره : إدراك الجمعة بإدراك تكبيرة مع الإمام لما ألزمت الحنفية من نازعها في ذلك بالتسوية بين الجمعة والجماعة التزمه بعضهم وقال : نقول به
فصل وأما من ترك صلاة من يوم لا يعلم عينها فاختلف الفقهاء في
هذه المسئلة على أقوال :
أحدها : أنه يلزمه خمس صلوات نص عليه أحمد وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وإسحق لأنه لا سبيل له إلى العلم ببراءة ذمته يقينا إلا بذلك
القول الثاني : أنه يصلي رباعية ينوي بها ما عليه ويجلس عقيب الثانية والثالثة والرابعة وهذا قول الأوزاعي وزفر بن الهذيل ومحمد بن مقاتل من الحنفية بناء على أنه يخرج من الصلاة بدون الصلاة على النبيA وبدون السلام وأن نية الفرضية تكفي من غير تعيين كما في الزكاة ولا يضر جلوسه عقيب الثالثة إن كانت المنسية رباعية لأنه زيادة من جنس الصلاة لا على وجه العمد
القول الثالث : أنه يجزيه أن يصلي فجرا ومغربا ورباعية ينوي ما عليه وهذا قول سفيان الثوري ومحمد بن الحسن ويخرج على المذهب إذا قلنا بأن نية المكتوبة تكفي من غير تعيين
وقد قال عبدالله بن أحمد : سمعت أبي يسأل : ما تقول في رجل ذكر أن عليه صلاة لم يعينها فصلى ركعتين وجلس وتشهد ونوى بها الغداة ولم يسلم ثم قام فأتى بركعة وجلس فتشهد ونوى بها المغرب وقام ولم يسلم وأتى برابعة ثم جلس فتشهد ونوى بها ظهرا أو عصرا أو عشاء الآخرة ثم سلم فقال له أبي : هذا يجزيه ويقضي عنه على مذهب العراقيين (58/178)
لأنهم اعتمدوا في التشهد على خبر ابن مسعود : إذا قلت هذا فقد تمت صلاتك وأما على مذهب صاحبنا أبي عبدالله الشافعي ومذهبنا لا يجزىء عنه لأنا نذهب إلى قوله : صلى الله عليه و سلم تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ونذهب إلى الصلاة على رسول اللهA فيها هذا لفظه
قال أبو البركات : هذا من أحمد : يبين أن قضاء الواحدة لا يجزيه لتعذر التحليل المعتبر لا لفوات نية التعيين فإذا قضى ثلاثا كما قال الثوري اندفع المفسد وبكل حال فليس في هذا راحة للموسوسين
فصل وأما من شك في صلاته فإنه يبني على اليقين لأنه لا تبرأ
ذمته منه بالشك
وأما تحريم أكل الصيد إذا شك صاحبه : هل مات بالجرح أو بالماء وتحريم أكله (58/179)
إذا خالط كلابه كلبا من غيره فهو الذي أمر به رسول اللهAلأنه قد شك في سبب الحل والأصل في الحيوان التحريم فلا يستباح بالشك في شرط حله بخلاف ما إذا كان الأصل فيه الحل فإنه لا يحرم بالشك في سبب تحريمه كما لو اشترى ماء أو طعاما أو ثوبا لا يعلم حاله جاز شربه وأكله ولبسه وإن شك : هل تنجس أم لا فإن الشرط متى شق اعتباره أو كان الأصل عدم المانع لم يلتفت إلى ذلك
فالأول : كما إذا أتى بلحم لا يعلم : هل سمى عليه ذابحه أم لا وهل ذكاه في الحلق واللبة واستوفى شروط الذكاة أم لا لم يحرم أكله لمشقة التفتيش عن ذلك وقد قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله إن ناسا من الأعراب يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا فقال : سموا أنتم وكلوا مع أنه قد نهى عن أكل ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى
والثاني كما ذكرنا من الماء والطعام واللباس فإن الأصل فيها الطهارة وقد شك في وجود المنجس فلا يلتفت إليه
فصل وأما ما ذكرتموه عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما فشيء
تفردا به دون الصحابة ولم يوافق ابن عمر على ذلك أحد منهم وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : إن بي وسواسا فلا تقتدوا بي
وظاهر مذهب الشافعي وأحمد : أن غسل داخل العينين في الوضوء لا يستحب وإن أمن الضرر لأنه لم ينقل عن رسول اللهAأنه فعله قط ولا أمر به وقد نقل وضوءه جماعة كعثمان وعلي وعبدالله بن زيد والربيع بنت معوذ وغيرهم فلم يقل أحد منهم : إنه غسل داخل عينيه وفي وجوبه في الجنابة روايتان عن أحمد أصحهما أنه لا يجب وهو قول الجمهور وعلى هذا فلا يجب غسلهما من النجاسة وأولى لأن المضرة به أغلب لزيادة التكرار والمعالجة (58/180)
وقالت الشافعية والحنفية : يجب لأن إصابة النجاسة لهما تندر فلا يشق غسلهما منها وغلا بعض الفقهاء من أصحاب أحمد فأوجب غسلهما في الوضوء وهو قول لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه والصحيح أنه لا يجب غسلهما في وضوء ولا جنابة ولا من نجاسة
وأما فعل أبي هريرة رضي الله عنه فهو شيء تأوله وخالفه فيه غيره وكانوا ينكرونه عليه وهذه المسئلة تلقب بمسئلة إطالة الغرة وإن كانت الغرة في الوجه خاصة
وقد اختلف الفقهاء في ذلك وفيها روايتان عن الإمام أحمد
إحداهما : يستحب إطالتها وبها قال أبو حنيفة والشافعي واختارها أبو البركات ابن تيمية وغيره
والثانية : لا يستحب وهي مذهب مالك وهي اختيار شيخنا أبي العباس
فالمستحبون يحتجون بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من أثر الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله متفق عليه ولأن الحلية تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء
قال النافون للاستحباب : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : إن الله حد حدودا فلا تعتدوها والله سبحانه قد حد المرفقين والكعبين فلا ينبغي تعديهما ولأن رسول اللهAلم ينقل من نقل عنه وضوءه أنه تعداها ولأن ذلك أصل الوسواس ومادته ولأن فاعله إنما يفعله قربة وعبادة والعبادات مبناها على الاتباع ولأن ذلك ذريعة إلى الغسل إلى الفخذ وإلى الكتف وهذا مما يعلم أن النبيA وأصحابه لم يفعلوه ولا مرة وحدة ولأن هذا من الغلو وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم إياكم والغلو في الدين ولأنه تعمق وهو منهي عنه ولأنه عضو من أعضاء الطهارة فكره مجاوزته كالوجه (58/181)
وأما الحديث فراويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نعيم المجمر وقد قال : لا أدري قوله : فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل من قول رسول اللهA أو من قول أبي هريرة رضي الله عنه روي ذلك عنه الإمام أحمد في المسند
وأما حديث الحلية فالحلية المزينة ما كان في محله فإذا جاوز محله لم يكن زينة
فصل وأما قولكم : إن الوسواس خير مما عليه أهل التفريط والاسترسال
وتمشية الأمر كيف اتفق إلى آخره
فلعمر الله إنهما لطرفا إفراط وتفريط وغلو وتقصير وزيادة ونقصان وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الأمرين في غير موضع كقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [ الإسراء : 29 ] وقوله : وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا [ الروم : 38 ] وقوله : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [ الفرقان : 67 ] وقوله : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين [ الأعراف : 31 ]
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطا وهي الخيار العدل لتوسطها بين الطرفين المذمومين والعدل هو الوسط بين طرفى الجور والتفريط والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف والأوساط محمية بأطرافها فخيار الأمور أوساطها قال الشاعر :
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
فصل ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس وما نجا منها إلا من
لم يرد الله تعالى فتنته : ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور حتى آل الأمر فيها إلى (58/182)
أن عبد أربابها من دون الله وعبدت قبورهم واتخذت أوثانا وبنيت عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها ثم جعلت تلك الصور أجسادا لها ظل ثم جعلت أصناما وعبدت مع الله تعالى
وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه حيث يقول : قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا [ نوح : 21 ]
قال ابن جرير : وكان من خبر هؤلاء فيما بلغنا : ما حدثنا به ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس : أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصورهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم قال سفيان عن أبيه عن عكرمة قال : كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الإسلام حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال : كانت آلهة يعبدها قوم نوح ثم عبدتها العرب بعد ذلك فكان ود لكلب بدومة الجندل وكان سواع لهذيل وكان يغوث لبني غطيف من مراد وكان يعوق لهمدان وكان نسر لذي الكلاع من حمير وقال الوالبي عن ابن عباس : هذه أصنام كانت تعبد في زمان نوح عليه السلام
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج قال : قال عطاء عن ابن عباس : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع (58/183)
أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسى العلم عبدت
وقال غير واحد من السلف : كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح عليه السلام فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين : فتنة القبور وفتنة التماثيل وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول اللهAفي الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها : أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول اللهAكنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها : مارية فذكرت له ما رأت فيها من الصور فقال رسول اللهA أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى
وفي لفظ آخر في الصحيحين : أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها
فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور وهذا كان سبب عبادة اللات
فروى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد : أفرأيتم اللات والعزى [ النجم : 19 ] قال : كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان يلت السويق للحاج
فقد رأيت أن سبب عبادة ود ويغوث ويعوق ونسرا واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها كما أشار إليه النبيA
قال شيخنا : وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب ونحو ذلك فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر ولهذا نجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون ويعبدونهم بقلوبهم عبادة (58/184)
لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد المصلي ما قصده المشركون سدا للذريعة
قال : وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول اللهAأن الصلاة عند القبور منهي عنها وأنه لعن من اتخذها مساجد فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك : الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها وقد تواترت النصوص عن النبي عليه الصلاة و السلام بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بالعلماء وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول اللهAلعن فاعله والنهي عنه ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبدالله البجلي قال : سمعت رسول اللهAقبل أن يموت بخمس وهو يقول : إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك
وعن عائشة وعبدالله بن عباس قالا : لما نزل برسول اللهAطفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود (58/185)
والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا متفق عليه
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول اللهAقال : قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وفي رواية مسلم : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته ثم إنه لعن وهو في السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك
قالت عائشة رضي الله عنها : قال رسول اللهAفي مرضه الذي لم يقم منه : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجدا متفق عليه
وقولها : خشى هو بضم الخاء تعليلا لمنع إبراز قبره
وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبيAقال : إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد
وعن زيد بن ثابت أن رسول اللهAقال : لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد رواه الإمام أحمد
وعن ابن عباس قال : لعن رسول اللهAزائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه الإمام أحمد وأهل السنن
وفي صحيح البخاري : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال : القبر القبر وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضي الله عنهم ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور وفعل أنس رضي الله عنه لا يدل على اعتقاده جوازه فإنه لعله لم يره أو لم يعلم أنه قبر أو ذهل عنه فلما نبهه عمر رضي الله تعالى عنه تنبه وقال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه : قال رسول اللهA الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة وصححه أبو حاتم بن حبان (58/186)
وأبلغ من هذا : أنه نهى عن الصلاة إلى القبر فلا يكون القبر بين المصلي وبين القبلة
فروى مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي رحمه الله أن رسول اللهAقال : لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها
وفي هذا إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسولA وهو باطل من عدة أوجه :
منها : أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة كما يقوله المعللون بالنجاسة
ومنها : أنهAلعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع وليس للنجاسة عليها طريق ألبتة فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم في قبورهم طريون
ومنها : أنه نهى عن الصلاة إليها
ومنها : أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور
ومنها : أن موضع مسجدهAكان مقبرة للمشركين فنبش قبورهم وسواها واتخذه مسجدا ولم ينقل ذلك التراب بل سوى الأرض ومهدها وصلى فيه كما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال : لما قدم النبيAالمدينة فنزل بأعلى المدينة في حي يقال لهم : بنو عمرو بن عوف فأقام النبيAفيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا متقلدي السيوف وكأني أنظر إلى النبيAعلى راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فقال : يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا قالوا : لا والله ما نطلب ثمنه إلا إلى الله (58/187)
فكان فيه ما أقول لكم : قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر النبيAبقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون وذكر الحديث
ومنها : أن فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر فإذا نهى عن ذلك سدا لذريعة التشبه التي لا تكاد تخطر ببال المصلي فكيف بهذه الذريعة القريبة التي كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى واستغاثتهم وطلب الحوائج منهم واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها في المساجد وغير ذلك مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة ومما يدل على أن النبيAقصد منع هذه الأمة من الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم
ومنها : أنه لعن المتخذين عليها المساجد ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر فتزول اللعنة وهو باطل قطعا
ومنها : أنه قرن في اللعن بين متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها فهما في اللعنة قرينان وفي ارتكاب الكبيرة صنوان فإن كل ما لعن رسول اللهAفهو من الكبائر ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها نصبا يوفض إليه المشركون كما هو الواقع فهكذا اتخاذ المساجد عليها ولهذا قرن بينهما فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها وتعريض للفتنة بها ولهذا حكى الله سبحانه وتعالى عن المتغلبين على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا : لنتخذن عليهم مسجدا [ الكهف : 21 ]
ومنها : أنهAقال : اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فذكره ذلك عقيب قوله : اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد تنبيه منه على سبب لحوق اللعن لهم وهو توصلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد (58/188)
وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن الرسولAمقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهي بصيغتيه : صيغة لا تفعلوا وصيغة إني أنهاكم ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه ولم يخش ربه ومولاه وقل نصيبه أو عدم في تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله فإن هذا وأمثاله من النبيAصيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه وغرهم الشيطان فقال : بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين وكلما كنتم أشد لها تعظيما وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد ومن أعدائهم أبعد
ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها : من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم
فأما المشركون فعصوا أمرهم وتنقصوهم في صورة التعظيم لهم قال الشافعي : أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس
وممن علل بالشرك ومشابهة اليهود والنصارى : الأثرم في كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه فقال بعد أن ذكر حديث أبي سعيد : أن النبيAقال : جعلت لي الأرض مسجدا إلا المقبرة والحمام وحديث زيد بن جبير عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر : أن النبيA نهى عن الصلاة في سبع مواطن وذكر منها المقبرة قال الأثرم : إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد (58/189)
فصل ومن ذلك اتخاذها عيدا والعيد : ما يعتاد مجيئه وقصده :
من مكان وزمان
فأما الزمان فكقولهA يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى : عيدنا أهل الإسلام رواه أبو داود وغيره
وأما المكان فكما روي أبو داود في سننه أن رجلا قال : يا رسول الله إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال : أبها وثن من أوثان المشركين أو عيد من أعيادهم قالا : لا قال : فأوف بنذرك وكقوله : لا تجعلوا قبري عيدا
والعيد : مأخوذ من المعاودة والاعتياد فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة أو لغيرها كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله تعالى عيدا للحنفاء ومثابة كما جعل أيام التعبد فيها عيدا
وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة البيت الحرام وعرفة ومنى والمشاعر (58/190)
فاتخاذ القبور عيدا هو من أعياد المشركين التي كانوا عليها قبل الإسلام وقد نهى عنه رسول اللهA في سيد القبور منبها به على غيره
فقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح قال : قرأت على عبدالله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبرى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللهAلا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتمA وهذا إسناد حسن رواته كلهم ثقات مشاهير
وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي ابن الحسين : أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبيAفيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال : ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول اللهA قال : لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم رواه أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي في مختاراته
وقال سعيد بن منصور في السنن : حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال : قال رسول اللهAلا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني
وقال سعيد : حدثنا عبدالعزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال : رآني الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال : هلم إلى العشاء فقلت : لا أريده فقال : مالي رأيتك عند القبر فقلت : سلمت على النبيA فقال : إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال : إن رسول اللهAقال : لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن (58/191)
الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يكن روى من وجوه مسندة غير هذين فكيف وقد تقدم مسندا
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه : ووجه الدلالة : أن قبر رسول اللهAأفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان ثم إنه قرن ذلك بقوله : ولا تتخذوا بيوتكم قبورا أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري العبادة عند القبور وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم ثم إنه عقب النهي عن اتخاذه عيدا بقوله : وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدا وقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبها من النصارى بالشرك وشبها من اليهود بالتحريف فقال : هذا أمر بملازمة قبره والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه ونهي أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين فكأنه قال : لا تجعلوه بمنزلة العيد الذي يكون من الحول إلى الحول واقصدوه كل ساعة وكل وقت وهذا مراغمة ومحادة لله ومناقضة لما قصده الرسولA وقلب للحقائق ونسبة الرسولAإلى التدليس والتلبيس بعد التناقض فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر وملازمته وكثرة انتيابه بقوله : لا تجعلوه عيدا فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان فإن لم يكن هذا تنقيصا فليس للتنقيص حقيقة فينا كمن يرمى أنصار الرسولAوحزبه بدائه ومصابه وينسل كأنه بريء ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل إثما وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته وهكذا (58/192)
غيرت ديانات الرسل ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الدابين عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله
ولو أراد رسول اللهAما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ويلعن ويلعن فاعل ذلك فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها وأن يعتاد قصدها وانتيابها ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد وكيف يقول أعلم الخلق بذلك ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا وكيف يقول : لا تجعلوا قبري عيدا وصلوا على حيثما كنتم وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف
وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبرهA واستدل بالحديث وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علىBه وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا
قال شيخنا : فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول اللهAقرب النسب وقرب الدار لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط
فصل ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا
يعلمها إلا الله تعالى ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله تعالى وغيرة على التوحيد وتهجين وتقبيح للشرك
ولكن ما لجرح بميت إيلام (58/193)
فمن مفاسد اتخاذها أعيادا : الصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها والاستغاثة بهم وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم
فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد فوضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض وكشفوا الرءوس وارتفعت أصواتهم بالضجيج وتبا كوا حتى تسمع لهم النشيج ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد ونادوا ولكن من مكان بعيد حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين فتراهم حول القبر ركعا سجدا يبتغون فضلامن الميت ورضوانا وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسرانا فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات ويرتفع من الأصوات ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة أولى العاهات والبليات ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفدالبيت الحرام ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق وقربوا لذلك الوثن القرابين وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين فلو رأيتهم يهنىء بعضهم بعضا ويقول : أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام فيقول : لا ولو بحجك كل عام
هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم : إذ هي فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور (58/194)
وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهي عنه لما يؤول إليه وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته والشر والضلال في معصيته ومخالفته
ورأيت لأبي الوفاء بن عقيل في ذلك فصلا حسنا فذكرته بلفظه قال : لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال : وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع : من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها : يا مولاي افعل بي كذا وكذا وأخذ تربتها تبركا وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها وإلقاء الخرق على الشجر اقتداءبمن عبداللات والعزى والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء ولم يقل الحمالون على جنازته : الصديق أبو بكر أو محمد وعلى أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر ولم يخرق ثيابه إلى الذيل ولم يرق ماء الورد على القبر انتهى
ومن جمع بين سنة رسول اللهAفي القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأي أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا
فنهى رسول اللهAعن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله تعالى
ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها
ونهى أن تتخذ عيداوهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر
وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال : قال علي (58/195)
بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللهAأن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته وفي صحيحه أيضا عن ثمامة بن شفي قال : كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفى صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال : سمعت رسول اللهAيأمر بتسويتها وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها عن الأرض كالبيت ويعقدون عليها القباب
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال : نهى رسول اللهAعن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه بناء
ونهى عن الكتابة عليها كما روى أبو داود والترمذي في سننهما عن جابر رضي الله عنه أن رسول اللهA نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها قال الترمذي : حديث حسن صحيح وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره
ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو داود من حديث جابر أيضا : أن رسول اللهA نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص
ونهى عمر بن عبدالعزيز أن يبنى القبر بآجر وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره
وأوصى الأسود بن يزيد : أن لا تجعلوا على قبري آجرا
وقال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون الآجر على قبورهم
وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة : أن لا تضربوا علي فسطاطا
وكره الإمام أحمد أن يضرب على القبر فسطاط
والمقصود : أن هؤلاء المعظعمين للقبور المتخذينها أعيادا الموقدين عليها السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم (58/196)
محادون لما جاء به وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه قال أبو محمد المقدسي : ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن النبيAمن فعله ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة وإفراطا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام قال : ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ولأن النبيAقال : لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا متفق عليه وقالت عائشة : إنما لم يبرز قبر رسول اللهAلئلا يتخذ مسجدا لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها انتهى
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا ووضعوا له مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه مناسك حج المشاهد مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الاسلام ودخول في دين عباد الأصنام فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول اللهAوقصده : من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره فمنها : تعظيمها الموقع في الافتتان بها ومنها : اتخاذها عيدا ومنها : السفر إليها ومنها : مشابهة عبادة الأصنام بما يفعل عندها : من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها وعبادها يرجعحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد والويل عندهم لقيتمها ليلة يطفىء القنديل المعلق عليها ومنها : النذر لها ولسدنتها ومنها : اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء وينصر على الاعداء ويستنزل غيث السماء وتفرج الكروب وتقضى الحوائج وينصر المظلوم ويجار الخائف إلى غير ذلك ومنها : الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ومنها : الشرك الأكبر الذي يفعل عندها ومنها : إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة كما أن المسيح يكره (58/197)
ما يفعله النصارى عند قبره وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم ويوم القيامة يتبرءون منهم كما قال تعالى : ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادى هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا [ الفرقان : 17 ] قال الله للمشركين : فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا [ الفرقان : 19 ] الآية وقال تعالى : وقال تعالى وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ سبأ : 41 ]
ومنها : مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها ومنها : محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها ومنها : التعب العظيم مع الوزر الكثير والإثم العظيم ومنها : إماتة السنن وإحياء البدع
ومنها : تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله فإن عباد القبور يعطونها من التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة على الموتى مالا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه ومنها : أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد ودين الله الذي بعث به رسوله بضد ذلك ولهذا لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين عمروا المشاهد وأخربوا المساجد
ومنها : أن الذي شرعه الرسولAعند زيارة القبور : إنما هو تذكرالآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤال العافية له فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم واستنزال البركات منه ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت (58/198)
ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله تعالى من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له
فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان التي شرعها الله تعالى على لسان رسولهA ثم وازن بينها وبين زيارة أهل الإشراك التي شرعها لهم الشيطان واختر لنفسك
قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول اللهAكلما كان ليلتها منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد رواه مسلم
وفي صحيحه عنها أيضا : أن جبريل أتاه فقال : إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت قلت : كيف أقول لهم يا رسول الله قال : قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون
وفي صحيحه أيضا عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان رسول اللهAيعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا : السلام على أهل الديار وفي لفظ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية وعن بريدة قال : قال رسول اللهA كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرا رواه أحمد والنسائي (58/199)
وكان رسول اللهAقد نهى الرجال عن زيارة القبور سدا للذريعة فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ونهاهم أن يقولوا هجرا فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله فإن زيارته غير مأذون فيها ومن أعظم الهجر : الشرك عندها قولا وفعلا
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهA زوروا القبور فإنها تذكر الموت
وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : أن رسول اللهAقال : إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة رواه الإمام أحمد
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : مر رسول اللهAبقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال : السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم ونحن بالأثر رواه أحمد والترمذي وحسنه وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول اللهAقال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة رواه ابن ماجه
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول اللهA كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة
فهذه الزيارة التي شرعها رسول اللهAلأمته وعلمهم إياها هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه
وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على (58/200)
النبيA ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا
فقال سلمة بن وردان : رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه يسلم على النبيA ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو
ونص على ذلك الأئمة الأربعة : أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر فإن الدعاء عبادة
وفي الترمذي وغيره مرفوعا الدعاء هو العبادة
فجرد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول اللهA من السلام على أصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم
وبالجملة فالميت قد انقطع عمله فهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء له وجوبا واستحبابا ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي
قال عوف بن مالك : صلى رسول اللهAعلى جنارة فحفظت من دعائه وهو يقول : اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر أو من عذاب النار حتى تمنيت أن أكون أنا الميت لدعاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك الميت رواه مسلم
وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول في صلاته على الجنازة : اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء فاغفر له رواه الامام أحمد
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء
وقالت عائشة وأنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : ما من ميت يصليعليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه رواه مسلم (58/201)
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول : ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه رواه مسلم
فهذا مقصود الصلاة على الميت وهو الدعاء له والاستغفار والشفاعة فيه
ومعلوم أنه في قبره أشد حاجة منه على نعشه فإنه حينئذ معرض للسؤال وغيره وقد كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقف على القبر بعد الدفن فيقول : سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل
فعلم أنه أحوج إلى الدعاء له بعد الدفن فإذا كنا على جنازته ندعو له لا ندعو به ونشفع له لا نشفع به فبعد الدفن أولى وأحرى
فبدل أهل البدع والشرك قولا غير الذي قيل لهم : بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه والشفاعة له بالاستشفاع به وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول اللهAإحسانا إلى الميت وإحسانا إلى الزائر وتذكيرا بالآخرة : سؤال الميت والإقسام به على الله وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد وأوقات الأسحار
ومن المحال أن يكون دعاء الموتى أو الدعاء بهم أو الدعاء عندهم مشروعا وعملا صالحا ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول اللهA ثم يرزقه الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون
فهذه سنة رسول اللهAفي أهل القبور بضعا وعشرين سنة حتى توفاه الله تعالى وهذه سنة خلفائه الراشدين وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان هل يمكن بشرعلى وجه الأرض أن يأتى عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع : أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها فضلا أن يصلوا عندها أو يسألوا الله بأصحابها أو يسألوهم حوائجهم فليوقفونا على أثر واحد أو حرف واحد في ذلك بلى يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر حتى لقد وجد في ذلك عدة (58/202)
مصنفات ليس فيها عن رسول اللهA ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك بلى فيها من خلاف ذلك كثير كما قدمناه من الأحاديث المرفوعة
وأما آثار الصحابة فأكثر من أن يحاط بها وقد ذكرنا إنكار عمر رضي الله عنه على أنس رضي الله عنه صلاته عند القبر وقوله له القبر القبر
وقد ذكر محمد بن إسحاق في مغازيه من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال : حدثنا أبو العالية قال : لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعا له كعبا فنسخه بالعربية فأنا أول رجل من العرب قرأه قرأته مثل ما أقرأ القرآن فقلت لأبي العالية : ما كان فيه قال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت : فما صنعتم بالرجل قال : حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه فقلت : وما يرجون منه قال : كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون فقلت : من كنتم تظنون الرجل قال : رجل يقال له : دانيال فقلت : مذ كم وجدتموه مات قال : مذ ثلاثمائة سنة قلت : ما كان تغير منه شيء قال : لا إلا شعيرات من قفاه إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره (58/203)
لئلا يفتتن به الناس ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ولو ظفر به المستأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله فهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يدانى هذا ولا يقاربه وأقاموا لها سدنة وجعلوها معابد أعظم من المساجد
فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحا لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك ودعوا عنده وسنوا ذلك لمن بعدهم ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول اللهAبالأمصار عدد كثير وهم متوافرون فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ولا دعاه ولا دعا به ولا دعا عنده ولا استشفى به ولا استسقى به ولا استنصر به ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بل على نقل ما هو دونه
وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير تلك البقعة أولا يكون فإن كان أفضل فكيف خفي علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم وتظفر به الخلوف علما وعملا ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه مع حرصهم على كل خير لا سيما الدعاء فإن المضطر يتشبث بكل سبب وإن كان فيه كراهة ما فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور ثم لا يقصدونه هذا محال طبعا وشرعا
فتعين القسم الآخر وهو أنه لا فضل للدعاء عندها ولا هو مشروع ولا مأذون فيه بقصد الخصوص بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله ألبتة بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله ولم ينزل بها سلطانا
وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير
فروى غير واحد عن المعرور بن سويد قال : صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكة صلاة الصبح فقرأ فيها : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل [ الفيل : 1 ] و لإيلاف قريش ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال : أين يذهب هؤلاء فقيل : يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهم يصلون فيه فقال : (58/204)
إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها وكذلك أرسل عمر رضي الله تعالى عنه أيضا فقطع الشجرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
بل قد أنكر رسول اللهAعلى الصحابة لما سألوه أن يجعل لهم شجرة يعلعقون عليها أسلحتهم ومتاعهم بخصوصها
فروى البخاري في صحيحه عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول اللهAقبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها : ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون [ الأعراف : 138 ] لتركبن سنن من كان قبلكم
فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه والدعاء عنده فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون
قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك : فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البراء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها
ومن له خبرة بما بعث الله تعالى به رسوله وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب وأنهم على شيء والسلف على شيء كما قيل :
سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب والأمر والله أعظم مما ذكرنا (58/205)
وقد ذكر البخاري في الصحيح عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت دخل على أبو الدرداء مغضبا فقلت له : مالك فقال : والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمدA إلا أنهم يصلون جميعا
وروي مالك في الموطأ عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال : ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة يعني الصحابة رضي الله عنهم
وقال الزهرى : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت له : ما يبكيك فقال : ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت ذكره البخاري
في لفظ آخر ما كنت أعرف شيئا على عهد رسول اللهAإلا قد أنكرته اليوم
وقال الحسن البصري : سأل رجل أبا الدرداء رضي الله عنه فقال : رحمك الله لو أن رسول اللهAبين أظهرنا هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه فغضب واشتد غضبه وقال : وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه
وقال المبارك بن فضالة : صلى الحسن الجمعة وجلس فبكى فقيل له : ما يبكيك يا أبا سعيد فقال : تلومونني على البكاء ولو أن رجلا من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم ما عرف شيئا مما كان عليه على عهد رسول اللهAأنتم اليوم عليه إلا قبلتكم هذه
وهذه هي الفتنة العظمى التي قال فيها عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجري على الناس يتخذونها سنة إذا غيرت قيل : غيرت السنة أو هذا منكر
وهذا مما يدل على أن العمل إذا جرى على خلاف السنة فلا عبرة به ولا إلتفات إليه فإن العمل قد جرى على خلاف السنة منذ زمن أبي الدرداء وأنس كما تقدم
وذكر أبو العباس أحمد بن يحيى قال : حدثني محمد بن عبيد بن ميمون حدثني عبدالله (58/206)
بن إسحق الجعفري قال : كان عبدالله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة قال : فتذاكروا يوما السنن فقال رجل كان في المجلس : ليس العمل على هذا فقال عبدالله : أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام فهم الحجة على السنة فقال ربيعة : أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء
فصل ومن أعظم مكايده : ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام التي هي
من عمله وقد أمر الله تعالى باجتناب ذلك وعلق الفلاح باجتنابه فقال : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [ المائده : 90 ] فالأنصاب : كل ما نصب يعبد من دون الله : من حجر أو شجر أو وثن أو قبر وهي جمع واحدها نصب كطنب وأطناب قال مجاهد : وقتادة وابن جريج : كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها قالوا : وليست بأصنام إنما الصنم ما يصور وينقش وقال ابن عباس : هي الأصنام التي يعبدونها من دون الله تعالى وقال الزجاج : حجارة كانت لهم يعبدونها وهي الأوثان وقال الفراء : هي الآلهة التي كانت تعبد من أحجار وغيرها (58/207)
وأصل اللفظة : الشيء المنصوب الذي يقصده من رآه ومنه قوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ المعارج : 43 ]
قال ابن عباس : إلى غاية أو علم يسرعون
وهو قول أكثر المفسرين
وقال الحسن : يعني إلى أنصابهم أيهم يستلمها أولا
قال الزجاج : وهذا على قراءة من قرأ نصب بضمتين كقوله وما ذبح على النصب [ المائده : 3 ] قال : ومعناه : أصنام لهم والمقصود : أن النصب كل شيء نصب : من خشبة أو حجر أو علم والإيفاض : الإسراع
وأما الأزلام : فقال ابن عباس رضي الله عنهما : هي قداح كانوا يستقسون بها الأمور أي يطلبون بها علم ما قسم لهم
وقال سعيد بن جبير : كانت لهم حصيات إذا اراد أحدهم أن يغزو أو يجلس استقسم بها
وقال أيضا : هي القدحان اللذان كان يستقسم بهما أهل الجاهلية في أمورهم أحدهما عليه مكتوب : أمرني ربي والآخر : نهاني ربي فإذا أرادوا أمراضربوا بها فإن خرج الذي عليه أمرني فعلوا ما هموا به وإن خرج الذي عليه نهاني تركوه
وقال أبو عبيد : الاستقسام : طلب القسمة
وقال المبرد : الاستقسام أخذ كل واحد قسمه وقيل الاستقسام : إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح كقسم اليمين
وقال الأزهري : وإن تستقسموا بالأزلام أي تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين
وقال أبو اسحاق الزجاج وغيره : الاستقسام بالأزلام حرام ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجم : لا تخرج من أجل نجم كذا واخرج من أجل طلوع نجم كذا لأن الله تعالى يقول : وما تدري نفس ماذا تكسب غدا [ لقمان : 34 ] (58/208)
وذلك دخول في علم الله عز و جل الذي هو غيب عنا فهو حرام كالأزلام التي ذكرها الله تعالى
والمقصود : أن الناس قد ابتلوا بالأنصاب والأزلام فالأنصاب للشرك والعبادة والأزلام للتكهن وطلب علم ما استأثر الله به هذه للعلم وتلك للعمل ودين الله سبحانه وتعالى مضاد لهذا وهذا والذي جاء به رسول اللهAإبطالهما وكسرالأنصاب والأزلام
فمن الأنصاب ما قد نصبه الشيطان للمشركين : من شجرة أو عمود أو وثن أو قبر أو خشبة أو عين ونحو ذلك والواجب هدم ذلك كله ومحو أثره كما أمر النبيAعليا رضي الله عنه بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللهA أن لا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا الا سويته وعمى الصحابة بأمر عمر رضي الله عنه قبر دانيال وأخفوه عن الناس ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بايع تحتها رسول اللهAأصحابه أرسل فقطعها رواه ابن وضاح في كتابه :
فقال : سمعت عيسى بن يونس يقول : أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبيA (58/209)
فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة
قال عيسى بن يونس : وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع أن الناس كانوا يأتون الشجرة فقطعها عمر رضي الله عنه
فإذا كان هذا فعل عمر رضي الله عنه بالشجرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن وبايع تحتها الصحابة رسول اللهAفماذا حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب والأوثان التي قد عظمت الفتنة بها واشتدت البلية بها
وأبلغ من ذلك : أن رسول اللهAهدم مسجد الضرار ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فسادا منه كالمساجد المبنية على القبور فإن حكم الإسلام فيها : أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار وكذلك القباب التي على القبور يحب هدمها كلها لأنها أسست على معصية الرسول لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم فبناء أسس على معصيته ومخافته بناء غير محرم وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعا
وقد أمر رسول اللهAبهدم القبور المشرفة كما تقدم
فهدم القباب والبناء والمساجد التي بنيت عليها أولى وأحرى لأنه لعن متخذي المساجد عليها ونهى عن البناء عليه فيجب المبادرة والمساعدة إلى هدم ما لعن رسول اللهAفاعله ونهى عنه والله عز و جل يقيم لدينه وسنة رسوله من ينصرهما ويذب عنهما فهو أشد غيرة وأسرع تغييرا
وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج فلى قبر وطفيه فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يصح هذا الوقف ولا يحل إثباته وتنفيذه (58/210)
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي : انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها
وقال الحافظ ابو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب : الحوادث والبدع : ومن هذا القسم أيضا ما قد عم به الابتلاء : من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك ثم يتجاوزون هذا إلى ان يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها فما أشبهها بذات أنواط التي في الحديث ثم ساق حديث أبي واقد أنهم مروا مع رسول اللهAبشجرة عظيمة خضراء يقال لها : ذات أنواط فقالوا : يارسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبيA الله أكبر هذا كما قال قوم موسى لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال : إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح
ثم ذكر ما صنعه بعض أهل العلم ببلاد إفريقية : أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية كان العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق فمن تعذر عليه نكاح أو ولد قال : امضوا بي إلى العافية فيعرف فيها الفتنة فخرج في السحر فهدمها وأذن للصبح عليها ثم (58/211)
قال : اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسا قال : فما رفع لها رأس إلى الآن
وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين كالعمود المخلق والنصب الذي كان بمسجد النارنج عند المصليىيعبده الجهال والنصب الذي كان تحت الطاحون الذي عند مقابر النصارى ينتابه الناس للتبرك به وكان صورة صنم في نهر القلوط ينذرون له ويتبركون به وقطع الله سبحانه النصب الذي كان عند الرحبة يسرج عنده ويتبرك به المشركون وكان عمودا طويلاعلى رأسه حجر كالكرة وعند مسجد درب الحجر نصب قد بنى عليه مسجد صغير يعبده المشركون يسر الله كسره
فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت ويقولون : إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر أي تقبل العبادة من دون الله تعالى فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له ويتمسحون بذلك النصب ويستلمونه ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذي أمر الله تعالى أن يتخذ منه مصلى كما ذكر الأزرقي في كتاب تاريخ مكة عن قتادة في قوله تعالى : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ البقره : 125 ] قال : إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق
وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب : فتنة أنصاب القبور وهي أصل فتنة عبادة الأصنام كما قاله السلف من الصحابة والتابعين وقد تقدم
ومن أعظم كيد الشيطان : أنه ينصب لأهل الشرك قبر معظم يعظمه الناس ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله ثم يوحي إلى أوليائه : أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيدا وجعله وثنا فقد تنقصه وهضم حقه فيسعى الجاهلون المشركون في قتله وعقوبته ويكفرونه وذنبه عند أهل الإشراك : أمره بما أمر الله به ورسوله ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله : من جعله وثنا وعيدا وإيقاد السرج عليه وبناء المساجد والقباب عليه وتجصيصه وإشادته وتقبيله واستلامه ودعائه أو الدعاء به أو السفر إليه أو الاستغاثة به من دون الله مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله : من تجريد التوحيد لله (58/212)
وأن لا يعبد إلا الله فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون واشمأزت قلوبهم وقالوا : قد تنقص أهل الرتب العالية وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر وسرى ذلك في نفوس الجهال والطعام وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظموهم وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله ويأبى الله ذلك فما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتبعون له الموافقون له العارفون بما جاء به الداعون إليه لا المتشبعون بما لم يعطوا لابسو ثياب الزور الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم ويبغونها عوجا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
فصل ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم صراط أهل
نعمته ورحمته وكرامته أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانا وأعيادا وأنصابا والنهي عن اتخاذها مساجد أو بناء المساجد عليها وإيقاد السرج عليها والسفر إليها والنذر لها واستلامها وتقبيلها وتعفير الجباه في عرصاتها : غض من أصحابها ولا تنقيص لهم ولا تنقص كما يحسبه أهل الإشراك والضلال بل ذلك من إكرامهم وتعظيمهم واحترامهم ومتابعتهم فيما يحبونه وتجنب ما يكرهونه فأنت والله وليهم ومحبهم وناصر طريقتهم وسنتهم وعلى هديهم ومنهاجهم وهؤلاء المشركون أعصى الناس لهم وأبعدهم من هديهم ومتابعتهم كالنصارى مع المسيح واليهود مع موسى عليهما السلام والرافضة مع علي رضي الله عنه فأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض
فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم دون عبادة قبورهم والعكوف عليها واتخاذها أعيادا (58/213)
فإن من اقتفى آثارهم كان متسببا إلى تكثير أجورهم باتباعه لهم ودعوته الناس إلى اتباعهم فإذا أعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر فأي تعظيم لهم واحترام في هذا وإنما اشتغل كثير من الناس بأنواع من العبادات المتبدعة التي يكرهها الله ورسوله لإعراضهم عن المشروع أو بعضه وإن قاموا بصورته الظاهرة فقد هجروا حقيقته المقصودة منه وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه عارفا بما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح مهتمزا بها كل الاهتمام أغنته عن الشرك وكل من قصر فيها أو في بعضها تجد فيه من الشرك بحسب ذلك ومن أصغى إلى كلام الله بقلبه وتدبره وتفهمه أغناه عن السماع الشيطاني الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وينبت النعفاق في القلب وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسولAبكلعيته وحدث نفسه باقتباس الهدى والعلم منه لا من غيره أغناه عن البدع والآراء والتخرصات والشطحات والخيالات التي هي وساوس النفوس وتخيلاتها ومن بعد عن ذلك فلابد له أن يتعوض عنه بما لا ينفعه كما أن من غمر قلبه بمحبة الله تعالى وذكره وخشيته والتوكل لعيه والإنابة إليه أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه وأغناه أيضا عن عشق الصور وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه أي شيء استحسنه ملكه واستعبده فالمعرض عن التوحيد مشرك شاء أو أبى والمعرض عن السنة مبتدع ضال شاء أم أبى والمعرض عن محبة الله وذكره عبد الصور شاء أم أبى والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم [ فصل ] فإن قيل : فما الذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها مع العلم بأن ساكنيها أموات لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياتا ولا نشورا قيل : أوقعهم في ذلك أمور : منها : الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله بل جميع الرسل : من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك فقل نصيبهم جدا من ذلك ودعاهم الشيطان إلى الفتنة ولم يكن (58/214)
عندهم من العلم ما يبطل دعوته فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل وعصموا بقدر ما معهم من العلم
ومنها : أحاديث مكذوبة مختلقة وضعها أشباه عباد الأصنام : من المقابرية على رسول اللهAتناقض دينه وما جاء به كحديث : إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور وحديث : لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام وضعها المشركون وراجت على أشباههم من الجهال الضلال والله بعث رسوله يقتل من حسن ظنه بالأحجار وجنب أمته الفتنة بالقبور بكل طريق كما تقدم
ومنها : حكايات حكيت لهم عن تلك القبور : أن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها وفلانا دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت له وفلانا نزل به ضرفاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره وعند السدنة والمقابرية من ذلك شيء كثير يطول ذكره وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات والنفوس مولعة بقضاء حوائجها وإزالة ضروراتها ويسمع بأن قبر فلان ترياق مجرب والشيطان له تلطف في الدعوة فيدعوهم أولا إلى الدعاء عنده فيدعو العبد بحرقة وانكسار وذلة فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه لا لأجل القبر فإنه لو دعاه كذلك في الحانة والخمارة والحمام والسوق أجابه فيظن الجاهل أن للقبر تأثيرا في إجابة تلك الدعوة والله سبحانه يجيب دعوة المضطر ولو كان كافرا وقد قال تعالى : كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا [ ] وقد قال الخليل : وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر [ البقره : 126 ] فقال الله سبحانه وتعالى : ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير [ البقره : 126 ]
فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضيا عنه ولا محبا له ولا راضيا بفعله فإنه يجيب البر والفاجر والمؤمن والكافر وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدى فيه أو يشترط في دعائه أو يكون مما لا يجوز أن يسأل فيحصل له ذلك أو بعضه فيظن أن عمله صالح (58/215)
مرضي لله ويكون بمنزلة من أملى له وأمد بالمال والبنين وهو يظن أن الله تعالى يسارع له في الخيرات وقد قال تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء [ الأنعام : 44 ]
فالدعاء قد يكون عبادة فيثاب عليه الداعي وقد يكون مسألة تقضى به حاجته ويكون مضرة عليه إما أن يعاقب بما يحصل له أو تنقص به درجته فيقضي حاجته ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه واعتداء حدوده
والمقصود : أن الشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجة أخرى : من الدعاء عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به وهذا أعظم من الذي قبله فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك
فقال أبو الحسين القدوري في شرح كتاب الكرخي : قال بشر بن الوليد : سمعت أبا يوسف يقول : قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به قال : وأكره أن يقول : أسألك بمعقد العز من عرشك وأكره أن يقول : بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام
قال أبو الحسين : أما المسألة بغير الله فمنكرة في قولهم لأنه لا حق لغير الله عليه وإنما الحق لله على خلقه وأما قوله : بمعقد العز من عرشك فكرهه أبو حنيفة ورخص فيه أبو يوسف
وقال : وروى أن النبيAدعا بذلك قال : ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التي خلق الله بها العرش مع عظمته فكأنه سأله بأوصافه (58/216)
وقال ابن بلدجى في شرح المختار : ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به فلا يقول : أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على خالقه أو يقول في دعائه : أسألك بمعقد العز من عرشك وعن أبي يوسف جوازه وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه : أكره كذا هو عند محمد حرام وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب وجانب التحريم عليه أغلب وفي فتاوى أبي محمد بن عبدالسلام : أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشيء من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم وتوقف في نبيناA لاعتقاده أن ذلك جاء في حديث وأنه لم يعرف صحة الحديث
فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجع في قضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله ثم ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثنا يعكف عليه ويوقد عليه القنديل ويعلق عليه الستور ويبني عليه المسجد ويعبده بالسجود له والطواف به وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم
قال شيخنا قدس الله روحه : وهذه الأمور المتبدعة عند القبور مراتب أبعدها عن الشرع : أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس قال : وهؤلاء من جنس عباد الأصنام ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب كما يتمثل لعباد الأصنام وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحيانا وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة وكذلك السجود للقبر والتمسح به وتقبيله المرتبة الثانية : أن يسأل الله عز و جل به وهذا يفعله كثير من المتأخرين وهو بدعة باتفاق المسلمين
الثالثة : أن يسأله نفسه
الرابعة : أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد (58/217)
فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك ويقول بعضهم : قبر فلان ترياق مجرب
والحكاية المنقولة عن الشافعي : أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر
فصل في الفرق بين زيارة الموحدين للقبور وزيارة المشركين أما
زيارة الموحدين : فمقصودها ثلاثة أشياء : أحدها : تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ وقد أشار النبيAإلى ذلك بقوله : زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة
الثاني : الإحسان إلى الميت وأن لا يطول عهده به فيهجره ويتناساه كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه فإذا زار الحي فرح بزيارته وسر بذلك فالميت أولى لأنه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم فإذا زاره وأهدى إليه هدية : من دعاء أو صدقة أو أهدى قربة ازداد بذلك سروره وفرحه كما يسر الحي بمن يزوره ويهدي له ولهذا شرع النبيAللزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة وسؤال العافية فقط ولم يشرع أن يدعوهم ولا أن يدعوا بهم ولا يصلي عندهم
الثالث : إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسولA فيحسن إلى نفسه وإلى المزور
وأما الزيارة الشركية : فأصلها مأخوذ عن عباد الأصنام (58/218)
قالوا : الميت المعظم الذي لروحه قرب ومنزلة ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى وتفيض على روحه الخيرات فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له
قالوا : فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده كله وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به
وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها
وقالوا : إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور
وبهذا السر عبدت الكواكب واتحذت لها الهياكل وصنفت لها الدعوات واتخذت الأصنام المجسدة لها وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعيادا وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج عليها وبناء المساجد عليها وهو الذي قصد رسول اللهAإبطاله ومحوه بالكلية وسد الذرائع المفضية إليه فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده وكانAفي شق وهؤلاء في شق
وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور : هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله تعالى
قالوا : فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته إليه وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان فهو شديد التعلق به فما يحصل لذلك من السلطان من الأنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به
فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم وأوجب لهم النار والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم (58/219)
قال تعالى : أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا
يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض [ الزمر : 43 ]
فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض وهو الله وحده فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم وهي التي أبطلها الله سبحانه في كتابه بقوله : واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة [ البقره : 123 ] وقوله : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة [ البقره : 254 ] وقال تعالى : وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون [ الأنعام51 ] وقال : الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولى ولا شفيع [ الأنعام32 : 4 ]
فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه كما قال تعالى : ما من شفيع إلا من بعد إذنه [ يونس : 3 ] وقال : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ البقره : 255 ] فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه ولا الشافع شفيع من دونه بل شفيع بإذنه
والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك والعبد المأمور فالشفاعة التي أبطلها الله : شفاعة الشريك فإنه لا شريك له والتي أثبتها : شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له ويقول : اشفع في فلان ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه وهم الذين ارتضى الله سبحانه
قال تعالى : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [ الأنبياء : 28 ] وقال : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولا [ طه : 109 ] (58/220)
فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاء قول المشفوع له وإذنه للشافع فيه فأما المشرك فإنه لا يرتضيه ولا يرضى قوله فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين : رضاه عن المشفوع له وإذنه للشافع فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة
وسر ذلك : أن الأمر كله لله وحده فليس لأحد معه من الأمر شيء وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده : هم الرسل والملائكة المقربون وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئا إلا بعد إذنه لهم وأمرهم ولا سيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئا فهم مملوكون مربوبون أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه فإذا أشرك بهم المشرك واتخذهم شفعاء من دونه ظنا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له ويمتنع عليه فإن هذا محال ممتنع شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي
والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق والرب والمربوب والسيد والعبد والمالك والمملوك والغني والفقير والذي لا حاجة به إلى أحد قط والمحتاج من كلوجه إلى غيره
فالشفعاء عند المخلوقين : هم شركاؤهم فإن قيام مصالحهم بهم وهم أعوانهم وأنصارهم الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس
فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنتقض طاعتهم لهم ويذهبون إلى غيرهم فلا يجدون بدا من قبول شفاعتهم على الكره والرضى فأما الغني الذي غناه من لوازم ذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته وكل من في السموات والأرض عبيد له مقهورون بقهره مصرفون بمشيئته لو أهلكهم جميعا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة
قال تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما والله على كل شىء قدير [ المائده : 17 ] وقال سبحانه في سيدة آى القرآن آية الكرسي : له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي (58/221)
يشفع عنده إلا بإذنه [ البقره : 255 ] وقال : قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض [ الزمر : 44 ]
فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده وأن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه فإنه ليس بشريك بل مملوك محض بخلاف شفاعة أهل الدينا بعضهم عند بعض فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس ويفعلها بعضهم مع بعض ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنها هي المعروفة المشاهدة عند الناس ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه فإنه الذي أذن والذي قبل والذي رضي عن المشفوع والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله
فمتخذ الشفيع مشرك لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه ومرجوه ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده ويطلب رضاه ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه
قال تعالى : أم اتخذو من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا [ الزمر : 43 ] وقال تعالى : ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ يونس : 18 ]
فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم هم وإنما تحصل بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له
وسر الفرق بين الشفاعتين : أن شفاعة المخلوق للمخلوق وسؤاله للمشفوع عنده لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده لا خلقا ولا أمرا ولا إذنا بل هو سبب محرك له من خارج كسائر الأسباب التي تحرك الأسباب وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه (58/222)
في أمر يكرهه ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض فيقبل شفاعة الشافع وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها ولا يقبلها وقد يتعارض عنده الأمران فيبقى مترددا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد وبين الشفاعة التي تقتضي القبول فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح فشفاعة الإنسان عند المخلوق مثله : هي سعى في سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به ولو على كره منه فمنزلة الشفاعة عنده منزلة من يأمر غيره أو يكرهه على الفعل إما بقوة وسلطان وإما بما يرغبه فلابد أن يحصل للمشفوع إليه من الشافع إما رغبة ينتفع بها وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع ويأذن له فيها ويحبها منه ويرضى عن الشافع لم يمكن أن توجد والشافع لا يشفع عنده لحاجة الربإليه ولا لرهبته منه ولا لرغبته فيما لديه وإنما يشفع عنده مجرد امتثال لأمره وطاعة له فهو مأمور بالشفاعة مطيع بامتثال الأمر فإن أحدا من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله تعالى وخلقه فالرب سبحانه وتعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره وهو في الحقيقة شريكه ولو كان مملوكه وعبده فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر والمعاونة وغير ذلك كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله منه : من رزق أو نصر أو غيره فكلك منهما محتاج إلى الآخر
ومن وفقه الله تعالى لفهم هذا الموضع ومعرفته تبين له حقيقة التوحيد والشرك والفرق بين ما أثبته الله تعالى من الشفاعة وبين ما نفاه وأبطله ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (58/223)
فصل ومن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من
العلم والعقل والدين وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين : سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان فهو قرآن الشيطان والحجاب الكثيف عن الرحمن وهو رقية اللواط والزنا وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكرا منه وغرورا وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجورا فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات وهدأت منهم الحركات وعكفت قلوبهم بكليتها عليه وانصبت انصبابة واحدة إليه فتمايلوا ولا كتمايل النشوان وتكسروا في حركاتهم ورقصهم أرأيت تكسر المخانيث والنسوان ويحق لهم ذلك وقد خالط خماره النفوس ففعل فيها أعظم ما يفعله حميا الكؤوس فلغير الله بل للشيطان قلوب هناك تمزق وأثواب تشقق وأموال في غير طاعة الله تنفق حتى إذا عمل السكر فيهم عمله وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله واستفزهم بصوبه وحيله وأجلب عليهم برجله وخيله وخز في صدورهم وخزا وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار وتارة كالدباب ترقص وسيط الديار فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام ويا شماتة أعداء الإسلام بالدين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطربا واتخذوا دينهم لهوا ولعبا مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكنا ولا أزعج له قاطنا ولا أثار فيه وجدا ولا قدح فيه (58/224)
من لواعج الشوق إلى النار زندا حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان وولج مزموره سمعه تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت وعلى أقدامه فرقصت وعلى يديه فصفقت وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت وعلى أنفاسه فتصاعدت وعلى زفراته فتزايدت وعلى نيران أشواقه فاشتعلت فيا أيها الفاتن المفتون والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن وهذه الأذواق والمواجيد عند قراءة القرآن المجيد وهذه الأحوال السنيات عند تلاوة السور والآيات ولكن كل امرىء يصبو إلى ما يناسبه ويميل إلى ما يشاكله والجنسية علة الضم قدرا وشرعا والمشاكلة سبب الميل عقلا وطبعا فمن أين هذا الإخاء والنسب لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب ومن أين هذه المصالحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللا أفتتخذونه وذرعيته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا [ ]
ولقد أحسن القائل :
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة ... لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا ... والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن ... فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقييده بأوامر ونواهي
سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى ... زجرا وتخويفا بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن ... شهواتها يا ذبحها المتناهي
وأتى السماع موافقا أغراضها ... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
أين المساعد للهوى من قاطع ... أسبابه عند الجهول الساهي
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه ... وانظر إلى النسوان عند ملاهي (58/225)
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
واحكم فأي الخمرتين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله
وقال آخر :
برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرض من سماع الغنا
وكم قلت : يا قوم انتم على ... شفا جرف ما به من بنا
شفا جرف تحته هوة ... إلى درك كم به من عنا
وتكرار ذا النصح منا لهم ... لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى ... وماتوا على تنتنا تنتنا
ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة المهدي تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض وتحذر من سلوك سبيلهم واقتفاء آثارهم من جميع طوائف الملة
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في خطبة كتابه في تحريم السماع :
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين ونسأله أن يرينا الحق حقا فنتبعه والباطل باطلا فنجتنبه وقد كان الناس فيما مضى يستسر أحدهم بالمعصية إذا واقعها ثم يستغفر ويتوب إليه منها ثم كثر الجهل وقل العلم وتناقص الأمر حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارا ثم ازداد الأمر إدبارا حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين وفقنا الله وإياهم استزلهم الشيطان واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو وسماع الطقطقة والنقير واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقت سبيل المؤمنين وخالفت الفقهاء والعلماء وحملة الدين
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [ النساء : 115 ] فرأيت أن أوضح الحق وأكشف عن شبه أهل الباطل بالحجج التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم في أقاصى الأرض ودانيها حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها والله ولي التوفيق
ثم قال : أما مالك فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال : إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب (58/226)
وسئل مالك رحمه الله : عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق
قال : وأما أبو حنيفة : فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب
وكذلك مذهب أهل الكوفة : سفيان : وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافا أيضا بين أهل البصرة في المنع منه
قلت : مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب وقوله فيه أغلظ الأقوال وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف حتى الضرب بالقضيب وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة وأبلغ من ذلك أنهم قالوا : إن السماع فسق والتلذذ به كفر هذا لفظهم ورووا في ذلك حديثا لا يصح رفعه
قالوا : ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره
وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي : ادخل عليهم بغير إذنهم لأن النهي عن المنكر فرض فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض
قالوا : ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره فإن أصر حبسه أو ضربه سياطا وإن شاء أزعجه عن داره
وأما الشافعي : فقال في كتاب أدب القضاء : إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته
وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحق وابن الصباغ
قال الشيخ أبو إسحق في التنبيه : ولا تصح يعني الإجارة على منفعة محرمة كالغناء والزمر وحمل الخمر ولم يذكر فيه خلافا وقال في المهذب : ولا يجوز على المنافع المحرمة لأنه محرم فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم فقد تضمن كلام الشيخ أمورا (58/227)
أحدها : أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة
الثاني : أن الاستئجار عليها باطل
الثالث : أن أكل المال به أكل مال بالباطل بمنزلة أكله عوضا عن الميتة والدم
الرابع : أنه لا يجوز للرجل بذل ماله للمغني ويحرم عليه ذلك فإنه بذل ماله في مقابلة محرم وأن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة الخامس : أن الزمر حرام
وإذا كان الزمر الذي هو أخف آلات اللهو حراما فكيف بما هو أشد منه كالعود والطنبور واليراع ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك فأقل ما فيه : أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور
وكذلك قال أبو زكريا النووي في روضته :
القسم الثاني : أن يغنى ببعض آلات الغناء بما هو من شعار شاربي الخمر وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار يحرم استعماله واستماعه قال : وفي اليراع وجهان صحح البغوي التحريم ثم ذكر عن الغزالي الجواز قال : والصحيح تحريم اليراع وهو الشبابة
وقد صنف أبو القاسم الدولعى كتابا في تحريم اليراع
قد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء فقال في فتاويه :
أما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة والدفع منفردا فمن لايحصل أو لا يتأمل ربما اعتقد خلافا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي وذلك وهم بين من الصائر إليه تنادي عليه أدلة الشرع والعقل مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد قال : وقولهم في السماع (58/228)
المذكور : إنه من القربات والطاعات قول مخالف لإجماع المسلمين ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [ النساء : 115 ]
وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين بلاء الإسلام منهم : المحللون لما حرم الله والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه
والشافعي وقدماء أصحابه والعارفون بمذهبه : من أغلظ الناس قولا في ذلك
وقد تواتر عن الشافعي أنه قال : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن فإذا كان هذا قوله في التغبير وتعليله : أنه يصد عن القرآن وهو شعر يزهد في الدنيا بغنى به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه فليت شعري ما يقول في سماع التغبير عنده كتفلة في بحر قد اشتمل على كل مفسدة وجمع كل محرم فالله بين دينه وبين كل متعلم مفتون وعابد جاهل قال سفيان بن عيينة : كان يقال : احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة وجده من هذين المفتونين
فصل وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبدالله ابنه : سألت أبي عن الغناء
فقال : الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني : ثم ذكر قول مالك إنما يفعله عندنا الفساق قال عبدالله : وسمعت أبي يقول : سمعت يحيى القطان يقول : لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة لكان فاسقا (58/229)
قال أحمد : وقال سليمان التيمي : لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله
ونص على كسر الآت اللهو كالطنبور وغيره إذا رآها مكشوفة وأمكنه كسرها وعنه في كسرها إذا كانت مغطاة تحت ثيابه وعلم بها روايتان منصوصتان
ونص في أيتام ورثوا جارية مغنية وأرادوا بيعها فقال : لا تباع إلا على أنها ساذجة فقالوا : إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفا أو نحوها وإذا بيعت ساذجة لا تساوي ألفين فقال : لا تباع إلا على أنها ساذجة ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام
فصل وأما سماعه من المرأة الأجنبية أو الأمرد فمن أعظم المحرمات
وأشدها فسادا للدين
قال الشافعي رحمه الله : وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته وأغلظ القول فيه وقال : هو دياثة فمن فعل ذلك كان ديوثا
قال القاضي أبو الطيب : وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها فاسقا
قال : وكان الشافعي يكره التغبير وهو الطقطقة بالقضيب ويقول وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن
قال : وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام ومستمعه فاسق واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما
قلت : يريد بهما إبراهيم بن سعد وعبيدالله بن الحسن فإنه قال : وما خالف في الغناء إلا رجلان : إبراهيم بن سعد فإن الساجي حكى عنه : أنه كان لا يرى به بأسا والثاني : عبيدالله بن الحسن العنبري قاضي البصرة وهو مطعون فيه قال أبو بكر الطرطوشي : وهذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين لأنهم جعلوا الغناء دينا (58/230)
وطاعة ورأت إعلانه في المساجد والجوامع وسائر البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة وليس في الأمة من رأى هذا الرأى
قلت : ومن أعظم المنكرات : تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله في المسجد الأقصى عشية عرفة ويقيمونه أيضا في مسجد الخيف أيام منى وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي مرارا ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه والناس في الطواف فاستدعيت حزب الله وفرقنا شملهم ورأيتهم يقيمونه بعرفات والناس في الدعاء والتضرع والابتهال والضجيج إلى الله وهم في هذا السماع الملعون باليراع والدف والغناء
فإقرار هذه الطائفة على ذلك فسق يقدح في عدالة من أقرهم ومنصبه الديني
وما أحسن ما قال بعض العلماء وقد شاهد هذا وأفعالهم :
ألا قل لهم قول عبد ... نصوح وحق النصيحة أن تستمع
متى علم الناس في ديننا ... بأن الغناء سنة تتبع
وأن يأكل المرء أكل الحمار ... ويرقص في الجمع حتى يقع
وقالوا : سكرنا بحب الإله ... وما أسكر القوم إلا القصع
كذاك البهائم إن أشبعت ... يرقصها ريها والشبع
ويسكره الناى ثم الغنا ... ويس لو تليت ما انصدع
فيا للعقول ويا للنهى ... ألا منكر منكم للبدع
تهان مساجدنا بالسماع ... وتكرم عن مثل ذاك البيع
وقال آخر وأحسن ما شاء :
ذهب الرجال وحال دون مجالهم ... زمرمن الأوباش والأنذال (58/231)
زعموا بأنهم على آثارهم ... ساروا ولكن سيرة البطال
لبسوا الدلوق مرقعا وتقشفوا ... كتقشف الأقطاب والأبدال
قطعوا طريق السالكين وغوروا ... سبل الهدى بجهالة وضلال
عمروا ظواهرهم بأثواب التقى ... وحشوا بواطنهم من الأدغال
إن قلت : قال الله قال رسوله ... همزوك همز المنكر المتغالي
أو قلت : قد قال الصحابة والأولى ... تبعوهم في القول والأعمال
أو قلت : قال الآل آل المصطفى ... صلى عليه الله أفضل آل
أو قلت : قال الشافعي : وأحمد ... وأبو حنيفة والإمام العالي
أو قلت : قال صحابهم من بعدهم ... فالكل عندهم كشبه خيال
ويقول : قلبي قال لي عن سره ... عن سرع سري عن صفا أحوالي
عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي ... عن شاهدي عن واردي عن حالي
عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي ... عن سر ذاتي عن صفات فعالي
دعوى إذا حققتها ألفيتها ... ألقاب زور لفقت بمحال
تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا ... بظواهر الجهال والضلال
جعلوا المرا فتحا وألفاظ الخنا ... شطحا وصالوا صولة الإدلال
نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم ... نبذ المسافر فضلة الأكال
جعلوا السماع مطية لهواهم ... وغلوا فقالوا فيه كل محال
هو طاعة هو قربة هو ... سنة صدقوا لذاك الشيخ ذي الإضلال
شيخ قديم صادهم بتحيل ... حتى أجابوا دعوة المحتال
هجروا له القرآن والأخبار ... والآثار إذ شهدت لهم بضلال
ورأوا سماع الشعر أنفع للفتى ... من أوجه سبع لهم بتوال
تالله ما ظفر العدو بمثلها ... من مثلهم واخيبة الآمال
نصب الحبال لهم فلم يقعوا بها ... فأتى بذا الشرك المحيط الغالي (58/232)
فإذا بهم وسط العرين ممزقى ... الأثواب والأديان والأحوال
لا يسمعون سوى الذي يهوونه ... شغلا به عن سائر الأشغال
ودعوا إلى ذات اليمين فأعرضوا ... عنها وسار القوم ذات شمال
خروا على القرآن عند سماعه ... صما وعميانا ذوي إهمال
وإذا تلا القارى عليهم سورة ... فأطالها عدوه في الأثقال
ويقول قائلهم : أطلت وليس ذا ... عشر فخفف أنت ذو إملال
هذا وكم لغو وكم صخب وكم ... ضحك بلا أدب ولا إجمال
حتى إذا قام السماع لديهم ... خشعت له الأصوات بالإجلال
وامتدت الأعناق تسمع وحى ... ذاك الشيخ من مترنم قوال
وتحركت تلك الرءوس وهزها ... طرب وأشواق لنيل وصال
فهنا لك الأشواق والأشجان ... والأحوال لا أهلا بذي الأحوال
تالله لو كانوا صحاة أبصروا ... ماذا دهاهم من قبيح فعال
لكنما سكر السماع أشد ... من سكر المدام وذا بلا إشكال
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... نالت من الخسران كل منال
يا أمة لعبت بدين نبيها ... كتلاعب الصبيان في الأوحال
أشمتمو أهل الكتاب بدينكم ... والله لن يرضوا بذي الأفعال
كم ذا نعير منهم بفريقكم ... سرا وجهرا عند كل جدال
قالوا لنا : دين عبادة أهله ... هذا السماع فذاك دين محال
بل لا تجىء شريعة بجوازه ... فسلوا الشرائع تكتفوا بسؤال
لو قلتمو فسق ومعصية وتزيين ... من الشيطان للأنذال
ليصد عن وحى الإله ودينه ... وينال فيه حيلة المحتال
كنا شهدنا أن ذا دين أتى ... بالحق دين الرسل لا بضلال
والله منهم قد سمعنا ذا إلى الآذان من أفواههم بمقال (58/233)
وتمام ذاك القول بالحيل التي ... فسخت عقود الدين فسخ فصال
جعلته كالثوب المهلهل نسجه ... فيه تفصله من الأوصال
ما شئت من مكر ومن خدع ... ومن حيل وتلبيس بلا إقلال
فاحتل على إسقاط كل فريضة ... وعلى حرام الله بالإحلال
واحتل على المظلوم يقلب ظالما وعلى الظلوم بضد تلك الحال
واقلب وحول فالتحيل كله ... في القلب والتحويل ذو إعمال
إن كنت تفهم ذا ظفرت بكل ما ... تبغى من الأفعال والأقوال
واحتل على شرب المدام وسمها ... غير اسمها واللفظ ذو إجمال
واحتل على أكل الربا واهجر شنا ... عة لفظه واحتل على الابدال
واحتل على الوطء الحرام ولا تقل ... هذا زنا وانكح رخى البال
واحتل على حل العقود وفسخها ... بعد اللزوم وذاك ذو إشكال
إلا على المحتال فهو طبيبها ... يا محنة الأديان بالمحتال
واحتل على نقض الوقوف وعودها ... طلقا ولا تستحي من إبطال
فكر وقدر ثم فصل بعد ذا ... فإذا غلبت فلج في الإشكال
واحتل على الميراث فانزعه م ... الوراث ثم ابلع جميع المال
قد أثبتوا نسبا وحصرا فيكم ... حتى تحوز الإرث للأموال
واعمد إلى تلك الشهادة واجعل ... الإبطال همك تحظ بالابطال
فالحصر إثبات ونفى غير ... معلوم وهذا موضع الاشكال
واحتل على مال اليتيم فإنه ... رزق هنى من ضعيف الحال
لا سوطه تخشى ولا من سيفه ... والقول قولك في نفاذ المال
واحتل على أكل الوقوف فإنها ... مثل السوائب ربة الإهمال
فأبو حنيفة عنده هي باطل ... في الأصل لم تحتج إلى إبطال
فالمال مال ضائع أربابه ... هلكوا فخذ منه بلا مكيال (58/234)
وإذا تصح بحكم قاض عادل ... فشروطها صارت إلى اضمحلال
قد عطل الناس الشروط وأهملوا ... مقصودها فالكل في إهمال
وتمام ذاك قضاتنا وشهودنا ... فاسأل بهم ذا خبرة بالحال
أما الشهود فهم عدول عن طريق ... العدل في الأقوال والأفعال
زورا وتنميقا وكتمانا ... وتلبيسا وإسرافا بأخذ نوال
ينسى شهادته ويحلف إنه ... ناس لها والقلب ذو إغفال
فإذا رأى المنقوش قال : ذكرتها ... يا للمذكر جئت بالآمال
ويقول قائلهم : أخوض النار في ... نزر يسير ذاك عين خبال
ثقل لى الميزان إني خائض ... للمنكبين أجر بالأغلال
أما القضاة فقد تواتر عنهم ... ما قد سمعت فلا تفه بمقال
ماذا تقول لمن يقول : حكمت أنت ... فاسق أو كافر في الحال
فإذا استغثت أغثت بالجلد الذي ... قد طرقوه كمثل طرق نعال
فيقول طق فتقول : قط فتعارضا ... ويكون قول الجلد ذا إعمال
فأجارك الرحمن من ضرب ومن ... عرض ومن كذب وسوء مقال
هذا ونسبة ذاك أجمعه إلى ... دين الرسول وذا من الأهوال
حاشا رسول الله يحكم بالهوى ... والجهل تلك حكومة الضلال
والله لو عرضت عليه كلها ... لاجتثها بالنقض والإبطال
إلا التي منها يوافق حكمه ... فهو الذي يلقاه بالإقبال
أحكامه عدل وحق كلها ... في رحمة ومصالح وحلال
شهدت عقول الخلق قاطبة بما ... في حكمه من صحة وكمال
فإذا أتت أحكامه ألفيتها ... وفق العقول تزيل كل عقال
حتى يقول السامعون لحكمه : ... ما بعد هذا الحق غير ضلال
لله أحكام الرسول وعدلها ... بين العباد ونورها المتلالى (58/235)
كانت بها في الأرض أعظم رحمة ... والناس في سعد وفي إقبال
أحكامهم تجرى على وجه السداد ... وحالهم في ذاك أحسن حال
أمنا وعزا في هدى وتراحم ... وتواصل ومحبة وجلال
فتغيرت أوضاعها حتى غدت ... منكورة بتلوث الأعمال
فتغيرت أعمالهم وتبدلت ... أحوالهم بالنقص بعد كمال
لو كان دين الله فيهم قائما ... لرأيتهم في أحسن الأحوال
وإذا همو حكموا بحكم جائر ... حكموا لمنكره بكل وبال
قالوا : أتنكر حكم شرع محمد ... حاشا لذا الشرع الشريف العالي
عجت فروج الناس ثم حقوقهم ... لله بالبكرات والآصال
كم تستحل بكل حكم باطل ... لا يرتضيه ربنا المتعالي
والكل في قعر الجحيم سوى الذي ... يقضى بدين الله لا لنوال
أو ما سمعت بأن ثلثيهم غدا ... في النار في ذاك الزمان الخالي
وزماننا هذا فربك عالم ... هل فيه ذاك الثلث أم هو خالي
يا باغى الإحسان يطلب ربه ... ليفوز منه بغاية الآمال
انظر إلى هدة الصحابة والذي ... كانوا عليه في الزمان الخالى
واسلك طريق القوم أين تيمموا ... خذ يمنة ما الدرب ذات شمال
تالله ما اختاروا لأنفسهم سوى ... سبل الهدى في القول والأفعال
درجوا على نهج الرسول وهديه ... وبه اقتدوا في سائر الأحوال
نعم الرفيق لطالب يبغى الهدى ... فمآله في الحشر خير مآل
القانتين المخبتين لربهم ... الناطقين بأصدق الأقوال
التاركين لكل فعل سيء ... والعاملين بأحسن الأعمال
أهواؤهم تبع لدين نبيهم ... وسواهم بالضد في ذي الحال
ما شابهم في دينهم نفص ... ولا في قولهم شطح الجهول الغالي (58/236)
عملوا بما علموا ولم يتكلفوا ... فلذاك ما شابوا الهدى بضلال
وسواهم بالضد في الأمرين قد ... تركوا الهدى ودعوا إلى الإضلال
فهم الأدلة للحيارى من يسر ... بهداهم لم يخش من إضلال
وهم النجوم هداية وإضاءة ... وعلو منزلة وبعد منال
يمشون بين الناس هونا ... نطقهم بالحق لا بجهالة الجهال
حلما وعلما مع تقى ... وتواضع ونصيحة مع رتبة الإفضال
يحيون ليلهم بطاعة ربهم ... بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجرى بفيض دموعهم ... مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم ... لعدوهم من أشجع الأبطال
وإذا بدا علم الرهان رأيتهم ... يتسابقون بصالح الأعمال
بوجوههم أثر السجود لربهم ... وبها أشعة نوره المتلالي
ولقد أبان لك الكتاب صفاتهم ... في سورة الفتح المبين العالي
وبرابع السبع الطوال صفاتهم ... قوم يحبهم ذوو إدلال
وبراءة والحشر فيها وصفهم ... وبهل أتى وبسورة الأنفال
فصل هذا السماع الشيطاني المضاد للسماع الرحماني له في الشرع بضعة
عشر اسما : اللهو واللغو والباطل والزور والمكاء والتصدية ورقية الزنا وقرآن الشيطان ومنبت النفاق في القلب والصوت الأحمق والصوت الفاجر وصوت الشيطان ومزمور الشيطان والسمود أسماؤه دلت على أوصافه تبا لذي الأسماء والأصاف فنذكر مخازي هذه الأسماء ووقوعها عليه في كلام الله وكلام رسوله والصحابة ليعلم أصحابه وأهله بما به ظفروا وأي تجارة رابحة خسروا : (58/237)
فدع صاحب المزمار والدف والغنا وما اختاره عن طاعة الله مذهبا
ودعه يعش في غيه وضلاله ... على تاتنا يحيا ويبعث أشيبا
وفي تنتنا يوم المعاد نجاته ... إلى الجنة الحمراء يدعى مقربا
سيعلم يوم العرض أي بضاعة ... أضاع وعند الوزن ما خف أو ربا
ويعلم ما قد كان فيه حياته ... إذا حصلت أعماله كلها هبا
دعاه الهدى والغى من ذا يجيبه ... فقال لداعي الغى : أهلا ومرحبا
وأعرض عن داعي الهدى قائلا له : ... هواى إلى صوت المعازف قد صبا
يراع ودف بالصنوج وشاهد ... وصوت مغن صوته يقنص الظبا
إذا ما تغنى فالظباء تجيبه ... إلى أن تراها حوله تشبه الدبا
فما شئت من صيد بغير تطارد ... ووصل حبيب كان بالهجر عذبا
فيا آمري بالرشد لو كنت حاضرا ... لكان توالي اللهو عندك أقربا
فصل فالاسم الأول : اللهو ولهو الحديث قال تعالى : ومن
الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم [ لقمان : 7 ]
قال الواحدى وغيره : أكثر المفسرين : على أن المراد بلهو الحديث : الغناء قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه وقاله عبدالله بن مسعود في رواية أبي الصهباء عنه وهو قول مجاهد وعكرمة
وروى ثور بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 7 ] قال : هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلا ونهارا (58/238)
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : هو اشتراء المغني والمغنية بالمال الكثير والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل وهذا قول مكحول
وهذا اختيار أبي إسحاق أيضا
وقال : أكثر ما جاء في التفسير : أن لهو الحديث ههنا هو الغناء لأنه يلهى عن ذكر الله تعالى
قال الواحدي : قال أهل المعاني : ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء فلفظ الشراء يذكر في الاستبدال والاختيار وهو كثير في القرآن قال : ويدل على هذا : ما قاله قتادة في هذه الآية : لعله أن لا يكون أنفق مالا قال : وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق
قال الواحدي : وهذه الآية على هذا التفسير تدل على تحريم الغناء ثم ذكر كلام الشافعي في رد الشهادة بإعلان الغناء
قال : وأما غناء القينات : فذلك أشد ما في الباب وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه وهو ما روي أن النبيAقال : من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة الآنك : الرصاص المذاب
وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعا إلى النبيA
ففي مسند الإمام أحمد ومسند عبدالله بن الزبير الحميدي وجامع الترمذي من حديث أبي أمامة والسياق للترمذي : أن النبيAقال : لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا نزلت هذه الآية : ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله [ ] وهذا الحديث وإن كان (58/239)
مداره على عبيدالله بن زحر عن علي بن يزيد الإلهانى عن القاسم فعبيد الله بن زحر ثقة والقاسم ثقة وعلي ضعيف إلا أن للحديث شواهد ومتابعات سنذكرها إن شاء تعالى ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث : بأنه الغناء فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود
قال أبو الصهباء : سألت ابن مسعود عن قوله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث فقال : والله الذي لا إله غيره هو الغناء يرددها ثلاث مرات
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أنه الغناء
قال الحاكم أبو عبدالله في التفسير من كتاب المستدرك : ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين : حديث مسند
وقال في موضع آخر من كتابه : هو عندنا في حكم المرفوع
وهذا وإن كان فيه نظر فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم فهم أعلم الأمة بمراد الله عز و جل من كتابه فعليهم نزل وهم أول من خوطب به من الأمة وقد شاهدوا تفسيره من الرسولAعلما وعملا وهم العرب الفصحاء على الحقيقة فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء وتفسيره : بأخبار الأعاجم وملوكها وملوك الروم ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة يشغلهم به عن القرآن فكلاهما لهو الحديث ولهذا قال ابن عباس : لهو الحديث : الباطل والغناء
فمن الصحابة من ذكر هذا ومنهم من ذكر الآخر ومنهم من جمعهما
والغناء أشد لهوا وأعظم ضررا من أحاديث الملوك وأخبارهم فإنه رقية الزنا ومنبت النفاق وشرك الشيطان وخمرة العقل وصده عن القرآن أعظم من صد
غيره من الكلام الباطل لشدة ميل النفوس إليه ورغبتها فيه
إذا عرف هذا فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن وإن لم ينالوا جميعه فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث (58/240)
بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرا كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرا وهو الثقل والصمم وإذا علم منه شيئا استهزأ به فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم فلهم حصة ونصيب من هذا الذم
يوضحه : أنك لا تجد أحدا عنى بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علما وعملا وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك وثقل عليه سماع القرآن وربما حمله الحال على أن يسكت القارىء ويستطيل قراءته ويستزيد المغني ويستقصر نوبته وأقل ما في هذا : أن يناله نصيب وافر من هذا الذم إن لم يحظ به جميعه والكلام في هذا مع من قلبه بعض حياة يحس بها فأما من مات قلبه وعظمت فتنته فقد سد على نفسه طريق النصيحة : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزى ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ المائده : 41 ]
فصل الاسم الثاني والثالث : الزور واللغو
قال تعالى : والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما [ ]
قال محمد بن الحنفية : الزور ههنا الغناء وقاله ليث عن مجاهد وقال الكلبى : لا يحضرون مجالس الباطل
واللغو في اللغة : كل ما يلغى ويطرح والمعنى : لا يحضرون مجالس الباطل وإذا مروا بكل ما يلغى من قول وعمل أكرموا أنفسهم أن يقفوا عليه أو يميلوا إليه ويدخل في هذا : أعياد المشركين كما فسرها به السلف والغناء وأنواع الباطل كلها (58/241)
قال الزجاج : لا يجالسون أهل المعاصى ولا يمالئونهم ومروا مر الكرام الذين لا يرضون باللغو لأنهم يكرمون أنفسهم عن الدخول فيه والاختلاط بأهله وقد روى أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : مر بلهو فأعرض عنه فقال رسول اللهA إن أصبح ابن مسعود لكريما وقد أثنى الله سبحانه على من أعرض عن اللغو إذا سمعه بقوله : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم [ القصص : 55 ]
وهذه الآية وإن كان سبب نزولها خاصا فمعناها عام متناول لكل من سمع لغوا فأعرض عنه وقال بلسانه أو بقلبه لأصحابه : لنا أعمالنا ولكم أعمالكم
وتأمل كيف قال سبحانه : لا يشهدون الزور [ الفرقان : 72 ] ولم يقل : بالزور لأن يشهدون بمعنى : يحضرون فمدحهم على ترك حضور مجالس الزور فكيف بالتكلم به وفعله والغناء من أعظم الزور
والزور : يقال على الكلام الباطل وعلى العمل الباطل وعلى العين نفسها كما في حديث معاوية لما أخذ قصة من شعر يوصل به فقال : هذا الزور فالزور : القول والفعل والمحل
وأصل اللفظة من الميل ومنه الزور بالفتح ومنه : زرت فلانا إذا ملت إليه وعدلت إليه فالزور : ميل عن الحق الثابت إلى الباطل الذي لا حقيقة له قولا وفعلا (58/242)
فصل الاسم الرابع : الباطل والباطل : ضد الحق يراد به المعدوم
الذي لا وجود له والموجود الذي مضرة وجوده أكثر من منفعته
فمن الأول : قول الموحد : كل إله سوى الله باطل ومن الثاني قوله : السحر باطل والكفر باطل قال تعالى : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ الإسراء : 81 ]
فالباطل إما معدوم لا وجود له وإما موجود لا نفع له فالكفر والفسوق والعصيان والسحر والغناء واستماع الملاهي : كله من النوع الثاني
قال ابن وهب : أخبرني سليمان بن بلال عن كثير بن زيد : أنه سمع عبيدالله يقول للقاسم بن محمد : كيف ترى في الغناء فقال له القاسم : هو باطل فقال : قد عرفت أنه باطل فكيف ترى فيه فقال القاسم : أرأيت الباطل أين هو قال : في النار قال : فهو ذاك
وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما : ما تقول في الغناء أحلال هو أم حرام فقال : لا أقول حراما إلا ما في كتاب الله فقال : أفحلال هو فقال : ولا أقول ذلك ثم قال له : أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء فقال الرجل : يكون مع الباطل فقال له ابن عباس : اذهب فقد أفتيت نفسك
فهذا جواب ابن عباس رضي الله عنهما عن غناء الأعراب الذي ليس فيه مدح الخمر والزنا واللواط والتشبيب بالأجنبيات وأصوات المعازف والآلات المطربات فإن غناء القوم لم يكن فيه شيء من ذلك ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا فيه أعظم قول فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير وأعظم من فتنته
فمن أبطل الباطل أن تأتي شريعة بإباحته فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس قياس الربا على البيع والميتة على المذكاة والتحليل الملعون فاعله على النكاح الذي هو (58/243)
سنة رسول اللهA وهو أفضل من التخلي لنوافل العبادة فلو كان نكاح التحليل جائزا في الشرع لكان أفضل من قيام الليل وصيام التطوع فضلا أن يلعن فاعله
فصل وأما اسم المكاء والتصدية فقال تعالى عن الكفار : وما كان
صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية [ ]
قال ابن عباس وابن عمر وعطية ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة : المكاء : الصفير والتصدية : التصفيق
وكذلك قال أهل اللغة : المكاء : الصفير يقال : مكا يمكو مكاء إذا جمع يديه ثم صفر فيهما ومنه : مكت است الدابة إذا خرجت منها الريح بصوت ولهذا جاء على بناء الأصوات كالرغاء والعواء والثغاء قال ابن السكيت : الأصوات كلها مضمومة إلا حرفين : النداء والغناء
وأما التصدية : فهي في اللغة : التصفيق يقال : صدى يصدى تصدية إذا صفق بيديه قال حسان بن ثابت يعيب المشركين بصفيرهم وتصفيقهم :
إذا قام الملائكة انبعثتم ... صلاتكم التصدي والمكاء
وهكذا الأشباه يكون المسلمون في الصلوات الفرض والتطوع وهم في الصفير والتصفيق
قال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت عراة ويصفرون ويصفقون
وقال مجاهد : كانوا يعارضون النبيAفي الطواف ويصفرون ويصفقون يخلطون عليه طوافه وصلاته ونحوه عن مقاتل
ولا ريب أنهم كانوا يفعلون هذا وهذا (58/244)
فالمتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق أشباه النوع الأول وإخوانهم المخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه النوع الثاني
قال ابن عرفة وابن الأنباري : المكاء والتصدية ليسا بصلاة ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها : المكاء والتصدية فألزمهم ذلك عظيم الأوزار وهذا كقولك : زرته فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة
والمقصود : أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه فيهم شبه من هؤلاء ولو أنه مجرد الشبه الظاهر فلهم قسط من الذم بحسب تشبههم بهم وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح لئلا يتشبهوا بالنساء فكيف إذا فعلوه لا لحاجة وقرنوا به أنواعا من المعاصي قولا وفعلا
فصل وأما تسميته رقية الزنى فهو اسم موافق لمسماه ولفظ مطابق
لمعناه فليس في رقى الزنى أنجع منه وهذه التسمية معروفة عن الفضيل بن عياض قال ابن أبي الدنيا : أخبرنا الحسين بن عبدالرحمن قال : قال فضيل بن عياض : الغناء رقية الزنى
قال : وأخبرنا إبراهيم بن محمد المروزي عن أبي عثمان الليثي قال : قال يزيد بن الوليد : يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وإنه (58/245)
لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنى
قال : وأخبرني محمد بن الفضل الأزدي قال : نزل الحطيئة برجل من العرب ومعه ابنته مليكة فلما جنه الليل سمع غناء فقال لصاحب المنزل : كف هذا عني فقال : وما تكره من ذلك فقال : إن الغناء رائد من رادة الفجور ولا أحب أن تسمعه هذه يعني ابنته فإن كففته والإ خرجت عنك
ثم ذكر عن خالد بن عبدالرحمن قال : كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك فسمع غناء من الليل فأرسل إليهم بكرة فجىء بهم فقال : إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة وإن التيس لينب فتستحرم له العنز وأن الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة ثم قال : اخصوهم فقال عمر بن عبد العزيز : هذه المثلة ولا تحل فخل سبيلهم قال : فخلى سبيلهم
قال : وأخبرنا الحسين بن عبدالرحمن قال : قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : جاور الحطيئة قوما من بني كلب فمشى ذو الدين منهم بعضهم إلى بعض وقالوا : يا قوم إنكم قد رميتم بداهية هذا الرجل شاعر والشاعر يظن فيحقق ولا يستأني فيتثبت ولا يأخذ الفضل فيعفو فأتوه وهو في فناء خبائه فقالوا : يا أبا مليكة إنه قد عظم حقك علينا يتخطيك القبائل إلينا وقد أتيناك لنسألك عما تحب فنأتيه وعما تكره فنزدجر عنه فقال : جنبوني ندي مجلسكم ولا تسمعوني أغاني شبيبتكم فإن الغناء رقية الزنى فإذا كان هذا الشاعر المفتون اللسان الذي هابت العرب هجاءه خاف عاقبة الغناء وأن تصل رقيته إلى حرمته فما الظن بغيره ولا ريب أن كل غيور يجنعب أهله سماع الغناء كما يجنبهن أسباب الريب ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنى فهم أعلم بالإثم الذي يستحقه (58/246)
ومن الأمر المعلوم عند القوم : أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء فحينئذ تعطي الليان
وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدا فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين : من جهة الصوت ومن جهة معناه ولهذا قال النبيAلانجشة حادية : يا أنجشة رويدك رفقا بالقوارير يعني النساء
فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا وكم من حر أصبح به عبدا للصبيان أو الصبايا وكم من غيور تبدل به اسما قبيحا بين البرايا وكم من ذي غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلت به أنواع البلايا وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان فلم يجد بدا من قبول تلك الهدايا وكم جرع من غصة وأزال من نعمة وجلب من نقمة وذلك منه من إحدى العطايا وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة وغموم متوقعة وهموم مستقبلة
فسل ذا خبرة ينبيك عنه ... لتعلم كم خبايا في الزوايا
وحاذر إن شغفت به سهاما ... مريشة بأهداب المنايا
إذا ما خالطت قلبا كئيبا ... تمزق بين أطباق الرزايا
ويصبح بعد أن قد كان حرا ... عفيف الفرج : عبدا للصبايا
ويعطي من به يغني غناء ... وذلك منه من شر العطايا
فصل وأما تسميته : منبت النفاق فقال علي بن الجعد : حدثنا
محمد بن طلحة عن سعيد بن كعب المروزي عن محمد بن عبدالرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع (58/247)
وقال شعبة : حدثنا الحكم عن حماد عن إبراهيم قال : قال عبدالله بن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب
وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله وقد روى عن ابن مسعود مرفوعا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذمع الملاهي
قال : أخبرنا عصمة بن الفضل حدثنا حرمي بن عمارة حدثنا سلام بن مسكين حدثنا شيع عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول اللهA الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل
وقد تابع حرمي بن عمارة عليه بهذا الإسناد والمتن مسلم بن إبراهيم
قال أبو الحسين بن المنادي في كتاب أحكام الملاهي : حدثنا محمد بن علي بن عبدالله ابن حمدان المعروف بحمدان الوراق حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا سلام بن مسكين فذكر الحديث فمداره على هذا الشيخ المجهول وفي رفعه نظر والموقوف أصح
فإن قيل : فما وجه إنباته للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي
قيل : هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها وأنهم هم أطباء القلوب دون المنحرفين عن طريقتهم الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض فاشتد البلاء وتفاقم الأمر وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى وقام كل جهول يطبب الناس
فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه كنبات الزرع بالماء
فمن خواصه : أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي وينهى عن اتباع (58/248)
خطوات الشيطان والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسنه ويهيج النفوس إلى شهوات الغى فيثير كامنها ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح فهو والخمررضيعا لبان وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه وخدينه وصديقه عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تنسخ وهو جاسوس القلب وسارق المروءة وسوس العقل يتغلغل في مكامن القلوب ويطلع على سرائر الأفئدة ويدب إلى محل التخيل فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله وقل حياؤه وذهبت مروءته وفارقه بهاؤه وتخلى عنه وقاره وفرح به شيطانه وشكا إلى الله تعالى إيمانه وثقل عليه قرآنه وقال : يارب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه وأبدى من سره ما كان يكتمه وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب والزهزهة والفرقعة بالأصابع فيميل برأسه ويهز منكبيه ويضرب الأرض برجليه ويدق على أم رأسه بيديه ويثب وثبات الدعباب ويدور دوران الحمار حول الدولاب ويصفق بيديه تصفيق النسوان ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران وتارة يتأوه تأوه الحزين وتارة يزعق زعقات المجانين ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول :
أتذكر ليلة وقد اجتمعنا ... على طيب السماع إلى الصباح
ودارت بيننا كأس الأغاني ... فأسكرت النفوس بغير راح
فلم تر فيهم إلا نشاوى ... سرورا والسرور هناك صاحي
إذا نادى أخو اللذات فيه ... أجاب اللهو : حى على السماح
ولم نملك سوى المهجات شيئا ... أرقناها لألحاظ الملاح
وقال بعض العارفين : السماع يورث النفاق في قوم والعناد في قوم والكذب في قوم والفجور في قوم والرعونة في قوم (58/249)
وأكثر ما يورث عشق الصور واستحسان الفواحش وإدمانه يثقل القرآن على القلب ويكرهه إلى سماعه بالخاصية وإن لم يكن هذا نفاقا فما للنفاق حقيقة
وسر المسألة : أنه قرآن الشيطان كما سيأتي فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدا وأيضا فإن أساس النفاق : أن يخالف الظاهر الباطن وصاحب الغناء بين أمرين إما أن يتهتك فيكون فاجرا أو يظهر النسك فيكون منافقا فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة وقلبه يغلي بالشهوات ومحبة ما يكرهه الله ورسوله : من أصوات المعازف وآلات اللهو وما يدعو إليه الغناء ويهيجه فقلبه بذلك معمور وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر وهذا محض النفاق
وأيضا فإن الإيمان قول وعمل : قول بالحق وعمل بالطاعة وهذا ينبت على الذكر وتلاوة القرآن والنفاق قول الباطل وعمل البغى وهذا ينبت على الغناء
وأيضا فمن علامات النفاق : قلة ذكر الله والكسل عند القيام إلى الصلاة ونقر الصلاة وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه وأيضا : فإن النفاق مؤسس على الكذب والغناء من أكذب الشعر فإنه يحسن القبيح ويزينه ويأمر به ويقبح الحسن ويزهد فيه وذلك عين النفاق
وأيضا فإن النفاق غش ومكر وخداع والغناء مؤسس على ذلك
وأيضا فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه والمغنى يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات قال الضحاك : الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى مؤدب ولده : ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم : أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء (58/250)
فالغناء يفسد القلب وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق
وبالجملة فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء وحال أهل الذكر والقرآن تبين له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها وبالله التوفيق
فصل وأما تسميته قرآن الشيطان
فمأثور عن التابعين وقد روى في حديث مرفوع قال قتادة : لما أهبط إبليس قال : يا رب لعنتني فما عملي قال : السحر قال : فما قرآني قال : الشعر قال : فما كتابي قال : الوشم قال : فما طعامي قال : كل ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه قال : فما شرابي قال : كل مسكر قال : فأين مسكني قال : الأسواق قال : فما صوتي قال : المزامير قال : فما مصايدي قال : النساء
هذا والمعروف في هذا وقفه وقد رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة مرفوعا إلى النبيA
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب مكايد الشيطان وحيله : حدثنا أبو بكر التميمي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا ابن زجر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن رسول اللهAقال : إن إبليس لما أنزل إلى الأرض قال : يا رب أنزلتني إلى الأرض وجعلتني رجيما فاجعل لي بيتا قال : الحمام قال : فاجعل لي مجلسا قال : الأسواق ومجامع الطرقات قال : فاجعل لي طعاما قال : كل ما لم يذكر اسم الله عليه قال : فاجعل لي شرابا قال : كل مسكر قال : فاجعل لي مؤذنا قال : المزمار قال : فاجعل لي قرآنا قال : الشعر قال : فاجعل لي كتابا قال : الوشم قال : فاجعل لي حديثا قال : الكذب قال : فاجعل لي رسلا قال : الكهنة قال : فاجعل لي مصايد قال : النساء وشواهد هذا الأثر كثيرة فكل جملة منه لها شواهد من السنة أو من القرآن (58/251)
فكون السحر من عمل الشيطان شاهده قوله تعالى :
واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ البقره : 102 ]
وأما كون الشعر قرآنه فشاهده : ما رواه أبو داود في سننه من حديث جبير بن مطعم : أنه رأى رسول اللهAيصلي فقال : الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : من نفخه ونفثه وهمزه قال : نفثه الشعر ونفخه : الكبر وهمزه : الموتة
ولما علم الله رسوله القرآن وهو كلامه صانه عن تعليم قرآن الشيطان وأخبر أنه لا ينبغي له فقال :
وما علمناه الشعر وما ينبغي له [ يس : 69 ]
وأما كون الوشم كتابه فإنه من عمله وتزيينه ولهذا لعن رسول اللهAالواشمة والمستوشمة فلعن الكاتبة والمكتوب عليها
وأما كون الميتة ومتروك التسمية طعامه فإن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر عليه اسم الله عز و جل ويشارك آكله والميتة لا يذكر عليها اسم الله تعالى فهي وكل طعام لا يذكر عليه اسم الله عز و جل من طعامه ولهذا لما سأل الجن الذين آمنوا برسول اللهAالزاد قال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه فلم يبح لهم طعام الشياطين وهو متروك التسمية
وأما كون المسكر شرابه فقال تعالى :
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان [ المائده : 90 ] فهو يشرب من الشراب الذي عمله أولياؤه بأمره وشاركهم في عمله فيشاركهم في عمله وشربه وإثمه وعقوبته
وأما كون الأسواق مجلسه ففي الحديث الآخر : أنه يركز رايته بالسوق ولهذا يحضره (58/252)
اللغو واللغط والصخب والخيانة والغش وكثير من عمله وفي صفة النبيAفي الكتب المتقدمة : أنه ليس صخابا بالأسواق
وأما كون الحمام بيته فشاهده كونه غير محل للصلاة وفي حديث أبي سعيد : الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ولأنه محل كشف العورات وهو بيت مؤسس على النار وهي مادة الشيطان التي خلق منها
وأما كون المزمار مؤذنه ففي غاية المناسبة فإن الغناء قرآنه والرقص والتصفيق اللذين هما المكاء والتصدية صلاته فلابد لهذه الصلاة من مؤذن وإما ومأموم فالمؤذن المزمار والإمام المغني والمأموم الحاضرون
وأما كون الكذب حديثه فهو الكاذب الآمر بالكذب المزين له فكل كذب يقع في العالم فهو من تعليمه وحديثه
وأما كون الكهنة رسله فلأن المشركين يهرعون إليهم ويفزعون إليهم في أمورهم العظام ويصدقونهم ويتحاكمون إليهم ويرضون بحكمهم كما يفعل أتباع الرسل بالرسل فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب ويخبرون عن المغيبات التي لا يعرفها غيرهم فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرسل فالكهنة رسل الشيطان حقيقة أرسلهم إلى حزبه من المشركين وشبههم بالرسل الصادقين حتى استجاب لهم حزبه ومثل رسل الله بهم لينفر عنهم ويجعل رسله هم الصادقين العالمين بالغيب ولما كان بين النوعين أعظم التضاد قال رسول اللهA من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد فإن الناس قسمان : أتباع الكهنة وأتباع رسل الله فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء بل يبعد عن رسول اللهAبقدر قربه من الكاهن ويكذب الرسول بقدر تصديقه للكاهن (58/253)
وقوله : اجعل لي مصايد قال : مصايدك النساء فالنساء أعظم شبكة له يصاد بهن الرجال كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الذي بعد هذا
والمقصود : أن الغناء المحرم قرآن الشيطان
ولما أراد عدو الله أن يجمع عليه نفوس المبطلين قرنه بما يزينه من الألحان المطربة وآلات الملاهي والمعازف وأن يكون من امرأة جميلة أو صبي جميل ليكون ذلك أدعى إلى قبول النفوس لقرآنه وتعوضها به عن القرآن المجيد
فصل وأما تسميته بالصوت الأحمق والصوت الفاجر
فهي تسمية الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى
فروى الترمذي من حديث ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال : خرج رسول اللهAمع عبدالرحمن بن عوف إلى النخل فإذا ابنه ابراهيم يجود بنفسه فوضعه في حجره ففاضت عيناه فقال عبدالرحمن : أتبكي وأنت تنهى الناس قال : إني لم أنه عن البكاء وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة : لهو ولعب ومزامير شيطان وصوت عند مصيبة : خمش وجوه وشق جيوب ورنة وهذا هو رحمة ومن لا يرحم لا يرحم لولا أنه أمر حق ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا وإنا بك لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب قال الترمذي : هذا حديث حسن
فانظر إلى هذا النهي المؤكد بتسميته صوت الغناء صوتا أحمق ولم يقتصر على ذلك حتى وصفه بالفجور ولم يقتصر على ذلك حتى سماه من مزامير الشيطان وقد أقر النبيAأبا بكر الصديق على تسمية الغناء مزمور الشيطان في الحديث الصحيح كما سيأتي فإن لم يستفد التحريم من هذا لم نستفده من نهي أبدا
وقد اختلف في قوله : لا تفعل وقوله نهيت عن كذا أيهما أبلغ في التحريم (58/254)
والصواب بلا ريب : أن صيغة نهيت أبلغ في التحريم لأن لا تفعل يحتمل النهي وغيره بخلاف الفعل الصريح
فكيف يستحيز العارف إباحة ما نهى عنه رسول اللهA وسماه صوتا أحمق فاجرا ومزمور الشيطان وجعله والنياحة التي لعن فاعلها أخوين وأخرج النهي عنهما مخرجا واحدا ووصفهما بالحمق والفجور وصفا واحدا
وقال الحسن : صوتان ملعونان : مزمار عند نغمه ورنة عند مصيبة
وقال أبو بكر الهذلي : قلت للحسن : أكان نساء المهاجرات يصنعن ما يصنع النساء اليوم قال : لا ولكن ههنا خمش وشق جيوب ونتف أشعار ولطم خدود ومزامير شيطان صوتان قبيحان فاحشان : عند نغمة إن حدثت وعند مصيبة إن نزلت ذكر الله المؤمنين فقال : والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم [ المعارج : 24 ] وجعلتم أنتم في أموالكم حقا معلوما للمغنية عند النغمة والنائحة عند المصيبة
فصل وأما تسميته صوت الشيطان
فقد قال تعالى للشيطان وحزبه اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاءكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ الاسراء : 63 ]
قال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبي أخبرنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس واستفزز من استطعت منهم بصوتك [ الاسراء : 63 ] قال : كل داع إلى معصية
ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية ولهذا فسر صوت الشيطان به
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي أخبرنا يحيى بن المغيرة أخبرنا جرير عن ليث عن مجاهد (58/255)
واستفزز من استطعت منهم بصوتك [ الاسراء : 63 ] قال : استزل منهم من استطعت قال وصوته الغناء والباطل
وبهذا الإسناد إلى جرير عن منصور عن مجاهد قال : صوته هو المزامير
ثم روى بإسناده عن الحسن البصري قال : صوته هو الدف
وهذه الإضافة إضافة تخصيص كما أن إضافة الخيل والرجل إليه كذلك فكل متكلم بغير طاعة الله ومصوت بيراع أو مزمار أو دف حرام أو طبل فذلك صوت الشيطان وكل ساع في معصية الله على قدميه فهو من رجله وكل راكب في معصية الله فهو خيالته كذلك قال السلف كما ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : رجله كل رجل مشت في معصية الله
وقال مجاهد : كل رجل يقاتل في غير طاعة الله فهو من رجله
وقال قتادة : إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس
فصل وأما تسميته مزمور الشيطان ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها
قالت : دخل على النبيAوعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني وقال : مزمار الشيطان عند النبيA فأقبل عليه رسول اللهA فقال : دعهما فلما غفل غمزتهما فخرجتا (58/256)
فلم ينكر رسول اللهAعلى أبي بكر تسمية الغناء مزمار الشيطان وأقرهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب وكان اليوم يوم عيد فتوسع حزب الشيطان في ذلك إلى صوت امرأة جميلة أجنبية أو صبي أمرد صوته فتنة وصورته فتنة يغني بما يدعو إلى الزنى والفجور وشرب الخمور مع آلات اللهو التي حرمها رسول اللهAفي عدة أحاديث كما سيأتي مع التصفيق والرقص وتلك الهيئة المنكرة التي لا يستحلها أحد من أهل الأديان فضلا عن أهل العلم والإيمان ويحتجون بغناء جوير يتين غير مكلفتين بنشيد الأعراب ونحوه في الشجاعة ونحوها في يوم عيد بغير شبابة ولا دف ولا رقص ولا تصفيق ويدعون المحكم الصريح لهذا المتشابه وهذا شأن كل مبطل
نعم نحن لا نحرم ولا نكره مثل ما كان في بيت رسول اللهAعلى ذلك الوجه وإنما نحرم نحن وسائر أهل العلم والإيمان السماع المخالف لذلك وبالله التوفيق (58/257)
فصل وأما تسميته بالسمود
فقد قال تعالى : أفمن هكذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون [ النجم : 59 ] قال عكرمة عن ابن عباس : السمود : الغناء في لغة حمير يقال : اسمدى لنا أي غنى لنا وقال أبو زبيد :
وكأن العزيف فيها غناء ... للندامى من شارب مسمود
قال أبو عبيدة : المسمود : الذي غنى له وقال عكرمة : كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا فنزلت هذه الآية
وهذا لا يناقض ما قيل في هذه الآية من أن السمود الغفلة والسهو عن الشيء قال المبرد : هو الاشتغال عن الشيء بهم أو فرح يتشاغل به وأنشد :
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا
وقال ابن الأنباري : السامد اللاهي والسامد الساهي والسامد المتكبر والسامد القائم
وقال ابن عباس في الآية : وأنتم مستكبرون وقال الضحاك أشرون بطرون وقال مجاهد : غضاب مبرطمون وقال غيره : لا هون غافلون معرضون
فالغناء يجمع هذا كله ويوجبه فهذه أربعة عشر اسما سوى اسم الغناء
فصل في بيان تحريم رسول اللهAالصريح لآلات اللهو والمعازف وسياق
الأحاديث في ذلك عن عبدالرحمن بن غنم قال : حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري رضي الله عنهما أنه سمع النبيAيقول : ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر (58/258)
والحرير والخمر والمعازف هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه محتجا به وعلقه تعليقا مجزوما به فقال : باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه وقال هشام ابن عمار : حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبدالرحمن بن غنم الأشعرى قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني أنه سمع النبيAيقول ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولوا : ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله تعالى ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة
ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي وزعم أنه منقطع لأن البخاري لم يصل سنده به وجواب هذا الوهم من وجوه : (58/259)
أحدها : أن البخاري قد لقى هشام بن عمار وسمع منه فإذا قال : قال هشام فهو بمنزلة قوله عن هشام
الثاني : أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا وقد صح عنه أنه حدث به وهذا كثيرا ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشهرته فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس
الثالث : أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجا به فلولا صحته عنده لما فعل ذلك
الرابع : أنه علقه بصيغة الجزم دون صيغة التمريض فإنه إذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه يقول : ويروى عن رسول اللهA ويذكر عنه ونحو ذلك : فإذا قال : قال رسول اللهA فقد جزم وقطع بإضافته إليه
الخامس : أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحا فالحديث صحيح متصل عند غيره
قال أبو داود في كتاب العباس : حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس قال : سمعت عبدالرحمن بن غنم الأشعري قال حدثنا أبو عامر أو أبو مالك فذكره مختصرا ورواه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه الصحيح مسندا فقال : أبو عامر ولم يشك
ووجه الدلالة منه : أن المعازف هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والخز فإن كان بالحاء والراء المهملتين فهو استحلال الفروج الحرام وإن كان بالخاء والزاى المعجمتين فهو نوع من الحرير غير الذي صح عن الصحابة رضي الله عنهم لبسه إذ الخز نوعان أحدهما : من حرير والثاني : من صوف وقد روى هذا الحديث بالوجهين
وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا عبدالله بن سعيد عن معاوية بن صالح عن حاتم ابن حريث عن ابن أبي مريم عن عبدالرحمن بن غنم الأشعري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول اللهAليشربن ناس من أمتي الخمر (58/260)
يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير وهذا إسناد صحيح وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال فلكل واحد قسط في الذم والوعيد
وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي وعمران بن حصين وعبدالله بن عمرو وعبدالله بن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعائشة أم المؤمنين وعلي ابن أبي طالب وأنس بن مالك وعبدالرحمن بن سابط والغازي بن ربيعة
ونحن نسوقها لتقر بها عيون أهل القرآن وتشجى بها حلوق أهل سماع الشيطان
فأما حديث سهل بن سعد فقال ابن أبي الدنيا : أخبرنا الهيثم بن خارجة حدثنا عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول اللهA يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ قيل : يا رسول الله متى قال : إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمرة
وأما حديث عمران بن حصين فرواه الترمذي من حديث الأعمش عن هلال بن يساف عن عمران بن حصين قال : قال رسول اللهA يكون في أمتي قذف وخسف ومسخ فقال رجل من المسلمين : متى ذاك يا رسول الله قال : إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور قال الترمذي : هذا حديث غريب
وأما حديث عبدالله بن عمرو فروى أحمد في مسنده وأبو داود عنه أن النبيAقال : إن الله تعالى حرم على أمتي الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام
وفي لفظ آخر لأحمد : إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين (58/261)
وأما حديث ابن عباس ففي المسند أيضا : عنه أن رسول اللهAقال : إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام والكوبة الطبل قاله سفيان وقيل : البربط والقنين هو الطنبور بالحبشية والتقنين : الضرب به قاله ابن الأعرابي
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فرواه الترمذي عنه قال : قال رسول اللهA إذا اتخذ الفىء دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وتعلم العلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمر ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب
وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا عبدالله بن عمر الجشمى حدثنا سليمان بن سالم أبو داود حدثنا حسان بن أبي سنان عن رجل عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللهA يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة وخنازير قالوا : يا رسول الله أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال : بلى ويصومون ويصلون ويحجون قيل : فما بالهم قال : اتخذوا المعازف والدفوف والقينات فباتوا على شربهم ولهوهم فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير
وأما حديث أبي أمامة الباهلي فهو في مسند أحمد والترمذي عنه عن النبيAقال : يبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب ثم يصبحون قردة وخنازير ويبعث على أحياء من أحيائهم ريح فينسفهم كما نسف من كان قبلكم باستحلالهم الخمر وضربهم بالدفوف واتخاذهم القينات في إسناده فرقد السبخي (58/262)
وهو من كبار الصالحين ولكنه ليس بقوى في الحديث وقال الترمذي : تكلم فيه يحيى بن سعيد وقد روى عنه الناس
وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا عبدالله بن عمر الجشمي حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا فرقد السبخي حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب قال : حدثني عاصم بن عمرو والبجلي عن أبي أمامة عن رسول اللهAقال : يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب ولهو فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير وليصيبنهم خسف وقذف حتى يصبح الناس فيقولون : خسف الليلة بدار فلان خسف الليلة ببني فلان وليرسلن عليهم حجارة من السماء كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها وعلى دور فيها وليرسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عادا بشربهم الخمر وأكلهم الربا واتخاذهم القينات وقطيعتهم الرحم
وفي مسند أحمد من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن النبيAقال : إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات يعني البرابط والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية
قال البخاري : عبيدالله بن زحر ثقة وعلى بن يزيد ضعيف والقاسم بن عبدالرحمن أبو عبدالرحمن ثقة
وفي الترمذي ومسند أحمد بهذا الإسناد بعينه : أن النبيAقال : لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام وفي مثل هذا نزلت هذه الآية 31 : 6 ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله الآية (58/263)
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقال ابن أبي الدنيا حدثنا الحسن بن محبوب حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم حدثنا أبو معشر عن محمد بن المنكدر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يكون في أمتي خسف ومسخ وقذف قالت عائشة يا رسول الله وهم يقولون لا إله إلا الله فقال إذا ظهرت القينات وظهر الزنى وشربت الخمر ولبس الحرير كان ذا عند ذا
وقال ابن أبي الدنيا أيضا حدثنا محمد بن ناصح حدثنا بقية بن الوليد عن يزيد بن عبدالله الجهني حدثني أبو العلاء عن أنس بن مالك أنه دخل على عائشة رضي الله عنها ورجل معه فقال لها الرجل يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة فقال إذا استباحوا الزنى وشربوا الخمر وضربوا بالمعازف غار الله في سمائه فقال تزلزلي بهم فإن تابوا وفزعوا وإلا هدمتها عليهم قال قلت يا أم المؤمنين أعذاب لهم قالت بل موعظة ورحمة وبركة للمؤمنين ونكال وعذاب وسخط على الكافرين قال أنس ما سمعت حديثا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا أشد به فرحا مني بهذا الحديث
وأما حديث علي فقال ابن أبي الدنيا أيضا حدثنا الربيع بن تغلب حدثنا فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن علي عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل يا رسول الله وما هن قال إذا كان المغنم دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات في المساجد وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور ولبس الحرير واتخذت القيان ولعن آخر هذه الآمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا ومسخا
حدثنا عبدالجبار بن عاصم قال حدثنا أبو طالب قال حدثنا اسمعيل بن عياش عن عبدالرحمن التميمي عن عباد بن أبي علي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال تمسخ طائفة من أمتي قردة وطائفة خنازير ويخسف بطائفة ويرسل على طائفة الريح العقيم بأنهم شربوا الخمر ولبسوا الحرير واتخذوا القيان وضربوا بالدفوف (58/264)
وأما حديث أنس رضي الله عنه فقال ابن أبي الدنيا حدثنا أبو عمرو هرون بن عمر القرشي حدثنا الخصيب بن كثير عن أبي بكر الهذلي عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ وذاك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف
قال وأنبأنا أبو إسحق الأزدي حدثنا إسمعيل بن أبي أويس حدثني عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أحد ولد أنس بن مالك وعن غيره عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليبيتن رجال على أكل وشرب وعزف فيصبحون على أرائكهم ممسوخين قردة وخنازير
وأما حديث عبدالرحمن بن سابط فقال ابن أبي الدنيا حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا جرير عن أبان بن تغلب عن عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن سابط قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ قالوا فمتى ذاك يا رسول الله قال إذا أظهروا المعازف واستحلوا الخمور
وأما حديث الغازي بن ربيعة فقال ابن أبي الدنيا حدثنا عبدالجبار بن عاصم حدثنا إسمعيل بن عياش عن عبيدالله بن عبيد عن أبي العباس الهمداني عن عمارة بن راشد عن الغازي بن ربيعة رفع الحديث قال ليمسخن قوم وهم على أريكتهم قردة وخنازير بشربهم الخمر وضربهم بالبرابط والقيان
قال ابن أبي الدنيا وحدثنا عبدالجبار بن عاصم قال حدثني المغيرة بن المغيرة عن صالح بن خالد رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ليستحلن ناس من أمتي الحرير والخمر والمعازف وليأتين الله على أهل حاضر منهم عظيم بجبل حتى ينبذه عليهم ويمسخ آخرون قردة وخنازير
قال ابن أبي الدنيا حدثنا هارون بن عبيدالله حدثنا يزيد بن هرون حدثنا أشرس أبو شيبان الهذلي قال قلت لفرقد السبخي أخبرني يا أبا يعقوب من تلك الغرائب التي قرأت في التوراة فقال يا أبا شيبان والله ما أكذب على ربي مرتين أو ثلاثا لقد قرأت (58/265)
في التوراة ليكونن مسخ وخسف وقذف في أمة محمد صلى الله عليه و سلم في أهل القبلة قال قلت يا أبا يعقوب ما أعمالهم قال باتخاذهم القينات وضربهم بالدفوف ولباسهم الحرير والذهب ولئن بقيت حتى ترى أعمالا ثلاثة فاستيقن واستعد واحذر قال قلت ما هي قال إذا تكافأ الرجال بالرجال والنساء بالنساء ورغبت العرب في آنية العجم فعند ذلك قلت له العرب خاصة قال لا بل أهل القبلة ثم قال والله ليقذفن رجال من السماء بحجارة يشدخون بها في طرقهم وقبائلهم كما فعل بقوم لوط وليمسخن آخرون قردة وخنازير كما فعل ببني إسرائيل وليخسفن بقوم كما خسف بقارون
وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ في هذه الأمة وهو مقيد في أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء وشاربي الخمر وفي بعضها مطلق
قال سالم بن أبي الجعد ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل ينتظرون أن يخرج إليهم فيطلبون إليه حاجة فيخرج إليهم وقد مسخ قردا أو خنزيرا وليمرن الرجل على الرجل في حانوته يبيع فيرجع إليه وقد مسخ قردا أو خنزيرا
وقال أبو هريرة رضي الله عنه لا تقوم الساعة حتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيمسخ أحدهما قردا أو خنزيرا فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك حتى يقضي شهوته وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيخسف بأحدهما فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمشي لشأنه ذلك حتى يقضي شهوته منه
وقال عبدالرحمن بن غنم سيكون حيان متجاورين فيشق بينهما نهر فيستقيان منه قبسهم واحد يقبس بعضهم من بعض فيصبحان يوما من الأيام قد خسف بأحدهما والآخر حي
وقال عبدالرحمن بن غنم أيضا يوشك أن يقعد اثنان على رحا يطحنان فيمسخ أحدهما والآخر ينظر (58/266)
وقال مالك بن دينار بلغني أن ريحا تكون في آخر الزمان وظلم فيفزع الناس إلى علمائهم فيجدونهم قد مسخوا
قال بعض أهل العلم إذا اتصف القلب بالمكر والخديعة والفسق وانصبغ بذلك صبغا تاما صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك من القردة والخنازير وغيرهما ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه حتى يبدو على صفحات وجهه بدوا خفيا ثم يقوى ويتزايد حتى يصير ظاهرا على الوجه ثم يقوى حتى يقلب الصورة الظاهرة كما قلب الهيئة الباطنة ومن له فراسة تامة يرى على صور الناس مسخا من صور الحيوانات التي تخلقوا بأخلاقها في الباطن فقل أن ترى محتالا مكارا مخادعا ختارا إلا وعلى وجهه مسخة قرد وقل أن ترى رافضيا إلا وعلى وجهه مسخة خنزير وقل أن ترى شرها نهما نفسه نفس كلبية إلا وعلى وجهه مسخة كلب فالظاهر مرتبط بالباطن أتم ارتباط فإذا استحكمت الصفات المذمومة في النفس قويت على قلب الصورة الظاهرة ولهذا خوف النبي صلى الله عليه و سلم من سابق الإمام في الصلاة بأن يجعل الله صورته صورة حمار لمشابهته للحمار في الباطن فإنه لم يستفد بمسابقة الإمام إلا فساد صلاته وبطلان أجره فإنه لا يسلم قبله فهو شبيه بالحمار في البلادة وعدم الفطنة
إذا عرف هذا فأحق الناس بالمسخ هؤلاء الذين ذكروا في هذه الأحاديث فهم أسرع الناس مسخا قردة وخنازير لمشابهتهم لهم في الباطن وعقوبات الرب تعالى نعوذ بالله منها جارية على وفق حكمته وعدله
وقد ذكرنا شبه المغنين والمفتونين بالسماع الشيطاني ونقضناها نقضا وإبطالا في كتابنا الكبير في السماع وذكرنا الفرق بين ما يحركه سماع الأبيات وما يحركه سماع الآيات (58/267)
وذكرنا الشبه التي دخلت على كثير من العباد في حضوره حتى عدوه من القرب فمن أحب الوقوف على ذلك فهو مستوفى في ذلك الكتاب وإنما أشرنا ههنا إلى نبذة يسيرة في كونه من مكايد الشيطان وبالله التوفيق
فصل ومن مكايده التي بلغ فيها مراده مكيدة التحليل الذي لعن رسول
الله صلى الله عليه و سلم فاعله وشبهه بالتيس المستعار وعظم بسببه العار والشنار وعير المسلمين به الكفار وحصل بسببه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد واستكريت له التيوس المستعارات وضاقت بها ذرعا النفوس الأبيات ونفرت منه أشد من نفارها من السفاح وقالت لو كان هذا نكاحا صحيحا لم يلعن رسول الله صلى الله عليه و سلم من أتى بما شرعه من النكاح فالنكاح سنته وفاعل السنة مقرب غير ملعون والمحلل مع وقوع اللعنة عليه بالتيس المستعار مقرون فقد سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتيس المستعار وسماه السلف بمسمار النار فلو شاهدت الحرائر المصونات على حوانيت المحللين متبذلات تنظر المرأة إلى التيس نظر الشاة إلى شفرة الجازر وتقول يا ليتني قبل هذا كنت من أهل المقابر حتى إذا تشارطا على ما يجلب اللعنة والمقت نهض واستتبعها خلفه للوقت بلا زفاف ولا إعلان بل بالتخفي والكتمان فلا جهاز ينقل ولا فراش إلى بيت الزوج يحول ولا صواحب يهدينا إليه ولا مصلحات يجلينها عليه ولا مهر مقبوض ولا مؤخر ولا نفقة ولا كسوة تقدر ولا وليمة ولا نثار ولا دف ولا إعلان ولا شغار والزوج يبذل المهر وهذا التيس يطأ بالأجر حتى إذا خلا بها وأرخى الحجاب والمطلق والولي واقفان على الباب دنا ليطهرها بمائة النجس الحرام ويطيبها بلعنة الله ورسوله عليه الصلاة و السلام حتى إذا قضيا عرس التحليل ولم يحصل بينهما المودة والرحمة التي ذكرها الله تعالى في التنزيل فإنها لا تحصل باللعن الصريح ولا يوجبها إلا النكاح الجائز الصحيح فإن كان قد قبض أجرة ضرابه سلفا وتعجيلا وإلا حبسها حتى تعطيه أجره طويلا فهل سمعتم زوجا لا يأخذ بالساق (58/268)
حتى يأخذ أجرته بعد الشرط والإتفاق حتى إذا طهرها وطيبها وخلصها بزعمه من الحرام وجنبها قال لها اعترفي بما جرى بيننا ليقع عليك الطلاق فيحصل بعد ذلك بينكما الالتئام والإتفاق فتأتي المصخمة إلى حضرة الشهود فيسألونها هل كان ذاك فلا يمكنها الجحود فيأخذون منها أو من المطلق أجرا وقد أرهقوهما من أمرهما عسرا هذا وكثير من هؤلاء المستأجرين للضراب يحلل الأم وابنتها في عقدين ويجمع ماءه في أكثر من أربع وفي رحم أختين وإذا كان هذا من شأنه وصفته فهو حقيق بما رواه عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم المحلل والمحلل له رواه الحاكم في الصحيح والترمذي وقال حديث حسن صحيح قال والعمل عليه عند أهل العلم منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبدالله بن عمر رضي الله عنهم وهو قول الفقهاء من التابعين
ورواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه بإسناد صحيح ولفظها لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم الواشمة والمؤتشمة والواصلة والموصولة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله
وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي أيضا عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه إذا علموا به والواصلة والمستوصلة ولاوى الصدقة والمعتدى فيها والمرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته والمحلل والمحلل له ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه و سلم يوم القيامة
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي محمد صلى الله عليه و سلم أنه لعن المحلل والمحلل له رواه الإمام أحمد وأهل السنن كلهم غير النسائي
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (58/269)
لعن الله المحلل والمحلل له رواه الإمام أحمد بإسناد رجاله كلهم ثقات وثقهم ابن معين وغيره
وقال الترمذي في كتاب العلل سألت أبا عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال هو حديث حسن وعبدالله بن جعفر المخزومي صدوق ثقة وعثمان بن محمد الأخنسي ثقة
وقال أبو عبدالله بن ماجه في سننه حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهران عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم المحلل والمحلل له
وعن ابن عباس أيضا قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المحلل فقال لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ثم تذوق العسيلة رواه أبو إسحق الجوزجاني في كتاب المترجم قال أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حنيفة عن داود بن حصين عن عكرمة عنه وهؤلاء كلهم ثقات إلا إبراهيم فإن كثيرا من الحفاظ يضعفه والشافعي حسن الرأي فيه ويحتج بحديثه
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله قال هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له رواه ابن ماجة بإسناد رجاله كلهم موثقون لم يجرح واحد منهم
وعن عمرو بن دينار وهو من أعيان التابعين أنه سئل عن رجل طلق امرأته فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئا من ماله فتزوجها ليحلها له فقال لا ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن مثل ذلك فقال لا حتى ينكح مرتغبا لنفسه فإذا فعل ذلك لم يحل له حتى يذوق العسيلة ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف بإسناد جيد
وهذا المرسل قد احتج به من أرسله فدل على ثبوته عنده وقد عمل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كما سيأتي وهو موافق لبقية الأحاديث الموصولة ومثل هذا حجة (58/270)
باتفاق الأئمة وهو والذي قبله نص في التحليل المنوي وكذلك حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال له امرأة تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم قال لا إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها وإن كنا لنعد هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم سفاحا ذكره شيخ الإسلام في إبطال التحليل
فصل وأما الآثار عن الصحابة ففي كتاب المصنف لابن أبي شيبة وسنن
الأثرم والأوسط لابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما ولفظ عبدالرزاق وابن المنذر لا أوتى بمحلل ولا محللة إلا رجمتهما وهو صحيح عن عمر
وقال عبدالرزاق عن معمر والزهري عن عبد الملك بن المغيرة قال سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن تحليل المرأة لزوجها فقال ذاك السفاح ورواه ابن أبي شيبة
وقال عبدالرزاق أخبرنا الثوري عبدالله بن شريك العامري سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سئل عن رجل طلق ابنة عم له ثم رغب فيها وندم فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له فقال ابن عمر رضي الله عنهما كلاهما زان وإن مكث عشرين سنة أو نحو ذلك إذا كان الله يعلم أنه يريد أن يحلها له
قال وأخبرنا معمر عن الثوري عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس رضي الله عنهما وسأله رجل فقال إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال إن عمك عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا قال كيف ترى في رجل يحللها قال من يخادع الله يخدعه (58/271)
وعن سليمان بن يسار قال رفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما وقال لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة رواه أبو إسحق الجوزجاني في كتاب المترجم وذكره ابن المنذر عنه في كتاب الأوسط
وفي المهذب لأبي إسحق الشيرازي عن أبي مرزوق التجيبي أن رجلا أتى عثمان رضي الله عنه فقال إن جاري طلق امرأته في غضبه ولقي شدة فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها ثم أبني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها فقال له عثمان رضي الله عنه لا تنكحها إلا نكاح رغبة
وذكر أبو بكر الطرطوشي في خلافه عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المحلل لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب الله وعلي رضي الله عنه هو ممن روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لعن المحلل فقد جعل هذا من التحليل
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن الله المحلل والمحلل له وهو ممن روى عن النبي صلى الله عليه و سلم لعن المحلل وقد فسره بما قصد به التحليل وإن لم تعلم به المرأة فكيف بما اتفقا عليه وتراضيا وتعاقدا على أنه نكاح لعنة لا نكاح رغبة
وذكر ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لعن الله المحلل والمحلل له
وروى الجوزجاني بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها فقال لعن الله الحال والمحلل له
قال شيخ الإسلام وهذه الآثار عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم مع أنها نصوص فيما إذا قصد التحليل ولم يظهره ولم يتواطآ عليه فهي مبينة أن هذا هو التحليل وهو المحلل الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلم بمراده ومقصوده لا سيما إذا رووا حديثا وفسروه بما يوافق الظاهر هذا مع أنه لم يعلم أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فرق بين تحليل وتحليل ولا رخص في شيء من أنواعه مع أن المطلقة (58/272)
ثلاثا مثل امرأة رفاعة القرظي قد كانت تختلف إليه المدة الطويلة وإلى خلفائه لتعود إلى زوجها فيمنعونها من ذلك ولو كان التحليل جائزا لدلها رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك فإنها لم تكن تعدم من يحللها لو كان التحليل جائزا
قال والأدلة الدالة على أن هذه الأحاديث النبوية قصد بها التحليل وإن لم يشترط في العقد كثيرة جدا ليس هذا موضع ذكرها انتهى
ذكر الآثار عن التابعين
قال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال إذا نوى الناكح أو المنكح أو المرأة أو أحد منهم التحليل فلا يصلح
أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء المحلل عامدا هل عليه عقوبة قال ما علمت وإني لأرى أن يعاقب قال وكلهم إن تمالؤا على ذلك مسيئون وإن أعظموا الصداق
أخبرنا معمر عن قتادة قال إن طلقها المحلل فلا يحل لزوجها الأول أن يقر بها إذا كان نكاحه على وجه التحليل
أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء فطلق المحلل فراجعها زوجها قال يفرق بينهما
أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول في رجل تزوج امرأة يحللها ولا يعلمها فقال الحسن اتق الله ولا تكن مسمار نار في حدود الله
قال ابن المنذر وقال إبراهيم النخعي إذا كان نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الزوج الآخر أو المرأة أنه محلل فنكاح الآخر باطل ولا تحل للأول (58/273)
قال وقال الحسن البصري إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فقد أفسد
قال وقال بكر بن عبدالله المزني في الحال والمحلل له أولئك كانوا يسمون في الجاهلية التيس المستعار
قال وقال عبدالله بن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى إن ظنا أن يقيما حدود الله قال إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة ورواه ابن أبي حاتم في التفسير عنه
وقال هشيم أخبرنا سيار عن الشعبي أنه سئل عن رجل تزوج امرأة كان زوجها طلقها ثلاثا قبل ذلك أيطلقها لترجع إلى زوجها الأول فقال لا حتى يحدث نفسه أنه يعمر معها وتعمر معه أي تقيم معه رواه الجوزجاني
ورورى النفيلي حدثنا يحيى بن عبدالملك بن أبي غنية حدثنا عبدالملك عن عطاء في الرجل يطلق المرأة فينطلق الرجل الذي يتحزن له فيتزوجها من غير مؤامرة منه فقال إن كان تزوجها ليحلها له لم تحل له وإن كان تزوجها يريد إمساكها فقد حلت له
وقال سعيد بن المسيب في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول ولم يشعر بذلك زوجها الأول ولا المرأة قال إن كان إنما نكحها ليحلها فلا يصلح ذلك لهما ولا تحل له رواه حرب في مسائله
وعنه أيضا قال إن الناس يقولون حتى يجامعها وأنا أقول إذا تزوجها تزوجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول رواه سعيد بن منصور عنه
فهؤلاء الأئمة الأربعة أركان التابعين وهم الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي
وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول وهو لا يعلم قال لا يصلح ذلك إذا كان تزوجها ليحلها (58/274)
ذكر الآثار عن تابعي التابعين ومن بعدهم
قال ابن المنذر : وممن قال : إن ذلك لا يصلح إلا نكاح رغبة : مالك ابن أنس والليث ابن سعد وقال مالك رحمه الله : يفرق بينهما على كل حال وتكون الفرقة فسخا بغير طلاق
وقال سفيان الثوري : إذا تزوجها وهو يريد أن يحلها لزوجها ثم بدا له أن يمسكها لا يعجبني إلا أن يفارق ويستقبل نكاحا جديدا
قال أحمد بن حنبل : جيد
وقال إسحاق : لا يحل له أن يمسكها لأن المحلل لم تتم له عقدة النكاح
وكان أبو عبيد يقول بقول الحسن والنخعي
وقال الجوزجاني : حدثنا إسماعيل بن سعيد قال : سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يتزوج المرأة وفي نفسه أن يحللها لزوجها الأول ولم تعلم المرأة بذلك فقال : هو محلل وإذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون
وقال الجوزجاني : وبه قال أيوب وقال ابن أبي شيبة : لست أرى أن ترجع بهذا النكاح إلى زوجها الأول
قال الجوزجاني : وأقول : إن الإسلام دين الله الذي اختاره واصطفاه وطهره حقيق بالتوقير والصيانة مما لعله يشينه وينزه مما أصبح أبناء الملل من أهل الذمة يعيرون به المسلمين على ما تقدم فيه من النهي عن النبيAولعنه عليه ثم ساق الأحاديث المرفوعة في ذلك والآثار
فصل ومن العجائب معارضة هذه الأحاديث والآثار عن الصحابة بقوله تعالى
: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقره : 230 ] والذي أنزلت عليه هذه الآية (58/275)
هو الذي لعن المحلل والمحلل له وأصحابه أعلم الناس بكتاب الله تعالى فلم يجعلوه زوجا وأبطلوا نكاحه ولعنوه
وأعجب من هذا قول بعضهم : نحن نحتج بكونه سماه محللا فلولا أنه أثبت الحل لم يكن محللا
فيقال : هذه من العظائم فإن هذا يتضمن أن رسول اللهAلعن من فعل السنة التي جاء بها وفعل ما هو جائز صحيح في شريعته وإنما سموه محللا لأنه أحل ما حرم الله فاستحق اللعنة فإن الله سبحانه حرمها على المطلق حتى تنكح زوجا غيره والنكاح اسم في كتاب الله وسنة رسوله للنكاح الذي يتعارفه الناس بينهم نكاحا وهو الذي شرع إعلانه والضرب عليه بالدفوف والوليمة فيه وجعل للإيواء والسكن وجعله الله مودة ورحمة وجرت العادة فيه بضد ما جرت به في نكاح المحلل فان المحلل لم يدخل على نفقه ولا كسوة ولا سكنى ولا إعطاء مهر ولا يحصل به نسب ولا صهر ولا قصد المقام مع الزوجة وإنما دخل عارية كالتيس المستعار للضراب ولهذا شبههبه النبيA ثم لعنه فعلم قطعا لا شك فيه أنه ليس هو الزوج المذكور في القرآن ولا نكاحه هو النكاح المذكور في القرآن وقد فطر الله سبحانه قلوب الناس على أن هذا ليس بنكاح ولا المحلل بزوج وأن هذا منكر قبيح وتعير به المرأة والزوج والمحلل والولي فكيف يدخل هذا في النكاح الذي شرعه الله ورسوله وأحبه وأخبر أنه سنته ومن رغب عنه فليس منه
وتأمل قوله تعالى : فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا [ البقره : 230 ] أي فإن طلقها هذا الثاني فلا جناح عليها وعلى الأول أن يتراجعا أي ترجع إليه بعقد جديد فأتى بحرف إن الدالة على أنه يمكنه أن يطلق وأن يقيم والتحليل الذي يفعله هؤلاء لا يتمكن الزوج فيه من الأمرين بل يشرطون عليه أنه متى وطئها فهي طالق ثم لما علموا أنه قد لا يخبر بوطئها ولا يقبل قولها في وقوع الطلاق انتقلوا إلى أن جعلوا الشرط إخبار المرأة بأنه دخل بها فبمجرد إخبارها بذلك تطلق عليه والله سبحانه وتعالى شرع النكاح للوصلة الدائمة (58/276)
وللاستمتاع وهذا النكاح جعله أصحابه سببا لانقطاعه ولوقوع الطلاق فيه فإنه متى وطىء كان وطؤه سببا لانقطاع النكاح وهذا ضد شرع الله وأيضا فإن الله سبحانه جعل نكاح الثاني وطلاقه واسمه كنكاح الأول وطلاقه واسمه فهذا زوج وهذا زوج وهذا نكاح وهذا نكاح وكذلك الطلاق ومعلوم أن نكاح المحلل وطلاقه واسمه لا يشبه نكاح الأول ولا طلاقه ولا اسمه كاسمه ذاك زوج راغب قاصد للنكاح باذل للمهر ملتزم للنفقة والسكنى والكسوة وغير ذلك من خصائص النكاح والمحلل برىء من ذلك كله غير ملتزم لشىء منه
وإذا كان الله تعالى ورسوله قد حرم نكاح المتعة مع أن قصد الزوج الاستمتاع بالمرأة وأن يقيم معها زمانا وهو ملتزم لحقوق النكاح فالمحلل الذي ليس له غرض أن يقيم مع المرأة إلا قدر ما ينزو عليها كالتيس المستعار لذلك ثم يفارقها أولى بالتحريم
وسمعت شيخ الإسلام يقول : نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من عشرة أوجه :
أحدها : أن نكاح المتعة كان مشروعا في أول الإسلام ونكاح التحليل لم يشرع في زمن من الأزمان
الثاني أن الصحابة تمتعوا على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولم يكن في الصحابة محلل قط
الثالث : أن نكاح المتعة مختلف فيه بين الصحابة فأباحه ابن عباس وإن قيل : إنه رجع عنه وأباحه عبدالله بن مسعود ففي الصحيحين عنه قال : كنا نغزو مع رسول اللهA وليس لنا نساء فقلنا : ألا نختصي فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبدالله : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ ] وفتوى ابن عباس بها مشهورة
قال عروة : قام عبدالله بن الزبير بمكة فقال : إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة : يعرض بعبدالله بن عباس فناداه فقال : إنك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم (58/277)
فقال له ابن الزبير : فجرب نفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك
فهذا قول ابن مسعود وابن عباس في المتعة وذاك قولهما وروايتهما في نكاح التحليل
الرابع : أن رسول اللهAلم يجىء عنه في لعن المستمتع والمستمتع بها حرف واحد وجاء عنه في لعن المحلل والمحلل له وعن الصحابة : ما تقدم
الخامس : أن المستمتع له غرض صحيح في المرأة ولها غرض أن تقيم معه مدة النكاح فغرضه المقصود بالنكاح مدة والمحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس فنكاحه غير مقصود له ولا للمرأة ولا للولي وإنما هو كما قال الحسن : مسمار نار في حدود الله وهذه التسمية مطابقة للمعنى
قال شيخ الإسلام : يريد الحسن : أن المسمار هو الذي يثبت الشىء المسمور فكذلك هذا يثبت تلك المرأة لزوجها وقد حرمها الله عليه
السادس : أن المستمتع لم يحتل على تحليل ما حرم الله فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان بل هو ناكح ظاهرا وباطنا والمحلل ماكر مخادع متخذ آيات الله هزوا ولذلك جاء في وعيده مالم يجىء في وعيد المستمتع مثله ولا قريب منه
السابع : أن المستمتع يريد المرأة لنفسه وهذا سر النكاح ومقصوده فيريد بنكاحه حلها له ولا يطؤها حراما والمحلل لا يريد حلها لنفسه وإنما يريد حلها لغيره ولهذا سمي محللا فأين من يريد أن يحل له وطىء امرأة يخاف أن يطأها حراما إلى من لا يريد ذلك وإنما يريد بنكاحها أن يحل وطأها لغيره فهذا ضد شرع الله ودينه وضد ما وضع له النكاح
الثامن : أن الفطر السليمة والقلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد تنفر من التحليل أشد نفار وتعير به أعظم تعيير حتى إن كثيرا من النساء تعير المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا ونكاح المتعة لا تنفر منه الفطر والعقول ولو نفرت منه لم يبح في أول الإسلام
التاسع : أن نكاح المتعة يشبه إجارة الدابة مدة للركوب وإجارة الدار مدة للانتفاع (58/278)
والسكنى وإجارة العبد للخدمة مدة ونحو ذلك مما للباذل فيه غرض صحيح ولكن لما دخله التوقيت أخرجه عن مقصود النكاح الذي شرع بوصف الدوام والاستمرار وهذا بخلاف نكاح المحلل فإنه لا يشبه شيئا من ذلك ولهذا شبهه الصحابة رضي الله عنهم بالسفاح وشبهوه باستعارة التيس للضراب
العاشر : أن الله سبحانه نصب هذه الأسباب كالبيع والإجارة والهبة والنكاح مفضية إلى أحكام جعلها مسببات لها ومقتضيات فجعل البيع سببا لملك الرقبة والإجارة سببا لملك المنفعة أو الانتفاع والنكاح سببا لملك البضع وحل الوطء والمحلل مناقض معاكس لشرع الله تعالى ودينه فإنه جعل نكاحه سببا لتمليك المطلق البضع وإحلاله له ولم يقصد بالنكاح ما شرعه الله له من ملكه هو للبضع وحله له ولا له غرض في ذلك ولا دخل عليه وإنما قصد به أمرا آخر لم يشرع له ذلك السبب ولم يجعل طريقا له
الحادي عشر : أن المحلل من جنس المنافق فإن المنافق يظهر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهرا و باطنا وهو في الباطن غير ملتزم له وكذلك المحلل يظهر أنه زوج وأنه يريد النكاح ويسمى المهر ويشهد على رضى المرأة وفي الباطن بخلاف ذلك ولا القيام بحقوق النكاح وقد أظهر خلاف ما أبطن وأنه مريد لذلك والله يعلم والحاضرون والمرأة وهو والمطلق : أن الأمر كذلك وأنه غير زوج على الحقيقة ولا هي امرأته على الحقيقة
الثاني عشر : أن نكاح المحلل لا يشبه نكاح أهل الجاهلية ولا نكاح أهل الإسلام فكان أهل الجاهلية يتعاطون في أنكحتهم أمورا منكرة ولم يكونوا يرضون نكاح التحليل ولا يفعلونه ففي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته : أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم : يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ونكاح آخر : كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه فيعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك (58/279)
رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع ونكاح آخر : يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر ليالي بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه ونكاح رابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث الله تعالى محمداAبالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم
ومعلوم أن نكاح المحلل ليس من نكاح الناس الذي أشارت إليه عائشة رضي الله عنها أن رسول اللهAأقره ولم يهدمه ولا كان أهل الجاهلية يرضون به فلم يكن من أنكحتهم فإن الفطر والأمم تنكره وتعير به
فصل وسبب هذا كله : معصية الله ورسوله وطاعة الشيطان في إيقاع
الطلاق على غير الوجه الذي شرعه الله والله سبحانه يبغض الطلاق في الأصل كما روى أبو داود من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول اللهA أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول اللهA ما بال قوم يلعبون بحدود الله يقول : قد طلقتك قد راجعتك قد طلقتك
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول اللهA إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منزلة أعظمهم فتنة يجىء (58/280)
أحدهم فيقول : قد فعلت كذا وكذا فيقول : ما صنعت شيئا قال : ويجىء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال : فيدنيه منه أو قال : فيلتزمه ويقول : نعم أنت أنت
فالشيطان وحزبه قد أغروا بإيقاع الطلاق والتفريق بين المرء وزوجه وكثيرا ما يندم المطلق ولا يصبر عن امرأته ولا تطاوعه نفسه أن يصبر عنها إلى أن تتزوج زواج رغبة تبقى فيه مع الزوج إلى أن يموت عنها أو يفارقها إذا قضى وطره ولا بد له من المرأة فيهرع إلى التحليل وهو حيلة من عشر حيل نصبوها للناس
إحداها : التحيل على عدم وقوع الطلاق وهو نوعان تحيل على عدم وقوعه مع صحة النكاح بالتسريح فيأمرونه أن يقول لها : إذا طلقتك أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا فلا يمكن أن يقع عليها الطلاق بعد هذا لا مطلقا ولا مقيدا عند المسرحين فسدوا باب الطلاق وجعلوا المرأة كالغل في عنق الزوج لا سبيل له إلى طلاقها أبدا
الحيلة الثانية : التحيل على عدم وقوع الطلاق بكون النكاح فاسدا فلا يقع فيه الطلاق ويتحيلون لبيان فساده من وجوه :
منها : أن عدالة الولى شرط في صحته فإذا كان في الولي ما يقدح في عدالته فالنكاح باطل فلا يقع فيه الطلاق والقوادح كثيرة فلا تكاد تفتش فيمن شئت إلا وجدت فيه قادحا
ومنها : أن عدالة الشهود شرط والشاهد يفسق بجلوسه على مقعد حرير أو استناده إلى مسند حرير أو جلوسه تحت حركاة حرير أو تجمره بمجمرة فضة ونحو ذلك مما لا يكاد يخلو البيت منه وقت العقد ونحو ذلك
فيا للعجب ! يكون الوطء حلالا والنسب لاحقا والنكاح صحيحا حتى يقع الطلاق فحينئذ يطلب وجوه إفساده
الحيلة الثالثة : التحيل بالمخالعة حتى يفعل المحلوف عليه فإذا فعله تزوجها بعقد جديد
الحيلة الرابعة : إذا وقع الفأس في الرأس وحنث ولا بد اشترى غلاما دون البلوغ (58/281)
وزوجه بها وأمرها أن تمكنه من إيلاج الحشفة هناك فإذا فعل وهبها إياه فانفسخ نكاحها بملكه فتعتد وترد إلى المطلق فإن عجزوا عن ذلك وأعوزهم انتقلوا إلى :
الحيلة الخامسة : وهي استكراء التيس الملعون المستعار لينزو عليها ويحلها بزعمه فهذه خمس حيل للخاصة
وأما جهال العامة فلما رأوا أن المقصود التحيل على ردها إلى المطلق بأي طريق اتفق قالوا : المقصود هو الرجوع والحيلة مقصودة لغيرها وأعيان الحيل ليست مقصودة فاستنبطوا لهم خمس حيل أخرى
أحداها : أن يأمروا المحلل بأن يطأها برجله فيطؤها وهي قاعدة أو مضطجعة برجله ثم يخرج ورأوا أن الوطء بالرجل أسهل عليهم وأقل مفسدة من الوطء بالآلة فإنه إذا كان كلاهما غير مقصود فما كان أقل فسادا كان أقرب إلى المقصود
الحيلة الثانية : أن تكون حاملا فتلد ذكرا وكأنهم قاسوا الذكر الذي شقها خارجا على الذكر الذي يشقها داخلا وهذا من جنس قياس التيس الملعون على الزوج المقصود
الحيلة الثانية : أن يصب المحلل عليها دهنا يشربه جسدها ولا يطؤها وكأنهم قاسوا تشرب جسدها للدهن وسريانه فيه على شربه للنطفة وسريانها فيه
الحيلة الرابعة : السفر عنها أو سفرها عنه فإذا قدم ظن أن ذلك كاف عن الزوج ولا أدري من أين ألقى إليهم الشيطان ذلك وكأنهم ظنوا أنهم قد التقوا من الآن وأن السفر قطع حكم ما مضى رأسا
الحيلة الخامسة : أن يجتمعا على عرفات فإذا وقف بها على الجبل لم يحتج بعد ذلك إلى زوج آخر عندهم وقد سئلنا نحن وغيرنا عن ذلك وسمعناه منهم (58/282)
فصل واعلم أن من اتقى الله في طلاقه فطلق كما أمره الله ورسوله
وشرعه له أغناه عن ذلك كله ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر حكم الطلاق المشروع : ومن يتق الله يجعل له مخرجا [ ] فلو اتقى الله عامة المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال والمكر والاحتيال فإن الطلاق الذي شرعه الله سبحانه : أن يطلقها طاهرا من غير جماع ويطلقها واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها فإن بدا له أن يمسكها في العدة أمسكها وإن لم يراجعها حتى انتقضت عدتها أمكنه أن يستقبل العقد عليها من غير زوج آخر وإن لم يكن له فيها غرض لم يضره أن تتزوج بزوج غيره فمن فعل هذا لم يندم ولم يحتج إلى حيلة ولا تحليل
ولهذا سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال : عصيت ربك وفارقت امرأتك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا
وقال سعيد بن جبير : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إني طلقت امرأتي ألفا فقال : أما ثلاث فتحرم عليك امرأتك وبقيتهن وزر اتخذت آيات الله هزوا
وقال مجاهد : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : إنه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى طننت أنه رادها إليه ثم قال : ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول : يا ابن عباس يا ابن عباس وإن الله تعالى قال : ومن يتق الله يجعل له مخرجا [ ] وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك ذكره أبو داود
وقد روى النسائي عن محمود بن لبيد قال : أخبر رسول اللهAعن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ألا أقتله
وهذه الآثار موافقة لما دل عليه القرآن فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة ولم يشرعه جملة واحدة أصلا قال تعالى : الطلاق مرتان [ ] والمرتان في لغة العرب بل وسائر لغات الناس : إنما تكون لما يأتي مرة بعد مرة فهذا القرآن من أوله إلى (58/283)
آخره وسنة رسول اللهAوكلام العرب قاطبة شاهد بذلك كقوله تعالى : سنعذبهم مرتين [ التوبة : 101 ] وقوله : أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين [ التوبه : 126 ] وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات [ النور : 53 ] ثم فسرها بالأوقات الثلاثة وشواهد هذا أكثر من أن تحصى
ثم قال سبحانه : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقره : 230 ] فهذه هي المرة الثالثة فهذا هو الطلاق الذي شرعه الله سبحانه وتعالى مرة بعد مرة بعد مرة فهذا شرعه من حيث العدد
وأما شرعه من حيث الوقت : فشرع الطلاق للعدة وقد فسره النبيAبأن يطلقها طاهرا من غير جماع فلم يشرع جمع ثلاث ولا تطليقتين ولم يشرع الطلاق في حيض ولا في طهر وطئها فيه وكان المطلق في زمن رسول اللهAكله وزمن أبي بكر كله وصدرا من خلافه عمر رضي الله عنهما إذا طلق ثلاثا يحسب له واحدة وفي ذلك
حديثان صحيحان أحدهما رواه مسلم في صحيحه والثاني رواه الإمام أحمد في مسنده
فأما حديث مسلم : فرواه من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الطلاق على عهد رسول اللهAوأبي بكر وسنتين من خلافة عمر : طلاق الثلاث واحدة فقال عمر رضي الله عنه : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم
وفي صحيحه أيضا عن طاوس : أن أبا الصهباء قال لابن عباس هات من هنياتك : ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللهA وأبي بكر واحدة فقال : قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم
وفي لفظ لأبي داود : أن رجلا يقال له : أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال (58/284)
أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللهAوأبي بكر وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنهما فقال ابن عباس بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللهA وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنهما فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها قال أجروهن عليهم هكذا في هذه الرواية قبل أن يدخل بها وبها أخذ إسحق بن راهويه وخلق من السلف جعلوا الثلاث واحدة في غير المدخول بها وسائر الروايات الصحيحة ليس فيها قبل الدخول ولهذا لم يذكر مسلم منها شيئا
وهذا الحديث قد رواه عن ابن عباس ثلاثة نفر : طاوس وهو أجل من روى عنه وأبو الصهباء العدوى وأبو الجوزاء وحديثه عند الحاكم في المستدرك
ولفظه : أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال : أتعلم أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله عليه السلام إلى واحدة قال : نعم قال الحاكم : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه
ورواية طاوس نفسه عن ابن عباس ليس في شيء منها قبل الدخول وإنما حكى ذلك طاوس عن سؤال أبي الصهباء لابن عباس فأجابه ابن عباس بما سأله عنه ولعله إنما بلغه جعل الثلاث واحدة في حق مطلق قبل الدخول فسأل عن ذلك ابن عباس وقال : كانوا يجعلونها واحدة فقال له ابن عباس نعم أي الأمر على ما قلت
وهذا لا مفهوم له فإن التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال ومثل هذا لا يعتبر مفهومه
نعم لو لم يكن السؤال مقيدا فقيد المسئول الجواب كان مفهومه معتبرا وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال : إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوه لم يدل ذلك على تقييد الحكم بالسمن خاصة
وبالجملة : فغير المدخول بها فرد من أفراد النساء فذكر النساء مطلقا في أحد الحديثين (58/285)
وذكر بعض أفرادهن في الحديث الآخر لا تعارض بينهما
وأما الحديث الآخر : فقال أبو داود في سننه : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبيA عن عكرمة عن ابن عباس قال : طلق عبد يزيد أبو ركانه وإخوته أم ركانه ونكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبيA فقالت : ما يغني ععني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبيAحمية فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه : أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا يشبه منه كذا وكذا قالوا نعم : فقال النيA طلقها ففعل فقال : راجع امرأتك أم ركانة فقال : إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال : قد علمت راجعها وتلا : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة [ الطلاق : 1 ] الآية
فأمره أن يراجعها وقد طلقها ثلاثا وتلا الآية التي هي وما بعدها صريحة في كون الطلاق الذي شرعه الله لعباده وهو الطلاق الذي يكون للعدة فإذا شارفت انقضاءها فإما أن يمسكها بمعروف أو يفارقها بمعروف وأنه سبحانه شرعه على وجه التوسعة والتيسير فلعل المطلق أن يندم فيكون له سبيل إلى الرجعة وهو قوله تعالى : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [ الطلاق : 1 ] فأمره بالمراجعة وتلاوته الآية كاف في الاستدلال على ما كان عليه الحال
فإن قيل : فهذا الحديث فيه مجهول وهو بعض بني أبي رافع والمجهول لا تقوم به حجة
فالجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الإمام أحمد قد قال في المسند : حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي عن محمد ابن إسحق قال : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : (58/286)
طلق ركانة بن عبد يزيد أخو المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول اللهA كيف طلقتها قال : طلقتها ثلاثا قال في مجلس واحد قال : نعم قال : فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت قال : فراجعها قال وكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر
ورواه الحافظ أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي في مختاراته التي هي أصح من صحيح الحاكم
فهذا موافق للأول وكلاهما موافق لحديث طاوس وأبي الصهباء وأبي الجوزاء عن ابن عباس وطاوس وعكرمة أعلم أصحاب ابن عباس فإن عكرمة كان مولاه مصاحبا له وكان يقيده على العلم وكان طاوس خاصا عنده يجتمع به كثيرا ويدخل عليه مع الخاصة وكان طاوس وعكرمة يفتيان بأن الثلاث واحدة وكذلك ابن إسحق لما صح عنده هذا الحديث أفتى بموجبه وكان يقول : جهل السنة فيرد إليها
فرواة هذا الحديث أفتوا به وعملوا به
وعن ابن عباس فيه روايتان إحداهما : موافقة عمر رضي الله عنه تأديبا وتعزيرا للمطلقين والثانية : الإفتاء بموجبه
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس وحسبك بهذا السند صحة وجلالة : إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة ذكره أبو داود في السنن
الوجه الثاني : أن هذا المجهول هو من التابعين من أبناء مولى النبيA ولم يكن الكذب مشهورا فيهم والقصة معروفة محفوظة وقد تابعه عليها داود بن الحصين وهذا يدل على أنه حفظها
الوجه الثالث : أن روايته لم يعتمد عليها وحدها فقد ذكرنا رواية داود بن الحصين وحديث أبي الصهباء فهب أن وجود روايته وعدمها سواء ففي حديث داود كفاية وقد زالت تهمة تدليس ابن اسحق بقوله حدثني وقد احتج الأئمة بهذا السند بعينه في حديث (58/287)
تقدير العرايا بخمسة أوسق أو دونها وأخذوا به وعملوا بموجبه مع مخالفة عمومات الأحاديث الصحيحة : في منع بيع الرطب بالتمر له
فالقول بهذه الأحاديث موافق لظاهر القرآن ولأقوال الصحابة وللقياس ومصالح بني آدم
أما ظاهر القرآن : فإن الله سبحانه شرع الرجعة في كل طلاق إلا طلاق غير المدخول بها والمطلقة طلقة ثالثة بعد الأولتين وليس في القرآن طلاق بائن قط إلا في هذين الموضعين وأحدهما بائن غير محرم والثاني بائن محرم وقال تعالى : الطلاق مرتان والمرتان ما كان مرة بعد مرة كما تقدم (58/288)
وأما القياس فإن الله سبحانه قال : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ النور : 6 ] ثم قال : ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله [ النور : 8 ] فلو قال : أشهد بالله أربع شهادات إني صادق أو قالت : أشهد بالله أربع شهادات إنه كاذب كانت شهادة واحدة ولم تكن أربعا فكيف يكون قوله : أنت طالق ثلاثا : ثلاث تطليقات وأي قياس أصح من هذا وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه ولهذا لو قال المقر بالزنى : إني أقر بالزنى أربع مرات كان ذلك مرة واحدة وقد قال الصحابة لماعز : إن أقررت أربعا رجمك رسول اللهA فلو قال : أقر به أربع مرات كانت مرة واحدة فهكذا الطلاق سواء
فهذا القياس وتلك الآثار وذاك ظاهر القرآن
وأما أقوال الصحابة : فيكفي كون ذلك على عهد الصديق ومعه جميع الصحابة لم يختلف عليه منهم أحد ولا حكي في زمانه القولان حتى قال بعض أهل العلم : إن ذلك إجماع قديم وإنما حدث الخلاف في زمن عمر رضي الله عنه واستمر الخلاف في المسألة إلى وقتنا هذا كما سنذكره
قالوا : فقد صح بلا شك أنهم كانوا في زمن رسول اللهA وأبي بكر مدة خلافته كلها وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنهما يوقعون على من طلق ثلاثا واحدة قالوا : فنحن أحق بدعوى الإجماع منكم لأنه لا يعرف في عهد الصديق أحد رد ذلك ولا خالفه فإن كان إجماع فهو من جانبنا أظهر ممن يدعيه من نصف خلافة عمر رضي الله عنه وهلم جرا فإنه لم يزل الاختلاف فيها قائما وذكره أهل العلم في مصنفاتهم قديما وحديثا
فممن ذكر الخلاف في ذلك : داود وأصحابه واختاروا أن الثلاث واحدة
وممن حكى الخلاف : الطحاوى في كتابه اختلاف العلماء وفي كتاب تهذيب الآثار (58/289)
وأبو بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن وحكاه ابن المنذر وحكاه ابن جرير وحكاه المؤرج في تفسيره وحكى حجة القولين ثم قال : وهي مسألة خلاف بين العلماء وحكاه محمد بن نصر المروزي واختار القول بالثلاث : أنها واحدة في حق البكر ثلاث في حق المدخول بها وحكاه من المتأخرين المازرى في كتاب المعلم وحكاه عن محمد بن محمد بن مقاتل من أصحاب أبي حنيفة وهو من أجل أصحابهم من الطبقة الثالثة من أصحاب أبي حنيفة فهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة وحكاه التلمساني في شرح التفريع في مذهب مالك قولا في مذهبه بل رواية عن مالك وحكاه غيره قولا في المذهب فهو أحد القولين في مذهب مالك وأبي حنيفة وحكاه غيره شيخ الإسلام عن بعض أصحاب أحمد وهو اختياره وأسوأ أحواله أن يكون كبعض أصحاب الوجوه في مذهبه كالقاضي وأبي الخطاب وهو أجل من ذلك فهو قول في مذهب أحمد بلا شك
وأما التابعون فقال ابن المنذر : كان سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار يقولون : من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة قال : واختلف في هذا الباب عن الحسن فروي عنه أنه ثلاث وذكر قتادة وحميد ويونس عنه : أنه رجع عن قوله بعد ذلك وقال : واحدة بائنة (58/290)
وقال محمد بن نصر في كتاب اختلاف العلماء : أجمع أهل العلم أن الرجل إذا طلق امرأته تطليقة ولم يدخل بها أنها بانت منه وليس عليها عدة واختلفوا في غير المدخول بها إذا طلقها الزوج ثلاثا بلفظ واحد فقال الأوزاعي ومالك وأهل المدينة : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وروي عن ابن عباس وغير واحد من التابعين أنهم قالوا : إذا طلقها ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة وأكثر أهل الحديث على القول الأول
قال : وكان إسحق يقول : طلاق الثلاث للبكر واحدة وتأول حديث طاوس عن ابن عباس : كان الطلاق الثلاث على عهد رسول اللهAوأبي بكر وعمر رضي الله عنهم يجعل واحدة : على هذا
قلت : هذا تأويل إسحق وأما أبو داود فجعله منسوخا فقال في كتاب السنن : باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله عنهما : أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : الطلاق مرتان [ البقره : 229 ] ثم ذكر في أثناء الباب حديث أبي الصهباء وكأنه اعتقد أن حكمه كان ثابتا لما كان الرجل يراجع امرأته كلما طلقها وهذا وهم لوجهين :
أحدهما : أن المنسوخ هو ثبوت الرجعة بعد الطلاق ولو بلغ ما بلغ كما كان في أول الإسلام
الثاني : أن النسخ لا يثبت بعد موت رسول اللهA وكون الثلاث واحدة قد عمل به في خلافة الصديق كلها وأول خلافة عمر رضي الله عنه فمن المستحيل أن ينسخ بعد ذلك
وأما ابن المنذر فقال : لم يكن ذلك عن علم النبيA ولا عن أمره قال : وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبيAشيئا ثم يفتي بخلافه فلما لم يجز ذلك دل فتيا ابن عباس رضي الله عنه على أن ذلك لم يكن عن علم النبيAولا عن أمره إذ لو كان ذلك عن علم النبيAما استحل ابن عباس أن يفتي بخلافه أو يكون ذلك منسوخا استدلالا بفتيا ابن عباس وهذا المسلك ضعيف جدا لوجوه : (58/291)
أحدها : أن حديث عكرمة عن ابن عباس في رد النبيAامرأة ركانة عليه بعد الطلاق الثلاث يبطل هذا التأويل رأسا
الثاني : أن هذا لو كان صحيحا لقال ابن عباس لأبي الصهباء : ما أدري أبلغ ذلك رسول اللهAأو لم يبلغه فلما أقره على ذلك كان إقراراه دليلا على أنه مما بلغه
الثالث : أنه لو كان ذلك صحيحا لم يقل عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة بل كان الواجب أن يبين له أن السنة عن رسول اللهAفي خلاف ذلك وأن هذا العمل من الناس خلاف دين الإسلام وشرع محمدA ولا يقول : فلو أنا أمضيناه عليهم فإن هذا إنما يكون إمضاء من الله تعالى ورسوله لا من عمر
الرابع : أنه من الممتنع أو المستحيل أن يكون خيار الخلق يطلقون في عهد رسول اللهAوعهد خليفته من بعده ويراجعون على خلاف دينه فيطلقون طلاقا محرما ويراجعون رجعة محرمة ولا يعلمون بذلك رسول اللهA وهو بين أظهرهم
ثم حديث ابن عباس الذي رواه أحمد يرد ذلك ثم ترده فتوى ابن عباس في إحدى الرواتين عنه وهي ثابتة عنه بأصح الإسناد كما أن الرواية الأخرى ثابتة عنه
وكيف يستمر جهل خيار الأمة بالطلاق والرجعة مدة حياتهAومدة حياة الصديق كلها وشطرا من خلافة عمر رضي الله عنه ثم يظهر لهم بعد ذلك الطلاق والرجعة الجائزان
وكيف يصح قول عمر رضي الله عنه : إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة
وكيف يصح قوله : فلو أنا أمضيناه عليهم فهذا المسلك كما ترى
وأما الإمام أحمد فإنما رده بفتوى ابن عباس بخلافه وهو راوي الحديثين قال الأثرم : سألت أبا عبدالله عن حديث ابن عباس كان الطلاق الثلاث على عهد (58/292)
رسول اللهA وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما : طلاق الثلاث واحدة بأي شيء تدفعه قال : برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه
وكذلك نقل عنه ابن منصور
وهذا المسلك إنما يجيء على إحدى الروايتين : أن الصحابي إذا عمل بخلاف الحديث لم يحتج به واتبع عمل الصحابي والمشهور عنه : أن العبرة بما رواه الصحابي لا بقوله إذا خالف الحديث ولهذا أخذ برواية ابن عباس في حديث بريرة وأن بيع الأمة لا يكون طلاقا لها لأن رسول اللهAخيرها ولو انفسخ النكاح ببيعها لم يخيرها مع أن مذهب ابن عباس : أن بيع الأمة طلاقها واحتج بظاهر القرآن وهو قوله تعالى : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ النساء : 24 ] فأباح وطء مملوكته المزوجة ولو كان النكاح باقيا لم ينفسخ لم يبح له وطأها
والجمهور وأحمد معهم خالفوه في ذلك وقالوا : لا يكون بيعها طلاقا
واحتجوا بحديث بريرة وتركوا رأيه لروايته فإن روايته معصومة ورأيه غير معصوم
والمشهور من مذهب الشافعي : أن الأخذ بروايته دون رأيه والمشهور من مذهب أبي حنفية عكس ذلك وعن أحمد روايتان
فهذا المسلك في ردع الحديث لا يقوى
وسلك آخرون في رد الحديث مسلكا آخر
فقالوا : هو حديث مضطرب لا يصح ولذلك أعرض عنه البخاري وترجم في صحيحه على خلافه فقال باب فيمن جوز الطلاق الثلاث في كلمة لقوله تعالى الطلاق مرتان (58/293)
ثم ذكر حديث اللعان وفيه فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول اللهA ولم يغير عليه النبيA وهو لا يقر على باطل
قالوا : ووجه اضطرابه : أنه تارة يروى عن طاوس عن ابن عباس وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس فهذا اضطرابه من جهة السند
وأما المتن : فإن أبا الصهباء تارة يقول : ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة وتارة يقول : ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللهA وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر واحدة فهذا يخالف اللفظ الآخر
وهذا المسلك من أضعف المسالك ورد الحديث به ضرب من التعنت ولا يعرف أحد من الحفاظ قدح في هذا الحديث ولا ضعفه والإمام أحمد لما قيل له : بأي شيء ترده قال : برواية الناس عن ابن عباس خلافه ولم يرده بتضعيف ولا قدح في صحته وكيف يتهيأ القدح في صحته ورواته كلهم أئمة حفاظ حدث به عبدالرزاق وغيره عن ابن جريج بصيغة الإخبار وحدث به كذلك ابن جريج عن ابن طاوس وحدث به ابن طاوس عن أبيه وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن وطاوس من أخص أصحاب ابن عباس ومذهبه : أن الثلاث واحدة وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس فلم ينفرد به عبدالرزاق ولا ابن جريج ولا عبدالله بن طاوس فالحديث من أصح الأحاديث وترك رواية البخاري له لا يوهنه وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه فإنه سماه : الجامع المختصر الصحيح ومثل هذا العذر لا يقبله من له حظ من العلم
وأما رواية من رواه عن أبي الجوزاء فإن كانت محفوظة فهي مما يزيد الحديث قوة وإن لم تكن محفوظة وهو الظاهر فهي وهم في الكنية انتقل فيها عبدالله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء فإنه كان سيء الحفظ والحفاظ قالوا : أبو الصهباء وهذا لا يوهن الحديث (58/294)
وهذه الطريق عند الحاكم في المستدرك
وأما رواية من رواه مقيدا قبل الدخول فإنه تقدم أنها لا تناقض رواية الآخرين على أنها عند أبي داود عن أيوب عن غير واحد ورواية الإطلاق عن معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه فإن تعارضا فهذه الرواية أولى وإن لم يتعارضا فالأمر واضح
وحديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبيAصريح في كون الثلاث واحدة في حق المدخول بها
وعامة ما يقدر في حديث أبي الصهباء : أن قوله قبل الدخول زيادة من ثقة فيكون الأخذ بها أولى
وحينئذ فيدل أحد حديثى ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت في حق البكر وحديثه الآخر على أنه ثابت في حكم الثيب أيضا فأحد الحديثين يقوى الآخر ويشهد بصحته وبالله التوفيق
وقد رده آخرون بمسلك أضعف من هذا كله :
فقالوا : هذا حديث لم يروه عن رسول الله إلا ابن عباس وحده ولاعن ابن عباس إلا طاوس وحده قالوا : فأين أكابر الصحابة وحفاظهم عن رواية مثل هذا الأمر العظيم الذي الحاجة إليه شديدة جدا فكيف خفي هذا على جميع الصحابة وعرفه ابن عباس وحده وخفي على أصحاب ابن عباس كلهم وعلمه طاوس وحده
وهذا أفسد من جميع ما تقدم ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بمثل هذا فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة لم يروه غيره وقبلته الأمة كلهم فلم يرده أحد منهم وكم من حديث تفرد به من هو دون طاوس بكثير ولم يرده أحد من الأئمة ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا قال : إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل وإنما يحكي عن أهل البدع ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء (58/295)
قد تفرد الزهري بنحو ستين سنة لم يروها غيره وعملت بها الأمة ولم يردوها بتفرده
هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث ركانة وهو موافق لحديث طاوس عنه فإن قدح في عكرمة أبطل وتناقض فإن الناس احتجوا بعكرمة وصحح أئمة الحفاظ حديثه ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه
فإن قيل : فهذا هو الحديث الشاذ وأقل أحواله أن يتوقف فيه ولا يجزم بصحته عن رسول اللهA
قيل : ليس هذا هو الشاذ وإنما الشذوذ : أن يخالف الثقات فيما رووه فيشذ عنهم بروايته فأما إذا روى الثقة حديثا منفردا به لم يرو الثقات خلافه فإن ذلك لا يسمى شاذا وإن اصطلح على تسميته شاذا بهذا المعنى لم يكن هذا الاصطلاح موجبا لرده ولا مسوغا له
قال الشافعي رحمه الله : وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات قاله في مناظرته لبعض من رد الحديث بتفرد الراوي به
ثم إن هذا القول لا يمكن احدا من أهل العلم ولا من الأئمة ولا من أتباعهم طرده ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم
والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيرا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة انفرد بها رواتها لا تعرف عن سواهم وذلك أشهر وأكثر من أن يعد
ولما رأى بعضهم ضعف هذه المسالك وأنها لا تجدي شيئا استروح إلى تأويله فقال : معنى الحديث : أن الناس كانوا يطلقون على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر واحدة ولا يوقعون الثلاث فلما كان في أثناء خلافة عمر رضي الله عنه أوقعوا الثلاث وأكثروا من ذلك فأمضاه عليهم عمر رضي الله عنه كما أوقعوه فقوله : كانت الثلاث على عهد رسول اللهAواحدة أي في حق التطليق وإيقاع المطلقين لا في حكم الشرع (58/296)
قال هذا القائل : وهذا من أقوى ما يجاب به وبه يزول كل إشكال
ولعمر الله لو سكت هذا كان خيرا له وأستر فإن هذا المسلك من أضعف ما قيل في الحديث وسياقه يبيعن بطلانه بيانا ظاهرا لا إشكال فيه وكأن قائله أحب الترويج على قوم ضعفاء العلم مخلدين إلى حضيض التقليد فروج عليهم مثل هذا وهذا القائل كأنه لم يتأمل ألفاظ الحديث ولم يعن بطرقه فقد ذكرنا من بعض ألفاظه قول أبي الصهباء لابن عباس : أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللهA وأبي بكر رضي الله عنه وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنه فأقر ابن عباس بذلك وقال نعم
وأيضا فقول هذا المتأول : إنهم كانوا يطلقون على عهد رسول اللهAواحدة فقد نقضه هو بعينه وأبطله حيث احتج على وقوع الثلاث بحديث الملاعن وحديث محمود بن لبيد أن رجلا طلق امرأته على عهد رسول اللهAثلاثا فغضب النبيAوقال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ثم زاد هذا القائل في الحديث زيادة من عنده فقال وأمضاه عليه ولم يرده
وهذه اللفظة موضوعة لا تروى في شيء من طرق هذا الحديث ألبتة وليست في شيء (58/297)
من كتب الحديث وإنما هي من كيس هذا القائل حمله عليها فرط التقليد ومحمود بن لبيد لم يذكر ما جرى بعد ذلك من إمضاء أو رد إلى واحدة
والمقصود : أن هذا القائل تناقض وتأول الحديث تأويلا يعلم بطلانه من سياقه
ومن بعض ألفاظه أن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر يرد إلى الواحدة وهذا موافق للفظ الآخر كان إذا طلق امرأته ثلاثا جعلوها واحدة وجميع ألفاظه متفقة على هذا المعنى يفسر بعضها بعضا
فجعل هذا وأمثاله المحكم متشابها والواضح مشكلا
كيف يصنع بقوله فلو أمضيناه عليهم فإن هذا يدل على أنه رأي من عمر رضي الله عنه رأى أن يمضيه عليهم لتتايعهم فيه وسدهم على أنفسهم ما وسعه الله عليهم وجمعهم ما فرقه وتطليقهم على غير الوجه الذي شرعه وتعديهم حدوده ومن كمال علمه رضي الله عنه : أنه علم أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل المخرج إلا لمن اتقاه وراعى حدوده وهؤلاء لم يتقوه في الطلاق ولا راعوا حدوده فلا يستحقون المخرج الذي ضمنه لمن اتقاه
ولو كان الثلاث تقع ثلاثا على عهد رسول اللهA وهو دينه الذي بعثه الله تعالى به لم يضف عمر رضي الله عنه إمضاءه إلى نفسه ولا كان يصح هذا القول منه وهو بمنزلة أن يقول في الزنى وقتل النفس وقذف المحصنات : لو حرمناه عليهم فحرمه عليهم وبمنزلة أن يقول في وجوب الظهر والعصر ووجوب صوم شهر رمضان والغسل من الجنابة : لو فرضناه عليهم ففرضه عليهم
فدعوى هذه التأويلات المستكرهة التي كلما نظر فيها طالب العلم ازداد بصيرة في المسألة وقوي جانبها عنده فإنه يرى أن الحديث لا يرد بمثل هذه الأشياء
قد سلك أبو عبد الرحمن النسائي في سننه في الحديث مسلكا آخر وقوى جانبها عنده فقال : باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة ثم ساقه فقال : حدثنا أبو داود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال : يا ابن عباس ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول اللهA (58/298)
وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة قال : نعم وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة وبين لفظ الحديث وجدتها لا يدل عليها ولا يشعر بها بوجه من الوجوه بل الترجمة لون والحديث لون آخر وكأنه لما أشكل عليه لفظ الحديث حمله على ما إذا قال لغير المدخول بها : أنت طالق أنت طالق طلقت واحدة ومعلوم أن هذا الحكم لم يزل ولا يزال كذلك ولا يتقيد ذلك بزمان رسول اللهAوأبي بكر وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنه ثم يتغير في خلافة عمر رضي الله عنه ويمضي الثلاث بعد ذلك على المطلق فالحديث لا يندفع بمثل هذا ألبتة
وسلك آخرون في الحديث مسلكا آخر وقالوا : هذا الحديث يخالف أصول الشرع فلا يلتفت إليه
قالوا : لأن الله سبحانه ملك الزوج ثلاث تطليقات وجعل إيقاعها إليه فإن قلنا بقول الشافعي ومن وافقه أن جمع الثلاث جائز فقد فعل ما أبيح له فيصح وإن قلنا : جمع الثلاث حرام وهو طلاق بدعي فالشارع إنما ملكه تفريق الثلاث فسحة له فإذا جمعها فقد جمع ما فسح له في تفريقه فلزمه حكمه كما لو فرقه
قالوا : وهذا كما أنه يملك تفريق المطلقات وجمعهن فكذلك يملك تفريق الطلاق وجمعه فهذا قياس الأصول فلا نبطله بخبر الواحد
قال الآخرون : هذا القياس لا يصلح أن يثبت به هذا الحكم لو لم يعارض بنص فضلا عن أن يقدم على النص وهو قياس مخالف لأصول الشرع ولغة العرب وسنة رسول اللهA وعمل الصحابة في عهد الصديق
فأما مخالفته لأصول الشرع فإن الله سبحانه إنما ملك المطلق بعد الدخول طلاقا بملك فيه الرجعة ويكون مخيرا فيه بين الإمساك بالمعروف وبين التسريح بالإحسان ما لم يكن بعوض أو يستوفي فيه العدد والقرآن قد بين ذلك كله فبين أن الطلاق قبل الدخول تبين به المرأة ولا عدة عليها وبين أن المفتدية تملك نفسها ولا رجعة لزوجها عليها وبين أن المطلقة الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها تبين منه وتحرم عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وبين (58/299)
أن ما عدا ذلك من الطلاق فللزوج فيه الرجعة وهو مخير بين الإمسك بالمعروف والتسريح بإحسان
وهذا كتاب الله عز و جل قد تضمن هذه الأنواع الأربعة وأحكامها وجعل سبحانه وتعالى أحكامها من لوازمها التي لا تنفك عنها فلا يجوز ان تتغير أحكامها البتة فكما لا يجور في الطلاق قبل الدخول أن تثبت فيه الرجعة وتجب به العدة ولا في الطلقة المسبوقة بطلقتين أن يثبت فيها الرجعة وأن تباح بغير زوج وإصابة ولا في طلاق الفدية أن تثبت فيه الرجعة فكذلك لا يجوز في النوع الآخر من الطلاق ان يتغير حكمه فيقع على وجه لا تثبت فيه الرجعة فإنه مخالف لحكم الله تعالى الذي حكم به فيه وهذا صفة لازمة له فلا يكون على خلافها البتة
ومن تأمل القرآن وجده لا يحتمل غير ذلك فما شرع الله سبحانه الطلاق إلا وشرع فيه الرجعة إلا الطلاق قبل الدخول وطلاق الخلع والطلقة الثالثة فبيننا وبينكم كتاب الله فإن كان فيه شيء غير هذا فأوجدونا إياه
ومما يوضح ذلك : أن جمهور الفقهاء من الطوائف الثلاثة احتجوا على الشافعي في تجويزه جمع الثلاث بالقرآن وقالوا : ما شرع الله سبحانه جمع الطلاق الثلاث وما شرع الطلاق بعد الدخول بغير عوض إلا شرع فيه الرجعة ما لم يستوف العدد
واحتجوا عليه بقوله تعالى الطلاق مرتان [ ] قالوا : ولا يعقل في لغة من لغات
الأمم المرتان إلا مرة بعد مرة فعارضهم بعض أصحابه بقوله تعالى ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين [ الأحزاب : 31 ] وقوله صلى الله عليه و سلم ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين
فأجابهم الآخرون : بأن المرتين والمرات يراد بها الأفعال تارة والأعيان تارة وأكثر ما تستعمل في الأفعال وأما الأعيان فكقوله في الحديث : انشق القمر على عهد رسول اللهA (58/300)
مرتين أي شقتين وفلقتين ولما خفي هذا على من لم يحط به علما زعم أن الانشقاق وقع مرة بعد مرة في زمانين وهذا مما يعلم أهل الحديث ومن له خبرة بأحوال الرسولAوسيرته أنه غلط وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة ولكن هذا وأمثاله فهموا من قوله مرتين المرة الزمانية
اذا عرف هذا فقوله نؤتها أجرها مرتين [ الأحزاب : 31 ] وقوله يؤتون أجرهم مرتين [ القصص : 54 ] أي ضعفين فيؤتون أجرهم مضاعفا وهذا يمكن اجتماع المرتين منه في زمان واحد وأما المرتان من الفعل فمحال اجتماعهما في زمن واحد فإنهما مثلان واجتماع المثلين محال وهو نظير اجتماع حرفين في آن واحد من متكلم واحد وهذا مستحيل قطعا فيستحيل أن يكون مرتا الطلاق في إيقاع واحد
ولهذا جعل مالك وجمهور العلماء من رمى الجمار بسبع حصيات جملة أنه غير مؤدي للواجب عليه وإنما يحتسب له رمي حصاة واحدة فهي رمية لا سبع رميات
واتفقوا كلهم على أنه لو قال في اللعان : أشهد بالله أربع شهادات أني صادق كانت شهادة واحدة وفي الحديث الصحيح : من قال في يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر فلو قال : سبحان الله وبحمده مائة مرة هذا اللفظ لم يستحق الثواب المذكور وكانت تسبيحة واحدة
وكذلك قوله تسبحون الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدون ثلاثا وثلاثين وتكبرون أربعا وثلاثين لو قال : سبحان الله ثلاثا وثلاثين لم يكن مسبحا هذا العدد حتى يأتي به واحدة بعد واحدة
ونظائر ذلك في الكتاب والسنة اكثر من أن تذكر
قالوا : فقوله تعالى الطلاق مرتان إما أن يكون خبرا في معنى الأمر أي إذا طلقتم (58/301)
فطلقوا مرتين وإما أن يكون خبرا عن حكمه الشرعي الديني أي الطلاق الذي شرعته لكم وشرعت فيه الرجعة مرتان
وعلى التقديرين إنما يكون ذلك مرة بعد مرة فلا يكون موقعا للطلاق الذي شرع إلا إذا طلق مرة بعد مرة ولا يكون موقعا للمشروع بقوله أنت طالق ثلاثا ولا مرتين
قالوا ويوضح ذلك أنه حصر الطلاق المشروع في مرتين فلو شرع جمع الطلاق في دفعة واحدة لم يكن الحصر صحيحا ولم يكن الطلاق كله مرتان بل كان منه مرتان ومنه مرة واحدة تجمعه وهذا خلاف ظاهر القرآن وأنه لا طلاق للمدخول بها إلا مرتان وتبقى الثالثة المحرمة بعد ذلك
قالوا ويدل عليه أن الطلاق اسم محلي باللام وليست للعهد بل للعموم فالمراد بالآية كل الطلاق مرتان والمرة الثالثة التي تحرمها عليه وتسقط رجعته وهذا صريح في أن الطلاق المشروع هو المتفرق لأن المرات لا تكون إلا متفرقة كما تقدم
قالوا ويدل عليه قوله تعالى 2 : 229 فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فهذا حكم كل طلاق شرعه الله إلا الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها فإنه لا يبقى بعدها إمساك
قالوا ويدل عليه قوله تعالى 2 : 230 وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف وإذا من أدوات العموم كأنه قال أي طلاق وقع منكم في أي وقت فحكمه هذا إلا أنه أخرج من هذا العموم الطلقة المسبوقة باثنتين فبقي ما عداها داخلا في لفظ الآية نصا أو ظاهرا
قالوا ويدل عليه أيضا قوله تعالى 2 : 231 وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن فهذا عام في كل طلاق غير الثالثة المسبوقة باثنتين فالقرآن يقتضي أن ترجع إلى زوجها إذا أراد في كل طلاق ما عدا الثالثة
قالوا ويدل عليه أيضا قوله تعالى 65 : 1 يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ووجه الاستدلال بالآية من وجوه (58/302)
أحدها أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها أي لاستقبال عدتها فتطلق طلاقا يعقبه شروعها في العدة ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حيضها أن يراجعها وتلا هذه الآية تفسير للمراد بها وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة وكذلك كان يقرؤها عبدالله بن عمر ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث إنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر لأنه غير مطلق للعدة فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى فلا تكون الثانية للعدة
ثم قال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ومن وافقه إذا أراد أن يطلقها ثانية طلقها بعد عقد أو رجعة لأن العدة تنقطع بذلك فإذا طلقها بعد ذلك أخرى طلقها للعدة
وقال في رواية أخرى عنه له أن يطلقها الثانية في الطهر الثاني ويطلقها الثالثة في الطهر وهو قول أبي حنيفة فيكون مطلقا للعدة أيضا لأنها تبتني على ما مضى والصحيح هو الأول وأنه ليس له أن يردف الطلاق قبل الرجعة والعقد لأن الطلاق الثاني لم يكن لاستقبال العدة بل هو طلاق لغير العدة فلا يكون مأذونا فيه فإن العدة إنما تحسب من الطلقة الأولى لأنها طلاق العدة بخلاف الثانية والثالثة
ومن جعله مشروعا قال هو الطلاق لتمام العدة والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها وكلاهما طلاق للعدة
وأصحاب القول الأول يقولون المراد بالطلاق للعدة الطلاق لاستقبالها كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة فطلقوهن في قبل عدتهن
قالوا فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه ولهذا يسوغ الإرداف في الأطهار من لا يجوز الجمع في الطهر الواحد
وقد احتج عبدالله بن عباس على تحريم جمع الثلاث بهذه الآية
قال مجاهد كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول يا ابن عباس (58/303)
وإن الله عز و جل قال ومن يتق الله يجعل له مخرجا فما أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك وإن الله عز و جل قال يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن وهذا حديث صحيح
ففهم ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرم وهذا فهم من دعا له النبي صلى الله عليه و سلم أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل وهو من أحسن الفهوم كما تقرر
الوجه الثاني من الاستدلال بالآية قوله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن وهذا إنما هو الطلاق الرجعي فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم الصحيحة التي لا مطعن في صحتها الصريحة التي لا شبهة في دلالتها فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله ولهذا قال الجمهور إنه لا يشرع له ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض
وأبو حنيفة قال لا يملك ذلك لأن الرجعة حقه وقد أسقطها
والجمهور يقولون ثبوت الرجعة وإن كان حقا له فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالعة أو باستيفاء العدد كما دل عليه القرآن
الوجه الثالث أنه قال 65 : 1 وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما
الوجه الرابع أنه سبحانه قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن وهم الصحابة أن الأمر ههنا هو الرجعة قالوا وأي أمر يحدث بعد الثلاث
الوجه الخامس قوله تعالى 2 : 230 فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف فهذا حكم كل طلاق شرعه الله إلا أن يسبق بطلقتين قبله وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن كما تقدم وهذا حق فإن الآية إذا دلت على منع إرداف (58/304)
الطلاق الطلاق في طهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم لأنه يكون مطلقا في غير قبل العدة فلأن تدل على تحريم الجمع أولى وأحرى
قالوا والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرفقها بالزوج والزوجة لئلا يتسارع العبد في وقوعه ومفارقة حبيبته وقد وقت للعدة أجلا لاستدراك الفارط بالرجعة فلم يبح له أن يطلق المرأة في حال حيضها لأنه وقت نفرته عنها وعدم قدرته على استمتاعه بها ولا عقيب جماعها لأنه قد قضى غرضه منها وربما فترت رغبته فيها وزهد في إمساكها لقضاء وطره فإذا طلقها في هاتين الحالتين ربما يندم بعد هذا مع ما في الطلاق في الحيض من تطويل العدة وعقيب الجماع من طلاق لعلها قد اشتمل رحمها على ولد منه فلا يريد فراقها فأما إذا حاضت ثم طهرت فنفسه تتوق إليها لطول عهده بجماعها فلا يقدم على طلاقها في هذه الحال إلا لحاجته إليه فلم يبح له الشارع أن يطلقها إلا في هذه الحال أو في حال استبانة حملها لأن إقدامه أيضا على طلاقها في هذه الحال دليل على حاجته إلى الطلاق
وقد أكد النبي صلى الله عليه و سلم هذا بمنعه لعبدالله بن عمر أن يطلق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها بل أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن بدا له أن يطلقها فليطلقها وفي ذلك عدة حكم
منها أن الطهر المتصل بالحيضة هو وهي في حكم القرء الواحد فإذا طلقها في ذلك الطهر فكأنه طلقها في الحيضة لاتصاله بها وكونه معها كالشيء الواحد
الثانية أنه لو أذن له في طلاقها في ذلك الطهر فيصير كأنه راجع لأجل الطلاق وهذا ضد مقصود الرجعة فإن الله تعالى إنما شرع الرجعة للإمساك ولم شعث النكاح وعود الفراش فلا يكون لأجل الطلاق فيكون كأنه راجع ليطلق وإنما شرعت الرجعة ليمسك وبهذا بعينه أبطلنا نكاح المحلل فإن الله سبحانه وتعالى شرع النكاح للإمساك والمعاشرة والمحلل تزوج ليطلق فهو مضاد لله تعالى في شرعه ودينه (58/305)
الثالثة أنه إذا صبر عليها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر زال ما في نفسه من الغضب الحامل له على الطلاق وربما صلحت الحال بينهما وأقلعت عما يدعوه إلى طلاقها فيكون تطويل هذه المدة رحمة به وبها وإذا كان الشارع ملتفتا إلى مثل هذه الرحمة والشفقة على الزوج وشرع الطلاق على هذا الوجه الذي هو أبعد شيء عن الندم فكيف يليق بشرعه أن يشرع إبانتها وتحريمها عليه بكلمة واحدة يجمع فيها ما شرعه متفرقا بحيث لا يكون له سبيل إليها وكيف يجتمع في حكمة الشارع وحكمه هذا وهذا
فهذه الوجوه ونحوها ما بين بها الجمهور أن جمع الثلاث غير مشروع هي بعينها تبين عدم الوقوع وأنه إنما يقع المشروع وحده وهي الواحدة
قالوا فتبين أنا بأصول الشرع وقواعده أسعد منكم وأن قياس الأصول وقواعد الشرع من جانبنا وقد تأيدت بالسنة الصحيحة التي ذكرناها
وقولكم إن المطلق ثلاثا قد جمع ما فسح له في تفريقه هو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب فإنه إنما أذن له فيه وملكه متفرقا لا مجموعا فإذا جمع ما أمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه ولهذا قال من قال من السلف رجل أخطأ السنة فيرد إليها فهذا أحسن من كلامكم وأبين وأقرب إلى الشرع والمصلحة
ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملكه الله تعالى العبد وأذن فيه متفرقا فأراد أن يجمعه كرمي الجمار الذي إنما شرع له مفرقا واللعان الذي شرع كذلك وأيمان القسامة التي شرعت كذلك ونظير قياسكم هذا أن له أن يؤخر الصلوات كلها ويصليها في وقت واحد لأنه جمع ما أمر بتفريقه على أن هذا قد فهمه كثير من العوام يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل ويصلون الجميع في وقت واحد ويحتجون بمثل هذه الحجة بعينها ولو سكتم عن نصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها (58/306)
فصل فاستروح بعضهم إلى مسلك آخر غير هذه المسالك لما تبين له
فسادها
فقال هذا حديث واحد والأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم دالة على خلافه وذكروا أحاديث
منها ما في الصحيحين عن فاطمة بنت قيس أن أبا حفص بن المغيرة طلقها ألبتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فجاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت له ذلك فقال ليس لك عليه نفقة
وقد جاء تفسير هذه ألبتة في الحديث الآخر الصحيح أنه طلقها ثلاثا فلم يجعل لها النبي صلى الله عليه و سلم سكنى ولا نفقة فقد أجاز عليه الثلاث وأسقط بذلك نفقتها وسكناها
وفي المسند أن هذه الثلاث كانت جميعا فروى من حديث الشعبي أن فاطمة خاصمت أخا زوجها إلى النبي صلى الله عليه و سلم لما أخرجها من الدار ومنعها النفقة فقال مالك ولابنة قيس قال يا رسول الله إن أخي طلقها ثلاثا جميعا وذكر الحديث
ومنها ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت فسئل النبي صلى الله عليه و سلم أتحل للأول قال لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول
ووجه الدليل أنه لم يستفصل هل طلقها ثلاثا مجموعة أو متفرقة ولو اختلف الحال لوجب الاستفصال
ومنها ما اعتمد عليه الشافعي في قصة الملاعنة أن عويمرا العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله رأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فائت بها قال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه و سلم (58/307)
فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الزهري وكانت تلك سنة المتلاعنين متفق على صحته
قال الشافعي فقد أقره رسول الله صلى الله عليه و سلم على الطلاق ثلاثا ولو كان حراما لما أقره عليه
ومنها ما رواه النسائي عن محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال يا رسول الله ألا أقتله ولم يقل إنه لم يقع عليه إلا واحدة بل الظاهر أنه أجازها عليه إذ لو كانت ولم يقع عليه إلا واحدة لبين له ذلك لأنه إنما طلقها ثلاثا يعتقد لزومها فلو لم يلزمه لقال له هي زوجتك بعد وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
ومنها ما رواه أبو داود وابن ماجة عن ركانة أنه طلق امرأته ألبتة فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما أردت قال واحدة قال آلله ما أردت بها إلا واحدة قال آلله ما أردت بها إلا واحدة ورواه الترمذي وفيه فقال يا رسول الله إني طلقت امرأتي ألبتة فقال ما أردت بها فقلت واحدة قال والله قلت والله قال فهو ما أردت قال أبو دواد وهذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وقال ابن ماجة سمعت أبا الحسن علي بن محمد الطنافسي يقول ما أشرف هذا الحديث قال أبو عبدالله بن ماجه : أبو عبيد تركه ناجية وأحمد جبن عنه (58/308)
ووجه الدلالة : أنه حلفه ما أراد بها إلا واحدة وهذا يدل على أنه لو أراد بها أكثر من واحدة لألزمه ذلك ولو كانت واحدة مطلقا لم يفترق الحال بين أن يريد واحدة أو أكثر وإذا كان هذا في الكناية فكيف بالطلاق الصريح إذا صرح فيه بالثلاث
ومنها : ما رواه الدارقطني من حديث حماد بن زيد : حدثنا عبدالعزيز بن صهيب عن أنس قال سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت معاذ بن جبل يقول : سمعت رسول اللهAيقول : يا معاذ من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته ومنها : ما رواه الدارقطني من حديث إبراهيم بن عبيدالله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال : طلق بعض آبائي امرأته ألبتة فانطلق بنوه إلى رسول اللهA فقالوا : يا رسول الله إن أبانا طلق امرأته ألفا فهل له من مخرج فقال : إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا بانت منه : بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه
ومنها : ما رواه الدارقطني أيضا من حديث زاذان عن علي رضي الله عنه قال : سمع النبيAرجلا طلق ألبتة فغضب وقال : أتتخذون آيات الله هزوا أو دين الله هزوا ولعبا من طلق ألبتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره
ومنها : ما رواه الدارقطني من حديث الحسن البصري قال : حدثنا عبدالله بن عمر : أنه طلق امرأته وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرءين فبلغ ذلك رسول اللهAفقال : يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله تعالى إنك قد أخطأت السنة والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق عند ذلك أو أمسك فقلت : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها قال : لا كانت تبين منك وتكون معصية
ومنها : ما رواه أبو داود والنسائي عن حماد بن زيد قال : قلت لأيوب : هل علمت أحدا قال في أمرك بيدك إنها ثلاث غير الحسن قال : لا ثم قال : اللهم غفرا إلا ما حدثني (58/309)
قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيAقال : ثلاث فلقيت كثيرا فسألته فلم يعرفه فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال : نسي رواه الترمذي وقال : لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب عن حماد بن زيد وحسبك بسليمان بن حرب وحماد بن زيد ثقتين ثبتين
ومنها : ما رواه البيهقي من حديث سويد بن غفلة عن الحسن أنه طلق عائشة الخثعمية ثلاثا ثم قال : لولا أني سمعت جدي أو حدثني أبي أنه سمع جدي يقول : أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثا مبهمة لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره : لراجعتها رواه من حديث محمد بن حميد : حدثنا سلمة بن الفضل عن عمر بن أبي قيس عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد وهذا مرفوع قالوا : فهذه الأحاديث أكثر وأشهر وعامتها أصح من حديث أبي الصهباء وحديث ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس فيجب تقديمها عليه ولا سيما على قاعدة الإمام أحمد فإنه يقدم الأحاديث المتعددة على الحديث الفرد عند التعارض وإن كان الحديث الفرد متأخرا كما قدم في إحدى الروايتين أحاديث تحريم الأوعية على حديث بريدة لكونها كثيرة متعددة وحديث بريدة في إباحتها فرد وهو متأخر فانه قال : كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فاشربوا فيما بدا لكم غير أن لا تشربوا مسكرا مع أنه حديث صحيح رواه مسلم ولا يعرف له علة (58/310)
فصل قال الآخرون : هذه الأحاديث التي ذكرتموها ولم تدعوا بعدها شيئا
هي بين أحاديث صحيحة لا مطعن فيها ولا حجة فيها وبين أحاديث صريحة الدلالة ولكنها باطلة أو ضعيفة لا يصح شىء منها
ونحن نذكر ما فيها ليتبين الصواب ويزول الإشكال
أما حديث فاطمة بنت قيس : فمن أصح الأحاديث مع أن أكثر المنازعين لنا في هذه المسئلة قد خالفوه ولم يأخذوا به فأوجبوا للمبتوتة النفقة والسكنى ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه وأما الشافعي ومالك فأوجبوا لها السكنى والحديث قد صرح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى فخالفوه ولم يعملوا به فإن كان الحديث صحيحا فهو حجة عليكم وإن لم يكن محفوظا بل هو غلط كما قال بعض المتقدمين فليس حجة علينا في جمع الثلاث فأما أن يكون حجة على منازعيكم وليس حجة لهم عليكم فبعيد من الإنصاف والعدل هذا مع أنا نتنزل عن هذا المقام ونقول : الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من (58/311)
المحتج به ولو تأمل طرق الحديث وكيف وقعت القصة لم يحتج به فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة وإنما كان قد طلقها تطليقتين من قبل ذلك ثم طلقها آخر الثلاث هكذا جاء مصرحا به في الصحيح فروى مسلم في صحيحه عن عبيدالله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة فقالا لها : والله مالك نفقة إلا أن تكوني حاملا فأتت النبيAفذكرت له قولهما فقال : لا نفقة لك وساق الحديث بطوله
فهذا المفسر يبين ذلك المجمل وهو قوله طلقها ثلاثا
وقال الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس : أنها أخبرته أنها كانت تحت أبي حفص بن المغيرة وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات وساق الحديث ذكره أبو داود ثم قال : وكذلك رواه صالح بن كسيان وابن جريج وشعيب بن أبي حمزة كلهم عن الزهري ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر عن (58/312)
الزهري عن عبيدالله قال : أرسل مروان إلى فاطمة فسألها فأخبرته : أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة وكان النبيAأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على بعض اليمن فخرج معه زوجها فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها وذكر الحديث بتمامه والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصة بن ذؤيب كذلك ذكره أبو داود في طريق أخرى
فهذا بيان حديث فاطمة بنت قيس قالوا : ونحن أخذنا به جميعه ولم نخالف شيئا منه إذ كان صحيحا صريحا لا مطعن فيه ولا معرض له فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار
وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ طلقها ثلاثا و طلقها البتة و طلقها آخر ثلاث تطليقات و أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها و طلقها ثلاثا جميعا
هذه جملة ألفاظ الحديث والله الموفق
فأما اللفظ الخامس وهو قوله طلقها ثلاثا جميعا فهذا أولا من حديث مجالد عن الشعبي ولم يقل ذلك عن الشعبي غيره مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبي فتفرد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله ثلاثا جميعا وعلى تقدير صحته : فالمراد به : أنه أجتمع لها التطليقات الثلاث لا أنها وقعت بكلمة واحدة فإذا طلقها آخر ثلاث صح أن يقال : طلقها ثلاثا جميعا فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد وهو الأغلب عليها لا الإجتماع في الآن الواحد لقوله تعالى : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا [ يونس : 99 ] فالمراد حصول إيمان من الجميع لا إيمانهم كلهم في آن واحد سابقهم ولاحقهم
فصل وكذلك ما ذكروه من حديث عائشة رضي الله عنها : أن رجلا طلق
امرأته ثلاثا فسئل النبيA أتحل للأول فقال : لا الحديث هو حق يجب المصير إليه لكن ليس فيه أنه طلقها ثلاثا بفم واحد فلا تدخلوا فيه ما ليس فيه وقولكم : ولم يستفصل جوابه : أن الحال قد كان عندهم معلوما وأن الثلاث إنما (58/313)
تكون ثلاثا واحدة بعد واحدة وهذا مقتضى اللغة والقرآن والشرع والعرف كما بينا فخرج على المفهوم المتعارف من لغة القوم
فصل وأما ما اعتمد عليه الشافعي : من طلاق الملاعن ثلاثا بحضرة رسول
اللهAولم ينكره فلا دليل فيه لأن الملاعنة يحرم عليه إمساكها وقد حرمت تحريما مؤبدا فما زاد الطلاق الثلاث هذا التحريم الذي هو مقصود اللعان إلا تأكيدا وقوة وهذا جواب شيخنا رحمه الله وقال ابن المنذر وقد ذكر الأدلة على تحريم جمع الطلاق الثلاث وأنه بدعة ثم
قال : وأما ما اعتل به من رأى أن مطلق الثلاث في مرة واحدة مطلق للسنة بحديث العجلاني فإنما أوقع الطلاق عنده على أجنبيةعلم الزوج الذي طلق ذلك أو لم يعلم لأن قائله يوقع الفرقة بالتعان الرجل قبل أن تلتعن المرأة فغير جائز أن يحتج بمثل هذه الحجة من يرى أن الفرقة تقع بالتعاونى الزوج وحده انتهى
وحينئذ فنقول : إما أن تقع الفرقة بالتعان الزوج وحده كما يقوله الشافعي أو بالتعانهما كما يقوله أحمد أو يقف على تفريق الحاكم فإن وقعت بالتعانه أو التعانهما فالطلاق الذي وقع منه لغو لم يفد شيئا البتة بل هو في طلاق أجنبية وإن وقفت الفرقة على تفريق الحاكم فهو يفرق بينهما تفريقا يحرمها عليه تحريما مؤبدا فالطلاق الثلاث أكد هذا التحريم الذي هو موجب اللعان ومقصود الشارع فكيف يلحق به طلاق الملاعنة وبينهما أعظم فرق
فصل وأما حديث محمود بن لبيد في قصة المطلق ثلاثا فالاحتجاج به على
الجواز من باب قلب الحقائق والاحتجاج بأعظم ما يدل على التحريم لا على الإباحة والاستدلال به على (58/314)
الوقوع من باب التكهن والخرص والزيادة في الحديث ما ليس فيه ولا يدل عليه بشيء من وجوه الدلالات ألبتة ولكن المقلد لا يبالي بنصرة تقليده بما اتفق له وكيف يظن برسول اللهAأنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله وصححه واعتبره في شرعه وحكمه ونفذه وقد جعله مستهزئا بكتاب الله تعالى وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع جمع الثلاث ولا جعله في أحكامه
فصل وأما حديث ركانه أنه طلق امرأته البتة وأن رسول اللهAاستحلفه ما
أراد بها إلا واحدة فحديث لا يصح قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب العلل له : قال أحمد : حديث ركانه ليس بشيء وقال الخلال في كتاب العلل عن الأثرم : قلت لأبي عبدالله : حديث ركانه في البتة فضعفه وقال : ذاك جعله بنيته
وقال شيخنا : الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث : كالإمام أحمد والبخاري وأبي عبيد وغيرهم ضعفوا حديث ركانه ألبتة وكذلك أبو محمد بن حزم وقالوا : إن رواته قوم مجاهيل لا تعرف عدالتهم وضبطهم قال : وقال الإمام أحمد : حديث ركانة أنه طلق امرأته ألبتة لا يثبت وقال أيضا : حديث ركانة في ألبتة ليس بشىء لأن ابن اسحق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وأهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا : طلق البتة
فإن قيل : فقد قال أبو داود : حديث ألبتة أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا لأنهم أهل بيته وهم أعلم به يعني وهم الذين رووا حديث ألبتة
فقد قال شيخنا في الجواب : أبو اداود إنما رجح حديث البتة على حديث ابن جريج لأنه روى حديث ابن جريج من طريق فيها مجهول فقال : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني بعض ولد أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس قال : طلق (58/315)
عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ثلاثا الحديث ولم يرو الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ابراهيم بن سعد : حدثني أبي عن محمد بن إسحق حدثنا داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد فلهذا رجح أبو داود حديث ألبتة على حديث ابن جريج ولم يتعرض لهذا الحديث ولا رواه في سننه ولا ريب أنه أصح من الحديثين وحديث ابن جريج شاهد له وعاضد فإذا انضم حديث أبي الصهباء إلى حديث ابن إسحق إلى حديث ابن جريج مع اختلاف مخارجها وتعدد طرقها أفادت العلم بأنها أقوى من حديث البتة بلا شك ولا يمكن من شم روائح الحديث ولو على بعد أن يرتاب في ذلك فكيف يقدم الحديث الضعيف الذي ضعفه الائمة ورواته مجاهيل على هذه الأحاديث (58/316)
فصل وأما حديث معاذ بن جبل فلقد وهت مسألة يحتج فيها بمثل هذا الحديث
الباطل والدارقطني إنما رواه للمعرفة وهو أجل من أن يحتج به وفي إسناده : إسماعيل بن أمية الذارع يرويه عن حماد قال الدارقطني بعد روايته : إسماعيل بن أمية ضعيف متروك الحديث
فصل وأما حديث عبادة بن الصامت الذي وراه الدارقطني فقد قال عقيب
إخراجه : رواته مجهولون وضعفاء إلا شيخنا وابن عبد الباقي
فصل وأما حديث زاذان عن علي رضي الله عنه فيرويه إسماعيل بن أمية
القرشي قال الدارقطني : إسماعيل بن أمية هذا كوفي ضعيف الحديث قلت : وفي إسناده مجاهيل وضعفاء (58/317)
فصل وأما حديث الحسن عن ابن عمر فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف قال
الدارقطني : حدثنا علي بن محمد بن عبيد الحافظ حدثنا محمد بن شاذان الجوهري حدثنا يعلي بن منصور حدثنا شعيب بن رزيق أن عطاء الخرساني حدثهم عن الحسن قال : حدثنا عبدالله بن عمر فذكره وشعيب وثقه الدارقطني وقال أبو الفتح الأزدي : فيه لين وقال البيهقي وقد روى هذا الحديث : وهذه الزيادات انفرد بها شعيب وقد تكلموا فيه انتهى
ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر هذا فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب ألبتة ولهذا لم يرو حديثه هذا أحدمن أصحاب الصحيح ولا السنن
فصل وأما حديث كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة فقد
أنكره كثير لما سئل عنه ومثل هذا بعيد أن ينسى وقد أعل البيهقي هذا الحديث وقال : كثير لم يثبت (58/318)
من معرفته ما يوجب الاحتجاج به قال : وقول العامة بخلاف روايته وقد ضعفه عبد الحق في أحكامه وابن حزم في كتابه
فصل وأما حديث سويد بن غفلة عن الحسن فمن رواية محمد بن حميد الرازي
قال أبو زرعة الرازي : كذاب وقال صالح جزرة : ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن الشاذكوني وسلمة بن الفضل قال أبو حاتم : منكر الحديث وإن كان رواته شتى فقد ضعفه إسحاق بن راهوية وغيره
فصل فلما رأى آخرون ضعف هذه المسالك استروحوا إلى مسلك آخر وظنوا
أنهم قد استروحوا به من كلفة التأويل ومشقته
فقالوا : الإجماع قد انعقد على لزوم الثلاث وهو أكبر من خبر الواحد كما قال الشافعي رحمه الله : الاجماع أكبر من الخبر المنفرد وذلك أن الخبر يجوز الخطأ والوهم على راويه بخلاف الاجماع فإنه معصوم
قالوا : ونحن نسوق عن الصحابة والتابعين ما يبين ذلك
فثبت في صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه أمضى عليهم الثلاث ووافقه الصحابة
قال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان عن شفيق سمع أنسا يقول قال عمر : في الرجل يطلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها قال : هي ثلاث لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وكان إذا أتي به أوجعه
وروى البيهقي من حديث ابن أبي ليلى عن على رضي الله عنه فيمن طلق ثلاثا قبل الدخول قال : لا تحل حتى تنكح زوجا غيره (58/319)
وروى حاتم ابن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على لا تحل له حتى تنكح غيره وروى أبو نعيم عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن بعض أصحابه قال جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال : طلقت امرأتي ألفا فقال : ثلاث تحرمها عليك واقسم سائرها بين نسائك
وقال علقمة بن قيس : أتى رجل ابن مسعود رضي الله عنه فقال : إن رجلا طلق امرأته البارحة مائة قال : قلتها مرة واحدة قال : نعم قال : تريد أن تبين منك امرأتك قال : نعم قال : هو كما قلت وأتاه رجل فقال : إنه طلق امرأته البارحة عدد النجوم فقال له مثل ذلك ثم قال قد بين الله سبحانه أمر الطلاق فمن طلق كما أمره الله تعالى فقد بين له ومن لبس جعلنا عليه لبسه والله لا تلبسون إلا على أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما تقولون
وروى مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس البكير قال : طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له فسأل أبا هريرة وابن عباس عن ذلك فقالا : لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك قال : إنما كان طلاقي إياها واحدة فقال ابن عباس : إنك قد أرسلت من يدك ما كان لك من فضل
وفي الموطأ أيضا في هذه القصة أن ابن البكير سأل عنها ابن الزبير فقال : إن هذا لأمر مالنا فيه قول اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة : فإني تركتهما عند عائشة فاسألهما ثم ائتنا فأخبرنا فذهب فسألهما فقال ابن عباس لابي هريرة : أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال : أبو هريرة الواحد تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره وقال ابن عباس مثل ذلك (58/320)
فهذه عائشة لم تنكر عليهما ولا ابن الزبير
وفي الموطأ أيضا : عن النعمان بن أبي عياش عن عطاء بن يسار قال جاء رجل يستفتي عبدالله بن عمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها قال عطاء : فقلت : إنما طلاق البكر واحدة فقال لي عبدالله بن عمرو بن العاص : إنما أنت قاص الواحدة تبينها والثلاث تحرمها : حتى تنكح زوجا غيره
وروى عبيدالله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره
وروي البيهقي من حديث معاذ بن معاذ : حدثنا شعبة عن طارق بن عبدالرحمن : سمعت قيس بن أبي عاصم قال : سأل رجل المغيرة وأنا شاهد عن رجل طلق امرأته مائة فقال : ثلاثة تحرم وسبع وتسعون فضل
وروى البيهقي عن سويد بن غفلة قال : كانت عائشة الخثعمية عند الحسن فلما قتل علي رضي الله عنه قالت : لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين فقال : بقتل علي تظهرين الشماتة اذهبي فأنت طالق يعني ثلاثا فتلفعت بثيابها حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة فقالت لما جاءها الرسول : متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى وقال : لولا أني سمعت جدي أو حدثني أبي أنه سمع جدي يقول : أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثة مبهمة لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره : لراجعتها
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عطاء بن السائب عن علي رضي الله عنه أنه قال في الحرام والبتة والبائن والخلية والبرية : ثلاثا ثلاثا قال (58/321)
شعبة : فلقيت عطاء فقلت : من حدثك عن هذا قال أبو البختري قال أحمد : وأنا أهابها ولا أجيب فيها لأنه يروي عن عامة الناس أنها ثلاث : علي وزيد وابن عمر وعامة التابعين وأما ابن عباس فروى عنه مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير ومعاوية بن أبي عياش وغيرهم : أنه ألزم الثلاث من أوقعها جملة قال الإمام أحمد وقد سأله الأثرم : بأي شيء ترد حديث ابن عباس كان الطلاق على عهد رسول اللهAوأبي بكر وعمر رضي الله عنهما طلاق الثلاث واحدة بأي شىء تدفعه قال : برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس : أنها ثلاث وإلى هذا نذهب
وذكر البيهقي : أن رجلا أتى عمران بن حصين وهو في المسجد فقال : رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس فقال : أثم بربه وحرمت عليه امرأته فانطلق الرجل فذكر ذلك لأبي موسى يريد بذلك عيبه فقال : ألا ترى أن عمران قال كذا وكذا فقال أبو موسى : أكثر الله فينا مثل أبي نجيد
قالوا فهذا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وعبدالله بن الزبير وعمران بن حصين والمغيرة بن شعبة والحسن بن علي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين
وأما التابعون فأكثر من أن يذكروا والإجماع يثبت بدون هذا ولهذا حكاه غير واحد منهم أبو بكر بن العربي وأبو بكر الرازي وهو ظاهر كلام الإمام أحمد فإنه (58/322)
قال في رواية الأثرم وذكر قول من قال : إذا خالف السنة يرد إلى السنة : إنه ليس بشيء وقال هذا مذهب الرافضة وظاهر هذا : أن القول بالوقوع إجماع أهل السنة
قال الآخرون : قد عرفتم ما في دعوى الإجماع الذي لم يعلم فيه مخالف : أنه راجع إلى عدم العلم لا إلى العلم بانتفاء المخالف وعدم العلم ليس بعلم حتى يحتج به ويقدم على النصوص الثابتة هذا إذا لم يعلم مخالف فكيف إذا علم المخالف وحينئذ فتكون المسألة مسألة نزاع يجب ردها إلى الله تعالى ورسوله ومن أبى ذلك فهو إما جاهل مقلد وإما متعصب صاحب هوى عاص لله تعالى ورسولهA متعرض للحوق الوعيد به فإن الله تعالى يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر الآية [ النساء : 59 ] فإذا ثبت أن المسألة مسألة نزاع وجب قطعا ردها إلى كتاب الله وسنة رسوله وهذه
المسألة مسألة نزاع بلا نزاع بين أهل العلم الذين هم أهله والنزاع فيها من عهد الصحابة إلى وقتنا هذا
وبيان هذا من وجوه :
أحدها : ما رواه أبو داود وغيره من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما إذا قال : أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة وهذا الإسناد على شرط البخاري
وقال عبدالرزاق : أخبرنا معمر عن أيوب قال : دخل الحكم بن عيينة على الزهري بمكة وأنا معهم فسألوه عن البكر تطلق ثلاثا فقال : سئل عن ذلك ابن عباس وأبو هريرة وعبدالله بن عمرو فكلهم قالوا : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره قال : فخرج الحكم وأنا معه فأتى طاوسا وهو في المسجد فأكب عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها وأخبره بقول الزهري قال : فرأيت طاوسا رفع يديه تعجبا من ذلك وقال : والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة
أخبرنا ابن جريح قال وأخبرني حسن بن مسلم عن ابن شهاب أن ابن عباس قال : إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا قال : فأخبرت طاوسا فقال أشهد ما كان ابن عباس يراهن إلا واحدة (58/323)
فقوله إذا طلق ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا أي إذا كن متفرقات فدل على أنه إذا جمعهن كانت واحدة وهذا هو الذي حلف عليه طاوس : أن ابن عباس كان يجعله واحدة
ونحن لا نشك أن ابن عباس صح عنه خلاف ذلك وأنها ثلاث فهما روايتان : ثابتتان عن ابن عباس بلا شك
الوجه الثاني : أن هذا مذهب طاوس قال عبدالرزاق : أخبرنا ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وأنه كان يقول : يطلقها واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا إسماعيل بن علية عن ليث عن طاوس وعطاء أنهما قالا : إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة الوجه الثالث : أنه قول عطاء بن أبي رباح قال ابن أبي شيبة : حدثنا محمد بن بشر حدثنا إسمعيل عن قتادة عن طاوس وعطاء وجابر بن زيد أنهم قالوا : إذا طلقها ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة
الوجه الرابع : أنه قول جابر بن زيد كما تقدم
الوجه الخامس : أن هذا مذهب محمد بن إسحق عن داود عن الحصين حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم ولفظه : حدثنا سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فجعلها النبيAواحدة قال أبو عبدالله : وكان هذا مذهب ابن إسحق يقول : خالف السنة فيرد إلى السنة
الوجه السادس : أنه مذهب إسحق بن راهوية في البكر قال محمد بن نصر المروزي في كتاب اختلاف العلماء له : وكان إسحق يقول : طلاق الثلاث للبكر واحدة وتأول حديث طاوس عن ابن عباس كان الطلاق الثلاث على عهد رسول اللهAوأبي بكر وعمر يجعل واحدة : على هذا قال : فإن قال لها ولم يدخل بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإن سفيان وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد وأبا عبيد قالوا : (58/324)
بانت منه بالأولى وليست الثنتان بشيءلأن غير المدخول بها تبين بواحدة ولا عدة عليها وقال مالك وربيعة وأهل المدينة والأوزاعي وابن أبي ليلى : إذا قال لها ثلاث مرات : أنت طالق نسقا متتابعة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره فإن هو سكت بين التطليقتين بانت بالأولى ولم تلحقها الثانية
فصار في وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاث مذاهب للصحابة والتابعين ومن بعدهم
أحدها : أنها واحدة سواء قالها بلفظ واحد أو بثلاثة ألفاظ
والثاني : أنها ثلاث سواء أوقع الثلاث بلفظ واحد أو بثلاثة ألفاظ
والثالث : أنه إن أقوعها بلفظ واحد فهي ثلاث وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهي واحد
الوجه السابع : أن هذا مذهب عمرو بن دينار في الطلاق قبل الدخول قال ابن المنذر في كتابه الأوسط : وكان سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار يقولون : من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة
الوجه الثامن : أنه مذهب سعيد بن جبير كما حكاه ابن المنذر وغيره عنه وحكاه الثعلبي عن سعيد بن المسيب وهو غلط عليه إنما هو مذهب سعيد بن جبير
الوجه التاسع : أنه مذهب الحسن البصري الذي استقر عليه قال ابن المنذر : واختلف في
هذا الباب عن الحسن فروي عنه كما رويناه عن أصحاب النبيAوذكر قتادة وحميد ويونس عنه : أنه رجع عن قوله بعد ذلك فقال : واحدة بائنة وهذا الذي ذكره ابن المنذر رواه عبدالرزاق في المصنف فقال : أخبرنا معمر عن قتادة قال : سألت الحسن عن الرجل يطلق البكر ثلاثا فقال الحسن : وما بعد الثلاث فقلت صدقت وما بعد الثلاث فأفتى الحسن بذلك زمنا ثم رجع فقال : واحد تبينها ويحطها قاله حياته
الوجه العاشر : أنه مذهب عطاء بن يسار قال عبدالرزاق : أخبرنا مالك عن يحيى ابن سعيد عن بكير عن يعمر بن أبي عياش قال سأل رجل عطاء بن يسار عن الرجل (58/325)
يطلق البكر ثلاثا فقال : إنما طلاق البكر واحدة فقال له عبدالله بن عمرو بن العاص : أنت قاص الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره فذكر عطاء مذهبه وعبدالله بن عمرو مذهبه
الوجه الحادي عشر : أنه مذهب خلاس بن عمرو حكاه بشر بن الوليد عن أبي يوسف عنه
الوجه الثاني عشر : أنه مذهب مقاتل الرازي حكاه عنه المازرى في كتابه المعلم بفوائد مسلم قال الخطيب : حدث عن عبدالله بن المبارك وعباد بن العوام ووكيع بن الجراح وأبي عاصم النبيل روى عنه الإمام أحمد والبخاري في صحيحه وكان ثقة الوجة الثالث عشر : أنه إحدى الروايتين عن مالك حكاها عنه جماعة من المالكية منهم التلمساني صاحب شرح الخلاف وعزاها إلى ابن أبي زيد : أنه حكاها رواية عن مالك وحكاها غيره قولا في مذهب مالك وجعله شاذا
الوجه الرابع عشر : أن ابن مغيث المالكي حكاه في كتاب الوثائق وهو مشهور عند المالكية عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المفتين على مذهب مالك هكذا قال واحتج لهم بأن قوله : أنت طالق ثلاثا : كذب لأنه لم يطلق ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة كما لو قال : حلفت ثلاثا كان يمينا واحدة ثم ذكر حججهم من الحديث
الوجه الخامس عشر : أن أبا الحسن علي بن عبدالله بن إبراهيم اللخمي المشطي صاحب كتاب الوثائق الكبير الذي لم يصنف في الوثائق مثله حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف حتى عن المالكية أنفسهم فقال : وأما من قال : أنت طالق ثلاثا فقد بانت منه قال ألبتة أو لم يقل قال : وقال بعض الموثقين يريد المصنفين في الوثائق : اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق فالجمهور من العلماء على أنه يلزمه الثلاث وبه القضاء وعليه الفتوى وهو الحق الذي لا شك فيه قال : وقال بعض السلف : يلزمه من ذلك طلقة واحدة وتابعهم على ذلك قوم من الخلف من المفتين بالأندلس قال : واحتجوا على ذلك بحجج كثيرة وأحاديث مسطورة أضربنا عنها واقتصرنا على الصحيح منها فمنها : ما رواه داود بن الحصين عن (58/326)
عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق زوجته عند رسول اللهAثلاثا في مجلس واحد فقال له النبيA إنما هي واحدة فإن شئت فدعها وإن شئت فارتجعها ثم ذكر حديث أبي الصهباء وذكر بعض تأويلاته التي ذكرناها
الوجه السادس عشر : أن أبا جعفر الطحاوي حكى القولين في كتابه تهذيب الآثار فقال : باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا ثم ذكر حديث أبي الصهباء ثم قال : فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا معا فقد وقعت عليها واحدة إذا كانت في وقت سنة وذلك أن تكون طاهرا في غير جماع واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقالوا : لما كان الله عز و جل إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم ألا ترى لو أن رجلا أمر رجلا أن يطلق أمرأته في وقت فطلقها في غيره أو أمره أن يطلقها على شريطة فطلقها على غير تلك الشريطة : أن طلاقه لا يقع إذ كان قد خالف ما أمر به ثم ذكر حجج الآخرين والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم ولم يسلك طريق جاهل ظالم متعد يبرك على ركبتيه ويفجر عينيه ويصول بمنصبه لا بعلمه وبسوء قصده لا بحسن فهمه ويقول : القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه والجري معه في ميدانه والله تعالى عند لسان كل قائل وهو له يوم الوقوف بين يديه عما قاله سائل
الوجه السابع عشر : أن شيخنا حكى عن جده أبي البركات : أنه كان يفتي بذلك أحيانا سرا وقال في بعض مصنفاته : هذا قول بعض أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد
قلت : أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم وأما بعض أصحاب أبي حنيفة فإنه محمد ابن مقاتل من الطبقة الثانية من أصحاب أبي حنيفة وأما بعض أصحاب أحمد فإن كان أراد إفتاء جده بذلك أحيانا وإلا فلم أقف على نقل لأحد منهم
الوجه الثامن عشر : قال أبو الحسن النسفي في وثائقه وقد ذكر الخلاف في المسألة (58/327)
ثم قال : ومن بعض حججهم أيضا في ذلك : أن الله سبحانه وتعالى أمر بتفريق الطلاق بقوله تعالى : الطلاق مرتان وإذا جمع الإنسان ذلك في كلمة كان واحدة وكان ما زاد عليها لغوا كما جعل مالك رحمه الله رمي السبع الجمرات في مرة واحدة جمرة واحدة وبنى عليها أن الطلاق عندهم مثله قال : وممن نصر هذا القول من أهل الفتيا بالأندلس : أصبغ بن الحباب ومحمد بن بقى ومحمد بن عبدالسلام الخشني وابن زنباع مع غيرهم من نظرائهم هذا لفظه
الوجه التاسع عشر : أن أبا الوليد هشام بن عبدالله بن هشام الأزدي القرطبي صاحب كتاب مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام ذكر الخلاف بين السلف والخلف في هذه المسألة حتى ذكر الخلاف فيها في مذهب مالك نفسه وذكر من كان يفتي بها من المالكية والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك كثير الفوائد جدا ونحن نذكر نصه فيه بلفظه فنذكر ما ذكره عن ابن مغيث ثم نتبعه كلامه ليعلم أن النقل بذلك معلوم متداول بين أهل العلم وأن من قصر في العلم باعه وطال في الجهل والظلم ذراعه يبادر إلى الجهل والتكفير والعقوبة جهلا منه وظلما ويحق له وهو الدعي في العلم وليس منه أقرب رحما
قال ابن هشام : قال ابن مغيث : الطلاق ينقسم على ضربين : طلاق السنة وطلاق البدعة فطلاق السنة : هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه وطلاق البدعة : نقيضه وهو أن يطلقها في حيض أو نفاس أو ثلاثا في كلمة واحدة فإن فعل لزمه الطلاق
ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق
فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود : يلزمه طلقة واحدة وقاله ابن عباس وقال : قوله ثلاثا لا معنى له : لأنه لم يطلق ثلاث مرات وإنما يجوز قوله في ثلاث إذا كان مخبرا عما مضى فيقول : طلقت ثلاثا يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات كرجل قال : قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات فذلك يصح ولو قرأها مرة واحدة فقال : قرأتها ثلاث مرات لكان كاذبا وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان ولو قال : أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة فالطلاق مثله ومثله (58/328)
قال الزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما روينا ذلك كله عن ابن وضاح وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى ومحمد بن بقي بن مخلد ومحمد بن عبدالسلام الخشني فقيه عصره وأصبغ بن الحباب وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة وكان من حجة ابن عباس : أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق فقال : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [ البقره : 229 ] يريد أكثر الطلاق الذي يمكن بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة في العدة ومعنى قوله : أو تسريح بإحسان يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها وفي ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع ندم منهما قال الله تعالى : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يريد الندم على الفرقة والرغبة في المراجعة وموقع الثلاث غير محسن لأنه ترك المندوحة التي وسع الله تعالى بها ونبه عليها فذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الطلاق مفرقا فدل على أنه إذا جمع : أنه لفظ واحد فتدبره
وقد يخرج من غير ما مسألة من الديانة ما يدل على ذلك
من ذلك : قول الرجل : مالي صدقة في المساكين : أن الثلث من ذلك يجزيه
هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه
أفترى الجاهل الظالم المعتدي يجعل هؤلاء كلهم كفارا مباحة دماؤهم سبحانك ! هذا بهتان عظيم بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدين وذنبهم عند أهل العمى أهل التقليد : كونهم لم يرضوا لأنفسهم بما رضي به المقلدون فردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
الوجه العشرون : أن هذا مذهب أهل الظاهر : داود وأصحابه وذنبهم عند كثير من الناس : أخذهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم ونبذهم القياس وراء ظهورهم فلم يعبئوا به شيئا وخالفهم أبو محمد بن حزم في ذلك فأباح جمع الثلاث وأوقعها
فهذه عشرون وجها في إثبات النزاع في هذه المسألة بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب وإلا فالذي لم نقف عليه من ذلك كثير
وقد حكى ابن وضاح وابن مغيث ذلك عن علي وابن مسعود والزبير وعبدالرحمن (58/329)
بن عوف وابن عباس ولعله إحدى الروايتين عنهم وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلي وابن عباس : الألزام بالثلاث لمن أوقعها جملة وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة ولم نقل على نقف صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك فلذلك لم نعد ما حكى عنهم في الوجوه المبينة للنزاع وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه ونعزوه إليها وبالله التوفيق
فإن قيل : فقد ذكرتم أعذار الأئمة الملزمين بالثلاث عن تلك الأحاديث المخالفة لقولهم فما عذركم أنتم عن أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين المحدث الملهم الذي أمرنا باتباع سنته والاقتداء به أفتظنون به أنه كان يرى رسول اللهAوخليفته من بعده والصحابة في عهده يجعلون الثلاث واحدة مع أنه أيسر على الأمة وأسهل وأبعد من الحرج ثم يعمد إلى مخالفة ذلك برأيه ويلزم الأمة بالثلاث من قبل نفسه فيضيق عليهم ما وسعه الله تعالى ويعسر ما سهله ويسد ما فتحه ويحرج ما فسحه ثم يتابعه على ذلك أكابر الصحابة ويوافقونه ولا يخالفونه ! ثم هب أنهم خافوا منه في حياته وكلا فإنه كان أتقى لله سبحانه وتعالى من ذلك وكان إذا بينت له المرأة ما خفي عليه من الحق رجع إليه وكان الصحابة أتقى لله تعالى وأعلم به أن يأخذهم لومة لائم في الحق وأن يمسكوا عنه خوفا من عمر رضي الله عنه فقد دار الأمر بين القدح في عمر رضي الله عنه والصحابة معه وبين ردع تلك الأحاديث إما لضعفها وإما لنسخها وخفى علينا الناسخ وإما بتأويلها وحملها على محمل يصح ولا ريب أن هذا أولى لتوفية حق الصحابة الذين هم أعلم بالله تعالى ورسولهAمن جميع من بعدهم
قيل : لعمر الله إن هذا لسؤال يورد أمثاله أهل العلم وإنه ليحتاج إلى جواب شاف كاف فنقول :
الناس هنا طائفتان : طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر ومن وافقه وطائفة اعتذرت عن عمر رضي الله عنه ولم ترد الأحاديث
فقالوا : الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود (58/330)
المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه
والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة
وعزم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لولا ما منعه من تعدي العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية
وعزز بحرمان النصيب المستحق من السلب
وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله (58/331)
وعزر بالعقوبات المالية في عدة مواضع
وعزر من مثل بعبده بإخراجه عنه وإعتاقه عليه
وعزر بتضعيف الغرم على سارق مالا قطع فيه وكاتم الضالة
وعزر بالهجر ومنع قربان النساء
ولم يعرف أنه عزر بدرة ولا حبس ولا سوط وإنما حبس في تهمة
ليتبين حال المتهم وكذلك أصحابه تنوعوا في التعزيرات بعده
فكان عمر رضي الله عنه يحلق الرأس وينفي ويضرب ويحرق حوانيت الخمارين (58/332)
والقرية التي تباع فيها الخمر وحرق قصر سعد بالكوفة لما احتجب فيه عن الرعية
وكان له رضي الله تعالى عنه في التعزيز اجتهاد وافقه عليه الصحابة لكمال نصحه ووفور علمه وحسن اختياره للأمة وحدوث أسباب اقتضت تعزيره لهم بما يردعهم لم يكن مثلها على عهد رسول اللهA أو كانت ولكن زاد الناس عليها وتتايعوا فيها
فمن ذلك : أنهم لما زادوا في شرب الخمر وتتايعوا فيه وكان قليلا على عهد رسول اللهA جعله عمر رضي الله عنه ثمانين ونفى فيه
ومن ذلك اتخاذه درة يضرب بها من يستحق الضرب
ومن ذلك : اتخاذه دارا للسجن
ومن ذلك : ضربه للنوائح حتى بدا شعرها
وهذا باب واسع اشتبه فيه على كثير من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التي لا
تتغير بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودا وعدما
ومن ذلك : أنه رضي الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم ليكفوا عنها
وذلك إما من التعزير العارض يفعل عند الحاجة كما كان يضرب في الخمر ثمانين ويحلق فيها الرأس وينفي عن الوطن وكما منع النبيAالثلاثة الذين خلفوا عنه عن الإجتماع بنسائهم فهذا له وجه
وإما ظنا أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعا بشرط وقد زال كما ذهب إلى ذلك في متعة الحج إما مطلقا وإما متعة الفسخ فهذا وجه آخر (58/333)
وإما لقيام مانع قام في زمنه منع من جعل الثلاث واحدة كما قام عنده مانع من بيع أمهات الأولاد ومانع من أخذ الجزية من نصارى بني تغلب وغير ذلك فهذا وجه ثالث
فإن الحكم ينتفي لانتفاء شروطه أو لوجود مانعه والإلزام بالفرقة فسخا أو طلاقا لمن لم يقم بالواجب مما يسوغ فيه الاجتهاد لكن تارة يكون حقا للمرأة كما في العنة والإيلاء والعجز عن النفقة والغيبة الطويلة عند من يرى ذلك وتارة يكون حقا للزوج كالعيوب المانعة له من استيفاء المعقود عليه أو كماله وتارة يكون حقا لله تعالى كما في تفريق الحكمين بين الزوجين وعند من يجعلهما وكيلين وهو الصواب وكما في وقوع الطلاق بالمولى إذا لم يفىء في مدة التربص عند كثير من السلف والخلف وكما قال بعض السلف ووافقهم عليه بعض أصحاب أحمد رحمه الله : أنهما إذا تطاوعا على الإتيان في الدبر فرق بينهما
وقريب من ذلك : أن الأب الصالح إذا أمر ابنه بالطلاق لما يراه من مصلحة الولد فعليه أن يطيعه كما قاله أحمد رحمه الله وغيره
واحتجوا بأن النبيAأمر عبدالله بن عمر أن يطيع أباه لما أمره بطلاق زوجته (58/334)
فالإلزام إما من الشارع وإما من الإمام بالفرقة إذا لم يقم الزوج بالواجب : هو من موارد الاجتهاد وأصل هذا : أن الله سبحانه وتعالى لما كان يبغض الطلاق لما فيه من كسر الزوجة وموافقة رضى عدوعه إبليس حيث يفرح بذلك ويلتزم من يكون على يديه من أولاده ويدنيه منه ومفارقة طاعته بالنكاح الذي هو واجب أو مستحب وتعريض كل من الزوجين للفجور والمعصية وغير ذلك من مفاسد الطلاق وكان مع ذلك قد يحتاج إليه الزوج أو الزوجة وتكون المصلحة فيه : شرعه على وجه تحصل به المصلحة وتندفع به المفسدة وحرمه على غير ذلك الوجه فشرعه على أحسن الوجوه وأقربها لمصلحة الزوج والزوجة
فشرع له أن يطلقها طاهرا من غير جماع طلقة واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها فإن زال الشر بينهما وحصلت الموافقة كان له سبيل إلى لم الشعث وإعادة الفراش كما كان وإلا تركها حتى انقضت عدتها فإن تبعتها نفسه كان له سبيل إلى خطبتها وتجديد العقد عليها برضاها وإن لم تتبعها نفسه تركها فنكحت من شاءت
وجعل العدة ثلاثة قروء ليطول زمن المهلة والاختيار
فهذا هو الذي شرعه وأذن فيه
ولم يأذن في إبانتها بعد الدخول إلا بالتراضي بالفسخ والافتداء فإذا طلقها مرة بعد مرة بقي له طلقة واحدة فإذا طلقها الثالثة حرمها عليه عقوبة له ولم يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجا غيره ويدخل بها ثم يفارقها بموت أو طلاق
فإذا علم أن حبيبه يصير إلى غيره فيحظى به دونه أمسك عن الطلاق
فلما رأى أمير المؤمنين أن الله سبحانه عاقب المطلق ثلاثا بأن حال بينه وبين زوجته وحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرم وبغضه له فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلق ثلاثا جميعا بأن ألزمه بها وأمضاها عليه
فإن قيل : فكان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ويحرمه عليهم ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله لئلا يقع المحذور الذي يترتب عليه (58/335)
قيل : نعم لعمر الله قد كان يمكنه ذلك ولذلك ندم عليه في آخر أيامه وود أنه كان فعله
قال الحافظ أبو بكر الاسماعيلي في مسند عمر : أخبرنا أبو يعلى : حدثنا صالح بن مالك : حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث : أن لا أكون حرمت الطلاق وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي وعلى أن لا أكون قتلت النوائح
ومن المعلوم أنه رضي الله عنه لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعي الذي أباحه الله تعالى وعلم بالضرورة من دين رسول اللهAجوازه ولا الطلاق المحرم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض وفي الطهر المجامع فيه ولا الطلاق قبل الدخول الذي قال الله تعالى فيه : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة [ ] هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضي الله عنه أراده فتعين قطعا أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك ولذلك قال : إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم وهذا كالصريح في أنه غير حرام عنده وإنما أمضاه لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى في التفريق فرغب عما فسحه الله تعالى له إلى الشدة والتغليظ فأمضاه عمر رضي الله عنه عليه فلما تبين له بأخرة ما فيه من الشر والفساد ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه وهذا هو مذهب الأكثرين : مالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله
فرأى عمر رضي الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم به فلما تبين له أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة أخبر أن الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول اللهAوأبي بكر وأول خلافة عمر رضي الله عنهما أولى من ذلك كله ولا يندفع الشر والفساد بغيره ألبتة ولا يصلح الناس سواه ولهذا لما رغب عنه كثير من الناس احتاجوا إلى أحد أمرين لا بد لهم منهما : إما الدخول فيما لعن رسول اللهAفاعله وتابع عليه اللعنة وإما التزام الآصار والأغلال ورؤية حبيبته حسرة (58/336)
والذي شرعه الله تعالى ورسولهA ودلت عليه السنة الصحيحة الصريحة يخلص من هذا وهذا ولكن تأبى حكمة الله تعالى أن يفتح للظالمين المتعدين لحدوده الراغبين عن تقواه وطاعته : أبواب الفرج واليسر والسهولة فإن الله سبحانه وتعالى إنما جعل ذلك لمن اتقاه والتزم طاعته وطاعة رسوله كما قال تعالى في السورة التي بين فيها الطلاق وأحكامه وحدوده وما شرعه لعباده : ومن يتق الله يجعل له مخرجا [ ] وقال فيها : ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا [ ] وقال فيها : ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا [ ] فمن طلق على غير تقوى الله كان حقيقا أن لا يجعل الله له مخرجا وأن لا يجعل له من أمره يسرا
وقد أشار إلى هذا بعينه الصحابة حيث قال ابن عباس وابن مسعود لمن طلق ثلاثا جميعا : إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا
وقال شعبة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال : عصيت ربك وبانت منك امرأتك إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا ومن يتق الله يجعل له مخرجا [ ]
وقال الأعمش : عن مالك بن الحارث عن ابن عباس : أن رجلا أتاه فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال : إن عمك عصى الله فلم يجعل له مخرجا فأندمه الله تعالى وأطاع الشيطان فقال : أفلا يحللها له رجل فقال : من يخادع الله يخدعه
والله تعالى قد جرت سنته في خلقه بأن يحرم الطيبات شرعا وقدرا على من ظلم وتعدى حدوده وعصى أمره وأن ييسر للعسرى من بخل بما أمره به فلم يفعله واستغنى عن طاعته باتباع شهواته وهواه كما أنه سبحانه ييسر لليسرى من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فهذا نهاية أقدام الناس في باب الطلاق
يبقى أن يقال : فإذا خفي على أكثر الناس حكم الطلاق ولم يفرقوا بين الحلال والحرام منه جهلا وأوقعوا الطلاق المحرم يظنونه جائزا هل يستحقون العقوبة بالإلزام به (58/337)
لكونهم لم يتعلموا دينهم الذي أمرهم الله تعالى به وأعرضوا عنه ولم يسألوا أهل العلم : كيف يطلقون وماذا أبيح لهم من الطلاق وماذا يحرم عليهم منه أم يقال : لا يستحقون العقوبة لأن الله سبحانه لا يعاقب شرعا ولا قدرا إلا بعد قيام الحجة ومخالفة أمره كما قال تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ ] وأجمع الناس على أن الحدود لا تجب إلا على عالم بالتحريم متعمد لارتكاب أسبابها والتعزيرات ملحقة بالحدود
فهذا موضع نظر واجتهاد وقد قال النبيA التائب من الذنب كمن لا ذنب له فمن طلق على غير ما شرعه الله تعالى وأباحه جاهلا ثم علم به فندم وتاب فهو حقيق بأن لا يعاقب وأن يفتى بالمخرج الذي جعله الله تعالى لمن اتقاه ويجعل له من أمره يسرا
والمقصود : أن الناس لا بد لهم في باب الطلاق من أحد ثلاثة أبواب يدخلون منها : أحدها : باب العلم والاعتدال الذي بعث الله تعالى به رسولهA وشرعه للأمة رحمة بهم وإحسانا إليهم
والثاني : باب الآصار والأغلال الذي فيه من العسر والشدة والمشقة ما فيه
والثالث : باب المكر والاحتيال الذي فيه من الخداع والتحيل والتلاعب بحدود الله تعالى واتخاذ آياته هزوا ما فيه ولكل باب من المطلقين وغيرهم جزء مقسوم
فصل ومن مكايده التي كاد بها الإسلام وأهله : الحيل والمكر والخداع
الذي يتضمن تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرضه ومضادته في أمره ونهيه وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه (58/338)
فإن الرأي رأيان : رأي يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار وهو الذي اعتبره السلف وعملوا به
ورأي يخالف النصوص وتشهد له بالإبطال والإهدار فهو الذي ذموه وأنكروه
وكذلك الحيل نوعان : نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به وترك ما نهى عنه والتخلص من الحرام وتخليص الحق من الظالم المانع له وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه
ونوع يتضمن إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات وقلب المظلوم ظالما والظالم مظلوما والحق باطلا والباطل حقا فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض
قال الإمام أحمد رحمه الله : لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم
وقال الميموني : قلت لأبي عبدالله : من حلف على يمين ثم احتال لإبطالها فهل تجوز
تلك الحيلة قال : نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز قلت : أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا وإذا وجدنا لهم قولا في شيء اتبعناه قال : بلى هكذا هو قلت : أو ليس هذا منا نحن حيلة قال : نعم
فبين الإمام أحمد أن من اتبع ما شرعه الله له وجاء عن السف في معاني الأسماء التي علقت بها الأحكام : ليس بمحتال الحيل المذمومة وإن سميت حيلة فليس الكلام فيها
وغرض الإمام أحمد بهذا : الفرق بين سلوك الطريق المشروعة التي شرعت لحصول مقصود الشارع وبين الطريق التي تسلك لإبطال مقصوده
فهذا هو سر الفرق بين النوعين وكلامنا الآن في النوع الثاني
قال شيخنا : فالدليل على تحريم هذا النوع وإبطاله من وجوه : الوجه الأول : قوله سبحانه وتعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله (58/339)
وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون [ ] وقال تعالى : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم [ ] وقال في أهل العهد : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله [ ] فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء المخادعين مخدوعون وهم لا يشعرون أن الله تعالى خادع من خدعه وأنه يكفي المخدوع شر من خدعه والمخادعة : هي الاحتيال والمراوغة : بإظهار الخير مع إبطان خلافه ليحصل مقصود المخادع وهذا موافق لاشتقاق اللفظ في اللغة فإنهم يقولون : طريق خيدع إذا كان مخالفا للقصد لا يشعر به ولا يفطن له ويقال للسراب : الخيدع لأنه يغر من يراه وضب خدع أي مراوغ كما قالوا : أخدع من ضب ومنه : الحرب خدعة وسوق خادعة أي متلونة وأصله : الإخفاء والستر ومنه سميت الخزانة مخدعا
فلما كان القائل آمنت مظهرا لهذه الكلمة غير مريد حقيقتها المرعية المطلوبة شرعا بل مريد لحكمها وثمرتها فقط : مخادعا كان المتكلم بلفظ بعت و اشتريت و طلقت و نكحت و خالعت و آجرت و ساقيت و أوصيت غير مريد لحقائقها الشرعية المطلوبة منها شرعا بل مريد لأمور أخرى غير ما شرعت له أو ضد ما شرعت له : مخادعا ذاك مخادع في أصل الإيمان وهذا مخادع في أعماله وشرائعه
قال شيخنا : وهذا ضرب من النفاق في آيات الله تعالى وحدوده كما أن الأول نفاق في أصل الدين
يؤيد ذلك : ما رواه سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا أيحلها له رجل فقال : من يخادع الله يخدعه
وعن أنس بن مالك أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة فقال : إن الله تعالى لا يخدع هذا مما حرم الله تعالى ورسوله رواه أبو جعفر محمد بن سليمان المعروف بمطين في كتاب البيوع له
وعن ابن عباس أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة فقال : إن الله لا يخدع هذا مما حرم الله تعالى ورسوله رواه الحافظ أبو محمد النخشبي (58/340)
فسمى الصحابة من أظهر عقد التبايع ومقصوده به الربا خداعا لله وهم المرجوع إليهم في هذا الشأن والمعول عليهم في فهم القرآن وقد تقدم عن عثمان وعبدالله بن عمر وغيرهما أنهما قالا في المطلقة ثلاثا : لا يحلها إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة
قال أهل اللغة : المدالسة : المخادعة
وقال أيوب السختياني في المحتالين : يخادعون الله كما يخادعون الصبيان فلو أتوا الأمر عيانا كان أهون علي
وقال شريك بن عبدالله القاضي في كتاب الحيل : هو كتاب المخادعة
وكذلك المعاهدون إذا أظهروا للرسولAأنهم يريدون سلمه وهم يقصدون بذلك المكربه من حيث لا يشعر فيظهرون له أمانا ويبطنون له خلافه كما أن المحلل والمرابي يظهران النكاح والبيع المقصودين ومقصود هذا : الطلاق بعد استفراش المرأة ومقصود الآخر : ما تواطآ عليه قبل إظهار العقد من بيع الألف الحالة بالألف والمائتين إلى أجل فمخالفة ما يدل عليه العقد شرعا أو عرفا : خديعة
قال : وتلخيص ذلك : أن مخادعة الله تعالى حرام والحيل مخادعة لله
بيان الأول : أن الله تعالى ذم المنافقين بالمخادعة وأخبر أنه خادعهم وخدعه للعبد عقوبة تستلزم فعله للمحرم
وبيان الثاني : أن ابن عباس وأنسا وغيرهما من الصحابة والتابعين أفتوا : أن التحليل ونحوه من الحيل مخادعة لله تعالى وهم أعلم بكتاب الله تعالى
الثاني : أن المخادعة إظهار شيء من الخير وإبطان خلافه كما تقدم
الثالث : أن المنافق لما أظهر الإسلام ومراده غيره سمي مخادعا لله تعالى وكذلك المرابي فإن النفاق والربى من باب واحد فإذا كان هذا الذي أظهر قولا غير معتقد ولا مريد لما يفهم منه وهذا الذي أظهر فعلا غير معتقد ولا مريد لما شرع له : مخادعا فالمحتال لا يخرج عن أحد القسمين : إما إظهار فعل لغير مقصوده الذي شرع له أو إظهار قول لغير مقصوده الذي شرع له وإذا كان مشاركا لهما في المعنى الذي سميا به مخادعين وجب أن يشركهما في اسم الخداع وعلم أن الخداع اسم لعموم الحيل لا لخصوص هذا النفاق (58/341)
الوجه الثاني : أن الله تعالى ذم المستهزئين بآياته والمتكلم بالأقوال التي جعل الشارع لها حقائق ومقاصد مثل كلمة الإيمان وكلمة الله تعالى التي يستحل بها الفروج ومثل العهود والمواثيق التي بين المتعاقدين وهو لا يريد بها حقائقها المقومة لها ولا مقاصدها التي جعلت هذه الألفاظ محصلة لها بل يريد أن يراجع المرأة ليضرها ويسىء عشرتها ولا حاجة له في نكاحها أو ينكحها ليحلها لمطلقها لا ليتخذها زوجا أو يخلعها ليلبسها أو يبيع بيعا جائزا ومقصوده به ما حرمه الله تعالى ورسوله فهو ممن اتخذ آيات الله تعالى هزوا يوضحه :
الوجه الثالث : ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك فجعل المتكلم بهذه العقود غير مريد لحقائقها وما شرعت له مستهزئا بآيات الله تعالى متلاعبا بحدوده ورواه ابن بطة بإسناد جيد ولفظه خلعتك راجعتك خلعتك راجعتك
الوجه الرابع : ما رواه النسائي عن محمود بن لبيد أن رجلا طلق امرأته ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم الحديث وقد تقدم فجعله لاعبا بكتاب الله مع قصده الطلاق لكنه خالف وجه الطلاق وأراد غير ما أراد الله تعالى به فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن يطلق طلاقا يملك فيه رد المرأة إذا شاء فطلق هو طلاقا لا يملك فيه ردها
وأيضا فإن المرتين والمرات في لغة القرآن والسنة بل ولغة العرب بل ولغات سائر الأمم : لما كان مرة بعد مرة فإذا جمع المرتين والمرات في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله تعالى ومادل عليه كتابه فكيف إذا أراد باللفظ الذي رتب عليه الشارع حكما ضد ما قصده الشارع
الوجه الخامس : أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم مما بلاهم به في سورة (58/342)
وهم قوم كان للمساكين حق في أموالهم إذا جذوا نهارا بأن يلتقط المساكين ما يتساقط من الثمر فأرادوا أن يجدوا ليلا ليسقط ذلك الحق ولئلا يأتيهم مسكين وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنتهم طائفا وهم نائمون فأصبحت كالصريم وذلك لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين بأن يصرموها مصبحين قبل مجىء المساكين فكان في ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده
الوجه السادس : أن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة فلما وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد قال بعض الأئمة : ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده وتعظيم حرماته والوقوف عندها ليس المتحيل على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيبا لموسى عليه السلام وكفرا بالتوراة وإنما هو استحلال تأويل واحتيال ظاهره ظاهر الإتقاء وباطنه باطن الاعتداء ولهذا والله أعلم مسخوا قردة لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه وهو مخالف له في الحد والحقيقة فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهر دون حقيقته مسخهم الله تعالى قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقا يوضحه :
الوجه السابع : أن بني إسرائيل كانوا أكلوا الربا وأموال الناس بالباطل كما قصه الله (58/343)
تعالى في كتابه وذلك أعظم من أكل الصيد الحرام في يوم بعينه ولذلك كان الربا والظلم حراما في شريعتنا والصيد يوم السبت غير محرم فيها ثم إن أكلة الربا وأموال الناس بالباطل لم يعاقبوا بالمسخ كما عوقب به مستحلوا الحرام بالحيلة وإن كانوا عوقبوا بجنس آخر كعقوبات أمثالهم من العصاة فيشبه والله أعلم أن هؤلاء لما كانوا أعظم جرما إذ هم بمنزلة المنافقين ولا يعترفون بالذنب بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم فإن من أكل الربا والصيد الحرام عالما بأنه حرام فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم وهو إيمان بالله تعالى وآياته ويترتب على ذلك من خشية الله تعالى ورجاء مغفرته وإمكان التوبة ما قد يفضي به إلى خير ورحمة ومن أكله مستحلا له بنوع احتيال تأول فيه فهو مصر علىالحرام وقد اقترن به اعتقاده الفاسد في حل الحرام وذلك قد يفضي به إلى شر طويل
وقد جاء ذكر المسخ في عدة أحاديث قد تقدم بعضها في هذا الكتاب كقوله في حديث أبي مالك الأشعري الذي رواه البخاري في صحيحه ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة
وقوله في حديث أنس ليبيتن رجال على أكل وشرب وعزف فيصبحون على أرائكهم ممسوخين قردة وخنازير
وفي حديث أبي أمامة أيضا يبيت قوم من هكذه الأمة على طعم وشرب ولهو فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير
وفي حديث عمران بن حصين يكون في أمتي قذف ومسخ وخسف
وكذلك في حديث سهل بن سعد وكذلك في حديث علي بن أبي طالب وقوله : فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا ومسخا (58/344)
وفي حديثه الآخر يمسخ طائفة من أمتي قردة وطائفة خنازير
وفي حديث أنس رضي الله عنه ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة
وخنازير قالوا : يا رسول الله أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله قال : بلى ويصومون ويصلون ويحجون قالوا : فما بالهم قال : اتخذوا المعازف والدفوف والقينات فباتوا على شربهم ولهوهم فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير
وفي حديث جبير بن نفير ليبتلين آخر هذه الأمة بالرجف فإن تابوا تاب الله عليهم وإن عادوا عاد الله تعالى عليهم بالرجف والقذف والمسخ والصواعق
وقال سالم بن أبي الجعد : ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل ينظرون أن يخرج إليهم فيطلبون إليه الحاجة فيخرج إليهم وقد مسخ قردا أو خنزيرا وليمرن الرجل على الرجل في حانوته يبيع فيرجع إليه وقد مسخ قردا أو خنزيرا
وقال أبو هريرة : لا تقوم الساعة حتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيمسخ أحدهما قردا أو خنزيرا فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك حتى يقضي شهوته وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيخسف بأحدهما فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي لشأنه ذلك حتى يقضي شهوته منه
وقال عبدالرحمن بن غنم : يوشك أن يقعد اثنان على ثقال رحى يطحنان فيمسخ أحدهما والآخر ينظر
وقال مالك بن دينار : بلغني أن ريحا تكون في آخر الزمان وظلم فيفزع الناس إلى علمائهم فيجدونهم قد مسخهم الله وقد ساق هذه الأحاديث والآثار وغيرها بأسانيدها ابن أبي الدنيا في كتاب ذمع الملاهي
فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولابد وهو في طائفتين : علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه فقلب الله تعالى صورهم كما قلبوا دينه والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم ومن لم يمسخ منهم في الدنيا مسخ في قبره أو يوم القيامة (58/345)
وقد جاء في حديث الله أعلم بحاله يحشر أكلة الربا يوم القيامة في صورة الخنازير والكلاب من أجل حيلتهم على الربا كما مسخ أصحاب داود لاحتيالهم على أخذ الحيتان يوم السبت
وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث كثيرة
قال شيخنا : وإنما ذلك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة فإنهم لو استحلوها مع اعتقاد أن الرسول حرمها كانوا كفارا ولم يكونوا من أمته ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ كسائر الذين يفعلون هذه المعاصي مع اعترافهم معصية ولما قيل فيهم : يستحلون فإن المستحل للشيء هو الذي يفعله معتقدا حله فيشبه أن يكون استحلالهم للخمر يعني أنهم يسمونها بغير اسمها كما جاء في الحديث فيشربون الأنبذة المحرمة ولا يسمونها خمرا واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة وهذا لا يحرم كأصوات الطيور واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال في بعض الصور كحال الحرب وحال الحكة فيقيسون عليه سائر الأحوال ويقولون : لا فرق بين حال وحال وهذه التأويلات ونحوها واقعة في الطوائف الثلاثة الذين قال فيهم عبدالله بن المبارك رحمه الله :
وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها ومعلوم أنها لا تغني عن أصحابها من الله شيئا بعد أن بلغ الرسول وبين تحريم هذه (58/346)
الأشياء بيانا قاطعا للعذر مقيما للحجة والحديث الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث عبدالرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول اللهAليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله تعالى بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير
الوجه الثامن : أن النبيAقال : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى الحديث
وهو أصل في إبطال الحيل وبه احتج البخاري على ذلك فإن من أراد أن يعامل رجلا معاملة يعطيه فيها ألفا بألف وخمسمائة إلى أجل فأقرضه تسعمائة وباعه ثوبا بستمائة يساوي مائه إنما نوى بإقراض التسعمائه تحصيل الربح الزائد وإنما نوى بالستمائه التي أظهر أنها ثمن الثوب : الربا والله يعلم ذلك من جذر قلبه وهو يعلمه ومن عامله يعلمه ومن اطلع على حقيقة الحال يعلمه فليس له من عمله إلا ما نواه وقصده حقيقة من إعطاء الألف حالة وأخذ الألف والخمسمائة مؤجلة وجعل صورة القرض وصورة البيع محللا لهذا المحرم
الوجه التاسع : ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبيAقال : البيعان بالخيار حتى يتفرقا إلا أن يكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله رواه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي
وقد استدل به الإمام أحمد وقال : فيه إبطال الحيل
ووجه ذلك : أن الشارع أثبت الخيار إلى حين التفرق الذي يفعله المتعاقدان بداعية طباعهما فحرمAأن يقصد المفارق منع الآخر من الاستقالة وهي طلب الفسخ سواء كان العقد جائزا أو لازما لأنه قصد بالتفرق غير ما جعل التفرق في العرف له فإنه قصد به إبطال حق أخيه من الخيار ولم يوضع التفرق لذلك وإنما جعل التفرق لذهاب كل منهما في حاجته ومصلحته (58/347)
الوجه العاشر : ما روى محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول اللهAقال : لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل رواه أبو عبدالله بن بطة : حدثنا أحمد بن محمد بن سلام : حدثنا الحسن بن الصباح الزعفراني : حدثنا يزيد بن هارون : حدثنا محمد بن عمرو وهذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي
وهو نص في تحريم استحلال محارم الله تعالى بالحيل وإنما ذكرAأدنى الحيل تنبيها على أن مثل هذا المحرم العظيم الذي قد توعد الله تعالى عليه بمحاربة من لم ينته عنه فمن أسهل الحيل على من أراد فعله : أن يعطيه مثلا ألفا إلا درهما باسم القرض ويبيعه خرقة تساوي درهما بخمسمائة
وكذلك المطلق ثلاثا : من أسهل الأشياء عليه أن يعطي بعض السفهاء عشرة دراهم مثلا ويستعيره لينزو على مطلقته فتطيب له بخلاف الطريق الشرعي فإنه يصعب معه عودها حلالا إذ من الممكن أن لا يطلق بل أن يموت المطلق أولا قبله
ثم إنهAنهانا عن التشبه باليهود وقد كانوا احتالوا في الاصطياد يوم السبت بأن حفروا خنادق يوم الجمعة تقع فيها الحيتان يوم السبت ثم يأخذونها يوم الأحد وهذا عند المحتالين جائز لأن فعل الاصطياد لم يوجد يوم السبت وهو عند الفقهاء حرام لأن المقصود هو الكف عما ينال به الصيد بطريق التسبب أو المباشرة
ومن احتيالهم أن الله سبحانه وتعالى لما حرم عليهم الشحوم تأولوا أن المراد نفس إدخاله الفم وأن الشحم هو الجامد دون المذاب فجملوه فباعوه وأكلوا ثمنه وقالوا : ما أكلنا الشحم ولم ينظروا في أن الله تعالى إذا حرم الانتفاع بشيء فلا فرق بين الانتفاع بعينه أو ببدله إذ البدل يسد مسده فلا فرق بين حال جامده وودكه فلو كان ثمنه حلالا لم يكن في تحريمه كثير أمر وهذا هو : (58/348)
الوجه الحادي عشر : وهو ما روى ابن عباس قال : بلغ عمر رضي الله عنه أن فلانا باع خمرا فقال : قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول اللهAقال : قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها متفق عليه
قال الخطابي : جملوها معناه : أذابوها حتى تصير ودكا فيزول عنها اسم الشحم يقال : جملت الشحم وأجملته واجتملته والجميل : الشحم المذاب
وعن جابر بن عبدالله : أنه سمع النبيAيقول : إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال : لا هو حرام ثم قال رسول اللهAعند ذلك : قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه رواه البخاري وأصله متفق عليه قال الإمام أحمد في رواية صالح وأبي الحارث في أصحاب الحيل : عمدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها فالشيء الذي قيل : إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه ثم احتج بهذا الحديث وحديث : لعن الله المحلل والمحلل له قال الخطابي وقد ذكر حديث الشحوم : في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيآته وتبديل اسمه وقد مثلت حيلة أصحاب الشحوم بمن قيل له : لا تقرب مال اليتيم فباعه وأخذ ثمنه فأكله وقال : لم آكل نفس مال اليتيم أو اشترى شيئا في ذمته ونقده وقال : هذا قد ملكته وصار عوضه دينا في ذمتي فإنما أكلت ما هو ملكي ظاهرا وباطنا
ولولا أن الله سبحانه رحم هذه الأمة بأن نبيها نبههم على ما لعنت به اليهود وكان السابقون منها فقهاء أتقياء علموا مقصود الشارع فاستقرت الشريعة بتحريم المحرمات : من الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها وإن تبدلت صورها وبتحريم أثمانها لطرق الشيطان لأهل الحيل ما طرق لهم في الأثمان ونحوها إذ البابان باب واحد على ما لا يخفى
الوجه الثاني عشر : أن باب الحيل المحرمة مداره على تسمية الشيء بغير اسمه وعلى تغيير (58/349)
صورته مع بقاء حقيقته فمداره على تغيير الإسم مع بقاء المسمى وتغيير الصورة مع بقاء الحقيقة فإن المحلل مثلا غير اسم التحليل إلى اسم النكاح واسم المحلل إلى الزوج وغير مسمى التحليل بأن جعل صورته صورة النكاح والحقيقة حقيقة التحليل
ومعلوم قطعا أن لعن رسول اللهAعلى ذلك إنما هو لما فيه من الفساد العظيم الذي اللعنة من بعض عقوبته وهذا الفساد لم يزل بتغيير الاسم والصورة مع بقاء الحقيقة ولا بتقديم الشرط من صلب العقد إلى ما قبله فإن المفسدة تابعة للحقيقة لا للإسم ولا لمجرد الصورة
وكذلك المفسدة العظيمة التي اشتمل عليها الربا لا تزول بتغيير اسمه من الربا إلى المعاملة ولا بتغيير صورته من صورة إلى صورة والحقيقة معلومة متفق عليها بينهما قبل العقد يعلمها من قلوبهما عالم السرائر فقد اتفقا على حقيقة الربال الصريح قبل العقد ثم غيرا اسمه إلى المعاملة وصورته إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه ألبتة وإنما هو حيلة ومكر ومخادعة لله تعالى ولرسولهA
وأي فرق بين هذا وبين ما فعلته اليهود من استحلال ما حرم الله عليهم من الشحوم بتغيير اسمه وصورته فإنهم أذابوه حتى صار ودكا وباعوه وأكلوا ثمنه وقالوا : إنما أكلنا الثمن لا المثمن فلم نأكل شحما
وكذلك من استحل الخمر باسم النبيذ كما في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبيAأنه قال : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير
وإنما أتي هؤلاء من حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته وهذا بعينه هو شبهة اليهود في استحلال بيع الشحم بعد جمله واستحلال أخذ الحيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الحفائر والشباك من فعلهم يوم الجمعة وقالوا : ليس هذا صيد يوم السبت ولا استباحة لنفس الشحم بل الذي (58/350)
يستحل الشراب المسكر زاعما أنه ليس خمرا مع علمه أن معناه معنى الخمر ومقصوده مقصوده وعمله عمله أفسد تأويلا فإن الخمر اسم لكل شراب مسكر كما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة وقد جاء هذا الحديث عن النبيAمن وجوه أخرى
منها : ما رواه النسائي عنهA يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها وإسناده صحيح
ومنها : ما رواه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت يرفعه : يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ورواه الإمام أحمد ولفظه : ليستحلن طائفة من أمتي الخمر
ومنها : ما رواه ابن ماجه أيضا من حديث أبي أمامة قال : قال رسول اللهA لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها
فهؤلاء إنما شربوا الخمر استحلالا لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ وأن ذلك اللفظ لا يتناول ما استحلوه وكذلك شبهتهم في استحلال الحرير والمعازف فإن الحرير أبيح للنساء وأبيح للضرورة وفي الحرب وقد قال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده [ ] والمعازف قد أبيح بعضها في العرس ونحوه وأبيح الحداء وأبيح بعض أنواع الغناء وهذه الشبهة أقوى بكثير من شبه أصحاب الحيل فإذا كان من عقوبة هؤلاء : أن يمسخ بعضهم قردة وخنازير فما الظن بعقوبة من جرمهم أعظم وفعلهم أقبح فالقوم الذين يخسف بهم ويمسخون إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء ولذلك مسخوا قردة وخنازير كما مسخ أصحاب السبت بما تأولوا من التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم وخسف ببعضهم كما خسف بقارون لأن في الخمر والحرير والمعازف من الكبر والخيلاء ما في الزينة التي خرج فيها قارون على قومه فلما مسخوا دين الله تعالى مسخهم الله ولما تكبروا عن الحق أذلهم الله تعالى فلما جمعوا بين الأمرين جمع الله لهم بين هاتين (58/351)
العقوبتين وما هي من الظالمين ببعيد وقد جاء ذكر المسخ والخسف في عدة أحاديث تقدم ذكر بعضها
فصل وقد أخبرAأن طائفة من أمته تستحل الربا باسم البيع كما أخبر عن
استحلالهم الخمر باسم آخر
فروى ابن بطة بإسناده عن الأوزاعي عن النبيA يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع يعني العينة وهذا وإن كان مرسلا فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق وله من المسندات ما يشهد له وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة
فإنه من المعلوم أن العينة عند مستحلها إنما يسميها بيعا وفي هذا الحديث بيان أنها ربا لا بيع فإن الأمة لم يستحل أحد منها الربا الصريح وإنما استحل باسم البيع وصورته فصوروه بصورة البيع وأعاروه لفظه
ومن المعلوم أن الرعبا لم يحرم لمجرد صورته ولفظه وإنما حرم لحقيقته ومعناه ومقصوده وتلك الحقيقة والمعنى والمقصود قائمة في الحيل الربوية كقيامها في صريحه سواء والمتعاقدان يعلمان ذلك من أنفسهما ويعلمه من شاهد حالهما والله يعلم أن قصدهما نفس الربا وإنما توسلا إليه بعقدغير مقصود وسمياهباسم مستعار غير اسمه ومعلوم أن هذا لا يدفع التحريم ولا يرفع المفسدة التي حرم الربا لأجلها بل يزيدها قوة وتأكيدا من وجوه عديدة
منها : أنه يقدم على مطالبة الغريم المحتاج بقوة لا يقدم بمثلها المربي صريحا لأنه واثق بصورة العقد واسمه
ومنها : اعتقاده أن ذلك تجارة حاضرة مدارة والنفوس أرغب شيء في التجارة فهو في ذلك بمنزلة من أحب امرأة حبا شديدا ويمنعه من وصالها كونها محرمة عليه فاحتال الى أن أبقى بينه وبينها صورة عقد لا حقيقة له يأمن به من بشاعة الحرام وشناعته فصار (58/352)
يأتيها آمنا وهما يعلمان في الباطن أنها ليست زوجته وإنما أظهرا صورة عقد يتوصلان به إلى الغرض
ومن المعلوم أن هذا يزيد المفسدة التي حرم الحكيم الخبير لأجلها الربا والزنى قوة فإن الله سبحانه وتعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاج وتعريضه للفقر الدائم والدين اللازم الذي لا ينفك عنه وتولد ذلك وزيادته إلى غاية تجتاحه وتسلبه متاعه وأثاثه كما هو الواقع في الواقع
فالربا أخو القمار يجعل المقمور سليبا حزينا محسورا
فمن تمام حكمة الشريعة الكاملة المنتظمة لمصالح العباد : تحريمه وتحريم الذريعة الموصلة إليه كما حرم التفرق في الصرف قبل القبض وأن يبيعه درهما بدرهم إلى أجل وإن لم يكن هناك زيادة فكيف يظن بالشارع مع كمال حكمته أن يبيح التحيل والمكر على حصول هذه المفسدة ووقوعها زائدة متضاعفة بأكل المحتال فيها مال المحتاج أضعافا مضاعفة ولو سلك مثل هذا بعض الأطباء مع المرضى لأهلكهم فإن ما حرم الله تعالى ورسولهAمن المحرمات إنما هو حمية لحفظ صحة القلب وقوة الإيمان كما أن ما يمنع منه الطبيب مما يضر المريض حمية له فإذا احتال المريض أو الطبيب على تناول ذلك المؤذي بتغيير صورته مع بقاء حقيقته وطبعه أو تغيير اسمه مع بقاء مسماه ازداد المريض بتناوله مرضا إلى مرضه وترامى به إلى الهلاك ولم ينفعه تغير صورته ولا تبدل اسمه
وأنت إذا تأملت الحيل المتضمنة لتحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى وإسقاط ما أوجب وحل ما عقد وجدت الأمر فيها كذلك ووجدت المفسدة الناشئة منها أعظم من المفسدة الناشئة من المحرمات الباقية على صورها وأسمائها والوجدان شاهد بذلك
فالله سبحانه إنما حرم هذه المحرمات وغيرها لما اشتملت عليه من المفاسد المضرة بالدنيا والدين ولم يحرمها لأجل أسمائها وصورها ومعلوم أن تلك المفاسد تابعة لحقائقها لا تزول بتبدل أسمائها وتغير صورتها ولو زالت تلك المفاسد بتغير الصورة والأسماء لما لعن (58/353)
الله سبحانه اليهود على تغيير صورة الشحم واسمه بإذابته حتى استحدث اسم الودك وصورته ثم أكلوا ثمنه وقالوا : لم نأكله وكذلك تغيير صورة الصيد يوم السبت بالصيد يوم الأحد
فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها زيادة في المفسدة التي حرمت لأجلها مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله ونسبة المكر والخداع والغش والنفاق إلى شرعه ودينه وأنه يحرم الشيء لمفسدة ويبيحه لأعظم منها
ولهذا قال أيوب السختياني : يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون
وقال رسول اللهA لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل
وقال بشر بن السري وهو من شيوخ الإمام أحمد : نظرت في العلم فإذا هو الحديث والرأي فوجدت في الحديث ذكر النبيين والمرسلين وذكر الموت وذكر ربوبية الرب تعالى وجلاله وعظمته وذكر الجنة والنار والحلال والحرام والحث على صلة الأرحام وجماع الخير ونظرت في الرأي فإذا فيه المكر والخديعة والتشاح واستقصاء الحق والمماراة في الدين واستعمال الحيل والبعث على قطيعة الأرحام والتجرؤ على الحرام
وقال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل وذكر أصحاب الحيل فقال : يحتالون لنقض سنن رسول اللهA
والرأي الذي اشتقت منه الحيل المتضمنة لإسقاط ما أوجب الله تعالى وإباحة ما حرم الله : هو الذي اتفق السلف على ذمه وعيبه
فروى حرب عن الشعبي قال : قال ابن مسعود رضي الله عنه : إياكم وأرأيت أرأيت فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيت أرأيت ولا تقيسوا شيئا بشيء فتنزل قدم بعد ثبوتها
وعن الشعبي عن مسروق قال : قال عبدالله : ليس من عام إلا والذي بعده شر (58/354)
منه لا أقول أمير خير من أمير ولا عام أخصب من عام ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا : لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم
وقال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد : لا يجوز شيء من الحيل
وفي رواية صالح ابنه : الحيل لا نراها
وقال في رواية الأثرم وذكر حديث عبدالله بن عمر في حديث البعيان بالخيار ولا يحل لواحد منهما أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله قال : فيه إبطال الحيل
وقال في رواية أبي الحرث : هذه الحيل التي وضعها هؤلاء احتالوا في الشيء الذي قيل لهم : إنه حرام فاحتالوا فيه حتى أحلوه وقد قالA لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأذابوها وأكلوا أثمانها فإنما أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحوم وقد لعن النبيAالمحلل والمحلل له
وقال في رواية ابنه صالح : ينقضون الأيمان بالحيل وقد قال الله تعالى : ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها [ ] وقال تعالى : يوفون بالنذر [ ]
وقال في رواية أبي طالب في التحيل لإسقاط العدة : سبحان الله ما أعجب هذا (58/355)
أبطلوا كتاب الله والسنة جعل الله على الحرائر العدة من الحمل فليس من امرأة تطلق أو يموت زوجها إلا تعتد من أجل الحمل ففرج يوطأ ثم يعتقها على المكان فيتزوجها فيطؤها فإن كانت حاملا كيف يصنع يطؤها رجل اليوم ويطؤها الآخر غدا هذا نقض لكتاب الله والسنة قال النبيA لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض فلا يدري : هي حامل أم لا سبحان الله ما أسمج هذا
وقال في رواية حبيش بن سندي في الرجل يشتري الجارية ثم يعتقها من يومه ويتزوجها : أيطؤها من يومه فقال : كيف يطؤها هذا من يومه وقد وطئها ذاك بالأمس وغضب وقال : هذا أخبث قول
وقال في رواية الميموني : إذا حلف على شىء ثم احتال بحيلة فصار إليه فقد صار إلى دلك بعينه
وقال في رواية الميموني فيمن حلف على يمين ثم احتال لإبطالها : هل يجوز قال : نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز فقال له الميموني : أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا فإذا وجدنا لهم فيها قولا اتبعناه قال : بلى هكذا هو قلت : أوليس هذا منا نحن حيلة قال : نعم قلت : إنهم يقولون في رجل حلف على امرأته وهي على درجة : إن صعدت أو نزلت فأنت طالق قالوا : تحمل حملا ولا تنزل فقال : هذا الحنث بعينه ليس هذا حيلة هذا هو الحنث
وذكر لأحمد : أن امرأة كانت تريد أن تفارق زوجها فيأبى عليها فقال لها بعض أرباب الحيل : لو ارتددت عن الإسلام بنت منه ففعلت فغضب أحمد رحمه الله وقال : من أفتى بهذا أو علعمه أو رضي به فهو كافر
وكذلك قال عبدالله بن المبارك ثم قال : ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فتعلمه منهم
وقال يزيد بن هارون : أفتى أصحاب الحيل بشيء لو أفتى به اليهود والنصارى كان (58/356)
قبيحا أفتوا رجلا حلف أن لا يطلق امرأته بوجه من الوجه فبذلت له مالا كثيرا في طلاقها فأفتوه بأن يقبل أمها أو يباشرها
وذكرت الحيلة عند شريك فقال : من يخادع الله يخدعه
وقال النضر بن شميل : في كتاب الحيل ثلاثمائة وعشرون مسألة كلها كفر
وقال حفص بن غياث : ينبغي أن يكتب عليه : كتاب الفجور
وقال عبدالله بن المبارك في قصة بنت أبي روح حيث أمرت بالارتداد في أيام أبي غسان فارتدت ففرق بينهما وأودعت السجن فقال ابن المبارك وهو غضبان : من أمر بهذا فهو كافر ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به فهو كافر وإن هويه ولم يأمر به فهو كافر
وقال أيوب السختياني : ويل لهم من يخدعون يعني أصحاب الحيل
وقال بعض أصحاب الحيل : ما تنقمون منا إلا أنا عمدنا إلى أشياء كانت عليكم حراما فاحتلنا فيها حتى صارت حلالا
وقال زاذان قال علي رضي الله عنه يعني وقد رأى مبادىء الحيل : إني أراكم تحلون أشياء قد حرمها الله وتحرمون أشياء قد حللها الله قلت : ومن تأمل الشريعة ورزق فيها فقه نفس رآها قد أبطلت على أصحاب الحيل مقاصدهم وقابلتهم بنقيضها وسدت عليهم الطرق التي فتحوها للتحيل الباطل (58/357)
فمن ذلك : أن الشارع منع المتحيل على الميراث بقتل مورثه ميراثه ونقله إلى غيره دونه لما احتال عليه بالباطل
ومن ذلك بطلان وصية الموصى له بمال إذا قتل الموصي
ومن ذلك : بطلان تدبير المدبر إذا قتل سيده ليعجل العتق
ومن ذلك : تحريم المنكوحة في عدتها على الزوج تحريما مؤبدا عند عمر بن الخطاب ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد لما احتال على وطئها بصورة العقد المحرم
ومن ذلك : ما لو احتال المريض على منع امرأته من الميراث بطلاقها فإنها ترثه ما دامت في العدة عند طائفة وعند آخرين : ترثه وإن انقضت عدتها ما لم تتزوج وعند طائفة : ترث وإن تزوجت
ومن ذلك : بطلان إقرار المريض لوارثه بمال لأنه يتخذه حيلة على الوصية له
ونظائر ذلك كثيرة
فالمحتال الباطل معامل بنقيض قصده شرعا وقدرا
وقد شاهد الناس عيانا أنه من عاش بالمكر مات بالفقر
ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى من احتال على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بحرمانهم الثمرة كلها
وعاقب من احتال على الصيد المحرم بأن مسخهم قردة وخنازير وعاقب من احتال على أكل أموال الناس بالربا بأن يمحق ماله كما قال تعالى : يمحق الله الربا ويربي الصدقات [ ] فلا بد أن يمحق مال المرابي ولو بلغ ما بلغ
وأصل هذا : أن الله سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما قصدوا له بتلك الجرائم فجعل عقوبة الكاذب إهدار كلامه ورده عليه
وجعل عقوبة الغال من الغنيمة لما قصد تكثير ماله بالغلول : حرمانه سهمه وإحراق متاعه (58/358)
وجعل عقوبة من اصطاد في الحرم أو الإحرام : تحريم أكل ما صاده وتغريمه نظيره
وجعل عقوبة من تكبر عن قبول الحق والانقياد له : أن ألزمه من الذل والصغار بحسب ما تكبر عنه من الحق
وجعل عقوبة من استكبر عن عبوديته وطاعته : أن صيره عبدا لأهل عبوديته وطاعته
وجعل عقوبة من أخاف السبيل وقطع الطريق : أن تقطع أطرافه وتقطع عليه الطرق كلها بالنفي من الأرض فلا يسير فيها إلا خائفا
وجعل عقوبة من التذ بدنه كله وروحه بالوطءالحرام : إيلام بدنه وروحه بالجلد والرجم فيصل الألم إلى حيث وصلت اللذة
وشرع النبيAعقوبة من اطلع في بيت غيره : أن تقلع عينه بعود ونحوه إفسادا للعضو الذي خانه به وأولجه بيته بغير إذنه واطلع به على حرمته
وعاقب كل خائن بأنه يضل كيده ويبطله ولا يهديه لمقصوده وإن نال بعضه فالذي ناله سبب لزيادة عقوبته وخيبته : وأن الله لا يهدي كيد الخائنين [ ]
وعاقب من حرص على الولاية والإمارة والقضاء بأن شرع منعه وحرمانه ما حرص عليه كما قالA إنا لا نولي عملنا هذا من سأله
ولهذا عاقب أبا البشر آدم عليه السلام : بأن أخرجه من الجنة لما عصاه بالأكل من الشجرة ليخلد فيها فكانت عقوبته إخراجه منها ضد ما أمله
وعاقب من اتخذ معه إلها آخر ينتصر به ويتعزز به : بأن جعله عليه ضدا يذل به ويخذل به كما قال تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ ] وقال تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون [ ] (58/359)
وقال تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ ] ضد ما أمله المشرك من اتخاذ الإله من النصر والمدح
وعاقب الناس إذا بخسوا الكيل والميزان بجور السلطان عليهم يأخذ من أموالهم أضعاف ما يبخس به بعضهم بعضا وعاقبهم إذا منعوا الزكاة والصدقة ترفيها لأموالهم بحبس الغيث عنهم فيمحق بذلك أموالهم ويستوي غنيهم وفقيرهم في الحاجة وعاقبهم إذا أعرضوا عن كتابه وسنة نبيهAوطلبوا الهدى من غيره : بأن يضلهم ويسد عليهم أبواب الهدى كما قال النبيAفي حديث علي رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وغيره وذكر القرآن : من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله فإن المعرض عن القرآن إما أن يعرض عنه كبرا فجزاؤه : أن يقصمه الله أو طلبا للهدى من غيره فجزاؤه : أن يضله الله
وهذا باب واسع جدا عظيم النفع فمن تدبره يجده متضمنا لمعاقبة الرب سبحانه من خرج عن طاعته بأن يعكس عليه مقصوده شرعا وقدرا دنيا وأخرى وقد اطردت سنته الكونية سبحانه في عباده بأن من مكر بالباطل مكر به ومن احتال احتيل عليه ومن خادع غيره خدع قال الله تعالى : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم [ ] وقال تعالى : ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله [ ] فلا تجد ماكرا إلا وهو ممكور به ولا مخادعا إلا وهو مخدوع ولا محتالا إلا وهو محتال عليه (58/360)
فصل وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات وذلك
عكس باب الحيل الموصلة إليها فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات وسد الذرائع عكس ذلك فبين البابين أعظم تناقض والشارع حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم لإفضائها إليه فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه فنهى الله تعالى عن سبع آلهة المشركين لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوا وكفرا على وجه المقابلة
وأخبر النبيA أن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا : وهل يشتم الرجل والديه قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه
ولما جاءت صفية رضي الله تعالى عنها تزورهA وهو معتكف قام معها ليوصلها إلى بيتها فرآهما رجلان من الأنصار فقال : على رسلكما إنها صفية بنت حييي فقالا : سبحان الله ! يا رسول الله فقال : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا
فسد الذريعة إلى ظنهما السوء باعلامهما أنها صفية
وأمسكAعن قتل المنافقين مع ما فيه من المصلحة لكونه ذريعة إلى التنفير وقول الناس : إن محمدا يقتل أصحابه
وحرم القطرة من الخمر وإن لم تحصل بها مفسدة الكثير لكون قليلها ذريعة إلى شرب كثيرها (58/361)
وحرم إمساكها للتخليل وجعلها نجسة لئلأ تفضي مقاربتها بوجه من الوجوه إلى شربها
ونهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها حسما للمادة وسدا للذريعة
وحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها والنظر إليها لغير حاجة حسما للمادة وسدا للذريعة
ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور
ومنعهن من التسبيح في الصلاة لنائبة تنوب بل جعل لهن التصفيق
ومنع المعتدة من الوفاة من الزينة والطيبب والحلي
ومنع الرجل من التصريح بخطبتها في العدة وإن كان إنما يعقد النكاح بعد انقضائها
ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها حتى كأنه ينظر إليها
ونهى عن بناء المساجد على القبور ولعن فاعله
ونهى عن تعلية القبور وتشريفها وأمر بتسويتها
ونهى عن البناء عليها وتجصيصها والكتابة عليها والصلاة إليها وعندها وإيقاد المصابيح عليها كل ذلك سدا لذريعة اتخاذها أوثانا وهذا كله حرام على من قصده ومن لم يقصده بل على من قصد خلافه سدا للذريعة
ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لكون هذين الوقتين وقت سجود الكفار للشمس ففي الصلاة نوع تشبه بهم في الظاهر وذلك ذريعة إلى الموافقة والمشابهة في الباطن وكذلك النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر وإن لم يحضر وقت سجود الكفار للشمس مبالغة في هذا المقصود وحماية لجانب التوحيد وسدا لذريعة الشرك بكل ممكن
ومنع من التفرق في الصرف قبل التقابض وكذلك الربوي إذا بيع بربوي آخر من غير جنسه سدا لذريعة النساء الذي هو صلب الربا ومعظمه بل من منع بيع الدرهم (58/362)
بالدرهمين نقداد سدا لذريعة ربا النساء كما عللAبذلك في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وهذا أحسن العلل في تحريم ربا الفضل
وحرم الجمع بين السلف والبيع لما فيه من الذريعة إلى الربح في السلف بأخذ أكثر مما أعطى والتوسل إلى ذلك أو الإجارة كما هو الواقع
ومنع البائع أن يشتري السلعة من مشتريها بأقل مما اشتراها به وهي مسألة العينة وإن لم يقصد الربا لكونه وسيلة ظاهرة واقعة إلى بيع خمسة عشر نسيئة بعشرة نقدا
وحرم جمع الشرطين في البيع لكونه وسيلة إلى ذلك وهو منطبق على مسألة العينة
ومنع من القرض الذي يجر النفع وجعله ربا
ومنع المقرض من قبول هدية المقترض ما لم يكن بينهما عادةجارية بذلك قبل القرض ففي سنن ابن ماجة عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال : سألت أنس بن مالك الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه فقال : قال رسول اللهA إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبنها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك
وروى البخاري في تاريخه عن يزيد بن أبي يحيى الهنائي عن أنس ابن مالك قال : قال رسول اللهA إذا أقرض أحدكم فلا يأخذ هدية
وفي صحيح البخاري عن أبي بردة عن أبي موسى قال : قدمت المدينة فلقيت عبدالله بن سلام فقال لي : إنك بأرض الربا فيها فاش فإذا كان لك على رجل حقفأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا
وروى سعيد بن منصور في سننه هذا المعنى عن أبي بن كعب
وجاء عن ابن مسعود وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمروونحوه (58/363)
وكل ذلك سدا لذريعة أخذ الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل
ونهى عن بيع الكالىء بالكالىء وهو الدين المؤخر بالدين المؤخر لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة فلو كان الدينان حالين لم يمتنع لأنهما يسقطان جيعا من ذمتهما وفي الصورة المنهي عنها : ذريعة إلى تضاعف الدين في ذمة كل واحد منهما في مقابلة تأجيله وهذه مفسدة ربا النساء بعينها
ونهى الله سبحانه النساء أن : يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن [ ] فلما كان الضرب بالرجل ذريعة إلى ظهور صوت الخلخال الذي هو ذريعة إلى ميل الرجال إليهن نهاهن عنه
وأمر الله سبحانه الرجال والنساء بغض أبصارهم لما كان النظر ذريعة إلى الميل والمحبة التي هي ذريعة إلى مواقعة المحظور
وحرم التجارة في الخمر وإن كان إنما يبيعها من كافر يستحل شربها فإن التجارة فيها ذريعة إلى اقتنائها وشربها ولهذا لما نزلت الآيات في تحريم الربا قرأها عليهم رسول اللهA وقرن بها تحريم التجارة في الخمر فإن الربا ذريعة إلى إفساد الأموال والخمر ذريعة إلى إفساد العقول : فجمع بين تحريم التجارة في هذا وهذا
ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين لئلا يتخذ ذريعة إلى الزيادة في الصوم الواجب كما فعل أهل الكتاب
ونهى عن التشبه بأهل الكتاب وغيرهم من الكفار في مواضع كثيرة لأن المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة فأنه إذا أشبه الهدي الهدي أشبه القلب القلب وقد قالA خالف هدينا هدي الكفار وفي المسند مرفوعا : من تشبه بقوم فهو منهم
وحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لكونه ذريعة إلى قطيعة الرحم وبهذه العلة بعينها علل رسول اللهAفقال : إنكم إذا فعلتم (58/364)
ذلك قطعتم أرحامكم
وأمر بالتسوية بين الأولاد في العطية وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح ولا تنبغي الشهادة عليه وأمر فاعله برده ووعظه وأمره بتقوى الله تعالى وأمره بالعدل لكون ذلك ذريعة ظاهرة قريبة جدا إلى وقوع العداوة بين الأولاد وقطيعة الرحم بينهم كما هو المشاهد عيانا فلو لم تأت السنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بالمنع منه لكان القياس وأصول الشريعة وما تضمنته من المصالح ودرء المفاسد يقتضي تحريمه
ومنع من نكاح الأمة لكونه ذريعة ظاهرة إلى استرقاق ولده ثم جوز وطأها بملك اليمين لزوال هذه المفسدة
ومنع من تجاوز أربع زوجات لكونه ذريعة ظاهرة إلى الجور وعدم العدل بينهن وقصر الرجال على الأربع فسحة لهم في التخلص من الزنى وإن وقع منهم بعض الجور فاحتماله أقل مفسدة من مفسدة الزنى
ومنع من عقد النكاح في حال العدة وحال الإحرام وإن تأخر الدخول إلى ما بعد انقضائها وحصول الحل لكون العقد ذريعة إلى الوطء والنفوس لا تصبر غالبا مع قوة الداعي
وشرط في النكاح شروطا زائدة على مجرد العقد فقطع عنه شبه بعض أنواع السفاح به كاشتراط إعلانه إما بالشهادة أو بترك الكتمان أو بهما واشتراط الولي ومنع المرأة أن تليه وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة وأوجب فيه المهر (58/365)
ومنع هبة المرأة نفسها لغير النبيA وسر ذلك : أن في ضد ذلك والإخلال به ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح كما في الأثر إن الزانية هي التي تزوج نفسها فإنه لا تشاء زانية تقول : زوجتك نفسي بكذا سرا من وليها بغير شهود ولا إعلان ولا وليمة ولا دف ولا صوت إلا فعلت ومعلوم قطعا أن مفسدة الزنى لا تنتفي بقولها : أنكحتك نفسي أو زوجتك نفسي أو أبحتك مني كذا وكذا فلو انتفت مفسدة الزنى بذلك لكان هذا من أيسر الأمور عليها وعلى الرجل فعظم الشارع أمر هذا العقد وسد الذريعة إلى مشابهته الزنى بكل طريق ثم أكد ذلك بأن جعل له حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن التوارث ولهذا كان الراجح في الدليل : أن الزنى لا يثبت حرمة المصاهرة كما لا يثبت التوارث والنفقة وحقوق الزوجية ولا يثبت به النسب ولا العدة على الصحيح وإنما تستبرأ بحيضة ليعلم براءة رحمها ولا يقع فيه طلاق ولا ظهار ولا إيلاء ولا يثبت المحرمية بينه وبين أمها وابنتها فلا يثبت حرمة المصاهرة ولا تحريمها فإن الشارع جعل وصلة الصهر فيه مع وصلة النسب وجمع بينهما في قوله : فجعله نسبا وصهرا [ ] فإذا انتفت وصلة النسب فيه انتفت وصلة الصهر
وكنا ننصر القول بالتحريم ثم رأينا الرجوع إلى عدم التحريم أولى لاقتضاء الدليل له
وليس المقصود استيفاء أدلة المسئلة من الجانبين وإنما الغرض التنبيه على أن من قواعد الشرع العظيمة : قاعدة سد الذرائع
ومن ذلك : نهى النبيAأن تقام الحدود في دار الحرب وأن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذلك ذريعة إلى لحاق المحدود بالكفار
ومن ذلك : أن المسلم إذا احتاج إلى التزوج بدار الحرب وخاف على نفسه الزنا عزل (58/366)
عن امرأته نص عليه أحمد لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن ينشأ ولده كافرا
ومن ذلك : أن الصحابة اتفقوا على قتل الجماعة الكثيرة بالواحد وإن كان القصاص يقتضي المساواة لئلا يتخذ ذريعة إلى إهدار الدماء وتعاون الجماعة على قتل المعصوم
ومن ذلك : أن السكران لو قتل اقتص منه وإن كان في هذه الحالة لا قصد له لئلا يتخذ السكر ذريعة إلى قتل المعصوم وسقوط القصاص
ومن ذلك : نهيه سبحانه رسولهAعن الجهر بالقرآن بحضرة العدو لما كان ذريعة إلى سبهم للقرآن ومن أنزله
ومن ذلك : أنه سبحانه نهى الصحابة أن يقولوا للنبيA راعنا [ ] مع قصدهم المعنى الصحيح وهو المراعاة لئلا يتخذ اليهود هذه اللفظة ذريعة إلى السب ولئلا يتشبهوا بهم ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا
ومن ذلك : أنهAكره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود أو شجرة أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد له صمدا سدا لذريعة التشبه بالسجود لغير الله تعالى
ومن ذلك : أنه أمر المأمومين أن يصلوا جلوسا إذا صلى إمامهم جالسا سدا لذريعة التشبه بفارس والروم في قيامهم على ملوكهم وهم قعود ومن ذلك : أن النبيAمنع الرجل من أخذ نظير حقه بصورة الخيانة ممن خانه وجحد حقه وإن كان إنما يأخذ حقه أو دونه فقال لمن سأله عن ذلك : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك لأن ذلك ذريعة إلى إساءة الظن به ونسبته إلى الخيانة ولا يمكنه أن يحتج عن نفسه ويقيم عذره مع أن ذلك أيضا ذريعة إلى أن لا يقتصر على قدر الحق وصفته فإن النفوس لا تقتصر في الاستيفاء غالبا على قدر الحق (58/367)
ومن ذلك : أن سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع من يد المشتري سدا لذريعة المفسدة الناشئة من الشركة والمخالطة بحسب الإمكان وقبل البيع ليس أحدهما أولى بانتزاع نصيب شريكه من الآخر فإذا رغب عنه وعرضه للبيع كان شريكه أحق به لما فيه من إزالة الضرر عنه وعدم تضرره هو فإنه يأخذه بالثمن الذي يأخذه به الأجنبي ولهذا كان الحق : أنه لا يحل الاحتيال لإسقاط الشفعة ولا تسقط بالاحتيال فإن الاحتيال على إسقاطها يعود على الحكمة التي شرعت لها بالنقض والإبطال
ومن ذلك : أنه لا يقبل شهادة العدو ولا الظنين في تهمة أو قرابة ولا الشريك فيما هو شريك فيه ولا الوصي فيما هو وصي فيه ولا الولد على ضرة أمه ولا يحكم القاضي بعلمه كل ذلك سدا لذريعة التهمة والغرض الفاسد
ومن ذلك : أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وإفراد يوم الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى الابتداع في الدين بتخصيص زمان لم يخصه الشارع بالعبادة ومن ذلك : أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بقطع الشجرة التي كانت تحتها البيعة وأمر بإخفاء قبر دانيال سدا لذريعة الشرك والفتنة ونهى عن تعمد الصلاة في الأمكنة التي كان رسول اللهAينزل بها في سفره وقال : أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فلا
ومن ذلك : جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه الأمة على حرف واحد من الأحرف السبعة لئلا يكون اختلافهم فيها ذريعة إلى اختلافهم في القرآن ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم
ومن ذلك : أن النبيAأمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره وبصبغ نعله الذي قلده به بدمه ويخلي بينه وبين (58/368)
المساكين ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته قالوا : لأنه لو جاز له أن يأكل منه أو أحد من رفقته قبل بلوغ المحل لخادعته نفسه إلى أن يقصر في علفه وحفظه حتى يشارف العطب فينحره فسد الشارع الذريعة ومنعه ورفقته من الأكل منه
ومن ذلك : نهيهAعن الذرائع التي توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء كخطبة الرجل على خطبة أخيه وسومه على سومه وبيعه على بيعه وسؤال المرأة طلاق ضرتها وقال : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما سدزا لذريعة الفتنة والفرقة
ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه والأمة في تلك الشرور إلى الآن
ومن ذلك : أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب والمجالس لئلا تفضي مشابهتهم للمسلمين في ذلك إلى معاملتهم معاملة المسلمين : في الإكرام والاحترام ففي إلزامهم بتمييزهم عنهم سدا لهذه الذريعة
ومن ذلك : منعهAمن بيع القلادة التي فيها خرز وذهب بذهب لئلا يتخذ ذريعة إلى بيع الذهب بالذهب متفاضلا إذا ضم إلى أحدهما خرز أو نحوه
ولو لم يكن في هذا الباب إلا أن الله سبحانه وتعالى أوجب إقامة الحدود سدا للذريعة إلى الجرائم إذا لم يكن عليها وازع طبيعي وجعل مقادير عقوباتها وأجناسها وصفاتها (58/369)
بحسب مفاسدها في نفسها وقوة الداعي إليها وتقاضي الطباع لها
وبالجملة فالمحرمات قسمان : مفاسد وذرائع موصلة إليها مطلوبة الإعدام كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام
والقربات نوعان : مصالح للعباد وذرائع موصلة إليها ففتح باب الذرائع في النوع الأول كسد باب الذرائع في النوع الثاني وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة فبين باب الحيل وباب سدع الذرائع أعظم تناقض
وكيف يظن بهذه الشريعة العظيمة الكاملة التي جاءت بدفع المفاسد وسد أبوابها وطرقها : أن تجوز فتح باب الحيل وطرق المكر على إسقاط واجباتها واستباحة محرماتها والتذرع إلى حصول المفاسد التي قصدت دفعها
وإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به ذلك المحرم أو بأن لا يقصد به وإنما يقصد به المباح نفسه لكن قد يكون ذريعة إلى المحرم يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة راجحة تقتضى حله فالتذرع إلى المحرمات بالاحتيال عليها أولى أن يكون حراما وأولى بالإبطال والإهدار إذا عرف قصد فاعله وأولى أن لا يعان فاعله عليه وأن يعامل بنقيض قصده وأن يبطل عليه كيده ومكره
وهذا بحمد الله تعالى بين لمن له فقه وفهم في الشرع ومقاصده
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة فإن الشارع يسد الطريق إلى ذلك المحرم بكل ممكن والمحتال يتوسل إليه بكل ممكن ولهذا اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح وغيرها شروطا سد ببعضها التذرع إلى الربا والزنا وكمل بها مقصود العقود ولم يمكن المحتال الخروج منها في الظاهر ومن يريد الاحتيال على ما منع الشارع منه فيأتي بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سد الشارع لذريعة إليه لم يبق لتلك الشروط التي أتى بها فائدة ولا حقيقة بل تبقى بمنزلة العبث واللعب وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة (58/370)
قال : واعتبر هذا بالشفعة فإن الشارع أباح انتزاع الشقص من مشتريه والشارع لا يخرج الملك عن مالكه بقيمة أو غيرها إلا لمصلحة راجحة وكانت المصلحة هكهنا تكميل العقار للشريك فإنه بذلك يزول ضرر المشاركة والمقاسمة وليس في هذا التكميل ضرر على البائع لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشتري شريكا كان أو أجنبيا فالمحتال لإسقاطها مناقض لمقصود الشارع مضاد له في حكمه فالشارع يقول : لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك والمحتال يقول : لك أن تتحيل على منع الشريك من الأخذ بأنواع من الحيل التى ظاهرها مكر وخداع وباطنها منع الشريك مما أباحه له الشارع ومكنه منه وتفويت نفس مقصود الشارع والمصيبة الكبرى : إظهار المحتال أنه إنما فعل ما أذن له الشارع في فعله وأنه مكنه من الخداع والمكر والتحيل على إسقاط حق الشريك وهذا بين لمن تأمله
قال : والمقصود : بيان تحريم الحيل وأن صاحبها متعرض لسخط الله تعالى وأليم عقابه ويترتب على ذلك أن ينقض على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان وذلك في كل حيلة بحسبها فلا يخلو الاحتيال إما أن يكون من واحد أو اثنين فأكثر فإن كان من اثنين فأكثر فإن كان عقد بيع تواطآ عليه تحيلا على الربا كما في العينة حكم بفساد العقدين ويرد إلى الأول رأس ماله كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربا لا يحل الانتفاع به بل يجب رده إن كان باقيا وبدله إن كان تالفا وكذلك إن جمعا بين بيع وقرض أو إجارة وقرض أو مضاربة أو شركة أو مساقاة أو مزارعة وقرض حكم بفسادهما فيجب أن يرد عليه بدل ماله الذي جعلاه قرضا والعقد الآخر فاسد حكمه حكم العقود الفاسدة وكذلك إن كان نكاحا تواطآ عليه كان حكمه حكم الأنكحة الفاسدة وكذلك إن تواطآ على هبة أو بيع لإسقاط الزكاة أو على هبة لتصحيح نكاح فاسد أو وقف فاسد مثل أن تريد مواقعة مملوكها فتهبه لرجل فيزوجها به فإذا قضت وطرها منه استوهبته من الرجل فوهبها إياه فانفسخ النكاح فهذا البيع والهبة فاسدان في جميع الأحكام (58/371)
وإن كان الاحتيال من واحد فإن كانت الحيلة يستقل بها لم يحصل بها غرضه فإن كانت عقدا كان فاسدا مثل أن يهب لابنه هبة يريد أن يرجع فيها لئلا يجب عليه الزكاة فإن وجود هذه الهبة كعدمها ليست هبة في شيء من الأحكام لكن إن ظهر المقصود ترتب الحكم عليه ظاهرا وباطنا وإلا كانت فاسدة في الباطن فقط وإن كانت حيلة لا يستقل بها مثل أن ينوي التحليل ولا يظهره للزوجة أو يرتجع المرأة إضرارا بها أو يهب ماله إضرارا للورثة ونحو ذلك كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضه باطلة فلا يحل له وطء المرأة ولا يرثها لو ماتت وإذا علم الموهوب له أو الموصى له غرضه باطلا : لم يحصل له الملك في الباطن فلا يحل له الانتفاع به بل يجب رده إلى مستحقه وأما بالنسبة إلى العاقد الآخر الذي لم يعلم فإنه صحيح يفيد مقصود العقود الصحيحة ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة
وإن كانت الحيلة له وعليه كطلاق المريض صح الطلاق من جهة أنه أزال ملكه ولم يصح من جهة أنه يمنع الإرث فإنه إنما منع من قطع الإرث لا من إزالة ملك البضع
وإن كانت الحيلة فعلا يفضي إلى غرض له مثل أن يسافر في الصيف ليتأخر عنه الصوم إلى الشتاء لم يحصل غرضه بل يجب عليه الصوم في هذا السفر
قلت : ونظير هذا : ما قالت المالكية : إنه لا يستبيح رخصة المسح على الخفين إذا لبسهما لنفس المسح فلو مسح لذلك لم يجزه وعليه إعادة الصلاة أبدا وإنما تثبت الرخصة في حق من لبسهما لحاجة كالبرد والركوب ونحوهما فيمسح عليهما لمشقة النزع
وخالفهم باقي الفقهاء في ذلك والمنع جار على أصول من راعى المقاصد
قال شيخنا : وإن كان يفضي إلى سقوط حق غيره مثل أن يطأ امرأة أبيه أو ابنه لينفسخ نكاحه أو مثل أن تباشر المرأة ابن زوجها أو أباه عند من يرى ذلك موجبا للتحريم فهذه الحيل بمنزلة الإتلاف للملك بقتل أو غصب لا يمكن إبطالها لأن حرمة المرأة بهذا السبب حق الله تعالى يترتب عليه فسخ النكاح ضمنا والأفعال الموجبة للتحريم لا يعتبر لها العقل فضلا عن القصد وهذا بمنزلة أن يحتال على نجاسة مائع فإن تنجيس (58/372)
المائعات بالمخالطة وتحريم المصاهرة بالمباشرة أحكام تثبت بأمور حسية فلا ترفع الأحكام مع وجود تلك الأسباب
قلت : هذا كان قول الشيخ أولا ثم رجع إلى أن تحريم المصاهرة لا يثبت بالمباشرة المحرمة وحينئذ فصورة ذلك : أن ترضع ابنته الكبيرة أو أمته امرأته الصغيرة لينفسخ نكاحها فإن فسخ النكاح ههنا لا يتوقف على العقل ولا على القصد بل لو كانت المرضعة مجنونة يثبت التحريم فهو بمنزلة أن يلقي في مائعه ما ينجسه
قال : وإن كانت الحيلة فعلا يفضي إلى تحليل له أو لغيره مثل أن يقتل رجلا ليتزوج امرأته أو يزوجها غيره فههنا تحل المرأة لغير من قصد تزويجها به فإنها بالنسبة إليه كمن مات عنها زوجها أو قتل بحق أو في سبيل الله وأما بالنسبة إلى من قصد بالقتل أن يتزوج المرأة إما بمواطأة منها أو بدونها فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لو خلل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع من غير أن يطرح فيها شيئا والصحيح : أنها لا تطهر وإن كانت تطهر إذا تخللت بفعل الله تعالى وكذلك هذا الرجل لو مات بدون هذا القصد حلت المرأة فإذا قتله لهذا القصد أمكن أن يقال : تحرم عليه مع حلها لغيره ويشبه هذا : الحلال إذا صاد الصيد وذبحه لحرام فإنه يحرم على ذلك المحرم ويحل للحلال
ومما يؤيد هذا : أن القاتل يمنع الإرث ولا يمنعه غيره من الورثة لكن لما كان مال الرجل تتطلع إليه نفوس الورثة كان القتل مما يقصد به المال بخلاف الزوجة فإن ذلك لا يكاد يقصد فإن التفات الرجل إلى امرأة غيره بالنسبة إلى التفات الورثة إلى مال المورث قليل وكونه يقتله ليتزوجها فهذا أقل فلذلك لم يشرع أن من قتل رجلا حرمت عليه امرأته كما شرع أن من قتل مورثا منع ميراثه فإذا قتله ليتزوج بها فقد وجدت الحكمة فيه فيعاقب بنقيض قصده وأكثر ما يقال في رد هذا : أن الأفعال المحرمة لحق الله تعالى لا تفيد الحل كذبح الصيد وتخليل الخمر والتذكية في غير المحل أما المحرم لحق الآدمي كذبح المغصوب فإنه يفيد الحل أو يقال : إن الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه (58/373)
المشروع كالذكاة والقتل لم يشرع لحل المرأة وإنما انقضاء النكاح بانقضاء الأجل فحصل الحل ضمنا وتبعا
ويمكن أن يقال في جواب هذا : إن قتل الآدمي حرام لحق الله تعالى وحقالآدمي ولهذا لا يستباح بالإباحة بخلاف ذبح المغصوب فإنه حرم لمحض حق الآدمي ولهذا لو أباحه حل فالمحرم هناك إنما هو تفويت المالية على المالك لا إزهاق الروح وقد اختلف في الذبح بآلة مغصوبة وفيه عن أحمد روايتان واختلف العلماء في ذبح المغصوب وقد نص أحمد على أنه ذكي وفيه حديث رافع ابن خديج في ذبح الغنم المنهوبة والحديث الآخر في المرأة التي أضافت النبيA فذبحت له شاة أخذتها بدون إذن أهلها فقال : أطعموها الأسارى وفي هذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع من أكله المذبوح له دون غيره كالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام حرم على الحرام دون الحلال وقد نقل صالح عن أبيه فيمن سرق شاة فذبحها لا يحل أكلها يعني له قلت لأبي : فإن ردها على صاحبها قال : تؤكل فهذه الرواية قد يؤخذ منها أنها حرام على الذابح مطلقا لأن أحمد لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن له في الأكل لم يخص الذابح بالتحريم فهذا القول الذي دل عليه الحديث في الحقيقة حجة لتحريم مثل هذه المرأة على القاتل ليتزوجها دون غيره بطريق الأولى هذا كله كلام شيخنا (58/374)
وبعد فالتحريم مطرد على قواعد أحمد ومالك من وجوه متعددة
منها مقابلة الفاعل بنقيض قصده كطلاق الفار وقاتل مورثه وقاتل الموصي والمدبر إذا قتل سيده
ومنها : سد الذرائع
ومنها : تحريم الحيل
ومنها تخليل الخمر كما ذكره شيخنا والله تعالى أعلم
قال : فتلخص أن الحيل نوعان : أقوال وأفعال
فالأقوال يشترط لثبوت أحكامها العقل ويعتبر فيها القصد وتكون صحيحة تارة وفاسدة أخرى
ثم ما ثبت حكمه منه ما يمكن فسخه ورفعه بعد وقوعه كالبيع والنكاح ومنه ما لا يمكن فيه ذلك كالعتق والطلاق
فهذا الضرب إذا قصد به الاحتيال على فعل محرم أو إسقاط واجب أمكن إبطاله إما من جميع الوجوه وإما من الوجه الذي يبطل مقصود المحتال بحيث لا يترتب عليه الحكم المحتال على حصوله كما حكم به الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في طلاق الفار
وأما الأفعال : فإن اقتضت الرخصة للمحتال لم تحصل كالسفر والفطر وإن اقتضت تحريما على الغير فإنه قد يقع وتكون بمنزلة إتلاف النفس والمال وإن اقتضت حلا عاما إما بنفسها أو بواسطة زوال الملك فهذه مسألة القتل وذبح الصيد للحلال وذبح المغصوب للغاصب
وبالجملة : فإذا قصد بالفعل استباحة محرم لم يحل له وإن قصد إزالة ملك الغير ليحل له فالأقيس : أن لا يحل له أيضا وإن حل لغيره
وقد دخل في القسم الأول احتيال المرأة على فسخ النكاح بالردة فهي لا تمشي غالبا إلا عند من يقول : الفرقة تنجز بنفس الرعدة أو يقول : بأنها لا تقتل فالواجب في مثل هذه الحيلة : أن لا ينفسخ بها النكاح وإذا علم الحاكم أنها ارتدت لذلك لم يفرق بينهما وتكون مرتدة من حيث العقوبة والقتل غير مرتدة من حيث فساد النكاح حتى لو توفيت أو قتلت قبل الرجوع استحق ميراثها لكن لا يجوز له وطؤها في حالة الردة فإن (58/375)
الزوجة قد يحرم وطؤها بأسباب من جهتها كما لو أحرمت لكن لو ثبت أنها ارتدت ثم قالت : إنما ارتددت لفسخ النكاح لم يقبل هذا فإنه قد يجعل ذريعة إلى عود نكاح كل مرتدة بأن تلقن أنها إنما ارتدت للفسخ ولأنها متهمة في ذلك ولأن الأصل أنها مرتدة في جميع الأحكام
فصل وقد استدل البخاري في صحيحه على بطلان الحيل بقولهA لا يجمع بين
متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة
فإن هذا النهي يعم ما قبل الحول وما بعده
واحتج بقولهAفي الطاعون : إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه
وهذا من دقة فقهه رحمه الله فإنه إذا كان قد نهىAعن الفرار من قدر الله تعالى إذا نزل بالعبد رضا بقضاء الله تعالى وتسليما لحكمه فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد
واحتج بأنه صلى اللهAنهى عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ
فدل على أن الشيء الذي هو في نفسه غير محرم إذا قصد به أمر محرم صار محرما
واحتج أحمد رحمه الله على بطلان الحيل وتحريمها بلعنة رسول اللهAللمحلل وبقوله : لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل
واحتج على تحريم الحيل لإسقاط الشفعة بقوله : فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه
واحتج ابن عباس وبعده أيوب السختياني وغيره من السلف : بأن الحيل مخادعة لله تعالى وقد قال تعالى : يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم [ ] قال ابن عباس : ومن يخادع الله يخدعه (58/376)
ولا ريب أن من تدبر القرآن والسنة ومقاصد الشارع جزم بتحريم الحيل وبطلانها فإن القرآن دل على أن المقاصد والنيات معتبرة في التصرف والعادات كما هي معتبرة في القربات والعبادات فيجعل الفعل حلالا أو حراما وصحيحا أو فاسدا وصحيحا من وجه فاسدا من وجه كما أن القصد والنية في العبادات تجعلها كذلك
وشواهد هذه القاعدة كثيرة جدا في الكتاب والسنة فمنها : قوله تعالى في آية الرجعة ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا [ ] وذلك نص في أن الرجعة إنما تثبت لمن قصد الصلاح دون الضرار فإذا قصد الضرار لم يملكه الله تعالى الرجعة
ومنها : قوله تعالى في آية الخلع : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ ] وهذا دليل على أن الخلع المأذون فيه إنما هو إذا خاف الزوجان أن لا يقيما حدود الله وأن النكاح الثاني إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود الله فإنه شرط في الخلع عدم خوف إقامة حدوده وشرط في العود ظن إقامة حدوده
ومنها : قوله تعالى في آية الفرائض من بعد وصية يوصى بها أودين غير مضار [ ] فإنه سبحانه وتعالى إنما قدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة فإذا كانت الوصية وصية ضرار كانت حراما وكان للورثة إبطالها وحرم على الموصى له أخذ ذلك بدون رضا الورثة وأكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله : تلك حدود الله فلا تعتدوها [ ]
وتأمل كيف ذكر سبحانه وتعالى الضرار في هذه الآية دون التي قبلها لأن الأولى تضمنت ميراث العمودين والثانية تضمنت ميراث الأطراف : من الزوجين والإخوة والعادة أن الميت قد يضار زوجته وإخوته ولا يكاد يضار والديه وولده
والضرار نوعان : جنف وإثم فإنه قد يقصد الضرار وهو الإثم وقد يضار من غير قصد وهو الجنف فمن أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار قصد أو لم يقصد فللوارث رد هذه الوصية وإن أوصى بالثلث فما دون ولم يعلم أنه قصد الضرار وجب إمضاؤها (58/377)
فإن علم الموصى له أن الموصى إنما أوصى ضرارا لم يحل له الأخذ ولو اعترف الموصي أنه إنما أوصى ضرارا لم تجز إعانته على إمضاء هذه الوصية
وقد جوز سبحانه وتعالى إبطال وصية الجنف والإثم وأن يصلح الوصي أو غيره بين الورثة والموصى له فقال تعالى : فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه [ ] وكذلك إذا ظهر للحاكم أو الوصى الجنف أو الإثم في الوقف ومصرفه أو بعض شروطه فأبطل ذلك كان مصلحا لا مفسدا وليس له أن يعين الواقف على إمضاء الجنف والإثم ولا يصحح هذا الشرط ولا يحكم به فإن الشارع قد رده وأبطله فليس له أن يصحح ما رده الشارع وحرمه فإن ذلك مضادة له ومنقاضة
ومن ذلك : قوله تعالى : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة [ ] فهذا دليل على أنه إذا عضلها لتفتدي نفسها منه وهو ظالم لها بذلك لم يحل له أخذ ما بذلته له ولا يملكه بذلك
ومن ذلك : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن [ ] فحرم سبحانه وتعالى أن يأخذ مها شيئا مما آتاها إذا كان قد توسل إليه بالعضل
ومن ذلك : أن جداد النخل عمل مباح أي وقت شاء صاحبه لكن لما قصد به أصحابه في الليل حرمان الفقراء عاقبهم الله تعالى بإهلاكه ثم قال : ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون [ ] ثم جاءت السنة بكراهة الجداد بالليل لكونه ذريعة إلى هذه المفسدة ونص عليه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره
فصل قال أصحاب الحيل : قد أسمعتمونا على بطلان الحيل وتحريمها ما فيه
كفاية فاسمعوا الآن على جوازها واستحبابها ما نقيم به عذرنا
قال الله سبحانه وتعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا (58/378)
فيم كنتم فالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم [ ]
ووجه الاستدلال : أنه سبحانه وتعالى إنما عذرهم بتخلفهم وعجزهم إذ لم يستطيعوا حيلة يتخلصون بها من المقام بين أظهر الكفار وهو حرام فعلم أن الحيلة التي تخلص من الحرام مستحبة مأذون فيها وعامة الحيل التي تنكرونها علينا هي من هذا الباب فإنها حيل تخلص من الحرام ولهذا سمى بعض من صنف في ذلك كتابه المخارج الحرام والتخلص من الآثام واعتبر هذا بحيلة العينة فإنها تخلص من الربا المحرم
وكذلك الجمع بن الإجارة والمساقاة يخلص من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وهو حرام
وكذلك خلع اليمين يخلص من وقوع الطلاق الذي هو حرام أو مكروه أو من مواقعة المرأة بعد الحنث وهو حرام وكذلك هبة الرجل ماله قل الحول لولده أو امرأته يخلصه من إثم منع الزكاة كما يتخلص من إثم المنع بإخراجها فهما طريقان للتخلص
فالحيل تخلعص من الحرج وتخلص من الإثم والله تعالى قد نفى الحرج عنا وعن ديننا وندبنا إلى التخلص منه ومن الآثام فمن أفضل الأشياء معرفة ما يخلصنا من هذا وهذا وتعليمه وفتح طريقه
ألا ترى أن الرجل إذا حلف بالطلاق : ليقتلن أباه أو ليشربن الخمر أو ليزنين بامرأة ونحو ذلك كانت الحيلة تخليصه من مفسدة فعل ذلك ومن مفسدة خراب بيته ومفارقة أهله فإن من لا يرى الحيلة ليس له عنده مخرج إلا بوقوع الطلاق فإذا علم أنه يقع به الطلاق فزال فعل المحلوف عليه فأي شيء أفضل من تخلصيه من هذا وهذا
وكذلك من وقع عليه الطلاق الثلاث ولا صبر له عن امرأته ويرى اتصالها بغيره أشد من موته فاحتلنا له بأن زوجناها بعبد فوطئها ثم وهبناه منها فانفسخ نكاحه وحلت لزوجها المطلق بعد انقضاء عدتها (58/379)
قالوا : وقد قال الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام وقد حلف ليجلدن امرأته مائة : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث [ ] قال سعيد عن قتادة : كانت امرأته قد عرضت له بأمر وأرادها إبليس على شيء فقال لها : لو تكلمت بكذا وكذا إنما حملها عليها الجوع فحلف نبي الله لئن شفاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة قال : فأمر بأصل فيه تسعة وتسعون قضيبا والأصل تكملة المائة فيضربها به ضربة واحدة فأبر الله تعالى نبيه وخفف عن أمته
وقال عبدالرحمن بن جبير : لقيها إبليس فقال لها : والله لو تكلم صاحبك بكلمة واحدة لكشف عنه كل ضر ولرجع إليه ماله وولده فأخبرت أيوب فقال : ويلك ذاك عدو الله إنما مثلك مثل المرأة الزانية إذا جاءها صديقها بشيء قبلته وأدخلته وإن لم يأتها بشيء طردته وأغلقت بابها عنه لما أعطانا الله تعالى المال والولد آمنا به وإذا قبض الذي له منا نكفر به إن أقامني الله تعالى من مرضي لأجلدنك مائة فأفتاه الله بما أخبر به : أن يأخذ ضغثا وهو الحزمة من الشيء مثل الشماريخ الرطبة والعيدان ونحوها مما هو قائم على ساق فيضربها ضربة واحدة وهذا تعليم منه سبحانه لعباده التخلص من الآثام والمخرج من الحرج بأيسر شيء وهذا أصلنا في باب الحيل فإنا قسنا على هذا وجعلناه أصلا قالوا : وقد أرشد النبيAإلى التخلص من صريح الربا بأن يبيع التمر بدراهم ثم يشتري بتلك الدراهم تمرا وروى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : جاء بلال إلى النبيAبتمر برنيي فقال له النبيA من أين هذا قال : كان عندنا تمر ردىء فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبيA فقال له النبيA عند ذلك : أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر بالدراهم ثم اشتر به متفق عليه
وفي لفظ آخر بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا والجمع والجنيب نوعان من التمر (58/380)
وفي لفظ لمسلم بعه بسلعة ثم ابتع بسلعتك أي التمر شئت فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم أو السلعة ثم يبتاع بها تمرا وهذا ضرب من الحيلة ولم يفرق بين بيعه ممن يشتري منه التمر أو من غيره وقد جاء قوله تعالى إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم [ ] وهذا إرشاد إلى حيلة العينة وما يشبهها فإن السلعة تدور بين المتعاقدين للتخلص من الربا
قالوا : وقد دلت السنة على أنه يجوز للإنسان أن يتخلص من القول الذي يأثم به أو يخاف : بالمعاريض وهي حيلة في الأقوال كما أن تلك حيلة في الأعمال
فروى قيس بن الربيع عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إن في معاريض الكلام ما يغني الرجل عن الكذب
وقال الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم
وقال الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول لم أسمع رسول اللهAيرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث : الرجل يصلح بين الناس والرجل يكذب لامرأته والكذب في الحرب ومعنى الكذب في ذلك هو المعاريض لا صريح الكذب
وقال منصور : كان لهم كلام يدرءون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا وقد لقي رسول اللهAطليعة للمشركين وهو في نفر من أصحابه فقال المشركون : ممن أنتم فقال النبيA نحن من ماء ! فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا : أحياء اليمن كثير لعلهم منهم وانصرفوا وأرادAبقوله نحن من ماء قوله تعالى : خلق من ماء دافق [ ]
ولما وطىء عبدالله بن رواحة جاريته أبصرته امرأته فأخذت السكين وجاءته فوجدته قد قضى حاجته فقالت : لو رأيتك حيث كنت لوجأت بها في عنقك فقال : ما فعلت فقالت : إن كنت صادقا فاقرأ القرآن فقال : (58/381)
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا فقالت : آمنت بكتاب الله وكذبت بصري فبلغ ذلك رسول اللهA فضحك حتى بدت نواجذه
قال ابن عبدالبر : ثبت ذلك عن عبدالله بن رواحة
ويذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : عجبت لمن يعرف المعاريض كيف يكذب
ودعي أبو هريرة رضي الله عنه إلى طعام فقال : إني صائم ثم رأوه يأكل فقالوا : ألم تقل : إني صائم فقال : ألم يقل رسول اللهA صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر
وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شيء معه قال : أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله تعالى فيظن أنه أراد يومه والذي يليه وإنما أراد يومي الدنيا والآخرة
وذكر الأعمش عن إبراهيم أنه قال له رجل : إن فلانا أمرني أن آتي مكان كذا وكذا وأنا لا أقدر على ذلك المكان فكيف الحيلة فقال له : قل : والله ما أبصر إلا ما سددني غيري يعني إلا ما بصرك ربك
وقال حماد عن إبراهيم في رجل أخذه رجل فقال : أن لي معك حقا فقال : لا فقال : احلف بالمشي إلى بيت الله فقال : احلف بالمشي إلى بيت الله واعن مسجد حيكوذكر هشام بن حسان عن ابن سيرين أن رجلا كان يصيب بالعين فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها ففطن له شريح فقال : إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام فقال الرجل : أف أف وسلمت بغلته وإنما أراد : أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها
وقال الأعمش عن إبراهيم : إنه سئل عن الرجل يبلغه عن الرجل الشيء يقوله فيه فيسأله عنه فقال : قل : والله إن الله ليعلم ما من ذلك من شيء يعني ب ما : الذي (58/382)
وقال عقبة بن المغيرة : كنا نأتي إبراهيم وهو خائف من الحجاج فكنا إذا خرجنا من عنده يقول : إن سئلتم عني وحلفتم فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا ولا لنا به علم ولا في أي موضع هو واعنوا أنكم لا تدرون أي موضع أنا فيه قائم أو قاعد وقد صدقتم
وجاءه رجل فقال : إني اعترضت على دابة فنفقت فأخذت غيرها ويريدون أن يحلفوني أنها الدابة التي اعترضت عليها فقال : اركبها واعترض عليها على بطنك راكبا ثم احلف أنها الدابة التي اعترضت عليها
وقال أبو عوانة عن أبي مسكين : كنت عند إبراهيم وامرأته تعاقبه في جارية له وبيده مروحة فقال : أشهدكم أنها لها فلما خرجنا قال : علام شهدتم قلنا : شهدنا أنك جعلت الجارية لها قال : أما رأيتموني أشير إلى المروحة إنما
قلت لكم : اشهدوا أنها لها وأنا أعني المروحة وقال محمد بن الحسن عن عمر بن ذر عن الشعبي : من حلف على يمين لا يستثنى فالبر والإثم فيها على علمه قلت : ما تقول في الحيل قال : لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام ويخرج به إلى الحلال فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به وإنما نكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق لرجل حتى يبطله أو يحتال في باطل حتى يموهه أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة وأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك
وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به وضع يده على ضرسه ثم قال : ضرسي ضرسي
ووجه الرشيد إلى شريك رجلا ليحضره فسأله شريك أن ينصرف ويدافع بحضوره ففعل فحبسه الرشيد ثم أرسل إليه رسولا آخر فأحضره وسأله عن تخلفه لما جاءه رسوله فحلف له بالأيمان المغلظة أنه ما رأى الرسول في اليوم الذي أرسله فيه وعنى بذلك الرسول الثاني فصدقه وأمر بإطلاق الرجل وأحضر الثوري إلى مجلس المهدي فأراد أن يقوم فمنع فحلف بالله أنه يعود فترك نعله وخرج ثم رجع فلبسها ولم يعد فقال المهدي : ألم يحلف أنه يعود فقالوا : (58/383)
إنه عاد فأخذ نعله
قالوا : وليس مذهب من مذاهب الأئمة المتبوعين إلا وقد تضمن كثيرا من مسائل الحيل
فأبعد الناس عن القول بها مالك وأحمد وقد سئل أحمد عن المروزي وهو عنده ولم يرد أن يخرج إلى السائل فوضع أحمد إصبعه في كفه وقال : ليس المروزي ههنا وماذا يصنع المروزي ههنا !
وقد سئل أحمد عن رجل حلف بالطلاق : ليطأن امرأته في نهار رمضان فقال : يسافر بها ويطؤها في السفر
وقال صاحب المستوعب : وجدت بخط شيخنا أبي حكيم : حكى أن رجلا سأل أحمد عن رجل حلف أن لا يفطر في رمضان فقال له : اذهب إلى بشر بن الوليد فاسأله ثم ائتني فأخبرني فذهب فسأله فقال له بشر إذا أفطر أهلك فاقعد معهم ولا تفطر فإذا كان وقت السحر فكل واحتج بقول النبيAهلم إلى الغداء المبارك فاستحسنه أحمد
قالوا : وقد علم الله سبحانه نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التي توصل بها إلى أخذ أخيه بإظهار أنه سارق ووضع الصواع في رحله ولم يكن كذلك حقيقة لكن أظهر ذلك توصلا إلى أخذ أخيه وجعله عنده وأخبر الله سبحانه أن ذلك كيد كاده سبحانه ليوسف ليأخذ أخاه ثم أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك من العلم الذي رفع به درجات من يشاء وأن الناس متفاوتون فيه ففوق كلع ذي علم عليم
فصل قال منكروا الحيل
الحيل ثلاثة أنواع :
نوع هو قربة وطاعة وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى
ونوع هو جائز مباح لا حرج على فاعله ولا على تاركه وترجح فعله على تركه أو عكس ذلك تابع لمصلحته (58/384)
ونوع هو محرم ومخادعة لله تعالى ورسوله متضمن لإسقاط ما أوجبه وإبطال ما شرعه وتحليل ما حرمه وإنكار السلف والأئمة وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع فإن الحيلة لا تذم مطلقا ولا تحمد مطلقا ولفظها لا يشعر بمدح ولا ذم وإن غلب في العرف إطلاقها على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة
وأخص من هذا : تخصيصها بما يذم من ذلك وهذا هو الغالب على عرف الفقهاء المنكرين للحيل فإن أهل العرف لهم تصرف في تخصيص الألفاظ العامة ببعض موضوعاتها وتقييد مطلقها ببعض أنواعه
فإن الحيلة فعلة من الحول وهو التصرف من حال إلى حال وهي من ذوات الواو وأصلها حولة فسكنت الواو وانكسر ما قبلها فقلبت ياء كميزان وميقات وميعاد
قال في المحكم : الحول والحيل والحول والحولة والحيلة والحويل والمحالة والمحال والاحتيال والتحول والتحيل : كل ذلك : الحذق وجودة النظر والقدرة على وجه التصرف قال : والحول والحيل والحيلات : جمع حيلة ورجل حول وحولة وحول وحولة وحوالي وحوالي وحولول وحولي : شديد الاحتيال وما أحوله وأحيله وهو أحول منك وأحيل انتهى
فالحيلة : فعلة من الحول وهو التحول من حال إلى حال وكل من حاول أمرا يريد فعله أو الخلاص منه فما يحاول به : حيلة يتوصل بها إليه
فالحيلة : معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقا ومنعا ومصلحة ومفسدة وطاعة ومعصية فإن كان المقصود أمرا حسنا كانت الحيلة حسنة وإن كان قبيحا كانت الحيلة قبيحة وإن كان طاعة وقربة كانت الحيلة عليه كذلك وإن كانت معصية وفسوقا كانت الحيلة عليه كذلك
ولما قال النبيA لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت : يقصد بها الحيل التي تستحل بها المحارم كحيل اليهود وكل حيلة تتضمن إسقاط حقي لله تعالى أو لآدمي فهي مما يستحل بها المحارم (58/385)
ونظير ذلك : لفظ الخداع : فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم فإن كان بحق فهو محمود وإن كان بباطل فهو مذموم
ومن النوع المحمود : قولهAالحرب خدعة وقوله في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره : كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث خصال : رجل كذب على امرأته ليرضيها ورجل كذب بين اثنين ليصلح بينهما ورجل كذب في خدعة حرب ومن النوع المذموم : قوله في حديث عياض بن حمار الذي رواه مسلم في صحيحه : أهل النار خمسة ذكر منهم رجلا لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك
وقوله تعالى : يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون [ ] وقوله تعالى : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله [ ]
ومن النوع المحمود : خدع كعب بن الأشرف وأبي رافع عدوي (58/386)
رسول اللهA حتى قتلا وقتل خالد بن سفيان الهذلي
ومن أحسن ذلك : خديعة معبد بن أبي معبد الخزاعي لأبي سفيان وعسكر المشركين حين هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين وردهم من فورهم
ومن ذلك : خديعة نعيم بن مسعود الأشجعي ليهود بني قريظة ولكفار قريش والأحزاب (58/387)
حتى ألقى الخلف بينهم وكان سبب تفرقهم ورجوعهم ونظائر ذلك كثيرة
وكذلك المكر ينقسم إلى محمود ومذموم فإن حقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده
فمن المحمود : مكره تعالى بأهل المكر مقابلة لهم بفعلهم وجزاء لهم بجنس عملهم قال تعالى : ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [ ] وقال تعالى : ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون [ ]
وكذلك الكيد ينقسم إلى نوعين قال تعالى : وأملي لهم إن كيدي متين [ ] وقال تعالى : كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله [ ] وقال تعالى : إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا [ ]
فصل إذا عرف ذلك فلا إشكال أنه يجوز للإنسان أن يظهر قولا أو فعلا
مقصوده به مقصود صالح وإن كان ظاهره خلاف ما قصد به إذا كانت فيه مصلحة دينية مثل دفع الظلم عن نفسه أو غيره أو إبطال حيلة محرمة
وإنما المحرم : أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعها الله تعالى ورسوله له فيصير مخادعا لله تعالى ورسولهA كائدا لدينه ماكرا بشرعه فإن مقصوده حصول الشيء الذي حرمه الله تعالى ورسوله بتلك الحيلة وإسقاط الذي أوجبه بتلك الحيلة (58/388)
وهذا ضد الذي قبله فإن ذلك مقصوده التوصل إلى إظهار دين الله تعالى ودفع معصيته وإبطال الظلم وإزالة المنكر فهذا لون وذاك لون آخر
ومثال ذلك : التأويل في اليمين فإنه نوعان : نوع لا ينفعه ولا يخلصه من الإثم وذلك إذا كان الحق عليه فجحده ثم حلف على إنكاره متأولا فإن تأويله لا يسقط عنه إثم اليمين الغموس والنية للمستحلف في ذلك باتفاق المسلمين بل لو تأول من غير حاجة لم ينفعه ذلك عند الأكثرين
وأما المظلوم المحتاج فإنه ينفعه تأويله ويخلصه من الإثم وتكون اليمين على نيته فإذا استحلفه ظالم بأيمان البيعة أو أيمان المسلمين فتأول الأيمان بجمع يمين وهي اليد أو حلفه بأن كل امرأة له طالق فتأول أنها طالق من وثاق أو طالق عند الولادة أو طالق من غيري ونحو ذلك
أو استحلفه بأن كل مملوك له حر أو عتيق فتأول أنه عتيق أو كريم من قولهم : فرس عتيق
أو استحلفه بأن تكون امرأته عليه كظهر أمه فتأول ظهر أمه بمركوبها فإن ضيق عليه وألزمه أن يقول : إنه مظاهر من امرأته تأول بأنه قد ظاهر بين ثوبين أو جبتين من عند امرأته
وإن استحلفه بالحرام تأول أن الحرام الذي حرمه الله تعالى عليه يلزمه تحريمه فإن ضيق عليه بأن يلزمه أن يقول : الحرام يلزمني من زوجتي أو أن تكون علي حراما قيد ذلك بنية : إذا أحرمت أو صامت أو قامت إلى الصلاة ونحو ذلك
وإن استحلفه بأن كل ماله أو كل ما يملكه صدقة تأول بأنه صدقة من الله سبحانه وتعالى عليه
وإن قال له : قل : وأن جميع ما أملكه : من دار وعقار وضيعة وقف على المساكين تأول الفعل المضارع بما يملكه في المستقبل بعد كذا وكذا سنة
فإن ضيق عليه وقال قل : جميع ما هو جار في ملكي الآن نوى إضافة الملك إلى (58/389)
الآن لا إلى نفسه والآن لا يملك شيئا فإن قال : مما هو في ملكي في هذا الوقت يكون وقفا أخرج معنى لفظ الوقف عن المعهود إلى معنى آخر والعرب تسمي سواء العاج وقفا
وإن استحلفه بالمشي إلى بيت الله نوى مسجدا من مساجد المسلمين
فإن قال قل : علي الحج إلى بيت الله نوى بالحج القصد إلى المسجد فإن قال : إلى البيت العتيق نوى المسجد القديم فإن قال : البيت الحرام نوى الحرام هدمه واتخاذه دارا أو حماما ونحو ذلك
وإن استحلفه بالأمانة نوى بها الوديعة أو اللقطة ونحو ذلك
وإن استحلفه بصوم سنة نوى بالصوم الإمساك عن كلام يمكنه الإمساك عنه سنة أو دائما
هذا كله في المحلوف به وأما المحلوف عليه فيجري هذا المجرى
فإذا استحلفه : ما رأيت فلانا نوى ما ضربت رئته أو ما كلمته نوى ما جرحته أو ما عاشرته ولا خالطته نوى بالمعاشرة والمخالطة معاشرة الزوجة والسرية أو ما بايعته ولا شاريته نوى بذلك ما بايعته بيعة اليمين ولا شاريته من المشاراة وهي اللجاج أو الغضب تقول : شري على مثال علم إذا لج واستشاط غضبا
وإن استحلفه لصك أنه لا يدل عليه ولا يعلم به ولا يخبر به أحدا نوى أنه لا يفعل ذلك ما دام معه وإن ضيق عليه وقال : ما عاش أو ما بقي أو ما دام في هذه البلدة نوى قطع الظرف عما قبله وأن لا يكون متعلقا به أو نوى بما : الذي أي لا أدل عليك الذي عاش أو بقي بعد أخذك
وإن استحلفه أن لا يطأ زوجته نوى وطأها برجله
وإن استحلفه أن لا يتزوج فلانة نوى أن لا يتزوجها نكاحا فاسدا
وكذلك إذا استحلفه أن لا يبيع كذا أو لا يشتريه أو لا يؤجره ونحو ذلك
وكذلك إذا استحلفه أن لا يدخل هذه الدار أو البلد أو المحلة قيد الدخول بنوع معين بالنية (58/390)
وكذلك لو استحلفه : أنك لا تعلم أين فلان نوى مكانه الخاص من داره أو بلده أو سوقه
ولو استحلفه : أنه ليس عنده في داره نوى أنه ليس عنده إذا خرج من الدار فإن ضيق عليه وقال : الآن نوى أنه ليس حاضرا معه الآن وقد بر وصدق
وإن استحلفه ليس لي به علم نوى أنه ليس لي علم بسره وما ينطوي عليه وما يضمره أو ليس لي علم به على جهة التفصيل فإن هذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وحده
فصل وللمظلوم المستحلف مخرجان يتخلص بهما : مخرج بالتأويل حال الحلف
فإن فاته فله مخرج يتخلص به بعده إن أمكنه كما إذا استحلفه قطاع الطريق أو اللصوص أن لا يخبر بهم أحدا فالحيلة في ذلك أن يجمع الوالي المتهمين ثم يسأله عن واحد واحد فيبرىء البرىء ويسكت عن المتهم وهذا المخرج أضيق من الأول
فإذا استحلفه ظالم أن لا يشكو غريمه ولا يطالبه بحقه فحلف ولم يتأول أحال عليه بذلك الحق من يطالبه به ولم يحنث في يمينه
وإذا استحلفه ظالم أن يبيعه شيئا فله أن يملكه زوجته أو ولده فإذا باعه بعد ذلك كان قد بر في يمينه ويمنع من تسليمه من ملكه إياه (58/391)
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل وللحيل التي يتخلص بها من مكر غيره والغدر به أمثلة المثال
الأول : إن استأجر منه أرضا أو بستانا أو دارا سنين ثم لا يأمن من مكره إذا صلحت الأرض والبستان بنوع من أنواع المكر والغدر ولو لم يكن إلا بأن يدعي أن أجرة المثل في هذه الحال أكثر مما سمى فالحيلة في أمنه من ذلك : أن يسمي لكل سنة أجرا معلوماويجعل أجرة السنين المتأخرة معظم الأجرة وأقلها للسنين الأول فلا يسهل عليه المكر بعد ذلك
وعكسه إذا خاف المؤجر مكر المستأجر وغدره في المستقبل جعل معظم الأجرة في السنين الأول وأقلها في الأواخر
المثال الثاني : أن يخاف المؤجر غيبة المستأجر فلا يتمكن من مطالبة امرأته بالأجرة ولا من إخراجها
فالحيلة في أمنه من ذلك : أن يؤجرها رب الدار من المرأة فإن دخل عليه تعذر مطالبتها بالأجرة ضمن الزوج الأجرة أو أخذ بها رهنا فإن كان قد أجرها من الزوج وخاف غيبته أشهد على إقرار المرأة أن الدار له وأنها في يدها بحكم إجارة الزوج إلى مدة كذا وكذا وإن كفل المرأة وقت العقد أنها ترد إليه الدار عند انقضاء المدة نفعه ذلك
المثال الثالث : أن يخاف المستأجر أن يزاد عليه في الأجرة ويفسخ عقده إما بكون العين المؤجرة وقفا عند من يرى ذلك أو يتحيل عليه حتى يبطل عقده (59/3)
فالحيلة في أمنه وتخليصه : أن يسمى للأجرة أكثر مما اتفقا عليه ثم يصارفه عليه بقدر المسمى ويدفعه إليه ويشهد عليه أنه قبض المسمى الذي وقع عليه العقد فإذا مكر به وطلب فسخ عقده طالبه بما قبضه من المسمى هذا إذا تعذر عليه رفع تلك الإجارة إلى حاكم يحكم بلزومها وعدم فسخها للزيادة
المثال الرابع : أن يخاف أن يؤجره ما لا يملك فيأبى المالك ويفسخ العقد ويرجع عليه بالأجرة فالحيلة في تخليصه : أن يضمن المؤجر درك العين المستأجرة وإن ضمن من يخاف منه الاستحقاق ومطالبته كان أقوى
المثال الخامس : أن يخاف فلس المستأجر ولم يجد من يضمنه الأجرة
فالحيلة في فسخه : أن يشهد عليه في العقد أنه متى تعذر عليه القيام بأجرة شهر أو سنة فله الفسخ ويصح هذا الشرط ولو لم يشرط ذلك فإنه يملك الفسخ عند تعذر قبض أجرة ذلك الشهر أو السنة ويكون حدوث الفلس عيبا في الذمة يتمكن به من الفسخ كما يكون حدوث العيب في العين المستأجرة مسوغا للفسخ وهذا ظاهر إذا سمى لكل شهر أو سنة قسطا معلوما ولا يعين مقدار المدة بل يقول آجرتك كل سنة بكذا أو كل شهر بكذا تقوم لي بالأجرة في أول الشهر أو السنة فإن أفلس قبل مضي شيء من المدة ملك المؤجر الفسخ وإن أفلس بعد مضي شيء منها فهل يملك الفسخ على وجهين :
أحدهما : لا يملكه لأن مضي بعضها كتلف بعض المبيع وهو يمنع الرجوع
والثاني : يملكه وهو قول القاضي وهو الصحيح لأن المنافع إنما تملك شيئا فشيئا بخلاف الأعيان فإنها تملك في ان واحد فيتعذر تجدد العقد عند تجدد المنافع
المثال السادس : إذا خاف المستأجر أن تنهدم الدار فيعمرها فلا يحتسب له المؤجر بما أنفق في ذلك
فالحيلة في ذلك : أن يقول وقت العقد : وأذن المؤجر للمستأجر أن يعمر ما تحتاج (59/4)
الدار إلى عمارته من أجرتها ويقدر لذلك قدرا معلوما فيقول مثلا : بمائة فما دونها أو يقول : من عشرة إلى مائة فإن لم يفعل ذلك واحتاجت إلى عمارة لا يتم الانتفاع إلا بها أشهد على ذلك وعلى ما أنفق عليها وأنه غير متبرع به وحسب له من الأجرة
وكذلك إذا استأجر منه دابة واحتاجت إلى علف وخاف أن لا يحتسب له به المؤجر فعل مثل ذلك
فإن قال : أذنت لك أن تنفق على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه فادعى قدرا وأنكره المؤجر فالقول قول المؤجر
والحيلة في قبول قول المستأجر : أن يسلف رب الدار ما يعلم أنها تحتاج إليه من العمارة ويشهد عليه بقبضه من الأجرة ثم يدفعه إليه ويوكله أن ينفق منه على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه فالقول حينئذ قوله لأنه أمين
فإن خاف المؤجر أن يستهلك المستأجر المال الذي قبضه ويقول : إنه تلف وهو أمانة فلا يلزمني ضمانه فالحيلة في أمنه من ذلك : أن يقرضه إياه ويجعله في ذمته ثم يوكله أن ينفق على العين ما تحتاج إليه من ذلك
المثال السابع : إذا آجره دابة أو دارا مدة معلومة وخاف أن يحبسها عنه بعد انقضاء المدة فطريق التخلص من ذلك : أن يقول : فإذا انقضت المدة فأجرتها بعد لكل يوم دينار أو نحوه فلا يسهل عليه حبسها بعد انقضاء المدة
المثال الثامن : إذا كان له عليه دين فقال : اشتر له به كذا وكذا ففعل لم يبرأ من الدين بذلك لأنه لا يكون مبرئا لنفسه من دين الغير بفعله
وطريق التخلص : أن يشهد على إقرار رب الدين أن من عليه الدين برىء منه بعد شرائه لمستحقه كذا وكذا والقياس أنه يبرأ بالشراء وإن لم يفعل ذلك لأنه بتوكيله له قد أقامه مقام نفسه فكما قام مقامه في التصرف قام مقامه في الإبراء فهو لم يبرأ بفعل نفسه لنفسه وإنما برىء بفعله لموكله القائم مقام فعل الموكل المثال التاسع : إذا أراد أن يستأجر إلى مكان بأجرة معلومة فإن لم يبلغه وأقام دونه فالأجرة كذا وكذا فقالوا : لا يصح العقد لأنا لا نعلم على أي المسافتين وقع العقد (59/5)
قالوا : والحيلة في تصحيحه : أن يسمي للمكان الأقرب أجرة ثم يسمي منه إلى المكان الأبعد أجرة أخرى فيقول مثلا : آجرتك إلى الرملة بمائة ومن الرملة إلى مصر بمائة لكن لا يأمن المستأجر مطالبة المؤجر له بالأجرة إلى المكان الأقصى ويكون قد أقام في المكان الأقرب فالحيلة في تخلصه : أن يشترط عليه الخيار في العقد الثاني إن شاء أمضاه وإن شاء فسخه ويصح اشتراط الخيار في عقد الإجارة إذا كانت على مدة لا تلي العقد والقياس يقتضي صحة الإجارة على أنه إن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائة وإن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائتان ولا غرر في ذلك ولا جهالة
وكذا إذا قال : إن خطت هذا الثوب روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم فإن العمل إنما يقع على وجه واحد
وكذلك قطع المسافة فإنه إما أن يقطع القريبة أو البعيدة فلا يشبه هذا قوله : بعتكه بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة فإنه إذا أخذه لا يدري بأي الثمنين أخذ فيقع التنازع ولا سبيل لنا إلى العلم بالمعين منهما بخلاف عقد الإجارة
فإن استيفاء المعقود عليه لا يقع إلا معينا فيجب أجرة عمله
المثال العاشر : إذا زرع أرضه ثم أراد أن يؤجرها والزرع قائم لم يجز لتعذر انتفاع المستأجر بالأرض
وطريق تصحيحها : أن يؤجره يبيعه الزرع ثم يؤجر الأرض فإن أحب بقاء الزرع على ملكه قدر لكماله مدة معينة ثم أجره الأرض بعد تلك المدة إجارة مضافة فإن خاف أن يفسخ عليه العقد حاكم يرى بطلان هذه الإجارة فالحيلة : أن يبيعه الزرع ثم يؤجره الأرض فإذا تم العقد اشترى منه الزرع فعاد الزرع إلى ملكه وصحت الإجارة المثال الحادي عشر : إذا أراد أن يؤجر الأرض على أن خراجها على المستأجر لم يصح (59/6)
لأن الخراج تابع لرقبة الأرض فهو على مالكها لا على المنتفع بها : من مستأجر أو مستعير
وطريق الجواز : أن يؤجره إياها بأجرة زائدة على أجر مثلها بقدر خراجها ثم يشهد عليه أنه قد أذن للمستأجر أن يدفع من أجرة الأرض في الخراج كل سنة كذا وكذا
وكذلك لو استأجر دابة على أن يكون علفها على المستأجر لم يصح وطريق الحيلة : أن يستأجرها بشيء مسمى ثم يقدر له ما تحتاج إليه الدابة ويوكله في إنفاقه عليها
والقياس يقتضي صحة العقد بدون ذلك فإنا نصحح استئجار الأجير بطعامه وكسوته كما أجر موسى عليه السلام نفسه بعفة فرجه وشبع بطنه فكذلك يجوز إجارة الدابة بعلفها وكما يجوز أن يكون علفها جميع الأجرة يجوز أن يكون بعض الأجرة والبعض الآخر شيء مسمى
المثال الثاني عشر : لا تجوز إجارة الأشجار لأن المقصود منها الفواكه وذلك بمنزلة بيعها قبل بدوها
قالوا : والحيلة في جوازه : أن يؤجره الأرض ويساقيه على الشجر بجزء معلوم
قال شيخ الإسلام : وهذا لا يحتاج إليه بل الصواب جواز إجارة الشجر كما فعل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بحديقة أسيد بن حضير فإنه آجرها سنين وقضى بها دينه
قال : وإجارة الأرض لأجل ثمرها بمنزلة إجارة الأرض لمغلها فإن المستأجر يقوم على الشجر بالسقي والإصلاح والذيار في الكرم حتى تحصل الثمرة كما يقوم على الأرض بالحرث والسقي والبذر حتى يحصل المغل فثمرة الشجر تجري مجرى مغل الأرض (59/7)
فإن قيل : الفرق بين المسألتين : أن المغل من البذر وهو ملك المستأجر والمعقود عليه الانتفاع بإيداعه في الأرض وسقيه والقيام عليه بخلاف استئجار الشجر فإن الثمرة من الشجرة وهي ملك المؤجر
والجواب من وجوه :
أحدها : أن هذا لا تأثير له في صحة العقد وبطلانه وإنما هو فرق عديم التأثير
الثاني : أن هذا يبطل باستئجار الأرض لكلئها وعشبها الذي ينبته الله سبحانه وتعالى بدون بذر من المستأجر فهو نظير ثمرة الشجرة
الثالث : أن الثمرة إنما حصلت بالسقي والخدمة والقيام على الشجرة فهي متولدة من عمل المستأجر ومن الشجرة فللمستأجر سعي وعمل في حصولها
الرابع : أن تولد الزرع ليس من البذر وحده بل من البذر والتراب والماء والهواء فحصول الزرع من التراب الذي هو ملك المؤجر كحصول الثمرة من الشجرة والبذرفي الأرض قائم مقام السقي للشجرة فهذا أودع في أرض المؤجر عينا جامدة وهذا أودع في شجرة عينا مائعة ثم حصلت الثمرة من أصل هذا وماء المستأجر وعمله كما حصل العمل من أرض هذا وبذر المستأجر وعمله وهذا من أصح قياس على وجه الأرض
وبه يتبين أن الصحابة أفقه الأمة وأعلمهم بالمعاني المؤثرة في الأحكام ولم ينكر أحد من الصحابة على عمر رضي الله عنه فهو إجماع منهم
ثم إن هذه الحيلة التي ذكرها هؤلاء تتعذر غالبا إذا كان البستان ليتيم أو وقفا فإن المؤجر ليس له أن يحابي في المساقاة حينئذ ولا يخلص من ذلك محاباة المستحق في أجارة الأرض فإنه إذا أربحه في عقد لم يجز له أن يخسره في عقد آخر ولا يخلص من ذلك اشتراط عقد في عقد بأن يقول : إنما أساقيك على جزء من ألف جزء بشرط أن أؤجرك الأرض بكذا وكذا فإن هذا لا يصح فعلى ما فعله الصحابة وهو مقتضى القياس الصحيح لا يحتاج إلى هذه الحيلة وبالله التوفيق
المثال الثالث عشر : إذا اشترى دارا أو أرضا وخاف أن تخرج وقفا أو مستحقة فتؤخذ منه هي وأجرتها فالحيلة : أن يضمن البائع أو غيره درك المبيع وأنه ضامن لما (59/8)
غرمه المشتري من ذلك ويصح ضمان الدرك حتى عند من يبطل ضمان المجهول وضمان ما لم بجب للحاجة إلى ذلك فإن ضمن من يخاف استحقاقه : كان أقوى فإن خاف أن يظهر استحقاق على وارثه بعد موته ضمن الدرك ورثة البائع أو ورثه من يخاف استحقاقه إن أمكنه فإن كان على ثقة أنه متى استحق عليه المبيع رجع بثمنه ولكن يغرم قيمة المنفعة وهي أجرة المثل لمدة استيلائه على العين وهذا قول ضعيف جدا فإن المشتري إنما دخل على أن يستوفي المنفعة بلا عوض والعوض الذي بذله في مقابلة العين لا للانتفاع فإلزامه بالأجرة إلزام بما لا يلتزمه وكذلك نقول في المستعير : إذا استحقت العين لم يلزمه عوض المنفعة لأنه إنما دخل على أن ينتفع مجانا بلا عوض بخلاف المستأجر فإنه التزم الانتفاع بالعوض ولكن لا يلزمه إلا المسمى الذي دخل عليه
وكذلك الأمة المشتراة إذا وطئها ثم استحقت لم يلزمه المهر لأنه دخل على أن يطأها مجانا بخلاف الزوج فإنه دخل على أن الوطءفي مقابلةالمهر ولكن لا يلزمه إذا استحقت إلا المسمى وعلى هذا فليس للمستحق أن يطالب المغرور لأنه معذور غير ملتزم للضمان وهو محسن غير ظالم فما عليه من سبيل وهذا هو الصواب فإن طالبه على القول الآخر رجع على من غره بما لم يلتزم ضمانة خاصة ولا يرجع عليه بما التزم غرامته
فإذا غرم المودع أو المتهب قيمة العين والمنفعة رجع على الغار بهما وإذا غرم المستأجر ذلك رجع بقيمة العين دون قيمة المنفعة إلا أنه يرجع بالزائد على المسمى حيث لم يلتزم ضمانه وإذا ضمن وهو مشتر أو مستعير قيمة العين والمنفعة رجع بقيمة المنفعة دون قيمة العين لكنه يرجع بما زاد على الثمن المسمى
والمقصود : أن هذا المشتري متى خاف أن يطالب بقيمة المنفعة إذا استحق عليه المبيع فالحيلة في تخلصه من ذلك : أن يستأجر منه الدار أو الأرض سنين معلومة بأجرة مسماة ثم يشتريها منه بعد ذلك ويشهد عليه أنه أقبضه الأجرة فمتى استحقت العين وطولب بعوض المنفعة طالب هو المؤجر بما قبضه من الأجرة لما ظهرت الإجارة باطلة
المثال الرابع عشر : إذا وكله أن يزوجه امرأة معينة أو يشتري له جارية معينة ثم خاف الموكل أن تعجب وكليه فيتزوجها أو يشتريها لنفسه فطريق التخلص من ذلك في (59/9)
الجارية : أن يقول له : ومتى اشتريتها لنفسك فهي حرة ويصح هذا التعليق والعتق وأما الزوجة : فمن صحح هذا التعليق فيها كمالك وأبي حنيفة نفعه وأما على قول الشافعي وأحمد فإنه لا ينفعه
فطريق التخلص : أن يشهد عليه أنها لا تحل له وأن بينهما سببا يقتضي تحريمها عليه وأنه متى نكحها كان نكاحه باطلا
فإن أراد الوكيل أن يتزوجها أو يشتريها لنفسه ولا يأثم فيما بينه وبين الله تعالى فالحيلة : أن يعزل نفسه عن الوكالة ثم يعقد عليها لنفسه ولو عقد عليها لنفسه كان ذلك عزلا لنفسه عن الوكالة
فإن خاف أن لا يتم له ذلك بأن يرفعه إلى حاكم حنفي يرى أنه لا يملك الوكيل عزل نفسه في غيبة الموكل فأراد التخلص من ذلك فالطريق في ذلك : أن يشتريها لنفسه بغير جنس ما أذن له فيه فإنه إذا اشتراها لنفسه بجنس ما أذن له فيه تضمن ذلك عزل نفسه في غيبة موكله وهو ممتنع فإذا اشتراها بغير الجنس حصل الشراء له ولم يكن ذلك عزلا
المثال الخامس عشر : إذا وكله في بيع جارية ووكله آخر في شرائها فإن قلنا : الوكيل يتولى طرفي العقد جاز إن يكون بائعا مشتريا لهما وإن منعنا ذلك فالطريق : أن يبيعها لمن يستوثق منه أن يشتريها منه ثم يشتريها لموكله فإن خاف أن لا يفي له المشتري الذي توثق منه فالحيلة أن يبيعه إياها بشرط الخيار فإن وفى له بالبيع وإلا كان متمكنا من الفسخ
المثال السادس عشر : لا يملك خلع ابنته بصداقها فإن ظهرت المصلحة في ذلك لها فالطريق : أن يتملكه عليها ثم يخلعها من زوجها به فيكون قد اختلعها بماله والصحيح : أنه لا يحتاج إلى ذلك بل إذا ظهرت المصلحة في افتدائها من الزوج بصداقها جاز ذلك وكان بمنزلة افتدائها من الأسر بمالها وربما كان هذا خيرا لها
المثال السابع عشر : إذا وكله أن يشتري له متاعا فاشتراه ثم أراد أن يبعث به وإليه فخاف أن يهلك فيضمنه الوكيل فطريق التخلص من ذلك : أن يستأذن الوكيل أن يعمل في ذلك برأية ويفوض إليه ذلك فإذا أذن له فبعث به فتلف لم يضمنه (59/10)
المثال الثامن عشر : إذا أراد أن يسلم وعنده خمر أو خنازير وأراد أن لا يتلف عليه فالحيلة : أن يبيعها لكافر قبل الإسلام ثم يسلم ويكون له المطالبة بالثمن سواء أسلم المشتري أو بقي على كفره نص على هذا أحمد في مجوسي باع مجوسيا خمرا ثم أسلما يأخذ الثمن الذي قد وجب له يوم باعه
المثال التاسع عشر : إذا كان له عصير فخاف أن يتخمر فلا يجوز له بعد ذلك أن يتخذه خلا فالحيلة : أن يلقي فيه أولا ما يمنع تخمره فإن لم يفعل حتى تخمر وجب عليه إراقته ولم يجز له حبسه حتى يتخلل فإن فعل لم يطهر لأن حبسه معصية وعوده خلا نعمة فلا تستباح بالمعصية
المثال العشرون : إذا كان له على رجل دين مؤجل وأراد رب الدين السفر وخاف أن يتوى ماله أو احتاج إليه ولا يمكنه المطالبة قبل الحلول فأراد ان يضع عن الغريم البعض ويعجل له باقيه فقد اختلف السلف والخلف في هذه المسألة
فأجازها ابن عباس وحرمها ابن عمر وعن أحمد فيها روايتان أشهرهما عنه : المنع وهي اختيار جمهور أصحابه والثانية : الجواز حكاها ابن أبي موسى وهي اختيار شيخنا
وحكى ابن عبد البر في الاستذكار ذلك عن الشافعي قولا وأصحابه لا يكادون يعرفون هذا القول ولا يحكونه وأظن أن هذا إن صح عن الشافعي فإنما هو فيما إذا جرى ذلك بغير شرط بل لو عجل له بعض دينه وذلك جائز فأبرأه من الباقي حتى لو كان قد شرط ذلك قبل الوضع والتعجيل ثم فعلاه بناء على الشرط المتقدم صح عنده لأن الشرط المؤثر في مذهبه : هو الشرط المقارن لا السابق وقد صرح بذلك بعض أصحابه والباقون قالوا : لو فعل ذلك من غير شرط جاز ومرادهم الشرط المقارن
وأما مالك فإنه لا يجوزه مع الشرط ولا بدونه سدا للذريعة وأما أحمد فيجوزه في دين الكتابة وفي غيره عنه روايتان واحتج المانعون بالآثار والمعنى (59/11)
أما الآثار : ففي سنن البيهقي عن المقداد بن الأسود قال : أسلفت رجلا مائة دينار ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول اللهAفقلت له : عجل تسعين دينارا وأحط عشرة دنانير فقال : نعم فذكرت ذلك لرسول اللهA فقال : أكلت ربا مقداد وأطعمته وفي سنده ضعف
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه : قد سئل عن الرجل له الدين على رجل إلى أجل فيضع عنه صاحبه ويعجل له الآخر فكره ذلك ابن عمر ونهى عنه
وصح عن أبي المنهال أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما فقال : لرجل علي دين فقال لي : عجل لي لأضع عنك قال : فنهاني عنه وقال : نهى أمير المؤمنين يعني عمر أن يبيع العين بالدين
وقال أبو صالح مولى السفاح واسمه عبيد : بعت برا من أهل السوق إلى أجل ثم أردت الخروج إلى الكوفة فعرضوا علي أن أضع عنهم وينقدوني فسألت عن ذلك زيد بن ثابت فقال : لا آمرك أن تأكل هذا ولا تؤكله رواه مالك في الموطأ
وأما المعنى : فإنه إذا تعجل البعض وأسقط الباقي فقد باع الأجل بالقدر الذي أسقطه وذلك عين الربا كما لو باع الأجل بالقدر الذي يزيده إذا حل عليه الدين فقال : زدني في الدين وأزيدك في المدة فأي فرق بين أن تقول : حط من الأجل وأحط من الدين أو تقول : زد في الأجل وأزيد في الدين
قال زيد بن أسلم : كان ربا الجاهلية : أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل فإذا حل الحق قال له غريمه : أتقضي أم تربي فإن قضاه أخذه وإلا زاذه في حقه وأخر عنه في الأجل رواه مالك
وهذا الربا مجمع على تحريمه وبطلانه وتحريمه معلوم من دين الإسلام كما يعلم تحريم الزنى واللواطة والسرقة
قالوا : فنقص الأجل في مقابلة نقص العوض كزيادته في مقابلة زيادته فكما أن هذا ربا فكذلك الآخر (59/12)
قال المبيحون : صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يرى بأسا أن يقول : أعجل لك وتضع عني وهو الذي روى أن رسول اللهA لما أمر بإخراج بني النضير من المدينة جاءه ناس منهم فقالوا : يا رسول الله إنك أمرت بإخراجهم ولهم على الناس ديون لم تحل فقال النبيA : ضعوا وتعجلوا قال أبو عبدالله الحاكم : هو صحيح الإسناد
قلت : هو على شرط السنن وقد ضعفه البيهقي وإسناده ثقات : وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي وهو ثقة فقيه روى عنه الشافعي واحتج به وقال البيهقي : باب من عجل له أدنى من حقه قبل محله فوضع عنه طيبةبه أنفسهما وكأن مراده أن هذا وقع بغير شرط بل هذا عجل وهذا وضع ولا محذور في ذلك
قالوا : وهذا ضد الربا فإن ذلك يتضمن الزيادة في الأجل والدين وذلك إضرار محض بالغريم ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين وانتفاع صاحبه بما يتعجله فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر بخلاف الربا المجمع عليه فإن ضرره لاحق بالمدين ونفعه مختص برب الدين فهذا ضد الربا صورة ومعنى
قالوا : ولأن مقابلة الأجل بالزيادة في الربا ذريعة إلى أعظم الضرر وهو أن يصير الدرهم الواحد ألوفا مؤلفة فتشتغل الذمة بغير فائدة وفي الوضع والتعجيل تتخلص ذمة هذا من الدين وينتفع ذاك بالتعجيل له
قالوا : والشارع له تطلع إلى براءة الذمم من الديون وسمى الغريم المدين : أسيرا ففي براءة ذمته تخليص له من الأسر وهذا ضد شغلها بالزيادة مع الصبر وهذا لازم لمن قال : يجوز ذلك في دين الكتابة وهو قول أحمد وأبي حنيفة فإن المكاتب مع سيده كالأجنبي في باب المعاملات ولهذا لا يجوز أن يبيعه درهما بدرهمين ولا يبايعه بالربا فإذا جاز له أن يتعجل بعض كتابته ويضع عنه باقيها لما له في ذلك من مصلحة تعجيل العتق وبراءة ذمته من الدين لم يمنع ذلك في غيره من الديون ولو ذهب ذاهب إلى التفصيل في المسألة وقال : لا يجوز في دين القرض إذا قلنا بلزوم تأجيله ويجوز في ثمن المبيع والأجرة وعوض الخلع والصداق لكان له وجه فإنه في القرض يجب رد المثل فإذا عجل له وأسقط (59/13)
باقيه خرج عن موجب العقد وكان قد أقرضه مائة فوفاه تسعين بلا منفعة حصلت للمقرض بل اختص المقترض بالمنفعة فهو كالمربي سواء في اختصاصه بالمنفعة دون الآخر وأما في البيع والإجارة فإنهما يملكان فسخ العقد وجعل العوض حالا أنقص مما كان وهذا هو حقيقة الوضع والتعجيل لكن تحيلا عليه والعبرة في العقود بمقاصدها لا بصورها فإن كان الوضع والتعجيل مفسدة فالاحتيال عليه لا يزيل مفسدته وإن لم يكن مفسدة لم يحتج إلى الاحتيال عليه
فتلخص في المسألة أربعة مذاهب :
المنع مطلقا بشرط وبدونه في دين الكتابة وغيره كقول مالك
وجوازه في دين الكتابة دون غيره كالمشهور من مذهب أحمد وأبي حنيفة
وجوازه في الموضعين كقول ابن عباس وأحمد في الرواية الأخرى
وجوازه بلا شرط وامتناعه مع الشرط المقارن كقول أصحاب الشافعي والله أعلم
المثال الحادي والعشرون : إذا كان له عليه ألف درهم فصالحه منها على مائة درهم يؤديها إليه في شهر كذا من سنة كذا فإن لم يفعل فعليه مائتان فقال القاضي أبو يعلى : هو جائز وقد أبطله قوم آخرون
والحيلة في جوازه على مذهب الجميع : أن يعجل رب المال حط ثمانمائة بتا ثم يصالح عن المطلوب من المائتين الباقيتين على مائة يؤديها إليه في شهر كذا على أنه إن أخرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما
المثال الثاني والعشرون : إذا كاتب عبده على ألف يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فعليه ألف أخرى فهي كتابة فاسدة ذكره القاضي لأنه علق إيجاب المال بخطر ولا يجوز ذلك
والحيلة في جوازه : أن يكاتبه على ألفي درهم ثم يصالحه منها على ألف درهم يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فلا صلح بينهما فيكون قد علق الفسخ بخطر فيجوز وتكون كالمسألة التي قبلها
المثال الثالث والعشرون : إذا كان له عليه دين حال فصالحه على تأجيله أو تأجيل بعضه (59/14)
لم يلزمه التأجيل فإن الحال لا يتأجل والصحيح : أنه يتأجل كما يتأجل بدل القرض وإن كان النزاع في الصورتين فمذهب أهل المدينة في ذلك هو الراجح وطريق الحيلة في صحة التأجيل ولزومه : أن يشهد على إقرار صاحب الدين أنه لا يستحق المطالبة به قبل الأجل الذي تفقا عليه وأنه متى طالب به قبله فقد طالب بما لا يستحق فإذا فعل هذا أمن رجوعه في التأجيل المثال الرابع والعشرون : إذا اشترى من رجل دارا بألف فجاء الشفيع يطلب الشفعة فصالحه المشتري على نصف الدار بنصف الثمن جاز ذلك لأن الشفيع صالح على بعض حقه كما أنه لو صالح من ألف على خمسمائة فإن صالحه على بيت من الدار بعينه بحصته من الثمن يقوم البيت ثم تخرج حصته من الثمن جاز أيضا لأن حصته معلومة في أثناء الحال فلا يضر كونها مجهولة حالة الصلح كما إذا اشترى شقصا وسيفا فللشفيع أن يأخذ الشقص بحصته من الثمن وإن كانت مجهولة حال العقد لأن مآلها إلى العلم وقال القاضي وغيره من أصحابنا : لا يجوز لأنه صالحه على شيء مجهول ثم قال : والحيلة في تصحيح ذلك : أن يشتري الشفيع هذا البيت من المشتري بثمن مسمى ثم يسلم الشفيع للمشتري ما بقي من الدار وشراء الشفيع لهذا البيت تسليم للشفعة ومساومته بالبيت تسليم للشفعة
فإن أراد الشفيع شراء البيت المعين وبقاءه على شفعته في الباقي فالحيلة أن لا يبدأ بالمساومة بل يصبر حتى يبتدىء المشتري فيقول : هذا البيت أخذته بكذا وكذا فيقول الشفيع : قد استوجبته بما أخذته به ولا يكون مسلما للشفعة في باقي الدار وليس في هذه الحيلة إبطال حق غيره وإنما فيها التوصل إلى حقه
المثال الخامس والعشرون : يجوز تعليق الوكالة على الشرط كما يجوز تعليق الولاية والإمارة على الشرط وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم تعليق الإمارة (59/15)
بالشرط وهي وكالة وتفويض وتولية ولا محذور في تعليق الوكالة بالشرط البتة
والحيلة في تصحيحها : أن ينجز الوكالة ويعلعق الإذن في التصرف بالشرط وهذا في الحقيقة تعليق لها نفسها بالشرط فإن مقصود الوكالة صحة التصرف ونفوذه والتوكل وسيلةوطريق إلى ذلك فإذا لم يمتنع تعليق المقصود بالشرط فالوسيلة أولى بالجواز
المثال السادس والعشرون : يجوز تعليق الإبراء بالشرط ويصح وفعله الإمام أحمد وقال أصحابنا : لا يصح
قالوا : فإذا قال : إن مت فأنت في حل مما لي عليك فإن علق ذلك بموت نفسه صح لأنه وصية وإن علقه بموت من عليه الدين لم يصح لأنه تعليق البراءة بالشرط ولا يصح كما لا يصح تعليق الهبة فيقال : أولا الحكم في الأصل غير ثابت بالنص ولا بالإجماع فما الدليل على بطلان تعليق الهبة بالشرط وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه علق الهبة بالشرط في حديث جابر لما قال : لو قد جاءمال البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا ثم هكذا ثلاث حثيات وأنجز ذلك له الصديق رضي الله عنه لما جاء مال البحرين بعد وفاة رسول اللهA
فإن قيل : كان ذلك وعدا قلنا : نعم والهبة المعلقة بالشرط وعد وكذلك فعل النبيA لما بعث إلى النجاشي بهدية من مسك وقال لأم سلمة : إني قد أهديت إلى النجاشي حلة (59/16)
وأواقي من مسك ولا أرى النجاشي إلا قد مات ولا أرى هديتي إلا مردودة فإن ردت علي فهي لك وذكر الحديث رواه أحمد
فالصحيح : صحة تعليق الهبة بالشرط عملا بهذين الحديثين
وأيضا فالوصية تمليك وهي في الحقيقة تعليق للتمليك بالموت فإنه إذا قال : إن مت من مرضي هذا فقد أوصيت لفلان بكذا فهذا تميلك معلق بالموت وكذلك الصحيح : صحة تعليق الوقف بالشرط نص عليه في رواية الميموني في تعليقه بالموت
وسائر التعليق في معناه ولا فرق البتة ولهذا طرده أبو الخطاب وقال : لا يصح تعليقه بالموت والصواب طردالنص وأنه يصح تعليقه بالموت وغيره وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وهو مذهب مالك ولا يعرف عن أحمد نص على عدم صحته وإنما عدم الصحة قول القاضي وأصحابه
وفي المسألة وجه ثالث : أنه يصح تعليقه بشرط الموت دون غيره من الشروط وهذا اختيار الشيخ موفق الدين وفرق بأن تعليقه بالموت وصية والوصية أوسع من التصرف في الحياة بدليل الوصية بالمجهول والمعدوم والحمل والصحيح : الصحة مطلقا ولو كان تعليقه بالموت وصية لامتنع على الوارث ولا خلاف أنه يصح تعليقه بالشرط بالنسبة إلى البطون بطنا بعد بطن وأن كونه وقفا على البطن الثاني مشروط بانقضاء البطن الأول وقد قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [ ] وقال النبيA المسلمون عند شروطهم
والقياس الصحيح : يقتضي صحة تعليقه فإنه أشبه بالعتق منه بالتمليك ولهذا لا يشترط فيه القبول إذا كان على جهة اتفاقا وكذلك إذا كان على آدمي معين في أقوى الوجهين وما (59/17)
ذاك إلا لشبهه بالعتق
والمقصود : أن تعليق الإبراء بالشرط أولى من ذلك كله فمنعه مخالف لموجب الدليل والمذهب
ويقال ثانيا : لا يلزم من بطلان تعليق الهبة بطلان تعليق الإبراء بل القياس الصحيح يقتضي صحة تعليقه لأنه إسقاط محض ولهذا لا يفتقر إلى قبول المبرىء ولا رضاه فهو بالعتق والطلاق أشبه منه بالتمليك
وعلى هذا فيستغنى بالصحة في ذلك كله عن الحيلة
فإن احتاج إلى التعليق وخاف أن ينقض عليه فالحيلة : أن يقول : لا شيء لي عليه بعد هذا الشهر أو العام أو لا شيء لي عليه عند قدوم زيد أو كل دعوى أدعيها عليه بعد شهر كذا أو عام كذا أو عند قدوم زيد بسبب كذا أو من دين كذا فهي دعوى باطلة أو يقول : كل دعوى أدعيها في تركته بعد موته : من دين كذا أو ثمن كذا فهي دعوى باطلة
وعلى ما قررناه لا يحتاج إلى شيء من ذلك
المثال السابع والعشرون : إذا أعسر الزوج بنفقة المرأة ملكت الفسخ فإن تحملها عنه غيره لم يسقط ملكها للفسخ لأن عليها في ذلك منة كما إذا أراد قضاء دين عن الغير فامتنع ربه من قبوله لم يجبر على ذلك وطريق الحيلة في إبطال حقها من الفسخ : أن يحيلها بما وجب لها عليه من النفقة على ذلك الغير فتصح الحوالة وتلزم على أصلنا إذا كان المحال عليه غنيا
وطريق صحة الحوالة : أن يقر ذلك الغير للزوج بقدر معين لنفقتها سنة أو شهرا أو نحو ذلك ثم يحيلها الزوج عليه فإن لم يمكنه الإجبار على القبول لعدم من يرى ذلك وكل الزوج الملتزم لنفقتها في الإنفاق عليها والزوج مخير بين أن ينفق عليها بنفسه أو بوكيله
وهكذا العمل في مسألة أداء الدين عن الغريم سواء (59/18)
المثال الثامن والعشرون : إذا خاف المضارب أن يضمنه المالك بسبب من الأسباب التي لا يملكها بعقد المضاربة كخلط المال بغيره أو اشترائه بأكثر من رأس المال والاستدانة على مال المضاربة أو دفعه إلى غيره مضاربة أو إبضاعا أو إيداعا أو السفر به فطريق التخلص من ضمانه في هذا كله : أن يشهد على رب المال أنه قال له : اعمل برأيك أو ما تراه مصلحة
المثال التاسع والعشرون : إذا كان لكل من الرجلين عروض وأرادا أن يشتركا فيها شركة عنان ففي ذلك روايتان
إحداهما : تصح الشركة وتقوم العروض عند العقد ويكون قيمتها هو رأس المال فيقسم الربح على حسبه أو على ما شرطاه وإذا أرادا الفسخ رجع كل منهما إلى قيمة عروضه واقتسما الربح على ما شرطاه وهذا القول هو الصحيح
والرواية الثانية : لا تصح إلا على النقدين لأنهما إذا تفاسخا الشركة وأراد كل واحد منهما الرجوع إلى رأس ماله أو يقتسما الربح لم يعلم ما مقدار رأس مال كل منهما إلا بالتقويم وقد تزيد قيمة العروض وتنقص قبل العمل فلا يستقر رأس المال
وأيضا فمقتضى عقد الشركة : أن لا ينفرد أحد الشريكين بربح مال الآخر وهذه الشركة تفضي إلى ذلك لأنه قد تزيد قيمة عروض أحدهما ولا تزيد قيمة عروض الآخر فيشاركه من لم تزد قيمة عروضه وهذا إنما يصح في المقومات كالرقيق والحيوان ونحوهما فأما المثليات فإن ذلك منتف فيها ولهذا كان الصحيح عند من منع الشركة بالعروض : جوازها بالمثليات فالصحيح : الجواز في الموضعين لأن مبنى عقد الشركة على العدل من الجانبين وكل من الشريكين متردد بين الربح والخسران فهما في هذا الجواز مستويان فتجويز ربح أحدهما دون الآخر في مقابلة عكسه فقد استويا في رجاء الغنم وخوف الغرم وهذا هو العدل كالمضاربة فإنه يجوز أن يربحا وأن يخسرا وكذلك المساقاة والمزارعة
وطريق الحيلة في تصحيح هذه المشاركة عند من لا يجوزها بالعروض : أن يبيع كل منهما بعض عروضه ببعض عروض صاحبه فإذا كان عرض أحدهما يساوى خمسة آلاف (59/19)
وعرض الآخر يساوي ألفا فيشتري صاحب العرض الذي قيمته خمسة آلاف من صاحبه خمسة أسداس عرضه الذي يساوي ألفا بسدس عرضه الذي يساوي خمسة آلاف فإذا فعلا ذلك صارا شريكين فيصير للذي يساوي متاعه ألفا سدس جميع المتاع وللآخر خمسة أسداسه أو يبيع كل منهما صاحبه بعض عرضه بثمن مسمى ثم يتقابضان فيصير مشتركا بينهما ثم يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف فما حصل من الربح يكون بينهما على ما شرطاه عند أحمد وعلى قدر رءوس أموالهما عند الشافعي والخسران على قدر المال اتفاقا
المثال الثلاثون : إذا تزوجها على أن لا يخرجها من دارها أو بلدها أو لا يتزوج عليها ولا يتسرى عليها فالنكاح صحيح والشرط لازم هذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه صح عن عمر وسعد ومعاوية ولا مخالف لهم من الصحابة وإليه ذهب عامة التابعين وقال به أحمد
وخالف في ذلك الثلاثة فأبطلوا الشرط ولم يوجبوا الوفاء به
فإذا احتاجت المرأة إلى ذلك ولم يكن عندها حاكم يرى صحة ذلك ولزومه فالحيلة لها في حصول مقصودها : أن تمتنع من الإذن إلا أن تشترط بعد العقد أنه إن سافر بها أو نقلها من دارها أو تزوج عليها فهي طالق أو لها الخيار في المقام معه أو الفسخ فإن لم تثق به أن يفعل ذلك فإنها تطلب مهرا كثيرا جدا إن لم يفعل وتطلب ما دونه إن فعل فإن شرط لها ذلك رضيت بالمهر الأدنى وإن لم يشرط ذلك طالبته بالأعلى وجعلته حالا ولها أن تمنع نفسها حتى تقبضه أو يشرط لها ما سألته
فإن قيل : فعلى أي المهرين يقع العقد
قيل : يقع على المهر الزائد لتتمكن من إلزامه بالشرط فإن خاف أن يشرط لها ما طلبت ويستقر عليه المهر الزائد فالحيلة : أن يشهد عليها أنها لا تستحق عليه بعد الاشتراط شيئا من المبلغ الزائد على الصداق الأدنى وأنها متى ادعت به فدعواها باطلة فيستوثق منها بذلك ويكتب هو والشرط ولها أن تطالب بالصداق الزائد إذا لم يف لها بالشرط لأنها لم ترض بأن يكون الأدنى مهرا إلا في مقابلة منفعة (59/20)
أخرى تسلم لها وهي المقام في دارها أو بلدها أو يكون الزوج لها وحدها وهذا جار مجرى بعض صداقها فإذا فاتها فلها المطالبة بالمهر الأعلى
المثال الحادي والثلاثون : إذا زوج ابنته بعبده صح النكاح فإن حضره الموت فخاف هو أو المرأة أن ترث جزءا منه فينفسخ النكاح
فالحيلة في بقائه : أن يبيع العبد من أجنبي فإن شاء قبض ثمنه وإن شاء جعله دينا في ذمته يكون حكمه حكم سائر ديونه فإذا ورثت نصيبها من ثمنه لم ينفسخ نكاحها وإن باع العبد من أجنبي قبل العقد ثم زوجه الابنة أمن هذا المحذور أيضا
وكذلك إذا أراد أن يزوج أمته بابنه وخاف أن يموت فيرث الابن زوجته فينفسخ النكاح باعها من أجنبي ثم زوجها الابن أو يبيعها من الأجنبي بعد العقد
المثال الثاني والثلاثون : إذا أحاله بدينه وخاف المحتال أن يتوى ماله عند المحال عليه وأراد التوثق لماله
فالحيلة في ذلك أن يقول : لا تحلني بالمال ولكن وكلني في المطالبة به واجعل ما أقبضه في ذمتي قرضا فيبرآن جميعا بالمقاصة
فإن خاف المحيل أن يهلك المال في يد الوكيل قبل اقتراضه فيرجع عليه بالدين
فالحيلة له : أن يقول للمحال عليه : اضمن عني هذا الدين لهذا الطالب فيضمنه فإذا قبضه قبضه لنفسه فإن امتنع المحال عليه من الضمان احتال الطالب عليه على أنه إن لم يوفه حقه إلى وقت كذا وكذا فالمحيل ضامن لهذا المال ويصح تعليق الضمان بالشرط فإن وفاه المحيل عليه وإلا رجع إلى المحال وآخذه بالمال
المثال الثالث والثلاثون : إذا كان له دين على رجل فرهنه به عبدا فخاف أن يموت العبد فيحاكمه إلى من يرى سقوط الدين بتلف الرهن
فالحيلة في تخليصه من هذا المحذور : أن يشتري العبد منه بدينه ولا يقبض العبد فإن وفاه دينه أقاله في البيع وإن لم يوفه الدين طالبه بالتسليم وإن تلف العبد كان من ضمان البائع ورجع المشتري إلى دينه الذي هو ثمنه
المثال الرابع والثلاثون : إذا كان له عليه دين فرهنه به رهنا ثم خاف أن يستحق الرهن فتبطل الوثيقة (59/21)
فالحيلة فيه : أن يضمن دينه لمن يخاف منه استحقاق الرهن فإذا استحقه عليه طالبه بالمال أو يضمنه درك الرهن أو يشهد عليه أنه لاحق له فيه ومتى ادعى فيه حقا فدعواه باطلة
المثال الخامس والثلاثون : إذا كان له عليه مائة دينار خمسون منها بوثيقة وخمسون بغير وثيقة وجحده الغريم القدر الذي بغير وثيقة
فالحيلة له في تخليص ماله : أن يوكل رجلا غريبا بقبض المال الذي بالوثيقة ويشهد على وكالته علانية ثم يشهد شهودا آخرين : أنه قد عزله عن الوكالة ثم يطالب الوكيل المطلوب بذلك المال ويثبت شهود وكالته فإذا قبض الخمسين دينارا دفعها إلى مستحقها وغاب ثم يطالبه المستحق بهذه الخمسين فإن قال : دفعتها إلى وكيلك أقام البينة أنه كان قد عزله عن الوكالة فيلزمه الحاكم بالمال ويقول له : اتبع القابض فخذ مالك منه
فإن كان الغريم حذرا لم يدفع إلى الوكيل شيئا خشية مثل هذا ويقول : لا أدفع إليك إلا بحضرة الموكل وإقراره أنك وكيله فتبطل هذه الحيلة
المثال السادس والثلاثون : إذا حضره الموت ولبعض ورثته عليه دين وأراد تخليص ذمته فإن أقر له به لم يصح إقراره وإن وصى له به كانت وصية لوارث
فالحيلة في خلاصه : أن يواطئه على أن يأتي بمن يثق به فيقر له بذلك الدين فإذا قبضه أوصله إلى مستحقه فإن خاف الأجنبي أن يلزمه الحاكم أن يحلف أن هذا الدين واجب لك على الميت ولم تبرئه منه ولا من شيء منه لم يجز له أن يحلف على ذلك وانتقلنا إلى حيلة أخرى وهي أن يقول له المريض : بع دارك أو عبدك من وارثي بالمال الذي له علي فيفعل فإذا لزمته اليمين بعد هذا حلف على أمر صحيح فإن لم يكن له ما يبيعه إياه وهب له الوارث عبدا أو أمة فقبضه ثم باعه من الوارث بالدين الذي على الميت
المثال السابع والثلاثون : إذا نكح أمة حيث يجوز له نكاح الإماء وخاف أن يسترق سيدها ولده (59/22)
فالحيلة في ذلك : أن يسأل سيد الأمة أن يقول : كل ولد تلده منك فهو حر فإذا قال هذا فما ولدته منه فهم أحرار
المثال الثامن والثلاثون : إذا قال لامرأته : إن سألتيني الخلع فأنت طالق ثلاثا إن لم أخلعك وقالت المرأة : كل مملوك لها حر إن لم أسألك الخلع اليوم
فسئل أبو حنيفة عنها فقال للمرأة : سليه الخلع فقالت : أسألك أن تخلعني فقال للزوج : قل خلعتك على ألف درهم فقال ذلك فقال أبو حنيفة للمرأة قولي : لا أقبل فقالت : لا أقبل فقال أبو حنيفة : قومي مع زوجك فقد بر كل منكما في يمينه
المثال التاسع والثلاثون : سئل أبو حنيفة عن أخوين تزوجا أختين فزفت امرأة كل واحد منهما إلى الآخر فوطئها ولم يعلموا بذلك حتى أصبحوا فقيل له : ما الحيلة في ذلك فقال : أكل منهما راض بالتي دخل بها قالوا : نعم فقال : ليطلق كل واحد منهما امرأته طلقة ففعلا فقال : ليتزوج كل منهما المرأة التي وطئها فطابت أنفسهما
المثال الأربعون : إذا كان لرجل على رجل مال وللذي عليه المال عقار فأراد أن يحعل عقاره في يد غريمه يستغله ويقبض غلته من دينه جاز ذلك لأنه توكيل له فيه فإن خاف الغريم أن يعزله صاحب العقار عن الوكالة
فالحيلة : أن يسترهنه منه ويستديم قبضه ثم يأذن له في قبض أجرته من دينه ولو لم يأذن له فله أن يقبضها قصاصا
وله حيلة أخرى : أن يستأجره منه بمقدار دينه فما وجب له عليه من الأجرة سقط من دينه بقدره قصاصا
المثال الحادي والأربعون : إذا كان له جارية فأراد وطأها وخاف أن تحبل منه فتصير أم ولد لا يمكنه بيعها
فالحيلة : أن يبيعها لأبيه أو أخيه أو أخته فإذا ملكها سأله أن يزوجه
إياها فيطأها بالنكاح ويكون ولده منها أحرارا يعتقون على البائع بالرحم وهذا إذا كان ممن (59/23)
يجوز له نكاح الإماء بأن لا يكون تحته حرة عند أبي حنيفة أو يكون خائفا للعنت عادما لطول حرة عند الجمهور
المثال الثاني والأربعون : إذا بانت منه إمرأته بينونة صغرى وأراد أن يجدد نكاحها فخاف إن أعلمها لم تتزوج به فله في ذلك حيل : إحداها : أن يقول : قد حلفت بيمين ثم استفتيت فقيل لي : جدد نكاحك فإن كانت قد بانت منك عاد النكاح وإلا لم يضرك فإن كان لها ولي جدد نكاحها وإلا فالحاكم أو نائبه
ومنها : أن يظهر أنه يريد سفرا وأنه يريد أن يجعل لها شيئا من ماله وأن الاحتياط أن يجعله صداقا بعقد يظهره
ومنها : أن يظهر مرضا وأنه يريد أن يقر لها بمال أو يوصي لها به وأن ذلك لا يتم والأحوط أن أظهر عقد نكاح وأجعل ذلك صداقا فيه فإن قيل : إذا بانت منه ملكت نفسها ولم يصح نكاحها إلا برضاها ولعلها لو علمت الحال لم ترض بالنكاح الثاني
قيل : رضاها بتجديد العقد للغرض الذي يريده يتضمن رضاها بالنكاح وهي لو هزلت بالإذن صح إذنها وصح النكاح مع أنها لم تقصده كما لو هزل الزوج بالقبول صح نكاحه وههنا قد قصدت بقاء النكاح ورضيت به فهو أولى بالصحة
فإن قيل : فالرجل قاصد إلى النكاح والمرأة غير قاصدة له
قيل : بل قصدت إلى تجديد نكاح يتم به غرضها فلم تخرج بذلك عن القصد والرضا
ولو قال رجل لرجل هزلا ومزاحا : زوجني ابنتك على مائة درهم أو قال : زوجني موليتك وهي تسمع فقال له مزاحا وهزلا : قد زوجتكها انعقد النكاح وحل له وطؤها لحديث أبي هريرة الذي رواه أهل السنن عن النبيA ثلاث جدهن (59/24)
جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة
المثال الثالث والأربعون : إذا كان الرجل حسن التصرف في ماله غير مبذر له (59/25)
فرفع إلى الحاكم وشهد عليه أنه مبذر فخاف أن يحجر عليه فقال : إن حجرت علي فعبيدي أحرار ومالى صدقة على المساكين لم يملك القاضي أن يحجر عليه بعد ذلك لأنه إنما يحجر عليه صيانة لماله وفي الحجر عليه إتلاف ماله فهو يعود على مقصود الحجر بالإبطال
المثال الرابع والأربعون : يصح الصلح عندنا وعند أبي حنيفة ومالك على الإنكار فإذا ادعى عليه شيئا فأنكره ثم صالحه على بعضه جاز والشافعي لا يصحح هذا الصلح لأنه لم يثبت عنده شيء فبأي طريق يأخذ ما صالحه عليه بخلاف الصلح على الإقرار فإنه إذا أقر له بالدين والعين فصالحه على بعضه كان قد وهبه أو أبرأه من البعض الآخر
والجمهور يقولون : قد دل الكتاب والسنة والقياس على صحة هذا الصلح فإن الله سبحانه تعالى ندب إلى الإصلاح بين الناس وأخبر أن الصلح خير وقال : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم وقال النبيA الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا
وأما القياس : فإن المدعى عليه يفتدي مطالبته باليمين وإقامةالبينة وتوابع ذلك : بشيء من ماله يبذله ليتخلص من الدعوى ولوازمها وذلك غرض صحيح مقصود عند العقلاء وغاية ما يقدر أن يكون المدعي كاذبا فهو يتخلص من تحليفه له وتعريضه للنكول فيقضي عليه به أو ترد اليمين بل عند الخرقي : لا يصح الصلح إلا على الإنكار ولا يصح مع الإقرار قال : لأنه يكون هضما للحق
فإذا صالحه مع الإنكار فخاف أن يرفعه إلى حاكم يبطل الصلح فالحيلة في تخلصه من ذلك : أن يصالح أجنبي عن المنكر على مال ويقر الأجنبي لهذا المدعي بما ادعاه على (59/26)
غريمه ثم يصالحه من دعواه على مال ولا يفتقر إلى إذن المدعى عليه ولا وكالته إن كان المدعى دينا لأنه يقول : إن كان كاذبا فقد استنقذته من هذه الدعوى وذلك بمنزلة فكاك الأسير وإن كان صادقا فقد قضيت عنه بعض دينه وأبرأه المدعي من باقيه وذلك لا يفتقر إلى إذنه وإن كان المدعي عينا لم يصح حتى يقول : قد وكلني المنكر لأنه يقول : قد اشتريت له هذه العين المدعاة بالمال الذي أصالحك عليه فإن لم يعترف أنه وكله وإلا لم يصح
فإن لم يعترف بوكالته فطريق الصحة : أن يصالح الأجنبي لنفسه فيكون بمنزلة شراء العين المغصوبة فإن اعترف بها المدعي باطنا صار هو الخصم فيها وإن لم يعترف بها له لم يسعه أن يخاصم فيها المدعي عليه ويكون اعترافه له بها ظاهرا حيلة على تصحيح الصلح
وعلى هذا فإذا كان المدعي دارا خلفها الميت لابنه وامرأته فادعاها رجل فصالحاه من دعواه على مال فإن كان صلحا على الإنكار فالدار بينهما على ثمانية أسهم على المرأة الثمن وعلى الابن سبعة أثمان وإن كان على الإقرار فالمال بينها نصفان والدار لهما نصفان فإذا أراد لزوم الصلح على الإنكار صالح عنهما أجنبي على الإقرار فلزوم الصلح وكان المال بينهما على سبعة أثمان وكذلك الدار فإنهما لم يقرا له بالدار وإقرار الأجنبي لا يلزمهما حكمه المثال الخامس والأربعون : إذا ادعى عليه أرضا في يده أو دارا أو بستانا فصالحه على عشرة أذرع أو أقل أو أكثر جاز وكذلك لو صالحه على عشرة أذرع من أرض أو دار أخرى جاز لأنه يقول : قد أخذت بعض حقي وأسقطت البعض فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم حنفي لا يرى جواز ذلك بناء على أنه لا يجوز بيع ذراع ولا عشرة من أرض أو دار فطريق الجواز : أن يذرع الدار التي صالحه على هذا القدر منها ثم ينسبه إلى المجموع فما أخرجته النسبة أوقع عقد الصلح عليه ويصح ذلك ويلزم
المثال السادس والأربعون : إذا أوصى لرجل بخدمة عبده مدة معينة أو ما عاش جاز (59/27)
ذلك فإذا أراد الوارث أن يشتري من الموصى له خدمة العبد لم يصح لأن الحق الموصى له به إنما هو في المنافع وبيع المنافع لا يجوز
والحيلة في الجواز : أن يصالحه الوارث من وصيته على مال معين فيجوز ذلك
وكذلك لو أوصى له بحمل شاته أو أمته أو بما يحمل شجره عاما فإذا أراد الوارث شراءه منه لم يصح وله أن يصالحه عليه فإن الصلح وإن كان فيه شائبة من البيع فهو أوسع منه
المثال السابع والأربعون : لو شجه رجل فعفا المشجوج عن الشجة وما يحدث منها ثم مات منها لم يلزم الشاج شيئا ولو قال : عفوت عن هذه الجراحة أو الشجة ولم يقل : وما يحدث منها فكذلك في إحدى الروايتين وفي الأخرى : تضمن بقسطها من الدية
ولو قال : عفوت عن هذه الجناية فلا شيء له في السراية رواية واحدة
وعند أبي حنيفة له المطالبة بالدية في ذلك كله إلا إذا قال : عفوت عنها وعما يحدث منها
فالحيلة في تخلص المعفو عنه : أن يشهد على المجني عليه : أنه عفا عن هذه الجناية أو الشجة وما يحدث منها فيتخلص عند الجميع
المثال الثامن والأربعون : إذا مات وترك زوجة وورثة فأرادت الزوجة أن يصالحها الورثة عن حقها نظرنا في التركة وفي الذي وقع عليه الصلح فإن كان في التركة أثمان : ذهب وفضة فصالحتهم على شيء من الأثمان لم يصح لإفضائه إلى الربا فإن صلحها بيع نصيبها منهم وإن صالحتهم على عرض أو عقار أو كان في التركة دراهم فصالحتهم بدنانير أو بالعكس جاز ولا تضر جهالة حقها لأن عقد الصلح أوسع من البيع كما تقدم
فإن كان في التركة ديون لم يصح الصلح لأن بيع الدين من غير الذي هو في ذمته لا يصح ويحتمل أن يقول بصحته كما يصح عن المجهول وإن لم يصح بنفسه
فالحيلة في صلحها عن الدين أيضا : أن يعجل لها حصتها من الدين يقرضها الورثة (59/28)
ذلك وتوكلهم في اقتضائه ثم تصالحهم من الأعيان على ما اتفقوا عليه لأنهم إذا أقرضوها حصتها من الدين ثم وكلتهم بقبض حصتها من الدين فإذا قبضوا حصتها من الدين فقد حصل في أيديهم بمالها من جنس مالهم عليها فيتقاصان ويكون عقد الصلح قد وقع على العروض والمتاع خاصة
فإن لم تطب أنفسهم أن يقرضوها قدر حصتها من الدين وأحبت تعجيل الصلح صالحتهم عن حقها من المتاع والعروض دون الديون وكلما قبض من الدين شيء أخذت حقها منه فإن تعسر ذلك وشق عليها وأحبت الخلاص حاسبوها في الصلح من الأعيان بأكثر من حقها منها وأقرت أن الدين حق للورثة دونها من ثمن متاع باعه الميت لهم فإن أرادوا قسمة الدين في الذمم فالمشهور : أنه لا يصح لأن الذمم لا تتكافأ وفيه رواية أخرى تجوز قسمته وهي الصحيحة فإنه قد تكون مصلحة الورثة والغرماء في
ذلك وتفاوت الذمم لا يمنع القسمة فإن التفاوت في المحل والمقسوم واحد متماثل وإن اختلفت محاله وإذا كان الغرماء كلهم موسرين أو معسرين أو بعضهم موسرا وبعضهم معسرا فأخذ كل من الورثة موسرا ومعسرا كان هذا عدلا غير ممتنع وقد تراضوا به فلا وجه لبطلانه وبالله التوفيق
المثال التاسع والأربعون : إذا كان لرجل على رجل دين فقال : تصدق به عني ففعل لم يبرأ وكان الصدقة عن المخرج ودينه باق قاله أصحابنا لأنه لم يتعين ولأنه لا يكون مبرئا لنفسه بفعله قالوا : وطريق الصحة أن يقول : تصدق عني بكذا بقدر دينه ويكون ذلك إقراضا منه فإذا فعل ثبت له في ذمته ذلك القدر وعليه له مثله فيتقاصان (59/29)
وكذلك لو قال له : ضارب بالمال الذي عليك والربح بيننا لم يصح
والحيلة في صحته : أن يقول : أذنت لك في دفعه إلى ابنك أو زوجتك وديعة ثم وكلتك في أخذه والمضاربة به
والظاهر : أنه لا يحتاج إلى شيء من ذلك ويكفي قبضه من نفسه لرب المال وإذا تصدق عنه بالذي قال كان عن الآمر هذا هو الصحيح وهو تخريج لبعض أصحابنا ولا حاجة به إلى هذه الحيلة فإذا عينه بالنية تعين وكان قابضا من نفسه لموكله وأيمحذور في ذلك
المثال الخمسون : يجوز استئجار الأجير بطعامه وكسوته عندنا وكذلك الدابة بعلفها وكذلك المرضعة وهو مذهب مالك وقال الشافعي : لا يجوز فيهما وجوزه أبو حنيفة في الظئر خاصة
فإذا عقد الإجارة كذلك ثم خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلانها فيلزمه بأجرة مثله فالحيلة في تصحيح ذلك أن يستأجر بنقد معلوم يكون بقدر الطعام والكسوة ثم يشهد عليه أنه وكله في إنفاق ذلك على نفسه وكسوته وكذلك في الدابة المثال الحادي والخمسون : يجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره المؤجره كما يجوز لغيره وأبو حنيفة يبطل هذه الإجارة فالحيلة في لزومها : أن يؤجر ذلك لأجنبي غير المؤجر ثم يؤجره إياها الأجنبي
المثال الثاني والخمسون : إذا كفل اثنان واحدا فسلمه أحدهما برىء الآخر كما لو ضمنا دينا فقضاه أحدهما فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم لا يرى ذلك ويلزم الآخر بتسليمه
فالحيلة في خلاصه : أن يكفلا هذا المكفول به على أنه إذا دفعه أحدهما فهما جميعا بريئان أو يشهدا عليهما أن كل واحد منهما وكيل صاحبه في دفع المكفول به إلى الطالب والتبرئة إليه منه فيبرآن على قول الجميع (59/30)
المثال الثالث والخمسون : يصح ضمان المجهول وضمان ما لم يجب عندنا كما يصح ضمان الدرك فإذا قال : ما أعطيت لفلان فأنا ضامن له صح ولزمه وقال الشافعي : لا يصح
فالحيلة في صحته لئلا يبطل ذلك حاكم يرى بطلانه : أن يقول : ما أعطيت لفلان من درهم إلى ألف فأنا ضامن له
فإن ضمنه اثنان وأطلقا جاز واستويا في الغرم فإن ضمناه على أن على أحدهما الثلث وعلى الآخر الثلثين جاز ذلك لأن المال إنما يجب على كل منهما بالتزامه فإذا التزماه على هذا الوجه صح
فإن أراد أحد الضامنين أن يضمن الآخر ما لزمه من هذا الضمان فيصير ضامنا جاز ذلك أيضا لأن المال قد ثبت في ذمة كل واحد منهما فإذا ضمنه أحدهما جاز كما يجوز في الأصل
المثال الرابع والخمسون : إذا اشترك رجلان شركة عنان فسافر أحدهما بالمال بإذن شريكه فخاف أن يموت المقيم فيشتري بالمال بعد موته متاعا فيضمن لأنه قد انتقل إلى الورثه وبطلت الشركة
فالحيلة في تخلصه من ذلك : أن يشهد على شريكه المقيم أن حصته في المال الذي بينه وبينه لولده الصغار وقد أوصى إلى شريكه بالتصرف فيه وأمره أن يشتري بها ما أحب في حياته وبعد وفاته فإن كان ولده كبارا أشهد على نفسه أن هذا المال لهم ثم يأمر ولده الكبار هذا الشريك أن يعمل لهم في مالهم هذا بما يرى ويشتري لهم ما أحب
المثال الخامس والخمسون : إذا كان لرجلين على امرأة ألف درهم مثلا فتزوجها أحدهما على نصيبه في المال الذي عليها صح النكاح وبرئت ذمة المرأة من ذلك المقدار ولم يلزم الزوج أن يضمن لصاحبه شيئا منه لأنه لم يقبض شيئا من نصيبه ولم يحصل في ضمانه فجرى مجرى إبرائها له منه
وبعض الفقهاء يضمنه نصيب شريكه من المهر ويجعله كالمقبوض لأنه عاوض عليه بالبضع فهو كما لو اشترى منها به سلعة فإنها تكون بينهما وههنا تعذرت مشاركته في البضع فيشاركه في بدله وهو المهر فكأنها وفته نصيبه من الدين (59/31)
وطريق الحيلة في تخليصه من ذلك : أن يهب لها نصيبه مما عليها ثم يتزوجها بعد ذلك على خمسمائة في ذمته ثم تهب له المرأة ما لها عليه من الصداق فإن أحد الشريكين إذا وهب نصيبه من المال المشترك لا يضمن لشريكه شيئا لأنه متبرع
فإن خاف أن يهبها أو يبرئها فتعذر به ولا تتزوج به فالحيلة له : أن يشهد على إقرارها أنه يستحق عليها ذلك المبلغ ما دامت أجنبية منه وأنه لا يستحق على زوجته فلانة شيئا من ذلك المال
وأكثر ما فيه : أنه يسميها زوجة قبل العقد فإذا تم العقد برئت من الدين
فإن خاف أن لا تبرئه من الصداق وتطالبه به ويسقط حقه من المال الذي عليها فالحيلة له : أن يشهد عليها في العقد : أنه برىء إليها من الصداق وأنها لا تستحق المطالبة به
المثال السادس والخمسون : إذا أراد أن يشتري جارية وعرض له آخر يريد شراءها فاستحلف أحدهما صاحبه : أنه إن اشتراها فهي بينه وبينه نصفين فأراد أن يشتريها وتكون له تأول في يمينه : أنه إن اشتراها بنفسه فهي بينه وبينه فإذا وكل من يشتريها له كانت له وحده
فإن استحلفه أنه إن ملكها فهو شريكه فيها بطلت هذه الحيلة فله أن يأمر من يثق به أن يشتريها لنفسه ويؤدي هو عنه الثمن ثم يزوجه إياها فإذا أراد بيعها استبرأها ثم أمر ذلك الرجل أن يبيعها ويرجع ثمنها إليه
المثال السابع والخمسون : إذا كان بينهما عرض من العروض فاشتراه منهما أجنبي بمائة درهم وقبضه ثم إن المشترى أراد أن يصالح أحدهما من جميع الثمن على بعضه على أن يضمن له الدرك من شريكه حتى يخلصه منه أو يرد عليه جميع الثمن الذي وقع العقد عليه
فقال القاضي : لا يجوز ذلك لأن الضمان على شريكه إنما يجب بقبضه المال وذلك لم يوجد فلا يكون مضمونا عليه
فالحيلة للمشتري : أن يكون بريئا وإن أدركه درك من شريكه رجع به على الذي صالحه أن يحط الشريك المصالح عن المشتري نصيبه كله من الثمن ثم يدفع المشتري إليه نصيب صاحبه فصالحه على أنه ضامن لما أدركه من شريكه حتى يخلصه منه أو يرد عليه (59/32)
ما قبضه منه ويبرئه هو من نصيبه لأنه إذا أبرأه من نصيبه لم يبق من الدين إلا نصيب صاحبه فإذا قبضه كان مضمونا عليه لأنه قبض دين الغير بغير أمره
المثال الثامن والخمسون : إذا كان عبد بين شريكين موسرين فأراد كل منهما عتق نصيبه وأن لا يغرم لشريكه شيئا
فالحيلة : أن يوكلا رجلا فيعتقه عنهما ويكون ولاؤه بينهما المثال التاسع والخمسون : إذا سأله عبده أن يزوجه أمته فحلف أن لا يفعل ثم بدا له في تزويجه
فالحيلة : أن يبيع العبد والأمة لمن يثق به ثم يزوجه المشتري فإذا تم العقد أقاله في البيع
ولا بأس بمثل هذه الحيلة فإنها لا تتضمن إبطال حق ولا تحليل محرم وذلك غير ممتنع على أصلنا لأن الصفة وهي عقد النكاح قد وجدت في حال زوال ملكه فلا يتعلق بها حنث ولا يحنث أيضا باستدامة التزويج بعد ملكهما لأن التزويج عبارة عن العقد وقد انقضى وإنما بقي حكمه ولهذا لو حلف لا يتزوج فاستدام التزويج لم يحنث وهذا بخلاف ما إذا حلف على عبده أنه لا يدخل الدار فباعه ودخلها ثم ملكه فإن دخلها حنث لأنه ابتدأ الدخول واليمين باقية ولو دخلها في حال زوال ملكه ثم ملكه وهو داخل فيها حنث لأن الدخول الأول عبارة عن الكون وذلك موجود بعد الملك الثاني فيحنث به كما لو كان موجودا في الملك الأول
وقد قال أحمد في رواية مهنا في رجل قال لامرأته : أنت طالق إن رهنت كذا وكذا فإذا هي قد رهنته قبل يمينه فقال : أخاف أن يكون حنث
قال القاضي : وهذا محمول على أنه قال إن كنت رهنته وهذا تأويل منه لكلام أحمد : فظاهر كلامه أنه جعل استدامة الرهن بمنزلة ابتدائه كالدخول
المثال الستون : إذا كان له عليه مال فمرض المستحق وأراد أن يبرئه منه وهو يخرج من ثلثه فخاف أن تكتم الورثة ماله ويقولوا : لم يدع إلا الدين الذي على هذا (59/33)
فالحيلة في خلاصه : أن يخرج المريض من ماله بقدر الدين الذي على غريمه فيملكه إياه ثم يستوفيه منه ويشهد على ذلك وكذلك إذا أراد المريض أن يعتق عبدا وله مال يخرج من ثلثه ويملكه ماله فخاف أن يقول الورثة : لم يخلف الميت شيئا غير هذا العبد وماله
فالحيلة : أن يبيع المريض العبد من رجل يثق به ويقبض الثمن فيهبه للمشتري ثم يعتقه المشتري
فإن كان على الميت دين وله وفاء وفضل يخرج العبد من ثلثه فخاف المريض أن يغيب الورثة ماله ثم يقولوا : أعتق العبد ولا مال له غيره فلا نجيز له ما صنع من ذلك
فالحيلة فيه : أن يبيع العبد من نفسه ويقبض الثمن منه بمحضر من الشهود ثم يهب المريض للعبد ما قبض منه في السر فيأمن حينئذ من اعتراض الورثة فإن لم يكن للعبد مال يشترى به نفسه وهبه مالا في السر وأقبضه إياه فيشتري به العبد نفسه من سيده
فإن لم يرد السيد عتقه وأراد بيعه من بعض ورثته بمال على المريض ليست له به بينة
فالحيلة في ذلك : أن يقبض وارثه ماله عليه في السر ثم يبيعه العبد ويشهد له على ذلك ويقبض الثمن بمحضر من الشهود فيتخلص من اعتراض الورثة
المثال الحادي والستون : إذا أوصى إلى رجل فخاف أن لا يقبل فقال : إن لم يقبل فلان وصيتي فهي لفلان صح ذلك بسنة رسول اللهAالصحيحة الصريحة التي لا تجوز مخالفتها حيث علق الإمارة بالشرط فتعليق الوصية أولى لأنه يستفيد بالإمارة أكثر مما يستفيد بالوصية
وبعض الفقهاء يبطل ذلك
فالحيلة في ذلك : أن يشهد المريض أنهما جميعا وصياه فإن لم يقبل أحدهما وقبل الآخر فالذي قبل منهما وصي وحده فإن قبلا جميعا فلكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف عن صاحبه لأنه رضي بتصرف كل واحد منهما قاله القاضي (59/34)
فإن خاف أن يمنع ذلك من لا يرى انفراد أحدهما بالتصرف ويقول : قد شرك بينهما وجعلهما بمنزلة وصي واحد :
فالحيلة في الجواز : أن يقول : أوصيت إليهما على الاجتماع والانفراد
المثال الثاني والستون : إذا تصرف الوصي وباع واشترى وأنفق على اليتيم فللحاكم أن يحاسبه ويسأله عن وجوه ذلك ولا يمنعه من محاسبته كونه أمينا فإن النبي صلى الله عليه و سلم حاسب عماله كما ثبت في صحيح البخاري أنه بعث ابن اللتبية عاملا على الصدقة فلما جاء حاسبه
فإن أراد الوصي أن يتخلص من ذلك فالحيلة له : أن يجعل غيره هو الذي يتولى بيع التركة وقبض الدين والإنفاق ولا يشهد على نفسه بوصول شيء من ذلك إليه فإذا سأله الحاكم قال : لم يصل إلى شيء من التركة ولا تصرفت فيها فإن كانت التركة قد بيعت بأمره وقبض ثمنها بأمره وصرف بأمره فحلفه الحاكم إنه لم يقبض ولم يوكل من قبض وتصرف وأنفق فإن كان محسنا قد وضع التركة موضعها ولم يخن وسعه أن يتأول في يمينه وإن كان ظالما لم ينفعه تأويله
المثال الثالث والستون : يصح وقف الإنسان على نفسه على أصح الروايتين ويجوز اشتراط النظر لنفسه ويجوز أن يستثني الإنفاق منه على نفسه ما عاش أو على أهله وغيرنا ينازعنا في ذلك فإذا خاف من حاكم يبطل الوقف على هذا الوجه فالحيلة له : أن يملكه لولده أو زوجته أو أجنبي يقفه عليه ويشترط له النظر فيه (59/35)
وأن يقدم على غيره من الموقوف عليهم بغلته أو بالإنفاق عليه فيصح حينئذ ولا يبقى للاعتراض عليه سبيل
المثال الرابع والستون : إذا اشترى جارية وقبضها فوجد بها عيبا ولم يكن نقد ثمنها فأراد ردها فصالحه البائع على أن يأخذ الجارية بأقل من الثمن الذي اشتراها به
فقال القاضي : لا يجوز ذلك لأن هذا الصلح في معنى البيع وبيع المبيع من بائعه بأقل من ثمنه لا يجوز لأنه ذريعة إلى الربا وهو كمسألة العينة فإن كان قد حدث بالجارية عيب عند المشتري جاز ذلك لأن مقدارالحط يكون بإزاء العيب الذي حدث عند المشتري فلا يؤدي إلى مسئلة العينة
والحيلة في جواز ذلك في الصورة الأولى على وجه لا يشبه العينة : أن يخرج الجارية من ملكه فيبيعها الرجل بالثمن الذي يأخذها به البائع فيصالح الذي في يده الجارية البائع على أن يقبلها بدون الثمن الذي وقع عليه العقد ويجعل هذا الثمن الذي يأخذ به الجارية قضاء عن مشتري الجارية لأن المشتري الثاني متى صالح البائع على أن يقبل الجارية بدون الثمن الذي اشتريت به فهو عقد جرى بينهما مبتدأ من غير بناء أحد العقدين على الآخر فإذا اشتراها البائع من هذا الثاني حصل ثمنها في ذمته له وله هو على المشتري الأول ثمنها فإذا طالبه البائع بالثمن أحاله على المشتري الأول فيتقاصان
المثال الخامس والستون : الضمان لا تبرأ ذمة المضمون عنه بمجرده حيا كان المضمون عنه أو ميتا
وفيه رواية أخرى : أنه يبرىء ذمة الميت دون الحي وهي مذهب أبي حنيفة
وفيه قول ثالث : أنه يبرىء ذمة الحي والميت كالحوالة وهو مذهب داود
فإذا أراد الضامن أن يكون ضمانه مبرئا لذمة المضمون عنه فالحيلة في ذلك : أن يقول : لا أضمن دينه إلا بشرط أن تبرئه منه فمتى أبرأته منه فأنا ضامن له ويصح تعليق الضمان بالشرط في أقوى الوجهين فإذا أبرأه صحت البراءة ولزم الدين الضامن وحده
فإن خاف رب الدين أن يرفعه إلى حاكم لا يرى صحة الضمان المعلق فيبطل دينه من ذمة الأصيل بالإبراء ولا يثبت له في ذمة الضامن (59/36)
فالحيلة له : أن يكتب ضمانه ضمانا مطلقا ويشهد عليه به من غير شرط بعد إقراره ببراءة الأصيل فيحصل مقصودهما
المثال السادس والستون : الحوالة تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه فلا يملك مطالبة المحيل بعد ذلك إلا في صورة واحدة وهي : أن يشترط ملاءة المحال عليه فيتبين مفلسا
وعند أبي حنيفة : إذا توى المال على المحال عليه بأن جحده حقه إذ قرار المحال على المحال عليه فإن جحده حقه وحلف عليه أو مات مفلسا رجع على المحيل
وعند مالك : إن ظن ملاءته فبان مفلسا رجع وإن طرأ عليه الفلس لم يكن له الرجوع
فإذا أراد صاحب الحق التوثق لنفسه وأنه إن توى ماله على المحال عليه رجع على المحيل
فالحيلة له في ذلك : أن يحتال حوالة قبض لا حوالة استيفاء فيقول للمحيل : أحلني على غريمك أن أقبض لك ما عليه من الدين فيجيبه إلى ذلك فما قبضه منه كان على ملك المحيل فيأذن له في استيفائه
فإن خاف المحيل أن يهلك هذا المال في يد القابض ولا يغرمه لأنه وكيل في قبضه
فالحيلة أن يقول له : ما قبضته فهو قرض في ذمتك فيثبت في ذمته نظير ماله عليه فيتقاصان
فالحوالة ثلاثة أنواع : حوالة قبض محض فهي وكالة وحوالة استيفاء وهي التي تنقل الحق وحوالة إقراض
فالأولى لا تثبت المقبوض في ذمة المحال والثانية تجعل حقه في ذمة المحال عليه والثالثة تثبت المأخوذ في ذمته بحكم الاقتراض المثال السابع والستون : إذا ضمن الدين ضامن فلمستحقه مطالبة أيهما شاء
وعن مالك روايتان إحداهما : كذلك والثانية : أنه ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذر مطالبة الأصيل
فإن أراد الضامن أن يضمن على هذا الوجه فالحيلة أن يقول : إن تعذر مالك قبله فأنا ضامن له ويصح تعليق الضمان على الشرط على الأصح (59/37)
فإن أراد أن يصحح ذلك على كل قول ويأمن رفعه إلى من يرى بطلان ذلك
فالحيلة فيه : أن يقول : ضمنت لك ما يتوى لك على فلان أو يعجز عن أدائه فيصح ذلك ولا يتمكن من مطالبته إلا إذا توى المال على الأصيل أو عجز عنه
المثال الثامن والستون : إذا بذت عليه امرأته فقال : الطلاق يلزمني منك لا تقولين لي شيئا إلا قلت لك مثله فقالت : أنت طالق ثلاثا فقال بعضهم : يقول لها : أنت طالق ثلاثا بفتح التاء ولا تطلق لأن الخطاب لا يصلح لها وهذا ضعيف جدا لأن قوله : أنت طالق إما أن يعنيها به أو يعني غيرها فإن لم يعنها لم يكن قد قال لها مثل ما قالت بل يكون القول لغيرها فلا يبر به وإن عناها به طلقت للمواجهة وفتح التاء لا يمنع صحة الخطاب والمعنى : أنت أيها الشخص أو الإنسان
ثم ما يقول هذا القائل : إذا قالت له : فعل الله بك كذا فقال لها : فعل الله بك وفتح الكاف هل يكون بارا في يمينه بذلك فإن قال : لا يبر لزمه مثله في الطلاق وإن قال : يبر كان قائلا لها مثل ذلك فيكون مطلقا لها
وأجود من هذا أن يكون قوله على التراخي ما لم يقيده بالفور بلفظه أو نيته
وقالت طائفة : يقول لها : أنت طالق ثلاثا إن لم أفعل كذا وكذا أو إن فعلت لما لا تقدر هي عليه فيكون قد قال لها مثل ما قالت وزاد عليه وفي هذا ضعف لا يخفى لأن هذه الزيادة تنقص الكلام فهي زيادة في اللفظ ونقصان في المعنى فإنه إذا علق الطلاق بشرط خرج من التنجيز إلى التعليق وصار كله كلاما واحدا وهي لم تعلق كلامها وإنما نجزته فالمماثلة تقتضي تنجيزا مثله
وأجود من هذا كله أن يقال : لا يدخل هذا الكلام الذي صدر منها في يمينه لأنه لم يرده قطعا ولا خطر بباله فيمينه لم يتناوله فهو غير محلوف عليه بلا شك واللفظ العام يختص بالنية والعرف والعرف في مثل هذا لا يدخل فيه قولها له ذلك والأيمان يرجع فيها إلى العرف والنية والسبب وهذا مطرد ظاهر على أصول مالك وأحمد في اعتبارهم (59/38)
عرف الحالف ونيته وسبب يمينه والله أعلم
المثال التاسع والستون : يجوز أن يستأجر الشاة والبقرة ونحوهما مدة معلومة للبنها ويجوز أن يستأجرها لذلك بعلفها وبدراهم مسماة والعلف عليه هذا مذهب مالك وخالفه الباقون وقوله هو الصحيح واختاره شيخنا لأن الحاجة تدعو إليه ولأنه كاستئجار الظئرللبها مدة ولأن اللبن وإن كان عينا فهو كالمنافع في استخلافه وحدوثه شيئا بعد شيء ولأن إجارة الأرض لما نبت فيها من الكلأ والشوك جائزة وهو عين ولأن اللبن4 حصل بعلفه وخدمته فهو كحصول المغل ببذره وخدمته ولا فرق بينهما فإن تولد اللبن من العلف كتولد المغل من البذر فهذا من أصح القياس
وأيضا فإنه يجوز أن يقفها فينتفع الموقوف عليها بلبنها وحق الواقف إنما هو في منفعة الموقوف مع بقاء عينه
وأيضا فإنه يجوز أن يمنحها غيره مدة معلومة لأجل لبنها وهي باقية على ملك المانح فتجري منحتها مجرى إعارتها والعارية إباحة المنافع فإذا كان اللبن يجري مجرى المنفعة في الوقف والعارية جرى مجراها في الإجارة
وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن [ الطلاق : 6 ] فسمى ما تأخذه المرضعة في مقابلة اللبن أجرا ولم يسمه ثمنا
وأيضا فيجوز أن يستأجر بئرا مدة معلومة لمائها والماء لم يحصل بعمله فلأن يجوز استئجار الشاة للبنها الحاصل بعلفه والقيام عليها أولى
وأيضا فإنه يجوز أن يستأجر بركة يعشعش فيها السمك لأجله فهذا أولى بالجواز لأنه معلوم بالعرف وهو حاصل بعلفه والقيام على الحيوان
وقياس المنع على تحريم بيع اللبن في الضرع قياس فاسد فإن ذاك بيع مجهول لا يعرف قدره وما يتحصل منه وهو بيع معدوم فلا يجوز والإجارة أوسع من البيع ولهذا يجوز على المنافع المعدومة المستخلفة شيئا بعد شيء فاللبن في ذلك كالمنفعة سواء وإن كان عينا فهذا القول هو الصحيح (59/39)
فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يبطل هذا العقد :
فالحيلة في لزومه : أن يؤجره الحيوان مدة بدارهم مسماة ثم يأذن له في علفه بها ويبيحه اللبن
وهذه الحيلة تتأتي في إجارة البقرة والناقة والجاموس إذ يمكن الحرث عليها وركوبها وأما الشاة فلا يراد منها إلا الدر والنسل فلا تتهيأ الإجارة على منفعتها فالطريق في ذلك : أن يستأجرها لرضاع سخلة له مدة معلومة ويوكله في النفقة عليها بأجرتها أو ببعضها ويبيحه اللبن
المثال السبعون : إذا دفع إليه ثوبه وقال : بعه بعشرة فما زاد فلك فنص أحمد على صحته تبعا لعبدالله بن عباس ووافقه إسحاق ومنعه أكثرهم
ووجه الخلاف : أن في هذا العقد شائبة الوكالة والإجارة والمضاربة فمن رجح جانب الوكالة صحح العقد ومن رجح جانب الإجارة أو المضاربة أبطله لأن الأجرة والربح الذي جعل له مجهول
والصحيح : الجواز لأن العشرة تجري مجرى رأس المال في المضاربة وما زاد فهو كالربح فإذا جعله كله له كان بمنزلة الإبضاع إذا دفع إليه مالا يضارب به وقال : ما ربحت فهو لك فليس العقد من باب الإجارات بل هو بالمشاركات أشبه
فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلانه
فالحيلة في ذلك : أن يقول : وكلتك في بيعه بعشرة : فإن بعته بأكثر فلا حق لي في
الزيادة فيصح هذا وتكون الزيادة للوكيل
المثال الحادي والسبعون : قال الإمام أحمد في رواية مهنى : لا بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل بسدس ما يخرج منه وهو أحب إلي من المقاطعة يعني أن يقاطعه على كيل معين أو دراهم أو عروض
وكذلك نص في رواية الأثرم وغيره في رجل دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها وما رزق الله بينهما نصفين : أن ذلك جائز
وقال أحمد أيضا : لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع لحديث جابر : أن النبي صلى الله عليه و سلم (59/40)
أعطى خيبر على الشطر ونقل عنه أبو داود فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة أرجو أن لا يكون به بأس
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم : إذا كان على النصف والربع فهو جائز
ونقل عنه أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه ويكون له ثلث الكسب أو ربعه أنه جائز
ونقل عنه حرب فيمن دفع ثوبا إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها وله نصف ربحها بحق عمله فهو جائز ونص في رجل دفع غزله إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه : أنه جائز
وقال في المغني : وعلى قياس قول أحمد : يجوز أن يعطى الطحان أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها
وحكى عن ابن عقيل المنع منه واحتج بأن رسول اللهAنهى عن قفيز الطحان قال الشيخ وهذا الحديث لا نعرفه ولا ثبت عندنا صحته : وقياس قول أحمد : جوازه لما ذكرنا عنه من المسائل
وكذلك لو دفع شبكته إلى صياد ليصيد بها والسمك بينهما نصفين قال في المغني : فقياس قول أحمد صحة ذلك والسمك بينهما شركة وقال ابن عقيل : السمك للصائد ولصاحب الشبكة أجرة مثلها
ولو كان له على رجل مال فقال لرجل : اقبضه منه ولك ربعه أو قال : كل ثلثه أو ما قبضته منه فلك منه الربع أو الثلث فهو جائز (59/41)
وكذلك لو غصبت منه عين فقال لرجل : خلصها لي ولك نصفها جاز أيضا
ولو غرق متاعه في البحر فقال لرجل : ما خلصته منه فلك نصفه أو ربعه جاز ولو أبق عبده فقال لرجل أو قال : من رده علي فله فيه نصفه أو ربعه أو شردت دابته فقال ذلك صح ذلك كله
قلت : وكذلك يجوز أن يقول له : انقض لي هذا الزيتون بالسدس أو الربع أو اعصره بالثلث أو الربع أو اكسر هذا الحطب بالربع أو اخبز هذا العجين بالربع وما أشبه ذالك فكل هذا جائز على نصوصه وأصوله وهو أحب من المقاطعة في بعض الصور
ولم يجوز الشافعي وأبو حنيفة شيئا من ذلك
وأما مالك فقال أصحابه عنه : إذا قال : احصد زرعي ولك نصفه فذلك جائز وإن قال : احصد اليوم فما حصدت فلك نصفه لم يجز عند ابن القاسم وفي العينية أنه يجوز
فإن قال : القط زيتوني فما لقطت فلك نصفه فهو جائز عند ابن القاسم وروى سحنون أنه لا يجوز ولو قال : انقض زيتوني فما نقضت فلك نصفه لم يجز عند ابن القاسم وأجازه عبد الملك بن حبيب
فإن قال : اقبض لي المائة دينار التي على فلان ولك عشرها جاز عند ابن القاسم وابن وهب وعند أشهب لا يجوز
فلو قال : اقبض دينى الذي على فلان ولك من كل عشرة واحد ولم يبين قدر الدين لم يجز عند ابن وهب وأجازه ابن القاسم وأصبغ
والذين منعوا الجواز في ذلك جعلوه إجارة والأجر فيها مجهول والصحيح : أن هذا ليس من باب الإجارات بل من باب المشاركات وقد نص أحمد على ذلك
فاحتج على جواز دفع الثوب بالثلث والربع بحديث خيبر وقد دلت السنة على جواز ذلك كما في المسند والسنن عن رويفع بن ثابت قال : إن كان أحدنا في زمن رسول الله (59/42)
صلى الله عليه و سلم ليأخذ نضو أخيه على أن له النعصف مما يغنم ولنا النصف وإن كان أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح وأصل هذا كله : أن النبي صلى الله عليه و سلم دفع أرض خيبر إلى اليهود يعملونها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع وأجمع المسلمون على جواز المضاربة وأنها دفع ماله لمن يعمل عليه بجزء من ربحه فكل عين تنمى فائدتها من العمل عليها جاز لصاحبها دفعها لمن يعمل عليها بجزء من ربحها
فهذا محض القياس وموجب الأدلة وليس مع المانعين حجة سوى ظنهم أن هذا من باب الإجارات بعوض مجهول وبهذا أبطلوا المساقاة والمزارعة واستثنى قوم بعض صورها وقالوا : المضاربة على خلاف القياس لظنهم أنها إجارة بعوض عنده لم يعلم قدره
وأحمد رحمه الله عنده هذا الباب كله أطيب وأحل من المؤجراة لأنه في الإجارة يحصل (59/43)
على سلامة العوض قطعا والمستأجر متردد بين سلامة العوض وهلاكه فهو على خطر وقاعدة العدل في المعاوضات : أن يستوى المتعاقدان في الرجاء والخوف وهذا حاصل في المزارعة والمساقاة والمضاربة وسائر هذه الصور الملحقة بذلك فإن المنفعة إن سلمت سلمت لهما وإن تلفت تلفت عليهما وهذا من أحسن العدل
واحتج المتأخرون من المانعين بحديث أبي سعيد الذي رواه الدارقطنى نهي عن قفيز الطحان وهذا الحديث لا يصح وسمعت شيخ الإسلام يقول : هو موضوع
وحمله بعض أصحابنا على أن المنهي عنه طحن الصبرة لا يعلم كيلها بقفيز منها لأن ما عداه مجهول فهو كبيعها إلا قفيزا منها فأما إذا كانت معلومة القفزان فقال : اطحن هذه العشرة بقفيز منها صح حبا ودقيقا أما إذا كان حبا فقد استأجره على طحن تسعة أقفزة بقفيز حنطة وأما إذا كان دقيقا فقد شاركه في ذلك على أن العشر للعامل وتسعة الأعشار للآخر فيصيرشريكه بالجزء المسمى
فإن قيل فالشركة عندكم لا تصح بالعروض
قيل : بل أصح الروايتين صحتها وإن قلنا بالرواية الأخرى فإلحاق هذه بالمساقاة والمزارعة أولى بها من إلحاقها بالمضاربة على العروض لأن المضاربة بالعروض تتضمن التجارة والتصرف في رقبة المال بإبداله بغيره بخلاف هذا فإن قيل : دفع حبه إلى من يطحنه بجزء منه مطحونا أو غزله إلى من ينسجه بجزء منه منسوجا : يتضمن محذورين أحدهما : أن يكون طحن قدرالأجرة ونسجه مستحقا على العامل بحكم الإجارة ومستحقا له بحكم كونه أجرة وذلك متناقض فإن كونه مستحقا عليه يقتضي مطالبة المستأجر به وكونه مستحقا له يقتضي مطالبة المؤجر به الثاني : أن يكون بعض المعقود عليه هو العوض نفسه وذلك ممتنع
قيل : إنما نشأ هذا من ظن كونه إجارة وقد بينا أنه مشاركة لا إجارة ولو سلم أنه (59/44)
من باب المؤاجرة فلا تناقض في ذلك فإن جهة الاستحقاق مختلفة فإنه مستحق له بغير الجهة التي يستحق بها عليه فأي محذور في ذلك
وأما كون بعض المعقود عليه يكون عوضا فهو إنما عقد على عمله فالمعقود عليه العمل والنفع بجزء من العين وهذا أمر متصور شرعا وحسا
فظهر أن صحة هذا الباب هى مقتضى النص والقياس وبالله التوفيق
وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة لتصحيح ذلك إلا إذا خيف غدر أحدهما وإبطاله للعقد والرجوع إلى أجرة المثل
فالحيلة في التخلص من ذلك : أن يدفع إليه ربع الغزل والحب أو نصفه ويقول : انسج لي باقيه بهذا القدر فيصيران شريكين في الغزل والحب فإذا تشاركا فيه بعد ذلك صح وكان بينهما على قدر ما شرطاه والعجب أن المانعين جوزوا ذلك على هذا الوجه وجعلوه مشاركة لا مؤاجرة فهلا أجازوه من أصله كذلك وهل الاعتبار في العقود إلا بمقاصدها وحقائقها ومعانيها دون صورها وألفاظها وبالله التوفيق
المثال الثاني والسبعون : إذا كان لرجل على رجل دين فتوارى عن غريمه وله هو دين على آخر فأراد الغريم أن يقبض دينه من الدين الذي له على ذلك لم يكن له ذلك إلا بحوالة أو وكالة وقد توارى عنه غريمه فيتعذر عليه الحوالة والوكالة
فالحيلة له في اقتضاء دينه من ذلك : أن يوكله فيقول : وكلتك في اقتضاء ديني الذي على فلان وبالخصومة فيه ووكلتك أن تجعل ماله عليك قصاصا مما لي عليه وأجزت أمرك في ذلك فيقبل الوكيل ويشهد عليه شهودا ثم يشهد الوكيل أولئك الشهود أو غيرهم : أن فلانا وكلني بقبض ماله على فلان وأن أجعله قصاصا بما لفلان علي وأجاز أمري في ذلك وقد قبلت من فلان ما جعل إلى من ذلك واشهدوا أني قد جعلت الألف درهم التي لفلان على قصاصا بالألف التي لفلان موكلي عليه فتصير الألف قصاصا ويتحول ما كان للرجل المتواري على هذا الوكيل للرجل الذي وكله
المثال الثالث والسبعون : إذا كان لرجل على رجل مال فغاب الذي عليه المال وأراد (59/45)
الرجل أن يثبت ماله عليه حتى يحكم الحاكم عليه وهو غائب جاز للحاكم أن يحكم عليه في حال غيبته مع بقائه على حجته في أصح المذهبين وهو قول أحمد في الصحيح عنه ومالك والشافعي وعند أبي حنيفة لا يجوز الحكم على الغائب
فإذا لم يكن في الناحية إلا حاكم يرى هذا القول ويخشى صاحب الحق من ضياع حقه
فالحيلة له : أن يجىء برجل فيضمن لهذا الرجل الذي له المال جميع ماله على الرجل الغائب ويسميه وينسبه ويشهد على ذلك ثم يقدمه إلى القاضي فيقر الضامن بالضمان ويقول : قد ضمنت له ماله على فلان بن فلان ولا أدري كم له عليه ولا أدري : له عليه مال أم لا فإن القاضي يكلف المضمون له أن يحضر بينته على ذلك بماله على فلان فإذا أحضر البينة قبلها القاضي بمحضر من هذا الضمين وحكم على الغائب وعلى هذا الضامن المال بموجب ضمانه ويجعل القاضي هذا الضمين بالمال خصما على الغائب لأنه قد ضمن ما عليه ولا يجوز الحكم على هذا الضمين حتى يحكم على المضمون عنه ثم يحكم بذلك على الضمين لأنه فرعه فما لم يثبت المال على الأصل لا يثبت على الفرع
المثال الرابع والسبعون : إذا غصبه متاعا له ويقر له في السر بعينه ويجحده في العلانية ويريد تخليص ماله منه
فالحيلة له : أن يبيعه ممن يثق به ويشهد له على ذلك ببينة عادلة ثم يبيعه بعد ذلك من الغاصب ويكون بين البيعين من المدة ما يعرفه الشهود ليوقتوا بذلك عند الأداء فإذا أشهد الغاصب بالبيع في الوقت المعين جاء الذي باع منه المغصوب قبله ببينته فيحكم له السبق بينته فيرجع الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذي دفعه إليه ويسلم العين للمغصوب منه
وكذلك لو أقر بها المغصوب منه لرجل يثق به ثم باعها بعد ذلك للغاصب ثم جاء المقر له فأقام بينة على الإقرار السابق
فإن قيل : فلو خاف الغاصب من هذه الحيلة وقال للمغصوب منه : لست أبتاع منك (59/46)
هذه السلعة خشية هذا الصنيع ولكن آمر من يبتاعها منك لي فأراد المغصوب منه حيلة ترجع إليه بها سلعته
فالحيلة : أن يبيعها أولا ممن يثق به ولا يكتب في كتاب هذا الشراء الثاني قبض المشتري فإنه إذا أقر وكيل الغاصب بقبض العين من المغصوب منه ثم جاء الرجل الذي كتب له المغصوب منه الشراء كان أولى بها من وكيل الغاصب لأن وقت شرائه أقدم وإقراره بقبضها وتسليمها إلى الرجل المشتري لها أولا أولى ويرجع وكيل الغاصب على المغصوب بالثمن الذي دفعه إليه
المثال الخامس والسبعون : إذا أقرضه مالا وأجله لزم تأجيله على أصح المذهبين وهو مذهب مالك وقول في مذهب أحمد والمنصوص عنه : أنه لا يتأجل كما هو قول الشافعي وأبي حنيفة ويدل على التأجيل قوله تعالى : أوفوا بالعقود [ ] وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون [ ] وقوله وأوفوا بالعهد [ ] وقولهAالمسلمون عند شروطهم وقوله آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وقوله ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة بقدر غدرته وقوله لا تغدروا وقوله إن الغدر لا يصلح وقوله في صفة المنافق إذا وعد أخلف وإخلاف الوعد مما فطر الله العباد على ذمه واستقباحه وما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله قبيح وعلى هذا فلا حاجة إلى التحيل على لزوم التأجيل
وعلى القول الآخر : قد يحتاج إلى حيلة يلزم بها التأجيل
فالحيلة فيه أن يحيل المستقرض صاحب المال بماله إلى سنة أو نحوها بقدر مدة التأجيل فيكون المال على المحتال عليه إلى ذلك الأجل ولا يكون للطالب ولا لورثته على المستقرض سبيل ولا على المحال عليه إلى الأجل فإن الحوالة تنقل الحق (59/47)
ولو أحال المحال عليه صاحب المال على رجل آخر إلى ذلك الأجل جازت الحوالة فإن مات المحال عليه الأول لم يكن لصاحب المال على تركته سبيل لا على المحال عليه الثاني المثال السادس والسبعون : إذا رهنه دارا أو سلعة على دين وليس عنده من يشهد على قدر الدين ويكتبه فالقول قول المرتهن في قدره ما لم يدع أكثر من قيمته هذا قول مالك وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد : القول قول الراهن وقول مالك هو الراجح وهو اختيار شيخنا لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلا من الكتاب يشهد بقدر الحق والشهود التي تشهد به وقائما مقامه فلو لم يقبل قول المرتهن في ذلك بطلت الوثيقة من الرهن وادعى المرتهن أنه رهن على أقل شىء فلم يكن في الرهن فائدة والله سبحانه قد قال في آية المداينة : [ ] التي أرشد بها عباده إلى حفظ حقوق بعضهم على بعض خشية ضياعها بالجحود أو النسيان فأرشدهم إلى حفظها بالكتاب وأكد ذلك بأن أمرهم بكتابة الدين وأمر الكاتب أن يكتب ثم أكد ذلك بأن نهاه أن يأبى أن يكتب ثم أعاد الأمر بأن يكتب مرة أخرى وأمر من عليه الحق أن يملل ويتقي ربه فلا يبخس من الحق شيئا فإن تعذر إملاؤه لسفهه أو صغره أو جنونه أو عدم استطاعته فوليه مأمور بالإملاء عنه
وأرشدهم إلى حفظها باستشهاد شهيدين من الرجال أو رجل وامرأتين فأمرهم بالحفظ بالنصاب التام الذي لا يحتاج صاحب الحق معه إلى يمين ونهى الشهود أن يأبوا إذا دعوا إلى إقامة الشهادة
ثم أكد ذلك عليهم بنهيهم أن يمتنعوا من كتابة الحقير والجليل من الحقوق سآمة ومللا
وأخبر أن ذلك أعدل عنده وأقوم للشهادة فيتذكرها الشاهد إذا عاين خطه فيقيمها وفي ذلك تنبيه على أن له أن يقيمها إذا رأى خطه وتيقنه وإلا لم يكن بالتعليل بقوله وأقوم للشهادة فائدة
وأخبر أن ذلك أقرب إلى اليقين وعدم الريب ثم رفع عنهم الجناح بترك الكتابة (59/48)
إذا كان بيعا حاضرا فيه التقابض من الجانبين يأمن به كل واحد من المتبايعين من جحود الآخر ونسيانه
ثم أمرهم مع ذلك بالإشهاد إذا تبايعوا خشية الجحود وغدر كل واحد منهما بصاحبه فإذا أشهدا على التبايع أمنا ذلك
ثم نهى الكاتب والشهيد عن أن يضارا إما بأن يمتنعا من الكتابة والشهادة تحملا وأداء أو أن يطلبا على ذلك جعلا يضر بصاحب الحق أو بأن يكتم الشاهد بعض الشهادة أو يؤخر الكتابة والشهادة تأخيرا يضر بصاحب الحق أو يمطلاه ونحو ذلك أو هو نهي لصاحب الحق أن يضار الكاتب والشهيد بأن يشغلهما عن ضرورتهما وحوائجهما أو يكلفهما من ذلك ما يشق عليهما ثم أخبر أن ذلك فسوق بفاعله
فهذا كله عند القدرة على الكتاب والشهود
ثم ذكر ما تحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتاب والشهود وهو السفر في الغالب فقال : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة
فدل ذلك دلالة بينة أن الرهان قائمة مقام الكتاب والشهود شاهدة مخبرة بالحق كما يخبر به الكتاب والشهود
وهذا والله أعلم سر تقييد الرهن بالسفر لأنه حال يتعذر فيها الكتاب الذي ينطق بالحق غالبا فقام الرهن مقامه وناب منابه وأكد ذلك بكونه مقبوضا للمرتهن حتى لا يتمكن الراهن من جحده
فلا أحسن من هذه النصيحة وهذا الإرشاد والتعليم الذي لو أخذ به الناس لم يضع في الأكثر حق أحد ولم يتمكن المبطل من الجحود والنسيان
فهذا حكمه سبحانه المتضمن لمصالح العباد في معاشهم ومعادهم
والمقصود : أنه لو لم يقبل قول المرتهن على الراهن في قدر الدين لم يكن وثيقة ولا (59/49)
حافظا لدينه ولا بدلا من الكتاب والشهود فإن الراهن يتمكن من أخذه منه ويقول : إنما رهنته منه على ثمن درهم ونحوه ومن يجعل القول قول الراهن فإنه بصدقه على ذلك ويقبل قوله في رهن الربع والضيعة على هذا القدر
فالذي نعتقده وندين الله به : هو قول أهل المدينة فإذا أراد الرجل حفظ حقه وخاف أن يقع التحاكم عند حاكم لا يرى هذا المذهب
فالحيلة في قبول قوله : أن يسترهنه المرتهن على قيمته ويدفع إليه ما اتفقا عليه ويشهد الراهن أن الباقي من قيمته أمانة عنده أو قرض في ذمته يطالبه به متى شاء فيتمكن كل واحد منهما من أخذ حقه ويأمن ظلم الآخر له والله أعلم
المثال السابع والسبعون : إذا كان لرجل على رجل ألف درهم وفي يده رهن بالألف فطلب صاحب الدين الغريم بالألف وقدمه إلى الحاكم وقال : لي على هذا ألف درهم وخاف أن يقول : وله عندي رهن بالألف وهو كذا وكذا فيقول الغريم : ماله علي هذه الألف التي يدعيها ولا شيء منها وهذا الذي ادعى أنه لي رهن في يده هو لي كما قال ولكنه ليس برهن بل وديعة أو عارية فيأخذه منه ويبطل حقه
فالحيلة في أمنه من ذلك : أن يدعي بالألف فيسأل الحاكم المطلوب عن المال فإما أن يقر به وإما أن ينكره فإن أقر به وادعى أن له رهنا لزمه المال ودفع الرهن إلى صاحبه أو بيع في وفائه وإن أنكره وقال : ليس له علي شيء ولي عنده تلك العين : إما الدار وإما الدابة فليقل صاحب الحق للقاضي : سله عن هذا الذي يدعي علي : على أي وجه هو عندي أعارية أم غصب أم وديعة أم رهن فإن ادعى أنه في يده على غير وجه الرهن حلف على إبطال دعواه وكان صادقا وإن ادعى أنه في يده على وجه الرهن قال للقاضي : سله : على كم هو رهن فإن أقر بقدر الحق أقر له بالعين وطالب بحقه وإن جحد بعضه حلف على نفي ما ادعاه وكان صادقا المثال الثامن والسبعون : إذا باعه سلعة ولم يقبضه إياها أو آجره دارا ولم يتسلمها أو زوجه ابنته ولم يسلمها إليه ثم ادعى عليه بالثمن أو الأجرة أو المهر فخاف إن أنكر أن يستحلفه أو يقيم عليه البينة بجريان هذه العقود وإن أقر لزمه ما ادعى عليه به (59/50)
فالحيلة في تخلصه : أن يقول في الجواب : إن ادعيت هذا المبلغ من ثمن مبيع لم أقبضه أو إجارة دار لم تسلمها إلي أو نكاح امرأة لم تسلمها إلي أو كانت المرأة هي التي ادعت فقال : إن ادعيت هذا المبلغ من مهر أو كسوة أو نفقة من نكاح لم تسلمي إلي نفسك فيه ولم تمكنيني من استيفاء المعقود عليه فأنا مقر به وإن كان غير ذلك فلا أقر به وهذا جواب صحيح يتخلص به
فإن قيل : فهذا تعليق للإقرار بالشرط والإقرار لا يصح تعليقه كما لو قال : إن شاء الله أو إن شاء زيد فله علي ألف
قيل : بل يصح تعليق الإقرار بالشرط في الجملة كقوله : إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف فهذا إقرار صحيح ولا يلزمه قبل مجيء الشهر وكذا لو قال : إن شهد فلان علي بما ادعاه صدقته صح التعليق فإذا شهد به عليه فلان كان مقرا به ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره كما في تعليق الطلاق والعتاق والخلع
وفيه وجه آخر : أنه إن أخر الشرط لم ينفعه وكان إقرارا ناجزا وهذا ضعيف جدا فإن الكلام بآخره ولو بطل الشرط الملحق به لبطل الاستثناء والبدل والصفة فإن ذلك يغير الكلام ويخرجه من العموم إلى الخصوص والشرط يخرجه من الإطلاق إلى التقييد فهو أولى بالصحة
وقد جاء تأخير الشرط في القرآن فيما هو أبلغ من الإقرار كقوله تعالى حاكيا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه : قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم [ ]
وقد وافق صاحب هذا الوجه على أنه إذا قال : له علي ألف درهم إذا جاء رأس الشهر : أنه يصح وجها واحدا وهذا يبطل تعليله بأن إلحاق الشرط بعد الخبر كالرجوع عن الإقرار وعلى هذا فلو قال : له علي ألف مؤجلة صح الإقرار ولزمه الألف مؤجلا
وقيل : القول قول خصمه في حلوله وشبهة هذا : أنه مقر بالدين مدع لتأجيله وهذا ظاهر البطلان فإنه إنما أقر به على هذه الصفة فلا يجوز إلزامه به مطلقا كما لو وصفها بنقد غير النقد الغالب أو استثنى منها شيئا (59/51)
وكذا لو قال : له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه أو أجرة عن دار لم أتسلمها أو قال : هلك قبل التمكن من قبضة على أصح الوجهين لأنه إنما أقر به على هذه الصفة فلا يجوز إلزامه به مطلقا
وكذا لو قال : كان له علي ألف فقضيته لم يلزمه لأنه إنما أقر به في الماضي لا في الآن هذا منصوص أحمد وليس الكلام بمتناقض في نفسه فيكون بمنزلة قوله : له علي ألف لا تلزمني والفرق بين الكلامين أظهر من أن يحتاج إلى بيان
وعن أحمد رواية أخرى : أنه مقر بالحق مدع لقضائه فلا يقبل منه إلا ببينة وهذا قول الأئمة الثلاثة
وعنه رواية ثالثة : أن هذا ليس بجواب صحيح فيطالب برد الجواب وعلى هذا فإذا قال : له علي ألف قضيته إياه ففيه ثلاث روايات منصوصات
إحداهن : أنه غير مقر كما لو قال : كان له علي والثانية : أنه مقر مدع للقضاء فلا يقبل منه إلا ببينة والثالثة : أنه لا يسمع منه دعوى القضاء ولو أقام به بينة بل يكون مكذبا لها وعلى هذا إذا قال : كان له علي ولم يزد على هذا فهو مقر وخرج أنه غير مقر من نصه على أنه إذا قال : كان له علي وقضيته : أنه غير مقر وهو تخريج في غاية الصحة فإن أحمد لم يجعله غير مقر من قوله : وقضيته فإن هذا دعوى منه للقضاء وإنما جعله كذلك من جهة أنه أخبر عن الماضي لا عن الحال فلا يلزم بكونه في ذمته في الحال وهو لم يقر به
والمقصود : أن المدعى عليه إذا كان مظلوما فالحيلة في تخصله أن يقول : إن ادعيت كذا من جهة كذا وكذا فأنا غير مقر به وإن ادعيته من جهة كذا وكذا فأنا مقر به كان جوابا صحيحا ولم يكن مقرا على الإطلاق
المثال التاسع والسبعون : قال أصحابنا : لا يملك البائع حبس المبيع على قبض ثمنه بل يجبر على تسليمه إلى المشتري ثم إن كان الثمن معينا فتشاحنا في المبتدىء بالتسليم جعل بينهما عدل يقبض منهما ويسلم إليهما وإن كان دينا أجبر البائع على التسليم ثم يجبر (59/52)
المشتري على دفع الثمن فإن كان ماله غائبا عن المجلس حجر عليه في ماله كله حتى يسلم الثمن وإن كان غائبا عن البلد فوق مسافة القصر ثبت للبائع الفسخ وإن كان دونها فهل يحجر عليه أو يثبت للبائع الفسخ على وجهين وإن كان المشتري معسرا فللبائع الفسخ والرجوع في عين ماله هذا منصوص أحمد والشافعي وللشافعية وجه أنه تباع السلعة ويقضي دينه من ثمنها فإن فضل له فضل أخذه وإن فضل عليه شيء استقر في ذمته والصحيح : أن البائع يملك حبس السلعة على الثمن حتى يقبضه هذا هو موجب العدل وإلا ففي تمكين المشتري من القبض قبل الإقباض إضرار بالبائع فإنه قد يتلف المبيع بأن يكون طعاما أو شرابا فيستهلكه ويتعذر أو يتعسر عليه مطالبته بالثمن فيضر به ولا يزول ضرره إلا بحبس المبيع على ثمنه
وعلى هذا لو دفع الثمن إلا درهما منه فله حبس المبيع كله على باقي الثمن كما نقول في الرهن
وفيه قول آخر : أنه يملك أنه يتسلم من المبيع بقدر ما دفع من الثمن لأن كل جزء من المبيع في مقابلة كل جزء من أجزاء الثمن فإذا سلم بعض الثمن ملك تسلم ما يقابله
والفرق بينه وبين الرهن : أن الرهن ليس بعوض من الدين وإنما هو وثيقة فملك حبسه إلى أن يستوفي جميع الدين والأول هو الصحيح لأنه إنما رضي بإخراج المبيع من ملكه إذا سلم له جميع الثمن ولم يرض بإخراجه ولا إخراج شيء منه ببعض الثمن
فإذا خاف البائع أن يجبر على التسليم ثم يحال على تقاضي المشتري
فالحيلة له في الأمن من ذلك : أن يبيعه العين بشرط أن يرتهنها على ثمنها ويجوز شرط الرهن والضمين في عقد البيع ويصح رهنه قبل قبضه على ثمنه في أصح الوجهين كما يصح رهنه قبل القبض بدين آخر غير ثمنه ومن غير البائع بل رهنه على ثمنه أولى فإنه يملك حبسه على الثمن بدون الرهن كما تقدم فلأن يصح حبسه على الثمن رهنا أولى وأحرى
وأيضا فإذا جاز التصرف فيه بالرهن من الأجنبي قبل القبض فجوازه من البائع أولى (59/53)
لأن المشتري يملك من التصرف مع البائع قبل القبض بالإقالة وغيرها ما لا يملكه مع الأجنبي ومن منع رهنه على ثمنه قبل قبضه لزمه أن يمنع رهنه على غير الثمن أو من الأجنبي
فإن قيل : الفرق بينهما : أنه قبل القبض عرضة للتلف فيكون من ضمان البائع وكونه رهنا يقتضي أن يكون من ضمان راهنه فتنافى الأمران حيث يكون مضمونا له ومضمونا عليه من جهة واحدة وهذا بخلاف رهنه من أجنبي قبل القبض فإنه يكون مضمونا عليه للأجنبي ومضمونا له من البائع ولا تنافي بين أن يكون مضمونا له من شخص ومضمونا عليه لغيره كالعين المؤجرة إذا أجرها المستأجر صارت المنافع مضمونة عليه للمستأجر الثاني ومضمونة له من المؤجر الأول وكذلك الثمار إذا بدا صلاحها جاز للمشتري بيعها وهي مضمونة له على البائع ومضمونة عليه للمشتري الثاني
فإن قيل : هذا هو الفرق الذي بني عليه هذا القول ولكن يقال : أي محذور في ذلك وأن يكون مضمونا له وعليه وقولكم : إن ذلك من جهة واحدة ليس كذلك فإنه مضمون له من جهة كونه مشتريا فهو من ضمان البائع حتى يمكنه من قبضه ومضمون عليه من جهة كونه راهنا فإذا تلف تلف من ضمانه حتى لو اتحدت الجهة لم يكن في ذلك محذور بحيث يكون مضومنا له وعليه من جهة واحدة كما قلتم : إنه يجوز للمستأجر إجارة ما استأجره لمؤجره فتكون المنافع مضمونة عليه وله فأي محذور في ذلك
فإن قيل : فإذا تلف هذا الرهن فمن ضمان من يكون فالبائع يقول للمشتري : تلف من ضمانك لأنه رهن والمشتري يقول : تلف من ضمانك لأنه مبيع لم يقبض وليس أحدهما بترجيح جانبه أولى من الآخر قيل : بل يكون تلفه من ضمان البائع لأن ضمانه أسبق من ضمان الراهن لأنه لما باعه كان من ضمانه حتى يسلمه فحبسه على ثمنه لا يسقط عنه ضمانه كما لو حبسه من غير ارتهان فارتهانه إياه لم يسقط عنه ما لزمه بعقد البيع من التسليم فإنه إنما احتاط لنفسه (59/54)
بعقد الرهن والراهن لم يتعوض عن الرهن بدين يكون الرهن في مقابلته فإذا تلف كان قد انتفع بالدين الذي أخذه في مقابلة الرهن
فإن أراد الحيلة في تصحيح الرهن والوثيقة وأن لا يعرضه للبطلان
فالحيلة له : أن يقبضه من البائع ثم يرهنه إياه على ثمنه بعد قبضه فيصح الرهن ولا يتوالى هناك ضمانان فإذا تلف بعد ذلك تلف من ضمان المشتري ولا يسقط الثمن عنه فإن خاف البائع أن يغيب المشتري أو يؤخر فكاك الرهن كتب كتابا وأشهد فيه شهودا : أنه إن مضى وقت كذا وكذا ولم يفتك الرهن فقد أذن له في بيعه وقبض دينه من ثمنه وما بقى منه فهو أمانة في يده
فإن خاف أن يبطل هذه الوكالة من يرى أنه لا يصح تعليقها بالشرط كتب في الكتاب : أنه قد وكله الآن ويعلعق تصرفه فيه بالبيع بمجىء الوقت فيعلق التصرف وينجز التوكيل
فإن خاف أن يعزله الموكل فلا ينفذ تصرفه فيه فالحيلة له : أن يوكله وكالة دورية عند من يرى ذلك فيقول : وكلما عزلته فقد وكلته وإن شاء أن يقول : وكلته وكالة لا تقبل العزل وإن شاء أن يقول : على أني متى عزلته فلا حق لي عنده ولا دعوى وما ادعيته عليه من جهة كذا وكذا فدعواي باطلة والله أعلم
المثال الثمانون : إذا ادعت عليه المرأة أنه لم ينقق عليها ولم يكسها مدة مقامها معه أو سنين كثيرة والحس والعرف يكذبها لم يحل للحاكم أن يسمع دعواها ولا يطالبه برد الجواب فإن الدعوى إذا ردها الحس والعادة المعلومة كانت كاذبة وفي الصحيح عنهAمن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة وفي الصحيح أيضا عنهAمن ادعى ما ليس له فليس منا (59/55)
وليتبوأ مقعده من النار
فلا يجوز لأحد حاكم ولا غيره أن يساعد من ادعى ما يشهد الحس والعرف والعادة أنه ليس له وأن دعواه كاذبة ففي سماع دعواه وإحضار المدعى عليه وإحلافه أعظم مساعدة ومعاونة على ما يكذبه الحس والعادة
ثم كيف يسع الحاكم أن يقبل قول المرأة : أنها هي التي كانت تنفق على نفسها وتكسو نفسها هذه المدة كلها مع شهادة العرف والعادة المطردة بكذبها ولا يقبل قول الزوج : أنه هو الذي كان ينفق عليها ويكسوها مع شهادة العرف والعادة له ومشاهدة الجيران وغيرهم له : أنه كل وقت يدخل إلى بيته الطعام والشراب والفاكهة وغير ذلك فكيف يكذب من معه مثل هذه الشهادة ويقبل قول من يكذب دعواه ذلك وكيف يمكن الزوج أن يتخلص من مثل هذا البلاء الطويل والخطب الجليل إلا بأن يشهد كل يوم بكرة وعشية شاهدي عدل على الإنفاق وعلى الكسوة أو يفرض لها كل شهر دراهم معلومة يقبضها إياها بإشهاد ثم إما أن يمكنها أن تخرج من بيته كل وقت تشتري لها ما يقوم بمصالحها أو يتصدى هو لخدمتها وشراء حوائجها فيكون هو العاني الأسير المملوك وهي المالكة الحاكمة عليه وكل هذا ضد ما قصده الشارع من النكاح : من الألفة والمودة والمعاشرة بالمعروف فإن هذه المعاشرة من أنكر المعاشرة وأبعدها من المعروف
ثم من العجب : أنها إذا ادعت الكسوة والنفقة لمدة مقامها عنده فقال الزوج للحاكم : سلها : من أين كانت تأكل وتشرب وتلبس فيقول الحاكم : لا يلزمها ذلك ! !
فيالله العجب : إذا كانت غير معروفة بالدخول والخروج ولا يمكن الزوج أحدا يدخل عليها وهي في منزله عدد سنين تأكل وتشرب وتلبس كيف لا يسألها الحاكم : من الذي كان يقوم لك بذلك ومتى سأل الزوج سؤالها وجب عليه ذلك ومتى تركه كان تاركا (59/56)
للحق فإن سمت أجنبيا غير الزوج كلفها الحاكم البينة على ذلك وإن قالت : أنا الذي كنت أطعم نفسي وأكسوها في هذه المدة كان كذبها معلوما ولم يقبل قولها فإن النفقة والكسوة واجبان على الزوج وهي تدعي أنها هي التي قامت عنه بهذا الواجب وأدته من مالها وهو يدعي أنه هو الذي فعل هذا الواجب وقام به وأسقطه عن نفسه ومعه الظاهر والأصل
أما الظاهر : فلا يمكن عاقلا أن يكابر فيه بل هو ظاهر ظهورا قريبا من القطع بل يقطع به في حق أكثر الناس وأما الأصل : فهو أيضا من جانب الزوج فإنهما قد اتفقا على القيام بواجب حقها وهي تضيف ذلك إلى نفسها أو إلى أجنبي وهو يدعي أنه هو الذي قام بهذا الواجب فقد اتفقا على وصول النفقة والكسوة إليها وهي تقول : كان ذلك بطريق البدل والنيابة عنك وهو يقول : لم يكن بطريق النيابة بل بطريق الأصالة
وهذا بخلاف ما إذا لم يعلم وصول الحق إلى مستحقه كالديون والأعيان المضمونة فإن قبول قول المنكر متوجه ومعه الأصل
ونظيره : أن يعترف بقضاء الدين ووصوله إليه ثم ينكر أن يكون وصل إليه من جهة من عليه الدين فيقول : وصل إلي الدين الذي لي لكن ليس من جهتك بل غيرك أداه عنك فهل يقبل قوله ههنا أحد ويقال : الأصل بقاء الدين في ذمته
وهذا نظير مسألة الإنفاق سواء بسواء فإنها مقرة بوصول النفقة إليها ولو أنكرتها لكذبها الحس ومدعية أن وصول ذلك إلي لم يكن من جهتك فدعواها تخالف الأصل والظاهر جميعا ولهذا لا يقبلها مالك وفقهاء أهل المدينة وقولهم هو الصواب والحق الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه
وأي قبيح أعظم من دعوى امرأة على الزوج ترك النفقة والكسوة ستين سنة أو أكثر وهي لا تدخل ولا تخرج ولا يمكنها أن تعيش عيش الملائكة فيطالب الزوج بنفقة جميع المدة التي ادعت ترك الإنفاق فيها وقد تستغرق جميع ماله وداره وثيابه ودوابه فيؤخد (59/57)
ذلك كله منه ويحبس على الباقي ويجعل دينا مستقرا في ذمته تطالبه به متى شاءت وهي تعلم كذب دعواها ووليها يعلم ذلك وجيرانها والله وملائكته والذي يساعدها ويخاصم عنها ولما علم فقهاء العراق كأبي حنيفة وأصحابه ما في ذلك من الشر والفساد والضرر الذي لا تأتي به شريعة أسقطوا النفقة والكسوة عن الزوج بمضي الزمان فلم يسمعوا دعوى المرأة بذلك كما يقوله منازعوهم في نفقة القريب فنفسوا الخناق عن الأزواج بهذا القول وأشموهم رائحة الحياة ونفسوا عنهم بعض الكرب ولقد أقام رسول اللهAبعد أن أرسله الله تعالى إلى الناس ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة فما ألزم زوجا قط بنفقة وكسوة ماضية ولا ادعتها عنده امرأة وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده وكذلك عصر الصحابة جميعهم وعصر التابعين ولا حبس على عهده وعهد أصحابه وتابعيهم رجل واحد على ذلك ولا على صداق امرأته مع صيانة نسائهم ولزومهن بيوتهن وعدم تبرجهن وتزينهن وخروجهن في الأسواق والطرقات والأزواج في الحبوس وهن مسيبات يخرجن ويذهبن حيث أردن
فوالله لو رأى هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم لشق عليه غاية المشقة ولعظم عليه وعز عليه ولكان إلى دفعه وإنكاره أسرع منه إلى غيره
وبالجملة فالدعوى إذا كانت مما تردها العادة والعرف والظاهر لم يجز سماعها
ومن ههنا قال أصحاب مالك : إذا كان رجل حائزا لدار متصرفا فيها مدة السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة وهو مع ذلك لا يعارضه فيها ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع يمنعه من مطالبته : من خوف سلطان أو نحو ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق ولا بينه وبين المتصرف في الدار قرابة ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات وذوو الصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه بل كان عريا عن ذلك كله ثم جاء بعد طول هذه المدة (59/58)
يدعيها لنفسه ويزعم أنها له ويريد أن يقيم بذلك بينة فدعواه غير مسموعة أصلا فضلا عن بينة وتقر الدار بيد حائزها
قالوا : لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة قال تعالى : وأمر بالعرف [ ] وأوجبت الشريعة الرجوع إليه عند الاختلاف في الدعاوى وغيرها قلت : ومما يدل على ذلك : أن الظن المستفاد من هذا الظاهر أقوى بكثير من الظن المستفاد من شاهدين أو شاهد ويمين أو مجرد النكول أو الرد
وأيضا فإن البينة على المدعي والبينة هي كل ما يبين الحق والعرف والعادة والظاهر القوي الذي إن لم يقطع به فهو أقرب إلى القطع يدل على صدق الزوج وكذب المرأة في إمساكها عن كسوتها والإنفاق عليها مدة سنين متطاولة ولا يدخل عليها أحد ولا هى ممن تخرج تشتري لها ما تأكل وتلبس
فالشريعة جاءت بما يعرف لا بما ينكر وقد أخبر الله سبحانه أن للزوجة مثل الذي عليها بالمعروف وليس من المعروف إلزام الزوج بنفقة ستين سنة وكسوتها واجتياح ماله كله وسلبه نعمة الله عليه وجعله مسكينا ذا متربة وجعله أسيرا لها ينافي ما ادعت به بل هذا من أنكر المنكر ومما يراه المسلمون بل وغير المسلمين قبيحا
وأيضا : فالرجل له ولاية الإنفاق على زوجته كما له ولاية حبسها ومنعها من الخروج من بيته فالشارع جعل إليه ذلك وأمره أن يقوم على المرأة ولا يؤتيها ماله بل يرزقها ويكسوها فيه وجعلها الله سبحانه في ذلك بمنزلة الصغير والمجنون مع وليه كما قال تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما واززقوهم فيها واكسوهم [ ] قال ابن عباس : لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وبنيك فيكونوا هم الذين يقومون عليك في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم
فالسفهاء هم النساء والصبيان وقد جعل الله سبحانه الأزواج قوامين عليهم كما جعل ولي الطفل قواما عليه والقوام على غيره أمير عليه ومن قبل قول الزوجة أو الطفل بعد (59/59)
البلوغ في عدم إيصال النفقة إليهما فقد جعلهما قوامين على الأزواج والأولياء ولو لم يقبل قول الزوج لم يكن قواما على المرأة فإن المرأة إذا كانت غريما مقبول القول دون الزوج كانت هي القوامة
وبالجملة فللرجل على امرأته ولاية حتى في مالها فإن له أن يمنعها من التبرع به لأنه إنما بذل لها المهر لما لها ونفسها فليس لها أن تتصرف في ذلك بما يمنع الزوج من كمال استمتاعه وقد سوى النبي صلى الله عليه و سلم بين نفقة الزوجات ونفقة المماليك وجعل المرأة عانية عند الزوج والعاني : هو الأسير وهو نوع من الرقفقال في المرأة : تطعمها مما تأكل وتكسوها مما تلبس وكذلك قال في الرقيق سواء فهو أمير على نفقة امرأته ورقيقه وأولاده بحكم قيامه عليهم ولم يوجب الله سبحانه على الأزواج تمليك النساء طعاما وإداما ولا دراهم أصلا وإنما أوجب إطعامهن وكسوتهن بالمعروف وإيجاب التمليك مما لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع (59/60)
وكذلك فرض النفقة وتقديرها بدراهم لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا تابع ولا أحد من الأئمة الأربعة
فإن الناس لهم قولان منهم من يرى تقديرها بالحب كالشافعي ومنهم من يردها إلى العرف وهم الجمهور ولا يعرف عن أحد من السلف والأئمة تقديرها بالدراهم البتة
ثم إن فيه إيجاب المعاوضة على الواجب لها بغير رضا الزوج ومن غير اعتبار كون الدراهم قيمة الواجب لها من الحب أو الواجب بالعرف ففرض الدراهم مخالف لهذا وهذا ولأقوال جميع السلف والأئمة وفيه من الفساد ما لا يحصيه إلا الله فإنه إن مكن المرأة تخرج كل وقت تشتري لها طعاما وإداما دخل على الزوج والزوجة من الشر والفساد ما يشهد به العيان وإن منعها من الخروج أضر بها وبالزوج وجعله كالأجير والأسير معها
وبالجملة : فمبنى الحكم في الدعاوى على غلبة الظن المستفاد من براءة الأصل تارة ومن الإقرار تارة ومن البينة تارة ومن النكول مع يمين الطالب المردودة أو بدونها وهذا كله مما يبين الحق ظاهرا فهو بينة وتخصيص البينة بالشهود عرف خاص وإلا فالبينة اسم لما يبين الحق فمن كان ظن الصدق من جانبه أقوى كان بالحكم أولى ولهذا قدمنا جانب المدعى عليه حيث لا بينة ولا إقرار ولا نكول ولا شاهد حال استنادا إلى الظن المستفاد من البراءة الأصلية
فإذا كان في جانب المدعي بينة شرعية قدم لقوة الظن في جانبه بالبينة وكذلك إذا كان في جانبه قرينة ظاهرة كاللوث قدم جانبه
ولذلك قدم جانبه في اللعان إذا نكلت المرأة فإنها ترجم بأيمانه لقوة الظن في جانبه بإقدامه على اللعان مع نكول المرأة عن دفع الحد والعار عنها باليمين (59/61)
وقد أجمع الناس على جواز وطء المرأة التي تزف إلى الزوج ليلة العرس وإن لم يكن رآها ولا وصفت له من غير اشتراط شاهدى عدل يشهدان أنها هي امرأته التي وقع عليها العقد اكتفاء بالظن الغالب بل بالقطع المستفاد من شاهد الحال
وكذلك يجوز الأكل من الهدي المنحور إذا كان بالفلاة ولا أحد عنده اكتفاء بشاهد الحال
وكذلك درج السلف والخلف على جواز أكل الفقير مما يدفعه إليه الصبي ويخرجه من البيت : من كسرة ونحوها اعتمادا على شاهد الحال
وكذلك يكتفى بشاهد الحال في بيع المحقرات بالمعاطاة وهو عمل الأمة قديما وحديثا
واكتفى الشارع بسكوت البكر في الاستئذان وجعله دليلا على رضاها اكتفاء بشاهد الحال واكتفت الأمة في الاعتماد على المعاملات والهدايا والتبرعات بكونها بيد الباذل لأن دلالتها على ملكه تورث ظنا ظاهرا واكتفت بمعاملة مجهول الحرية والرشد وإقراره وأكل طعامه وقبول هديته وإباحة الدخول إلى منزله اعتمادا على شاهد الحال والظن الغالب واكتفى الشارع بقول الخارص الواحد في محل الظن والخرص نظرا إلى الظن المستفاد من خرصه واكتفت الأمة بقول المقومين فيما دق وجل اعتمادا على الظن المستفاد من تقويمهم
وقد اكتفى الشارع بتقويم اثنين في جزاء الصيد واكتفى بواحد في الخرص (59/62)
واكتفى بواحد في رؤية هلال رمضان
واكتفت الأمة بقول القاسم وحده أو بقول اثنين وكذلك القائف أو القائفين واكتفت بقول المؤذن الواحد
وقد اكتفى كثير من الفقهاء بانتساب الصغير وميل طبعه إلى من ادعاه من رجلين أو أكثر اعتمادا على الظن المستفاد من ميل طبعه وهو من أضعف الظنون ولذلك كان في آخر رتب الإلحاق عندهم عند عدم القائف
وكذلك الاعتماد في وجوب دفع اللقطة أو جوازه على الظن المستفاد من وصف الواصف لها وكذلك الاعتماد على أمارات الطهارة والنجاسة والقبلة والاعتماد على قول الكيال والوزانوقال كثير من الفقهاء يحبس المدعى عليه بشهادة المستورين إلا أن يعدلا إذ الغالب من المستورين العدالة
فاستجازوا عقوبة الرجل المسلم بمثل هذا الظن
وقالوا تسمع الشهادة على المقر بالإقرار من غير اشتراط ذكر الشاهدين أهلية المقر حال إقراره اعتمادا على ظن الرشد والاختيار
وقالوا : إذا كان الجدار حائلا بين الطريق وبين ملك المدعي أو بين ملكه وبين موات اختص به المدعي لأن الظاهر أن الطريق والموات لا يحاط عليهما وقالوا : لو كان بين الملكين جدار متصل بأبنية أحد المالكين اتصالا بدواخل وترصيف اختص به صاحب الترصيف لقوة الظن من جانبه إذ معه دلالتان إحداهما : الإتصال والثانية : التداخل والترصيف فلو تداخل من أحد طرفيه في ملك أحدهما ومن الطرف الآخر في الملك الآخر اشتراكا فيه : لتساويهما في الدلالتين (59/63)
وقالوا : إن الأبواب المشرعة في الدروب غير النافذة دالة على الاشتراك في الدرب إلى حد كل باب منها فيكون الأول شريكا من أول الدرب إلى بابه والثاني شريكاإلى إلى بابه والذي في آخر الدرب شريك من أول الدرب إلى بابه قولا واحدا وإلى آخر الدرب على الصحيح وكل ذلك بناء على الظن المستفاد من الاستطراق وأنه بحق
وقالوا : إن الأجنحة المطلة على ملك الجار وعلى الدروب غير النافذة أنها ملك لأصحابها اعتمادا على غلبة الظن بذلك وأنها وضعت باستحقاق وكذلك القنوات والجداول الجارية في ملك الغير دالة على اختصاصها بأرباب المياه بناء على الظن المستفاد من ذلك وأن صورها دالة على أنها وضعت باستحقاق
ومن ذلك : دلالة الأيدي على الاستحقاق اعتمادا على الظن الغالب مع القطع بكثرة وضع الأيدي عدوانا وظلما ولا سيما ما اطردت العادة بإجارته وخروجه من يد مالكه إلى يد مستأجره كالأراضي والدواب والحوانيت والرباع والحمامات وأن الغالب فيها الخروج عن يد مالكها وقد اعتبرتم اليد وقد استشكل كثير من فضلاء أصحابكم هذا واعترف بأن جوابه مشكل جدا ولما كان الظن المستفاد من الشهود أقوى من الظن المستفاد من هذه الوجوه قدم عليها
ولما كان الظن المستفاد من الإقرار أقوى من الظن المستفاد من الشهود قدم الإقرار عليها
ولذلك اكتفى كثير من الفقهاء بالمرة الواحدة في الإقرار بالزنا والسرقة لهذه القوة
قالوا : لأن وازع المقر طبعي ووازع الشهود شرعي والوازع الطبعي أقوى من الوازع الشرعي ولذلك يقبل الإقرار من المسلم والكافر والبر والفاجر لقيام الوازع الطبعي
ولما كان الوازع عن الكذب على نفسه مخصوصا بالمقر كان إقراره حجة قاصرة عليه وعلى من يتلقى عنه لكونه فرعه ولما كان الوازع الشرعي عاما بالنسبة إلى جميع الناس كان حجة عامة فإن خوف الله (59/64)
يزع الشاهد عن الكذب في حق كل أحد فكان قوله حجة عامة لكل أحد ولما كان وازع الكذب مختصا بالمقر قصر عليه فهو خاص قوى والشهادة عامة ضعيفة بالنسبة إلى الإقرار قوية بالنسبة إلى الأيدي وإلى ما ذكرناه من الدلالات
ومعلوم أن الظنون لا تقع إلا بأسباب تثيرها وتحركها
فمن أسبابها : الاستصحاب واطراد العادة أو كثرة وقوعها أو قول الشاهد أو شاهد الحال ولا يقع في الظنون تعارض وإنما يقع في أسبابها وعلاماتها فإذا تعارضت أسباب الظنون فإن حصل الشك لم يحكم بشيء وإن وجد الظن في أحد الطرفين حكم به والحكم للراجح لأن مرجوحية مقابله تدل على ضعفه فإذا تعارض سببا ظن وكان كل واحد منهما مكذبا للآخر تساقطا كتعارض البينتين والأمارتين وإن لم يكن كل واحد منهما مكذبا للآخر عمل بهما على حسب الإمكان كدابة عليها راكبان وعبد ممسك بيديه اثنان ودار فيها ساكنان وخشبة لها حاملان وجدار متصل بملكين ونظائر هذا
فإن كان أحدهما أرجح من الآخر عمل بالراجح كالشاهد مع البراءة الأصلية ومع اليد يقدم عليهما لرجحانه
ولما كانت اليد لها مراتب في القوة والضعف كانت يد اللابس لثيابه وعمامته وخفه ومنطقته ونعله : أقوى من يد الجالس على البساط والراكب على الدابة ويد الراكب أقوى من يد السائق والقائد ويد الساكن للدار أضعف من تلك الأيدي ويد من هو داخل الحمام والخان أضعف من هذا كله قدم أقوى الأيدي على أضعفهما
فلو كان في الدار اثنان وتنازعا فيها وفي لباسهما الذي عليهما جعلت الدار بينهما لاستوائهما في اليد وكان القول قول كل منهما في لباسه المختص به لقوة يده بالقرب والاتصال ولو تنازع الراكب والسائق والقائد قدمت يد الراكب وكذلك قال الجمهور (59/65)
لو تنازع الزوجان في متاع البيت أو الصانعان في حانوت كان القول قول من يدعي منهما ما يصلح له وحده لغلبة الظن القريب من القطع باختصاصه به
وكذلك لو رأينا رجلا شريفا حاسر الرأس وأمامه داعر على رأسه عمامة وبيده عمامة لا تليق به وهو هارب فتقديم يده على الظن المستفاد من كونها يدا عادية مما يقطع ببطلانه
وكذلك فقيه له كتب في داره وامرأته غير معروفة بشيء من ذلك البتة فتقديم يدها على شاهد حال الفقيه في غاية البعد وأين الظن المستفاد من هذا وأمثاله إلى الظن المستفاد من النكول ومن الظن المستفاد من اليد بل أين ذاك الظن من الظن المستفاد من الشاهد واليمين ومن الممتنع أن يرتب الشارع الأحكام على هذه الظنون ولا يرتبها على الظنون التي هي أقوى منها بمراتب كثيرة بل تكاد تقرب من القطع كما أنه من المحال أن يحرم التأفيف للوالدين ويبيح شتمهما وضربهما
وهل تقديم قول المدعي في القسامة إلا اعتمادا على الظن الغالب باللوث وقدم هذا الظن على ظن البراءة الأصيلة لقوته
وقد حكى الله سبحانه في كتابه عن الشاهد الذي شهد من أهل امرأة العزيز وحكم بالقرائن الظاهرة على براءة يوسف عليه السلام وكذب المرأة بقوله إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم [ ] وسمى الله سبحانه ذلك آية وهي أبلغ من البينة فقال ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين [ ] وحكى سبحانه ذلك مقررا له غير منكر وذلك يدل على رضاه به
ومن هذا : حكم نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام بالولد الذي تنازع فيه المرأتان فقضى به داود للكبرى فخرجتا على سليمان فقصتا عليه القصة فقال سليمان عليه السلام : ائتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغرى : لا تفعل يا نبي الله هو ابنها فقضى به (59/66)
للصغرى ولم يكن سليمان ليفعل ولكن أوهمهما ذلك فطابت نفس الكبرى بذلك استرواحا منها إلى راحة التسلي والتأسي بذهاب ابن الأخرى كما ذهب ابنها ولم تطب نفس الصغرى بذلك بل أدركتها شفقة الأم ورحمتها فناشدته أن لا يفعل استرواحا إلى بقاء الولد ومشاهدته حيا وإن اتصل إلى الأخرى
وتأمل حكم سليمان به للصغرى وقد أقرت به للكبرى تجد تحته : أن الإقرار إذا ظهرت أمارات كذبه وبطلانه لم يلتفت إليه ولم يحكم به على المقر وكان وجوده كعدمه وهذا هو الحق الذي لا يجوز الحكم بغيره
وكذلك إذا غلط المقر أو أخطأ أو نسي أو أقر بما لا يعرف مضمونه لم يؤاخذ بذلك الإقرار ولم يحكم به عليه كما لو أقر مكرها
والله تعالى رفع المؤاخذة بلغو اليمين لكون الحلف لم يقصد موجبها وأخبر أنه إنما يؤاخذ بكسب القلب والغالط والمخطىء والناسي والجاهل والمكره لم يكسب قلبه ما أقر به أو حلف عليه فلا يؤاخذ به
والمقصود : أن الزوج المظلوم المدعي عليه دعوى كاذبة ظالمة : بأنه ترك النفقة والكسوة تلك السنين كلها أو مدة مقامها عنده إذا تبين كذب المرأة في دعواها لم يجز للحاكم سماعها فضلا عن مطالبته برد الجواب فله طرق في التخلص من هذه الدعوى
أحدها : أن يقول : كيف يسوغ سماع دعوى تكذبها العادة والعرف ومشاهدة الجيران
الثاني : أن يقول للحاكم : سلها : من كان ينفق عليها ويكسوها في هذه المدة (59/67)
فإن ادعت أن غيره كان يؤدي ذلك عنه لم تسمع دعواها وكانت الدعوى لذلك الغير ولا يقبل قولها على الزوج أن غيره قام بهذا الواجب عنه وهذا مما لا خفاء به ولا إشكال فيه وإن قالت : أنا كنت أنفق على نفسي قال الزوج : سلها : هل كانت هي التي تدخل وتخرج تشتري الطعام والإدام فإن قالت : نعم ظهر كذبها ولا سيما إن كانت من ذوات الشرف والأقدار
وإن قالت : كنت أوكل غيري في ذلك ألزمت ببيانه وإلا ظهر كذبها وظلمها وعدوانها وكانت معاونتها على ذلك معاونة على الإثم والعدوان
فإن أعوز الزوج حاكم عالم متحر للحق لا تأخذه فيه لومة لائم فليعدل إلى التحيل بالخلاص بما يبطل دعواها الكاذبه إما بأن يجحد استحقاقها لما ادعت به ولا يعدل إلى الجواب المفصل فتحتاج هي إلى إقامة البينة على سبب الاستحقاق وقد يتعذر أو يتعسر عليها ذلك
فإن أحضرت الصداق وأقامت البينة فإن كانت لم تنتقل معه إلى داره جحد تسليمها إليه والقول قوله إذا لم تكن معه في منزله
فإن كانت قد انتقلت معه إلى منزله وادعى نشوزها تلك المدة وأمكنه إقامة البينة بذلك سقطت نفقتها في مدة النشوز وإن لم يمكنه إقامة البينة وادعى عدم تمكينها له من الوطء وادعت أنها مكنته فالقول قوله لأن الأصل عدم التمكين وهذا غير دعواه النشوز فإن النشوز هو العصيان والأصل عدمه وهذا إنكار لاستيفاء حقه والأصل عدمه فتأمله
فإن كان له منها ولد لم يمكنه هذا الإنكار ومتى أحس بالشر والمكر احتال بأن يخبىء شاهدي عدل بحيث يسمعان كلامها ولا تراهما ثم يدفع إليها مالا أو ما ترضى به ويتلطف بها ثم يقول : أريد أن يجعل كل منا صاحبه في حل حتى تطيب أنفسنا ولعل الموت يأتي بغتة ونحو ذلك من الكلام
وإن أمكنه أن يستنطقها بأنها لا تستحق عليه إلى ذلك الوقت نفقة ولا كسوة وأنه (59/68)
يرضيها من الآن ويدفع إليها ما ترضى به كان أقوى ثم يأخذ خط الشاهدين بذلك ويكتمه منها فإن أعجله الأمر عن ذلك وأمكنه المبادرة برفعها إلى حاكم مالكي أو حنفي بادر إلى ذلك
وبالجملة : فالحازم من يستعد لحيلهن ويعد لها حيلا يتخلص بها منها وهذا لا بأس به ولا إثم فيه ولا في تعليمه فإن فيه تخليص المظلوم وإغاثة الملهوف وإخزاء الظالم المعتدي والله الموفق للصواب وإنما أطلنا الكلام في هذا المثال لشدة حاجة الناس إلى ذلك ولعموم البلوى وكثرة الفجور وانتشار الضرر بتمكين المرأة من هذه الدعوى وسماعها وجعل القول قولها وفي ذلك كفاية وإلا فهي تحتمل أكثر من ذلك
فصل والمقصود بهذه الأمثلة وأضعافها مما لم نذكره : أن الله سبحانه
أغنانا بما شرعه لنا من الحنيفية السمحة وما يسره من الدين على لسان رسولهAوسهله للأمة عن الدخول في الآصار والأغلال وعن ارتكاب طرق المكر والخداع والاحتيال كما
أغنانا عن كل باطل ومحرم وضار بما هو أنفع لنا منه : من الحق والمباح النافع فأغنانا بأعياد الإسلام عن أعياد الكفار والمشركين من أهل الكتاب والمجوس والصابئين وعبدة الأصنام
وأغنانا بوجوه التجارات والمكاسب الحلال عن الربا والميسر والقمار
وأغنانا بنكاح ما طاب لنا من النساء مثنى وثلاث ورباع والتسري بما شئنا من الإماء عن الزنا والفواحش
وأغنانا بأنواع الأشربة اللذيذة النافعة للقلب والبدن عن الأشربة الخبيثة المسكرة المذهبة للعقل والدين وأغنانا بأنواع الملابس الفاخرة : من الكتان والقطن والصوف عن الملابس (59/69)
المحرمة : من الحرير والذهب
وأغنانا عن سماع الأبيات وقرآن الشيطان بسماع الآيات وكلام الرحمن
وأغنانا عن الاستقسام بالأزلام طلبا لما هو خير وأنفع لنا باستخارته التي هي توحيد وتفويض واستعانة وتوكل وأغنانا عن طلب التنافس في الدنيا وعاجلها بما أحبه لنا وندبنا إليه من التنافس في الآخرة وما أعد لنا فيها وأباح الحسد في ذلك وأغنانا به عن الحسد على الدنيا وشهواتها
وأغنانا بالفرح بفضله ورحمته وهما القرآن والإيمان عن الفرح بما يجعله أهل الدSETنيا من المتاع والعقار والأثمان فقال تعالى : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون وأغنانا بالتكبر على أعداء الله تعالى وإظهار الفخر والخيلاء لهم عن التكبر على أولياء الله تعالى والفخر والخيلاء عليهم فقالAلمن رآه يتبختر بين الصفين : إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن
وأغنانا بالفروسية الإيمانية والشجاعة الإسلامية التي تأثيرها في الغضب على أعدائه ونصرة دينه عن الفروسية الشيطانية التي يبعث عليها الهوى وحمية الجاهلية (59/70)
وأغنانا بالخلوة الشرعية حال الاعتكاف عن الخلوة البدعية التي يترك لها الحج والجهاد والجمعة والجماعة
وكذلك أغنانا بالطرق الشرعية عن طرق أهل المكر والاحتيال
فلا تشتد حاجة الأمة إلى شيء إلا وفيما جاء به الرسولA ما يقتضي إباحته وتوسعته بحيث لا يحوجهم فيه إلى مكر واحتيال ولا يلزمهم الآصار والأغلال فلا هذا من دينه ولا هذا
كما أغنانا بالبراهين والآيات التي أرشد إليها القرآن عن الطرق المتكلفة المتعسفة المعقدة التي باطلها أضعاف حقها : من الطرق الكلامية التي الصحيح منها كلحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل ونحن نعلم علما لا نشك فيه أن الحيل التي تتضمن تحليل ما حرمه الله تعالى وإسقاط ما أوجبه لو كانت جائزة لسنها الله سبحانه وندب إليها لما فيها من التوسعة والفرج للمكروب والإغاثة للملهوف كما ندب إلى الإصلاح بين الخصمين
وقد قال المبعوث بالحنيفية السمحةA ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا تركت من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك
فهلا ندب النبيAإلى الحيل وحض عليها كما حض على إصلاح ذات البين بل لم يزل يحذر من الخداع والمكر والنفاق ومشابهة أهل الكتاب باستحلال محارمه بأدنى الحيل ولو كان مقصود الشارع إباحة تلك المحرمات التي رتب عليها أنواع الذم والعقوبات وسد الذرائع الموصلة إليها لم يحرمها ابتداء ولا رتب عليها العقوبة ولا سد الذرائع إليها ولكان ترك أبوابها مفتحة أسهل من المبالغة في غلقها وسدها ثم يفتح لها أنواع الحيل حتى ينقب المحتال عليها من كل ناحية فهذا مما تصان عنه الشرائع فضلا عن أكملها شريعة وأفضلها دينا (59/71)
وقد قدمنا أن الضرر والمفاسد الحاصلة من تلك المحرمات لا يزول بالاحتيال والتنقيب عليها بل تقوى وتشتد مفاسدها
فصل إذا عرف هذا فالطرق التي تتضمن نفع المسلمين والذب عن الدين ونصر
المظلومين وإغاثة الملهوفين ومعارضة المحتالين بالباطل ليدحضوا به الحق من أنفع الطرق وأجلها علما وعملا وتعليما
فيجوز للرجل أن يظهر قولا أو فعلا مقصوده به مقصود صالح وإن ظن الناس أنه قصد به غير ما قصد به إذا كان فيه مصلحة دينية مثل دفع ظلم عن نفسه أو عن مسلم أو معاهد أو نصرة حق أو إبطال باطل من حيلة محرمة أو غيرها أو دفع الكفار عن المسلمين أو التوصل إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله
فكل هذه طرق جائزة أو مستحبة أو واجبة
وإنما المحرم : أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعت له فيصير مخادعا لله فهذا مخادع لله ورسوله وذلك مخادع للكفار والفجار والظلمة وأرباب المكر والاحتيال فبين هذا الخداع وذاك الخداع من الفرق كما بين البر والإثم والعدل والظلم والطاعة والمعصية فأين من قصده إظهار دين الله تعالى ونصر المظلوم وكسر الظالم إلى من قصده ضد ذلك
إذا عرف هذا فنقول : الحيل أقسام
أحدها : الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى ما هو محرم في نفسه فمتى كان المقصود بها محرما في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين وصاحبها فاجر ظالم آثم
وذلك كالتحيل على هلاك النفوس وأخذ الأموال المعصومة وفساد ذات البين وحيل الشياطين على إغواء بني آدم وحيل المخادعين بالباطل على إدحاض الحق وإظهار الباطل في الخصومات الدينية والدنيوية فكل ما هو محرم في نفسه فالتوصل إليه محرم بالطرق الظاهرة والخفية بل التوصل إليه بالطرق الخفية أعظم إثما وأكبر عقوبة فإن (59/72)
أذى المخادع وشره يصل إلى المظلوم من حيث لا يشعر ولا يمكنه الاحتراز عنه ولهذا قطع السارق دون المنتهب والمختلس ومن هذا : رأى مالك ومن وافقه : أن القاتل غيلة يقتل وإن قتل من لا يكافئه لمفسدة فعله وعدم إمكان التحرز منه ومن هذا : رأى عبدالله بن الزبير : قطع يد الزغلي لعظم ضرره على الأموال وعدم إمكان التحرز منه فهو أولى بالقطع من السارق وقوله قوي جدا
ومن هذا رأى الإمام أحمد قطع يد جاحد العارية لأنه لا يمكن الاحتراز منه بخلاف جاحد الوديعة فإنه هو الذي إئتمنه والعمدة في ذلك على السنة الصحيحة التي لا معارض لها
والقصد : أن التوصل إلى الحرام حرام سواء توصل إليه بحيلة خفية أو بأمر ظاهر
وهذا النوع من الحيل ينقسم قسمين :
أحدهما : ما يظهر فيه أن مقصود صاحبه الشر والظلم كحيل اللصوص والظلمة والخونة والثاني : ما لا يظهر ذلك فيه بل يظهر المحتال أن قصده الخير ومقصوده الظلم والبغي مثل إقرار المريض لوارث لا شيء له عنده قصدا لتخصيصه بالمقر به أو إقراره بوارث وهو غير وارث إضرارا بالورثة وهذا حرام باتفاق الأمة وتعليمه لمن يفعله حرام والشهادة عليه حرام إذا علم الشاهد صورة الحال والحكم بموجب ذلك حكم باطل حرام يأثم به الحاكم باتفاق المسلمين إذا علم صورة الحال فهذه الحيلة في نفسها محرمة لأنها كذب وزور والمقصود بها محرم لكونه ظلما وعدوانا
ولكن لما أمكن أن يكون صدقا اختلف العلماء في إقرار المريض لوارث هل هو باطل سدا للذريعة وردا للإقرار الذي صادف حق الورثة فيما هو متهم فيه لأنه شهادة على نفسه فيما تعلق به حقهم فيرد للتهمة كالشهادة على غيره أو هو مقبول إحسانا للظن بالمقر ولا سيما عند الخاتمة ومن هذا الباب : احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج مع إمساكه بالمعروف بإنكارها الإذن للولي أو إساءة عشرة الزوج ونحو ذلك (59/73)
و
احتيال البائع على فسخ البيع بدعواه أنه كان محجورا عليه
واحتيال المشتري على الفسخ بأنه لم ير المبيع
واحتيال المؤجر على المستأجر في فسخ الإجارة أو احتيال المستأجر عليه بأنه استأجر ما لم يره
واحتيال الراهن على المرتهن في فسخ الرهن بأن يظهر أنه آجره قبل الرهن أو كان رهنه عند زوجته أو أمته ونحو ذلك فهذا النوع لا يستريب أحد أنه من كبائر الإثم وهو من أقبح المحرمات وهو بمنزلة لحم خنزير ميت حرام وأنه في نفسه معصية لتضمنه الكذب والزور ومن جهة تضمنه إبطال الحق وإثبات الباطل
القسم الثالث : ما هو مباح في نفسه لكن بقصد المحرم صار حراما كالسفر لقطع الطريق ونحو ذلك فههنا المقصود حرام والوسيلة في نفسها غير محرمة لكن لما توسل بها إلى الحرام صارت حراما
القسم الرابع : أن يقصد بالحيلة أخذ حق أو دفع باطل لكن تكون الطريق إلى حصول ذلك محرمة مثل أن يكون له على رجل حق فيجحده فيقيم شاهدين لا يعرفان غريمه ولم يرياه يشهدان له بما ادعاه فهذا محرم أيضا وهو عندالله تعالى عظيم لأن الشاهدين يشهدان بالزور وشهادة الزور من الكبائر وقد حملهما على ذلك
وكذلك لو كان له عند رجل دين فجحده إياه وله عنده وديعة فجحد الوديعة وحلف أنه لم يودعه أو كان له على رجل دين لا بينة له به ودين آخر به بينة لكنه اقتضاه منه فيدعي هذا الدين ويقيم به بينة وينكر الاستيفاء
أو يكون قد اشترى منه شيئا فظهر به عيب تلف المبيع به فادعى عليه بثمنه فأنكر أصل العقد وأنه لم يشتر منه شيئا أو تزوج امرأة فأنفق عليها مدة طويلة فادعت عليه أنه لم ينفق عليها شيئا فجحد نكاحها بالكلية
فهذا حرام أيضا لأنه كذب ولا سيما إن حلف عليه ولكن لو تأول في يمينه لم يكن به بأس فإنه مظلوم (59/74)
فإن قيل : فما تقولون لو عامله معاملة ربا فقبض رأس ماله ثم ادعى عليه بالزيادة المحرمة هل يسوغ له أن ينكر المعاملة أو يحلف عليها
قيل : يسوغ له الحلف على عدم استحقاقها وأن دعواها دعوى باطلة فلو لم يقبل منه الحاكم هذا الجواب ساغ له التأويل في اليمين لأنه مظلوم ولا يسوغ له الإنكار والحلف من غير تأويل لأنه كذب صريح فليس له أن يقابل الفجور بمثله
كما أنه ليس له أن يكذب على من كذب عليه أو يقذف من قذفه أو يفجر بزوجة من فجر بزوجته أو بابن من فجر بابنه
فإن قيل : فما تقولون في مسألة الظفر هل هي من هذا الباب أو من القصاص المباح قيل : قد اختلف الفقهاء فيها على خمسة أقوال
أحدها : أنها من هذا الباب وأنه ليس له أن يخون من خانه ولا يجحد من جحده ولا يغصب من غصبه وهذا ظاهر مذهب أحمد ومالك
والثاني : يجوز له أن يستوفي قدر حقه إذا ظفر بجنسه أو غير جنسه وفي غير الجنس يدفعه إلى الحاكم يبيعه ويستوفي ثمنه منه وهذا قول أصحاب الشافعي
والثالث : يجوز له أن يستوفي قدر حقه إذا ظفر بجنس ماله وليس له أن يأخذ من غير الجنس وهذا قول أصحاب أبي حنيفة
والرابع : أنه إن كان عليه دين لغيره لم يكن له الأخذ وإن لم يكن عليه دين فله الأخذ وهذا إحدى الروايتين عن مالك والخامس : أنه إن كان سبب الحق ظاهرا كالنكاح والقرابة وحق الضيف جاز للمستحق الأخذ بقدر حقه كما أذن فيه النبيA لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها ويكفي بنيها وكما أذن لمن نزل بقوم ولم يضيفوه أن يعقبهم (59/75)
في مالهم بمثل قراه كما في الصحيحين عن عقبة ابن عامر قال : قلت للنبيA إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى فقال لنا : إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم وفي المسند من حديث المقدام أبي كريمة أنه سمع النبيAيقول من نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه
وفي المسند لأحمد أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللهA أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محروما فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه وإن كان سبب الحق خفيا بحيث يتهم بالأخذ وينسب إلى الخيانة ظاهرا لم يكن له (59/76)
الأخذ وتعريض نفسه للتهمة والخيانة وإن كان في الباطن آخذا حقه كما أنه ليس له أن يتعرض للتهمة التي تسلط الناس على عرضه وإن ادعى أنه محق غير متهم وهذا القول أصح الأقوال وأسدها وأوفقها لقواعد الشريعة وأصولها وبه تجتمع الأحاديث فإنه قد روى أبو داود في سننه من حديث يوسف بن ماهك قال : كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم فغالطوه بألف درهم فأداها إليهم فأدركت له من أموالهم مثلها فقلت : اقبض الألف الذي ذهبوا به منك قال : لا حدثني أبي أنه سمع رسول اللهAيقول : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك
وهذا وإن كان في حكم المنقطع فإن له شاهدا من وجه آخر وهو حديث طلق بن غنام : أخبرنا شريك وقيس عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وقيس هو ابن الربيع وشريك ثقة وقد قوي حديثه بمتابعة قيس له وإن كان فيه ضعف
وله شاهد آخر من حديث أيوب بن سويد عن ابن شوذب عن أبي التياح عن أنس رضي الله عنه عن النبيAنحوه وأيوب بن سويد وإن كان فيه ضعف فحديثه يصلح للاستشهاد به وله شاهد آخر وإن كان فيه ضعف فهو يقوى بانضمام هذه الأحاديث إليه رواه يحيى بن أيوب عن إسحاق بن أسيد عن أبي حفص الدمشقي عن مكحول : أن رجلا قال لأبي أمامة الباهلي الرجل أستودعه الوديعة أو يكون لي عليه دين فيجحدني ثم يستودعني أو يكون له عندي الشيء أفأجحده فقال : لا سمعت رسول اللهAيقول : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وله شاهد آخر مرسل قال يحيى بن أيوب : عن ابن جريج عن الحسن عن النبيA أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وله شاهد آخر وهو ما رواه الترمذي من حديث مالك بن نضلة قال : قلت يا رسول الله (59/77)
الرجل أمر به فلا يقريني ولا يضيفني فيمر بي أفأجزيه قال : لا أقره قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح
وله شاهد آخر وهو ما رواه أبو داود من حديث بشر بن الخصاصية قال : قلت : يا رسول الله إن أهل الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا فقال : لا
وله شاهد آخر من حديث بشر هذا أيضا قلت : يا رسول الله إن لنا جيرانا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه فقال : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ذكره شيخنا في كتاب إبطال التحليل
فهذه الآثار مع تعدد طرقها واختلاف مخارجها يشد بعضها بعضا ولا يشبه الأخذ فيها الأخذ في الموضعين اللذين أباح رسول اللهAفيهما الأخذ لظهور سبب الحق فلا ينسب الآخذ إلى الخيانة ولا يتطرق إليه تهمة ولتعسر الشكوى في ذلك إلى الحاكم وإثبات الحق والمطالبة به
والذين جوزوه يقولون : إذا أخذ قدر حقه من غير زيادة لم يكن ذلك خيانة فإن الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه وهذا ضعيف جدا فإنه يبطل فائدة الحديث فإنه قال : ولا تخن من خانك فجعل مقابلته له خيانة ونهاه عنها فالحديث نص بعد صحته
فإن قيل : فهلا جعلتموه مستوفيا لحقه بنفسه إذ عجز عن استيفائه بالحاكم كالمغصوب ماله إذا رآه في يد الغاصب وقدر على أخذه منه قهرا فهل تقولون : إنه لا يحل له أخذ عين ماله وهو يشاهده في يد الظالم المعتدي ولا يحل له إخراجه من داره وأرضه
وكذلك إذا غصب زوجته وحال بينه وبينها وعقد عليها ظاهرا بحيث لا يتهم فهل يحرم على الزوج الأول انتزاع زوجته منه خشية التهمة وهذا لا تقولونه أنتم ولا أحد من أهل العلم
ولهذا قال الشافعي وقد ذكر حديث هند : وإذ قد دلت السنة وإجماع كثير من أهل العلم على أن يأخذ الرجل حقه لنفسه سرا فقد دل أن ذلك ليس بخيانة إذ الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه (59/78)
فالجواب : أنا نقول يجوز له أن يستوفي قدر حقه لكن بطريق مباح فأما بخيانة وطريق محرمة فلا
وقولكم : ليس ذلك بخيانة قلنا : بل هو خيانة حقيقة ولغة وشرعا وقد سماه رسول اللهAخيانة وغايتها أنها خيانة مقابلة ومقاصة لا خيانة ابتداء فيكون كل واحد منهما مسيئا إلى الآخر ظالما له فإن تساوت الخيانتان قدرا وصفة فقد يتساقط إثمهما والمطالبة في الآخرة أو يكون لكل منهما على الآخر مثل ما للآخر عليه وإن بقي لأحدهما فضل رجع به فهذا في أحكام الثواب والعقاب
وأما في أحكام الدنيا فليس كذلك لأن الأحكام فيها مرتبة على الظواهر وأما السرائر فإلى الله ولهذا قال النبيA إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر أقضي بنحو مما أسمع ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فأخبرAأنه يحكم بينهم بالظاهر وأعلم المبطل في نفس الأمر أن حكمه لا يحل له أخذ ما يحكم له به وأنه مع حكمه له به فإنما يقطع له قطعة من النار فإذا كان الحق مع هذا الخصم في الظاهر وجب على الحاكم أن يحكم له به ويقره بيده وإن كانت يدا عادية ظالمة عند الله تعالى فكيف يسوغ لخصمه أن يحكم لنفسه ويستوفي لنفسه بطريق محرمة باطلة لا يحكم بمثلها الحاكم وإن كان محقزا في نفس الأمر وليس هذا بمنزلة من رأى عين ماله أو أمته أو زوجته بيد غاصب ظالم فخلصها منه قهرا فإنه قد تعين حقه في هذه العين بخلاف صاحب الدين فإن حقه لم يتعين في تلك العين التي يريد أن يستوفي منها ولأنه لا يتكتم بذلك ولا يستخفي به كما يفعل الخائن بل يكابر صاحب اليد العادية ويغالبه ويستعين عليه بالناس فلا ينسب إلى خيانة والأول متكتم مستخف متصور بصورة خائن وسارق فإلحاق أحدهما بالآخر باطل والله أعلم (59/79)
فصل القسم الخامس من الحيل : أن يقصد حل ما حرمه الشارع
أو سقوط ما أوجبه بأن يأتي بسبب نصبه الشارع سببا إلى أمر مباح مقصود فيجعله المحتال المخادع سببا إلى أمر محرم مقصود اجتنابه
فهذه هي الحيل المحرمة التي ذمها السلف وحرموا فعلها وتعليمها
وهذا حرام من جهتين : من جهة غايته ومن جهة سببه
أما غايته : فإن المقصود به إباحة ما حرمه الله ورسوله وإسقاط ما أوجبه
وأما من جهة سببه : فإنه اتخذ آيات الله هزوا وقصد بالسبب ما لم يشرع لأجله ولا قصده به الشارع بل قصد ضده فقد ضاد الشارع في الغاية والحكمة والسبب جميعا وقد يكون أصحاب القسم الأول من الحيل أحسن حالا من كثير من أصحاب هذا القسم فإنهم يقولون : إن ما نفعله حرام وإثم ومعصية ونحن أصحاب تحيل بالباطل عصاة لله ولرسوله مخالفون لدينه وكثير من هؤلاء يجعلون هذا القسم من الدين الذي جاءت به الشريعة وأن الشارع جوز لهم التحيل بالطرق المتنوعة على إباحة ما حرمه وإسقاط ما أوجبه فأين حال هؤلاء من حال أولئك ثم إن هذا النوع من الحيل يتضمن نسبة الشارع إلى العبث وشرع ما لا فائدة فيه إلا زيادة الكلفة والعناء فإن حقيقة الأمر عند أرباب الحيل الباطلة : أن تصير العقود الشرعية عبثا لا فائدة فيها فإنها لم يقصد بها المحتال مقاصدها التي شرعت لها بل لأغراض له في مقاصدها وحقائقها البتة وإنما غرضه التوصل بها إلى ما هو ممنوع منه فجعلها سترة وجنة يتستر بها من ارتكاب ما نهي عنه صرفا فأخرجه في قالب الشرع كما أخرجت الجهمية التعطيل في قالب التنزيه
وأخرج المنافقون النفاق في قالب الإحسان والتوفيق والعقل المعيشي (59/80)
وأخرج الظلمة الفجرة الظلم والعدوان في قالب السياسة وعقوبة الجناة وأخرج المكاسون أكل المكوس في قالب إعانة المجاهدين وسد الثغور وعمارة الحصون وأخرج الروافض الإلحاد والكفر والقدح في سادات الصحابة وحزب رسول اللهA وأوليائه وأنصاره في قالب محبة أهل البيت والتعصب لهم وموالاتهم
وأخرجت الإباحية وفسقة المنتسبين إلى الفقر والتصوف بدعهم وشطحهم في قالب الفقر والزهد والأحوال والمعارف ومحبة الله ونحو ذلك وأخرجت الإتحادية أعظم الكفر والإلحاد في قالب التوحيد وأن الوجود واحد لا اثنان وهو الله وحده فليس ههنا وجودان : خالق ومخلوق ولا رب وعبد بل الوجود كله واحد وهو حقيقة الرب
وأخرجت القدرية إنكار عموم قدرة الله تعالى على جميع الموجودات : أفعالها وأعيانها في قالب العدل وقالوا : لو كان الرب قادرا على أفعال عباده لزم أن يكون ظالما لهم فأخرجوا تكذيبهم بالقدر في قالب العدل
وأخرجت الجهمية جحدهم لصفات كماله سبحانه في قالب التوحيد وقالوا : لو كان له سبحانه سمع وبصر وقدرة وحياة وإرادة وكلام يقوم به لم يكن واحدا وكان آلهة متعددة
وأخرجت الفسقة والذين يتبعون الشهوات الفسوق والعصيان في قالب الرجاء وحسن الظنع بالله تعالى وعدم إساءة الظن بعفوه وقالوا : تجنب المعاصي والشهوات إزراء بعفو الله تعالى وإساءة للظن به ونسبة له إلى خلاف الجود والكرم والعفو
وأخرجت الخوارج قتال الأئمة والخروج عليهم بالسيف في قالب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأخرج أرباب البدع جميعهم بدعهم في قوالب متنوعة بحسب تلك البدع (59/81)
وأخرج المشركون شركهم في قالب التعظيم لله وأنه أجل من أن يتقرب إليه بغير وسائط وشفعاء وآلهة تقربهم إليه
فكل صاحب باطل لا يتمكن من ترويج باطله إلا بإخراجه في قالب حق
والمقصود : أن أهل المكر والحيل المحرمة يخرجون الباطل في القوالب الشرعية ويأتون بصور العقود دون حقائقها ومقاصدها
فصل وهذا القسم من أقسام الحيل أنواع : أحدها : الاحتيال لحل
ما هو حرام في الحال كالحيل الربوية وحيلة التحليل
الثاني : الاحتيال على حل ما انعقد سبب تحريمه فهو صائر إلى التحريم ولا بد كما إذا علق طلاقها بشرط محقق تعليقا يقع به ثم أراد منع وقوع الطلاق عند الشرط فخالعها خلع الحيلة حتى بانت ثم تزوجها بعد ذلك
الثالث : الاحتيال على إسقاط ما هو واجب في الحال كالاحتيال على إسقاط الإنفاق الواجب عليه وأداء الدين الواجب بأن يملك ماله لزوجته أو ولده فيصير معسرا فلا يجب عليه الإنفاق والأداء وكمن يدخل عليه رمضان ولا يريد صومه فيسافر ولا غرض له سوى الفطر ونحو ذلك
الرابع : الاحتيال على إسقاط ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب لكنه صائر إلى الوجوب فيحتال حتى يمنع الوجوب كالاحتيال على إسقاط الزكاة بتمليكه ماله قبل مضيالحول لبعض أهله ثم استرجاعه بعد ذلك وهذا النوع ضربان : أحدهما إسقاط حق الله تعالى بعد وجوبه أو انعقاد سببه والثاني : إسقاط حق المسلم بعد وجوبه أو انعقاد سببه كالاحتيال على إسقاط الشفعة التي شرعت دفعا للضرر عن الشريك قبل وجوبها أو بعده
الخامس : الاحتيال على أخذ حقه أو بعضه أو بدله بخيانة كما تقدم وله صور كثيرة (59/82)
منها : أن يجحده دينه كما جحده
ومنها : أن يخونه في وديعته كما خانه
ومنها : أن يغشه في بيع معيب كما غشه هو في بيع معيب
ومنها : أن يسرق ماله كما سرق ماله
ومنها : أن يستعمله بأجرة دون أجرة مثله ظلما وعدوانا أو غرورا وخداعا أو غبنا فيقدر المستأجر له على مال فيأخذ تمام أجرته
وهذا النوع يستعمله كثير من أرباب الديوان ونظار الوقوف والعمال وجباه الفيء والخراج والجزية والصدقة وأمثالهم فإن كان المال مشتركا بين المسلمين رتعوا وربعوا ورأى أحدهم أن من الغبن أن يفوته شيء منه ويرى إن عدل أن له نصف ذلك المال ويسعى في السدس تكملة للثلثين كما قيل في بعضهم :
له نصف بيت المال فرض مقرر ... وفي سدس التكميل يسعى ليخلصا من القوم لا تثنيهم عن مرادهم ... عقوبة سلطان بسوط ولا عصا
فصل وقد عرف بما ذكرنا الفرق بين الحيل التي تخلص من الظلم والبغي
والعدوان والحيل التي يحتال بها على إباحة الحرام وإسقاط الواجبات وإن جمعهما اسم الحيلة والوسيلة وعرف بذلك أن العينة لا تخلص من الحرام وإنما يتوسل بها إليه وهو المقصود الذي اتفقا عليه ويعلمه الله تعالى من نفوسهما وهما يعلمانه ومن شاهدهما يعلمه وكذلك تمليك ما له لولده عند قرب الحول فرارا من الزكاة لا يخلص من الإثم بل يغمسه فيه لأنه قصد إلى إسقاط فرض قد انعقد سببه ولكن عذر من جوز ذلك أنه لم يسقط الواجب وإنما أسقط الوجوب وفرق بين الأمرين فإن له أن يمنع الوجوب وليس له أن يمنع الواجب
وهكذا القول في التحيل على إسقاط الشفعة قبل البيع فإنه يمنع وجوب الاستحقاق (59/83)
ولا يمنع الحق الذي وجب بالبيع فذلك لا يجوز وهو نظير منع الزكاة بعد وجوبها فذلك لا يجوز بحيلة ولا غيرها
وكذلك التحيل على منع وجوب الجمعة عليه بأن يسكن في مكان لا يبلغه النداء أو لا يمكنه الذهاب منه إلى الجمعة والرجوع في يومه أو السفر قبل دخول وقتها ولا يجوز له التحيل على تركها بعد وجوبها عليه
وكذلك التحيل على منع وجوب الإنفاق على القريب بأن لا يكتسب مالا يجب فيه الإنفاق ولا يجوز له التحيل على إسقاط ما وجب من ذلك فهذا سر الفرق الذي اعتمده أصحاب الحيل وأما المانعون فيجيبون عن ذلك :
بأن هذا لو أجدى على المتحيلين لم يعاقب الله سبحانه تعالى أصحاب الجنة الذين عزموا على صرامها ليلا لئلا يحضرهم المساكين فهؤلاء قصدوا دفع الوجوب بعد انعقاد سببه وهو نظير التحيل لإسقاط الزكاة بعد ثبوت سببها
وبأن هذا يبطل حكمة الإيجاب فإن الله سبحانه إنما أوجبها في أموال الأغنياء طهرة لهم وزكاة ورحمة للمساكين وسدا لفاقتهم فالتحيل على منع وجوبها يعود على ذلك كله بالإبطال
وبأن الشارع لو جوز التحيل على منع الإيجاب بعد انعقاد سببه لم يكن في الإيجاب فائدة إذ ما من أحد إلا ويمكنه التحيل بأدنى حيلة على الدفع فيكون الإيجاب عديم الفائدة فإنه إذا أوجبه وجوز إسقاطه بعد انعقاد سبب الإيجاب عاد ذلك بنقض ما قصده
وبأنه إذا انعقد سبب الوجوب فقد تعلق الوجوب بالمكلف فلا يمكنه الشارع من قطع هذا التعليق ولا سيما إذا شارف وقت الوجوب وحضر حتى كأنه داخل فيه كما إذا بقي من الحول يوم أو ساعة فالإسقاط ههنا في حكم الإسقاط بعد الحول سواء ومفسدته كمفسدته فإن المصلحة الفائتة بالمنع بعد تلك الساعة كالمفسدة الحاصلة بالتسبب إلى المنع قبلها من كل وجه (59/84)
وبأن الحكم بعد انعقاد سببه كالثابت الذي قد صح ووجد
وبأن الوجوب قد تحقق بانعقاد سببه وإنما جوز له التأخير إلى تمام الحول توسعة عليه ولهذا يجوز له أداء الواجب قبل الحول ويكون واقعا موقعه ولأن الفرار من الإيجاب إنما يقصد به الفرار من أداء الواجب وأن يسقط ما فرضه الله عليه عند مضي الحول وليس هذا كمن ترك اكتساب المال الذي يجب فيه الزكاة فرارا من وجوبها عليه أو ترك بيع الشقص فرارا من أخذ الشفيع له أو ترك التزوج فرارا من وجوب الإنفاق ونحو ذلك فإن هذا لم ينعقد في حقه السبب بل ترك ما يفضي إلى الإيجاب ولم يتسبب إليه وهذا تحيل بعد السبب على إسقاط ما تعلق به من أداء الواجب واحتال على قطع سببيته بعد ثبوتها
وأيضا فإن قطع سببية السبب تغيير لحكم الله وإسقاط للسببية بالتحيل وليس ذلك للمكلف فإن الله سبحانه هو الذي جعل هذا سببا بحكمه وحكمته فليس له أن يبطل هذا الجعل بالحيلة والمخادعة وهذا بخلاف ما إذا وهبه ظاهرا وباطنا أو أنفقه فإنه لم يحتل بإظهار أمر وإبطان خلافه على منع الإيجاب وأداء الواجب
وأيضا فإنه إذا احتال على منع الإيجاب تضمن ذلك الحيلة على منع أداء الواجب ومعلوم أن منعه أداء الواجب فقط أيسر من تحيله على الأمرين جميعا
وأيضا فإنه لا يصح فراره من الوجوب مع إتيانه بسببه فإن الفار من الشيء فار من أسبابه وهذا أحرص شيء على الملك الذي هو سبب وجوب الحق عليه ومن حرصه عليه : تحيل على ترك الإخراج حرصا وشحا فهو فار من أداء الواجب ظانا أنه يفر من وجوبه عليه والأول حاصل له دون الثاني
ونكتة الفرق من جهة الوسيلة والمقصود فإن المحتال على المحرمات وإسقاط الواجبات مقصوده فاسد ووسيلته باطلة فإنه توسل بالشيء إلى غير مقصوده وتوسل به إلى مقصود محرم فإن الله سبحانه إنما جعل النكاح وسيلة إلى المودة والرحمة والمصاهرة والنسل وغض (59/85)
البصر وحفظ الفرج والتمتع والإيواء وغير ذلك من مقاصد النكاح والمحلل لم يتوسل به إلى شيء من ذلك بل إلى تحليل ما حرمه الله تعالى فإنه سبحانه حرمها على المطلق ثلاثا عقوبة له فتوسل هذا بنكاحها إلى تحليل ما حرمه الله تعالى له ولم يتوسل به إلى ما شرع له فكان القصد محرما والوسيلة باطلة
وكذلك شرع الله البيع وسيلة إلى انتفاع المشتري بالعين والبائع بالثمن فتوسل به المرابي إلى محض الربا وأتى به لغير مقصوده فإنه لا غرض له في تملك تلك العين ولا الانتفاع بها وإنما غرضه الربا فتوسل إليه بالبيع
وكذلك شرع سبحانه الأخذ بالشفعة دفعا للضرر عن الشريك فتوسل المبطل لها بإظهار الصرف الذي لا حقيقة له إلى إبطالها فكانت وسيلته باطلة ومقصوده محرما وكذلك الزكاة فرضها رحمة منه بالمساكين وطهرة للأغنياء فتوسل المسقط لها إلى إبطال هذا المقصود بإظهار عقد لا حقيقة له من بيع أو هبة وكذلك القرض شرع الله سبحانه فيه العدل وأن لا يزداد على مثل ما أقرض فإذا احتال المقرض على الزيادة فقد احتال على مقصود محرم بطريق باطلة
وكذلك بيع الثمر قبل بدو صلاحها باطل لما يفضي إليه من أكل المال بالباطل فإذا احتال عليه بأن شرط القطع ثم تركه حتى يكمل كان قد احتال على مقصود محرم بشرط غير مقصود بل قد علم المتعاقدان وغيرهما أنه لا يقطعه ولا سيما إن كان مما لا ينتفع به قبل الصلاح بوجه كالتوت والفرسك وغيرهما فاشتراط قطعه خداع محض
وكذلك سائر الحيل التي تعود على مقصود الشارع وشرعه بالنقض والإبطال غاياتها محرمة ووسائلها باطلة لا حقيقة لها
وكذلك الفدية والخلع التي شرعها الله يخلص كلا من الزوجين من الآخر إذا وقع الشقاق بينهما فجعلوه حيلة للحنث في اليمين وبقاء النكاح والله سبحانه إنما شرعه لقطع النكاح حيث يكون قطعه مصلحة لهما
وبهذا يتبين لك الفرق بين الحيل التي يتوصل بها إلى تنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله وإقامة (59/86)
دينه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصر المحق وكسر المبطل والحيل التي يتوصل بها إلى خلاف ذلك فتحصيل المقاصد المشروعة بالطرق التي جعلت موصلة إليها شيء وتحصيل المقاصد الفاسدة بالطرق التي جعلت لغيرها شيء آخر
فالفرق بين النوعين ثابت من جهة الوسيلة والمقصود اللذين هما : المحتال به والمحتال عليه
فالطرق الموصلة إلى الحلال المشروع هي الطرق التي لا خداع في وسائلها ولا تحريم في مقاصدها وبالله التوفيق
فصل وأما قولكم : إن من حلف بطلاق زوجته : ليشربن هذا الخمر
أو ليقتلن هذا الرجل أو نحو ذلك كان في الحيلة تخليصه من هذه المفسدة ومن مفسدة وقوع الطلاق
فيقال : نعم والله قد شرع الله له ما يتخلص به ولخلاصه طرق عديدة فلا تتعين الحيلة التي هي خداع ومكر لتخليصه بل ههنا طرق عدة قد سلك كل طريق منها طائفة من الفقهاء من سلف الأمة وخلفها الطريق الأولى : طريقة من قال : لا تنعقد هذه اليمين بحال ولا يحنث فيها بشيء سواء كانت بصيغة الحلف كقوله الطلاق يلزمني لأفعلن أو بصيغة التعليق المقصود كقوله إن طلعت الشمس أو إن حضت أو إن جاء رأس الشهر فأنت طالق أو التعليق المقصود به اليمين من الحض والمنع والتصديق والتكذيب كقوله إن لم أفعل كذا وإن فعلت كذا فامرأتي طالق وهذا اختيار أجل أصحاب الشافعي الذين جالسوه أو من هو من أجلهم : أبي عبدالرحمن وهو أجل من أصحاب الوجوه المنتسبين إلى الشافعي وهذا مذهب أكثر أهل الظاهر (59/87)
فعندهم أن الطلاق لا يقبل التعليق كالنكاح ولم يرد مخالفوا هؤلاء عليهم بحجة تشفي
الطريق الثانية : طريق من يقول : لا يقع الطلاق المحلوف به ولا العتق المحلوف به ويلزمه كفارة اليمين إذا حنث فيه وهذا مذهب ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعائشة وزينب بنت أم سلمة وحفصة في الحلف بالعتق الذي هو قربة إلى الله تعالى بل من أحب القرب إلى الله ويسري في ملك الغير فما يقول هؤلاء في الحلف بالطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله تعالى وأحب الأشياء إلى الشيطان والسائل لهؤلاء الصحابة إنما كان امرأة حلفت بأن كل مملوك لها حرك إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته فقالوا لها : كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وبين امرأته (59/88)
وهؤلاء الصحابة أفقه في دين الله وأعلم من أن يفتوا بالكفارة في الحلف بالعتق ويرونه يمينا ولا يرون الحلف بالطلاق يمينا ويلزمون الحانث بوقوعه فإنه لا يجد فقيه شم رائحة العلم بين البابين والتعليقين فرقا بوجه من الوجوه
وإنما لم يأخذ به أحمد لأنه لم يصح عنده إلا من طريق سليمان التيمي واعتقد أنه تفرد به وقد تابعه عليه محمد بن عبدالله الأنصاري وأشعث الحمراني ولهذا لما ثبت عند أبي ثور قال به وظن الإجماع في الحلف بالطلاق على لزومه فلم يقل به
الطريق الثالثة : طريق من يقول : ليس الحلف بالطلاق شيئا وهذا صحيح عن طاوس وعكرمة
أما طاوس فقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه : أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئا وقد رد بعض المتعصبين لتقليدهم ومذاهبهم هذا النقل بأن عبد الرزاق ذكره في باب يمين المكره فحمله على الحلف بالطلاق مكرها وهذا فاسد فإن الحجة ليست في الترجمة وإنما الاعتبار بما يروى في أثناء الترجمة ولا سيما المتقدمين كابن أبي شيبة وعبدالرزاق ووكيع وغيرهم فإنهم يذكرون في أثناء الترجمة آثارا لا تطابق الترجمة وإن كان لها بها نوع تعلق وهذا في كتبهم لمن تأمله أكثر وأشهر من أن يخفى وهو في صحيح البخاري وغيره وفي كتب الفقهاء وسائر المصنفين ثم لو فهم عبد الرزاق هذا وأنه في يمين المكره لم تكن الحجة في فهمه بل الأخذ بروايته وأي فائدة في تخصيص الحلف بالطلاق بذلك بل كل مكره حلف بأي يمين كانت فيمينه ليست بشيء
أما عكرمة فقال سنيد بن داود في تفسيره : حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن عاصم الأحول عن عكرمة : في رجل قال لغلامه : إن لم أجلدك مائة سوط فامرأتي طالق قال : لا يجلد غلامه ولا يطلق امرأته هذا من خطوات الشيطان
فإذا ضممت هذا الأثر إلى أثر ابن طاوس عن أبيه إلى أثر ابن عباس فيمن قالت (59/89)
لمملوكها : إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي حتر إلى الآثار المستفيضة عن ابن عباس في الحلف بتحريم الزوجة : أنها يمين يكفرها تبين لك ما كان عليه ابن عباس وأصحابه في هذا الباب
فإذا ضممت ذلك إلى آثار الصحابة في الحلف بالتعليقات كالحج والصوم والصدقة والهدي والمشي إلى مكة حافيا ونحو ذلك : أنها أيمان مكفرة تبين لك حقيقة ما كان عليه الصحابة في ذلك فإذا ضممت ذلك إلى القياس الصحيح الذي يستوي فيه حكم الأصل والفرع : تبين لك توافق القياس وهذه الآثار
فإذا ارتفعت درجة أخرى ووزنت ذلك بالنصوص من القرآن والسنة تبين لك الراجح من المرجوح ومع هذا كله فلا يدان لك بمقاومة السلطان ومن يقول : حكمت وثبت عندي فالله المستعان
الطريق الرابعة : طريق من يفرق بين أن يحلف على فعل امرأته أو على فعل نفسه أو على غير الزوجة فيقول : إن قال لامرأته : إن خرجت من الدار أو كلمت رجلا أو فعلت كذا فأنت طالق فلا يقع عليه الطلاق بفعلها ذلك وإن حلف على فعل نفسه أو غير امرأته وحنث لزمه الطلاق
وهذا قول أفقه أصحاب مالك على الإطلاق وهو أشهب بن عبدالعزيز ومحله من الفقه والعلم غير خاف ومأخذ هذا : أن المرأة إذا فعلت ذلك لتطلق نفسها لم يقع به الطلاق معاقبة لها بنقيض قصدها وهذا جار على أصول مالك وأحمد ومن وافقهما في معاقبة الفار من التوريث والزكاة وقاتل مورثه والموصي له ومن دبره بنقيض قصده وهذا هو الفقه لا سيما وهو لم يرد طلاقها إنما أراد حضها أو منعها وأن لا تتعرض لما يؤذيه فكيف يكون فعلها سببا لأعظم أذاه وهو لم يتملكها ذلك بالتوكيل والخيار ولا ملكها الله إياه بالفسخ فكيف تكون الفرقة إليها إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته بمجرد حضها ومنعها وأي شيء أحسن من هذا الفقه وأطرد على قواعد الشريعة (59/90)
الطريق الخامسة : طريق من يفصل بين الحلف بصيغة الشرط والجزاء والحلف بصيغة الالتزام
فالأول : كقوله : إن فعلت كذا أو إن لم أفعله فأنت طالق
والثاني : كقوله : الطلاق يلزمني أو لي لازم أو علي الطلاق إن فعلت أو إن لم أفعل فلا يلزمه الطلاق في هذا القسم إذا حنث دون الأول
وهذا أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب الشافعي وهو المنقول عن أبي حنيفة وقدماء أصحابه ذكره صاحب الذخيرة وأبو الليث في فتاويه قال أبو الليث : ولو قال : طلاقك علي واجب أو لازم أو فرض أو ثابت فمن المتأخرين من أصحابنا من قال : يقع واحدة رجعية نواه أو لم ينوه ومنهم من قال : لا يقع وإن نوى والفارق : العرف
قال صاحب الذخيرة : وعلى هذا الخلاف : إذا قال : إن فعلت كذا فطلاقك علي واجب أو قال : لازم ففعلت وذكر القدوري في شرحه : أن على قول أبي حنيفة : لا يقع الطلاق في الكل وعند أبي يوسف : إن نوى الطلاق يقع في الكل وعن محمد : أنه يقع في قوله : لازم ولا يقع في : واجب
واختار الصدر الشهيد الوقوع في الكل وكان ظهير الدين المرغيناني يفتي بعدم الوقوع في الكل هذا كله لفظ صاحب الذخيرة
وأما الشافعية : فقال ابن يونس في شرح التنبيه : وإن قال : الطلاق والعتاق لازم لي ونواه لزمه لأنهما يقعان بالكناية مع النية وهذا اللفظ محتمل فجعل كناية وقال الروياني : الطلاق لازم لي : صريح وعد ذلك في صرائح الطلاق ولعل وجهه غلبة استعماله لإرادة الطلاق وقال القفال في فتاويه : ليس بصريح ولا كناية حتى لا يقع به الطلاق وإن نواه لأن الطلاق لابد فيه من الإضافة إلى المرأة ولم يتحقق هذا لفظه
وحكى شيخنا هذا القول عن بعض أصحاب أحمد
فقد صار الخلاف في هذا الباب في المذاهب الأربعة بنقل أصحابها في كتبهم (59/91)
ولهذا التفريق مأخذ آخر أحسن من هذا الذي ذكره الشارح وهو أن الطلاق لا يصح التزامه وإنما يلزم التطليق فإن الطلاق هو الواقع بالمرأة وهو اللازم لها وإنما الذي يلتزمه الرجل : هو التطليق فالطلاق لازم لها إذا وقع
إذا تبين هذا فالتزام التطليق لا يوجب وقوع الطلاق فإنه لو قال : إن فعلت كذا فعلي أن أطلقك أو فلله علي أن أطلقك أو فتطليقك لازم لي أو واجب علي وحنث لم يقع عليه الطلاق فهكذا إذا قال : إن فعلت كذا فالطلاق يلزمني لأنه إنما التزم التطليق لا يقع بالتزامه والموقعون يقولون : هو قد التزم حكم الطلاق وهو خروج البضع من ملكه وإنما يلزمه حكمه إذا وقع فصار هذا الالتزام مستلزما لوقوعه فقال لهم الآخرون : إنما يلزمه حكمه إذا أتى بسببه وهو التطليق فحيئنذ يلزمه حكمه وهو لم يأت بالتطليق منجزا بلا ريب وإنما أتى به معلقا له والتزام التطليق بالتنجيز لا يلزم فكيف يلزم بالتعليق والمنصف المتبصر لا يخفى عليه الصحيح وبالله التوفيق
فصل وممن ذكر الفرق بين الطلاق وبين الحلف بالطلاق : القاضي أبو
الوليد هشام بن عبدالله بن هشام الأزدي القرطبي في كتابه مفيد الحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام فقال في كتاب الطلاق من ديوانه وقد ذكر اختلاف أصحاب مالك في الأيمان اللازمة ثم قال : ولا ينبغي أن تتلقى هذه المسألة هكذا تلقيا تقليديا إلا أن يشمها نور الفهم ويوضحها لسان البرهان وأنا أشير لك إلى نكتة تسعد بالغرض فيها إن شاء الله تعالى منها : الفرق بين الطلاق إيقاعا وبين اليمين بالطلاق وفي المدونة كتابان موضوعان : أحدهما لنفس الطلاق والثاني للأيمان بالطلاق ووراء هذا الفن فقه على الجملة وذلك (59/92)
أن الطلاق صورته في الشرع : حل وارد على عقد واليمين بالطلاق عقد فليفهم هذا وإذا كان عقدا لم يحصل منه حل إلا أن تنقله من موضع العقد إلى موضع الحل نية ليخرج بها اللفظ من حقيقته إلى كنايته فقد نجمت هذه المسألة في أيام الحجاج بعد أن استقل الشرع بأصوله وفروعه وحقائقه ومجازاته في أيمان البيعة وليس في أيمان الطلاق إلا ما أذكره لك وذلك أن الطلاق على ضربين : صريح وكناية
فالصريح : كل لفظ استقل بنفسه في إثبات حكمه تحديدا
والكناية : على ضربين كناية غالبة وكناية غير غالبة
فالغالبة : كل ما أشعر بثبوت الطلاق في موضوع اللغة أو الشرع كقوله : الحقي بأهلك واعتدي
وغير الغالبة : كل ما لا يشعر بثبوت الطلاق في وضع اللغة والشرع كقوله : ناوليني الثوب وقال : أردت بذلك الطلاق
فإذا عرضنا لفظ الأيمان على صريح الطلاق لم تكن من قسمه وإن عرضناها على الكناية لم تكن من قسيمها إلا بقرينة من شاهد حال أو جارى عرف أو نية تقارن اللفظ فإن اضطرب شاهد الحال أو جاري العرف باحتمال يحتمله فقد تعذر الوقوف على النية ولا ينبغي لحاكم ولا لغيره أن يمد القلم في فتوى حتى يتأمل مثل هذه المعاني فإن الحكم إن لم يقع مستوضحا عن نور فكري مشعر بالمعنى المربوط اضمحل ثم قال : وأنا ذاكر لك ما بلغني في هذه اليمين من كلام العلماء ورأيته من أقوال
الفقهاء وهي يمين محدثة لم تقع في الصدر الأول
ثم ذكر اختلاف أهل العلم في الحلف بالأيمان اللازم والمقصود : أنه ذكر الفرق الفطري العقلي الشرعي بين إيقاع الطلاق والحلف بالطلاق وأنهما بابان مفترقان بحقائقهما ومقاصدهما وألفاظهما فيجب افتراقهما حكما أما افتراقهما بالحقيقة فما ذكره من أن الطلاق حل وفسخ واليمين عقد والتزام فهما إذن حقيقتان مختلفتان قال تعالى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان (59/93)
ثم أشار إلى الافتراق في الحكم بقوله : وإذا كانت اليمين عقدا لم يحصل بها حل إلا أن ينقل من موضع العقد إلى موضع الحل ومن البين أن الشارع لم ينقلها من العقد إلى الحل فيجب بقاؤها على ما وضعت عليه نعم لو قصد الحالف بها إيقاع الطلاق عند الحنث فقد استعملها في العقد والحل فتصير كناية في الوقوع وقد نواه فيقع به الطلاق لأن هذا العقد صالح للكناية وقد اقترنت به النية فيقع الطلاق أما إذا نوى مجرد العقد ولم ينو الطلاق البتة بل هو أكره شيء إليه فلم يأت بما ينقل اليمين من موضوعها الشرعي ولا نقلها عنه الشارع فلا يلزمه غير موجب الأيمان
فليتأمل المنصف العالم هذا الفرق ويخرج قلبه ساعة من التصعب والتقليد واتباع غير الدليل
والمقصود : أن باب اليمين وباب الإيقاع مختلفان في الحقيقة والقصد واللفظ فيجب اختلافهما في الحكم أما الحقيقة فما تقدم
وأما القصد فلأن الحالف مقصوده الحض والمنع أو التصديق أو التكذيب والمطلق مقصوده التخلص من الزوجة من غير أن يخطر بباله حض ولا منع ولا تصديق ولا تكذيب فالتسوية بينهما لا يخفى حالها
وأما اختلافهما لفظا فإن لفظ اليمين لابد فيها من التزام قسمي يأتي فيه بجواب القسم أو تعليق شرطي يقصد فيه انتفاء الشرط والجزاء أو وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط وإن كان يكرهه ويقصد انتفاءه فالمقدم في الصورة الأولى مؤخر في الثانية والمنفي في الأولى ثابت في الثانية ولفظ الإيقاع لا يتضمن شيئا من ذلك ومن تصور هذا حق التصور جزم بالحق في هذه المسألة والله الموفق
الطريقة السادسة : أن يزول المعنى الذي كانت اليمين لأجله فإذا فعل المحلوف عليه بعد ذلك لم يحنث لأن امتناعه باليمين إنما كان لعلة فيزول بزوالها وهذا مطرد على أصول الشرع وقواعد مذهب أحمد وغيره ممن يعتبر النية والقصد في اليمين تعميما وتخصيصا وإطلاقا وتقييدا فإذا حلف : لا أكلم فلانة وكان سبب اليمين الذي هيجها كونها أجنبية يخاف الوقوع في عرضه بكلامها فتزوجها لم يحنث بكلامها إعمالا لسبب اليمين وما هيجها (59/94)
في التقييد بكونها أجنبية هذا إذا لم يكن له نية ما دامت كذلك أما إذا كانت له نية فلا إشكال في تقييد اليمين بها ونظيره : أن يحلف : لا يكلم فلانا ولا يعاشره لكونه صبيا فصار رجلا وكان نيته وسبب يمينه لأجل صباه ونظيره : أن يحلف : لا دخلت هذه الدار لأجل من يظن به التهمة لدخولها فمات أو سافر فدخلها لم يحنث وبذلك أفتى أبو حنيفة وأبو يوسف : من حلف : لادخلت دار فلان هذه ولا كلمت عبده هذا فباع فلان العبد والدار
ونظير هذا : أن يحلف لا يكلم فلانا والحامل له على اليمين كونه تاركا للصلاة أو مرابيا أو خمارا أو واليا فتاب من ذلك كله وزالت الصفة التي حلف لأجلها لم يحنث بكلامه
وكذلك إذا حلف لاتزوجت فلانة والحامل له على اليمين صفة فيها مثل كونها بغيا أو غير ذلك فزالت تلك الصفة لم يحنث بتزوجها
كل هذا مراعاة للمقاصد التي الالفاظ دالة عليها فإذا ظهر القصد كان هو المعتبر ولهذا لو حلف : ليقضينه حقه في غد وقصده أو السبب : أن لا يجاوزه فقضاه قبله لم يحنث ولو حلف : لا يبيع عبده إلا بألف فباعه بأكثر لم يحنث ولو حلف : أن لا يخرج من البلد إلا بإذن الوالي والنية أو السبب : يقتضي التقييد ما دام كذلك فعزل لم يحنث بالخروج بغير إذنه
وكذلك لو حلف على زوجته أو عبده أو أمته : أن لا تخرج إلا بإذنه فطلق أو أعتق أو باع لم يحنث بخروجهم بغير إذنه لأن اقتضاء السبب والقصد بتقييد في غاية الظهور
ونظائر ذلك كثيرة جدا
وسائر الفقهاء يعتبرون ذلك وإن خالفوه في كثير من المواضع وهذا هو الصواب لأن الألفاظ إنما اعتبرت لدلاتها على المقاصد فإذا ظهر القصد كان (59/95)
الاعتبار له وتقيد اللفظ به ولهذا لو دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى تقيدت يمينه بذلك الغداء وحده لأن النية والسبب ومناط اليمين لا يقتضي غيره
وقد أخبر النبيA أن الأعمال بالنيات : وإنما لكل امرىء ما نوى وما لم ينوه بيمينه أو كان السبب لا يقتضيه لا يجوز أن يلزم به مع القطع بأنه لم يرده ولا خطر على باله
وقد أفتى غير واحد من الفقهاء منهم ابن عقيل وشيخنا وغيرهما : فيمن قيل له : إن امرأتك قد خرجت من بيتك أو قد زنت بفلان فقال : هي طالق ثم تبين له أنها لم تخرج من البيت وأن الذي رميت به في بلد بعيد لا يمكن وصوله إليها أو أنه حين رميت به كان ميتا ونحو ذلك مما يعلم به أنها لم تزن فإنه لا يقع عليه الطلاق لأنه إنما طلقها بناء على هذا السبب فهو كالشرط في طلاقها
وهذا الذي قالوه هو الذي لا يقتضي المذهب وقواعد الفقه غيره فإنهم قد قالوا : لو قال : لها أنت طالق وقال : أردت إن قمت دين ولم يقع به الطلاق فهذا مثله سواء ونظير هذا : ما قالوه : إن المكاتب لو أدى إلى سيده المال فقال : أنت حر فبان أن المال الذي أعطاه مستحق أو زيوف لم يقع العتق وإن كان قد صرح به ذكره أصحاب أحمد والشافعي لأنه إنما أعتقه بناء على سلامة العوض ولم يسلم له وقواعد الشريعة كلها مبنية على أن الحكم إذا ثبت لعلة يزول بزوالها
وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصر
فهذه الطريقة تخلص من كثير من الحنث
وإذا تأملت هذه الطرق لرأيت أيتها سلكت أحسن من طرق الحيل التي يتحيلون بها على عدم الحنث وهي أنواع
أحدها التسريح
الثاني : خلع اليمين
الثالث : التحيل لفساد النكاح إما بكون الولي كان قد فعل ما يفسق به أو الشهود كانوا جلوسا على مقعد حرير ونحو ذلك فيكون النكاح باطلا فلا يقع فيه الطلاق (59/96)
الرابع : الاحتيال على فعل المحلوف عليه بتغيير اسمه أو صفته أو نقله من مالك إلى مالك ونحو ذلك
فإذا غلبوا عن شيء من هذه الحيل الأربعة فزعوا إلى التيس المستعار فاستأجروه ليسفد ويأخذ على سفاده أجرا فليوازن من يعلم أنه موقوف بين يدي الله تعالى ومسئول بين هذه الطرق وتلك الطرق التي قبلها وليقم لله ناظرا ومناظرا متجردا من العصبية والحمية فإنه لا يكاد يخفى عليه الصواب والله ولي التوفيق
فصل وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به
ولا تحنث فمن العجب أن يحتج بهذه الآية من يقول : إنه لو حلف : ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه
هذا قول أصحاب أبي حنيفة ومالك وأصحاب أحمد وقال الشافعي : إن علم أنها مسته كلها بر في يمينه وإن علم أنها لم تمسه لم يبر وإن شك لم يحنث ولو كان هذا موجبا لبر الحالف لسقط عن الزاني والقاذف والشارب تعدد الضرب بأن يجمع له مائة سوط أو ثمانين ويضرب بها ضربة واحدة وهذا إنما يجزى في حق المريض كما قال الإمام أحمد في المريض عليه الحد : يضرب بعثكال يسقط عنه الحد واحتج بما رواه عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال : كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها قال : فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول اللهA وكان ذلك الرجل (59/97)
مسلما فقال : اضربوه حده فقالوا : يا رسول الله : إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال : خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة ففعلوا
وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه تلتمس له الدواء بما تقدر عليه فلما لقيها الشيطان وقال ما قال : أخبرت أيوب عليه السلام بذلك فقال : إنه الشيطان ثم حلف : لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط فكانت معذورة محسنة في شأنه ولم يكن في شرعهم كفارة فإنه لو كان في شرعهم كفارة لعدل إلى التكفير ولم يحتج إلى ضربها فكانت اليمين موجبة عندهم كالحدود وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورا خفف عنه بأن يجمع له مائة شمراخ أو مائة سوط فيضرب بها ضربة واحدة وامرأة أيوب كانت معذورة لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان وإنما قصدت الإحسان فلم تكن تستحق العقوبة فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور هذا مع رفقها به وإحسانها إليه فجمع الله له بين البر في يمينه والرفق بامرأته المحسنة المعذورة التي لا تستحق العقوبة
فظهر موافقة نص القرآن في قصة أيوب عليه السلام لنص السنة في شأن الضعيف الذي زنى فلا يتعدى بها عن محلها
فإن قيل : فقولوا هذا في نظير ذلك ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة وكانا معذورين لاذنب لهما : أنه يبر بجمع ذلك في ضربة بمائة شمراخ (59/98)
قيل : قد جعل الله له مخرجا بالكفارة ويجب عليه أن يكفر عن يمينه ولا يعصي الله بالبر في يمينه ههنا ولا يحل له أن يبر فيها بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة ولا يحل له أن يضربها لا مفرقا ولا مجموعا فإن قيل : فإذا كان الضرب واجبا كالحد هل تقولون : ينفعه ذلك قيل : إما أن يكون العذر مرجو الزوال كالحر والبرد الشديد والمرض اليسير فهذا ينتظر زواله ثم يحد الحد الواجب كما روى مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أن أمة لرسول اللهAزنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك لرسول اللهA فقال : أحسنت اتركها حتى تماثل
فصل وأما حديث بلال في شأن التمر وقول النبيAله : بع التمر
بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا
فقال شيخنا : ليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة لوجوه :
أحدها : أن النبيAأمره أن يبيع سلعته الأولى ثم يبتاع بثمنها سلعة أخرى ومعلوم أن ذلك إنما يقتضي البيع الصحيح ومتى وجد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب ونحن نقول : كل بيع صحيح يفيد الملك لكن الشأن في بيوع قد دلت السنة وأقوال الصحابة على أن ظاهرها وإن كان بيعا فإنها ربا وهي بيع فاسد ومعلوم أن مثل هذا لا يدخل في الحديث ولو اختلف رجلان في بيع مثل هذا هل هو صحيح أو فاسد وأراد أحدهما إدخاله في هذا اللفظ لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح ومتى أثبت أنه بيع صحيح لم يحتج إلى الاستدلال بهذا الحديث
فتبين أنه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع البتة
قلت : ونظير ذلك : أن يحتج به محتج على جواز بيع الغائب أو على البيع بشرط الخيار (59/99)
أكثر من ثلاث أو على البيع بشرط البراءة وغير ذلك من أنواع البيوع المختلف فيها ويقول المنازع : الشارع قد أطلق الإذن في البيع ولم يقيده
وحقيقة الأمر أن يقال : إن الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح ونحن لا نسلم له أن هذه الصورة التي تواطآ فيها على ذلك بيع صحيح
الوجه الثاني : أن الحديث ليس فيه عموم لأنه قال : وابتع بالدراهم جنيبا والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرا بشيء من قيودها لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد والقدر المشترك ليس هو ما يميز كل واحد من الأفراد عن الآخر ولا هو مستلزما له فلا يكون الأمر بالمشترك أمرا بالمميز بحال نعم : هو مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه فيكون عاما لها على سبيل البدل لكن ذلك لا يقتضي العموم بالأفراد على سبيل الجمع وهو المطلوب فقوله : بع هذا الثوب لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمرو ولا بكذا وكذا ولا بهذه السوق أو هذا فإن اللفظ لا دلالة له على شيء من ذلك لكن إذا أتى بالمسمى حصل ممتثلا من جهة وجود تلك الحقيقة لا من جهة وجود تلك القيود إذا تبين ذلك فليس في الحديث أنه أمره أن يبتاع من المشتري ولا أمره أن يبتاع من غيره ولا بنقد البلد ولا غيره ولا بثمن حال أو مؤجل فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ ولو زعم زاعم أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلا لكن اللفظ لا يمنع الأجزاء إذا أتى بها
وقد قال بعض الناس : إن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الأجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة وهذا غلط بين فإن اللفظ لا تعرض فيه للقيود بنفي ولا إثبات ولا الإتيان بها ولا تركها من لوازم الامتثال وإن كان المأمور به لا يخلو عن واحد منهما ضرورة وقوعه جزئيا مشخصا فذلك من لوازم الواقع لا أنه مقصود الأمر وإنما يستفاد الأمر بتلك اللوازم أو النهي عنها من دليل منفصل
وقد خرج بهذا الجواب عن قول من قال : لو كان الابتياع من المشتري حراما لنهى عنه فإن مقصودهAإنما هو بيان الطريق التي يحصل بها (59/100)
اشتراء التمر الجيد لمن عنده
رديء وهو أن يبيع الرديء بثمن ثم يبتاع بالثمن جيدا ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص كما لا يحتج به على نفي سائر الشروط وهذا بمنزلة الاحتجاج بقوله تعالى : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر على جواز أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وعلى حل ما اختلف فيه من الأشربة ونحو ذلك فالاستدلال بذلك استدلال غير صحيح بل هو من أبطل الاستدلال إذ لا تعرض في اللفظ لذلك ولا أريد به تحليل مأكول ومشروب وإنما أريد به بيان وقت الأكل والشرب وانتهائه
وكذلك من استدل بقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم على جواز نكاح الزانية قبل التوبة وصحة نكاح المحلل وصحة نكاح الخامسة في عدة الرابعة أو نكاح المتعة أو الشغار أو غير ذلك من الأنكحة الباطلة كان استدلاه باطلا
وكذلك من استدل بقوله تعالى : وأحل الله البيع على حل بيع الكلب أو غيره مما اختلف فيه فاستدلاله باطل فإن الآية لم يرد بها بيان ذلك وإنما أريد بها الفرق بين عقد الربا وبين عقد البيع وأنه سبحانه حرم هذا وأباح هذا فأما أن يفهم منه أنه أحل بيع كل شيء فهذا غير صحيح وهو بمنزلة الاستدلال بقوله تعالى : وكلوا واشربوا ولا تسرفو على حل كل مأكول ومشروب
وبمنزلة الاستدلال بقوله صلى الله عليه و سلم من استطاع منكم الباءة فليتزوج على حل الأنكحة المختلف فيها
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن على جواز جمع الثلاث ونفوذه وعلى صحة طلاق المكره والسكران (59/101)
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن على صحه النكاح بلا ولي وبلا شهود وغير ذلك من الصور المختلف فيها
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء على حل كل نكاح اختلف فيه فيستدل به على صحة نكاح المتعة والمحلل والشغار والنكاح بلا ولي وبلا شهود ونكاح الأخت في عدة أختها ونكاح الزانية والنكاح المنفي فيه المهر وغير ذلك وهذا كله استدلال فاسد في النظر والمناظرة
ومن العجب أن ينكر من يسلكه على ابن حزم استدلاله بقوله تعالى : وعلى الوارث مثل ذكلك على وجوب نفقة الزوج على زوجته إذا أعسر بالنفقة وكان لها ما تنفق منه فإنها وارثة له وهذا أصح من تلك الاستدلالات فإنه استدلال بعام لفظا ومعنى وقد علق الحكم فيه بمعنى مقصود يقتضي العموم وتلك مطلقة لا عموم فيها لفظا ولا معنى ولم يقصد بها تلك الصور التي استدلوا بها عليها إذا عرف هذا فالاستدلال بقوله : بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا لا يدل على جواز بيع العينة بوجه من الوجوه فمن احتج به على جوازه وصحته فاحتجاجه باطل
وليس الغالب أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري حتى يقال : هذه الصورة غالبة بل الغالب أن من يفعل ذلك يعرضه على أهل السوق عامة أو حيث يقصد أو ينادى عليه وإذا باعه لواحد منهم فقد تكون عنده السلعة التي يريدها وقد لا تكون
ومثل هذا : إذا قال الرجل فيه لوكيله : بع هذا القطن واشتر بثمنه ثياب قطن أو بع هذه الحنطة العتيقة واشتر بثمنها جديدة لا يكاد يخطر بباله الاشتراء من ذلك المشتري بعينه بل يشتري من حيث وجد غرضه ووجود غرضه عند غيره أغلب من وجوده عنده
فإن قيل : فهب أن الأمر كذلك فهلا نهاه عن تلك الصورة وإن لم يدخل في لفظه فإطلاقه يقتضي عدم النهي عنه
قيل : إطلاق اللفظ لا يقتضي المنع منها ولا الإذن فيها كما تقدم بيانه فحكمها إذنا (59/102)
ومنعا يستفاد من مواضع أخر فغاية هذا اللفظ : أن يكون قد سكت عنها فقد علم تحريمها من الأدلة الدالة على تحريم العينة
الوجه الثالث : أن قوله : بع الجمع بالدراهم إنما يفهم منه البيع المقصود الخالي عن شرط يمنع كونه مقصودا بخلاف البيع الذي لا يقصد فإنه لو قال : بع هذا الثوب أو بعت هذا الثوب لم يفهم منه بيع المكره ولا بيع الهازل ولا بيع التلجئة وإنما يفهم منه البيع الذي يقصد به نقل ذلك العوض وقد تقدم تقرير هذا يوضحه : أن مثل هذين قد يتراوضان أولا على بيع التمر بالتمر متفاضلا ثم يجعلان الدراهم محللا غير مقصودة والمقصود إنما هو بيع صاع بصاعين ومعلوم أن الشارع لا يأذن في مثل هذا فضلا عن أن يأمر به ويرشد إليه
الوجه الرابع : أن النبيAنهى عن بيعتين في بيعة ومتى تواطآ عل أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة فلا يكون داخلا في الحديث إذ المنهى عنه لا يتناوله المأذون فيه
يبين ذلك الوجه الخامس : وهو أنهAقال : بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا وهذا يقتضي بيعا ينشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الأول ومتى واطأه من أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقا على العقدين معا فلا يكون داخلا في حديث الإذن بل في حديث النهي
الوجه السادس : أنه لو فرض أن في الحديث عموما لفظيا فهو مخصوص بصور لا تعد فإن كل بيع فاسد فهو غير داخل فيه فتضعف دلالته وتخص منه الصورة التي ذكرناها بالأدلة التي هي نصوص أو كالنصوص فاخراجها من العموم من أسهل الأشياء وبالله التوفيق (59/103)
فصل وقد تبين بهذا بطلان الاستدلال على جواز الحيل الباطلة بقوله
تعالى : إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم وأن هذا يتناول صورة العينة وغيرها فإن المتبايعين يديران السلعة بينهما
فإن الله سبحانه قسم البياعات المقصودة التي شرعها لعباده ونصبها لمصالحهم في معاشهم ومعادهم إلى بيوع مؤجلة وبيوع حالة ثم أمرهم أن يستوثقوا في البيوع المؤجلة بالكتاب والشهود وإن عدموا ذلك في السفر استوثقوا بالرهن حفظا لأموالهم وتخلصا من بطلان الحقوق بجحود أو نسيان ثم أخبرهم أنه لا حرج عليهم في ترك ذلك في البيوع الحالة لأمنهم فيها مفسدة التجاحد والنسيان
فالمراد بالتجارة الدائرة : البيعات التي تقع غالبا بين الناس
ولم يفهم أحد من أصحاب رسول اللهA ولا من التابعين ولا تابعيهم ولا أهل التفسير ولا أئمة الفقهاء منها : المعاملة الدائرة بالربا بين المترابيين بل فهموا تحريمها من نصوص تحريم الربا ولا ريب أن دخولها في تلك النصوص أظهر من دخولها في هذه الآية
ومما يدل عليه : أن هذه المعاملة الدائرة بينهما بالربا لا تكون في الغالب إلا مع أجل بأن يبتاع منه سلعة بثمن حال ثم يبيعها إياه بأكثر منه إلى أجل وذلك في الغالب مما يطلب عليه الشهود والكتاب خشية الجحود والله سبحانه قال : إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها فاستثنى هذا من قوله : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وهذه المعاملة الربوية قد اتفقا فيها على التداين إلى أجل مسمى واتفقا فيها على المائة بمائة وثلاثين ونحو ذلك فأين هي من التجارة الحاضرة التي يعرف الناس الفرق فيها بين التجارة والربا
فالتجارة في كلام الله ورسوله ولغة العرب وعرف الناس : إنما تنصرف إلى البياعات (59/104)
المقصودة التي يقصد فيها الثمن والمثمن وأما ما توطآ فيه على الربا المحض ثم أظهرا بيعا غير مقصود لهما ألبتة يتوسلان به إلى أن يعطيه مائة حالة بمائة وعشرين مؤجلة فهذا ليس من التجارة المأذون فيها بل من الربا المنهي عنه والله أعلم
فصل وأما استدلالكم بالمعاريض على جواز الحيل
فما أبطله من استدلال فأين المعاريض التي يتخلص بها الإنسان من الظلم والكذب إلى الحيل التي يسقط بها ما فرض الله تعالى ويستحل بها ما حرم الله فالمعرض تكلم بحق ونطق بصدق فيما بينه وبين الله تعالى لا سيما إذا لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه وإنما كان الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره في معرفة دلالة اللفظ ومعاريض النبي صلى الله عليه و سلم ومزاحه عامته كان من هذا الباب كقوله : نحن من ماء و إنا حاملوك على ولد الناقة و وزوجك الذي في عينه بياض و لا يدخل الجنة عجوز وأكثر معاريض السلف كانت من هذا فالمعرعض إنما يقصد باللفظ ما جعل اللفظ دالا عليه ومثبتا له في الجملة فهو لم يخرج بتعريضه عن حدود الكلام فإن الكلام فيه الحقيقة والمجاز والعام والخاص والمطلق والمقيد والمفرد والمشترك والمتباين والمترادف وتختلف دلالته تارة بحسب اللفظ المفرد وتارة بحسب التأليف فأين هذا من الحيل التي يقصد بالعقد فيها ما لم يشرع العقد له أصلا ولا هو مقتضاه ولا موجبه شرعا ولا حقيقة (59/105)
وفرق ثان وهو أن المعرض لو صرح بقصده لم يكن باطلا ولا محرما بخلاف المحتال فإنه لو صرح بما قصده بإظهار صورة العقد كان محرما باطلا فإن المرابي بالحيلة لو قال : بعتك مائة حالة بمائة وعشرين إلى سنة كان حراما باطلا وذلك عين مقصوده ومقصود الآخر
وكذلك المقرض لو قال : أقرضتك ألفا على أن تعيدها إلي ومعها زيادة كذا وكذا كان حراما باطلا وذلك نفس مقصوده
وكذلك المحلل لو قال : تزوجتها على أن أحلها للمطلق ثلاثا
والمعرض لو صرح بمقصوده لم يكن حراما فأين أحدهما من الآخر
وفرق ثالث : وهو أن المعرض قصد بالقول ما يحتمله اللفظ أو يقتضيه والمحتال قصد بالعقد ما لا يحتمله ولا جعل مقتضيا له لا شرعا ولا عرفا ولا حقيقة
وفرق رابع : وهو أن المعرض مقصده صحيح ووسيلته جائزة فلا حجر عليه في مقصوده ولا في وسيلته إلى مقصوده بخلاف المحتال فإن قصده أمر محرم ووسيلته باطلة كما تقدم تقريره
وفرق خامس : وهو أن التعريض المباح ليس من مخادعة الله سبحانه في شيء وإنما غايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه جزاء له على ذلك ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم جواز مخادعة المحق فما كان من التعريض مخالفا لظاهر اللفظ في نفسه كان قبيحا إلا عند الحاجة وما لم يكن كذلك كان جائزا إلا عند تضمن مفسدة والذي يدخل في الحيل المذمومة إنما هو الأول فالمعرض قاصد لدفع الشر والمحتال بالباطل قاصد لدفع الحق والتعريض كما يكون بالقول يكون بالفعل كما يظهر المحارب أنه يريد وجها من الوجوه ويسافر إلى تلك الناحية ليحسب العدو أنه لا يريده ثم يكر عليه
ومثل أن يستطرد المبارز بين يدي خصمه ليظن هزيمته ثم يعطف عليه
ومثل أن يظهر ضعفا وعجزا يتخلص به من تسخيره وأذاه ونحو ذلك (59/106)
وقد يكون التعريض بالقول والفعل معا كما قال سليمان عليه السلام : ائتوني بالسكين أشقه بينكما وقد يكون بإظهار الصمم وأنه لا يسمع وبإظهار النوم وإظهار الشبع وإظهار الغنى بحيث يحسبه الجاهل غنيا
وكما يقع الإجمال في الأقوال فكذلك يقع في الأفعال كما أعطى النبيAعمر رضي الله عنه حلة من حرير فلما لبسها أنكر عليه وقال : لم أعطكها لتلبسها فكساها أخا له مشركا بمكة
فكل من الإجمال والاشتراك والاشتباه يقع في الألفاظ تارة وفي الأفعال تارة وفيهما معا تارة ومن أنواع التعريض : أن يتكلم المتكلم بكلام حق يقصد به حقيقته وظاهره ويوهم السامع نسبته إلى غير قائله ليقبله ولا يرده عليه أو ليتخلص به من شره وظلمه كما أنشد عبدالله بن رواحة رضي الله تعالى عنه امرأته تلك الأبيات وأوهمها أنه يقرأ القرآن فتخلص بذلك من شرها
وكذلك إذا كان الرجل يريد تنفيذ حق صحيح ولكن لا يقبل منه لكونه هو أو من لا يحسن به الظن قائله فإذا عرض للمخاطب بنسبة الكلام إلى معظم يقبله منه كان من أحسن التعريض كما علمه أبو حنيفة رحمه الله أصحابه حين شكوا إليه : إنا نقول لهم : قال أبو حنيفة فيبادرون بالإنكار فقال : قولوا لهم المسألة فإذا استحسنوها ووقعت منهم بموقع فقولوا : هذا قول أبي حنيفة وكما يجري لأصحابنا مع الجهمية وفروخهم كثيرا
فصل وأما استدلالهم بأن الله سبحانه علم نبيه يوسف عليه السلام
الحيلة التي توصل بها إلى أخذ أخيه إلى آخره
فهذا قد ظن بعض أرباب الحيل أنه حجة لهم في هذا الباب وليس كما زعموا والاستدلال بذلك من أبطل الباطل (59/107)
فإن المحتجين بذلك لا يجوزون شيئا مما في هذه القصة البتة ولا تجوزها شريعتنا بوجه من الوجوه فكيف يحتج المحتج بما يحرم العمل به ولا يسوغه بوجه من الوجوه والله سبحانه إنما سوغ ذلك لنبيه يوسف عليه السلام جزاءا لإخوته وعقوبة لهم على ما فعلوا به ونصرا له عليهم وتصديقا لرؤياه ورفعة لدرجته ودرجة أبيه
وبعد ففي قصته مع إخوته ضروب من الحيل المستحسنة
أحدها قوله : لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم وقد ذكروا في ذلك معاني منها : أنه تخوف أن لا يكون عندهم ورق يرجعون بها
ومنها أنه خشى أن يضر أخذ الثمن بهم
ومنها : أنه رأى لؤما أخذ الثمن منهم
ومنها : أنه أراهم كرمه في ردع البضاعة ليكون أدعى لهم إلى العود
وقد قيل : إنه علم أن أمانتهم تحوجهم إلى الرجعة ليردوها إليه فهذا المحتال به عمل صالح والمقصود : رجوعهم ومجيء أخيه وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله وهو مقصود صالح وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر فيها منفعة لهم ولأبيهم وله وتمام لما أراده الله تعالى بهم من الخير في هذا البلاء وأيضا فلو عرفهم نفسه في أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم ولم يحل ذلك المحل وهذه عادة الله سبحانه في الغايات العظيمة الحميدة : إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ لها أسبابا من المحن والبلايا والمشاق فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت وأهوال البرزخ والبعث والنشور والموقف والحساب والصراط ومقاساة تلك الأهوال والشدائد وكما أدخل رسولهAإلى مكة ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج ونصره ذلك النصر العزيز بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه (59/108)
وكذلك ما فعل برسله كنوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب عليهم السلام فهو سبحانه وصل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها كما قال تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
وربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سببا ما مثله سبب
وبالجملة فالغايات الحميدة في خبايا الأسباب المكروهة الشاقة كما أن الغايات المكروهة المؤلمة في خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره وخلق النار وحفها بالشهوات
فصل ومنها : أنه لما جهزهم في المرة الثانية بجهازهم جعل السقاية
في رحل أخيه وهذا القدر يتضمن اتهام أخيه بأنه سارق
وقد قيل : إنه كان بمواطأة من أخيه ورضا منه بذلك والحق كان له وقد أذن فيه وطابت نفسه به ودل على ذلك قوله تعالى : فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون [ ] فهذا يدل على أنه عرف أخاه نفسه وقد قيل : إنه لم يصرح له بأنه يوسف وأنه إنما أراد بقوله : إنعي أنا أخوك أي أنا مكان أخيك المفقود
ومن قال هذا قال : إنه وضع السقاية في رحل أخيه والأخ لا يشعر بذلك والقرآن يدل على خلاف هذا والعدل يرده وأكثر أهل التفسير على خلافه ومن لطيف الكيد في ذلك : أنه لما أراد أخذ أخيه توصل إلى أخذه بما يقر إخوته أنه حق وعدل ولو أخذه بحكم قدرته وسلطانه لنسب إلى الظلم والجور ولم يكن له طريق في دين الملك يأخذه بها فتوصل إلى أخذه بطريق يعترف إخوته أنها ليست ظلما فوضع الصواع (59/109)
في رحل أخيه بمواطأة منه له على ذلك ولهذا قال : لا تبتئس بما كانوا يعملون
ومن لطيف الكيد : أنه لم يفتش رحالهم وهم عنده بل أمهلهم حتى جهزهم بجهازهم وخرجوا من البلد ثم أرسل في آثارهم لذلك
قال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن عيسى حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال : أمهلهم حتى إذا انطلقوا فأمعنوا من القرية أمر فأدركوا ثم جلسوا ثم ناداهم مناد : أيتها العير إنكم لسارقون فوقفوا وانتهى إليهم رسوله فقال لهم فيما يذكرون : ألم نكرم ضيافتكم ونوفكم كيلكم ونحسن منزلتكم ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم وأدخلنا كم علينا في بيوتنا ومنازلنا قالوا : بلى وما ذاك قال إنكم لسارقون
وذكر عن السدي فلما ارتحلوا أذن مؤذن أيتها العير والسياق يقتضي ذلك إذ لو كان هذا وهم بحضرته لم يحتج إلى الأذان وإنما يكون الأذان نداء لبعيد يطلب وقوفه وحبسه
فكان في هذا من لطيف الكيد : أنه أبعد من التهمة للطالب بالمواطأة والموافقة وأنه لا يشعر بما فقد له فكأنه لما خرج القوم وارتحلوا وفصلوا عن المدينة احتاج الملك إلى صواعه لبعض حاجته إليه فالتمسه فلم يجده فسأل عنه الحاضرين فلم يجدوه فأرسلوا في أثر القوم فهذا أحسن وأبعد من التفطن للحيلة من التفتيش في الحال قبل انفصالهم عنه بل كلما ازدادوا بعدا عنه كان أبلغ في هذه المعنى
ومن لطيف الكيد : أنه أذن فيهم بصوت عال رفيع يسمعه جميعهم ولم يقل لواحد واحد منهم إعلاما بأن ذهاب الصواع أمر قد اشتهر ولم يبق فيه خفاء وأنتم قد اشتهرتم بأخذه ولم يتهم به سواكم
ومن لطيف الكيد : أن المؤذن قال : إنكم لسارقون ولم يعين المسروق حتى سألهم عنه القوم فقالوا لهم : ماذا تفقدون قالوا : نفقد صواع الملك فاستقر عند القوم أن الصواع هو المتهم به وأنهم لم يفقدوا غيره فإذا ظهر لم يكونوا ظالمين باتهامهم بغيره وظهر صدقهم وعدلهم في إتهامهم به وحده وهذا من لطيف الكيد ومن لطيف الكيد : قول المؤذن وأصحابه لإخوة يوسف عليه السلام فما جزاؤه إن (59/110)
كنتم كاذبين أي ما عقوبة من ظهر عليه أنه سرقه منكم ووجد معه أي ما عقوبته عندكم وفي دينكم قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه فأخذوهم بما حكموا به على نفوسهم لا بحكم الملك وقومه
ومن لطيف الكيد : أن الطالب لما هم بتفتيش رواحلهم بدأ بأوعيتهم يفتشها قبل وعاء من هو معه تطمينا لهم وبعدا عن تهمة المواطأة
فإنه لو بدأ بوعاء من هو فيه لقالوا : وما يدريه أنه في هذا الوعاء دون غيره من أوعيتنا وما هذا إلا بمواطأة وموافقة فأزال هذه التهمة بأن بدأ بأوعيتهم أولا
فلما لم يجده فيها هم بالرجوع قبل تفتيش وعاء من فيه الصواع وقال : ما أراكم سارقين وما أظن هذا أيضا أخذ شيئا فقالوا : لا والله لا ندعكم حتى تفتشوا متاعه فإنه أطيب لقلوبكم وأظهر لبراءتنا فلما ألحوا عليهم بذلك فتشوا متاعه فاستخرجوا منه الصواع وهذا من أحسن الكيد فلهذا قال تعالى : كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذى علم عليم
فالعلم بالكيد الواجب أو المستحب الذي يتوصل به إلى طاعة الله تعالى ورسوله ونصر المحق وكسر المبطل مما يرفع الله به درجة العبد
وقد ذكروا في تسميتهم سارقين وجهين :
أحدهما : أنه من باب المعاريض وأن يوسف عليه السلام نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه حيث غيبوه عنه بالحيلة التي احتالوا بها عليه وخانوه فيه والخائن يسمى سارقا وهو من الاستعمال المشهور
الثاني : أن المنادي هو الذي قال ذلك من غير أمر يوسف عليه السلام قال القاضي أبو يعلى وغيره : أمر يوسف بعض أصحابه أن يجعل الصاع في رحل أخيه ثم قال بعض الموكلين به لما فقده ولم يدر من أخذه أيتها العير إنكم لسارقون على ظن منهم أنهم كذلك ولم يأمرهم يوسف عليه السلام بذلك ولعل يوسف عليه السلام قال للمنادي هؤلاء قد سرقوا وعنى سرقته من أبيه والمنادي فهم سرقة الصواع وصدق في قوله : إنكم (59/111)
لسارقون ولم يقل : صواع الملك ثم لما جاء إلى ذكر المفقود قال : نفقد صواع الملك وهو صادق في ذلك فحذف المفعول في قوله لسارقون وذكره في قوله : نفقد صواع الملك وكذلك قال يوسف عليه السلام لما عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ولم يقل : أن نأخذ إلا من سرق فإن المتاع كان موجودا عنده ولم يكن سارقا وهذا من أحسن المعاريض
وقد قال نصر بن حاجب : سئل سفيان بن عيينة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله ويحرف القول فيه ليرضيه أيأثم في ذلك فقال : ألم تسمع قوله عليه السلام : ليس بكاذب من أصلح بين الناس فكذب فيه فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم كان خيرا من أن يصلح بين الناس بعضهم في بعض وذلك أنه أراد به مرضاة الله وكراهية أذى المؤمن ويندم على ما كان منه ويدفع شره عن نفسه ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم ولا طمعا في شيء يصيبه منهم فإنه لم يرخص في ذلك ورخص له إذا كره موجدتهم وخاف عداوتهم
قال حذيقة بن اليمان رضي الله عنه : إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن أقدم على ما هو أعظم منه
قال سفيان : وقال الملكان : خصمان بغى بعضنا على بعض أرادا معنى شيء ولم يكونا خصمين فلم يصيرابذلك كاذبين (59/112)
وقال إبراهيم عليه السلام 37 : 89 إني سقيم وقال : 2 : 63 بل فعله كبيرهم هذا وقال يوسف عليه السلام إنكم لسارقون أراد يعني أخاهم
فبين سفيان رحمه الله تعالى أن هذا كله من المعاريض المباحة مع تسميته كذبا وإن لم يكن في الحقيقة كذبا
وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه يجوز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق
قال شيخنا وهذه الحجة ضعيفة فإن يوسف عليه السلام لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف حتى يقال قد اقتص منه وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك نعم كان تخلفه عنهم مما يؤذيهم لتأذي أبيهم وللميثاق الذي أخذه عليهم وقد استثنى في الميثاق بقوله إلا أن يحاط بكم وقد أحيط بهم ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الإنتقام من إخوته فإنه كان أكرم من هذا وإن كان في ضمن ما فعل من تأذي أبيه أعظم من أذى إخوته فإنما ذلك أمر أمره الله تعالى به ليبلغ الكتاب أجله ويتم البلاء الذي استحق به يوسف ويعقوب عليهما السلام كمال الجزاء وعلو المنزلة وتبلغ حكمة الله تعالى التي قدرها وقضاها نهايتها ولو فرض أن يوسف عليه السلام قصد الإقتصاص منهم بما فعل فليس هذا بموضع خلاف بين العلماء فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به وإنما موضع الخلاف هل له أن يخونه كما خانه أو يسرقه كما سرقه ولم تكن قصة يوسف عليه السلام من هذا النوع
نعم لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة مع أنه لا شبهة له أيضا على هذا التقدير فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالإتفاق ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه كان في هذا ابتلاء من الله تعالى لذلك المعتقل كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيا خاصا كالوحي إلى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه وتكون حكمته في حق الأخ امتحانه وابتلاءه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه ويكون حاله في هذا كحال ابيه يعقوب عليه السلام في احتباس يوسف عليه السلام عنه (59/113)
وقد دل على هذا نسبة الله سبحانه ذلك الكيد إلى نفسه بقوله 12 : 76 كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذه أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله وهو سبحانه ينسب إلى نفسه أحسن هذه المعاني وما هو منها حكمة وحق وصواب وجزاء للمسيء وذلك غاية العدل والحق كقوله 86 : 15 إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا وقوله 3 : 54 ومكروا ومكر الله وقوله 2 : 15 الله يستهزيء بهم وقوله 4 : 142 إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وقوله 7 : 138 وأملي لهم إن كيدي متين
فهذا منه سبحانه في أعلى مراتب الحسن وإن كان من العبد قبيحا سيئا لأنه ظالم فيه وموقعه بمن لا يستحقه والرب تعالى عادل فيه موقعه بأهله ومن يستحقه سواء قيل إنه مجاز للمشاكلة الصورية أو للمقابلة أو سماه كذلك مشاكلة لاسم ما فعلوه أو قيل إنه حقيقة وإن مسمى هذه الأفعال ينقسم إلى مذموم ومحمود واللفظ حقيقة في هذا وهذا كما قد بسطنا هذا المعنى واستوفينا الكلام عليه في كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
فصل وإذا عرف ذلك فيوسف صلوات الله عليه وسلامه أكيد من وجوه عديدة
أحدها أن إخوته كادوه حيث احتالوا في التفريق بينه وبين أبيه كما قال له يعقوب عليه السلام 12 : 5 لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا
وثانيها أنهم كادوه حيث باعوه بيع العبيد وقالوا إنه غلام لنا أبق
وثالثها كيد امرأة العزيز له بتغليق الأبواب ودعائه إلى نفسها
ورابعها كيدها له بقولها 12 : 24 ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن (59/114)
يسجن أو عذاب أليم فكادته بالمراودة أولا وكادته بالكذب عليه ثانيا ولهذا قال لها الشاهد لما تبين له براءة يوسف عليه السلام 12 : 28 إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم
وخامسها كيدها له حيث جمعت له النسوة وأخرجته عليهن تستعين بهن عليه وتستعذر إليهن من شغفها به
وسادسها كيد النسوة له حتى استجار بالله تعالى من كيدهن فقال 12 : 33 وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ولهذا لما جاء الرسول بالخروج من السجن قال له 12 : 50 إرجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم
فإن قيل فما كان مكر النسوة اللاتي مكرن به وسمعت به امرأة العزيز فإن الله سبحانه لم يقصه في كتابه
قيل بلى قد أشار إليه بقوله 12 : 30 وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين وهذا الكلام متضمن لوجوه من المكر
أحدها قولهن امرأة العزيز تراود فتاها ولم يسموها باسمها بل ذكروها بالوصف الذي ينادى عليها بقبيح فعلها بكونها ذات بعل فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممن لا زوج لها
الثاني أن زوجها عزيز مصر ورئيسها وكبيرها وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها
الثالث أن الذي تراوده مملوك لا حر وذلك أبلغ في القبح (59/115)
الرابع أنه فتاها الذي هو في بيتها وتحت كنفها فحكمه حكم أهل البيت بخلاف من طلب ذلك من الأجنبي البعيد
الخامس أنها هي المراودة الطالبة
السادس أنها أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها
السابع أن في ضمن هذا أنه أعف منها وأبر وأوفى حيث كانت هي المراودة الطالبة وهو الممتنع عفافا وكرما وحياء وهذا غاية الذم لها
الثامن أنهن أتين بفعل المرادودة بصيغة المستقبل الدالة على الإستمرار والوقوع حالا واستقبالا وأن هذا شأنها ولم يقلن راودت فتاها وفرق بين قولك فلان أضاف ضيفا وفلان يقري الضيف ويطعم الطعام ويحمل الكل فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته
التاسع قولهن إنا لنراها في ضلال مبين أي إنا لنستقبح منها ذلك غاية الإستقباح فنسبن الإستقباح إليهن ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى ولا يكدن يرين ذلك قبيحا كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور وأنه مما لا ينبغي أن تساعد عليه ولا يحسن معاونتها عليه
العاشر أنهن جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط والطلب المفرط فلم تقتصد في حبها ولا في طلبها أما العشق فقولهن قد شغفها حبا أي وصل حبه إلى شغاف قلبها وأما الطلب المفرط فقولهن تراود فتاها والمراودة الطلب مرة بعد مرة فنسبوها إلى شدة العشق وشدة الحرص على الفاحشة فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه فهيأت لهن متكأ ثم أرسلت إليهن فجمعتهن وخبأت يوسف عليه السلام عنهن وقيل إنها جملته وألبسته أحسن ما تقدر عليه وأخرجته عليهن فجأة فلم يرعهن إلا وأحسن خلق الله وأجملهم قد طلع عليهن بغتة فراعهن ذلك المنظر البهي وفي أيديهن مدى يقطعن بها ما يأكلنه فدهشن حتى قطعن أيديهن وهن لا يشعرن وقد قيل إنهن أبن أيديهن والظاهر خلاف ذلك وإنما تقطيعهن أيديهن جرحها وشقها بالمدى لدهشهن بما رأين (59/116)
فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي وكانت هذه في النساء غاية في المكر
والمقصود أن الله سبحانه كاد ليوسف عليه السلام بأن جمع بينه وبين أخيه وأخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره
وكاد له بأن أوقفهم بين يديه موقف الذليل الخاضع المستجدي فقالوا 12 : 88 يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين فهذا الذل والخضوع في مقابلة ذله وخضوعه لهم يوم إلقائه في الجب وبيعه بيع العبيد
وكاد له بأن هيأ له الأسباب التي سجدوا له هم وأبوه وخالته في مقابلة كيدهم له حذرا من وقوع ذلك فإن الذي حملهم على إلقائه في الجب خشيتهم أن يرتفع عليهم حتى يسجدوا له كلهم فكادوه خشية ذلك فكاد الله تعالى له حتى وقع ذلك كما رآه في منامه
وهذا كما كاد فرعون بني إسرائيل 28 : 4 يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم خشية أن يخرج فيهم من يكون زوال ملكه على يديه فكاده الله سبحانه بأن أخرج له هذا المولود ورباه في بيته وفي حجره حتى وقع به منه ما كان يحذره كما قيل
وإذا خشيت من الأمور مقدرا ... وفررت منه فنحوه تتوجه
فصل وكيد الله سبحانه لا يخرج عن نوعين أحدهما أن يفعل سبحانه
فعلا خارجا عن قدرة العبد الذي كاد له فيكون الكيد قدرا محضا ليس من باب الشرع كما كاد الذين كفروا بأن انتقم منهم بأنواع العقوبات وكذلك كانت قصة يوسف عليه السلام فإن يوسف أكثر ما قدر عليه أن ألقى الصواع في رحل أخيه وأرسل مؤذنا يؤذن أيتها العير إنكم لسارقون فلما أنكروا قال فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه أي جزاؤه استعباد المسروق ماله للسارق إما مطلقا وإما إلى مدة وهذه كانت شريعة آل يعقوب عليه السلام (59/117)
حتى قيل إن مثل هذا كان مشروعا في أول الإسلام أن المدين إذا أعسر بالدين استرقه صاحب الحق وعليه حمل حديث بيع النبي صلى الله عليه و سلم سرق
وقيل بل كان بيعه إياه إيجاره لمن يستعمله وقضى دينه بأجرته وعلى هذا فليس بمنسوخ وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى أن المفلس إذا بقيت عليه ديون وله صنعة أجبر على إجارته نفسه أو أجره الحاكم ووفى دينه من أجرته
وكان إلهام الله تعالى لإخوة يوسف عليه السلام قولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه كيدا من الله تعالى ليوسف عليه السلام أجراه على ألسن إخوته وذلك خارج عن قدرته وكان يمكنهم أن يتخلصوا من ذلك بأن يقولوا لا جزاء عليه حتى يثبت أنه هو الذي سرق فإن مجرد وجوده في رحله لا يوجب أن يكون سارقا
وقد كان يوسف عليه السلام عادلا لا يأخذهم بغير حجة وكان يمكنهم التخلص أيضا بأن يقولوا جزاؤه أن يفعل به ما تفعلونه بالسراق في دينكم وقد كان من دين ملك مصر فيما ذكر أن السارق يضرب ويغرم قيمة المسروق مرتين فلو قالوا له ذلك لم يمكنه أن يلزمهم بما لا يلزم به غيرهم فلذلك قال سبحانه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله أي ما كان ليمكنه أخذه في دين ملك مصر لأنه لم يكن في دينه طريق إلى أخذه
وقوله إلا أن يشاء الله استثناء منقطع أي لكن إن شاء الله أخذه بطريق آخر ويجوز أن يكون متصلا والمعنى إلا أن يهيء الله سببا آخر يؤخذ به في دين الملك غير السرقة (59/118)
وفي هذه القصة تنبيه على الأخذ باللوث الظاهر في الحدود وإن لم تقم بينة ولم يحصل إقرار فإن وجود المسروق مع السارق أصدق من البينة فهو بينة لا تلحقها التهمة وقد اعتبرت شريعتنا ذلك في مواضع
منها اللوث في القسامة والصحيح أنها يقاد بها كما دل عليه النص الصحيح الصريح
ومنها حد الصحابة رضي الله عنهم في الخمر بالرائحة والقيء
ومنها حد عمر رضي الله عنه في الزنا بالحبل وجعله قسيم الإعتراف والشهادة فوجود المسروق مع السارق إن لم يكن أظهر من هذا كله فليس دونه
فلما فتشوا متاعه فوجدوا فيه الصواع كان ذلك قائما مقام البينة والإعتراف فلهذا لم يمكنهم أن يتظلموا من أخذه ولو كان هذا ظلما لقالوا كيف يأخذه بغير بينة ولا إقرار
وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب الإعلام باتساع طرق الأحكام
والمقصود أنه ليس في قصة يوسف عليه السلام شبهة فضلا عن الحجة لأرباب الحيل
فإنا إنما تكلمنا في الحيل التي يفعلها العبد وحكمها في الإباحة والتحريم لا فيما يكيد الله سبحانه وتعالى لعبده بل في قصة يوسف عليه السلام تنبيه على أن من كاد غيره كيدا محرما فإن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يكيده وأنه لا بد أن يكيد للمظلوم إذا صبر على كيد كائده وتلطف به فالمؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله تعالى يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوة
فهذا أحد النوعين من كيده سبحانه لعبده
النوع الثاني أن يلهمه أمرا مباحا أو مستحبا أو واجبا يوصله به إلى المقصود الحسن فيكون على هذا إلهامه يوسف عليه السلام أن يفعل ما فعل هو من كيده سبحانه أيضا فيكون قد كاد له نوعي الكيد ولهذا قال سبحانه نرفع درجات من نشاء وفي ذلك تنبيه على أن العلم الدقيق بلطيف الحيل الموصلة إلى المقصود الشرعي الذي يحبه الله تعالى ورسوله من نصر دينه وكسر أعدائه ونصر المحق وقمع المبطل صفة مدح يرفع الله تعالى بها درجة العبد كما أن العلم الذي يخصم به المبطل ويدحض حجته صفة مدح يرفع (59/119)
بها درجة عبده كما قال سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام ومناظرته قومه وكسر حجتهم 6 : 83 وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء
وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع ولكن ليس هو الكيد الذي تستحل به المحرمات وتسقط به الواجبات فإن هذا كيد لله تعالى ودينه فالله سبحانه ودينه هو المكيد في هذا القسم فمحال أن يشرع الله سبحانه هذا النوع من الكيد
وأيضا فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يقصد به غير مقصوده الشرعي ومحال أن يشرع الله تعالى لعبد أن يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له
وأيضا فإن الأمر المشروع هو عام لا يختص به شخص دون شخص فالشيء مباح لكل من كان حاله مثل حاله فمن احتال بحيلة فقهية محرمة أو مباحة لم يكن له اختصاص بتلك الحيلة عمن لا يفهمها ولا يعلمها وإنما خاصية الفقيه إذا حدثت به حادثة أن يتفطن لاندراجها تحت الحكم العام الذي يعلمه هو وغيره والله سبحانه إنما كاد ليوسف عليه السلام كيدا خاصا به جزاء له على صبره وإحسانه وذكره في معرض المنة عليه وهذه الأفعال التي فعلها يوسف عليه السلام والأفعال التي فعلها الله سبحانه له إذا تأملها اللبيب رآها لا تخرج عن نوعين
أحدهما إلهام الله سبحانه له فعلا كان مباحا له أن يفعله
الثاني فعل من الله تعالى به خارج عن مقدور العبد
وكلا النوعين مباين للحيل المحرمة التي يحتال بها على إسقاط الواجبات وإباحة المحرمات
فصل لعلك تقول قد أطلت الكلام في هذا الفصل جدا وقد كان يكفي
الإشارة إليه
فيقال بل الأمر أعظم مما ذكرنا وهو بالإطالة أجدر فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين أهل المكر والمخادعة والإحتيال في العمليات وأهل التحريف والسفسطة والقرمطة في العلميات وكل فساد في الدين والدنيا فمنشؤه من هاتين الطائفتين (59/120)
فبالتأويل الباطل قتل عثمان رضي الله عنه وعاثت الأمة في دمائها وكفر بعضها بعضا وتفرقت على بضع وسبعين فرقة فجرى على الإسلام من تأويل هؤلاء وخداع هؤلاء ومكرهم ما جرى واستولت الطائفتان وقويت شوكتهما وعاقبوا من لم يوافقهم وأنكر عليهم ويأبى الله إلا أن يقيم لدينه من يذب عنه ويبين أعلامه وحقائقه لكيلا تبطل حجج الله وبيناته على عباده
فلنرجع إلى ما نحن بصدده من بيان مكايد الشيطان ومصايده
فصل ومن مكايده ومصايده ما فتن به عشاق الصور وتلك لعمر الله
الفتنة الكبرى والبلية العظمى التي استعبدت النفوس لغير خلاقها وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها وألقت الحرب بين العشق والتوحيد ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد فصيرت القلب للهوى أسيرا وجعلته عليه حاكما وأميرا فأوسعت القلوب محنة وملأتها فتنة وحالت بينها وبين رشدها وصرفتها عن طريق قصدها ونادت عليها في سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان وأعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن العالي من غرف الجنان فضلا عما هو فوق ذلك من القرب من الرحمن فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس الذي ألمها به أضعاف لذتها ونيله والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها فما أوشكه حبيبا يستحيل عدوا عن قريب ويتبرأ منه محبة لو أمكنه حتى كأن لم يكن له بحبيب وإن تمتع به في هذه الدار فسوف يجد به أعظم الألم بعد حين لا سيما إذا صار الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوا إلا المتقين
فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس وشهوة عاجلة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة وزالت النشوة وبقيت الحسرة فوارحمتاه لصب جمع له بين الحسرتين حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم وحسرة ما يقاسيه من النصب في العذاب الأليم فهناك يعلم (59/121)
المخدوع أي بضاعة أضاع وأن من كان مالك رقة وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع فاي مصيبة أعظم من مصيبة ملك أنزل عن سرير ملكه وجعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرا وجعل تحت أوامره ونواهيه مقهورا فلو رأيت قلبه وهو في يدمحبوبه لرأيته
كعصفورة في كف طفل يسومها ... حياض الرديء والطفل يلهو ويلعب
ولو شاهدت حاله وعيشه لقلت
وما في الأرض أشقى من محب ... وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كل حين ... مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم ... ويبكي إن دنوا حذر الفراق
ولو شاهدت نومه وراحته لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا وتحالفا أن ليس يلتقيان ولو شاهدت فيض مدامعه ولهيب النار في أحشائه لقلت
سبحان رب العرش متقن صنعه ... ومؤلف الأضداد دون تعاند
قطر تولد عن لهيب في الحشا ... ماء ونار في محل واحد
ولو شاهدت مسلك الحب في القلب وتغلغله فيه لعلمت أن الحب ألطف مسلكا فيه من الأرواح في أبدانها
فهل يليق بالعاقل أن يبيع هذا الملك المطاع لمن يسومه سوء العذاب ويوقع بينه وبين وليه ومولاه الحق الذي لا غناء له عنه ولا بد له منه أعظم الحجاب فالمحب بمن أحبه قتيل وهوله عبد خاضع ذليل إن دعاه لباه وإن قيل له ما تتمنى فهو غاية ما يتمناه لا يأنس ولا يسكن إلى سواه فحقيق به أن لا يملك رقة إلا لأجل حبيب وأن لا يبيع نصيبه منه بأخس نصيب (59/122)
فصل إذا عرف هذا فأصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة
فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات كما أن البغض والكراهية مبدأ كل ترك وكف إذا قيل إن الترك والكف أمر وجودي كما عليه أكثر الناس وإن قيل إنه عدمي فيكفي في عدمه عدم مقتضيه
والتحقيق أن الترك نوعان ترك هو أمر وجودي وهو كف النفس ومنعها وحبسها عن الفعل فهذا سببه أمر وجودي وترك هو عدم محض فهذا يكفي فيه عدم المقتضى
فانقسم الترك إلى قسمين قسم يكفي فيه عدم السبب المقتضى لوجوده وقسم يستلزم وجود السبب الموجب له من البغض والكراهة وهذا السبب لا يقتضي بمجرده كف النفس وحبسها
والإلتئام مسبب عن المحبة والإرادة تقتضي أمرا هو أحب إليه من هذا الذي كف نفسه عنه فيتعارض عنده الأمران فيؤثر خيرهما وأعلاهما وأنفعهما له وأحبهما إليه على أدناهما فلا يترك محبوبا إلا لمحبوب هو أحب إليه منه ولا يرتكب مبغوضا إلا ليتخلص به من مبغوض هو أكره إليه منه
ثم خاصية العقل واللب : التمييز بين مراتب المحبوبات والمكروهات بقوة العلم والتمييز وإيثار أعلى المحبوبين على أدناهما واحتمال أدنى المكروهين للتخلص من أعلاهما بقوة الصبر والثبات واليقين
فالنفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب ولا تتحمل مكروها إلا لتحصيل محبوب أو للتخلص من مكروه آخر وهذا التخلص لا تقصده إلا لمنافاته لمحبوبها فصار سعيها في تحصيل محبوبها بالذات وأسبابه بالوسيلة ودفع مبغوضها بالذات وأسبابه بالوسيلة فسعيه في تحصيل محبوبه لما له فيه من اللذة وكذلك سعيه في دفع مكروهه أيضا لما له في دفعه من اللذة كدفع ما يؤلمه من البول والنجو والدم والقيء وما يؤلمه من الحر والبرد والجوع والعطش وغير ذلك (59/123)
وإذا علم أن هذا المكروه يفضي إلى ما يحبه يصير محبوبا له وإن كان يكرهه فهو يحبه من وجه ويكرهه من وجه وكذلك إذا علم أن هذا المحبوب يفضي إلى ما يكرهه يصير مكروها له وإن كان يحبه فهو يكرهه من وجه ويحبه من وجه
فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه مع قدرته إلا لما يحبه ويهواه ولا يرتكب ما يكرهه ويخشاه إلا حذار وقوعه فيما يكرهه ويخشاه لكن خاصية العقل أن يترك أدنى المحبوبين وأقلهما نفعا لأعلاهما وأعظمهما نفعا ويرتكب أدنى المكروهين ضررا ليتخلص به من أشدهما ضررا
فتبين بذلك أن المحبة والإرادة أصل للبغض والكراهة وعلة لهما من غير عكس فكل بغض فهو لمنافاة البغيض للمحبوب ولولا وجود المحبوب لم يكن البغض بخلاف الحب للشيء فإنه قد يكون لنفسه لا لأجل منافاته للبغيض وبغض الانسان لما يضاد محبوبه مستلزم لمحبته لضده وكلما كان الحب أقوى كانت قوة البغض للمنافي أشد
ولهذا كان أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وكان من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان
فإن الإيمان علم وعمل والعمل ثمرة العلم وهو نوعان : عمل القلب حبا وبغضا ويترتب عليهما عمل الجوارح فعلا وتركا وهما العطاء والمنع
فإذا كانت هذه الأربعة لله تعالى كان صاحبها مستكمل الإيمان وما نقص منها فكان لغير الله نقص من إيمانه بحسبه (59/124)
فصل إذا عرف هذا فكل حركة في العالم العلوي والسفلي فسببها المحبة
والارادة وغايتها المحبة والارداة
فإن الحركات ثلاث : إرادية وطبعية وقسريه
فإن المتحرك إن كان له شعور بحركته وإرادة لها فحركته إرادية وإن لم يكن له شعور بحركته أو له بها شعور وهو غير مريد لها فحركته إما على وفق طبعه أو على خلافه فالأولى طبعية والثانية قسرية
أظهر من هذا أن يقال : مبدأ الحركة إما أن يكون أمرا مباينا للمتحرك أو قوة فيه فالأول الحركة فيه قسرية والثاني إما أن يكون له به شعور أم لا فالأول : الحركة فيه إرادية والثاني طبعية فالحركة متى لازمت الشعور والإرادة فهي إرادية ومتى انتفى عنها الأمران فإن كانت بقوة في المتحرك فهي الطبعية وإن كانت من غير قوة في المحرك فهي القسرية
فكل حركة في السموات والأرض : من حركات الأفلاك والنجوم والشمس والقمر والرياح والسحاب والنبات والحيوان فهي ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسموات والأرض كما قال تعالى : فالمدبرات أمرا [ ] وقال : فالمقسمات أمرا [ ] وهي الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل عليهم السلام وأما المكذبون للرسل المنكرون للصانع فيقولون : هي النجوم
وقد أشبعنا الرد على هؤلاء في كتابنا الكبير المسمى بالمفتاح وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة وأنها موكلة بأصناف المخلوقات وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة ووكل بالسحاب والمطر ملائكة ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظه وملائكة لحفظ ما يعمله (59/125)
وإحصائه وكتابته ووكل بالموت ملائكة ووكل بالسؤال في القبر ملائكة ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها ووكل بالشمس والقمر ملائكة ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة ووكل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل الأنهار فيها ملائكة فالملائكة أعظم جنود الله تعالى ومنهم المرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا ومنهم : النازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا ومنهم : الصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا ومنهم : ملائكة الرحمة وملائكة العذاب وملائكة قد وكلوا بحمل العرش (59/126)
وملائكة قد وكلوا بعمارة السموات بالصلاة والتسبيح والتقديس إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله تعالى
ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر غيره فليس لهم من الأمر شيء بل الأمر له لله الواحد القهار وهم ينفذون أمره لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ولا تتنزل إلا بأمره ولا تفعل شيئا إلا من بعد إذنه فهم عباد له مكرمون منهم الصافون ومنهم المسبحون ليس منهم إلا من له مقام معلوم لا يتخطاه وهو على عمل قد أمر به لا يقصر عنه ولا يتعداه وأعلاهم الذين عنده سبحانه لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون ورؤساؤهم الأملاك الثلاث : جبريل وميكائيل وإسرافيل وكان النبيAيقول : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم (59/127)
فتوسل إليه سبحانه بربويبته العامة والخاصة لهؤلاء الأملاك الثلاثة الموكلين بالحياة
فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم
فسأله رسوله بربوبيته لهؤلاء أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه لما في ذلك من الحياة النافعة
وقد أثنى الله سبحانه على عبده جبريل في القرآن أحسن الثناء ووصفه بأجمل الصفات فقال : فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فهذا جبريل فوصفه بأنه رسوله وأنه كريم عنده وأنه ذو قوة ومكانة عند ربه سبحانه وأنه مطاع في السموات وأنه أمين على الوحي
فمن كرمه على ربه : أنه أقرب الملائكة إليه
قال بعض السلف : منزلته من ربه منزلة الحاجب من الملك ومن قوته : أنه رفع مدائن قوم لوط على جناحه ثم قلبها عليهم فهو قوي على تنفيذ ما يؤمر به غير عاجز عنه إذ تطيعه أملاك السموات فيما يأمرهم به عن الله تعالى قال ابن جرير في تفسيره عن إسمعيل بن أبي خالد عن أبي صالح : أمين على أن يدخل سبعين سرادقا من نور بغير إذن
ووصفه بالأمانة يقتضي صدقه ونصحه وإلقاءه إلى الرسل ما أمر به من غير زيادة ولا نقصان ولا كتمان وقد جمع له بين المكانة والأمانة والقوة والقرب من الله
ونظير الجمع له بين المكانة والأمانة : قول العزيز ليوسف عليه السلام : إنك اليوم لدينا مكين أمين والجمع بين القوة والأمانة : نظير قول ابنة شعيب في موسى (59/128)
عليهما السلام : إن خير من استأجرت القوي الأمين وقال تعالى في وصفه : علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى قال ابن عباس رضي الله عنهما : ذو منظر حسن وقال قتادة : ذو خلق حسن وقال ابن جرير : عنى بالمرة صحة الجسم وسلامته من الآفات والعاهات والجسم إذا كان كذلك من الإنسان كان قويا والمرة واحدة المرر وإنما أريد به ذو مرة سوية ومنه قول النبيAلا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي
قلت : هذا حجة من قال : المرة القوة في الآية وهو قول مجاهد وابن زيد وهو قول ضعيف لأنه قد وصفه قبل ذلك بأنه شديد القوى
ولا ريب أن المرة في الحديث هي القوة لا المنظر الحسن فإما أن يقال : المرة تقال على هذا وعلى هذا وإما أن يقال وهو الأظهر : إن المرة هي الصحة والسلامة من الآفات والعاهات الظاهرة والباطنة وذلك يستلزم كمال الخلقة وحسنها وجمالها فإن العاهة والآفة إنما تكون من ضعف الخلقة والتركيب فهي قوة وصحة تتضمن جمالا وحسنا والله تعالى أعلم وقالت اليهود للنبيA من صاحبك الذي يأتيك من الملائكة فإنه ليس من نبي إلا يأتيه ملك بالخبر قال : هو جبريل قالوا : ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال ذاك عدونا لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالنبات والقطر والرحمة فأنزل الله تعالى : من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوك للكافرين (59/129)
والمقصود : أن الله سبحانه وكل بالعالم العلوي والسفلي ملائكة فهي تدبر أمر العالم بإذنه ومشيئته وأمره فلهذا يضيف التدبير إلى الملائكة تارة لكونهم هم المباشرين للتدبير كقوله فالمدبرات أمرا ويضيف التدبير إليه كقوله : إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر وقوله : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فهو المدبر أمرا وإذنا ومشيئة والملائكة المدبرات مباشرة وامتثالا
وهذا كما أضاف التوفي إليهم تارة كقوله : توفته رسلنا وإليه تارة كقوله : الله يتوفى الأنفس ونظائره
والملائكة الموكلة بالإنسان من حين كونه نطفة إلى آخر أمره لهم وله شأن آخر فإنهم موكلون بتخليقه ونقله من طور إلى طور وتصويره وحفظه في أطباق الظلمات الثلاث وكتابة رزقه وعمله وأجله وشقاوته وسعادته وملازمته في جميع أحواله وإحصاء أقواله وأفعاله وحفظه في حياته وقبض روحه عند وفاته وعرضها على خالقه وفاطره وهم الموكلون بعذابه ونعيمه في البرزخ وبعد البعث وهم الموكلون بعمل آلات النعيم والعذاب وهم المثبتون للعبد المؤمن بإذن الله والمعلمون له ما ينفعه والمقاتلون الذابون عنه وهم أولياؤه في الدنيا والآخرة وهم الذين يرونه في منامه ما يخافه ليحذره وما يحبه ليقوى قلبه ويزداد شكرا وهم الذين يعدونه بالخير ويدعونه إليه وينهونه عن الشر ويحذرونه منه
فهم أولياؤه وأنصاره وحفظته ومعلموه وناصحوه والداعون له والمستغفرون له وهم الذين يصلون عليه ما دام في طاعة ربه ويصلون عليه ما دام يعلم الناس الخير ويبشرونه بكرامة الله تعالى في منامه وعند موته ويوم بعثه وهم الذين يزهدونه في الدنيا ويرغبونه في الآخرة وهم الذين يذكعرونه إذا نسي وينشطونه إذا كسل ويثبتونه إذا جزع وهم الذين يسعون في مصالح دنياه وآخرته (59/130)
فهم رسل الله في خلفه وأمره وسفراؤه بينه وبين عباده تتنزل بالأمر من عنده في أقطار العالم وتصعد إليه بالأمر قد أطت بهم السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد ويدخل البيت المعمور كل يوم منهم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم
والقرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم وأعمالهم ومراتبهم كقوله : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم إلى آخر القصة [ ] وقوله : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم وما بين هاتين السورتين من سور القرآن بل لا تخلو سورة من سور القرآن عن ذكر الملائكة تصريحا أو تلويحا أو إشارة وأما ذكرهم في الأحاديث النبوية فأكثر وأشهر من أن يذكر ولهذا كان الإيمان بالملائكة عليهم السلام أحد الأصول الخمس التي هي أركان الإيمان وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فلنرجع إلى المقصود وهو أن حركات العالم العلوي والسفلي بالملائكة فالحركات الإرادية كلها تابعة للإرادة التي تحرك المريد إلى فعل ما يفعله والحركة الطبيعيه سببها ما في (59/131)
المتحرك من الميل والطلب بكماله وانتهائه كحركة النار وحركة النبات وحركة الرياح وكذلك حركة الجسم الثقيل إلى أسفل فإنه بطبعه يطلب مستقره من المركز ما لم يعقه عنه عائق وأما الحركة القسرية كحركته بالقسر إلى العلو فتابعة لإرادة القاسر له فلم يبق حركة أصلية إلا عن الإرادة والمحبة
فصل فإذا عرف ذلك فالمحبة هي التي تحرك المحب في طلب محبوبه الذي
يكمل بحصوله له فتحرك محب الرحمن ومحب القرآن ومحب العلم والإيمان ومحب المتاع والأثمان ومحب الأوثان والصلبان ومحب النسوان والمردوان ومحب الأوطان ومحب الإخوان فتثير من كل قلب حركة إلى محبوبه من هذه الأشياء فيتحرك عند ذكر محبوبه منها دون غيره ولهذا تجد محب النسوان والصبيان ومحب قرآن الشيطان بالأصوات والألحان لا يتحرك عند سماع العلم وشواهد الإيمان ولا عند تلاوة القرآن حتى إذا ذكر له محبوبه اهتز له وربا وتحرك باطنه وظاهره شوقا إليه وطربا لذكره
فكل هذه المحاب باطلة مضمحلة سوى محبة الله وما والاها من محبة رسوله وكتابه ودينه وأوليائه فهذه المحبة تدوم وتدوم ثمرتها ونعيمها بدوام من تعلقت به وفضلها على سائر المحاب كفضل من تعلقت به على ما سواه وإذا انقطعت علائق المحبين وأسباب توادعهم وتحابعهم لم تنقطع أسبابها قال تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب
قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : المودة
وقال مجاهد : تواصلهم في الدنيا
وقال الضحاك : يعني تقطعت بهم الأرحام وتفرقت بهم المنازل في النار
وقال أبو صالح : الأعمال (59/132)
والكل حق فإن الأسباب هي الوصل التي كانت بينهم في الدنيا تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها وأما أسباب الموحدي المخلصين لله فاتصلت بهم ودام اتصالها بدوام معبودهم ومحبوبهم فإن السبب تبع لغايته في البقاء والانقطاع
فصل إذا تبين هذا فأصل المحبة المحمودة التي أمر الله تعالى بها
وخلق خلقه لأجلها : هي محبته وحده لا شريك له المتصمنة لعبادته دون عبادة ما سواه فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذلع ولا يصلح ذلك إلا لله عز و جل وحده
ولما كانت المحبة جنسا تحته أنواع متفاوتة في القدر والوصف كان أغلب ما يذكر فيها في حق الله تعالى : ما يختص به ويليق به كالعبادة والإنابة والإخبات ولهذا لا يذكر فيها لفظ العشق والغرام والصبابة والشغف والهوى وقد يذكر لفظ المحبة كقوله : يحبهم ويحبونه وقوله : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقوله والذين آمنوا أشد حبا لله
ومدار كتب الله تعالى المنزلة من أولها إلى آخرها على الأمر بتلك المحبة ولوازمها والنهي عن محبة ما يضادها وملازمتها وضرب الأمثال والمقاييس لأهل المحبتين وذكر قصصهم ومآلهم ومنازلهم وثوابهم وعقابهم ولا يجد حلاوة الإيمان بل لا يذوق طعمه إلا من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه عن النبيAقال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان وفي لفظ لا يجد طعم الإيمان إلا من كان فيه ثلاث من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله تعالى منه كما يكره أن يلقى في النار
وفي الصحيحين أيضا عنه قال : قال رسول اللهA والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين (59/133)
ولهذا اتفقت دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم على عبادة الله وحده لا شريك له
وأصل العبادة وتمامها وكمالها هو المحبة وإفراد الرب سبحانه بها فلا يشرك العبد به فيها غيره
والكلمة المتضمنة لهذين الأصلين هي الكلمة التي لا يدخل في الإسلام إلا بها ولا يعصم دمه وماله إلا بالإتيان بها ولا ينجو من عذاب الله إلا بتحقيقها بالقلب واللسان وذكرها أفضل الذكر كما في صحيح ابن حبان عنهAأفضل الذكر لا إله إلا الله والآيه المتضمنة لها ولتفضيلها سيدة أي القرآن والسورة المختصة بتحقيقها تعدل ثلث القرآن وبها أرسل الله سبحانه جميع رسله وأنزل جميع كتبه وشرع جميع شرائعه قياما بحقها وتكميلا لها وهي التي يدخل بها العبد على ربه ويصير في جواره وهي مفزع أوليائه وأعدائه فإن أعداءه إذا مسهم الضر في البر والبحر فزعوا إلى توحيده وتبرءوا من شركهم ودعوه مخلصين له الدين وأما اولياؤه فهي مفزعهم في شدائد الدنيا والآخرة ولهذا كانت دعوات المكروب لا إلكه إلا الله العظيم الحليم لا إلكه إلا الله رب العرش العظيم لا إلكه إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم ودعوة ذي النون التي مادعا بها مكروب إلا فرج الله كربه لا إله إلا انت سبحانك إني كنت من الظالمين
وقال ثوبان رضي الله عنه : كان رسول اللهAإذا راعه (59/134)
أمر قال : الله ربي لا أشرك به شيئا وفي لفظ قال : هو الله لا شريك له
وقالت أسماء بنت عميس : علمني رسول اللهAكلمات أقولها عند الكرب : الله الله ربي لا أشرك به شيئا
وفي الترمذي من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده عن النبيAقال : دعوة يونس إذ نادى في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها مسلم في شيء إلا استجيب له
وفي مسند الإمام أحمد مرفوعا دعوات المكروب : اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت
فالتوحيد ملجأ الطالبين ومفزع الهاربين ونجاة المكروبين وغياث الملهوفين وحقيقته إفراد الرب سبحانه بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل والخضوع
فصل فإذا عرف أن كل حركة فأصلها الحب والإرادة فلا بد من محبوب
مراد لنفسه لا يطلب ويحب لغيره إذ كان كل محبوب يحب لغيره لزم الدور او التسلسل في العلل والغايات وهو باطل باتفاق العقلاء والشيء قد يحب من وجه دون وجه وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله عز و جل وحده الذي لا تصلح الألوهية إلا له فلو كان في السموات والأرض آلهة إلا الله لفسدتا والإلهية التي دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها : هي العبادة والتأليه ومن لوازمها : توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون فاحتج الله عليهم به فإنه يلزم من الإقرار به الاقرار بتوحيد الالهية (59/135)
فصل وكل حي فله إرادة وعمل بحسبه وكل متحرك فله غاية يتحرك إليها
ولا صلاح له إلا أن تكون غاية حركته ونهاية مطلبه : هو الله وحده كما لا وجود له إلا أن يكون الله وحده هو ربه وخالقه فوجوده بالله وحده وكماله أن يكون لله وحده فما لا يكون به لا يكون وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم ولهذا قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ولم يقل لعدمتا إذ هو سبحانه قادر على أن يبقيهما على وجه الفساد لكن لا يمكن أن تكونا صالحتين إلا بأن يكون فاطرهما وخالقهما هو المعبود وحده لا شريك له فإن صلاح الأعمال والحركات بصلاح نياتها ومقاصدها فكل عمل فهو تابع لنية عامله وقصده وإرادته
وتقسيم الأعمال إلى صالح وفاسد هو باعتبارها في ذواتها تارة وباعتبار مقاصدها ونياتها تارة
وأما تقسيم المحبة والإرادة إلى نافعة وضارة فهو باعتبار متعلقها ومحبوبها ومرادها فإن كان المحبوب المراد هو الذي لا ينبغي أن يحب لذاته ويراد لذاته إلا هو وهو المحبوب الأعلى الذي لا صلاح للعبد ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون هو وحده محبوبه ومراده وغاية مطلوبه كانت محبته نافعة له وإن كان محبوبه ومراده ونهاية مطلوبه غيره كانت محبته ضارة له وعذابا وشقاء
فالمحبة النافعة هي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه من السعادة والنعيم والمحبة الضارة هي التي تجلب لصاحبها ما يضره من الشقاء والألم والعناء
فصل إذا تبين هذا فالحي العالم الناصح لنفسه لا يؤثر محبة ما يضره
ويشقى به ويتألم به ولا يقع ذلك إلا من فساد تصوره ومعرفته أو من فساد قصده وإرادته فالأول : جهل والثاني ظلم : والإنسان خلق في الأصل ظلوما جهولا ولا ينفك عن (59/136)
الجهل والظلم إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه ويلهمه رشده فمن أراد به الخير علمه ما ينفعه فخرج به عن الجهل ونفعه بما علمه فخرج به عن الظلم ومتى لم يرد به خيراأبقاه على أصل الخلقة كما في المسند من حديث عبدالله بن عمرو عن النبيAقال : إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل
فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها لجهلها بمضرته لها تارة ولفساد قصدها تارة ولمجموعهما تارة وقد ذم الله تعالى في كتابه من أجاب داعي الجهل والظلم فقال : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى فأصل كل خير : هو العلم والعدل وأصل كل شر : هو الجهل والظلم
وقد جعل الله سبحانه للعدل المأمور به حدا فمن تجاوزه كان ظالما معتديا وله من الذم والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه الذي خرج به عن العدل ولهذا قال سبحانه وتعالى : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ] وقال فيمن ابتغى سوى زوجته أو ملك يمينه : فمن ابتغى وراء ذلك فأولكئك هم العادون [ ] وقال : ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين والمقصود : أن محبة الظلم والعدوان سببها فساد العلم أو فساد القصد أو فسادهما جميعا
وقد قيل : إن فساد القصد من فساد العلم وإلا فلو علم ما في الضار من المضرة ولوازمها حقيقة العلم لما آثره ولهذا من علم من طعام شهي لذيذ أنه مسموم فإنه لا يقدم عليه فضعف علمه بما في الضار من وجوه المضرة وضعف عزمه عن اجتنابه يوقعه في ارتكابه ولهذا كان الإيمان الحقيقي هو الذي يحمل صاحبه على فعل ما ينفعه وترك ما يضره فإذا لم يفعل هذا ولم يترك هذا لم يكن إيمانه على الحقيقة وإنما معه من الايمان بحسب ذلك فإن المؤمن بالنار حقيقة الإيمان حتى كأنه يراها لا يسلك طريقها (59/137)
الموصلة إليها فضلا عن أن يسعى فيها بجهده والمؤمن بالجنة حقيقة الإيمان لا تطاوعه نفسه أن يقعد عن طلبها وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه فيما يسعى فيه في الدنيا من المنافع أو التخلص منه من المضار
فصل إذا تبين هذا فالعبد أحوج شيء إلى علم ما يضره ليجتنبه وما
ينفعه ليحرص عليه ويفعله فيحب النافع ويبغض الضار فتكون محبته وكراهته موافقتين لمحبة الله تعالى وكراهته وهذا من لوازم العبودية والمحبة ومتى خرج عن ذلك أحب ما يسخطه ربه وكره ما يحبه فنقصت عبوديته بحسب ذلك
وههنا طريقان : العقل والشرع أما العقل فقد وضع الله سبحانه في العقول والفطر استحسان الصدق والعدل والإحسان والبر والعفة والشجاعة ومكارم الأخلاق وأداء الأمانات وصلة الأرحام ونصيحة الخلق والوفاء بالعهد وحفظ الجوار ونصر المظلوم والإعانة على نوائب الحق وقرى الضيف وحمل الكل ونحو ذلك ووضع في العقول والفطر استقباح أضداد ذلك ونسبة هذا الاستحسان والاستقباح إلى العقول والفطر كنسبة استحسان شرب الماء البارد عند الظمأ وأكل الطعام اللذيذ النافع عند الجوع ولبس ما يدفئه عند البرد فكما لا يمكنه أن يدفع عن نفسه وطبعه استحسان ذلك ونفعه فكذلك لا يدفع عن نفسه وفطرته استحسان صفات الكمال ونفعها واستقباح أضدادها ومن قال : إن ذلك لا يعلم بالعقل ولا بالفطرة وإنما عرف بمجرد السمع فقوله باطل قد بينا بطلانه في كتاب المفتاح من ستين وجها وبينا هناك دلالة القرآن والسنة والعقول والفطر على فساد هذا القول والطريق الثاني لمعرفة الضار والنافع من الأعمال : السمع وهو أوسع وأبين وأصدق من الطريق الأول لخفاء صفات الأفعال وأحوالها ونتائجها وأن العالم بذلك على التفصيل ليس هو إلا الرسول صلوات الله وسلامه عليه فأعلم الناس وأصحهم عقلا ورأيا واستحسانا من (59/138)
كان عقله ورأيه واستحسانه وقياسه موافقا للسنة كما قال مجاهد : أفضل العبادة الرأي الحسن وهو اتباع السنة قال تعالى : ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وكان السلف يسمون أهل الآراء المخالفة للسنة وما جاء به الرسول في مسائل العلم الخبرية وأهل مسائل الأحكام العملية يسمونهم : أهل الشبهات والأهواء لأن الرأي المخالف للسنة جهل لا علم وهوى لا دين فصاحبه ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وغايته الضلال في الدنيا والشقاء في الآخرة وإنما ينتفي الضلال والشقاء عمن اتبع هدى الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه كما قال تعالى : فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى واتباع الهوى يكون في الحب والبغض كما قال تعالى : يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وقال : ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى والهوى المنهي عن اتباعه كما يكون هو هوى الشخص في نفسه فقد يكون أيضا هوى غيره فهو منهي عن اتباع هذا وهذا لمضادة كل منهما لهدى الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه
فصل فمن المحبة النافعة : محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل فإنها
معينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين من إعفاف الرجل نفسه وأهله فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام ويعفها فلا تطمح نفسها إلى غيره وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتم وأقوى كان هذا المقصود أتم وأكمل قال تعالى : هو الذي خلقكم من (59/139)
نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها وقال : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة
وفي الصحيح عنهAأنه سئل من أحب الناس إليك فقال : عائشة ولهذا كان مسروق رحمه الله يقول إذا حدث عنها : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول اللهA المبرأة من فوق سبع سموات
وصح عنهAأنه قال : حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة
فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله وزاحم حبه وحب رسوله فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة ولذلك كان رسول اللهAيحب الشراب البارد الحلو ويحب الحلواء والعسل ويحب الخيل وكان أحب الثياب إليه القميص وكان يحب الدباء فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه
فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قربة وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يثب ولم يعاقب وإن فاته درجة من فعله متقربا به إلى الله
فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع : محبة الله ومحبة في الله ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع : المحبة مع الله ومحبة ما يبغضه الله تعالى ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق فمحبة الله عز و جل أصل المحاب المحمودة وأصل الإيمان والتوحيد والنوعان الآخران تبع لها (59/140)
والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة والنوعان الآخران تبع لها
ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد وكلما كان أكثر إخلاصا وأشد توحيدا كان أبعد من عشق الصور ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه قال تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فالسوء : العشق والفحشاء : الزنا فالمخلص قد خلص حبه لله فخلصه الله من فتنة عشق الصور والمشرك قلبه متعلق بغير الله لم يخلص توحيده وحبه لله عز و جل
فصل ومن أبلغ كيد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصور : أنه يمنعى
أحدهم أنه إنما يحب ذلك الأمرد أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى لا للفاحشة ويأمره بمواخاته
وهذا من جنس المخادنة بل هو مخادنة باطنة كذوات الأخدان اللاتي قال الله تعالى فيهن : محصنات غير مسافحات ولا متخذان أخدان [ ] وقال في حق الرجال : محصنين غير مسافحين ولا متخذي آخران فيظهرون للناس أن محبتهم تلك الصورة لله تعالى ويبطنون اتخاذها خدنا يتلذذون بها فعلا أو تقبيلا أو تمتعا بمجرد النظر والمخادنة والمعاشرة واعتقادهم أن هذا لله وأنه قربة وطاعة : هو من أعظم الضلال والغي وتبديل الدين حيث جعلوا ما كرهه الله سبحانه محبوبا له وذلك من نوع الشرك والمحبوب المتخذ من دون الله طاغوت فإن اعتقاد كون التمتع بالمحبة والنظر والمخادنة وبعض المباشرة لله وأنه حبك فيه : كفر وشرك كاعتقاد محبي الأوثان في أوثانهم (59/141)
وقد يبلغ الجهل بكثير من هؤلاء إلى أن يعتقد أن التعاون على الفاحشة تعاون على الخير والبر وأن الجالب محسن إلى العاشق جدير بالثواب وأنه ساع في دوائه وشفائه وتفريج كرب العشق عنه وأن من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدينا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة
فصل ثم هم بعد هذا الضلال والغي أربعة أقسام قوم يعتقدون أن
هذا لله وهذا كثير في طوائف العامة والمنتسبين إلى الفقر والتصوف وكثير من الأتراك وقوم يعلمون في الباطن أن هذا ليس لله وإنما يظهرون أنه لله خداعا ومكرا وتسترا
وهؤلاء من وجه أقرب إلى المغفرة من أولئك لما يرجى لهم من التوبة ومن وجه أخبث لأنهم يعلمون التحريم ويأتون المحرم وأولئك قد يشتبه الأمر على بعضهم كما اشتبه على كثير من الناس أن استماع أصوات الملاهي قربة وطاعة ووقع في ذلك من شاء الله من الزهاد والعباد فكذلك اشتبه على من هو أضعف علما وإيمانا أن التمتع بعشق الصور ومشاهدتها ومعاشرتها عبادة وقربة
القسم الثالث : مقصودهم الفاحشة الكبرى فتارة يكونون من أولئك الضالين الذين يعتقدون أن هذه المحبة التي لا وطء فيها لله تعالى وأن الفاحشة معصية فيقولون : نفعل شيئا لله تعالى ونفعل أمرا لغير الله تعالى وتارة يكونون من أهل القسم الثاني الذين يظهرون أن هذه المحبة لله وهم يعلمون أن الأمر بخلاف ذلك فيجمعون بين الكذب والفاحشة وهم في هذه المخادنة والمواخاة مضاهئون للنكاح فإنه يحصل بين هذين من الاقتران والازدواج والمخالطة نظير ما يحصل بين الزوجين وقد يزيد عليه تارة في الكم والكيف وقد ينقص عنه وقد يحصل بينهما من الاقتران ما يشبه اقتران المتواخيين المتحابين في الله لكن الذين (59/142)
آمنوا أشد حبا لله فإن المتحابين في الله يعظم تحابهما ويقوى ويثبت بخلاف هذه المواخاة والمحبة الشيطانية ثم قد يشتد بينهما الإتصال حتى يسمونها زواجا ويقولون : تزوج فلان بفلان كما يفعله المستهزئون بآيات الله تعالى ودينه من مجان الفسقة ويقرهم الحاضرون على ذلك ويضحكون منه ويعجبهم مثل ذلك المزاح والنكاح وربما يقول بعض زنادقة هؤلاء : الأمرد حبيب الله والملتحي عدو الله وربما اعتقد كثير من المردان أن هذا صحيح وأنه المراد بقوله إذا أحب الله العبد نادى يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه الحديث وأنه توضع له المحبة في الأرض فيعجبه أن يحب ويفتخر بذلك بين الناس ويعجبه أن يقال : هو معشوق أو حظوة البلد وأن الناس يتغايرون على محبته ونحو ذلك وقد آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى ترجيح وطء المردان على نكاح النسوان وقالوا : هو أسلم من الحبل والولادة ومؤنة النكاح والشكوى إلى القاضي وفرض النفقة والحبس على الحقوق
وربما قال بعضهم : إن جماع النساء يأخذ من القوة أكثر مما يأخذ جماع الصبيان لأن الفرج يجذب من القوة والماء أكثر مما يجذب المحل الآخر بحكم الطبيعة
وقسمت هذه الطائفة المفعول به إلى ثلاثة أقسام : مؤاجر ومملوك ومعشوق خاص فالأول : بإزاء البغايا المؤجرات أنفسهن والثاني : بإزاء الأمة والسرية والثالث : بإزاء الزوجة أو الأجنبية المعشوقة
وتعوض كل منهم بقسم عن نظيره من الإناث وربما فضل بعضهم اتخاذ المردان (59/143)
واستفراشهم على النساء من وجوه وهذا مضادة ومحادة لله ودينه وكتبه ورسله وصنف بعضهم كتابا في هذا الباب وقال في أثنائه : باب في المذهب المالكي وذكر فيه الجماع في الدبر من الذكور والإناث
وقد علم أن مالكا رحمه الله تعالى من أشد الناس وأسدهم مذهبا في هذا الباب حتى إنه يوجب قتل اللوطي حدا بكرا كان أو ثيبا وقوله في ذلك هو أصح المذاهب كما دلت عليه النصوص واتفق عليه أصحاب رسول اللهA وإن اختلفت أقوالهم في كيفية قتله كما سنذكره إن شاء الله تعالى
وسبب غلط هذا وأمثاله : أنه قد نسب إلى مالك رحمه الله تعالى القول بجواز وطء الرجل امرأته في دبرها وهو كذب على مالك وعلى أصحابه فكتبهم كلها مصرحة بتحريمه ثم لما استقر عند هؤلاء أن مالكا يبيح ذلك نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور وجعلوا البابين بابا واحدا وهذا كفر وزندقة من قائله بإجماع الأمة
ونظير هذا : ما يتوهمه كثير من الفسقة وجهال الترك وغيرهم أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن هذا ليس من الكبائر وغايته أن يكون صغيرة من الصغائر وهذا من أعظم الكذب والبهت على الأئمة فقد أعاذ الله أبا حنيفة وأصحابه من ذلك
وشبهة هؤلاء الفسقة الجهلة : أنهم لما رأوا أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يوجب فيه الحد ركبوا على ذلك أنه ليس من كبائر الذنوب بل من صغائرها وهذا ظن كاذب فإن أبا حنيفة لم يسقط فيه الحد لخفة أمره فان جرمه عنده وعند جميع أهل الإسلام أعظم من جرم الزنا ولهذا عاقب الله سبحانه أهله بما لم يعاقب به أمة من الأمم وجمع عليهم من أنواع العذاب ما لم يجمعه على غيرهم (59/144)
وشبهة من أسقط فيه الحد : أن فحش هذا مركوز في طباع الأمم فاكتفي فيه بالوازع الطبعي كما اكتفي بذلك في أكل الرجيع وشرب البول والدم ورتب الحد على شرب الخمر لكونه مما تدعو إليه النفوس والجمهور يجيبون عن هذا بأن في النفوس الخبيثة المتعدية حدود الله أقوى الداعي لذلك فالحد فيه أولى من الحد في الزنا ولذلك وجب الحد على من وطىء أمه وابنته وخالته وجدته وإن كان في النفوس وازع وزاجر طبعي عن ذلك بل حد هذا القتل بكل حال بكرا كان أو محصنا في أصح الأقوال وهو مذهب أحمد وغيره هذا ونفرة النفوس عن ذلك أعظم بكثير من نفرتها عن المردان ونظير هذا الظن الكاذب والغلط الفاحش : ظن كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة أو مباحة أو أنها أيسر من ارتكابها من الحرع وتأولت هذه الفرقة القرآن على ذلك وأدخلت المملوك في قوله : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين حتى إن بعض النساء لتمكن عبدها من نفسها وتتأول القرآن على ذلك كما رفع إلى عمر بن الخطاب امرأة تزوجت عبدها وتأولت هذه الآية ففرق عمر رضي الله عنه بينهما وأدبها وقال : ويحك إنما هذا للرجال لا للنساء ومن تأول هذه الآية على وطء الذكران من المماليك فهو كافر باتفاق الأمة قال شيخنا : ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى : ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم على ذلك قال : وقد سألني بعض الناس عن هذه الآية وكان ممن يقرأ القرآن فظن أن معناها في إباحة ذكران العبيد المؤمنين قال : ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاع يبيحه بعض العلماء ويحرمه بعضهم ويقول : اختلافهم شبهة وهذا كذب وجهل فإنه ليس في فرق الأمة من يبيح ذلك بل ولا في دين من أديان الرسل وإنما يبيحه زنادقة العالم الذين لا يؤمنون بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر (59/145)
قال : ومنهم من يقول : هو مباح للضرورة مثل أن يبقى الرجل أربعين يوما لا يجامع إلى أمثال هذه الأمور التي خاطبني فيها وسألني عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء قال : ومنهم من قد بلغه خلاف بعض العلماء في وجوب الحدع فيه فظن أن ذلك خلاف في التحريم ولم يعلم أن الشيء قد يكون من أعظم المحرمات كالميتة والدم ولحم الخنزير وليس فيه حد مقدر
ثم ذلك الخلاف قد يكون قولا ضعيفا فيتولد من ذلك القول الضعيف الذي هو من خطأ بعض المجتهدين وهذا الظن الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين : تبديل الدين وطاعة الشيطان ومعصية رب العالمين فإذا انضافت الأقوال الباطلة إلى الظنون الكاذبة وأعانتها الأهواء الغالبة فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك والخروج عن جملة الشرائع بالكلية
ولما سهل هذا الأمر في نفوس كثير من الناس صار كثير من المماليك يتمدح بأنه لا يعرف غير سيده وأنه لم يطأه سواه كما تتمدح الأمة والمرأة بأنها لا تعرف غير سيدها وزوجها وكذلك كثير من المردان يتمدح بأنه لا يعرف غير خدينه وصديقه أو مؤاخيه أو معلمه وكذلك كثير من الفاعلين يتمدح بأنه عفيف عما سوى خدنه الذي هو قرينه وعشيره كالزوجة أو عما سوى مملوكه الذي هو كسريته ومنهم من يرى أن التحريم إنما هو إكراه الصبي على فعل الفاحشة فإذا كان مختارا راضيا لم يكن بذلك بأس فكأن المحرم عنده من ذلك إنما هو الظلم والعدوان بإكراه المفعول به
قال شيخنا : وحكى لي من أثق به : أن بعض هؤلاء أخذ على هذه الفاحشة فحكم عليه بالحد فقال : والله هو ارتضى بذلك وما أكرهته ولا غصبته فكيف أعاقب فقال نصير المشركين وكان حاضرا هذا حكم محمد بن عبدالله وليس لهؤلاء (59/146)
ذنب
ومن هؤلاء من يعتقد أن العشق إذا بلغ بالعاشق إلى حد يخاف معه التلف أبيح له وطء معشوقه للضرورة وحفظ النفس كما يباح له الدم والميتة ولحم الخنزير في المخمصة
وقد يبيح هؤلاء شرب الخمر على وجه التداوي وحفظ الصحة إذا سلم من معرة السكر
ولاريب أن الكفر والفسوق والمعاصي درجات كما أن الإيمان والعمل الصالح درجات كما قال تعالى : هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون وقال : ولكلع درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون وقال : إنما النيىء زيادة في الكفر وقال : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ونظائره في القرآن كثيرة
ومن أخف هؤلاء جرما : من يرتكب ذلك معتقدا تحريمه وإنه إذا قضى حاجته قال : استغفر الله فكأن ما كان لم يكن
فقد تلاعب الشيطان بأكثر هذا الخلق كتلاعب الصبيان بالكرة وأخرج لهم أنواع الكفر والفسوق والعصيان في كل قالب
وبالجملة فمراتب الفاحشة متفاوتة بحسب مفاسدها فالمتخذ خدنا من النساء والمتخذة خدنا من الرجال أقل شرا من المسافح والمسافحة مع كل أحد والمستخفي بما يرتكبه أقل إثما من المجاهر المستعلن والكاتم له أقل إثما من المخبر المحدث للناس به فهذا بعيد من عافية الله تعالى وعفوه كما قال النبيA كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يستر الله تعالى عليه ثم يصبح يكشف ستر الله عنه يقول : يا فلان فعلت البارحة كذا وكذا فيبيت ربه يستره ويصبح يكشف ستر الله عن نفسه أو كما قال
وفي الحديث الآخر عنهAمن ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله (59/147)
وفي الحديث الآخر إن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة
وكذلك الزنا بالمرأة التي لا زوج لها أيسر إثما من الزنا بذات الزوج لما فيه من ظلم الزوج والعدوان عليه وإفساد فراشه عليه وقد يكون إثم هذا أعظم من إثم مجرد الزنا أو دونه والزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا ببعيدة الدار لما اقترن بذلك من أذى الجار وعدم حفظ وصية الله تعالى ورسوله به
وكذلك الزنا بامرأة الغازي في سبيل الله أعظم إثما عندالله من الزنا بغيرها ولهذا يقام له يوم القيامة ويقال له : خذ من حسناته ما شئت وكما تختلف درجاته بحسب المزني بها فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان والأحوال وبحسب الفاعل فالزنا في رمضان ليلا أو نهارا أعظم إثما منه في غيره
وكذلك في البقاع الشريفة المفضلة هو أعظم إثما منه فيما سواها وأما تفاوته بحسب الفاعل : فالزنا من الحر أقبح منه من العبد ولهذا كان حده على النصف من حده ومن المحصن أقبح منه من البكر ومن الشيخ أقبح منه من الشاب ولهذا كان أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : الشيخ الزاني ومن العالم أقبح منه من الجاهل لعلمه بقبحه وما يترتب عليه وإقدامه على بصيرة ومن القادر على الاستغناء عنه أقبح من الفقير العاجز (59/148)
فصل ومما ينبغي أن يعلم : أنه قد يقترن بالأيسر إثما ما يجعله
أعظم إثما مما هو فوقه مثاله : أنه قد يقترن بالفاحشة من العشق الذي يوجب اشتغال القلب المعشوق وتأليهه له وتعظيمه والخضوع له والذل له وتقديم طاعته وما يأمر به على طاعة الله تعالى ورسوله وأمره فيقترن بمحبة خدنه وتعظيمه وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه ومحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه ما قد يكون أعظم ضررا على صاحبه من مجرد ركوب الفاحشة
فإن المحبوبات لغير الله قد أثبت الشارع فيها اسم التعبد كقولهAفي الحديث الصحيح : تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش إن أعطى رضي وإن منع سخط رواه البخاري فسمى هؤلاء الذين إن أعطوا رضوا وإن منعوا سخطوا عبيدا لهذه الأشياء لانتهاء محبتهم ورضاهم ورغبتهم إليها فإذا شغف الإنسان بمحبة صورة لغير الله بحيث يرضيه وصوله إليها وظفره بها ويسخطه فوات ذلك كان فيه من التعبد لها بقدر ذلك (59/149)
ولهذا يجعلون الحب مراتب أوله : العلاقة ثم الصبابة ثم الغرام ثم العشق وآخر ذلك : التتيم وهو التعبد للمعشوق فيصير العاشق عبدا لمعشوقه والله سبحانه إنما حكى عشق الصور في القرآن عن المشركين فحكاه عن امرأة العزيز وكانت مشركة على دين زوجها وكانوا مشركين وحكاه عن اللوطية وكانوا مشركين فقال تعالى في قصتهم : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون وأخبر سبحانه أنه يصرفه عن أهل الإخلاص فقال : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين وقال عن عدوه إبليس : أنه قال : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين وقال تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين والغاوي ضد الراشد والعشق المحرم من أعظم الغي ولهذا كان أتباع الشعراء أهل السماع الشعري غاوين كما سماهم الله تعالى بذلك في قوله : والشعراء يتبعهم الغاوون فالغاوون يتبعون الشعراء وأصحاب السماع الشعري الشيطاني وهؤلاء لا ينفكون عن طلب وصال أو سؤال نوال كما قال أبو تمام لرجل : أما تعرفني فقال : ومن أعرف بك مني
أنت بين اثنتين تبرز للنا ... س وكلتاهما بوجه مذال
لست تنفك طالبا لوصال ... من حبيب أو راجيا لنوال
أي ماء يبقى لوجهك هذا ... بين ذل الهوى وذل السؤال والزنا بالفرج وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة كالنظرة والقبلة والمس لكن إصرار العاشق على محبة الفعل وتوابعه ولوازمه وتمنيه له وحديث نفسه به : أنه لا يتركه واشتغال قلبه بالمعشوق قد يكون أعظم ضررا من فعل الفاحشة مرة بشيء كثير فإن (59/150)
الإصرار على الصغيرة قد يساوي إثمه إثم الكبيرة أو يربى عليها وأيضا فإن تعبد القلب للمعشوق شرك وفعل الفاحشة معصية ومفسدة الشرك أعظم من مفسدة المعصية
وأيضا فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار وأما العشق إذا تمكن من القلب فإنه يعز عليه التخلص منه كما قال القائل : تالله ما أسرت لواحظك امرء ... إلا وعز على الورى استنقاذه بل يصير تعبدا لازما للقلب لا ينفك عنه ومعلوم أن هذا أعظم ضررا وفسادا من فاحشة يرتكبها مع كراهيته لها وقلبه غير معبد لمن ارتكبها منه وقد أخبر الله سبحانه أن سلطان الشيطان إنما هو : على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وأن سلطانه إنما هو على من اتبعه من الغاوين والغي اتباع الهوى والشهوات كما أن الضلال اتباع الظنون والشبهات
وأصل الغي من الحب لغير الله فإنه يضعف الإخلاص به ويقوى الشرك بقوته
فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولى الشيطان والإشراك به بقدر ذلك لما فيهم من الإشراك بالله ولما فاتهم من الإخلاض له ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد ولهذا ترى كثيرا منهم عبدا لذلك المعشوق متيما فيه يصرخ في حضوره ومغيبه : أنه عبده فهو أعظم ذكرا له من ربه وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه وكفى به شاهدا بذلك على نفسه بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره فلو خير بين رضاه ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه وتمنيه لقربه أعظم تمنيه لقرب ربه وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه يسخط ربه بمرضاة معشوقه ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه فإن فصل من وقته فضلة وكان عنده قليل من الإيمان صدق تلك المفضلة في طاعة ربه وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها وأهمل أمر الله تعالى يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس ويجعل لربه من ماله إن جعل له كل رذيلة (59/151)
وخسيس فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه ووقته وخالص ماله وربه على الفضلة قد اتخذه وراءه ظهريا وصار لذكره نسيا إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجي معشوقه ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه وتكلفه لفعلها فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحا بها ناصحا له فيها خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله
وعشقهم يجمع المحرمات الأربع : من الفواحش الظاهرة والباطنة والإثم والبغي بغير الحق والشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا والقول على الله ما لا يعلمون فإن هذا من لوازم الشرك فكل مشرك يقول على الله ما لا يعلم فكثيرا ما يوجد في هذا العشق من الشرك الأكبر والأصغر ومن قتل النفوس تغايرا على المعشوق وأخذ أموال الناس بالباطل ليصرفها في رضا المعشوق ومن الفاحشة والكذب والظلم ما لا خفاء به
وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى والإخلاص له والتشريك بينه وبين غيره في المحبة ومن محبة ما يحب لغير الله فيقوم ذلك بالقلب ويعمل بموجبه بالجوارح وهذا هو حقيقة اتباع الهوى وفي الأثر ما تحت أديم السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع وقال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون
وإذا تأملت حال عشاق الصور المتيمين فيها وجدت هذه الآية منطبقة عليهم مخبرة عن حالهم
قال بعض العلماء : ليس شيء من المحبوبات يستوعب محبة القلب إلا محبة الله أو محبة بشر مثلك أما محبة الله فهي التي خلق لها العباد وبها غاية سعادتهم وكمال نعيمهم وأما البشر المماثل من ذكر أو انثى فإن فيه من المشاكلة والمناسبة بين العاشق وبينه (59/152)
ما ليس مثله وبينه وبين جنس آخر من المخلوقات ولهذا لا يعرف في محبة شيء من المحبوبات المخالفة للمحب في الجنس ما يزيل العقل ويفسد الإدراك ويوجب انقطاع الإرادة لغير ذلك المحبوب وإنما يعرف ذلك في محبته لجنسه فتستوعب قلبه وتسلب لبه ويصير لمعشوقة سامعا مطيعا كما قيل :
إن هواك الذب بقلبي ... صيرني سامعا مطيعا
ويقوى هذا السمع والطاعة عند كثير من العشاق حتى يبذل نفسه ويسلمها للتلف في طاعة معشوقه كما يبذل المجاهد نفسه لربه حتى يقتل في سبيله وإذا كان النبيAقد قال في الحديث الذي رواه أحمد وغيره : شارب الخمر أو قال مدمن الخمر كعابد وثن
ومر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوم يلعبون بالشطرنج فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون
فما الظن بالعاشق المتيم الفاني في معشوقه ولهذا قرن الله سبحانه بين الخمر والأنصاب وهي الأصنام التي تعبد من دون الله فقال : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ] ومعلوم أن شارب الخمر لا يدوم سكره بل لابد أن يفيق ولعل أوقات إفاقته أكثر من أوقات سكره وأما سكرة العشق فقل أن يستفيق صاحبها إلا إذا جاءت الرسل تطلبه للقدوم على الله تعالى ولهذا استمرت سكرة اللوطية حتى فجأهم عذاب الله وعقوبته (59/153)
وهم في سكرتهم يعمهون فكيف إذا خرج العشق إلى حد الجنون المطبق كما أنشد محمد بن جعفر الخرائطي في كتاب اعتلال القلوب قال : أنشد الصيدلاني قالت :
جننت على رأسي فقلت لها ... العشق أعظم مما بالمجانين
العشق ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين فصاحبه أحق بأن يشبه بعابد الوثن والعاكف على التماثيل فإن عكوف قلب العاشق على صورة محبوبه وتمثاله يشبه عكوف عابد الصنم على صنمه
وإذا كان الشيطان يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين في الخمر والميسر ويصدهم بذلك عن ذكر الله وعن الصلاة فالعداوة والبغضاء والصد الذي يوقعه بالعشق أعظم بكثير
وجميع المعاصي يجتمع فيها هذان الوصفان وهما العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة فإن التحاب والتآلف إنما هو بالإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا أي يلقي بينهم المحبة فيحب بعضهم بعضا فيتراحمون ويتعاطفون بما جعل الله لبعضهم في قلوب بعض من المحبة وقال ابن عباس : يحبهم ويحبعبهم إلى عباده قال هرم بن حيان : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز و جل إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم (59/154)
وأهل المعاصي والفسوق وإن كان بينهم نوع مودة وتحابي فإنها تنقلب عداوة وبغضا وفي الغالب يتعجل لهم ذلك في الدنيا قبل الآخرة وأما في الآخرة ف الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوك إلا المتقين وقال إمام الحنفاء لقومه : إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا فالمعاصي كلها توجب ذلك وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة وذكر ذلك في الخمر والميسر اللذين هما من أواخر المحرمات تنبيه على ما في غيرهما من ذلك مما حرم قبلهما وهو أشد تحريما منهما فإن ما يوقعه قتل النفوس وسرقة الأموال وارتكاب الفواحش من ذلك وما يصد به عن ذكر الله وعن الصلاة أضعاف أضعاف ما يقتضيه الخمر والميسر والواقع شاهد بذلك
وكم وقع وهو واقع بين الناس بسبب عشق الصور من العداوة والبغضاء وزوال الألفة والمحبة وانقلابها عداوة
وأما صده عن ذكر الله فقلب العاشق ليس فيه موضع لغير معشوقه كما قيل
ما في الفؤاد لغير حبك موضع ... كلا ولا أحد سواك يحله
وأما صده عن الصلاة فهو إن لم يصد عن صورتها وأعمالها الظاهرة فإنه يصد عن حقيقتها ومقاصدها الباطنة
فصل ومما يبين أن هذه الفواحش أصلها المحبة لغير الله تعالى سواء
كان المطلوب المشاهدة أو المباشرة أو غير ذلك أنها في المشركين أكثر منها في المخلصين ويوجد فيهم منها ما لا يوجد مثله في المخلصين
قال تعالى 7 : 27 يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث (59/155)
لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين إلى قوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
فأخبر سبحانه أنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وهو قوله 18 : 50 أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا وقال تعالى في الشيطان 60 : 100 إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وأخبر عنه 38 : 82 أنه أقسم بعزة ربه أنه يغوي عباده أجمعين واستثنى أهل الإخلاص منهم وأخبر سبحانه عن أولياء الشيطان أنهم إذا فعلوا فاحشة احتجوا بتقليد أسلافهم وزعموا أن الله سبحانه أمرهم بها فاتبعوا الظن الكاذب والهوى الباطل
قال شيخنا وفي هذا الوصف نصيب كبير لكثير من المنتسبين إلى القبلة من الصوفية والعباد والأمراء والأجناد والمتفلسفة والمتكلمين والعامة وغيرهم يستحلون من الفواحش ما حرمه الله ورسوله ظانين أن الله أباحه أو تقليدا لأسلافهم وأصله العشق الذي يبغضه الله فكثير منهم يجعله دينا ويرى أنه يتقرب به إلى الله إما لزعمه أنه يزكي النفس ويهذبها وإما لزعمه أنه يجمع بذلك قلبه على آدمي ثم ينقله إلى عبادة الله وحده وإما لزعمه أن الصور الجميلة مظاهر الحق ومشاهده ويسميها مظاهر الجمال الأحدى وإما لاعتقاده حلول الرب فيها واتحاده بها ولهذا تجد بين نساك هؤلاء وفقرائهم وأمرائهم وأصحابهم توافقا وتآلفا على اتخاذ أنداد من دون الله يحبونهم كحب الله إما تدينا وإما شهوة وإما جمعا بين الأمرين ولهذا يتآلفون ويجتمعون على السماع الشيطاني الذي يهيج الحب المشترك فيهيج من كل قلب ما فيه من الحب
وسبب ذلك خلو القلب مما خلق له من عبادة الله تعالى التي تجمع محبته وتعظيمه والخضوع والذل له والوقوف مع أمره ونهيه ومحابه ومساخطه فإذا كان في القلب وجدان حلاوة الإيمان وذوق طعمه أغناه ذلك عن محبة الأنداد وتأليهها وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه ويتخذه إلهه وهذا من تبديل الدين وتغيير فطرة الله التي (59/156)
فطر عليها عباده قال تعالى 30 : 30 فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله أي نفس خلق الله لا تبديل له فلا يخلق الخلق إلا على الفطرة كما أن خلقه للأعضاء على السلامة من الشق والقطع ولا تبديل لنفس هذا الخلق ولكن يقع التغيير في المخلوق بعد خلقه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها (59/157)
فالقلوب مفطورة على حب إلهها وفاطرها وتأليهه فصرف ذلك التأله والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة
ولما تغيرت فطر الناس بعث الله الرسل بصلاحها وردها إلى حالتها التي خلقت عليها فمن استجاب لهم رجع إلى أصل الفطرة ومن لم يستجب لهم استمر على تغيير الفطرة وفسادها
فصل والفتنة بعشق الصور تنافي أن يكون دين العبد كله لله بل ينقص
من كون دينه لله بحسب ما حصل له من فتنة العشق وربما أخرجت صاحبه من أن يبقى معه شيء من الدين لله قال تعالى 8 : 39 وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله
فناقض بين كون الفتنة وبين كون الدين كله فكل منهما يناقض الآخر
والفتنة قد فسرت بالشرك
فما حصلت به فتنة القلوب فهو إما شرك وإما من أسباب الشرك
وهي جنس تحته أنواع من الشبهات والشهوات
وفتنة الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله من أعظم الفتن
ومنه فتنة أصحاب العجل كما قال تعالى لموسى 20 : 85 إنا قد فتنا قومك من بعدك
وكذلك فتنة العشق من أعظم الفتن قال تعالى 9 : 49 ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا نزلت في الجد بن قيس لما غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم تبوك قال له هل لك يا جد في بلاد بني الأصفر تتخذ منهم السراري والوصفاء فقال جد ائذن لي في القعود عنك فقد عرف قومي أني مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت بنات الأصفر أن لا أصبر عنهن فأنزل الله تعالى هذه الآية (59/158)
قال ابن زيد يريد لا تفتني بصباحة وجوههن
وقال أبو العالية لا تعرضني للفتنة
وقوله تعالى ألا في الفتنة سقطوا قال قتادة ما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والرغبة بنفسه عنه أعظم
فالفتنة التي فر منها بزعمه هي فتنة محبة النساء وعدم صبره عنهن والفتنة التي وقع فيها هي فتنة الشرك والكفر في الدنيا والعذاب في الآخرة
ولفظ الفتنة في كتاب الله تعالى يراد بها الإمتحان الذي لم يفتتن صاحبه بل خلص من الإفتتان ويراد بها الإمتحان الذي حصل معه افتتان
فمن الأول قوله تعالى لموسى عليه السلام 20 : 40 وفتناك فتونا
ومن الثاني قوله تعالى 8 : 39 وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وقوله ألا في الفتنة سقطوا
ويطلق على ما يتناول الأمرين كقوله تعالى 29 : 1 آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ومنه قول موسى عليه السلام 7 : 155 إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أي امتحانك وابتلاؤك تضل بها من وقع فيها وتهدي من نجا منها (59/159)
وتطلق الفتنة على أعم من ذلك كقوله تعالى 64 : 15 إنما أموالكم وأولادكم فتنة قال مقاتل أي بلاء وشغل عن الآخرة قال ابن عباس فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى
وقال الزجاج أعلمهم الله عز و جل أن الأموال والأولاد مما يفتنون به وهذا عام في جميع الأولاد فإن الإنسان مفتون بولده لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه وتناول الحرام لأجله ووقع في العظائم إلا من عصمه الله تعالى
ويشهد لهذا ما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما وعليهما قميصان أحمران يعثران فنزل النبي صلى الله عليه و سلم إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما
وقال ابن مسعود رضي الله عنه لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس منكم أحد إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله تعالى يقول إنما أموالكم وأولادكم فتنة فأيكم استعاذ فليستعذ بالله تعالى من مضلات الفتن
ومنه قوله تعالى 25 : 20 وجعلنا بعضكم لبعض فتنة وهذا عام في جميع الخلق امتحن بعضهم ببعض فامتحن الرسل بالمرسل إليهم ودعوتهم إلى الحق والصبر على أذاهم وتحمل (59/160)
المشاق في تبليغهم رسالات ربهم وامتحن المرسل إليهم بالرسل وهل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم أم يكفرون بهم ويردون عليهم ويقاتلونهم وامتحن العلماء بالجهال هل يعلمونهم وينصحونهم ويصبرون على تعليمهم ونصحهم وإرشادهم ولوازم ذلك وامتحن الجهال بالعلماء هل يطيعونهم ويهتدون بهم وامتحن الملوك بالرعية والرعية بالملوك وامتحن الأغنياء بالفقراء والفقراء بالأغنياء وامتحن الضعفاء بالأقوياء والأقوياء بالضعفاء والسادة بالأتباع والأتباع بالسادة وامتحن المالك بمملوكه ومملوكه به وامتحن الرجل بامرأته وامرأته به وامتحن الرجال بالنساء والنساء بالرجال والمؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم وامتحن المأمورين بهم ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم من أتباع الرسل فتنة لأغنيائهم ورؤسائهم امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل وقالوا : لو كان خيرا ما سبقونا إليه هؤلاء وقالوا لنوح عليه السلام : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا فإذا رأى الشريف الرئيس المسكين الذليل قد سبقه إلى الإيمان ومتابعة الرسول حمى وأنف أن يسلم فيكون مثله وقال : أسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حد سواء (59/161)
قال الزجاج : كان الرجل الشريف ربما أراد الإسلام فيمتنع منه لئلا يقال : أسلم قبله من هو دونه فيقيم على كفره لئلا يكون للمسلم السابقة عليه في الفضل
ومن كون بعض الناس لبعضهم فتنة : أن الفقير يقول : لم لم أكن مثل الغني ويقول الضعيف : هلا كنت مثل القوى ويقول المبتلى هلا كنت مثل المعافى وقال الكفار : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله
قال مقاتل : نزلت في افتتان المشركين بفقراء المهاجرين نحو بلال وخباب وصهيب وأبي ذر وابن مسعود وعمار كان كفار قريش يقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدا من موالينا وأراذلنا قال الله تعالى : إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم كما قال تعالى : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون قال الزجاج أي أتصبرون على البلاء فقد عرفتم ما وجد الصابرون
قلت : قرن الله سبحانه الفتنة بالصبر ههنا وفي قوله : ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا فليس لمن قد فتن بفتنة دواء مثل الصبر فإن صبر كانت الفتنة ممحصة له ومخلصة من الذنوب كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة
فالفتنة كير القلوب ومحك الإيمان وبها يتبين الصادق من الكاذب
قال تعالى : ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين
فالفتنة قسمت الناس إلى صادق وكاذب ومؤمن ومنافق وطيب وخبيث فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه ونجا بصبره من فتنة أعظم منها ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها
فالفتنة لا بد منها في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون فالنار فتنة من لم (59/162)
يصبر على فتنة الدنيا قال تعالى في شجرة الزقوم : إنا جعلناها فتنة للظالمين قال قتادة : لما ذكر الله تعالى هذه الشجرة افتتن بها الظلمة فقالوا : يكون في النار شجرة والنار تأكل الشجر فأنزل الله عز و جل : إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم فأخبرهم أن غذاءها من النار أي غذيت بالنار قال ابن قتيبة : قد تكون شجرة الزقوم نبتا من النار ومن جوهر لا تأكله النار وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها وعقاربها وحياتها ولو كانت على ما يعلم لم تبق على النار وإنما دلنا الله تعالى على الغائب عنده بالحاضر عندنا فالأسماء متفقة الدلالة والمعاني مختلفة وما في الجنة من ثمرها وفرشها وشجرها وجميع آلاتها على مثل ذلك
والمقصود : أن هذه الشجرة فتنة لهم في الدنيا بتكذيبهم بها وفتنة لهم في الآخرة بأكلهم منها
وكذلك إخباره سبحانه بأن عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر كان فتنة للكفار حيث قال عدو الله أبو جهل : أيخوفكم محمد بتسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم تخرجون من النار فقال أبو الأسد : يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة فأنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة
فكان ذكر هذا العدد فتنة لهم في الدنيا وفتنة لهم يوم القيامة
والكافر مفتون بالمؤمن في الدنيا كما أن المؤمن مفتون به ولهذا سأل المؤمنون (59/163)
ربهم أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا كما قال الحنفاء : ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا وقال أصحاب موسى عليه السلام : ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين قال مجاهد : المعنى لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون : لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا وقال الزجاج : معناه : لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك وقال الفراء : لا تظهر علينا الكفار فيروا أنهم على حق وأنا على باطل وقال مقاتل : لا تقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم فيكون ذلك فتنة لهم وقد أخبر الله سبحانه أنه قد فتن كلا من الفريقين بالفريق الآخر فقال : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بينننا فقال الله تعالى : أليس الله بأعلم بالشاكرين
والمقصود : أن الله سبحانه فتن أصحاب الشهوات بالصور الجميلة وفتن أولئك بهم فكل من النوعين فتنة للآخر فمن صبر منهم على تلك الفتنة نجا مما هو أعظم منها ومن أصابته تلك الفتنة سقط فيما هو شر منها فإن تدارك ذلك بالتوبة النصوح وإلا فبسبيل من هلك ولهذا قال النبيA ما تركت بعدي فتنة أضر من النساء على الرجال أو كما قال
فالعبد في هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة وشيطانه المغوى المزين وقرنائه وما يراه ويشاهد مما يعجز صبره عنه ويتفق مع ذلك ضعف الإيمان واليقين وضعف القلب ومرارة الصبر وذوق حلاوة العاجل وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا وكون العوض مؤجلا في دار أخرى غير هذه الدار التي خلق فيها وفيها نشأ فهو مكلف بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيب طلب منه الإيمان به :
فوالله لولا الله يسعد عبده ... بتوفيقه والله بالعبد أرحم (59/164)
لما ثبت الأيمان يوما بقلبه ... على هذه العلات والأمر أعظم
ولا طاوعته النفس في ترك شهوة مخافة ... نار جمرها يتضرم
ولا خاف يوما من مقام إلهه ... عليه بحكم القسط إذ ليس يظلم
فصل والفتنة نوعان : فتنة الشبهات وهي أعظم الفتنتين وفتنة الشهوات
وقد يجتمعان للعبد وقد ينفرد بإحداهما
ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد وحصول الهوى فهنالك الفتنة العظمى والمصيبة الكبرى فقل ما شئت في ضلال سيء القصد الحاكم عليه الهوى لا الهدى مع ضعف بصيرته وقلة علمه بما بعث الله به رسوله فهو من الذين قال الله تعالى فيهم : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس وقد أخبر الله سبحانه أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله فقال : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب
وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق وهي فتنة المنافقين وفتنة أهل البدع على حسب مراتب بدعهم فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل والهدى بالضلال
ولا ينجى من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول وتحكيمه في دق الدين وجله ظاهره وباطنه عقائده وأعماله حقائقه وشرائعه فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام وما يثبته لله من الصفات والأفعال والأسماء وما ينفيه عنه كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها ومقادير نصب الزكاة ومستحقيها ووجوب الوضوء والغسل (59/165)
من الجنابة وصوم رمضان فلا يجعله رسولا في شيء دون شيء من أمور الدين بل هو رسول في كل شيء تحتاج إليه الأمة في العلم والعمل لا يتلقى إلا عنه ولا يؤخد إلا منه فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله وكل ما خرج عنها فهو ضلال فإذا عقد قلبه على ذلك وأعرض ما سواه ووزنه بما جاء به الرسول فإن وافقه قبله لا لكون ذلك القائل قاله بل لموافقته للرسالة وإن خالفه رده ولو قاله من قاله فهذا الذي ينجيه من فتنة الشبهات وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه
وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد وتارة من نقل كاذب وتارة من حق ثابت خفى على الرجل فلم يظفر به وتارة من غرض فاسد وهوى متبع فهي من عمى في البصيرة وفساد في الإرادة
فصل وأما النوع الثاني من الفتنة : ففتنة الشهوات وقد جمع سبحانه
بين ذكر الفتنتين في قوله : كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها والخلاق هو النصيب المقدر ثم قال : وخضتم كالذي خاضوا فهذا الخوض بالباطل وهو الشبهات
فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان من الاستمتاع بالخلاق والخوض بالباطل لأن فساد الدعين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكم به أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح فالأول : هو البدع وما والاها والثاني : فسق الأعمال
فالأول فساد من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات
ولهذا كان السلف يقولون : احذروا من الناس صنفين : صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه (59/166)
وكانوا يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون
وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع والهوى على العقل
فالأول : أصل فتنة الشبهة والثاني : أصل فتنة الشهوة
ففتنة الشبهات تدفع باليقين وفتنة الشهوات تدفع بالصبر ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين فقال : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون
فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
وجمع بينهما أيضا في قوله : وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات وبالصبر الذي يكف عن الشهوات وجمع بينهما في قوله : واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار فالأيدي : القوى والعزائم في ذات الله والأبصار : البصائر في أمر الله وعبارات السلف تدور على ذلك
قال ابن عباس : أولى القوة في طاعة الله والمعرفة بالله
وقال الكلبي : أولى القوة في العبادة والبصر فيها
وقال مجاهد : الأيدي : القوة في طاعة الله والأبصار : البصر في الحق
وقال سعيد بن جبير : الأيدي : القوة في العمل والأبصار : بصرهم بما هم فيه من دينهم
وقال جاء في حديث مرسل : إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة والله المستعان (59/167)
فصل إذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين
مطلوبتين بهما سعادته وفلاحه وكماله وهما الهدى والرحمة
قال تعالى عن موسى وفتاه : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما فجمع له بين الرحمة والعلم وذلك نظير قول أصحاب الكهف ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا فإن الرشد هو العلم بما ينفع والعمل به والرشد والهدى إذا أفرد كل منهما تضمن الآخر وإذا قرن أحدهما بالآخر فالهدى هو العلم بالحق والرشد هو العمل به وضدهما الغي واتباع الهوى
وقد يقابل الرشد بالضر والشر قال تعالى : قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا وقال مؤمنوا الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا فالرشد يقابل الغى كما في قوله : وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ويقابل الضر والشر كما تقدم وذلك لأن الغي سبب لحصول الشر والضرع ووقوعهما بصاحبه
فالضرر والشر غاية الغي وثمرته كما أن الرحمة والفلاح غاية الهدى وثمرته
فلهذا يقابل كل منهما بنقيضه وسبب نقيضه فيقابل الهدى بالضلال كقوله : يضل من يشاء ويهدي من يشاء وقوله : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وهو كثير
ويقابل بالضلال والعذاب كقوله : فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى فقابل الهدى بالضلال والشقاء
وجمع سبحانه بين الهدى والفلاح والهدى والرحمة كما يجمع بين الضلال والشقاء والضلال والعذاب : كقوله إن المجرمين في ضلال وسعر فالضلال ضد الهدى والسعر العذاب وهو ضد الرحمة (59/168)
وقال : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى
والمقصود : أن من سلم من فتنة الشبهات والشهوات جمع له بين الهدى والرحمة والهدى والفلاح
قال تعالى عن أوليائه : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب وقال تعالى : ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون وقال تعالى : هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يوقنون وقال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون وقال تعالى : يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين فقوله : هذا بصائر من ربكم عام مطلق وقوله : وهدى ورحمة لقوم يوقنون خاص بأهل اليقين
ونظير ذلك قوله يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين
ونظيره في الخصوص قوله تعالى : هدى للمتقين وقوله : يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
ونظيره أيضا قوله : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين
وقد أخبر أنه هدى عام لجميع المكلفين فقال إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى
فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس والبصائر جمع بصيرة وهي فعيلة بمعنى مفعلة أي مبصرة لمن تبصر ومنه قوله تعالى : وآتينا ثمود الناقة مبصرة (59/169)
أي مبينة موجبة للتبصر وفعل الإبصار يستعمل لازما ومتعديا يقال : أبصرته بمعنى أريته وأبصرته بمعنى رأيته فمبصرة في الآية : بمعنى مرئية لا بمعنى رائية والذين ظنوها بمعنى رائية غلطوا في الآية وتحيروا في معناها
فإنه يقال : بصر به وأبصره فيعدى بالباء تارة والهمزة تارة ثم يقال : أبصرته كذا أي أريته إياه كما يقال : بصرته به وبصر هو به
فههنا بصيرة وتبصرة ومبصرة فالبصيرة : المبينة التي تبصر والتبصرة مصدر مثل التذكرة وسمى بها ما يوجب التبصرة فيقال : هذه الآية تبصرة لكونها آلة التبصر وموجبه
فالقرآن بصيرة وتبصرة وهدى وشفاء ورحمة بمعنى عام وبمعنى خاص ولهذا يذكر الله سبحانه هذا وهذا فهو هدى للعالمين وموعظة للمتقين وهدى للمتقين وشفاء للعالمين وشفاء للمؤمنين وموعظة للعالمين وموعظة للمتقين فهو في نفسه هدى ورحمة وشفاء وموعظة
فمن اهتدى به واتعظ واشتفى كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصل به الشفاء فهو دواء له بالفعل وإن لم يستعمله فهو دواء له بالقوة وكذلك الهدى
فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به وبالقوة لمن لم يهتد به فإنما يهتدى به ويرحم ويتعظ المتقون الموقنون
والهدى في الأصل : مصدر هدى يهدي هدى
فمن لم يعمل بعلمه لم يكن مهتديا كما في الأثر من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله تعالى إلا بعدا ولكن يسمى هدى لأن من شأنه أن يهدي
وهذا أحسن من قول من قال : إنه هدى بمعنى هاد فهو مصدر بمعنى الفاعل كعدل بمعنى العادل وزور بمعنى الزائر ورجل صوم أي بمعنى صائم فإن الله سبحانه قد أخبر أنه يهدي به
فالله الهادي وكتابه الهدى الذي يهدي به على لسان رسولهA فههنا ثلاثة أشياء : فاعل وقابل وآلة فالفاعل : هو الله تعالى والقابل : قلب (59/170)
العبد والآلة هو الذي يحصل به الهدى وهو الكتاب المنزل والله سبحانه يهدي خلقه هدى كما يقال : دلهم دلالة وأرشدهم إرشادا وبين لهم بيانا
والمقصود : أن المحل القابل هو قلب العبد المتقي المنيب إلى ربه الخائف منه الذي يبتغي رضاه ويهرب من سخطه فإذا هداه الله فكأنه وصل أثر فعله إلى محل قابل فيتأثر به فصار هدى له وشفاء ورحمة وموعظة بالوجود والفعل والقبول وإذا لم يكن المحل قابلا وصل إليه الهدى فلم يؤثر فيه كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء فإنه لا يؤثر فيه شيئا بل لا يزيده إلا ضعفا وفسادا إلى فساده كما قال تعالى في السورة التي نزلها : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وقال : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا
فتخلف الاهتداء يكون لعدم قبول المحل تارة ولعدم آلة الهدى تارة ولعدم فعل الفاعل وهو الهادي تارة ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة
وقد قال سبحانه : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فأخبر سبحانه أنه قطع عنهم مادة الاهتداء وهو إسماع قلوبهم وإفهامها ما ينفعها لعدم قبول المحل فإنه لا خير فيه فإن الرجل إنما ينقاد للحق بالخير الذي فيه والميل إليه والطلب له ومحبته والحرص عليه والفرح بالظفر به وهؤلاء ليس في قلوبهم شيء من ذلك فوصل الهدى إليها ووقع عليها كما يصل الغيث النازل من السماء ويقع على الأرض الغليظة العالية التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فلا هي قابلة للماء ولا للنبات فالماء في نفسه رحمة وحياة ولكن ليس فيها قبول له ثم أكد الله هذا المعنى في حقهم بقوله : ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فأخبر أن فيهم مع عدم القبول والفهم آفة أخرى وهي الكبر والإعراض وفساد القصد فلو فهموا لم ينقادوا ولم يتبعوا الحق ولم يعملوا به فالهدى في حق هؤلاء هدى بيان وإقامة (59/171)
حجة لا هدى توفيق وإرشاد فلم يتصل الهدى في حقهم بالرحمة
وأما المؤمنون : فاتصل الهدى في حقهم بالرحمة فصار القرآن لهم هدى ولأولئك هدى بلا رحمة
والرحمة المقارنة للهدى في حق المؤمنين عاجلة وآجلة
فأما العاجلة فما يعطيهم الله تعالى في الدنيا من محبة الخير والبر وذوق طعم الإيمان ووجدان حلاوته والفرح والسرور بأن هداهم الله تعالى لما أضل عنه غيرهم ولما اختلف فيه من الحق بإذنه فهم يتقلبون في نور هداه ويمشون به في الناس ويرون غيرهم متحيرا في الظلمات فهم أشد الناس فرحا بما آتاهم ربهم من الهدى قال تعالى : قل بفضل الله وبرحمته فبذكلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون فأمر سبحانه عباده المؤمنين المهتدين أن يفرحوا بفضله ورحمته
وقد دارت عبارات السلف على أن الفضل والرحمة هو العلم والإيمان والقرآن وهما اتباع الرسول وهذا من أعظم الرحمة التي يرحم الله بها من يشاء من عباده فإن الأمن والعافية والسرور ولذة القلب ونعيمه وبهجته وطمأنينته : مع الإيمان والهدى إلى طريق الفلاح والسعادة والخوف والهم والغم والبلاء والألم والقلق : مع الضلال والحيرة
ومثل هذا بمسافرين أحدهما قد اهتدى لطريق مقصده فسار آمنا مطمئنا والآخر قد ضل الطريق فلم يدر أين يتوجه كما قال تعالى قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى
فالرحمة التي تحصل لمن حصل له الهدى هي بحسب هداه فكلما كان نصيبه من الهدى اتم كان حظه من الرحمة أوفر وهذه هي الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين هي غير الرحمة العامة بالبر والفاجر
وقد جمع الله سبحانه لأهل هدايته بين الهدى والرحمة والصلاة عليهم فقال تعالى : أولكئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون قال عمر (59/172)
ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه : نعم العدلان ونعمت العلاوة فبالهدى خلصوا من الضلال وبالرحمة نجوا من الشقاء والعذاب وبالصلاة عليهم نالوا منزلة القرب والكرامة والضالون حصل لهم ضد هذه الثلاثة : الضلال عن طريق السعادة والوقوع في ضد الرحمة من الألم والعذاب والذم واللعن الذي هو ضد الصلاة ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى كان أكمل المؤمنين إيمانا أعظمهم رحمة كما قال تعالى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم محمد رسول الله والذين معه أشدزاء على الكفار رحماء بينهم وكان الصديق رضي الله عنه من ارحم الأمة وقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر رواه الترمذي وكان أعلم الصحابة باتفاق الصحابة كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلمنا به يعني النبيA فجمع الله له بين سعة العلم والرحمة
وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما فوسعت رحمته كل شىء وأحاط بكل شىء علما فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها بل (59/173)
هو أرحم بالعبد من نفسه كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرها ويؤلمها وينقص حظها من كرامته وثوابه ويبعدها من قربه وهو يظن أنه ينفعها ويكرمها وهذا غاية الجهل والظلم والإنسان ظلوم جهول فكم من مكرم لنفسه بزعمه وهو لها مهين ومرفه لها وهو لها متعب ومعطيها بعض غرضها ولذتها وقد حال بينها وبين جميع لذاتها فلا علم له بمصالحها التي هي مصالحها ولا رحمة عنده لها فما يبلغ عدوه منه ما يبلغ هو من نفسه فقد بخسها حظها وأضاع حقها وعطل مصالحها وباع نعيمها الباقي ولذتها الدائمة الكاملة بلذة فانية مشوبة بالتنغيص إنما هي كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام وليس هذا بعجيب من شأنه وقد فقد نصيبه من الهدى والرحمة فلو هدي ورحم لكان شأنه غير هذا الشأن ولكن الرب تعالى أعلم بالمحل الذي يصلح للهدى والرحمة فهو الذي يؤتيها العبد كما قال عن عبده الخضر : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا
فصل ومما ينبغي أن يعلم : أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع
والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه وشقت عليها فهذه هي الرحمة الحقيقية فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك
فمن رحمة الأب بولده : أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره ويمنعه شهواته التي تعود بضرره ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل كرحمة الأم
ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين : تسليط أنواع البلاء على العبد فإنه أعلم بمصلحته فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته : من رحمته به ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه (59/174)
وقد جاء في الأثر : إن المبتلى إذا دعي له : اللهم ارحمه يقول الله سبحانه : كيف أرحمه من شيء به أرحمه وفي أثر آخر : إن الله إذا أحب عبده حماه الدنيا وطيباتها وشهواتها كما يحمي أحدكم مريضه
فهذا من تمام رحمته به لا من بخله عليه
كيف وهو الجواد الماجد الذي له الجود كله وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها
فمن رحمته سبحانه بعباده : ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به فهو الغني الحميد ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه فهو الجواد الكريم
ومن رحمته : أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان فمنعهم ليعطيهم وابتلاهم ليعافيهم وأماتهم ليحييهم ومن رحمته بهم : أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به كما قال تعالى : ويحذركم الله نفسه والله رؤزف بالعباد
قال غير واحد من السلف : من رأفته بالعباد : حذرهم من نفسه لئلا يغتروا به
فصل ولما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة كان
لهما ضدان : الضلال والغضب
فأمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم وهم أولو الهدى والرحمة ويجنبنا طريق المغضوب عليهم وهم ضد المرحومين وطريق الضالين وهم ضد المهتدين ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء وأفضله وأوجبه وبالله التوفيق (59/175)
فصل إذا كان كل عمل فأصله المحبة والإرادة والمقصود به التنعم
بالمراد المحبوب فكل حي إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد وكل حركة كما أن العذاب والتألم هو المكروه المقصود أولا بكل بغض وكل امتناع وكف ولكن وقع الجهل والظلم من بني آدم بمعنيين : بالدعين الفاسد والدنيا الفاجرة طلبوا بهما النعيم وفي الحقيقة فإنما فيهما ضده ففاتهم النعيم من حيث طلبوه وآثروه ووقعوا في الألم والعذاب من حيث هربوا منه وبيان ذلك : أن الأعمال التي يعملها جميع بني آدم إما أن يتخذوها دينا أولا يتخذوها دينا
والذين يتخذونها دينا إما أن يكون الدين بها دين حقا وإما أن يكون دينا باطلا فنقول : النعيم التام هو في الدين الحق علما وعملا فأهله هم أصحاب النعيم الكامل كما أخبر الله تعالى بذلك في كتابه في غير موضع كقوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وقوله عن المتقين المهتدين بالكتاب أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون وقوله فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى وفي الآية الأخرى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقوله إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم والقرآن مملوء من هذا
فوعد أهل الهدى والعمل الصالح بالنعيم التام في الدار الآخرة ووعيد أهل الضلال والفجور بالشقاء في الدار الآخرة مما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وتضمنته الكتب ولكن نذكر ههنا نكتة نافعة
وهي : أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب وما ينال كثيرا من الكفار والفجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والمال وغير ذلك فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة في الدنيا تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين فإذا سمع في القرآن قوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ ] وقوله : (59/176)
وإن جندنا لهم الغالبون وقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وقوله : والعاقبة للمتقين ونحو هذه الآيات وهو ممن يصدق بالقرآن حمل ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط وقال : أما الدنيا فإنا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها ويظهرون ويكون لهم النصر والظفر والقرآن لا يرد بخلاف الحس ويعتمد على هذا الظن إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين أو الفجرة الظالمين : وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق فيقول : أنا على الحق وأنا مغلوب فصاحب الحق في هذه الدنيا مغلوب مقهور والدولة فيها للباطل
فإذا ذكر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين قال : هذا في الآخرة فقط
وإذا قيل له : كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبائه وأهل الحق
فإن كان ممن لا يعلل أفعال الله تعالى بالحكم والمصالح قال : يفعل الله في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
وإن كان ممن يعلل الأفعال قال : فعل بهم هذا ليعرضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعلو الدرجات وتوفية الأجر بغير حساب
ولكل أحد مع نفسه في هذا المقام مباحثات وإيرادات وإشكالات وأجوبة بحسب حاصله وبضاعته من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته والجهل بذلك فالقلوب تغلي بما فيها كالقدر إذا استجمعت غليانا
فلقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظلم للرب تعالى واتهامه ما لا يصدر إلا من عدو فكان الجهم يخرج بأصحابه فيقفهم على الجذمى وأهل البلاء ويقول : انظروا أرحم الراحمين يفعل مثل هذا إنكارا لرحمته كما أنكر حكمته
فليس الله عند جهم وأتباعه حكيما ولا رحيما (59/177)
وقال آخر من كبار القوم : ما على الخلق أضر من الخالق
وكان بعضهم يتمثل :
إذا كان هذا فعله بمحبه ... فماذا تراه في أعاديه يصنع
وأنت تشاهد كثيرا من الناس إذا أصابه نوع من البلاء يقول : يا ربي ما كان
ذنبي حتى فعلت بي هذا
وقال لي غير واحد : إذا تبت إليه وأنبت وعملت صالحا ضيق علي رزقي ونكد علي معيشتي وإذا رجعت إلى معصيته وأعطيت نفسي مرادها جاءني الرزق والعون ونحو هذا
فقلت لبعضهم : هذا امتحان منه ليرى صدقك وصبرك هل أنت صادق في مجيئك إليه وإقبالك عليه فتصبر على بلائه فتكون لك العاقبة أم أنت كاذب فترجع على عقبك
وهذه الأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنية على مقدمتين
إحداهما : حسن ظن العبد بنفسه وبدينه واعتقاده أنه قائم بما يجب عليه وتارك ما نهى عنه واعتقاده في خصمه وعدوه خلاف ذلك وأنه تارك للمأمور مرتكب للمحظور وأنه نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه
والمقدمة الثانية : اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا بوجه من الوجوه بل يعيش عمره مظلوما مقهورا مستضاما مع قيامه بما أمر به ظاهرا وباطنا وانتهائه عما نهي عنه باطنا وظاهرا فهو عند نفسه قائم بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان وهو تحت قهر أهل الظلم والفجور والعدوان
فلا إله إلا الله كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل ومتدين لا بصيرة له ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين (59/178)
فإنه من المعلوم : أن العبد وإن آمن بالآخرة فإنه طالب في الدنيا لما لا بد له منه : من جلب النفع ودفع الضر بما يعتقد أنه مستحب أو واجب أو مباح فإذا اعتقد أن الدين الحق واتباع الهدى والاستقامة على التوحيد ومتابعة السنة ينافي ذلك وأنه يعادي جميع أهل الأرض ويتعرض لما لا يقدر عليه من البلاء وفوات حظوظه ومنافعه العاجلة لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة في كمال دينه وتجرده لله ورسوله فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين بل قد يعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين بل قد يدخل مع الظالمين بل مع المنافقين وإن لم يكن هذا في أصل الدين كان في كثير من فروعه وأعماله كما قال النبيA بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسى كافرا ويصبح مؤمنا يبيع دينه بعرض من الدنيا
وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصل إلا بفساد دنياه من حصول ضرر لا يحتمله وفوات منفعة لا بد له منها لم يقدم على احتمال هذا الضرر ولا تفويت تلك المنفعة
فسبحان الله كم صدت هذه الفتنة الكثير من الخلق بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين وأصلها ناشىء من جهلين كبيرين : جهل بحقيقة الدين وجهل بحقيقة النعيم الذي هو غاية مطلوب النفوس وكمالها وبه ابتهاجها والتذاذها فيتولد من بين هذين الجهلين إعراضه عن القيام بحقيقة الدين وعن طلب حقيقة النعيم
ومعلوم أن كمال العبد هو بأن يكون عارفا بالنعيم الذي يطلبه والعمل الذي يوصل إليه وأن يكون مع ذلك فيه إرادة جازمة لذلك العمل ومحبة صادقة لذلك النعيم وإلا فالعلم بالمطلوب وطريقه لا يحصله إن لم يقترن بذلك العمل والإرادة الجازمة لا توجب وجود المراد إلا إذا لازمها الصبر (59/179)
فصارت سعادة العبد وكمال لذته ونعيمه موقوفا على هذه المقامات الخمسة : علمه بالنعيم المطلوب ومحبته له وعلمه بالطريق الموصل إليه وعلمه به وصبره على ذلك
قال الله تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر
والمقصود أن المقدمتين اللتين تثبت عليهما هذه الفتنه أصلهما الجهل بأمر الله ودينه وبوعده ووعيده
فإن العبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق فقد اعتقد أنه قد قام بفعل المأمور باطنا وظاهرا وترك المحظور باطنا وظاهرا وهذا من جهله بالدين الحق وما لله عليه وما هو المراد منه فهو جاهل بحق الله عليه جاهل بما معه من الدين قدرا ونوعا وصفة
وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى في الدنيا والآخرة بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين وللفجار الظالمين على الأبرار المتقين فهذا من جهله بوعد الله تعالى ووعيده
فأما المقام الأول : فإن العبد كثيرا ما يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها فيكون مقصرا في العلم وكثيرا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها إما كسلا وتهاونا وإما لنوع تأويل باطل أو تقليد أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها أو لغير ذلك فواجبات القلوب أشد وجوبا من واجبات الأبدان وآكد منها وكأنها ليست واجبات الدين عند كثير من الناس بل هي من باب الفضائل والمستحبات
فتراه يتحرج من ترك فرض أو من ترك واجب من واجبات البدن وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها ويتحرج من فعل أدنى المحرمات وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريما وأعظم إثما
بل ما أكثر من يتعبد لله عز و جل بترك ما أوجب عليه فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه ويزعم أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك مجتمع على ربه تارك ما لا يعنيه فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى وأبغضهم إليه مع (59/180)
ظنه أنه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه
بل ما أكثر من يتعبد لله بما حرمه الله عليه ويعتقد أنه طاعة وقربة وحاله في ذلك شر من حال من يعتقد ذلك معصية وإثما كأصحاب السماع الشعري الذي يتقربون به إلى الله تعالى ويظنون أنهم من أولياء الرحمن وهم في الحقيقة من أولياء الشيطان
وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه ولا يكون الأمر كذلك بل يكون معه نوع من الحق ونوع من الباطل والظلم ومع خصمه نوع من الحق والعدل وحبك الشيء يعمي ويصم والإنسان مجبول على حب نفسه فهو لا يرى إلا محاسنها ومبغض لخصمه فهو لا يرى إلا مساويه بل قد يشتد به حبه لنفسه حتى يرى مساويها محاسن كما قال تعالى أفمن زينا له سوء عمله فرآه حسنا ويشتد به بغض خصمه حتى يرى محاسنه مساوىء كما قيل :
نظروا بعين عداوة ولو أنها ... عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا وهذا الجهل مقرون بالهوى والظلم غالبا فإن الإنسان ظلوم جهول
وأكثر ديانات الخلق إنما هي عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم وقلدوهم فيها : في الإثبات والنفي والحب والبغض والموالاة والمعاداة والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علما وعملا لم يضمن نصر الباطل ولو اعتقد صاحبه أنه محق وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وهو علم وعمل وحال قال تعالى : وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان وقال تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه فإذا فاته حظ من العلو والعزة ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان علما وعملا ظاهرا وباطنا
وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه قال تعالى : إن الله يدافع عن الذين آمنوا فإذا ضعف الدفع عنه فهو من نقص إيمانه (59/181)
وكذلك الكفاية والحسب هي بقدر الإيمان قال تعالى : يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين أي الله حسبك وحسب اتباعك أي كافيك وكافيهم فكفايته لهم بحسب اتباعهم لرسوله وانقيادهم له وطاعتهم له فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله
ومذهب أهل السنة والجماعة : أن الإيمان يزيد وينقص
وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هي بحسب إيمانه قال تعالى : والله ولي المؤمنين وقال الله تعالى : الله ولي الذين آمنوا وكذلك معيته الخاصة هي لأهل الإيمان كما قال تعالى : وإن الله لمع المؤمنين فإذا نقص الإيمان وضعف كان حظ العبد من ولاية الله له ومعيته الخاصة بقدر حظه من الإيمان
وكذلك النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال : فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله أو بإدالة عدوعه عليه فإنما هي بذنوبه إما بترك واجب أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه
وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الآخرة ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الحجة
والتحقيق : أنها مثل هذه الآيات وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مكفي مدفوع عنه بالذات أين كان ولو اجتمع عليه من بأقطارها إذا قام بحقيقة (59/182)
الإيمان وواجباته ظاهرا وباطنا وقد قال تعالى للمؤمنين : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين وقال تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله يحفظهم بها ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم فيبطلها عليهم كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره
فصل وأما المقام الثاني الذي وقع فيه الغلط فكثير من الناس يظن أن
أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء مقهورين مغلوبين دائما بخلاف من فارقهم إلى سبيل أخرى وطاعة أخرى فلا يثق بوعد الله بنصر دينه وعباده بل إما أن يجعل ذلك خاص بطائفة دون طائفة أو بزمان دون زمان أو يجعله معلقا بالمشيئة وإن لم يصرح بها
وهذا من عدم الوثوق بوعد الله تعالى ومن سوء الفهم في كتابه
والله سبحانه قد بين في كتابه أنه ناصر المؤمنين في الدنيا والآخرة
قال تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
وقال تعالى : ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وقال تعالى : إن الذين يحادون الله ورسوله أولكئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وهذا كثير في القرآن
وقد بين سبحانه فيه أن ما أصاب العبد من مصيبة أو إدالة عدو أو كسر وغير ذلك فبذنوبه
فبين سبحانه في كتابه كلا المقدمتين فإذا جمعت بينهما تبين لك حقيقة الأمر وزال الإشكال بالكلية واستغنيت عن تلك التكلفات الباردة والتأويلات البعيدة فقرر سبحانه المقام الأول بوجوه من التقرير : منها ما تقدم (59/183)
ومنها : أنه ذم من يطلب النصر والعزة من غير المؤمنين كقوله : يا أيها الذين ا منوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين ا منوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين يكأيها الذين ا منوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين ا منوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين ا منوا فإن حزب الله هم الغالبون :
فأنكر على من طلب النصر من غير حزبه وأخبر أن حزبه هم الغالبون
ونظير هذا : قوله : بشرع المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا
وقال تعالى : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون
وقال تعالى : من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه أي من كان يزيد العزة فليطلبها بطاعة الله من الكلم الطيب والعمل الصالح
وقال تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله (59/184)
وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين أي ويعطيكم أخرى فوق مغفرة الذنوب ودخول الجنة وهي النصر والفتح : يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
وقال تعالى للمسيح : إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة فلما كان للنصارى نصيب ما من اتباعه كانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة ولما كان المسلمون أتبع له من النصارى كانوا فوق النصارى إلى يوم القيامة
وقال تعالى للمؤمنين : ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا فهذا خطاب للمؤمنين الذين قاموا بحقائق الإيمان ظاهرا وباطنا
وقال تعالى : إن العاقبة للمتقين وقال : والعاقبة للتقوى والمراد : العاقبة في الدنيا قبل الآخرة لأنه ذكر عقيب قصة نوح ونصره وصبره على قومه فقال تعالى : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين أي عاقبة النصر لك ولمن معك كما كانت لنوح عليه السلام ومن آمن معه
وكذلك قوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى
وقال تعالى : وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا (59/185)
وقال : بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ]
وقال إخبارا عن يوسف عليه السلام أنه نصر بتقواه وصبره فقال : أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقال : يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم والفرقان : هو العز والنصر والنجاة والنور الذي يفرق بين الحق والباطل وقال تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا
وقد روى ابن ماجه وابن أبي الدنيا عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبيAقال : لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لوسعتهم فهذا في المقام الأول
وأما المقام الثاني : فقال تعالى في قصة أحد : أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وقال تعالى : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا وقال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير
وقال : ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون
وقال : وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة (59/186)
بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور
وقال : وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون
وقال : أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير
وقال : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك
ولهذا أمر الله سبحانه رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم وهو طاعته وهو المقدمة الأولى وأمر بانتظار وعده وهو المقدمة الثانية وأمر بالاستغفار والصبر لأن العبد لابد أن يحصل له نوع تقصير وسرف يزيله الاستغفار ولابد في انتظار الوعد من الصبر فبالاستغفار تتم الطاعة وبالصبر يتم اليقين بالوعد وقد جمع الله سبحانه بينهما في قوله : فاصبر إن وعد الله حقك واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار
وقد ذكر الله سبحانه في كتابه قصص الأنبياء وأتباعهم وكيف نجاهم بالصبر والطاعة ثم قال : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
فصل وتمام الكلام في هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة
الأول : أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار والواقع شاهد بذلك وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير الأصل الثاني : أن ما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب فإن فاتهم الرضا فمعولهم على الصبر وعلى الاحتساب وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته فإنهم كلما شاهدوا العوض هان عليهم تحمل المشاق والبلاء والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب وإن صبروا فكصبر البهائم وقد نبه تعالى على ذلك بقوله : ولا (59/187)
تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون
فاشتركوا في الألم وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى
الأصل الثالث : أن المؤمن إذا أوذي في الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه ووجود حقائق الإيمان في قلبه حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن فإنه يدفع عنه كثيرا من البلاء وإذا كان لا بد له من شيء منه دفع عنه ثقله ومؤنته ومشقته وتبعته الأصل الرابع : أن المحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه كان أذى المحب في رضى محبوبه مستحلى غير مسخوط والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك حتى قال قائلهم :
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له وإحسان إليه الأصل الخامس : أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان وإن كان في الظاهر بخلافه
قال الحسن رحمه الله : إنهم وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه
الأصل السادس : أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه كما (59/188)
قال النبيA والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له
فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأقرب إليهم فالأقرب يبتلى المرء على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة
الأصل السابع : أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه وغلبته له وأذاه له في بعض الأحيان : أمر لازم لابد منه وهو كالحر الشديد والبرد الشديد والأمراض والهموم والغموم فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار حتى للأطفال والبهائم لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر والنفع عن الضر واللذة عن الألم لكان ذلك عالما غير هذا ونشأة أخرى غير هذه النشأة وكانت تفوت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر والألم واللذة والنافع والضار وإنما يكون تخليص هذا من هذا وتمييزه في دار أخرى غير هذه الدار كما قال تعالى : ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون الأصل الثامن : أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحيانا فيه حكمة عظيمة لا يعلمها على التفضيل إلا الله عز و جل
فمنها : استخراج عبوديتهم وذلهم لله وانكسارهم له وافتقارهم إليه وسؤاله نصرهم على أعدائهم ولو كانوا دائما منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورا عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة ولا كانت للحق (59/189)
دولة فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة وكونهم مغلوبين تارة فإذا غلبوا تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه وخضعوا له وانكسروا له وتابوا إليه وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وجاهدوا عدوه ونصروا أولياءه
ومنها : أنهم لو كانوا دائما منصورين غالبين قاهرين لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما لم يدخل معهم أحد فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه
ومنها : أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء وفي حال العافية والبلاء وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال لا تحصل إلا بها ولا يستقيم القلب بدونها كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد والجوع والعطش والتعب والنصب وأضدادها فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع
ومنها : أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم كماقال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (59/190)
فذكر سبحانه أنواعا من الحكم التي لأجلها أديل عليهم الكفار بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولا بين الناس فيصيب كلا منهم نصيبه منها كالأرزاق والا جال ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين فيعلم إيمانهم واقعا
ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء فإن الشهادة درجة عالية عنده ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل في سبيله فلولا إدالة العدوع لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه وأنفعها للعبد
ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين أي تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو وأنه مع ذلك يريد ان يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا
ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر وأن حكمته تأبى ذلك فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر ولو كانوا دائما منصورين غالبين لما جاهدهم أحد ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم
فهذا بعض حكمه في نصرة عدوهم عليهم وإدالته في بعض الأحيان
الأصل التاسع : أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السموات والأرض وخلق الموت والحياة وزين الأرض بما عليها لابتلاء عباده وامتحانهم ليعلم من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها قال تعالى وهو الذي خلق السموات والارض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيم أحسن عملا (59/191)
وقال : إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وقال : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقال تعالى : ونبلوكم بالشرع والخير فتنة وإلينا ترجعون
وقال تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم وقال تعالى : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين
فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين إما أن يقول أحدهم : آمنت أو لا يؤمن بل يستمر على السيئات والكفر ولابد من امتحان هذا وهذا
فأما من قال : آمنت فلابد أن يمتحنه الرب ويبتليه ليتبين : هل هو صادق في قوله آمنت أو كاذب فإن كان كاذبا رجع على عقبيه وفر من الامتحان كما يفر من عذاب الله وإن كان صادقا ثبت على قوله ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانا على إيمانه قال تعالى : ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما وأما من لم يؤمن فإنه يمتحن في الآخرة بالعذاب ويفتن به وهي أعظم المحنتين هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها وعقوبتها التي أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم فلابد من المحنة في هذه الدار وفي البرزخ وفي القيامة لكل أحد ولكن المؤمن أخف محنة وأسهل بلية فإن الله يدفع عنه بالإيمان ويحمل عنه به ويرزقه من الصبر والثبات والرضى والتسليم ما يهون به عليه محنته وأما الكافر والمنافق والفاجر فتشتد محنته (59/192)
وبليته وتدوم فمحنة المؤمن خفيفة منقطعة ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدة متصلة فلا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت أو كفرت لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة والكافر والمنافق والفاجر تحصل له اللذة والنعيم ابتداء ثم يصير إلى الألم فلا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم ألبتة يوضحه :
الأصل العاشر : وهو أن الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس والناس لهم إرادات وتصورات واعتقادات فيطلبون منه أن يوافقهم عليها فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر فلابد له من الناس ومخالطتهم ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم وإراداتهم ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المترتب على موافقتهم
واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم أو فاحشة أو شهادة زور أو المعاونة على محرم فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى وإن وافقهم فرارا من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فر منه والغالب أنهم يسلطون عليه فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم
فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد فألم يسير يعقب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تعقب ألما عظيما دائما والتوفيق بيد الله
الأصل الحادي عشر : أن البلاء الذي يصيب العبد في الله لا يخرج عن أربعة أقسام فإنه إما أن يكون في نفسه أو في ماله أو في عرضه أو في أهله ومن يحب والذي في نفسه قد يكون بتلفها تارة وبتألمها بدون التلف فهذا مجموع ما يبتلى به العبد في الله (59/193)
وأشد هذه الأقسام : المصيبة في النفس
ومن المعلوم : أن الخلق كلهم يموتون وغاية هذا المؤمن أن يستشهد في الله وتلك أشرف الموتات وأسهلها فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرصة فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم فمن عد مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل بل موت الشهيد من أيسر الميتات وأفضلها وأعلاها ولكن الفار يظن أنه بفراره يطول عمره فيتمتع بالعيش وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن حيث يقول : قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا
فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع فلا فائدة فيه وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلا إذ لابد له من الموت فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه
ثم قال : قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحد من الله إن أراد به سوءا غير الموت الذي فر منه فإنه فر من الموت لما كان يسوءه فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءا غيره لم يعصمه أحد من الله وأنه قد يفر مما يسوءه من القتل في سبيل الله فيقع فيما يسوءه مما هو أعظم منه وإذا كان هذا في مصيبة النفس فالأمر هكذا في مصيبة المال والعرض والبدن فإن من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته سلبه الله إياه أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلا وآجلا وإن حبسه وادخره منعه التمتع به ونقله إلى غيره فيكون له مهنؤه وعلى مخلفه وزره وكذلك من رفه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب (59/194)
قال أبو حازم : لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقى الله من معالجة التقوى
واعتبر ذلك بحال إبليس فإنه امتنع من السجود لأدم فرارا أن يخضع له ويذل وطلب إعزاز نفسه فصيره الله أذل الأذلين وجعله خادما لأهل الفسوق والفجور من ذريته فلم يرض بالسجود له ورضى أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته
وكذلك عباد الأصنام أنفوا أن يتبعوا رسولا من البشر وأن يعبدوا إلها واحدا سبحانه ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار
وكذلك كل من امتنع أن يذل لله أو يبذل ماله في مرضاته أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته لابد أن يذل لمن لا يسوى ويبذل له ماله ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته عقوبة له كما قال بعض السلف من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته
فصل في خاتمة لهذا الباب هي الغاية المطلوبة وجميع ما تقدم
كالوسيلة إليها وهي : أن محبة الله سبحانه والأنس به والشوق إلى لقائه والرضى به وعنه : أصل الدين وأصل أعماله وإراداته كما أن معرفته والعلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجل علوم الدين كلها فمعرفته أجل المعارف وإرادة وجهه أجل المقاصد وعبادته أشرف الأعمال والثناء عليه بأسمائه وصفاته ومدحه وتمجيده أشرف الأقوال وذلك أساس الحنيفية ملة إبراهيم
وقد قال تعالى لرسوله : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (59/195)
وكان النبي صلى الله عليه و سلم يوصي أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا : أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين
وذلك هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وعليها قام دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء والمرسلين وليس لله دين سواه ولا يقبل من أحد دينا غيره : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
فمحبته تعالى بل كونه أحب إلى العبد من كل ما سواه على الإطلاق من أعظم واجبات الدين وأكبر أصوله وأجل قواعده ومن أحب معه مخلوقا مثل ما يحبه فهو من الشرك الذي لا يغفر لصاحبه ولا يقبل معه عمل قال تعالى : ومن الناس من يتخد من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله وإذا كان العبد لا يكون من أهل الإيمان حتى يكون عبدالله ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وولده ووالده والناس أجمعين ومحبته تبع لمحبة الله فما الظن بمحبته سبحانه وهو سبحانه لم يخلق الجن والإنس إلا لعبادته التي تتضمن كمال محبته وكمال تعظيمه والذل له ولأجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه وعلى ذلك وضع الثواب والعقاب وأسست الجنة والنار وانقسم الناس إلى شقي وسعيد وكما أنه سبحانه ليس كثله شيء فليس كمحبته وإجلاله وخوفه محبة وإجلال ومخافة
فالمخلوق كلما خفته استوحشت منه وهربت منه والله سبحانه كلما خفته أنست به وفررت إليه والمخلوق يخاف ظلمه وعدوانه والرب سبحانه إنما يخاف عدله وقسطه
وكذلك المحبة فإن محبة المخلوق إذا لم تكن لله فهي عذاب للمحب ووبال عليه (59/196)
وما يحصل له بها من التألم أعظم مما يحصل له من اللذة وكلما كانت أبعد عن الله كان ألمها وعذابها أعظم
هذا إلى ما في محبته من الإعراض عنك والتجني عليك وعدم الوفاء لك إما لمزاحمة غيرك من المحبين له وإما لكراهته ومعاداته لك وإما لاشتغاله عنك بمصالحه وما هو أحب إليه * منك وإما لغير ذلك من الآفات
وأما محبة الرب سبحانه فشأنها غير هذا الشأن فإنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها فهو إلهها ومعبودها ووليها ومولاها وربها ومدبرها ورازقها ومميتها ومحييها فمحبته نعيم النفوس وحياة الأرواح وسرور النفوس وقوت القلوب ونور العقول وقرة العيون وعمارة الباطن فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزاكية أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسر ولا أنعم من حبته والأنس به والشوق إلى لقائه والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كل نعيم واللذة التي تناله أعلى من كل لذة كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله : إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب
وقال آخر : إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طربا بأنسه بالله وحبه له
وقال آخر : مساكين أهل الغفلة خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها
وقال آخر : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ووجدان هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوة المحبة وضعفها وبحسب ادراك جمال المحبوب والقرب منه وكلما كانت المحبة أكمل وإدراك المحبوب أتم والقرب منه أوفر كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى
فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف وفيه أرغب وله أحب وإليه أقرب (59/197)
وجد من هذه الحلاوة في قلبه مالا يمكن التعبير عنه ولا يعرف إلا بالذوق والوجد ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبا لغيره ولا أنسا به وكلما ازداد له حبا ازداد له عبودية وذلا وخضوعا ورقا له وحرية عن رق غيره
فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه ولو حصل له جميع ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن إليها ولم يسكن إليها بل لا تزيده إلا فاقة وقلقا حتى يظفر بما خلق له وهيء له : من كون الله وحده نهاية مراده وغاية مطالبه فإن فيه فقرا ذاتيا إلى ربه وإلهه من حيث هو معبوده ومحبوبه وإلهه ومطلوبه كما أن فيه فقرا ذاتيا إليه من حيث هو ربه وخالقه ورازقه ومدبره وكلما تمكنت محبة الله من القلب وقويت فيه أخرجت منه تألهه لما سواه وعبوديته له
فأصبح حرا عزة وصيانة ... على وجهه أنواره وضياؤه
وما من مؤمن إلا وفي قلبه محبة لله تعالى وطمأنينة بذكره وتنعم بمعرفته ولذة وسرور بذكره وشوق إلى لقائه وأنس بقربه وإن لم يحس به لاشتغال قلبه بغيره وانصرافه إلى ما هو مشغول به فوجود الشيء غير الإحساس والشعور به
وقوة ذلك وضعفه وزيادته ونقصانه : هو بحسب قوة الإيمان وضعفه وزيادته ونقصانه ومتى لم يكن الله وحده غاية مراد العبد ونهاية مقصوده وهو المحبوب المراد له بالذات والقصد الأول وكل ما سواه فإنما يحبه ويريده ويطلبه تبعا لأجله لم يكن قد حقق شهادة أن لا إله إلا الله وكان فيه من النقص والعيب والشرك بقدره وله من موجبات ذلك من الألم والحسرة والعذاب بحسب ما فاته من ذلك ولو سعى في هذا المطلوب بكل طريق واستفتح من كل باب ولم يكن مستعينا بالله متوكلا عليه مفتقرا إليه في حصوله متيقنا أنه إنما يحصل بتوفيقه ومشيئته وإعانته لا طريق له سوى ذلك بوجه من الوجوه لم يحصل له مطلوبه فإنه ما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن فلا يوصل إليه سواه ولا يدل عليه سواه ولا يعبد إلا بإعانته ولا يطاع إلا بمشيئته لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين (59/198)
وإذا عرف هذا فالعبد في حال معصيته واشتغاله عنه بشهوته ولذته تكون تلك اللذة والحلاوة الإيمانية قد استترت عنه وتوارت أو نقصت أو ذهبت فإنها لو كانت موجودة كاملة لما قدم عليها لذة وشهوة لا نسبة بينها وبينها بوجه ما بل هي أدنى من حبة خردل بالنسبة إلى الدنيا وما فيها ولهذا قال النبيA لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن فإن ذوق حقيقة الإيمان ومباشرته لقلبه يمنعه من أن يؤثر عليه ذلك القدر الخسيس وينهاه عما يشعثه وينقصه ولهذا تجد العبد إذا كان مخلصا لله منيبا إليه مطمئنا بذكره مشتاق قلبه إلى لقائه منصرفا عن هذه المحرمات لا يلتفت إليها ولا يعول عليها ويرى استبداله بها عما هو فيه كاستبداله البعر الخسيس بالجوهر النفيس وبيعه الذهب بأعقاب الجزر وبيعه المسك بالرجيع
ولا ريب أن في النفوس البشرية من هو بهذه المثابة إنما يصبو إلى ما يناسبه ويميل إلى ما يشاكله ينفر من المطالب العالية واللذات الكاملة كما ينفر الجعل من رائحة الورد وشاهدنا من يمسك بأنفه عند وجود رائحة المسك ويتكره بها لما يناله بها من المضرة
فمن خلق للعمل في الدباغة لا يجىء منه العمل في صناعة الطيب ولا يليق ولا يتأتى منه والنفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب هو أحب إليها منه أو للخوف من مكروه هو أشق عليها من فوات ذلك المحبوب
فالذنب يعدم لعدم المقتضى له تارة ولاشتغال القلب بما هو أحب إليه منه ولوجود المانع تارة ومن خوف فوات محبوب هو أحب إليه منه تارة
فالأول : حال من حصل له من ذوق حلاوة الإيمان وحقائقه والتنعم به ما عوض قلبه عن ميله إلى الذنوب (59/199)
والثاني : حال من عنده داع وارادة لها وعنده إيمان وتصديق بوعد الله تعالى ووعيده فهو يخاف إن واقعها أن يقع فيما هو أكره إليه وأشق عليه فالأول : للنفوس المطمئنة إلى ربها والثاني : لأهل الجهاد والصبر وهاتان النفسان هما المخصوصتان بالسعادة والفلاح قال الله تعالى في النفس الأولى : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي
وقال في الثانية : ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم
فالنفوس ثلاثة : نفس مطمئنة إلى ربها وهي أشرف النفوس وأزكاها ونفس مجاهدة صابرة ونفس مفتونة بالسهوات والهوى وهي النفس الشقية التي حظها الألم والعذاب والبعد عن الله تعالى والحجاب
فصل في بيان كيد الشيطان لنفسه قبل كيده للأبوين ثم لم يقتصر على ذلك
حتى كاد ذرية نفسه وذرية آدم فكان مشئوما على نفسه وعلى ذريته وأوليائه وأهل طاعته من الجن والإنس
أما كيده لنفسه :
فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عليه السلام كان في امتثال أمره وطاعته سعادته وفلاحه وعزه ونجاته فسولت له نفسه الجاهلة الظالمة : أن في سجوده لآدم عليه السلام غضاضة عليه وهضما لنفسه إذ يخضع ويقع ساجدا لمن خلق من طين وهو مخلوق من نار والنار بزعمه أشرف من الطين فالمخلوق منه خير من المخلوق منها وخضوع الأفضل لمن هو دونه غضاضة عليه وهضم لمنزلته فلما قام بقلبه هذا الهوس وقارنه الحسد لآدم لما رأى ربه سبحانه قد خصه به من أنواع الكرامة فإنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وميزه بذلك عن الملائكة (59/200)
وأسكنه جنته فعند ذلك بلغ الحسد من عدو الله كل مبلغ وكان عدو الله يطيف به وهو صلصال كالفخار فيتعجب منه ويقول : لأمر عظيم قد خلق هذا ولئن سلط علي لأعصينه ولئن سلطت عليه لأهلكنه فلما تم خلق آدم عليه السلام في أحسن تقويم وأكمل صورة وأجملها وكملت محاسنه الباطنة بالعلم والحلم والوقار وتولى ربه سبحانه خلقه بيده فجاء في أحسن خلق وأتم صورة طوله في السماء ستون ذراعا قد ألبس رداء الجمال والحسن والمهابة والبهاء فرأت الملائكة منظرا لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل فوقعوا كلهم سجودا له بأمر ربهم تبارك وتعالى فشق الحسود قميصه من دبر واشتعلت في قلبه نيران الحسد المتين فعارض النص بالمعقول بزعمه كفعل أوليائه من المبطلين وقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فاعرض عن النص الصريح وقابله بالرأي الفاسد القبيح ثم أردف ذلك بالاعتراض على العليم الحكيم الذي لا تجد العقول إلى الاعتراض على حكمته سبيلا فقال : أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا
وتحت هذا الكلام من الاعتراض معنى : أخبرني لم كرمته على وغور هذا الاعتراض : أن الذي فعلته ليس بحكمة ولا صواب وأن الحكمة كانت تقتضي أن يسجد هو لي لأن المفضول يخضع للفاضل فلم خالفت الحكمة
ثم أردف ذلك بتفضيل نفسه عليه وإزرائه به فقال : أنا خير منه
ثم قرر ذلك بحجته الداحضة في تفضيل مادته وأصله على مادة آدم عليه السلام وأصله فأنتجت له هذه المقدمات إباءه وامتناعه من السجود ومعصيته الرب المعبود فجمع بين الجهل والظلم والكبر والحسد والمعصية ومعارضة النص بالرأي والعقل فأهان نفسه كل الإهانة من حيث أراد تعظيمها ووضعها من حيث أراد رفعتها وأذلها من حيث أراد عزتها وآلمها كل الألم من حيث أراد لذتها ففعل بنفسه ما لو اجتهد أعظم أعدائه في مضرته لم يبلغ منه ذلك المبلغ ومن كان هذا غشه لنفسه فكيف يسمع منه العاقل ويقبل ويواليه قال تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من (59/201)
الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوك بئس للظالمين بدلا
فصل وأما كيده للأبوين فقد قص الله سبحانه علينا قصته معهما وأنه لم
يزل يخدعهما ويعدهما ويمنيهما الخلود في الجنة حتى حلف لهما بالله جهد يمينه : إنه ناصح لهما حتى اطمأنا إلى قوله وأجاباه إلى ما طلب منهما فجرى عليهما من المحنة والخروج من الجنة ونزع لباسهما عنهما ما جرى وكان ذلك بكيده ومكره الذي جرى به القلم وسبق به القدر ورد الله سبحانه كيده عليه وتدارك الأبوين برحمته ومغفرته فأعادهما إلى الجنة على أحسن الأحوال وأجملها وعاد عاقبة مكره عليه ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله
وظن عدو الله بجهله أن الغلبة والظفر له في هذا الحرب ولم يعلم بكمين جيش : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ولا بإقبال دولة ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى وظن اللعين بجهله أن الله سبحانه يتخلى عن صفيه وحبيبه الذي خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء من أجل أكلة أكلها وما علم أن الطبيب قد علم المريض الدواء قبل المرض فلما أحس بالمرض بادر إلى استعمال الدواء لما رماه العدو بسهم وقع في غير مقتل فبادر إلى مداواة الجرح فقام كأن لم يكن به قلبة (59/202)
بلي العدو بالذنب فأصر واحتج وعارض الأمر وقدح في الحكمة ولم يسأل الإقالة ولا ندم على الزلة وبلي الحبيب بالذنب فاعترف وتاب وندم وتضرع واستكان وفزع إلى مفزع الخليقة وهو التوحيد والاستغفار فأزيل عنه العتب وغفر له الذنب وقبل منه المتاب وفتح له من الرحمة والهداية كل باب ونحن الأبناء ومن أشبه أباه فما ظلم ومن كانت شيمته التوبة والاستغفار فقد هدي لأحسن الشيم
فصل ثم كاد أحد ولدي آدم ولم يزل يتلاعب به حتى قتل أخاه
وأسخط أباه وعصى مولاه فسن للذرعية قتل النفوس وقد ثبت في الصحيح عنهAأنه قال : ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل فكاد العدو هذا القاتل بقطيعة رحمه وعقوق والديه وإسخاط ربه ونقص عدده وظلم نفسه وعرضه لأعظم العقاب وحرمه حظه من جزيل الثواب
فصل ثم جرى الأمر على السداد والاستقامة والأمة واحدة والدين واحد
والمعبود واحد فقال تعالى : وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون وقال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
قال سعيد عن قتادة : ذكر لنا : أنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون (59/203)
كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله عز و جل نوحا وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وبعث عند الاختلاف بين الناس وترك الحق وقال ابن عباس : كان الناس أمة واحدة : كانوا على الإسلام كلهم وهذا هو القول الصحيح في الآية وقد روى عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا أمة واحدة كانوا كفارا وهذا قول الحسن وعطاء قالا : كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح عليهما السلام أمة واحدة على ملة واحدة وهي الكفر كانوا كفارا كلهم أمثال البهائم فبعث الله نوحا وإبراهيم والنبيين وهذا القول ضعيف جدا وهو منقطع عن ابن عباس والصحيح عنه خلافه قال ابن أبي حاتم : حدثنا
أبو زرعة حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا همام حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانوا على الإسلام كلهم وهذا هو الصواب قطعا فإن قراءة أبي بن كعب فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ويشهد لهذه القراءة : قوله تعالى في سورة يونس وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا
والمقصود : أن العدو كادهم وتلاعب بهم حتى انقسموا قسمين كفارا ومؤمنين فكادهم بعبادة الأصنام وإنكار البعث (59/204)
وكان أول ما كاد به عباد الأصنام من جهة العكوف على القبور وتصاوير أهلها ليتذكروهم بها كما قص الله سبحانه قصصهم في كتابه فقال : وقالوا لا تزرن آلهتكم ولا تزرن ودآ ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا قال البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت
وقال ابن جرير عن محمد بن قيس قال : كانوا قوما صالحين من بني آدم وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم
وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي : أخبرني أبي قال : أول ما عبدت الأصنام أن آدم عليه السلام لما مات جعله بنو شيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه آدم بأرض الهند ويقال للجبل : نود وهو أخصب جبل في الأرض قال هشام : فأخبرني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : فكان بنو شيث عليه السلام يأتون جسد آدم في المغارة فيعظمونه ويترحمون عليه فقال رجل من بني قابيل بن آدم : يا بني قابيل إن لبنى شيث دوارا يدورون حوله ويعظمونه وليس لكم شيء فنحت لهم صنما فكان أول من عملها قال هشام : وأخبرني أبي قال : كان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر : قوما صالحين فماتوا في شهر فجزع عليهم ذوو أقاربهم فقال رجل من بني قابيل : يا قوم هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم غير أني لا أقدر أن أجعل فيها أرواحا قالوا : (59/205)
نعم فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم ونصبها لهم فكان الرجل يأتي أخاه وعمه وابن عمه فيعظمه ويسعى حوله حتى ذهب ذلك القرن الأول وكانت عملت على عهد برد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم ثم جاء قرن آخر فعظموهم أشد من تعظيم القرن الأول ثم جاء من بعدهم القرن الثالث فقالوا : ما عظم أولونا هؤلاء إلا يرجون شفاعتهم عند الله تعالى فعبدوهم وعظموا أمرهم واشتد كفرهم فبعث الله إليهم إدريس عليه السلام نبيا فدعاهم فكذبوه فرفعه الله إليه مكانا عليا ولم يزل أمرهم يشتد فيما قال ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : حتى أدرك نوح [ بن لمك بن متو شلح بن أخنوخ ] عليه السلام فبعثه الله تعالى نبيا وهو يومئذ ابن أربعمائة وثمانين سنة فدعاهم إلى الله تعالى في نبوته عشرين ومائة سنة فعصوه وكذبوه فأمره الله تعالى أن يصنع الفلك ففرغ منها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق ومكث بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة وكان بين آدم ونوح ألفا سنة ومائتا سنة فأهبط الماء هذه الأصنام [ من جبل نوذ إلى الأرض وجعل الماء يشتد جريه وعبابه ] من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جده فلما نضب الماء وبقيت على الشط فسفت الريح عليه حتى وارتها قلت : ظاهر القرآن يدل على خلاف هذا وأن نوحا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وأن الله عز و جل أهلكهم بالغرق بعد أن لبث فيهم هذه المدة
قال الكلبي : وكان عمرو بن لحي كاهنا وله رئي من الجن [ وكان يكنى (59/206)
أبا ثمامة ] فقال له : عجل المسير والظعن من تهامة بالسعد والسلامة [ قال : جير ولا إقامة قال ] : ائت [ ضف ] جدة تجد فيها أصناما معدة فأوردها تهامة ولا تهب ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب فأتى نهر جدة فاستثارها ثم حملها حتى ورد تهامة وحضر الحج فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة فأجابه عوف بن عذرة بن زيد اللات [ ابن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ] فدفع إليه ودا فحمله فكان بوادي القرى بدومة الجندل وسمى ابنه عبد ود فهو أول من سمي به وجعل عوف ابنه عامرا [ الذي يقال له : عامر الأجدار سادنا له فلم يزل بنوه يسدنونه حتى جاء الله بالإسلام
قال الكلبي : فحدثني مالك بن حارثة أنه رأى ودا قال : وكان أبي يبعثني باللبن إليه فيقول : اسقه إلهك فأشربه قال : ثم رأيت خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد كسره فجعله جذاذا وكان رسول اللهAبعث خالد بن الوليد لهدمه فحالت بينه وبين هدمه بنو عبد ود وبنو عامر الأجدار فقاتلهم فقتلهم وهدمه وكسره قال الكلبي : فقلت لمالك بن حارثة : صف لي ودا حتى كأني أنظر إليه قال : كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال قد دبر أي نقش عليه حلتان متزر بحلة مرتد بأخرى عليه سيف قد تقلده وقد تنكب قوسا وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة فيها نبل يعني جعبة (59/207)
[ قال : ورجع الحديث قال : ] وأجابت عمرو بن حيي مضر بن نزار فدفع إلى رجل من هذيل يقال له : الحرث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر : سواعا فكان بأرض يقال لها : وهاط من بطن نخلة يعبده من يليه من مضر وفي ذلك يقول رجل من العرب :
تراهم حول قبلتهم عكوفا ... كما عكفت هذيل على سواع تظل جنابه صرعى لديه ... عتائر من ذخائر كلع راع وأجابته مذحج فدفع إلى أنعم بن عمرو المرادي يغوث وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج ومن والاها
وأجابته همدان فدفع إلى مالك بن مرثد بن جشم [ بن حاشد بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان ] : يعوق فكان بقرية يقال لها : خيوان تعبده همدان ومن والاها من اليمن
وأجابت حمير : فدفع إلى رجل من ذي رعين يقال له : معد يكرب نسرا فكان بموضع من أرض سبإ يقال له : بلخع تعبده حمير ومن والاها فلم يزل يعبدونه حتى هودهم ذو نواس
فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله النبيAفهدمها وكسرها
قلت : هذا شرح ما ذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب تعبد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكان لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع قال : وهؤلاء أسماء رجال صالحين من قوم نوح وذكر ما تقدم (59/208)
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهA رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب
وفي لفظ وغير دين إبراهيم
وقال ابن إسحق : حدثني محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول اللهAيقول لأكثم بن الجون الخزاعي : يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم : عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله قال : لا إنك مؤمن وهو كافر إنه كان أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحام
قال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم : أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق وهم ولد عملاق ابن لاوذ بن سام بن نوح رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم : ما هذه الأصنام التي تعبدون فقالوا : نستمطر بها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا فقال : أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى (59/209)
أرض العرب فيعبدونه فأعطوه صنما يقال له : هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه قال هشام : وحدثني أبي وغيره : أن إسماعيل عليه السلام لما سكن مكة وولد بها أولاده فكثروا حتى ملئوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهم بعضا فتفسحوا في البلاد والتماس المعاش فكان الذي حملهم على عبادة الأوثان والحجارة : أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم وصبابة بمكة فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالبيت حبا للبيت وصبابة به وهم على ذلك يعظمون البيت ومكة ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ثم عبدوا ما استحسنوا ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام [ منها على إرث ما بقى من ذكرها فيهم وفيهم على ذلك بقايا ] من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وإهداء البدن [ مع إدخالهم فيه ما ليس منه ] وكانت نزار تقول في إهلالها : لبيك اللهم لبيك * لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك * تملكه وما ملك
[ ويوحدونه التلبية ويدخلون معه آلهتهم ويجعلون ملكها بيده يقول الله عز و جل لتبيهAوما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم (59/210)
مشركون أي ما يوحدونني بمعرفة حقى إلا جعلوا معي شريكا من خلقي
وكانت تلبية عك إذا خرجوا حجاجا قدموا أمامهم غلامين أسودين فكانا أمام ركبهم فيقولان : نحن غرابا عك فتقول عك من بعدهما : عك إليك عانيه ... عبادك اليمانيه
وكانت ربيعة إذا حجت فقضت المناسك ووقفت في المواقف نفرت في النفر الأول ولم تقم إلى آخر التشريق ] وكان أول من غير دين إسمعيل فنصب الأوثان وسيب السائبة [ وبحر البحيرة ] ووصل الوصيلة وحمى الحامي : عمرو بن ربيعة وهو لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي وهو أبو خزاعة وكانت أم عمرو فهيرة بنت عامر بن الحرث [ ويقال قمعة بنت مضاض ] وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة فلما بلغ عمرو بن لحي نازعه في الولاية وقاتل جرهما بني إسماعيل فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة ونفاهم من بلاد مكة وتولى حجابة البيت [ بعدهم ] ثم إنه مرض مرضا شديدا فقيل له : إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برأت فأتاها فاستحم فيها فبرأ ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال : ما هذه فقالوا : نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة واتخذت العرب الأصنام فكان أقدمها مناة [ وقد كانت العرب تسمى : عبد مناة وزيد مناة ] وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد بين مكة والمدينة وكانت العرب جميعها تعظمه وكانت الأوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب (59/211)
من المواضع يعظمونه ويذبحون له ويهدون له [ وكان أولاد معد على بقية من دين إسماعيل وكانت ربيعة ومضر على بقية من دينه ] ولم يكن أحد أشد إعظاما له من الأوس والخزرج
قال هشام : وحدثنا رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عبدالله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال : كانت الأوس والخزرج ومن جاورهم من عرب أهل يثرب وغيرها يحجون فيقفون مع الناس المواقف كلها ولا يحلقون رؤوسهم فإذا نفروا أتوه فحلقوا عنده رؤوسهم وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تماما إلا بذلك وكانت مناة لهذيل وخزاعة فبعث رسول اللهAعليا فهدمها عام الفتح ثم اتخذوا اللات بالطائف وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة [ وكان يهودي يلت عندها السويق ] وكان سدنتها من ثقيف [ بنو عتاب بن مالك ] وكانوا قد بنوا عليها وكانت قريش وجميع العرب تعظمها وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم فلم تزل كذلك (59/212)
حتى أسلمت ثقيف فبعث رسول اللهAالمغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار ثم اتخذوا العزى وهي أحدث من اللات ومناة اتخذها ظالم بن أسعد وكانت بواد من نخلة [ الشآمية يقال له : حراض بإزاء الغمير عن يمين المصعد إلى العراق من مكة وذلك ] فوق ذات عرق وبنوا عليها بيتا وكانوا يسمعون منه الصوت (59/213)
قال هشام : وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كانت العزى شيطانة تأتى ثلاث سمرات ببطن نخلة فلما افتتح رسول اللهAمكة بعث خالد بن الوليد فقال : ائت بطن نخلة فإنك ستجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال : هل رأيت شيئا قال : لا قال : فاعضد الثانية فأتاها فعضدها ثم أتى النبيA فقال : هل رأيت شيئا قال : لا قال فاعضد الثالثة فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها وخلفها [ دبية بن حرمى الشيباني ثم السلمي وكان ] سادنها [ فلما نظر إلى خالد قال :
أعزاء شدى شدة لا تكذبي ... على خالد ألقى الخمار وشمعري
فإنك إلا تقتلى اليوم خالدا ... تبوئي بذل عاجلا وتنصري فقال خالد :
يا عزى كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن ثم أتى النبيAفأخبره فقال : تلك العزى ولا عزى بعدها للعرب [ أما إنها لن تعبد بعد اليوم ] (59/214)
قال هشام : وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها وأعظمها عندهم : هبل وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدا من ذهب وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر [ وكان يقال له : هبل خزيمة ] وكان في جوف الكعبة وكان قدامه [ سبعة ] قداح مكتوب في أحدها صريح وفي الآخر ملصق فإذا شكوا في مولود أهدوا له هدية ثم ضربوا بالقداح فإن خرج صريح ألحقوه وإن خرج ملصق دفعوه [ وقدح على الميت وقدح على النكاح وثلاثة لم تفسر لى علام كانت ] وكانوا إذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا أو عملا أتوه فاستقسموا بالقداح عنده [ فما خرج عملوا به وانتهوا إليه وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبدالله والد النبي صلى الله عليه و سلم وهو الذي قال له أبو سفيان يوم أحد : أعل هبل فقال رسول اللهA قولوا له : الله أعلى وأجل
وكان لهم إساف ونائلة قال هشام : فحدث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : أن إسافا رجل من جرهم يقال له : إساف بن يعلى ونائلة بنت زيد من جرهم وكان يتعشقها في أرض اليمن فأقبلوا حجاجا فدخلا الكعبة فوجدا غفلة من الناس وخلوة من البيت ففجر بها في البيت فمسخا حجرين فأصبحوا فوجدوهما مسخين فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما فعبدتهما خزاعة وقريش ومن حج البيت بعد من العرب قال هشام : لما مسخا حجرين وضعا عند الكعبة ليتعظ بهما الناس فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها وكان أحدهما ملصقا بالكعبة والآخر في موضع زمزم فنقلت قريش الذي كان ملصقا بالكعبة إلى الآخر فكانوا يذبحون وينحرون عندهما
وكان من تلك الأصنام ذو الخلصة وكان مروة بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج وكان له بيت بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة [ وكان سدنتها بنو أمامة (59/215)
من باهلة بن أعصر ] وكانت تعظمها وتهدى لها خثعم وبجبيلة [ وأزد السراة ومن قاربهم من بطون العرب من هوازن ] فقال رسول اللهAلجرير : ألا تكفيني ذا الخلصة فسار إليه بأحمس فقاتلته خثعم وباهلة دونه فظفر بهم وهدم بيت ذي الخلصة وأضرم فيه النار فاحترق
وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تبالة
وكان لدوس صنم يقال له ذو الكفين فلما أسلموا بعث رسول اللهAالطفيل بن عمرو فحرقه
وكان لبني الحارث بن يشكر [ بن مبشر من الأزد ] صنم يقال له ذو الشرى
وكان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام يقال له الأقيصر
وكان لمزينة صنم يقال له نهم وبه كانت تسمى عبد نهم [ وكان لأزد السراة صنم يقال له عائم ] (59/216)
وكان لعنزة صنم يقا له سعير
وكان لطييء صنم يقا له الفلس
وكان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم كان يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كانآخر ما يصنع في منزله : أن يتمسح به وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله : أن يتمسح به قال ابن إسحاق : وكان لخولان صنم يقال له : عم أنس بأرض خولان يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله بزعمهم فما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه وما دخل في حق الصنم من حق الله الذي سمو له تركوه له وفيهم أنزل الله سبحانه وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هكذا لله بزعمهم وهكذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (59/217)
قال ابن إسحق : وكان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له : سعد صخرة بفلاة من الأرض طويلة فأقبل رجل من بني ملكان بإبل مؤبلة ليقفها عليه ابتغاء بركته فيما يزعم فلما رأته الإبل [ وكانت مرعية لا تركب ] وكان يهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت في كل وجه فغضب ربها فأخذ حجرا فرماه به ثم قال : لا بارك الله فيك نفرت عني إبلي ثم خرج في طلبها حتى جمعها فلما اجتمعت له قال :
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا تدعو لغي ولا رشد قال ابن إسحق : وكان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له مناة [ كما كان الأشراف يصنعون يتخذه إلها يعظمه ويظهره ] فلما أسلم فتيان بني سلمة معاذ بن جبل وابنه معاذ بن عمرو وغيرهم ممن أسلم وشهد العقبة وكانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذرات الناس منكسا على رأسه فإذا أصبح عمرو قال : ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة قال : ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه ثم قال : والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه فإذا أمسى ونام غدوا (59/218)
ففعلوا بصنمه مثل ذلك فيغدو فيلتمسه فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله ويطهره ويطيبه فيغدون عليه إذا أمسى فيفعلون به ذلك فلما طال عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله وطهره وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال له : والله إني لا أعلم من يصنع بك ما ترى فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك فلما أمسى ونام غدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس وغدا عمرو فلم يجده في مكانه الذي كان به فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت فلما رآه أبصر شأنه وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره ويشكر الله إذ أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة ويقول :
والله لو كنت إلها لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لملقاك إلها مستدن ... الآن فتشناك عن سوء الغبن
الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرزاق ديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن
قال ابن إسحق : واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه فإذا أراد رجل منهم سفرا تمسح به وإذا قدم من سفر تسمح به فيكون آخر عهده به وأول عهده به فلما بعث الله محمداAبالتوحيد قالت قريش : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب
وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب وتهدى لها كما تهدى للكعبة وتطوف بها كما تطوف بالكعبة وتنحر عندها كما تنحر عند الكعبة (59/219)
وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا وجعل الثلاثة أثا في لقدره فإذا ارتحل تركه فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك
قال حنبل : حدثنا حسن بن الربيع قال : حدثنا مهدي بن ميمون قال : سمعت أبا رجاء العطاردي يقول : لما بعث النبيAفسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب فلحقنا بالنار قال : وكنا نعبد الحجر في الجاهلية فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ثم طفنا به وقال أبو رجاء : كنا نعمد إلى الرمل فنجمعه ونحلب عليه فنعبده وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده زمانا ثم نلقيه وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الحجاج بن أبي زينب قال : (59/220)
سمعت أبا عثمان النهدي يقول : كنا في الجاهلية نعبد حجرا فسمعنا مناديا ينادي : يا أهل الرحال إن ربكم قد هلك فالتمسوا ربا قال : فخرجنا على كل صعب وذلول فبينا نحن كذلك نطلبه إذا نحن بمناد ينادي : إنا قد وجدنا ربكم أو شبهه فإذا حجر فنحرنا عليه الجزر
وقال محمد بن سعد : أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني الحجاج بن صفوان عن ابن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن عمرو بن عبسة قال : كنت امرأ ممن يعبد الحجارة فينزل الحى ليس معهم إلكه فيخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار فينصب ثلاثة لقدره ويجعل أحسنها إلكها يعبده ثم لعله يجد ما هو أحسن منه قبل أن يرتحل فيتركه ويأخذ غيره
ولما فتح رسول اللهA مكه وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما فجعل يطعن بسية قوسه في وجوهها وعيونها ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا وهي تتساقط على رؤوسها ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت (59/221)
فصل وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة
تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم
فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام ولهذا لعن النبي صلى الله عليه و سلم المتخذين على القبور المساجد والسرج ونهى عن الصلاة إلى القبور وسأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا وقال : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وأمر بتسوية القبور وطمس التماثيل
فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله إما جهلا وإما عنادا لأهل التوحيد ولم يضرهم ذلك شيئا وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين
وأما خواصهم فإنهم اتخذوها بزعمهم على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم وجعلوا لها بيوتا وسدنة وحجابا وحجا وقربانا ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا
فمنها : بيت على رأس جبل بإصبهان كان به أصنام أخرجها بعض ملوك المجوس وجعله بيت نار
ومنها بيت ثان وثالث ورابع بصنعاء بناه بعض المشركين على اسم الزهرة فخر به عثمان ابن عفان رضي الله تعالى عنه
ومنها بيت بناه قابوس الملك على اسم الشمس بمدينة فرغانة فخر به المعتصم
وأشد الأمم في هذا النوع من الشرك : الهند
قال يحيى بن بشر : إن شريعة الهند وضعها لهم رجل يقال له برهمن ووضع لهم أصناما وجعل أعظم بيوتها بيتا بمدينة من مدائن السند وجعل فيه صنمهم الأعظم وزعم (59/222)
أنه بصورة الهيولى الأكبر وفتحت هذه المدينة في أيام الحجاج واسمها الملتان فأراد المسلمون قلع الصنم فقيل : إن تركتموه ولم تقلعوه جعلنا لكم ثلث ما يجتمع له من المال فأمر عبد الملك بن مروان بتركه فالهند تحج إليه من نحو ألفي فرسخ ولا بد لمن يحجه أن يحمل معه من النقد ما يمكنه من مائة إلى عشرة آلاف لا يكون أقل من هذا ولا أكثر فيلقيه في صندوق هناك عظيم ويطوف بالصنم فإذا ذهبوا ورجعوا إلى بلادهم قسم ذلك المال فثلثه للمسلمين وثلثه لعمارة المدينة وحصونها وثلثه لسدنة الصنم ومصالحه
وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة وهم قوم إبراهيم عليه السلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجتهم بعلمه وآلهتهم بيده فطلبوا تحريقه
وهو مذهب قديم في العالم وأهله طوائف شتى فمنهم عباد الشمس زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل وهي أصل نور القمر والكواكب وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها وهي عندهم ملك الفلك فيستحق التعظيم والسجود والدعاء ومن شريعتهم في عبادتها : أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهرة على لون النار وله بيت خاص قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعون ويستسقون به وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها وإذا غربت وإذا توسطت الفلك ولهذا يقارنها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة لتقع عبادتهم وسجودهم له ولهذا نهى النبيAعن تحري الصلاة في هذه الأوقات قطعا لمشابهة الكفار ظاهرا وسدا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام (59/223)
فصل وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما وزعموا أنه يستحق التعظيم
والعبادة وإليه تدبير هذا العالم السفلي
ومن شريعة عباده : أنهم اتخذوا له صنما على شكل عجل يجره اربعة وبيد الصنم جوهرة ويعبدونه ويسجدون له ويصومون له أياما معلومة من كل شهر ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه
ومنهم من يعبد أصناما اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيتها بزعمهم وبنوا لها هياكل ومتعبدات لكل كوكب منها هيكل يخصه وصنم يخصه وعبادة تخصه
ومتى أردت الوقوف على هذا فانظر في كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم المنسوب إلى ابن الخطيب الري تعرف سر عبادة الأصنام وكيفية تلك العبادة وشرائطها
وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام فإنهم لا تستمر لهم طريقة إلا بشخص خاص على شكل خاص ينظرون إليه ويعكفون عليه
ومن ههنا اتخذ اصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورتها
فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده ومن أسباب عبادتها أيضا : أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم وهم لا يشاهدون الشياطين فجهلتهم وسقطهم يظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطب وعقلاؤهم يقولون : إن تلك روحانيات الأصنام وبعضهم يقول : إنها ملائكة وبعضهم يقول : إنها العقول المجردة وبعضهم يقول : (59/224)
هي روحانيات الأجرام العلوية وكثير منهم لا يسأل عما عهد بل إذا سمع الخطاب من الصنم اتخذه إلكها ولا يسأل عما وراء ذلك
وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم عليه السلام وعبادتها في الأرض من قبل نوح عليه السلام كما تقدم وهيا كلها ووقوفها وسدنتها وحجابها والكتب المصنفة في شرائع عبادتها طبق ذلك كله الأرض قال إمام الحنفاء واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس والأمم التي أهلكها الله بأنواع الهلاك كلهم وكانوا يعبدون الأصنام كما قص الله تعالى ذلك عنهم في القرآن وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين ويكفي في معرفة كثرتهم وأنهم أكثر أهل الأرض : ما صح عن النبيAأن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وقد قال تعالى : فأبى أكثر الناس إلا كفورا وقال : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله وقال : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وقال 7 : 101 وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين
ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها فهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها وتحمل أنواع المكاره في نصرتها وعبادتها وهم يسمعون أخبار الأمم التي فتنت بعبادتها وما حل بهم من عاجل العقوبات ولا يثنيهم ذلك عن عبادتها
ففتنة عبادة الأصنام أشد من فتنة عشق الصور وفتنة الفجور بها والعاشق لا يثنيه (59/225)
عن مراده خشية عقوبة في الدنيا ولا في الآخرة وهو يشاهد ما يحل بأصحاب ذلك من الآلام والعقوبات والضرب والحبس والنكال والفقر غير ما أعد الله له في الآخرة وفي البرزخ ولا يزيده ذلك إلا إقداما وحرصا على الوصول والظفر بحاجته
فهكذا الفتنة بعبادة الأصنام وأشد فإن تأله القلوب لها أعظم من تألهها للصور التي يريد منها الفاحشة بكثير
والقرآن بل وسائر الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الدين وكفر أهله وأنهم أعداء الله ورسله وأنهم أولياء الشيطان وعباده وأنهم هم أهل النار الذين لا يخرجون منها وهم الذين حلت بهم المثلات ونزلت بهم العقوبات وأن الله سبحانه بريء منهم هو وجميع رسله وملائكته وأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يقبل لهم عملا
وهذا معلوم بالضرورة من الدين الحنيف
وقد أباح الله عز و جل لرسوله وأتباعه من الحنفاء دماء هؤلاء وأموالهم ونساءهم وأبناءهم وأمرهم بتطهير الأرض منهم حيث وجدوا وذمهم بسائر أنواع الذم وتوعدهم بأعظم أنواع العقوبة فهؤلاء في شق ورسل الله تعالى كلهم في شق
فصل ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق وإعطاؤه فوق منزلته
حتى جعل فيه حظ من الإلهية وشبهوه بالله سبحانه وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله سبحانه وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله
فهو سبحانه ينفي وينهي أن يجعل غيره مثلاله وندا له وشبها له لا أن يشبه هو بغيره إذ ليس في الأمم المعروفة أمه جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته فجعلت المخلوق أصلا وشبهت به الخالق فهذا لا يعرف في طائفة من طوائف بني آدم وإنما الأول هو (59/226)
المعروف في طوائف أهل الشرك غلوا فيمن يعظمونه ويحبونه حتى شبهوه بالخالق وأعطوه خصائص الإلهية بل صرحوا أنه إله وأنكروا جعل الآلهة إلها واحدا وقالوا 38 : 6 اصبروا على آلهتكم وصرحوا بأنه إله معبود يرجى ويخاف ويعظم ويسجد له ويحلف باسمه وتقرب له القرابين إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى
فكل مشرك فهو مشبه لالهه ومعبوده بالله سبحانه وإن لم يشبهه به من كل وجه حتى إن الذين كفروا وصفوه سبحانه بالنقائص والعيوب كقولهم 3 : 181 إن الله فقير وإن 5 : 64 يد الله مغلولة وإنه استراح لما فرغ من خلق العالم والذين جعلوا له ولدا وصاحبة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا لم يكن قصدهم أن يجعلوا المخلوق أصلا ثم يشبهون به الخالق بل وصفوه بهذه الأشياء استقلالا لا قصدا أن يكون غيره أصلا فيها وهو مشبه به
ولهذا كان وصفه سبحانه بهذه الأمور من أبطل الباطل لكونها في نفسها نقائص وعيوبا ليس جهة البطلان في اتصافه بها هو التشبيه والتمثيل فلا يتوقف في نفيها عنه على ثبوت انتفاء التشبيه كما يفعله بعض أهل الكلام الباطل حيث صرحوا بأنه لا يقوم دليل عقلي على انتفاء النقائص والعيوب عنه وإنما تنفي عنه لاستلزامها التشبيه والتمثيل
وهؤلاء إذا قال لهم الواصفون لله سبحانه بهذه الصفات نحن نثبتها له على وجه لا يماثل فيها خلقه بل نثبت له فقرا وصاحبة وإيلادا لا يماثل فيه خلقه كما تثبتون أنتم له علما وقدرة وحياة وسمعا وبصرا لا يماثل فيها خلقه فقولنا في هذا كقولكم فيما أثبتموه سواء لم يتمكنوا من إبطال قولهم ويصيرون أكفاء لهم في المناظرة فإنهم قد أعطوهم أنه لا يقوم دليل عقلي على انتفاء النقائص والعيوب وإنما ننفي ما نفى عنه لأجل التشبيه والتمثيل وقد أثبتوا له صفات على وجه لا يستلزم التشبيه فقال أولئك وهكذا نقول نحن
ولما عرف بعضهم أن هذا لازم له لا محالة استروح إلى دليل الإجماع وقال إنما نفينا النقائص والعيوب عنه بالإجماع وعندهم أن الإجماع أدلته ظنية لا تفيد اليقين فليس عند (59/227)
القوم يقين وقطع بأن الله سبحانه منزه عن النقائص والعيوب
وأهل السنة يقولون إن تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته كما أن إثبات صفات الكمال والحمد واجب لذاته وهو أظهر في العقول والفطر وجميع الكتب الإلهية وأقوال الرسل من كل شيء
ومن العجب أن هؤلاء جاءوا إلى ما علم بالإضطرار أن الرسل جاءوا به ووصفوا الله سبحانه به ودلت عليه العقول والفطر والبراهين فنفوه وقالوا إثباته يستلزم التجسيم والتشبيه فلم يثبت لهم قدم ألبتة فيما يثبتونه له سبحانه وينفونه عنه وجاءوا إلى ما علم بالإضطرار والفطر والعقول وجميع الكتب الإلهية من تنزيه الله سبحانه عن كل نقص وعيب فقالوا ليس في أدلة العقل ما ينفيه وإنما ننفيه بما ننفي به التشبيه
وليس في الخذلان فوق هذا بل إثبات هذه العيوب والنقائص يضاد كماله المقدس وهو سبحانه موصوف بما يضادها وينافيها من كل وجه ونفيها أظهر وأبين في العقول من نفي التشبيه فلا يجوز أن تثبت له على وجه لا يشابه فيه خلقه
والمقصود أنه لم يكن في الأمم من مثله بخلقه وجعل المخلوق أصلا ثم شبهه به وإنما كان التمثيل والتشبيه في الأمم حيث شبهوا أوثانهم ومعبوديهم به في الألهية وهذا التشبيه هو أصل عبادة الأصنام فأعرض عنه وعن بيان بطلانه أهل الكلام وصرفوا العناية إلى إنكار تشبيهه بالخلق الذي لم تعرف أمة من الأمم عليه وبالغوا فيه حتى نفوا به عنه صفات الكمال
وهذا موضع مهم نافع جدا به يعرف الفرق بين ما نزه الرب سبحانه نفسه عنه وذم به المشركين المشبهين العادلين به خلقه وبين ما ينفيه الجهمية المعطلة من صفات كماله ويزعمون أن القرآن دل عليه وأريد به نفيه
والقرآن مملوء من إبطال أن يكون في المخلوقات ما يشبه الرب تعالى أو يماثله فهذا هو الذي قصد بالقرآن إبطالا لما عليه المشركون والمشبهون العادلون بالله تعالى غيره
قال تعالى 2 : 22 فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون وقال 2 : 165 (59/228)
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلا للخالق فالند الشبه يقال فلان ند فلان ونديده أي مثله وشبهه ومنه قول حسان بن ثابت
أتهجوه ولست له بند ... فشركما لخيركما الفداء
ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم لمن قال له ما شاء الله وشئت أجعلتني لله ندا وقال جرير
أتيما تجعلون إلي ندا ... وما تيم لذي حسب نديد
قال ابن مسعود وابن عباس لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله
وقال ابن زيد الأنداد الآلهة التي جعلوها معه
وقال الزجاج أي لا تجعلوا لله أمثالا
فالذي أنكره الله سبحانه عليهم هو تشبيه المخلوق به حتى جعلوه ندا لله تعالى يعبدونه كما يعبدون الله وكذلك قوله في الآية الأخرى 2 : 165 ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله فأنكر هذا التشبيه عليهم وهو أصل عبادة الأصنام
ونظير هذا قوله سبحانه 6 : 1 الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي يعدلون به غيره فيجعلون له من خلقه عدلا وشبها (59/229)
قال ابن عباس يريد عدلوا بي من خلقي الحجارة والأصنام بعد أن أقروا بنعمتي وربوبيتي
وقال الزجاج أعلم الله سبحانه أنه خالق ما ذكر في هذه الآية وأن خالقها لا شيء مثله مثله وأعلم أن الكفار يجعلون له عديلا والعدل التسوية يقال عدل الشيء بالشيء إذا سواه به ومعنى يعدلون به يشركون به غيره
قال مجاهد قال الأحمر يقال عدل الكافر بربه عدلا وعدولا إذا سوى به غيره فعبده
وقال الكسائي عدلت الشيء بالشيء أعدله عدولا إذا ساويته به
ومثله قوله تعالى عن هؤلاء المشبهين إنهم يقولون في النار لآلهتهم 26 : 97 تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين فاعترفوا أنهم كانوا في أعظم الضلال وأبينه إذ جعلوا لله شبها وعدلا من خلقه سووهم به في العبادة والتعظيم
وقال تعالى 19 : 65 رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا قال ابن عباس شبها ومثلا وهو من يساميه
وذلك نفي عن المخلوق أن يكون مشابها للخالق ومماثلا له بحيث يستحق العبادة التعظيم ولم يقل سبحانه هل تعلمه سميا أو مشبها لغيره فإن هذا لم يقله أحد بل المشركون المشبهون جعلوا بعض المخلوقات مشابها له مساميا وندا وعدلا فأنكر عليهم هذا التشبيه والتمثيل
وكذلك قوله 16 : 73 ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال فنهاهم أن يضربوا له مثلا من خلقه ولم ينههم أن يضربوه هو مثلا لخلقه فإن هذا لم يقله أحد ولم يكونوا يفعلونه فإن الله سبحانه أجل وأعظم وأكبر من كل شيء في فطر الناس كلهم ولكن المشبهون المشركون يغلون فيمن يعظمونه فيشبهونهم بالخالق والله تعالى أجل في صدور جميع الخلق من أن يجعلوا غيره أصلا ثم يشبهونه سبحانه بغيره (59/230)
فالذي يشبهه بغيره إن قصد تعظيمه لم يكن في هذا تعظيم لأنه مثل أعظم العظماء بما هو دونه بل بما ليس بينه وبينه نسبة وشبه في العظمة والجلالة وعاقل لا يفعل هذا
وإن قصد التنقيص شبهه بالناقصين المذمومين لا بالكاملين الممدوحين
ومن هنا يعلم أن إثبات صفات الكمال له لا يتضمن التشبيه والتمثيل لا بالكاملين ولا بالناقصين وأن نفي تلك الصفات يستلزم تشبيهه بأنقص الناقصين
فانظر إلى الجهمية وأتباعهم جاءوا إلى التشبيه المذموم فأعرضوا عنه صفحا وجاءوا إلى الكمال والمدح فجعلوه تشبيها وتمثيلا عكس ما يثبته القرآن وجاء به من كل وجه
ومن هذا قوله تعالى ولم يكن له كفوا أحد هو سلب عن المخلوق مكافأته ومماثلته للخالق سبحانه ولم يقل ولم يكن هو كفوا لأحد فينفي عن نفسه مشابهته للمخلوق ومكافأته له إذ كان ذلك أبين وأظهر من أن يحتاج إلى نفيه
وسر ذلك أن المقصود أن المخلوق لا يماثله سبحانه في شيء من صفاته وخصائصه وأما كونه سبحانه هو لا يماثل المخلوق ولا يشابهه ولا هو ند له ولا كفؤ فليس فيه مدح له
فإنه لو مدح بعض الملوك أو غيرهم بأنه لا يشبه الحيوانات ولا الحجارة ولا الخشب ونحو ذلك لم يعد هذا مدحا ولا ثناء عليه ولا كمالا له بخلاف ما إذا قيل لا تجعل للملك ندا ولا كفؤا ولا شبيها من رعيته تعظمه كتعظيمه وتطيعه كطاعته فإنه ليس في رعيته من يساميه ولا يماثله ولا يكافئه كان هذا غاية المدح
وكذلك قوله سبحانه 42 : 11 ليس كمثله شيء وهو السميع البصير إنما قصد به نفي أن يكون معه شريك أو معبود يستحق العبادة والتعظيم كما يفعله المشبهون والمشركون ولم يقصد به نفي صفات كماله وعلوه على خلقه وتكلمه بكتبه وتكليمه لرسله (59/231)
ورؤية المؤمنين له جهرة بأبصارهم كما ترى الشمس والقمر في الصحو فإنه سبحانه إنما ذكر هذا في سياق رده على المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء يوالونهم من دونه فقال تعالى 42 : 6 والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
فتأمل كيف ذكر هذا النفي تقريرا للتوحيد وإبطالا لما عليه أهل الشرك من تشبيه آلهتهم وأوليائهم به حتى عبدوهم معه فحرفها المحرفون وجعلوها ترسا لهم في نفي صفات كماله وحقائق أسمائه وأفعاله
وهذا التشبيه الذي أبطله الله سبحانه نفيا ونهيا هو أصل شرك العالم وعبادة الأصنام ولهذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يسجد أحد لمخلوق مثله أو يحلف بمخلوق مثله أو يصلي إلى قبر أو يتخذ عليه مسجدا أو يعلق عليه (59/232)
قنديلا أو يقول القائل ما شاء الله وشاء فلان ونحو ذلك حذرا من هذا التشبيه الذي هو أصل الشرط
وأما إثبات صفات الكمال فهو أصل التوحيد
فتبين أن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم والخضوع والحلف به والنذر له والسجود له والعكوف عند بيته وحلق الرأس له والإستغاثة به والتشريك بينه وبين الله في قولهم ليس لي إلا الله وأنت وأنا متكل على الله وعليك وهذا من الله ومنك وأنا في حسب الله وحسبك وما شاء الله وشئت وهذا لله ولك وأمثال ذلك
فهؤلاء هم المشبهه حقا لا أهل التوحيد المثبتون لله ما أثبته لنفسه والنافون عنه ما نفاه عن نفسه الذين لا يجعلون له ندا من خلقه ولا عدلا ولا كفؤا ولا سميا وليس لهم من دونه ولي ولا شفيع
فمن تدبر هذا الفصل حق التدبر تبين له كيف وقعت الفتنة في الأرض بعبادة الأصنام وتبين له سر القرآن في الإنكار على هؤلاء المشبهة الممثلة ولا سيما إذا جمعوا إلى هذا التشبيه تعطيل الصفات والأفعال كما هو الغالب عليهم فيجمعون بين تعطيل الرب سبحانه عن صفات كماله وبين تشبيه خلقه به
فصل ومن كيده وتلاعبه ما تلاعب بعباد النار حتى اتخذوها إلها
معبودة وقد قيل إن هذا كان من عهد قابيل كما ذكر أبو جعفر محمد بن جرير أنه لما قتل قابيل هابيل وهرب من أبيه آدم عليه السلام أتاه إبليس فقال له إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار لأنه كان يخدمها ويعبدها فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيت نار فهو أول من نصب النار وعبدها
وسرى هذا المذهب في المجوس فبنوا لها بيوتا كثيرة واتخذوا لها الوقوف والسدنة (59/233)
والحجاب فلا يدعوها تخمد لحظة واحدة فاتخذ لها إفريدون بيتا بطوس وآخر ببخارى واتخذ لها بهمن بيتا بسجستان واتخذ لها أبو قباذ بيتا بناحية بخارى واتخذت لها بيوت كثيرة وعباد النار يفضلونها على التراب ويعظمونها ويصوبون رأي إبليس وقد رمي بشار بن برد بهذا المذهب لقوله في قصيدته :
الأرض سافلة سوداء مظلمة ... والنار معبودة مذ كانت النار ويقولون : إنها أوسع العناصر خيرا وأعظمها جرما وأوسعها مكانا وأشرفها جوهرا وألطفها جرما ولا كون في العالم إلا بها ولا نمو ولا انعقاد إلا بممازجتها
ومن عبادتهم لها : أن يحفروا لها أخدودا مربعا في الأرض ويطوفون به
وهم أصناف مختلفة
فمنهم من يحرم إلقاء النفوس فيها وإحراق الأبدان بها وهم أكثر المجوس وطائفة أخرى منهم : تبلغ بهم عبادتهم لها إلى أن يقربوا أنفسهم وأولادهم لها وهؤلاء أكثر ملوك الهند وأتباعهم ولهم سنة معروفة في تقريب نفوسهم وإلقائهم فيها فيعمد الرجل الذي يريد أن يفعل ذلك بنفسه أو بولده أو حبيبه فيحمله ويلبسه أحسن اللباس وأفخر الحلبي ويركبه أعلى المراكب وحوله المعازف والطبول والبوقات فيزف إلى النار أعظم من زفافه ليلة عرسه حتى إذا ما قابلها ووقف عليها وهي تأجج طرح نفسه فيها فضج (59/234)
الحاضرون ضجة واحدة بالدعاء له وغبطته على ما فعل فلا يلبث إلا يسيرا حتى يأتيهم الشيطان في صورته وشكله وهيأته لا ينكرون منه شيئا فيأمرهم بأمره ويوصيهم بما يوصيهم به ويوصيهم بالتمسك بهذا الدين ويخبرهم أنه صار إلى جنة ورياض وأنهار وأنه لم يتألم بمس النار له فلا يهولنهم ذلك ولا يمنعهم عن أن يفعلوا مثله ومنهم زهاد وعباد يجلسون حول النار صائمين عاكفين عليها ومن سنتهم : الحث على الأخلاق الجملية كالصدق والوفاء وأداء الأمانة والعفة والعدل وترك أضدادها ولهؤلاء شرائع في عبادتها ونواميس وأوضاع لا يخلون بها
فصل ومن كيده وتلاعبه : تلاعبه بطائفه أخرى تعبد الماء من دون الله
وتسمى الحلبانية
وتزعم أن الماء لما كان أصل كل شيء وبه كل ولادة ونمو ونشوء وطهارة وعمارة وما من عمل في الدنيا إلا ويحتاج إلى الماء فكان حقه أن يعبد
ومن شريعتهم في عبادته : أن الرجل منهم إذا أراد عبادته تجرد وستر عورته ثم دخل فيه حتى يصير إلى وسطه فيقيم هناك ساعتين أو أكثر بقدر ما أمكنه ويكون معه ما يمكنه أخذه من الرياحين فيقطعها صغارا فيلقيها فيه شيئا فشيئا وهو يسبحه ويمجده فإذا أراد الانصراف حرك الماء بيديه ثم أخذ منه فيضعه على رأسه ووجهه وجسده ثم يسجد وينصرف
فصل ومن تلاعبه : تلاعبه بعباد الحيوانات فطائفة عبدت الخيل وطائفة
عبدت (59/235)
البقر وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات وطائفة تعبد الشجر وطائفة تعبد الجن كما قال سبحانه : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك ! أنت ولعينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون وقال تعالى : ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم
وقال تعالى : ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم يعني قد استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم (59/236)
قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم : أضللتم منهم كثيرا فيجيبه سبحانه أولياؤهم من الإنس بقولهم ربنا استمتع بعضنا ببعض يعنون استمتاع كلع نوع بالنوع الآخر فاستمتاع الجن بالإنس : طاعتهم لهم فيما يأمرونهم به : من الكفر والفسوق والعصيان فإن هذا أكثر أغراض الجن من الإنس فإذا أطاعوهم فيه فقد أعطوهم مناهم واستمتاع الإنس بالجن : أنهم أعانوهم على معصية الله تعالى والشرك به بكل ما يقدرون عليه : من التحسين والتزيين والدعاء وقضاء كثير من حوائجهم واستخدامهم بالسحر والعزائم وغيرها فأطاعهم الإنس فيما يرضيهم : من الشرك والفواحش والفجور وأطاعتهم الجن فيما يرضيهم : من التأثيرات والإخبار ببعض المغيبات
فتمتع كل من الفريقين بالآخر
وهذه الآية منطبقة على أصحاب الأحوال الشيطانية الذين لهم كشوف شيطانية وتأثير شيطاني فيحسبهم الجاهل أولياء الرحمن وإنما هم من أولياء الشيطان أطاعوه في الإشراك ومعصية الله والخروج عما بعث به رسله وأنزل به كتبه فأطاعهم في أن خدمهم بإخبارهم بكثير من المغيبات والتأثيرات واغتر بهم من قل حظه من العلم والإيمان فوالى أعداء الله وعادى أولياءه وحسن الظن بمن خرج عن سبيله وسنته وأساء الظن بمن اتبع سنة الرسول وما جاء به ولم يدعها لأقوال المختلفين وآراء المتحيرين وشطحات المارقين وترهات المتصوفين
والبصير الذي نور الله بصيرته بنور الإيمان والمعرفة إذا عرف حقيقة ما عليه أكثر هذا الخلق وكان ناقدا لا يروج عليه الزغل تبين له أنهم داخلون تحت حكم هذه الآية وهي منطبقة عليهم
فالفاسق يستمتع بالشيطان بإعانته له على أسباب فسوقه والشيطان يستمتع به في (59/237)
قبوله منه وطاعته له فيسره ذلك ويفرح به منه والمشرك يستمتع به الشيطان بشركه به وعبادته له ويستمتع هو بالشيطان في قضاء حوائجه وإعانته له
ومن لم يحط علما بهذا لم يعلم حقيقة الإيمان والشرك وسر امتحان الرب سبحانه كلا من الثقلين بالآخر
ثم قالوا : وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وهو يتناول أجل الموت وأجل البعث فكلاهما أجل أجله الله تعالى لعباده وهما الأجلان اللذان قال الله فيهما ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده
وكأن هذا والله أعلم إشارة منهم إلى نوع استعطاف وتوبة فكأنهم يقولون : هذا أمر قد كان إلى وقت وانقطع بانقطاع أجله فلم يستمر ولم يدم فبلغ الأمر الذي كان أجله وانتهى إلى غايته ولكل شيء آخر فقال تعالى : النار مثواكم خالدين فيها فإنه وإن انقطع زمن التمتع وانقضى أجله فقد بقي زمن العقوبة فلا يتوهم أنه إذا انقصى زمن الكفر والشرك وتمتع بعضكم ببعض أن مفسدته زالت بزواله وانتهت بانتهائه والمقصود : أن الشيطان تلاعب بالمشركين حتى عبدوه واتخذوه وذريته أولياء من دون الله
فصل ومن تلاعبه بهم : أن زين لقوم عبادة الملائكة فعبدوهم بزعمهم
ولم تكن عبادتهم في الحقيقة لهم ولكن كانت للشياطين فعبدوا أقبح خلق الله وأحقهم باللعن والذم قال تعالى : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهكؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنع أكثرهم بهم مؤمنون وقال تعالى : ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم (59/238)
أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ! ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا وهذه الآيات تحتاج إلى تفسير وبيان فقوله سبحانه : ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله عام في كل عابد ومن عبده من دون الله
وأما قوله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل فقال مجاهد فيما رواه ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه قال : هذا خطاب لعيسى وعزير والملائكة وروى عنه ابن جريج نحوه
وأما عكرمة والضحاك والكلبي فقالوا : هو عام في الأوثان وعبدتها
ثم يأذن سبحانه لها في الكلام فيقول : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء قال مقاتل : يقول سبحانه أأنتم أمرتموهم بعبادتكم أم هم ضلوا السبيل أى أم هم أخطؤا الطريق فأجاب المعبودون بما حكى الله عنهم من قولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء
وهذا الجواب إنما يحسن من الملائكة والمسيح وعزيز ومن عبدهم المشركون من أولياء الله ولهذا قال ابن جرير يقول تعالى ذكره قالت الملائكة وعيسى الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله تنزيها لك يا ربنا وتبرئه مما أضاف إليك هؤلاء المشركون ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم بل أنت ولينا من دونهم
وقال ابن عباس ومقاتل نزهوا الله وعظموه أن يكون معه إله (59/239)
وفيها قراءتان أشهرهما نتخذ بفتح النون وكسر الخاء على البناء للفاعل وهي قراءة السبعة والثانية نتخذ بضم النون وفتح الخاء على البناء للمفعول وهي قراءة الحسن ويزيد بن القعقاع
وعلى كل واحدة من القراءتين إشكال
فأما قراءة الجمهور فإن الله سبحانه إنما سألهم هل أضلوا المشركين بأمرهم إياهم بعبادتهم أم هم ضلوا السبيل باختيارهم وأهوائهم وكيف يكون هذا الجواب مطابقا للسؤال فإنه لم يسألهم هل اتخذتم من دوني من أولياء حتى يقولوا ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء وإنما سألهم هل أمرتم عبادي هؤلاء بالشرك أم هم أشركوا من قبل أنفسهم فالجواب المطابق أن يقولوا لم نأمرهم بالشرك وإنما هم آثروه وارتضوه أو لم نأمرهم بعبادتنا كما قال في الآية الأخرى عنهم 28 : 13 تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون
فلما رأى أصحاب القراءة الأخرى ذلك فروا إلى بناء الفعل للمفعول وقالوا الجواب يصح على ذلك ويطابق إذ المعنى ليس يصلح لنا أن نعبد ونتخذ آلهة فكيف نأمرهم بما لا يصلح لنا ولا يحسن منا
ولكن لزم هؤلاء من الإشكال أمر آخر وهو قوله من أولياء فإن زيادة من لا يحسن إلا مع قصد العموم كما تقول ما قام من رجل وما ضربت من رجل فأما إذا كان النفي واردا على شيء مخصوص فإنه لا يحسن زيادة من فيه وهم إنما نفوا عن أنفسهم ما نسب إليهم من دعوى المشركين أنهم أمروهم بالشرك فنفوا عن أنفسهم ذلك بأنه لا تحسن منهم ولا يليق بهم أن يعبدوا فكيف ندعوا عبادك إلى أن يعبدونا فكان الواجب على هذا أن تقرأ ما كان ينبغي لنا أن نتخذ أولياء من دونك أو من دونك أولياء
فأجاب أصحاب القراءة الأولى بوجوه
أحدها أن المعنى ما كان ينبغي لنا أن نعبد غيرك ونتخذ غيرك وليا ومعبودا فكيف ندعو أحدا إلى عبادتنا أي إذا كنا نحن لا نعبد غيرك فكيف ندعو أحدا إلى أن (59/240)
يعبدنا والمعنى أنهم إذا كانوا لا يرون لأنفسهم عبادة غير الله تعالى فكيف يدعون غيرهم إلى عبادتهم وهذا جواب الفراء
وقال الجرجاني هذا بالتدريج يصير جوابا للسؤال الظاهر وهو أن من عبد شيئا فقد تولاه وإذا تولاه العابد صار المعبود وليا للعابد يدل على هذا قوله تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم فدل على أن العابد يصير وليا للمعبود
ويصير المعنى كأنهم قالوا ما كان ينبغي لنا أن نأمر غيرنا باتخاذنا أولياء وأن نتخذ من دونك وليا يعبدنا وهذا بسط لقول ابن عباس في هذه الآية
قال يقولون ما توليناهم ولا أحببنا عبادتهم قال ويحتمل أن يكون قولهم ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء أن يريدوا معشر العبيد لا أنفسهم أي نحن وهم عبيدك ولا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دونك أولياء ولكنهم أضافوا ذلك إلى أنفسهم تواضعا منهم كما يقول الرجل لمن أتى منكرا ما كان ينبغي لي أن أفعل مثل هذا أي أنت مثلي عبد محاسب فإذا لم يحسن من مثلي أن يفعل هذا لم يحسن منك أيضا
قال ولهذا الإشكال قرأ من قرأ نتخذ بضم النون وهذه القراءة أقرب في التأويل
لكن قال الزجاج هذه القراءة خطأ لأنك تقول ما اتخذت من أحد وليا ولا يجوز ما اتخذت أحدا من ولي لأن من إنما دخلت لأنها تنفي واحدا من معنى جميع تقول ما من أحد قائما وما من رجل محبا لما يضره ولا يجوز ما رجل من محب لما يضره
قال ولا وجه عندنا لهذا ألبتة ولو جاز هذا لجاز في 69 : 47 فما منكم من أحد عنه حاجزين ما أحد عنه من حاجزين فلو لم تدخل من لصحت هذه القراءة
قال صاحب النظم العلة في سقوط هذه القراءة أن من لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه فإذا كان قبل المفعول مفعول سواه لم يحسن دخول من كقوله (59/241)
: ما كان لله أن يتخذ من ولد فقوله من ولد لا مفعول دونه سواه ولو قال ما كان لله أن يتخذ أحدا من ولد لم يحسن فيه دخول من لأن فعل الإتخاذ مشغول بأحد
وصحح آخرون هذه القراءة لفظا ومعنى وأجروها على قواعد العربية
قالوا وقد قرأ بها من لا يرتاب في فصاحته فقرأ بها زيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو جعفر ومجاهد ونصر بن علقمة ومكحول وزيد بن علي وأبو رجاء والحسن وحفص بن حميد ومحمد بن علي على خلاف عن بعض هؤلاء ذكر ذلك أبو الفتح بن جني ثم وجهها بأن يكون من أولياء في موضع الحال أي ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء ودخلت من زائدة لمكان النفي كقولك اتخذت زيدا وكيلا فإذا نفيت قلت ما اتخذت زيدا من وكيل وكذلك أعطيته درهما وما أعطيته من درهم وهذا في المفعول فيه
قلت يعني أن زيادتها مع الحال كزيادتها مع المفعول
ونظير ذلك أن تقول ما ينبغي لي أن أخدمك متثاقلا فإذا أكدت قلت من متثاقل
فإن قيل فقد صحت القراءتان لفظا ومعنى فأيهما أحسن
قلت قراءة الجمهور أحسن وأبلغ في المعنى المقصود والبراءة مما لا يليق بهم فإنهم على قراءة الضم يكونون قد نفوا حسن اتخاذ المشركين لهم أولياء وعلى قراءة الجمهور يكونون قد أخبروا أنهم لا يليق بهم ولا يحسن منهم أن يتخذوا وليا من دونه بل أنت وحدك ولينا ومعبودنا فإذا لم يحسن بنا أن نشرك بك شيئا فكيف يليق بنا أن ندعو عبادك إلى أن يعبدونا من دونك وهذا المعنى أجل من الأول وأكبر فتأمله
والمقصود أنه على القراءتين فهذا الجواب من الملائكة ومن عبد من دون الله من أوليائه وأما كونه من الأصنام فليس بظاهر
وقد يقال إن الله سبحانه أنطقها بذلك تكذيبا لهم وردا عليهم وبراءة منهم كقوله 2 : 166 إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا وفي الآية الأخرى 28 : 63 تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون (59/242)
ثم ذكر المعبودون سبب ترك العابدين الإيمان بالله تعالى بقولهم ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا قال ابن عباس أطلت لهم العمر وأفضلت عليهم ووسعت لهم في الرزق
وقال الفراء ولكنك متعتهم بالأموال والأولاد حتى نسوا ذكرك وكانوا قوما بورا أي هلكى فاسدين قد غلب عليهم الشقاء والخذلان والبوار الهلاك والفساد يقال بارت السلعة وبارت المرأة إذا كسدت ولم يحصل لها من يتزوجها
قال قتادة والله ما نسي قوم ذكر الله عز و جل إلا باروا وفسدوا
والمعنى ما أضللناهم ولكنهم ضلوا
قال الله تعالى فقد كذبوكم بما تقولون أي كذبكم المعبودون بقولكم فيهم إنهم آلهة وإنهم شركاء أو بما تقولون إنهم أمروكم بعبادتهم ودعوكم إليها
وقيل الخطاب للمؤمنين في الدنيا أي فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء المشركون بما تقولونه مما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم عن الله من التوحيد والإيمان
والأول أظهر وعليه يدل السياق
ومن قرأها بالياء آخر الحروف فالمعنى فقد كذبوكم بقولهم ثم قال فما تستطيعون صرفا ولا نصرا إخبارا عن حالهم يومئذ وأنهم لا يستطيعون صرف العذاب عن أنفسهم ولا نصرها من الله
قال ابن زيد ينادي مناد يوم القيامة حتى يجتمع الخلائق 37 : 25 ما لكم لا تناصرون يقول من عبد من دون الله لا ينصر اليوم من عبده والعابد لا ينصر إلهه 26 بل هم اليوم مستسلمون فهذا حال عباد الشيطان يوم لقاء الرحمن فواسوء حالهم حين امتيازهم عن المؤمنين إذا سمعوا النداء 36 : 59 وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (59/243)
فصل ومن تلاعبه وكيده تلاعبه بالثنوية وهم طائفة قالوا الصانع
اثنان ففاعل الخير نور وفاعل الشر ظلمة وهما قديمان لم يزالا ولن يزالا قويين حساسين مدركين سميعين بصيرين وهما مختلفان في النفس والصورة متضادان في الفعل والتدبير فالنور فاضل حسن نقي طيب الريح حسن المنظر ونفسه خيرة كريمة حكيمة نفاعة منها الخيرات والمسرات والصلاح وليس فيها شيء من الضرر ولا من الشر
والظلمة على ضد ذلك من الكدر والنقص ونتن الريح وقبح المنظر ونفسها نفس شريرة بخيلة سفيهة منتنة مضرة منها الشر والفساد
ثم اختلفوا فقالت فرقة منهم إن النور لم يزل فوق الظلمة
وقالت فرقة بل كل واحد منهما إلى جانب الآخر
وقالت فرقة النور لم يزل مرتفعا في ناحية الشمال والظلمة منحطة في الجنوب ولم يزل كل واحد منهما مباينا لصاحبه
وزعموا أن لكل واحد منهما أربعة أبدان وخامس هو الروح فأبدان النور الأربعة النار والنور والريح والماء وروحه النسيم ولم يزل يتحرك في هذه الأبدان
وأبدان الظلمة الأربعة الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان وسموا أبدان النور ملائكة وسموا أبدان الظلمة شياطين وعفاريت
وبعضهم يقول الظلمة تتولد شياطين والنور يتولد ملائكة والنور لا يقدر على الشر ولا يجيء منه والظلمة لا تقدر على الخير ولا يجي منها
ولهم مذاهب سخيفة جدا (59/244)
وفرض عليهم صوم سبع العمر وأن لا يؤذي أحدهم ذا روح ألبتة
ومن شريعتهم أن لا يدخروا إلا قوت يوم وتجنب الكذب والبخل والسحر وعبادة الأوثان والزنا والسرقة
واختلفوا هل الظلمة قديمة أو حادثة
فقالت فرقة منهم هي قديمة لم تزل مع النور
وقالت فرقة بل النور هو القديم ولكنه فكر فكرة رديئة حدثت منها الظلمة
فدار مذهبهم على أصلين من أبطل الباطل
أحدهما أن شر الموجودات وأخبثها وأردأها كفؤ لخير الموجودات وضد له ومناوء له يعارضه ويضاده ويناقضه دائما ولا يستطيع دفعه
وهذا أعظم من شرك عباد الأصنام الذين عبدوها لتقربهم إلى الله تعالى فإنهم جعلوها مملوكة له مربوبة مخلوقة كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه ومالك
والأصل الثاني أنهم نزهو النور أن يصدره منه شر ثم جعلوه منبع الشر كله وأصله ومولده وأثبتوا إلهين وربين وخالقين فجمعوا بين الكفر بالله تعالى وأسمائه وصفاته ورسله وأنبيائه وملائكته وشرائعه وأشركوا به أعظم الشرك
وحكى أرباب المقالات عنهم أن قوما منهم يقال لهم الديصانية زعموا أن طينة العالم كانت طينة خشنة وكانت تحاكي جسم النور الذي هو الباري عندهم زمانا فتأذى بها
فلما طال ذلك عليه قصد تنحيتها عنه فتوحل فيها واختلط بها فتركب من بينهما (59/245)
هذا العالم المشتمل على النور والظلمة فما كان من جهة الصلاح فمن النور وما كان من جهة الفساد فمن الظلمة قال : وهؤلاء يغتالون الناس ويخنقونهم ويزعمون أنهم يحسنون إليهم بذلك وأنهم يخلصون الروح النورانية من الجسد المظلم
وقال بعضهم : إن الباري سبحانه لما طالت وحدته استوحش ففكر فكرة سوء فتجسمت فكرته فاستحالت ظلمة فحدث منها إبليس فرام الباري إبعاده عن نفسه فلم يستطع فتحرز منه بخلق الجنود والخيرات فشرع إبليس في خلق الشر وأصل عقد مذهبهم الذي عليه خواصهم : إثبات القدماء الخمسة : الباري والزمان والخلاء والهيولي وإبليس فالباري خالق الخيرات وإبليس خالق الشرور وكان محمد بن زكريا الرازى على هذا المذهب لكنه لم يثبت إبليس فجعل مكانه النفس وقال : بقدم الخمسة مع ما رشحه به من مذاهب الصابئة والدهرية والفلاسفة والبراهمة فكان قد أخذ من كل دين شر ما فيه وصنف كتابا في إبطال النبوات ورسالة في إبطال المعاد فركب مذهبا مجموعا من زنادقة العالم
وقال : أنا أقول : إن الباري والنفس والهيولي والمكان والزمان : قدماء وأن العالم محدث
فقيل له : فما العلة في إحداثه
فقال : إن النفس اشتهت أن تحبل في هذا العالم وحركتها الشهوة لذلك ولم تعلم ما يلحقها من الوبال إذا حبلت فيه فاضطربت وحركت الهيولي حركات مشوشة مضطربة على غير نظام وعجزت عما أرادت فأعانها الباري على إحداث هذا العالم وحملها على النظام والاعتدال وعلم أنها إذا ذاقت وبال ما اكتسبته عادت إلى عالمها وسكن اضطرابها وزالت شهواتها واستراحت فأحدثت هذا العالم بمعاونة الباري لها قال : ولولا ذلك لما قدرت على إحداث هذا العالم ولولا هذه العلة لما حدث هذا العالم
ولولا أن الله سبحانه يحكي عن المشركين والكفار أقوالا أسخف من هذا وأبطل لاستحيى العاقل من حكاية مثل هذا ولكن الله سبحانه سن لنا حكاية أقوال أعدائه (59/246)
وفي ذلك من قوة الإيمان وظهور جلالته ومعرفة قدره وتمام نعمة الله تعالى على أهله به ومعرفة قدر خذلانه للعبد وإلى أي شيء يصيره الخذلان حتى يصير ضحكة لكل عاقل فأي ضلال وأي خذلان أعجب ممن أن يفني عمره في النظر والبحث وهذا غاية علمه بالله عز و جل وبالمبدأ والمعاد
فصل والمجوس تعظم الأنوار والنيران والماء والأرض ويقرون بنبوة زرا
دشت ولهم شرائع يصيرون إليها وهم فرق شتى منهم : المزدكية أصحاب مزدك الموبذ والموبذ عندهم : العالم القدوة وهؤلاء يرون الاشتراك في النساء والمكاسب كما يشترك في الهواء والطرق وغيرها ومنهم الخرمية : أصحاب بابك الخرمي وهم شر طوائفهم لا يقرون بصانع ولا (59/247)
معاد ولا نبوة ولا حلال ولا حرام وعلى مذهبهم : طوائف القرامطة والإسماعلية والنصيرية والبشكية والدرزية والحاكمية وسائر العبيدية الذين (59/248)
يسمون أنفسهم الفاطمية وهم من أكفر الكفار كما ستأتي ترجمتهم فكل هؤلاء يجمعهم هذا المذهب ويتفاوتون في التفصيل
فالمجوس شيوخ هؤلاء كلهم وأئمتهم وقدوتهم وإن كان المجوس قد يتقيدون بأصل دينهم وشرائعهم وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم ولا بشريعة من الشرائع
ذكر تلاعبه بالصابئة هذه أمة كبيرة من الأمم الكبار
وقد اختلف الناس فيهم اختلافا كثيرا بحسب ما وصل إليهم من معرفة دينهم وهم منقسمون إلى مؤمن وكافر قال الله تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
فذكرهم في الأمم الأربعة الذين تنقسم كل أمة منهم إلى ناج وهالك (59/249)
وذكرهم أيضا في الأمم الستة الذين انقسمت جملتهم إلى ناج وهالك كما في قوله : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة
فذكر الأمتين اللتين لا كتاب لهم ولا ينقسمون إلى شقي وسعيد وهما : المجوس والمشركون في آية الفصل ولم يذكرهما في آية الوعد بالجنة وذكر الصابئين فيهما فعلم أن فيهم الشقي والسعيد
وهؤلاء كانوا قوم إبراهيم الخليل وهم أهل دعوته وكانوا بحران فهي دار الصابئة وكانوا قسمين صائبة حنفاء وصابئة مشركين والمشركون منهم يعظمون الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر ويصورونها في هياكلهم
ولتلك الكواكب عندهم هياكل مخصوصة وهي المتعبدات الكبار كالكنائس للنصارى والبيع لليهود فلهم هيكل كبير للشمس وهيكل للقمر وهيكل للزهرة وهيكل للمشتري وهيكل للمريخ وهيكل لعطارد وهيكل لزحل وهيكل للعلة الأولى
ولهذه الكواكب عندهم عبادات ودعوات مخصوصة ويصورونها في تلك الهياكل ويتخذون لها أصناما تخصها ويقربون لها القرابين ولها صلوات خمس في اليوم والليلة نحو صلوات المسلمين
وطوائف منهم يصومون شهر رمضان ويستقبلون في صلواتهم الكعبة ويعظمون مكة ويرون الحج إليها ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ويحرمون من القرابات في النكاح ما يحرمه المسلمون (59/250)
وعلى هذا المذهب كان جماعة من أعيان الدولة ببغداد منهم هلال بن المحسن الصابىء صاحب الديوان الإنشائي وصاحب الرسائل المشهورة وكان يصوم مع المسلمين ويعيد معهم ويزكي ويحرم المحرمات وكان الناس يعجبون من موافقته للمسلمين وليس على دينهم وأصل دين هؤلاء فيما زعموا أنهم يأخذون بمحاسن ديانات العالم ومذاهبهم ويخرجون من قبيح ما هم عليه قولا وعملا ولهذا سموا صابئة أي خارجين فقد خرجوا عن تقيدهم بجملة كل دين وتفصيله إلا ما رأوه فيه من الحق وكانت قريش تسمي النبيAالصابىء وأصحابه الصبأة يقال : صبأ الرجل بالهمز إذا خرج من شيء إلى شيء وصبا يصبو إذا مال ومنه قوله : وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن أي أمل والمهموز والمعتل يشتركان فالمهموز : ميل عن الشيء والمعتل : ميل إليه واسم الفاعل من المهموز : صابىء بوزن قارىء ومن المعتل : صاب بوزن قاض وجمع الأول : صابئون كقارئون وجمع الثاني : صابون كقاضون وقد قرىء بهما
والمقصود : أن هذه الأمة قد شاركت جميع الأمم وفارقتهم فالحنفاء منهم شاركوا أهل الاسلام في الحنيفية والمشركون منهم شاركوا عباد الأصنام ورأوا أنهم على صواب وأكثر هذه الأمة فلاسفة والفلاسفة يأخذون من كل دين بزعمهم محاسن ما دلت عليه العقول وعقلاؤهم يوجبون اتباع الأنبياء وشرائعهم وبعضهم لا يوجب ذلك ولا يحرمه وسفهاؤهم وسفلتهم يمنعون ذلك كما سيأتي ذكر تلاعب الشيطان بهم بعد هذا (59/251)
ولهذا لم يكن هؤلاء الفلاسفة ولا الصابئة من الأمم المستقلة التي لها كتاب ونبي وإن كانوا من أهل دعوة الرسل فما من أمة إلا وقد أقام الله سبحانه عليها حجته وقطع عنها حجتها لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وتكون حجته عليهم والمقصود : أن الصابئة فرق فصابئة حنفاء وصابئة مشركون وصابئة فلاسفة وصابئة يأخذون بمحاسن ما عليه أهل الملل والنحل من غير تقيد بملة ولا نحلة ثم منهم من يقر بالنبوات جملة ويتوقف في التفصيل ومنهم من يقر بها جملة وتفصيلا ومنهم من ينكرها جملة وتفصيلا
وهم يقرون أن للعالم صانعا فاطرا حكيما مقدسا عن العيوب والنقائص ثم قال المشركون منهم : لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط فالواجب علينا أن نتقرب إليه بتوسطات الروحانيات القريبة منه وهم الروحانيون المقربون المقدسون عن المواد الجسمانية وعن القوى الجسدانية بل قد جبلوا على الطهارة فنحن نتقرب إليهم ونتقرب بهم إليه فهم أربابنا وا لهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الا لهة فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن الشهوات الطبيعية ونهذب أخلاقنا من علائق القوى الغضبية حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات وتتصل أرواحنا بهم فحينئذ نسأل حاجتنا منهم ونعرض أحوالنا عليهم ونصبوا في جميع أمورنا إليهم فيشفعون لنا إلى إلهنا وإلهكهم
وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا باستمداد من جهة الروحانيات وذلك بالتضرع والابتهال بالدعوات : من الصلوات والزكوات وذبح القرابين والبخورات والعزائم فحينئذ يحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة الرسل بل نأخذ من المعدن الذي أخذت منه الرسل فيكون حكمنا وحكمهم واحدا ونحن وإياهم بمنزلة واحدة
قالوا : والأنبياء أمثالنا في النوع وشركاؤنا في المادة وأشكالنا في الصورة يأكلون (59/252)
مما نأكل ويشربون مما نشرب وما هم إلا بشر مثلنا يريدون أن يتفضلوا علينا
وزادت الاتحادية أتباع ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني وأضرابهم على هؤلاء بما قاله شيخ الطائفة محمد بن عربي : أن الولي أعلى درجة من الرسول لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي إلى الرسول فهو أعلى منه بدرجتين
فجعل هؤلاء الملاحدة أنفسهم وشيوخهم أعلى في التلقي من الرسل بدرجتين وإخوانهم من المشركين جعلوا أنفسهم في ذلك التلقي بمنزلة الأنبياء ولم يدعوا أنهم فوقهم
والمقصود : أن هؤلاء كفروا بالأصلين اللذين جاءت بهما جميع الرسل والأنبياء من أولهم إلى ا خرهم
أحدهما : عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما يعبد من دونه من إله والثاني : الإيمان برسله وما جاؤا به من عند الله تصديقا وإقرارا وانقيادا وامتثالا وليس هذا مختصا بمشركي الصابئة كما غلط فيه كثير من أرباب المقالات بل هذا مذهب المشركين من سائر الأمم لكن شرك الصابئة كان من جهة الكواكب والعلويات ولذلك ناظرهم إمام الحنفاء صلوات الله وسلامه عليه في بطلان إلهيتها بما حكاه الله سبحانه في سورة الأنعام أحسن مناظرة وأبينها ظهرت فيها حجته ودحضت حجتهم فقال بعد أن بين بطلان إلهية الكواكب والقمر والشمس بأفولها وأن الإله لا يليق به أن يغيب ويأفل بل لا يكون إلا شاهدا غير غائب كما لا يكون إلا غالبا قاهرا غير مغلوب ولا مقهور نافعا لعباده يملك لعابده الضر والنفع فيسمع كلامه ويرى مكانه ويهديه ويرشده ويدفع عنه كل ما يضره ويؤذيه وذلك ليس إلا لله وحده فكل معبود سواه باطل
فلما رأى إمام الخنفا أن الشمس والقمر والكواكب ليست بهذه المثابة صعد منها إلى فاطرها وخالقها ومبدعها فقال : إنعى وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا
وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه خالق أمكنتها ومحالها التي هي مفتقرة إليها ولا قوام لها إلا بها فهي محتاجة إلى محل تقوم به وفاطر يخلقها ويدبرها ويربها والمحتاج المخلوق المربوب المدبر لا يكون إلها فحاجه قومه في الله ومن حاج في عبادة الله فحجته داحضة فقال (59/253)
إبراهيم عليه السلام : أتحاجونىع في الله وقد هدان وهذا من أحسن الكلام أي أتريدون أن تصرفوني عن الإقرار بربي وبتوحيده وعن عبادته وحده وتشككوني فيه وقد أرشدني وبين لي الحق حتى استبان لي كالعيان وبين لي بطلان الشرك وسوء عاقبته وأن ا لهتكم لا تصلح للعبادة وأن عبادتها توجب لعابديها غاية الضرر في الدنيا والا خرة فكيف تريدون مني أن أنصرف عن عبادته وتوحيده إلى الشرك به وقد هداني إلى الحق وسبيل الرشاد فالمحاجة والمجادلة إنما فائدتها طلب الرجوع والانتقال من الباطل إلى الحق ومن الجهل إلى العلم ومن العمى إلى الإبصار ومجادلتكم إياي في الاله الحق الذي كل معبود سواه باطل تتضمن خلاف ذلك
فخوفوه با لهتهم أن تصيبه بسوء كما يخوف المشرك الموحد بإلهه الذي يألهه مع الله أن يناله بسوء فقال الخليل : ولا أخاف ما تشركون به فإن ا لهتكم أقل وأحقر من أن تضر من كفر بها وجحد عبادتها ثم رد الأمر إلى مشيئة الله وحده وأنه هو الذي يخاف ويرجى فقال : إلا أن يشاء ربي شيئا وهذا استثناء منقطع والمعنى : لا أخاف ا لهتكم فإنها لا مشيئة لها ولا قدرة لكن إن شاء ربي شيئا نالني وأصابني لا ا لهتكم التي لا تشاء ولا تعلم شيئا وربي له المشيئة النافذة وقد وسع كل شيء علما فمن أولى بأن يخاف ويعبد : هو سبحانه أم هي
ثم قال : أفلا تتذكرون فتعلمون ما أنتم عليه من إشراك من لا مشيئة له ولا يعلم شيئا ممن له المشيئة التامة والعلم التام ثم قال : وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزعل به عليكم سلطانا وهذا من أحسن قلب الحجة وجعل حجة المبطل بعينها دالة على فساد قوله وبطلان مذهبه فإنهم خوفوه با لهتهم التي لم ينزل الله عليهم سلطانا بعبادتها وقد تبين بطلان إلهيتها ومضرة عبادتها ومع هذا فلا تخافون شرككم بالله وعبادتكم معه ا لهة أخرى فأي الفريقين أحق بالأمن وأولى بأن لا يلحقه الخوف فريق الموحدين أم فريق المشركين (59/254)
فحكم الله سبحانه بين الفريقين بالحكم العدل الذي لا حكم أصح منه فقال : الذين ا منوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي بشرك أولئك لهم الأمن وهم مهتدون
ولما نزلت هذه الا ية شق أمرها على الصحابة وقالوا : يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه فقال إنما هو الشرك : ألم تسمعوا قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم
فحكم سبحانه للموحدين بالهدى والأمن وللمشركين بضد ذلك وهو الضلال والخوف ثم قال وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم
قال أبو محمد بن حزم وكان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا الحوادث وبدلوا شرائعه فبعث الله إليهم إبراهيم خليله بدين الإسلام الذي نحن عليه اليوم وتصحيح ما أفسدوه بالحنيفية السمحة التي أتانا بها محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم من عند الله تعالى وكانوا في ذلك الزمان وبعده يسمون الحنفاء
قلت هم قسمان صابئة مشركون وصابئة حنفاء وبينهم مناظرات وقد حكى الشهرستاني بعض مناظراتهم في كتابه
فصل في ذكر تلاعبه بالدهرية وهؤلاء قوم عطلوا المصنوعات عن
صانعها وقالوا ما حكاه الله عنهم 45 : 24 وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر
وهؤلاء فرقتان فرقة قالت إن الخالق سبحانه لما خلق الأفلاك متحركة أعظم حركة دارت عليه فأحرقته ولم يقدر على ضبطها وإمساك حركاتها (59/255)
وفرقة قالت إن الأشياء ليس لها أول ألبتة وإنما تخرج من القوة إلى الفعل فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل تكونت الأشياء مركباتها وبسائطها من ذاتها لا من شيء آخر
وقالوا إن العالم دائم لم يزل ولا يزال لا يتغير ولا يضمحل ولا يجوز أن يكون المبدع يفعل فعلا يبطل ويضمحل إلا وهو يبطل ويضمحل مع فعله وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التي هي فيه
وهؤلاء هم المعطلة حقا وهم فحول المعطلة وقد سرى هذا التعطيل إلى سائر فرق المعطلة على اختلاف آرائهم وتباينهم في التعطيل كما سرى داء الشرك تأصيلا وتفصيلا في سائر فرق المشركين على اختلاف مذاهبهم فيه وكما سرى جحد النبوات تأصيلا وتفصيلا في سائر من جحد النبوة أو صفة من صفاتها أو أقر بها جملة وجحد مقصودها وزبدتها أو بعضه
فهذه الفرق الثلاثة سرى داؤها وبلاؤها في الناس ولم ينج منه إلا أتباع الرسل العارفون بحقيقة ما جاء به المتمسكون به دون ما سواه ظاهرا وباطنا
فداء التعطيل وداء الإشراك وداء مخالفة الرسول وجحد ما جاء به أو شيء منه هو أصل بلاء العالم ومنبع كل شر وأساس كل باطل فليست فرقة من فرق أهل الإلحاد والباطل والبدع إلا وقولها مشتق من هذه الأصول الثلاثة أو من بعضها
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا أظنك ناجيا
فصل فسرت هذه البلايا الثلاثة في كثير من طوائف الفلاسفة لا في
جميعهم فإن الفلسفة من حيث هي لا تعطي ذلك فإن معناها محبة الحكمة والفيلسوف أصله فيلاسوفا أي محبة الحكمة ففيلا هي المحب وسوفا هي الحكمة والحكمة نوعان قولية وفعلية فالقولية قول الحق والفعلية فعل الصواب وكل طائفة من الطوائف لهم حكمة يتقيدون بها
وأصح الطوائف حكمة من كانت حكمتهم أقرب إلى حكمة الرسل التي جاءوا بها عن الله (59/256)
تعالى قال تعالى عن نبيه داود عليه السلام 38 : 20 وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب وقال عن المسيح عليه السلام 3 : 48 ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وقال عن يحيى عليه السلام 19 : 12 وآتيناه الحكم صبيا والحكم هو الحكمة وقال لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم 4 : 113 وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وقال 2 : 219 يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وقال لأهل بيت رسوله 33 : 33 واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة
فالحكمة التي جاءت بها الرسل هي الحكمة الحق المتضمنة للعلم النافع والعمل الصالح للهدى ودين الحق لإصابة الحق اعتقادا وقولا وعملا وهذه الحكمة فرقها الله سبحانه بين أنبيائه ورسله وجمعها لمحمد صلى الله عليه و سلم كما جمع له من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله وجمع في كتابه من العلوم والأعمال ما فرقه في الكتب قبله فلو جمعت كل حكمة صحيحة في العالم من كل طائفة لكانت في الحكمة التي أوتيها صلوات الله وسلامه عليه جزءا يسيرا جدا لا يدرك البشر نسبته
والمقصود أن الفلاسفة اسم جنس لمن يجب الحكمة ويؤثرها
وقد صار هذا الإسم في عرف كثير من الناس مختصا بمن خرج عن ديانات الأنبياء ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه
وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لاتباع إرسطو وهم المشاءون خاصة وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها وهي التي يعرفها بل لا يعرف سواها المتأخرون من المتكلمين
وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة ومقالتهم واحدة من مقالات القوم حتى قيل إنه ليس فيهم من يقول بقدم الأفلاك غير إرسطو وشيعته فهو أول من عرف أنه قال بقدم هذا العالم والأساطين قبله كانوا يقولون بحدوثه وإثبات الصانع ومباينته للعالم وأنه فوق (59/257)
العالم وفوق السموات بذاته كما حكاه عنهم أعلم الناس في زمانه بمقالاتهم أبو الوليد بن رشد في كتابه مناهج الأدلة
فقال فيه القول في الجهة
وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله إلى أن قال والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السموات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه و سلم حتى قرب من سدرة المنتهى وجميع الحكماء اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك ثم ذكر تقرير ذلك بالمعقول وبين بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم إلى أن قال : فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه وأن إبطال هذه القاعدةإبطال للشرائع
فقد حكى لك هذا المطلع على مقالات القوم الذي هو أعرف بالفلسفة من ابن سينا وأضرابه : إجماع الحكماء على أن الله سبحانه في السماء فوق العالم
والمتطفلون في حكايات مقالات الناس لا يحكون ذلك أما جهلا وإما عمدا وأكثر من رأيناه يحكي مذاهبهم ومقالات الناس متطفل
وكذلك الأساطين منهم متفقون على إثبات الصفات والأفعال وحدوث العالم وقيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه كما ذكره فيلسوف الإسلام في وقته أبو البركات البغدادي وقرره غاية التقرير وقال : لا يستقيم كون الرب سبحانه رب العالمين إلا بذلك وأن نفي هذه المسألة ينفي ربوبيته قال : والإجلال من هذا الإجلال والتنزيه من هذا التنزيه أولى (59/258)
فصل وكذلك كان أساطينهم ومتقدموهم العارفون فيهم معظمين للرسل
والشرائع موجبين لاتباعهم خاضعين لأقوالهم معترفين بأن ما جاءوا به طور آخر وراء طور العقل وأن عقول الرسل وحكمتهم فوق عقول العالمين وحكمتهم وكانوا لا يتكلمون في الإلهيات ويسلمون باب الكلام فيها إلى الرسل ويقولون : علومنا إنما هي الرياضيات والطبيعيات وتوابعها وكانوا يقرون بحدوث العالم وقد حكى أرباب المقالات أن أول من عرف عنه القول بقدم هذا العالم أرسطو وكان مشركا يعبد الأصنام وله في الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره وقد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين حتى الجهمية والمعتزلة والقدرية والرافضة وفلاسفة الإسلام أنكروه عليه وجاء فيه بما يسخر منه العقلاء
وأنكر أن يكون الله سبحانه يعلم شيئا من الموجودات وقرر ذلك بأنه لو علم شيئا لكمل بمعلوماته ولم يكن كاملا في نفسه وبأنه كان يلحقه التعب والكلال من تصور المعلومات
فهذا غاية عقل هذا المعلم والأستاذ
وقد حكى ذلك أبو البركات وبالغ في إبطال هذه الحجج وردها
فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه : الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ودرج على أثره أتباعه من الملاحدة ممن يتستر باتباع الرسل وهو منحل من كل ما جاءوا به وأتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء ويرون عرض ما جاءت به الأنبياء على كلامه فما وافقه منها قبلوه وما خالفه لم يعبئوا به شيئا
ويسمونه المعلم الأول لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية كما أن الخليل بن أحمد أول من وضع عروض الشعر (59/259)
وزعم أرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعاني كما أن العروض ميزان الشعر وقد بين نظار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه وتعويجه للعقول وتخبيطه للأذهان وصنفوا في رده وتهافته كثيرا وآخر من صنف في ذلك شيخ الاسلام ابن تيمية ألف في رده وإبطاله كتابين كبيرا وصغيرا بين فيه تناقضه وتهافته فساد كثير من أوضاعه ورأيت فيه تصنيفا لأبي سعيد السيرافي
والمقصود : أن الملاحدة درجت على أثر هذا المعلم الأول حتى انتهت نوبتهم إلى معلمهم الثاني : أبي نصر الفارابي فوضع لهم التعاليم الصوتية كما أن المعلم الأول وضع لهم التعاليم الحرفية ثم وسع الفارابي الكلام في صناعة المنطق وبسطها وشرح فلسفة أرسطو وهذبها وبالغ في ذلك وكان على طريقة سلفه : من الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك فليس بفيلسوف في الحقيقة وإذا رأوه مؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه متقيدا بشريعة الإسلام نسبوه إلى الجهل والغباوة فإن كان ممن لا يشكون في فضيلته ومعرفته نسبوه إلى التلبيس والتنميس بناموس الدين استمالة لقلوب العوام
فالزندقة والإلحاد عند هؤلاء جزء من مسمى الفضيلة أو شرط
ولعل الجاهل يقول : إنا تحاملنا عليهم في نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله إليهم وليس هذا من جهله بمقالات القوم وجهله بحقائق الاسلام ببعيد
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى عما يقولون عندهم كما قرره أفضل متأخريهم ولسانهم وقدوتهم الذي يقدمونه على الرسل : أبو علي بن سينا : هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق وليس له عندهم صفة ثبوتية تقوم به ولا يفعل شيئا باختياره البتة ولا يعلم شيئا من الموجودات أصلا لا يعلم عدد الأفلاك ولا شيئا من المغيبات ولا له كلام يقوم به ولا صفة
ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر في الذهن لا حقيقة له وإنما غايته ان يفرضه الذهن (59/260)
ويقدره كما يفرض الأشياء المقدرة وليس هذا هو الرب الذي دعت إليه الرسل وعرفته الأمم بل بين هذا الرب الذي دعت إليه الملاحدة وجردته عن الماهية وعن كل صفة ثبوتية وكل فعل اختياري وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا مباين له ولا فوقه ولا تحته ولا أمامه ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن شماله وبين رب العالمين وإله المرسلين من الفرق ما بين الوجود والعدم والنفي والإثبات فأي موجود فرض كان أكمل من هذا الإله الذي دعت إليه الملاحدة ونحتته أفكارهم بل منحوت الأيدي من الأصنام له وجود وهذا الرب ليس له وجود ويستحيل وجوده إلا في الذهن هذا وقول هؤلاء الملاحدة أصلح من قول معلمهم الأول أرسطو فإن هؤلاء أثبتوا وجودا واجبا ووجودا ممكنا هو معلول له وصادر عنه صدور المعلول عن العلة وأما أرسطو فلم يثبته إلا من جهة كونه مبدأ عقليا للكثرة وعلة غائية لحركة الفلك فقط وصرح بأنه لا يعقل شيئا ولا يفعل باختياره وأما هذا الذي يوجد في كتب المتأخرين من حكاية مذهبه فإنما هو من وضع ابن سينا فإنه قرب مذهب سلفه الملاحدة من دين الإسلام بجهده وغاية ما أمكنه أن قربه من أقوال الجهمية الغالين في التجهم فهم في غلوهم في تعطيلهم ونفيهم أسد مذهبا وأصح قولا من هؤلاء
فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز و جل
وأما الإيمان بالملائكة فهم لا يعرفون الملائكة ولا يؤمنون بهم وإنما الملائكة عندهم ما يتصوره النبي بزعمهم في نفسه من أشكال نورانية هي العقول عندهم وهي مجردات ليست داخل العالم ولا خارجه ولا فوق السموات ولا تحتها ولا هي أشخاص تتحرك ولا تصعد ولا تنزل ولا تدبر شيئا ولا تتكلم ولا تكتب أعمال العبد ولا لها إحساس ولا حركة البتة ولا تنتقل من مكان إلى مكان ولا تصف عند ربها ولا تصلي ولا لها تصرف في أمر العالم البتة فلا تقبض نفس العبد ولا تكتب رزقه وأجله وعمله ولا عن اليمين ولا عن الشمال قعيد كل هذا لا حقيقة له عندهم البتة وربما تقرب بعضهم إلى الإسلام فقال : الملائكة هي القوى الخيرة الفاضلة التي في العبد والشياطين هي القوى الشريرة الرديئة هذا إذا تقربوا إلى الإسلام وإلى الرسل (59/261)
وأما الكتب فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة الملك فإنه ما قال شيئا ولا يقول ولا يجوز عليه الكلام ومن تقرب منهم إلى المسلمين يقول : الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية فتصورت تلك المعاني وتشكلت في نفسه بحيث توهمها أصواتا تخاطبه وربما قوي الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه وربما قوي ذلك حتى يخيلها لبعض الحاضرين فيرونها ويسمعون خطابها ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج وأما الرسل والأنبياء فللنبوة عندهم ثلاث خصائص من استكملها فهو نبي : أحدها : قوة الحدس يحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة الثانية : قوة التخيل والتخييل بحيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية تخاطبه ويسمع الخطاب منها ويخيلها إلى غيره
الثالثة : قوة التأثير بالتصرف في هيولى العالم وهذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق واتصالها بالمفارقات من العقول والنفوس المجردة وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين وابن هود وأضرابهما والنبوة عند هؤلاء صنعة من الصنائع بل من أشرف الصنائع كالسياسة بل هي سياسة العامة وكثير منهم لا يرضى بها ويقول : الفلسفة نبوة الخاصة والنبوة : فلسفة العامة
وأما الإيمان باليوم الآخر فهم لا يقرون بانفطار السموات وانتثار الكواكب وقيامة الأبدان ولا يقرون بأن الله خلق السموات والآرض في ستة أيام وأوجد هذا العالم بعد عدمه
فلا مبدأ عندهم ولا معاد ولا صانع ولا نبوة ولا كتب نزلت من السماء تكلم الله بها ولا ملائكة تنزلت بالوحي من الله تعالى فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير وأهون من دين هؤلاء
وحسبك جهلا بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من يقول : إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب واستكمل بغيره وحسبك خذلانا وضلالا وعمى : السير خلف هؤلاء وإحسان الظن بهم وأنهم أولوا العقول (59/262)
وحسبك عجبا من جهلهم وضلالهم : ما قالوه في سلسلة الموجودات وصدور العالم عن العقول والنفوس إلى أن أنهوا صدور ذلك إلى واحد من كل جهة لا علم له بما صدر عنه ولا قدرة له عليه ولا إرادة وأنه لم يصدر عنه إلا واحد فذلك الصادر إن كان فيه كثرة بوجه ما فقد بطل ما أصلوه وإن لم يكن فيه كثرة البتة لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد مثله وتكثر الموجودات وتعددها يكذب هذا الرأي الذي هو ضحكة للعقلاء وسخرية لأولي الألباب مع أن هذا كله من تخليط ابن سينا وإرادته تقريب هذا المذهب من الشرائع وهيهات وإلا فالمعلم الأول لم يثبت صانعا للعالم البتة
فالرجل معطل مشرك جاحد للنبوات والمعاد لا مبدأ عنده ولا معاد ولا رسول ولا كتاب
والرازي وفروخه لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة غير طريقه
ومذاهبهم وآراؤهم كثيرة جدا قد حكاها أصحاب المقالات كالأشعري في مقالاته الكبيرة وأبي عيسى الوراق والحسن بن موسى النوبختين وأبو الوليد بن رشد يحكي مذهب أرسطو غير ما حكاه ابن سينا ويغلطه في كثير من المواضع وكذلك أبو البركات البغدادي يحكي نفس كلامه على غير ما يحكيه ابن سينا
فصل والفلاسفة لا تختص بأمة من الأمم بل هم موجودون في سائر الأمم
وإن كان المعروف عند الناس الذين اعتنوا بحكاية مقالاتهم : هم فلاسفة اليونان فهم طائفة من طوائف الفلاسفة وهؤلاء أمة من الأمم لهم مملكة وملوك وعلماؤهم فلاسفتهم ومن ملوكهم الإسكندر المقدوني وهو ابن فيلبس وليس هو بالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله (59/263)
تعالى نبأه في القرآن بل بينهما قرون كثيرة وبينهما في الدين أعظم تباين فذو القرنين كان رجلا صالحا موحدا لله تعالى يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكان يغزو عباد الأصنام وبلغ مشارق الأرض ومغاربها وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج وأما هذا المقدوني فكان مشركا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته وكان بينه وبين المسيح نحو ألف سنة وستمائة سنة والنصارى تؤرخ له وكان أرسطاطاليس وزيره وكان مشركا يعبد الأصنام وهو الذي غزا دارا بن دار ملك الفرس في عقر داره فثل عرشه ومزق ملكه وفرق جمعه ثم دخل إلى الصين والهند وبلاد الترك فقتل وسبى
وكان لليونانيين في دولته عز وسطوة بسبب وزيره أرسطو فإنه كان مشيره ووزيره ومدبر مملكته
وكان بعده لليونان عدة ملوك يعرفون بالبطالسة واحدهم بطليموس كما أن كسرى ملك الفرس وقيصر ملك الروم
ثم غلبهم الروم واستولوا على ممالكهم فصاروا رعية لهم وانقرض ملكهم فصارت المملكة للروم وصارت المملكة واحدة وهم على شركهم من عبادة الأصنام وهو دينهم الظاهر ودين آبائهم فنشأ فيهم سقراط أحد تلامذة فيثاغورس وكان من عبادهم ومتألهيهم وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها فثار عليه العامة واضطروا الملك إلى قتله فأودعه السجن ليكفهم عنه ثم لم يرض المشركون إلا بقتله فسقاه السم خوفا من شرهم بعد مناظرات طويلة جرت له معهم وكان مذهبه في الصفات قريبا من مذهب أهل الإثبات فقال : إنه إله كل شىء وخالقه (59/264)
ومقدره وهو عزيز أي منيع ممتنع أن يضام وحكيم أي محكم أفعاله على النظام
وقال : إن علمه وقدرته ووجوده وحكمته بلا نهاية لا يبلغ العقل أن يضعها
وقال : إن تناهي المخلوقات بحسب احتمال القوابل لا بحسب الحكمة والقدرة فلما كانت المادة لا تحتمل صورا بلا نهاية تناهت الصور لا من جهة بخل في الواهب بل لقصور في المادة
قال : وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها وإن تناهت ذاتا وصورة وحيزا ومكانا إلا أنها لا تتناهى زمانا في آخرها لا من نحو أولها فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص باستبقاء الأنواع وذلك بتجدد أمثالها ليحفظ الأشخاص ببقاء الأنواع ويستبقى الأنواع بتجدد الأشخاص فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية ولا الحكمة تقف على غاية
ومن مذهبه : أن أخص ما يوصف به الرب سبحانه هو كونه حيا قيوما لأن العلم والقدرة والجود والحكمة تندرج تحت كونه حيا قيوما فهما صفتان جامعتان للكل وكان يقول : هو حي ناطق من جوهره أي من ذاته وحياته ونطقنا وحياتنا لا من جوهرنا ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد ولا يتطرق ذلك إلى حياته ونطقه وكلامه في المعاد والصفات والمبدأ أقرب إلى كلام الأنبياء من كلام غيره وبالجملة فهو أقرب القوم إلى تصديق الرسل ولهذا قتله قومه وكان يقول : إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهوات العقول وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات وقال : لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم وقال : ينبغي أن يغتم بالحياة ويفرح بالموت لأن الإنسان يحيا ليموت ثم يموت ليحيا وقال : قلوب المغرمين بالمعرفة بالحقائق منابر الملائكة وقلوب المؤثرين للشهوات مقاعد للشياطين (59/265)
وقال : للحياة حدان أحدهما : الأمل والآخر : الأجل فبالأول بقاؤها وبالآخر فناؤها وكذلك أفلاطون كان معروفا بالتوحيد وإنكار عبادة الأصنام وإثبات حدوث العالم وكان تلميذ سقراط ولما هلك سقراط قام مقامه وجلس على كرسيه
وكان يقول : إن للعالم صانعا محدثا مبدعا أزليا واجبا بذاته عالما بجميع المعلومات
قال : وليس في الوجود رسم ولا طلل إلا ومثاله عند الباري تعالى يشير إلى وجود صور المعلومات في علمه
فهو مثبت للصفات وحدوث العالم ومنكر لعبادة الأصنام ولكن لم يواجه قومه بالرد عليهم وعيب آلهتهم فسكتوا عنه وكانوا يعرفون له فضله وعمله وصرح أفلاطون بحدوث العالم كما كان عليه الأساطين وحكى ذلك عنه تلميذه أرسطو وخالفه فيه فزعم أنه قديم وتبعه على ذلك ملاحدة الفلاسفة من المنتسبين إلى الملل وغيرهم حتى انتهت النوبة إلى أبي علي بن سينا فرام بجهده تقريب هذا الرأي من قول أهل الملل وهيهات اتفاق النقيضين واجتماع الضدين
فرسل الله تعالى وكتبه وأتباع الرسل في طرف وهؤلاء القوم في طرف
وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه قال : أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد ولا رب خالق ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى
وكان هؤلاء زنادقة يتسترون بالرفض ويبطنون الإلحاد المحض وينتسبون إلى أهل بيت الرسولA وهو وأهل بيته برآء منهم نسبا ودينا وكانوا (59/266)
يقتلون أهل العلم والإيمان ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران لا يحرمون حراما ولا يحلون حلالا وفي زمنهم ولخواصهم وضعت رسائل إخوان الصفا ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد وزير الملاحدة النصير الطسى وزير هولاكو شفا نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه فعرضهم على السيف حتى شفا إخوانه من الملاحدة واشتفى هو فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين واستبقى الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين والسحرة ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم وجعلهم خاصته وأولياءه ونصر في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الرب جل جلاله : من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وأنه لا داخل العالم ولا خارجه وليس فوق العرش إله يعبد ألبتة واتخذ للملاحدة مدارس ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن فلم يقدر على ذلك فقال : هي قرآن الخواص وذاك قرآن العوام ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين فلم يتم له الأمر وتعلم السحر في آخر الأمر فكان ساحرا يعبد الأصنام
وصارع محمد الشهرستاني ابن سينا في كتاب سماه المصارعة أبطل فيه قوله بقدم العالم وإنكار المعاد ونفي علم الرب تعالى وقدرته وخلقه العالم فقام له نصير الإلحاد وقعد ونقضه بكتاب سماه مصارعة المصارعة ووقفنا على الكتابين نصر فيه : أن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام وأنه لا يعلم شيئا وأنه لا يفعل شيئا بقدرته واختياره ولا يبعث من في القبور
وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (59/267)
والفلسفة التي يقرؤها أتباع هؤلاء اليوم هي مأخوذة عنه وعن إمامه ابن سينا وبعضها عن أبي نصر الفارابي وشيء يسير منها من كلام أرسطو وهو مع قلته وغثاثته وركاكة ألفاظه كثير التطويل لا فائدة فيه وخيار ما عند هؤلاء فالذي عند مشركي العرب من كفار قريش وغيرهم أهون منه فإنهم يدأبون حتى يثبتوا واجب الوجود ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق لا صفة له ولا نعت ولا فعل يقوم به لم يخلق السموات والأرض بعد عدمها ولا له قدرة على فعل ولا يعلم شيئا وعباد الأصنام كانوا يثبتون ربا خالقا مبدعا عالما قادرا حيا ويشركون به في العبادة فنهاية أمر هؤلاء الوصول إلى شيء برز عليهم فيه عباد الأصنام
وهم فرق شتى لا يحصيهم إلا الله عز و جل
وأحصى المعتنون بمقالات الناس منهم اثنتي عشرة فرقة كل فرقة منها مختلفة اختلافا كثيرا عن الأخرى فمنهم أصحاب الرواق وأصحاب الظلة والمشاءون وهم شيعة أرسطو وفلسفتهم هي الدائرة اليوم بين الناس وهي التي يحكيها ابن سينا والفارابي وابن خطيب الري وغيرهم
ومنهم الفيثاغورية والأفلاطونية ولا تكاد تجد منهم اثنين متفقين على رأي واحد بل قد تلاعب بهم الشيطان كتلاعب الصبيان بالكرة ومقالاتهم أكثر من أن نذكرها على التفصيل
وبالجملة : فملاحدتهم هم أهل التعطيل المحض فإنهم عطلوا الشرائع وعطلوا المصنوع عن الصانع وعطلوا الصانع عن صفات كماله وعطلوا العالم عن الحق الذي خلق له وبه فعطلوه عن مبدئه ومعاده وعن فاعله وغايته ثم سرى هذا الداء منهم في الأمم وفي فرق المعطلة فكان منهم إمام المعطلين فرعون فإنه أخرج التعطيل إلى العمل وصرح به وأذن به بين قومه ودعا إليه وأنكر أن يكون لقومه إله غيره وأنكر أن يكون الله تعالى (59/268)
فوق سمواته على عرشه وأن يكون كلم عبده موسى تكليما وكذب موسى في ذلك وطلب من وزيره هامان أن يبني له صرحا ليطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام وكذبه في ذلك فاقتدى به كل جهمي فكذب أن يكون الله مكلعما مكلما أو أن يكون فوق سمواته على عرشه بائنا من خلقه على العرش استوى ودرج قومه وأصحابه على ذلك حتى أهلكهم الله تعالى بالغرق وجعلهم عبرة لعباده المؤمنين ونكالا لأعدائه المعطلين ثم استمر الأمر على عهد نبوة موسى كليم الرحمن على التوحيد وإثبات الصفات وتكليم الله لعبده موسى تكليما إلى أن توفى موسى عليه السلام ودخل الداخل على بني إسرائيل ورفع التعطيل رأسه بينهم وأقبلوا على علوم المعطلة أعداء موسى عليه السلام وقدموها على نصوص التوراة فسلط الله تعالى عليهم من أزال ملكهم وشردهم من أوطانهم وسبى ذراريهم كما هي عادته سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحى وتعوضوا عنه بكلام الملاحدة والمعطلة من الفلاسفة وغيرهم كما سلط النصارى على بلاد المغرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق واشتغلوا بها فاستولت النصارى على أكثر بلادهم وأصاروهم رعية لهم وكذلك لما ظهر ذلك ببلاد المشرق سلط عليهم عساكر التتار فأبادوا أكثر البلاد الشرقية واستولوا عليها وكذلك في أواخر المائة الثالثة وأول الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سلط عليهم القرامطة الباطنية فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات واستولوا على الحاج واستعرضوهم قتلا وأسرا واشتدت شوكتهم واتهم بموافقتهم في الباطن كثير من الأعيان من الوزراء والكتاب والأدباء وغيرهم واستولى أهل دعوتهم على بلاد المغرب واستقرت دار مملكتهم بمصر وبنيت في أيامهم القاهرة واستولوا (59/269)
على الشام والحجاز واليمن والمغرب وخطب لهم على منبر بغداد
والمقصود أن هذا الداء لما دخل في بني إسرائيل كان سبب دمارهم وزوال مملكتهم ثم بعث الله سبحانه عبده ورسوله وكلمته المسيح ابن مريم فجدد لهم الدين وبين لهم معالمه ودعاهم إلى عبادة الله وحده والتبرى من تلك الأحداث والآراء الباطلة فعادوه وكذبوه ورموه وأمه بالعظائم وراموا قتله فطهره الله تعالى منهم ورفعه إليه فلم يصلوا إليه بسوء وأقام الله تعالى للمسيح أنصارا دعوا إلى دينه وشريعته حتى ظهر دينه على من خالفه ودخل فيه الملوك وانتشرت دعوته واستقام الأمر على السداد بعده نحو ثلثمائة سنة
ثم أخذ دين المسيح في التبديل والتغيير حتى تناسخ واضمحل ولم يبق بأيدي النصارى منه شيء بل ركبوا دينا بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يدخلوهم في النصرانية فنقلوهم من عبادة الأصنام المجسدة إلى عبادة الصور التي لا ظل لها ونقلوهم من السجود للشمس إلى السجود إلى جهة المشرق ونقلوهم من القول باتحاد العاقل والمعقول والعقل إلى القول باتحاد الأب والإبن وروح القدس
هذا ومعهم بقايا من دين المسيح كالختان والاغتسال من الجنابة وتعظيم السبت وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة إلا ما أحل لهم بنصها ثم تناسخت الشريعة إلى أن استحلوا الخنزير وأحلوا السبت وعوضوا منه يوم الأحد وتركوا الختان والاغتسال من الجنابة وكان المسيح يصلي إلى بيت المقدس فصلوا هم إلى المشرق ولم يعظم المسيح عليه السلام صليبا قط فعظموا هم الصليب وعبدوه ولم يصم المسيح عليه السلام صومهم هذا أبدا ولا شرعه ولا أمر به البتة بل هم وضعوه على هذا العدد ونقلوه إلى زمن الربيع فجعلوا ما زادوا فيه من العدد عوضا عن نقله من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومية وتعبدوا بالنجاسات وكان المسيح عليه السلام في غاية الطهارة والطيب والنظافة وأبعد الخلق عن النجاسة فقصدوا بذلك تغيير دين اليهود ومراغمتهم فغيروا دين المسيح وتقربوا إلى الفلاسفة وعباد الأصنام بأن وافقوهم في بعض الأمر ليرضوهم به وليستنصروا بذلك على اليهود
ولما أخذ دين المسيح عليه السلام في التغيير والفساد اجتمعت النصارى عدة مجامع تزيد (59/270)
على ثمانين مجمعا ثم يتفرقون على الاختلاف والتلاعن يلعن بعضهم بعضا حتى قال فيهم بعض العقلاء :
لو اجتمع عشرة من النصارى يتكلمون في حقيقة ما هم عليه لتفرقوا عن أحد عشر مذهبا
حتى جمعهم قسطنطين الملك آخر ذلك من الجزائر والبلاد وسائر الأقطار فجمع كل بترك وأسقف وعالم فكانوا ثلثمائة وثمانية عشر
فقال : أنتم اليوم علماء النصرانية وأكابر النصارى فاتفقوا على أمر تجتمع عليه كلمة النصرانية ومن خالفها لعنتموه وحرمتموه فقاموا وقعدوا وفكروا وقدروا واتفقوا على وضع الأمانة التي بأيديهم اليوم وكان ذلك بمدينة نيقية سنة خمس عشرة من ملك قسطنطين
وكان أحد أسباب ذلك أن بطريق الاسكندرية منع أريوس من دخول الكنيسة ولعنه فخرج أريوس إلى قسطنطين الملك مستعديا عليه ومعه أسقفان فشكوه إليه وطلبوا مناظرته بين يدي الملك فاستحضره الملك وقال لأريوس : اشرح مقالتك فقال أريوس : أقول : إن الأب كان إذ لم يكن الابن ثم أحدث الابن فكان كلمة له إلا أنه محدث مخلوق ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة فكان هو خالق السموات والأرض وما بينهما كما قال في إنجيله إذ يقول : وهب لي سلطانا على السماء والأرض فكان هو الخالق لهما بما أعطى من ذلك ثم إن تلك الكلمة بعد تجسدت من مريم العذراء ومن روح القدس فصار ذلك مسيحا واحدا فالمسيح الآن معنيان : كلمة وجسد إلا أنهما جميعا مخلوقان (59/271)
فقال بطريق الإسكندرية : أخبرنا : أيما أوجب علينا عندك عبادة من خلقنا أو عبادة من لم يخلقنا فقال أريوس : بل عبادة من خلقنا فقال : [ فإن كان الابن خالقنا كما وصفت وكان الابن مخلوقا ] فعبادة الابن الذي خلقنا وهو مخلوق أوجب من عبادة الأب الذي ليس بمخلوق بل تصير عبادة الأب الخالق كفرا وعبادة الابن المخلوق إيمانا [ وذلك من أقبح الأقوال ]
فاستحسن الملك والحاضرون مقالته وأمرهم الملك أن يلعنوا أريوس وكل من يقول مقالته
فلما انتصر البطريق قال للملك : استحضر البطارقة والأساقفة حتى يكون لنا مجمع ونصنع قصة نشرح فيها الدين ونوضحه للناس فحشرهم قسطنطين من سائر الآفاق فاجتمع عنده بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا وكانوا مختلفي الآراء متباينين في أديانهم فلما أجتمعوا كثر اللغط بينهم وارتفعت الأصوات وعظم الاختلاف فتعجب الملك من شدة اختلافهم فأجرى عليهم الأنزال وأمرهم أن يتناظروا حتى يعلم (59/272)
الدين الصحيح مع من منهم فطالت المناظرة بينهم فاتفق منهم ثلثمائة وثمانية عشر أسقفا على رأي واحد فناظروا بقية الأساقفة فظهروا عليهم فعقد الملك لهؤلاء الثلثمائة والثمانية عشر مجلسا خاصا وجلس في وسطه وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه فدفعها إليهم وقال لهم : قد سلطتكم على المملكة فاصنعوا ما بدا لكم مما فيه قوام دينكم وصلاح أمتكم فباركوا عليه وقلدوه سيفه وقالوا له : أظهر دين النصرانية وذب عنه ودفعوا إليه الأمانة التي اتفقوا على وضعها فلا يكون عندهم نصراني من لم يقر بها ولا يتم لهم قربان إلا بها وهي هذه : نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء صانع ما يرى وما لا يرى وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحمل به ثم ولد من مريم البتول وألم وشج وقتل وصلب ودفن وقام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجىء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه روح محبته وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قديسية جاثليقية وبقيامة أبداننا والحياة الدائمة إلى أبد الآبدين فهذا العقد الذي أجمع عليه الملكية والنسطورية واليعقوبية وهذه الأمانة التي ألفها أولئك البتاركة والأساقفة والعلماء وجعلوها شعار النصرانية
وكان رؤساء هذا المجمع بترك الاسكندرية وبترك أنطاكية وبترك بيت المقدس
2ف - افترقوا عليها وعلى لعن ما خالفها ومن خالفها والتبري منه وتكفيره (59/273)
ثم ذهب أريوس يدعو إلى مقالته وينفر النصارى عن أولئك الثلثمائة والثمانية عشر فجمع جمعا عظيما وصاروا إلى بيت المقدس وخالف بكثير من النصارى لأولئك المجمع فلما اجتمعوا قال أريوس : إن أولئك النفر تعدوا علي وظلموني ولم ينصفوني في الحجاج وحرموني ظلما وعدوانا ووافقه كثير من الذين معه وقالوا : صدق فوثبوا عليه فضربوه حتى كاد أن يقتل لولا ابن أخت الملك خلصه وافترقوا على هذه الحال ثم كان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول اجتمع الوزراء والقواد إلى الملك وقالوا : إن مقالة الناس قد فسدت وغلب عليهم مقالة أريوس فاكتب إلى جميع البتاركة والأساقفة : أن يجتمعوا ويوضحوا دين النصرانية فكتب الملك إلى سائر بلاده فاجتمع بقسطنطينية مائة وخمسون أسقفزا وكان مقدموهم بترك الاسكندرية وبترك أنطاكية وبترك بيت المقدس فنظروا في مقالة أريوس وكان من مقالته : أن روح القدس مخلوق مصنوع ليس بإله فقال بترك الاسكندرية ليس لروح القدس عندنا معنى غير روح الله تعالى وليس روح الله تعالى شيئا غير حياته فإذا قلنا : إن روح القدس مخلوق فقد قلنا : إن روح الله مخلوق وإذا قلنا : إن روح الله مخلوقة فقد قلنا : إن حياته مخلوقة فقد جعلناه غير حي ومن جعله غير حي فقد كفر ومن كفر وجب عليه اللعن فلعنوا بأجمعهم أريوس وأشياعه وأتباعه والبتاركة الذين قالوا بمقالته وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق إله حق وأن طبيعة الأب والابن جوهر واحد وطبيعة (59/274)
واحدة وزادوا في الأمانة التي وضعها الثلثمائة والثمانية عشر أسقفا ونؤمن بروح القدس الرب المحيى المميت المنبثق من الأب الذي مع الابن والأب وهو مسجود وممجد
وكان في الأمانة الأولى وبروح القدس فقط
وبينوا أن الأب وروح القدس ثلاثة أقانيم وثلاث وجوه وثلاثة خواص وحدة في تثليث وتثليث في وحدة وزادوا ونقصوا في الشريعة
وأطلق بترك الاسكندرية للرهبان والأساقفة والبتاركة أكل اللحم وكانوا على مذهب ماني لا يرون أكل ذوات الأرواح
فانفض هذا المجمع وقد لعنوا فيه أكثر أساقفتهم وبتاركتهم ومضوا على تلك الأمانة
ثم كان لهم مجمع رابع بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع على نسطورس وكان مذهبه أن مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة ولكن ثمة اثنان الإله الذي هو موجود من الأب والآخر إنسان الذي هو موجود من مريم وأن هذا الإنسان الذي نقول إنه المسيح بالمحبة متوحد مع ابن الإله وابن الإله ليس ابنا على الحقيقة ولكن على سبيل الموهبة والكرامة واتفاق الأسمين فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد فجرت بينهم مراسلات واتفقوا على تخطئته واجتمع منهم مائتا أسقف في مدينة أقسيس وأرسلوا إلى نسطورس للمناظرة فامتنع ثلاث مرات فأوجبوا عليه الكفر فلعنوه ونفوه وحرموه وثبتوا أن مريم ولدت إلها وأن المسيح إله حق وإنسان معروف بطبيعتين متوحد في الأقنوم (59/275)
فلما لعنوا نسطورس غضب له يوحنا بترك أنطاكية فجمع أساقفته الذين قدموا معه وناظرهم فقطعم فتقاتلوا ووقع الحرب والشر بينهم وتفاقم أمرهم فلم يزل الملك [ تذوس ] حتى أصلح بينهم فكتب أولئك صحيفة أن مريم القدسية ولدت إلها وهو ربنا يسوع المسيح الذي هو مع أبيه في الطبيعة ومع الناس في الناسوت وأنفذوا لعن نسطورس فلما نفي نسطورس سار إلى أرض مصر وأقام بإخميم سبع سنين ودفن بها ودرست مقالته إلى أن أحياها ابن صرما مطران نصيبين وبثها في بلاد المشرق فأكثر نصارى العراق والمشرق نسطورية
وانفض ذلك المجمع أيضا على لعن نسطورس ومن قال بقوله
وكل مجامعهم كانت تجتمع على الضلال وتفترق على اللعن فلا ينفض المجمع إلا وهم ما بين لاعن وملعون ثم كان لهم مجمع خامس وذلك أنه كان بالقسطنطينية طبيب راهب يقال له : أوطيوس يقول : إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا في الطبيعة وأن المسيح قبل التجسد طبيعتان وبعد التجسد طبيعة واحدة وهذه مقالة اليعقوبية فرحل إليه أسقف دولته فناظره فقطعه ودحض حجته ثم سار إلى قسطنطينية فأخبر بتركها بالمناظرة وبانقطاعه فأرسل بترك الاسكندرية إليه فاستحضره وجمع جمعا عظيما وسأله عن قوله فقال : إن قلنا : إن المسيح طبيعتان فقد قلنا بقول نسطورس ولكنا نقول : إن المسيح طبيعة واحدة وأقنوم واحد لأنه من طبيعتين كانتا قبل التجسد فلما تجسد زالت عنه الإثنينية وصار طبيعة واحدة وأقنوما واحدا (59/276)
فقال له بترك القسطنطينة : إن كان المسيح طبيعة واحدة فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المحدثة وإن كان القديم هو المحدث فالذي لم يزل هو الذي لم يكن ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث لكان القائم هو القاعد والحار هو البارد فأبى أن يرجع عن مقالته فلعنوه فاستعدى عليهم الملك وزعم أنهم ظلموه وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة
فاستحضر الملك البتاركة والأساقفة من سائر البلاد إلى مدينة أفسيس فثبت بطريق الاسكندرية مقالة أوطيوس وقطع بتاركة القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس وسائر البتاركة والأساقفة وكتب إلى بترك رومية وإلى جماعة البتاركة والأساقفة فحرمهم ومنعهم من القربان إن لم يقبلوا مقالة أوطيوس
ففسدت الأمانة وصارت المقالة مقالة أوطيوس وخاصة بمصر والاسكندرية وهو مذهب اليعقوبية
فافترق هذا المجمع الخامس وهم ما بين لاعن وملعون وضال ومضل وقائل يقول : الصواب مع اللاعنين وقائل يقول : الحق مع الملاعنين
ثم كان لهم بعد هذا مجمع سادس في دولة مرقيون فإنه اجتمع إليه الأساقفه من سائر البلاد فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع وقلة الإنصاف وأن مقالة أوطيوس قد غلبت على الناس وأفسدت دين النصرانية فأمر الملك باستحضار سائر الأساقفة والبطارقة إلى حضرته فاجتمع عنده ستمائة وثلاثون أسقفزا فنظروا في مقالة أوطيوس وبترك الأسكندرية التي قطعا بها جميع البتاركة فأفسدوا مقالتهما ولعنوهما وأثبتوا أن المسيح إله وإنسان وهو مع الله في اللاهوت ومعنا في الناسوت له طبيعتان تامتان فهو تام باللاهوت تام بالناسوت وهو مسيح واحد وثبتوا قول الثلثمائة والثمانية عشر أسقفا وقبلوا قولهم بأن الابن مع الله في المكان وأنه إله حق من إله حق ولعنوا أريوس وقالوا : إن روح القدس إله وقالوا : إن الأب وروح القدس واحد بطبيعة واحدة وأقانيم ثلاثة
وثبتوا قول أهل المجمع الثالث وقالوا : إن مريم العذراء ولدت إلها ربنا يسوع المسيح الذي هو مع الله في الطبيعة ومعنا في الناسوت
وقالوا : إن المسيح طبيعتان وأقنوم واحد ولعنوا نسطورس وبترك الإسكندرية (59/277)
فانفض هذا المجمع وهم ما بين لاعن وملعون ثم كان لهم بعد هذا مجمع سابع في أيام أنسطاس الملك وذلك أن سورس القسطنطين جاء إلى الملك فقال : إن أصحاب ذلك المجمع الستمائة والثلاثين قد أخطئوا والصواب ما قاله أوطيوس وبترك الأسكندرية فلا تقبل ممن سواهما واكتب إلى جميع بلادك أن العنوا الستمائة والثلاثين وأن يأخذوا الناس بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وأقنوم واحد فأجابه الملك إلى ذلك فلما بلغ بترك بيت المقدس جمع الرهبان فلعنوا أنسطاس الملك وسورس ومن يقول بمقالتهما فبلغ ذلك الملك فغضب وبعث فنفى البترك إلى أيلة وبعث يوحنا بتركا على بيت المقدس لأنه كان قد ضمن للملك أن يلعن الستمائة والثلاثين
فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبان وقالوا : إياك أن تقبل عن سورس ولكن اقبل عن الستمائة والثلاثين ونحن معك ففعل وخالف الملك فلما بلغه أرسل قائدا وأمره أن يأخذ يوحنا بلعنة أولئك فإن لم يفعل أنزله عن الكرسي ونفاه فقدم القائد وطرح يوحنا في الحبس فصار إليه الرهبان في الحبس وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك فإذا حضر فليقر بلعنة كلمن لعنه الرهبان
فاجتمع الرهبان وكانوا عشرة آلاف راهب فلعنوا أوطسوس ونسطورس وسورس ومن لا يقبل من أولئك الستمائة والثلاثين
ففزع رسول الملك من الرهبان وبلغ ذلك الملك فهم بنفي يوحنا فاجتمع الرهبان والأساقفة فكتبوا إلى الملك أنهم لا يقبلون مقالة سورس ولو أريقت دماؤهم وسألوه أن يكف أذاه عنهم
وكتب بترك رومية إلى الملك بقبح فعله وبلعنه فانفض هذا المجمع على اللعنة أيضا
وكان لسورس تلميذ يقال له يعقوب البراذعي لأنه كان يلبس من قطع براذع الدواب يرقع بعضها ببعض وإليه ينسب اليعاقبة فأفسد أمانة القوم
ثم هلك أنسطاس الملك وولى بعده قسطنطين فرد كل من نفاه أنسطاس إلى موضعه وكتب إلى بيت المقدس بأمانته (59/278)
فاجتمع الرهبان وأظهروا كتابه وفرحوا به وأثبتوا قول الستمائة والثلاثين أسقفا وغلبت اليعقوبية على الإسكندرية وقتلوا بتركا لهم يقال له بولس وكان ملكانيا فولى الملك إسطفانوس فأرسل قائدا ومعه عسكر عظيم إلى الاسكندرية فدخل الكنيسة في ثياب البتركة وتقدم وقدس فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه فانصرف وتوارى عنهم ثم أظهر لهم بعد ثلاثة أيام أنه أتاه كتاب من الملك وأمر الحرس أن يجمعوا الناس لسماعه فلم يبق أحد بالإسكندرية حتى حضر لسماعه وكان قد جعل بينه وبين جنده علامة إذا هو فعلها وضعوا السيف في الناس فصعد المنبر وقال : يا معشر أهل الاسكندرية وإن رجعتم إلى الحق وتركتم مقالة اليعاقبة وإلا لم تأمنوا أن يوجه الملك إليكم من يسفك دماءكم فرموا بالحجارة حتى خاف على نفسه فأظهر العلامة فوضعوا السيوف على من بالكنيسة فقتل خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى حتى خاض الجند في الدماء وظهرت مقالة الملكانية بالإسكندرية
ثم كان لهم بعد ذلك مجمع ثامن وذلك أن أسقف منبج كان يقول بالتناسخ وأنه ليس ثمة قيامة ولا بعث وكان أسقف الرها وأسقف المصيصة وأسقف ثالث يقولون : إن جسد المسيح خيال غير حقيقة فحشرهم الملك إلى قسطنطينية فقال لهم بتركها : إن كان جسده خيالا فيجب أن يكون فعله خيالا وقوله خيالا وكل جسد نعاينه لأحد من الناس أو فعل أو قول فهو كذلك
وقال له : إن المسيح قد قام من الموتى وأعلمنا أنه كذلك يقوم الناس يوم الدين
واحتج بنصوص من الإنجيل كقوله : ان كل من في القبور اذا سمعوا قول الله سبحانه يحيون فأوجب عليهم اللعن وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه واستحضر بتاركة البلاد
فاجتمع عنده مائة وأربعة وستون أسقفا فلعنوا أسقف منبج وأسقف المصيصة وثبتوا أن جسد المسيح حقيقة لا خيال وأنه إله تام وإنسان تام معروف بطبيعتين ومشئيتين وفعلين أقنوم واحد وأن الدنيا زائلة وأن القيامة كائنة وأن المسيح يأتى (59/279)
بمجد عظيم فيدين الأحياء والأموات كما قال الثلثمائة والثمانية عشر الأوائل فتفرقوا على ذلك
ثم كان لهم مجمع تاسع على عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تلاعنوا فيه
وذلك أنه كان برومية راهب له تلميذان فجاء إلى قسطا الوالي فوبخه على قبح مذهبه وشناعة كفره فأمر به قسطا فقطعت يداه ورجلاه ونزع لسانه وفعل بأحد التلميذين كذلك وضرب الآخر بالسياط ونفاه فبلغ ذلك ملك قسطنطينية فأرسل إليه أن يوجعه إليه من أفاضل الأساقفة ليعلم وجه هذه الشبهة ومن كان ابتدأ بها ويعلم من يستحق اللعن فبث إليه مائة وأربعين أسقفا وثلثمائة شماس فلما وصلوا إليه جمع الملك مائة وثمانية وخمسين أسقفا فصاروا مائتين وثمانية وتسعين : وأسقطوا الشمامسة
وكان رئيس هذا المجمع بترك قسطنطينية وبترك أنطاكية فلعنوا من تقدم من القديسين والبتاركة واحدا واحدا فلما لعنوهم جلسوا فلخصوا الأمانة وزادوا فيها ونقصوا فقالوا : نؤمن بأن الواحد من الناسوت الابن الوحيد الذي هو الكلمة الألية الدائم المستوى مع الآب الإله في الجوهر الذي هو ربنا يسوع المسيح بطبيعتين تامتين وفعلين ومشيئتين في أقنوم واحد ووجه واحد تامزا بلا هوته تاما بناسوته وشهدت أن الإله الابن في آخر الأيام اتخذ من العذراء السيدة مريم القدسية جسدا إنسانا بنفس ناطقة عقلية وذلك برحمة الله تعالى محب البشر ولم يلحقه اختلاط ولا فساد ولا فرقة ولا فصل ولكن هو واحد يعمل بما يشبه الإنسان أن يعمله في طبيعته وما يشبه الإله أن يعمله في طبيعته الذي هو الابن الوحيد والكلمة الأزلية المتجسدة التي صارت في الحقيقة لحما كما يقول الإنجيل المقدس من غير أن ينتقل من مجده الأزلي وليست بمتغيرة لكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين إلهي وإنسى الذي بهما يكمل قول الحق وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها مشيئتين غير متضادتين ولا متصارعتين ولكن مع المشيئة الإنسية المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء
هذه أمانة هذا المجمع فوضعوها ولعنوا من لعنوه وبين المجمع الخامس الذي اجتمع فيه الستمائة والثلاثون وبين هذا المجمع مائة سنة
ثم كان لهم مجمع عاشر : (59/280)
وذلك لما مات الملك وولي ابنه بعده فاجتمع أهل المجمع السادس وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفا فثبتوا قول أهل المجامع الخمسة ولعنوا من لعنهم وخالفهم وانصرفوا بين لاعن وملعون فهذه عشرة مجامع كبار من مجامعهم مشهورة اشتملت على أكثر من أربعة عشر ألفا من البتاركة والأساقفة والرهبان كلهم ما بين لاعن وملعون فهذه حال المتقدمين مع قرب زمانهم من أيام المسيح ووجود أخباره فيهم والدولة دولتهم والكلمة كلمتهم وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا واهتمامهم بأمر دينهم واحتفالهم به كما ترى وهم حيارى تائهون ضالون مضلون لا يثبت لهم قدم ولا يستقر لهم قول في إلههم بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه وصرح بالكفر والتبري ممن اتبع سواه قد تفرقت بهم في نبيهم وإلههم الأقاويل وهم كما قال الله تعالى : قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ] فلو سألت أهل البيت الواحد عن دينهم ومعتقدهم في ربهم ونبيهم لأجابك الرجل بجواب وامرأته بجواب وابنه بجواب والخادم بجواب فما ظنك بمن في عصرنا هذا وهم نخالة الماضين وزبالة الغابرين ونفاية المتحيرين وقد طال عليهم الأمد وبعد عهدهم بالمسيح ودينه
وهؤلاء هم الذين أوجبوا لأعداء الرسل من الفلاسفة والملاحدة أن يتمسكوا بما هم عليه فإنهم شرحوا لهم دينهم الذي جاء به المسيح على هذا الوجه ولا ريب أن هذا دين لا يقبله عاقل فتواصى أولئك بينهم أن يتمسكوا بما هم عليه وساءت ظنونهم بالرسل والكتب ورأوا أن ما هم عليه من الآراء أقرب إلى المعقول من هذا الدين وقال لهم هؤلاء الحيارى الضلال : إن هذا هو الحق الذي جاء به المسيح فتركب من هذين الظنين الفاسدين إساءة الظن بالرسل وإحسان الظن بما هم عليه
ولهذا قال بعض ملوك الهند وقد ذكرت له الملل الثلاث فقال : أما النصارى فإن كان محاربوهم من أهل الملل يحاربونهم بحكم شرعي فإني أرى ذلك بحكم عقلي وإن كنا لا نرى بحكم عقولنا قتالا ولكن أستثني هؤلاء القوم من بين جميع العوالم (59/281)
لأنهم قصدوا مضادة العقل وناصبوه العداوة وحلوا ببيت الاستحالات وحادوا عن المسلك الذي انتهجه غيرهم من أهل الشرائع فشذوا عن جميع مناهج العالم الصالحة العقلية والشرعية واعتقدوا كل مستحيل ممكنا وبنوا على ذلك شريعة لا تؤدى ألبتة إلى صلاح نوع من أنواع العالم إلا أنها تصير العاقل إذا تشرع بها أخرق والرشيد سفيها والمحسن مسيئا لأن من كان أصل عقيدته التي جرى نشوءه عليها : الإساءة إلى الخالق والنيل منه ووصفه بضد صفاته الحسنى فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى المخلوق مع ما بلغنا عنهم من الجهل وضعف العقل وقلة الحياء وخساسة الهمة فهذا وقد ظهر له من باطلهم وضلالهم غيض من فيض وكانوا إذ ذاك أقرب عهدا بالنبوة
وقال أفلاطون رئيس سدنة الهياكل بمصر وليس بأفلاطون تلميذ سقراط إذ ذاك أقدم من : هذا لما ظهر محمد بتهامة ورأينا أمره يعلو على الأمم المجاورة له رأينا أن نقصد اصطمر البابلي لنعلم ما عنده ونأخذ برأيه فلما اجتمعنا على الخروج من مصر رأينا أن نصير إلى قراطيس معلمنا وحكيمنا لنودعه فلما دخلنا عليه ورأى جمعنا أيقن أن الهياكل قد خلت منا فغشى عليه حينا غشية ظننا أنه فارق الحياة فيها فبكينا فأومأ إلينا أن كفوا عن البكاء فتصبرنا جهدنا حتى هدأ وفتح عينيه وقال : هذا ما كنت أنهاكم عنه وأحذركم منه إنكم قوم غيرتم فغير بكم أطعتم جهالا من ملوككم فخلطوا عليكم في الأدعية فقصدتم البشر من التعظيم بما هو للخالق وحده فكنتم في ذلك كمن أعطى القلم مدحة الكاتب وإنما حركة القلم بالكاتب
ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذورين عظيمين لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة
أحدهما : الغلو في المخلوق حتى جعلوه شريك الخالق وجزءا منه وإلها آخر معه وأنفوا أن يكون عبدا له والثاني : تنقص الخالق وسبه ورميه بالعظائم حيث زعموا أنه سبحانه وتعالى عن قولهم علوا كبيرا نزل من العرش عن كرسي عظمته ودخل في فرج امرأة وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والنجو وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن ثم خرج من حيث دخل رضيعا صغيرا يمص الثدي ولف في القمط وأودع السرير يبكي ويجوع ويعطش (59/282)
ويبول ويتغوط ويحمل على الأيدي والعواتق ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه وربطوا يديه وبصقوا في وجهه وصفعوا قفاه وصلبوه جهرا بين لصين وألبسوه إكليلا من الشوك وسمروا يديه ورجليه وجرعوه أعظم الآلام هذا هو الإله الحق الذي بيده أتقنت العوالم وهو المعبود المسجود له
ولعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم
كما قال تعالى فيما يحكي عنه رسوله الذي نزهه ونزه أخاه المسيح عن هذا الباطل الذي : تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدزا فقال : شتمنى ابن آدم وما ينبغى له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك أما شتمه إياى فقوله : اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياى فقوله : لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في هذه الأمة : أهينوهم ولا تظلموهم فلقد سبوا الله عز و جل مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ولعمر الله إن عباد الأصنام مع أنهم أعداء الله عز و جل على الحقيقة وأعداء رسله عليهم السلام وأشد الكفار كفرا يأنفون أن يصفوا آلهتهم التي يعبدونها من دون الله تعالى وهي من الحجارة والحديد والخشب بمثل ما وصفت به هذه الأمة رب العالمين وإله السموات والأرضين وكان الله تعالى في قلوبهم أجل وأعظم من أن يصفوه بذلك أو بما يقاربه وإنما شرك القوم : أنهم عبدوا من دونه آلهة مخلوقة مربوبة محدثة وزعموا أنها تقربهم إليه لم يجعلوا شيئا من آلهتهم كفوا له ولا نظيرا ولا ولدا ولم ينالوا من الرب تعالى ما نالت منه هذه الأمة وعذرهم في ذلك أقبح من قولهم فإن أصل معتقدهم : أن أرواح الأنبياء عليهم السلام كانت في الجحيم في سجن إبليس من عهد آدم إلى زمن المسيح فكان إبراهيم وموسى ونوح (59/283)
وصالح وهود معذبين مسجونين في النار بسبب خطيئة آدم عليه السلام وأكله من الشجرة وكان كلما مات واحد من بني آدم أخذه إبليس وسجنه في النار بذنب أبيه ثم إن الله سبحانه وتعالى لما أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب تحيل على إبليس بحيلة فنزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن مريم حتى ولد وكبر وصار رجلا فمكن أعداءه اليهود من نفسه حتى صلبوه وتوجوه بالشوك على رأسه فخلص أنبياءه ورسله وفداهم بنفسه ودمه فهرق دمه في مرضاة جميع ولد آدم إذ كان ذنبه باقيا في أعناق جميعهم فخلصهم منه بأن مكن أعداءه من صلبه وتسميره وصفعه إلا من أنكر صلبه أو شك فيه أو قال : بأن إلاله يجل عن ذلك فهو في سجن إبليس معذب حتى يقر بذلك وأن إلهه صلب وصفع وسمر فنسبوا الإله الحق سبحانه إلى ما يأنف أسقط الناس وأقلهم أن يفعله بمملوكه وعبده وإلى ما يأنف عباد الأصنام أن ينسب إليه أوثانهم وكذبوا الله عز و جل في كونه تاب على آدم عليه السلام وغفر له خطيئته ونسبوه إلى أقبح الظلم حيث زعموا أنه سجن أنبياءه ورسله وأولياءه في الجحيم بسبب خطيئة أبيهم ونسبوه إلى غاية السفه حيث خلصهم من العذاب بتمكينه أعداءه من نفسه حتى قتلوه وصلبوه وأراقوا دمه ونسبوه إلى غاية العجز حيث عجزوه أن يخلصهم بقدرته من غير هذه الحيلة ونسبوه إلى غاية النقص حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه ففعلوا به ما فعلوا وبالجملة فلا نعلم أمة من الأمم سبت ربها ومعبودها وإلهها بما سبت به هذه الأمة كما قال عمر رضي الله عنه : إنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر وكان بعض أئمة الاسلام إذا رأى صليبيا أغمض عينيه عنه وقال : لا أستطيع أن أملأ عيني ممن سب إلهه ومعبوده بأقبح السب ولهذا قال عقلاء الملوك : إن جهاد هؤلاء واجب شرعا وعقلا فإنهم عار على بني آدم مفسدون للعقول والشرائع (59/284)
وأما شريعتهم ودينهم فليسوا متمسكين بشيء من شريعة المسيح ولا دينه ألبته
فأول ذلك أمر القبلة فإنهم ابتدعوا الصلاة إلى مطلع الشمس مع علمهم أن المسيح عليه السلام لم يصل إلى المشرق أصلا بل قد نقل مؤرخوهم أن ذلك حدث بعد المسيح بنحو ثلثمائة سنة وإلا فالمسيح إنما كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس وهي قبلة الأنبياء قبله وإليها كان يصلي النبيAمدة مقامه بمكة وبعد هجرته ثمانية عشر شهرا ثم نقله الله تعالى إلى قبلة أبيه إبراهيم
ومن ذلك : أن طوائف منهم وهم الروم وغيرهم لا يرون الاستنجاء بالماء فيبول أحدهم ويتغوط ويقوم بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة الكريهة فيستقبل المشرق ويصلب على وجهه ويحدث من يليه بأنواع الحديث كذبا كان أو فجورا أو غيبة أو سبا وشتما ويخبره بسعر الخمر ولحم الخنزير وما شاكل ذلك ولا يضر ذلك في الصلاة ولا يبطلها وإن دعته الحاجة إلى البول في الصلاة بال وهو يصلي صلاته
وكل عاقل يعلم أن مواجهة إله العالمين بهذه العبادة قبيح جدا وصاحبها إلى استحقاق غضبه وعقابه أقرب منه إلى الرضا والثواب ومن العجيب أنهم يقرؤن في التوراة ملعون من تعلق بالصليب وهم قد جعلوا شعار دينهم ما يلعنون عليه ولو كان لهم أدنى عقل لكان الأولى بهم أن يحرقوا الصليب حيث وجدوه ويكسروه ويضمخوه بالنجاسة فإنه قد صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم وأهين عليه وفضح وخزي
فيا للعجب بأي وجه بعد هذا يستحق الصليب التعظيم لولا أن القوم أضل من الأنعام
وتعظيمهم للصليب مما ابتدعوه في دين المسيح بعده بزمان ولا ذكر له في الإنجيل البتة وإنما ذكر في التوراة باللعن لمن تعلق به فاتخذته هذه الأمة معبودا يسجدون له (59/285)
وإذا اجتهد أحدهم في اليمين بحيث لا يحنث ولا يكذب حلف بالصليب ويكذب إذا حلف بالله ولا يكذب إذا حلف بالصليب ولو كان لهذه الأمة أدنى مسكة من عقل لكان ينبغي لهم أن يلعنوا الصليب من أجل معبودهم وإلههم حين صلب عليه كما قالوا : إن الأرض لعنت من أجل آدم حين أخطأ وكما لعنت الأرض حين قتل قابيل أخاه وكما في الإنجيل : إن اللعنة تنزل على الأرض إذا كان أمراؤها الصبيان
فلو عقلوا لكان ينبغي لهم أن لا يحملوا صليبا ولا يمسوه بأيديهم ولا يذكروه بألسنتهم وإذا ذكر لهم سدوا مسامعهم عن ذكره ولقد صدق القائل : عدو عاقل خير من صديق أحمق لأنهم بحمقهم قصدوا تعظيم المسيح فاجتهدوا في ذمه وتنقصه والإزراء به والطعن عليه وكان مقصودهم بذلك التشنيع على اليهود وتنفير الناس عنهم وإغراءهم بهم فنفروا الأمم عن النصرانية وعن المسيح ودينه أعظم تنفير وعلموا أن الدين لا يقوم بذلك فوضع لهم رهبانهم وأساقفتهم من الحبل والمخاريق وأنواع الشعبذة ما استمالوا به الجهال وربطوهم به وهم يستجيزون ذلك ويستحسنونه ويقولون : يشد دين النصرانية وكأنهم إنما عظموا الصليب لما رأوه قد ثبت لصلب إلههم ولم ينشق ولم يتطاير ولم يتكسر من هيبته لما حمل عليه وقد ذكروا أن الشمس اسودت وتغير حال السماء والأرض فلما لم يتغير الصليب ولم يتطاير استحق عندهم التعظيم وأن يعبد ولقد قال بعض عقلائهم : إن تعظيمنا للصليب جار مجرى تعظيم قبور الأنبياء فإنه كان قبر المسيح وهو عليه ثم لما دفن صار قبره في الأرض وليس وراء هذا الحمق والجهل حمق فإن السجود لقبور الأنبياء وعبادتها شرك بل من أعظم الشرك وقد لعن إمام الحنفاء وخاتم الأنبياءAاليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وأصل الشرك وعبادة الأوثان من العكوف على القبور واتخاذها مساجد
ثم يقال : فأنتم تعظمون كل صليب لا تخصون التعظيم بذلك الصليب بعينه فإن قلتم : الصليب من حيث هو يذكر بالصليب الذي صلب عليه إلهنا (59/286)
قلنا : وكذلك الحفر تذكر بحفرته فعظموا كل حفرة واسجدوا لها لأنها كحفرته أيضا بل أولى لأن خشبة الصلب لم يستقر عليها استقراره في الحفرة
ثم يقال : اليد التي مسته أولى أن تعظم من الصليب فعظموا أيدي اليهود لمسهم إياه وإمساكهم له ثم انقلوا ذلك التعظيم إلى سائر الأيدي
فإن قلتم : منع من ذلك مانع العداوة فعندكم أنه هو الذي رضي بذلك واختاره ولو لم يرض به لم يصلوا إليه منه فعلى هذا فينبغي لكم أن تشكروهم وتحمدوهم إذ فعلوا مرضاته واختياره الذي كان سبب خلاص جميع الأنبياء والمؤمنين والقديسين من الجحيم ومن سجن إبليس فما أعظم منة اليهود عليكم وعلى آبائكم وعلى سائر النبيين من لدن آدم عليه السلام إلى زمن المسيح والمقصود : أن هذه الأمة جمعت بين الشرك وعيب الإله وتنقصه وتنقص نبيعهم وعيبه ومفارقة دينه بالكلية فلم يتمسكوا بشيء مما كان عليه المسيح لا في صلاتهم ولا في صيامهم ولا في أعيادهم بل هم في ذلك أتباع كل ناعق مستجيبون لكل ممخرق ومبطل أدخلوا في الشريعة ما ليس منها وتركوا ما أتت به
وإذا شئت أن ترى التغيير في دينهم فانظر إلى صيامهم الذي وضعوه لملوكهم وعظمائهم فلهم صيام للحواريين وصيام لماري مريم وصيام لماري جرجس وصيام للميلاد وتركهم أكل اللحم في صيامهم مما أدخلوه في دين المسيح وإلا فهم يعلمون أن المسيح عليه السلام كان يأكل اللحم ولم يمنعهم منه لا في صوم ولا فطر وأصل ذلك : أن المانوية كانوا لا يأكلون ذا روح فلما دخلوا في النصرانية خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيقتلوا فشرعوا لأنفسهم صياما فصاموا للميلاد والحواريين وماري مريم وتركوا في هذا الصوم أكل اللحم محافظة على ما اعتادوه من مذهب ماني فلما طال الزمان تبعهم على ذلك النسطورية واليعقوبية فصارت سنة متعارفة بينهم ثم تبعهم على ذلك الملكانية (59/287)
فصل ثم إنك إذا كشفت عن حالهم وجدت أئمة دينهم ورهبانهم قد نصبوا
حبائل الحيل ليقتنصوا بها عقول العوام ويتوصلوا بالتمويه والتلبيس إلى استمالتهم وانقيادهم واستدرار أموالهم وذلك أشهر وأكثر من أن يذكر
فمن ذلك : ما يعتمدونه في العيد الذي يسمونه عيد النور ومحله بيت المقدس فيجتمعون من سائر النواحي في ذلك اليوم ويأتون إلى بيت فيه قنديل معلق لا نار فيه فيتلوا أحبارهم الإنجيل ويرفعون أصواتهم ويبتهلون في الدعاء فبيناهم كذلك وإذا نار قد نزلت من سقف البيت فتقع على ذبالة القنديل فيشرق ويضىء ويشتعل فيضجون ضجة واحدة ويصلبون على وجوههم ويأخذون في البكاء والشهيق
قال أبو بكر الطرطوشي : كنت ببيت المقدس وكان واليها إذ ذاك رجلا يقال له سقمان فلما نما خبر هذا العيد إليه أنفذ إلى بتاركتهم وقال : أنا نازل إليكم في يوم هذا العيد لأكشف عن حقيقة ما تقولون فإن كان حقا ولم يتضح لي وجه الحيلة فيه أقررتكم عليه وعظمته معكم بعلم وإن كان مخرقة على عوامكم أوقعت بكم ما تكرهونه فصعب ذلك عليهم جدا وسألوه أن لا يفعل فأبى ولج فحملوا له مالا عظيما فأخذه وأعرض عنهم
قال الطرطوشي : ثم اجتمعت بأبي محمد بن الأقدم بالإسكندرية فحدثني أنهم يأخذون خيطا دقيقا من نحاس وهو الشريط ويجعلونه في وسط قبة البيت إلى رأس الفتيلة التي في القنديل ويدهنونه بدهن اللبان والبيت مظلم بحيث لا يدرك الناظرون الخيط النحاس وقد عظموا ذلك البيت فلا يمكنون كل أحد من دخوله وفي رأس القبة رجل فإذا قدسوا ودعوا ألقى على ذلك الخيط النحاس شيئا من نار النفط فتجرى النار مع دهن اللبان إلى آخر الخيط النحاس فتلقى الفتيلة فيتعلق بها
فلو نصح أحد منهم نفسه وفتش على نجاته لتتبع هذا القدر وطلب الخيط النحاس وفتش رأس القبة ليرى القبة ليرى الرجل والنفط ويرى أن منبع ذلك النور من ذلك الممخرق الملبس وأنه لو نزل من السماء لظهر من فوق ولم يكن ظهوره من الفتيلة (59/288)
ومن حيلهم أيضا : أنه قد كان بأرض الروم في زمان المتوكل كنيسة إذا كان يوم عيدها يحج الناس إليها ويجتمعون عند صنم فيها فيشاهدون ثدي ذلك الصنم في ذلك اليوم يخرج منه اللبن وكان يجتمع للسادن في ذلك اليوم مال عظيم فبحث الملك عنها فانكشف له أمرها فوجد القيم قد ثقب من وراء الحائط ثقبا إلى ثدى الصنم وجعل فيها أنبوبة من رصاص وأصلحها بالجبس ليخفى أمرها فإذا كان يوم العيد فتحها وصب فيها اللبن فيجرى إلى الثدي فيقطر منه فيعتقد الجهال أن هذا سر في الصنم وأنه علامة من الله تعالى لقبول قربانهم وتعظيمهم له فلما انكشف له ذلك أمر بضرب عنق السادن ومحو الصور من الكنائس وقال : إن هذه الصور مقام الأصنام فمن سجد للصورة فهو كمن سجد للأصنام
ولقد كان من الواجب على ملوك الإسلام أن يمنعوا هؤلاء من هذا وأمثاله لما فيه من الإعانة على الكفر وتعظيم شعائره فالمساعد على ذلك والمعين عليه شريك للفاعل لكن لما هان عليهم دين الإسلام وكان السحت الذي يأخذونه منهم أحب إليهم من الله عز و جل ورسوله عليه الصلاة و السلام أقروهم على ذلك ومكنوهم منه
فصل والمقصود : أن دين الأمة الصليبية بعد أن بعث الله عز و جل
محمداA بل قبله بنحو ثلاثمائة سنة مبني على معاندة العقول والشرائع وتنقص إله العالمين ورميه بالعظائم فكل نصراني لا يأخذ بحظه من هذه البلية فليس بنصراني على الحقيقة
أفليس هو الدين الذي أسسه أصحاب المجامع المتلاعنين على أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد
فيا عجباكيف رضى العاقل أن يكون هذا مبلغ عقله ومنتهى علمه أفترى لم يكن في هذه الأمة من يرجع إلى عقله وفطرته ويعلم أن هذا عين المحال وإن ضربوا له الأمثال واستخرجوا له الأشباه فلا يذكرون مثالا ولا شبها إلا وفيه بيان خطئهم وضلالهم (59/289)
كتشبيه بعضهم اتحاد اللاهوت بالناسوت وامتزاجه به باتحاد النار والحديد وتمثيل غيرهم ذلك باختلاط الماء باللبن وتشبيه آخرين ذلك بامتزاج الغذاء واختلاطه بأعضاء البدن إلى غير ذلك من الأمثال والمقاييس التي تتضمن امتزاج حقيقتين واختلاطهما حتى صارا حقيقة أخرى تعالى الله عز و جل عن إفكهم وكذبهم ولم يقنعهم هذا القول في رب السموات والأرض حتى اتفقوا بأسرهم على أن اليهود أخذوه وساقوه بينهم ذليلا مقهورا وهو يحمل خشبته التي صلبوه عليها واليهود يبصقون في وجهه ويضربونه ثم صلبوه وطعنوه بالحربة حتى مات وتركوه مصلوبا حتى التصق شعره بجلده لما يبس دمه بحرارة الشمس ثم دفن وأقام تحت التراب ثلاثة أيام
ثم قام بلا هوتيته من قبره
هذا قول جميعهم ليس فيهم من ينكر منه شيئا
فيا للعقول ! كيف كان حال هذا العالم الأعلى والأسفل في هذه الأيام الثلاثة ومن كان يدبر أمر السموات والأرض ومن الذي خلف الرب سبحانه وتعالى في هذه المدة ومن الذي كان يمسك السماء أن تقع على الأرض وهو مدفون في قبره
ويا عجبا ! هل دفنت الكلمة معه بعد أن قتلت وصلبت أم فارقته وخذلته أحوج ما كان إلى نصرها له كما خذله أبوه وقومه فإن كانت قد فارقته وتجرد منها فليس هو حينئذ المسيح وإنما هو كغيره من آحاد الناس وكيف يصح مفارقتها له بعد أن اتحدت به وما زجت لحمه ودمه وأين ذهب الاتحاد والامتزاج وإن كانت لم تفارقه وقتلت وصلبت ودفنت معه فكيف وصل المخلوق إلى قتل الإله وصلبه ودفنه ويا عجبا ! أي قبر يسع إله السموات والأرض هذا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون
الحمد لله ثم الحمد لله تعالى الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
يا ذا الجلال والإكرام كما هديتنا للإسلام أسألك أن لا تنزعه عنا حتى تتوفانا على الإسلام
أعباد المسيح لنا سؤال ... نريد جوابه ممن وعاه إذا مات الإلكه بصنع قوم ... أماتوه فما هذا الإله (59/290)
وهل أرضاه ما نالوه منه ... فبشراهم إذا نالوا رضاه
وإن سخط الذي فعلوه فيه ... فقوتهم إذا أوهت قواه
وهل بقي الوجود بلا إله ... سميع يستجيب لمن دعاه
وهل خلت الطباق السبع لما ... ثوى تحت التراب وقد علاه
وهل خلت العوالم من إله ... يدبعرها وقد سمرت يداه
وكيف تخلت الأملاك عنه ... بنصرهم وقد سمعوا بكاه
وكيف أطاقت الخشبات حمل الإله ... الحق شد على قفاه
وكيف دنا الحديد إليه حتى ... يخالطه ويلحقه أذاه
وكيف تمكنت أيدي عداه ... وطالت حيث قد صفعوا قفاه
وهل عاد المسيح إلى حياة ... أم المحيي له ربك سواه
ويا عجبا لقبر ضم ربا ... وأعجب منه بطن قد حواه
أقام هناك تسعا من شهور ... لدى الظلمات من حيض غذاه
وشق الفرج مولودا صغيرا ... ضعيفا فاتحا للثدى فاه
ويأكل ثم يشرب ثم يأتي ... بلازم ذاك هل هذا إلكه
تعالى الله عن إفك النصارى ... سيسأل كلهم عما افتراه
أعباد الصليب لأيع معنى ... يعظم أو يقبح من رماه
وهل تقضى العقول بغير كسر ... وإحراق له ولمن بغاه
إذا ركب الإلكه عليه كرها ... وقد شدت لتسمير يداه
فذاك المركب الملعون حقا ... فدسه لا تبسه إذ تراه
يهان عليه رب الخلق طرا ... وتعبده فإنك من عداه
فإن عظمته من أجل أن قد ... حوى رب العباد وقد علاه
وقد فقد الصليب فإن رأينا ... له شكلا تذكرنا سناه (59/291)
فهلا للقبور سجدت طرا ... لضم القبر ربك في حشاه فيا عبد المسيح أفق فهذا ... بدايته وهذا منتهاه
فصل فقد بان لكل ذي عقل أن الشيطان تلاعب بهذه الأمة الضالة كل التلاعب
ودعاهم فأجابوه واستخفهم فأطاعوه فتلاعب بهم في شأن المعبود سبحانه وتعالى
وتلاعب بهم في أمر المسيح
وتلاعب بهم في شأن الصليب وعبادته
وتلاعب بهم في تصوير الصور في الكنائس وعبادتها فلا تجد كنيسة من كنائسهم تخلو عن صورة مريم والمسيح وجرجس وبطرس وغيرهم من القديسين عندهم والشهداء وأكثرهم يسجدون للصور ويدعونها من دون الله تعالى حتى لقد كتب بطريق الاسكندرية إلى ملك الروم كتابا يحتج فيه للسجود للصور : بأن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يصور في قبة الزمان صورة الساروس وبأن سليمان بن داود لما عمل الهيكل عمل صورة الساروس من ذهب ونصبها داخل الهيكل ثم قال في كتابه : وإنما مثال هذا مثال الملك يكتب إلى بعض عماله كتابا فيأخذه العامل ويقبله ويضعه على عينيه ويقوم له لا تعظيما للقرطاس والمداد بل تعظيما للملك كذلك السجود للصور تعظيم لاسم ذلك المصور لا للأصباغ والألوان
وبهذا المثال بعينه عبدت الأصنام
وما ذكره هذا المشرك عن موسى وسليمان عليهما السلام لو صح لم يكن فيه دليل على السجود للصور وغايته : أن يكون بمثابة ما يذكر عن داود : أنه نقش خطيئته في كفه كيلا ينساها فأين هذا مما يفعله هؤلاء المشركون : من التذلل والخضوع والسجود بين يدي تلك الصور وإنما المثال المطابق لما يفعله هؤلاء المشركون مثال خادم من خدام الملك دخل على رجل فوثب الرجل من مجلسه وسجد له وعبده وفعل به ما لا يصلح أن يفعل إلا مع الملك (59/292)
وكل عاقل يستجهله ويستحمقه في فعله إذ قد فعل مع عبد الملك ما كان ينبغي له أن يخص به الملك دون عبيده : من الإكرام والخضوع والتذلل ومعلوم أن هذا إلى مقت الملك له وسقوطه من عينه أقرب منه إلى إكرام له ورفع منزلته
كذلك حال من سجد لمخلوق أو لصورة مخلوق لأنه عمد إلى السجود الذي هو غاية ما يتوصل به العبد إلى رضا الرب ولا يصلح إلا له ففعله لصورة عبد من عبيده وسوى بين الله وبين عبده في ذلك وليس وراء هذا في القبح والظلم شيء
ولهذا قال تعالى : إن الشرك لظلم عظيم وقد فطر الله سبحانه عباده على استقباح معاملة عبيد الملك وخدمه بالتعظيم والإجلال والخضوع والذل الذي يعامل به الملك فكيف حال من فعل ذلك بأعداء الملك فإن الشيطان عدو الله والمشرك إنما يشرك به لا بولي الله ورسوله بل رسول الله وأولياؤه بريئون ممن أشرك بهم معادون لهم أشد الناس مقتا لهم فهم في نفس الأمر إنما أشركوا بأعداء الله وسووا بينهم وبين الله في العبادة والتعظيم والسجود والذل ولهذا كان بطلان الشرك وقبحه معلوما بالفطرة السليمة والعقول الصحيحة والعلم بقبحه أظهر من العلم بقبح سائر القبائح والمقصود : ذكر تلاعب الشيطان بهذه الأمة في أصول دينهم وفروعه كتلاعبه بهم في صيامهم فإن أكثر صومهم لا أصل له في شرع المسيح بل هو مختلق مبتدع فمن ذلك : أنهم زادوا جمعة في بدء الصوم الكبير يصومونها لهرقل مخلص بيت المقدس وذلك أن الفرس لما ملكوا بيت المقدس وقتلوا النصارى وهدموا الكنائس أعانهم اليهود على ذلك وكانوا أكثر قتلا وفتكا في النصارى من الفرس
فلما سار هرقل إليه استقبله اليهود بالهدايا وسألوه أن يكتب لهم عهدا ففعل فلما دخل بيت المقدس شكا إليه من فيه من النصارى ما كان اليهود صنعوه بهم (59/293)
فقال لهم هرقل : وما تريدون مني قالوا : تقتلهم قال : كيف أقتلهم وقد كتبت لهم عهدا بالأمان وأنتم تعلمون ما يجب على ناقض العهد
فقالوا له : إنك حين أعطيتهم الأمان لم تدر ما فعلوا من قتل النصارى وهدم الكنائس وقتلهم قربان إلى الله تعالى ونحن نتحمل عنك هذا الذنب ونكفره عنك ونسأل المسيح أن لا يؤاخذك به ونجعل لك جمعة كاملة في بدء الصوم نصومها لك ونترك فيها أكل اللحم ما دامت النصرانية ونكتب به إلى جميع الآفاق غفرانا لما سألناك
فأجابهم وقتل من اليهود حول بيت المقدس وجبل الخليل مالا يحصى كثرة
فصيروا أول جمعة من الصوم الذي يترك فيه الملكية أكل اللحم يصومونها لهرقل الملك غفرانا لنقضه العهد وقتل اليهود وكتبوا بذلك إلى الآفاق
وأهل بيت المقدس وأهل مصر يصومونها وبقية أهل الشام والروم يتركون اللحم فيه ويصومون الأربعاء والجمعة
وكذلك لما أرادوا نقل الصوم إلى فصل الربيع المعتدل وتغيير شريعة المسيح زادوا فيه عشرة أيام عوضا وكفارة لنقلهم له ومن ذلك : تلاعبه في أعيادهم : فكلها موضوعة مختلقة محدثة بآرائهم واستحسانهم فمن ذلك : عيد ميكائيل وسببه : أنه كان بالاسكندرية صنم وكان جميع من بمصر والإسكندرية يعيدون له عيدا عظيما ويذبحون له الذبائح فولي بتركة الاسكندرية واحدا منهم فأراد أن يكسره (59/294)
ويبطل الذبائح فامتنعوا عليه فاحتال عليهم وقال إن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر فلو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله تعالى وجعلتم هذه الذبائح له كان يشفع لكم عند الله وكان خيرا لكم من هذا الصنم فأجابوه إلى ذلك فكسر الصنم وصيره صلبانا وسمى الكنيسة كنيسة ميكائيل وسماها قيسارية ثم احترقت الكنيسة وخربت وصيروا العيد والذبائح لميكائيل فنقلهم من كفر إلى كفر ومن شرك إلى شرك
فكانوا في ذلك كمجوسي أسلم فصار رافضيا فدخل الناس عليه يهنئونه فدخل عليه رجل وقال : إنك إنما انتقلت من زاوية من النار إلى زاوية أخرى
ومن ذلك عيد الصليب وهو مما اختلقوه وابتدعوه فإن ظهور الصليب إنما كان بعد المسيح بزمن كثير وكان الذي أظهره زورا وكذبا أخبرهم به بعض اليهود أن هذا هو الصليب الذي صلب عليه إلهم وربهم فانظر إلى هذا السند وهذا الخبر فاتخذوا ذلك الوقت الذي ظهر فيه عيدا وسموه عيد الصليب ولو أنهم فعلوا كما فعل أشباههم من الرافضة حيث اتخذوا وقت قتل الحسين رضي الله عنه مأتما وحزنا لكان أقرب إلى العقول
وكان من حديث الصليب : أنه لما صلب المسيح على زعمهم الكاذب وقتل ودفن رفع من القبر إلى السماء وكان التلاميذ كل يوم يصيرون إلى القبر إلى موضع الصلب ويصلون فقالت اليهود : إن هذا الموضع لا يخفى وسيكون له نبأ وإذا رأى الناس القبر خاليا آمنوا به فطرحوا عليه التراب والزبل حتى صار مزبلة عظيمة فلما كان في أيام قسطنطين الملك جاءت زوجته إلى بيت المقدس تطلب الصليب فجمعت من اليهود والسكان ببيت المقدس وجبل الخليل مائة رجل واختارت منهم عشرة واختارت من العشرة ثلاثة اسم أحدهم يهوذا فسألتهم أن يدلوها على الموضع فامتنعوا وقالوا : لا علم لنا بالموضع (59/295)
فطرحتهم في الحبس في جب لا ماء فيه فأقاموا سبعة أيام لا يطعمون ولا يسقون فقال يهوذا لصاحبيه : إن أباه عرفه بالموضع الذي تطلب فصاح الإثنان فأخرجوهما فخبراها بما قال يهوذا فأمرت بضربه بالسياط فأقر وخرج إلى الموضع الذي فيه المقبرة وكان مزبلة عظيمة فصلى وقال : اللهم إن كان في هذا الموضع فاجعله أن يتزلزل ويخرج منه دخان فتزلزل الموضع وخرج منه دخان فأمرت الملكة بكنس الموضع من التراب فظهرت المقبرة وأصابوا ثلاثة صلبان فقالت الملكة : كيف لنا أن نعلم صليب سيدنا المسيح وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة قد أيس منه فوضع الصليب الأول عليه ثم الثاني ثم الثالث فقام عند الثالث واستراح من علته فعلمت أنه صليب المسيح فجعلته في غلاف من ذهب وحملته إلى قسطنطين
وكان من ميلاد المسيح إلى ظهور هذا الصليب : ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة
هذا كله نقله سعيد بن بطريق النصراني في تاريخه
والمقصود : أنهم ابتدعوا هذا العيد بنقل علمائهم بعد المسيح بهذه المدة :
وبعد فسند هذه الحكاية من بين يهودي ونصراني مع انقطاعها وظهور الكذب فيها
لمن له عقل من وجوه كثيرة ويكفي في كذبها وبيان اختلاقها : أن ذلك الصليب الذي شفي العليل كان أولى أن لا يميت الإله الرب المحيي المميت ومنها : أنه إذا بقي تحت التراب خشب ثلثمائة وثمانية وعشرون سنة فإنه ينخر ويبلى لدون هذه المدة فإن قال عباد الصليب : إنه لما مس جسم المسيح حصل له الثبات والقوه والبقاء قيل لهم : فما بال الصليبين الباقيين لم يتفتتا واشتبها به فلعلهم يقولون : لما مست صليبه مسها البقاء والثبات وجهل القوم وحمقهم أعظم من ذلك والرب سبحانه لما تجلى للجبل تدكدك الجبل وساخ في الأرض ولم يثبت لتجليه فكيف تثبت الخشبة لركوبه عليها في تلك الحال
ولقد صدق القائل : إن هذه الأمة عار على بني آدم أن يكونوا منهم فإن كانت هذه الحكاية صحيحة فما أقربها من حيل اليهود التي تخلصوا بها من (59/296)
الحبس والهلاك وحيل بني آدم تصل إلى أكثر من ذلك بكثير ولا سيما لما علم اليهود أن ملكة دين النصرانية قاصدة إلى بيت المقدس وأنها تعاقبهم حتى يدلوها على موضع القتل والصلب وعلموا أنهم إن لم يفعلوا لم يتخلصوا من عقوبتها
ومنها : أن عباد الصليب يقولون : إن المسيح لما قتل غار دمه ولو وقع منه قطرة على الأرض ليبست ولم تنبت فيا عجبا ! كيف يحيى الميت ويبرأ العليل بالخشبة التي شهر عليها وصلب أهذا كله من بركتها وفرحها به وهو مشدود عليها يبكي ويستغيث
ولقد كان الأليق أن يتفتت الصليب ويضمحل لهيبة من صلب عليه وعظمته ولخسفت الأرض بالحاضرين عند صلبه والمتمالئين عليه بل تتفطر السموات وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا
ثم يقال لعباد الصليب : لا يخلو أن يكون المصلوب الناسوت وحده أو مع اللاهوت فإن كان المصلوب هو الناسوت وحده فقد فارقته الكلمة وبطل اتحادها به وكان المصلوب جسدا من الأجساد ليس بإله ولا فيه شىء من الإلهية والربوبية ألبتة وإن قلتم : إن الصلب وقع على اللاهوت والناسوت معا فقد أقررتم بصلب الإله وقتله وموته وقدرة الخلق على أذاه وهذا أبطل الباطل وأمحل المحال فبطل تعلقكم بالصليب من كل وجه عقلا وشرعا وأما تلاعبه بهم في صلاتهم فمن وجوه أحدها : صلاة كثير منهم بالنجاسة والجنابة والمسيح برىء من هذه الصلاة وسبحان الله أن يتقرب إليه بمثل هذه الصلاة فقدره أعلى وشأنه أجل من ذلك ومنها : صلاتهم إلى مشرق الشمس وهم يعلمون أن المسيح لم يصل إلى المشرق أصلا وإنما كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس
ومنها : تصليبهم على وجوههم عند الدخول في الصلاة والمسيح برىء من ذلك فصلاة مفتاحها النجاسة وتحريمها التصليب على الوجه وقبلتها الشرق وشعارها الشرك كيف يخفى على العاقل أنها لا تأتي بها شريعة من الشرائع ألبتة (59/297)
ولما علمت الرهبان والمطارنة والأساقفة : إن مثل هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة شدوه بالحيل والصور في الحيطان بالذهب واللازورد والزنجفر وبالأرغل وبالأعياد المحدثة ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول والبصائر وساعدهم ما عليه اليهود من القسوة والغلظة والمكر والكذب والبهت وما عليه كثير من المسلمين من الظلم والفواحش والفجور والبدعة والغلو في المخلوق حتى يتخذه إلها من دون الله واعتقاد كثير من الجهال أن هؤلاء من خواصالمسلمين وصالحيهم فتركب من هذا وأمثاله تمسك القوم بما هم فيه ورؤيتهم أنه خير من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البدع والفجور والشرك والفواحش
ولهذا لما رأى النصارى الصحابة وما هم عليه آمن أكثرهم اختيارا وطوعا وقالوا : ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيرا من أهل الكتاب إلى الإسلام فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام ممن يعظمهم الجهال : من البدع والظلم والفجور والمكر والاحتيال ونسبة ذلك إلى الشرع ولمن جاء به فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به فالله طليب قطاع طريق الله وحسيبهم فهذه إشارة يسيرة جدا إلى تلاعب الشيطان بعباد الصليب تدل على ما بعدها والله الهادي الموفق
فصل في ذكر تلاعبه بالأمة الغضبية وهم اليهود قال الله تعالى في حقهم
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل (59/298)
الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وقال تعالى : قل هل أنبعئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون
وقال تعالى : ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون
وقد أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
وثبت عن النبيAأنه قال : اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون فأول تلاعب الشيطان بهذه الأمة في حياة نبيها وقرب العهد بإنجائهم من فرعون وإغراقه وإغراق قومه فلما جاوزوا البحر رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم فقالوا : يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فقال لهم موسى عليه السلام إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون فأي جهل فوق هذا والعهد قريب وإهلاك المشركين أمامهم بمرأى من عيونهم فطلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلها فطلبوا من مخلوق أن يجعل لهم إلكها مخلوقا وكيف يكون الإله مجعولا فإن الإله هو الجاعل لكل ما سواه والمجعول مربوب مصنوع فيستحيل أن يكون إلها (59/299)
وما أكثر الخلف لهؤلاء في اتخاذ إله مجعول فكل من اتخذ إلها غير الله فقد اتخذ إلها مجعولا وقد ثبت عن النبيA أنه كان في بعض غزواته فمروا بشجرة يعلق عليها المشركون أسلحتهم وشاراتهم وثيابهم يسمونها ذات أنواط فقال بعضهم : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال : الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ثم قال لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة
فصل ومن تلاعبه بهم عبادتهم العجل من دون الله تعالى وقد شاهدوا ما
حل بالمشركين من العقوبة والأخذة الرابية ونبيهم حي لم يمت هذا وقد شاهدوا صانعه يصنعه ويصوغه ويصليه النار ويدقه بالمطرقة ويسطو عليه بالمبرد ويقلبه بيديه ظهرا لبطن ومن عجيب أمرهم : أنهم لم يكتفوا بكونه إلههم حتى جعلوه إله موسى فنسبوا موسى عليه السلام إلى الشرك وعبادة غير الله تعالى بل عبادة أبلد الحيوانات وأقلها دفعا عن نفسه بحيث يضرب به المثل في البلادة والذل فجعلوه إله كليم الرحمن
ثم لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا موسى عليه السلام ضالا مخطئا فقالوا : فنسي
قال ابن عباس : أي ضل وأخطأ الطريق (59/300)
وفي رواية عنه أي إن موسى ذهب يطلب ربه فضل ولم يعلم مكانه
وعنه أيضا نسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم وقال السدى : أي ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه وقال قتادة : أي إن موسى إنما يطلب هذا ولكنه نسيه وخالفه في طريق آخر
هذا هو القول المشهور : أن قوله فنسى من كلام السامريع وعباد العجل معه وعن ابن عباس رواية أخرى أن هذا من إخبار الله تعالى عن السامري : أنه نسى أى ترك ما كان عليه من الإيمان والصحيح : القول الأول والسياق يدل عليه ولم يذكر البخاري في التفسير غيره فقال : [ فنسى موساهم ] يقولونه : أخطأ الرب فإنه لما جعله إله موسى استحضر سؤالا من بني إسرائيل يوردونه عليه فيقولون له : إذا كان هذه إله موسى فلأي شيء ذهب عنه لموعد إلهه فأجاب عن هذا السؤال قبل إيراده عليه بقوله فنسى وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم فانظر إلى هؤلاء كيف اتخذوا إلها مصنوعا مصنوغا من جوهر أرضى إنما يكون تحت التراب محتاجا إلى سبك بالنار وتصفية وتخليص لخبثه منه مدقوقا بمطارق الحديد مقلبا في النار مرة بعد مرة قد نحت بالمبارد وأحدث الصانع صورته وشكله على صورة الحيوان المعروف بالبلادة والذل والضيم وجعلوه إله موسى ونسبوه إلى الضلال حيث ذهب يطلب إلها غيره
قال محمد بن جرير : وكان سبب اتخاذهم العجل ما حدثني به عبدالكريم بن الهيثم
قال حدثنى إبراهيم بن بشار الرمادي حدثنا سيفان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه وكان فرعون على فرس أدهم [ ذنوب ] فلما هجم فرعون على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر فمثل له جبريل على فرس أنثى [ وديق ] فلما رآها الحصان تقحم خلفها قال : وعرف السامري (59/301)
جبريل [ لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه وكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه فيجد في بعض أصابعه لبنا وفي الأخرى عسلا وفي الأخرى سمنا فلم يزل يغذوه حتى نشأ فلما عاينه في البحر عرفه ] فقبض قبضة من أثر فرسه قال : أخذ قبضة من تحت الحافر
قال سفيان : وكان ابن مسعود يقرؤها فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول
قال أبو سعيد قال عكرمة عن ابن عباس : وألقي في روع السامري : إنك لا تلقيها على شيء فتقول : كن كذا وكذا إلا كان فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر وأغرق الله آل فرعون قال موسى لأخيه هارون : اخلفني في قومي وأصلح ومضي موسى لموعد ربه قال : وكان مع بني إسرائيل حلىك من حلى آل فرعون قد استعاروه فكأنهم تأثموا منه فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعوه قال السامري بالقبضة التي كانت في يده هكذا [ وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا ] فقذفها فيه وقال : كن عجلا جسدا له خوار فصار عجلا جسدا له خوار فكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه يسمع له صوت : فقال هذا إلهكم وإله موسى فعكفوا على العجل يعبدونه فقال هارون : يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى
وقال السدي : لما أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط فلما نجى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل من البحر وأغرق آل فرعون أتى جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الله فأقبل على فرس فرآه السامري فأنكره ويقال : إنه فرس الحياة فقال حين رآه : إن لهذا لشأنا فأخذ من تربة حافر الفرس فانطلق موسى عليه السلام واستخلف هارون على بني إسرائيل وواعدهم ثلاثين ليلة فأتمها الله تعالى بعشر فقال لهم هارون : يا بني إسرائيل إن الغنيمة لا تحل لكم وإن حلي القبط إنما هو غنيمة فاجمعوها جميعا (59/302)
واحفروا لها حفرة فادفنوها فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها [ وإلا كان شيئا لم تأكلوه ] فجمعوا ذلك الحلي في تلك الحفرة وجاء السامرى بتلك القبضة فقذفها فأخرج الله من الحلي عجلا جسدا له خوار [ وعدت بنو إسرائيل موعد موسى فعدوا الليلة يوما واليوم يوما فلما كان تمام العشرين أخرج لهم العجل ] فلما رأوه قال لهم السامرى : هذا إلهكم وإله موسى فنسى يقول : ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه فعكفوا عليه يعبدونه وكان يخور ويمشي فقال لهم هارون : يا بني إسرائيل إنما فتنتم به يقول : إنما ابتليتم بالعجل وإن ربكم الرحمن فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم وانطلق موسى إلى الله يكلمه فلما كلمه قال له : ما أعجلك عن قومك يا موسى قال : هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى قال : فإنا قد فتنا قومك من بعدك [ وأضلهم السامرى فأخبره خبرهم قال موسى : يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل (59/303)
فالروح من نفخها فيه قال الرب تعالى : أنا قال : يا رب أنت إذا أضللتهم وقال ابن إسحق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان السامري [ من أهل باجرما ] وكان من قوم يعبدون البقر فكان يحب عبادة البقر في نفسه وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل فلما ذهب موسى إلى ربه قال لهم هرون : أنتم قد حملتم أوزارا من زينة القوم آل فرعون وأمتعة وحليا فتطهروا منها فإنها نجس وأوقد لهم نارا فقال : اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحلى فيقذفون به فيها حتى إذا انكسر الحلي فيها ورأى السامرى أثر فرس جبريل فأخذ ترابا من أثر حافره ثم أقبل إلى النار فقال لهرون : يا نبي الله ألقى ما في يدي ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلى والأمتعة فقذفه فيها فقال : كن عجلا جسدا له خوار فكان البلاء والفتنة فقال : هذا إلهكم وإله موسى فعكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا مثله قط يقول الله عز و جل : فنسى أي ترك ما كان عليه من الإسلام يعني السامرى أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا [ وكان اسم السامرى موسى بن ظفر وقع في أرض مصر فدخل في بني إسرائيل ] فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال : يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى فأقام هرون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى : فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي وكان له هائبا مطيعا
فقال تعالى مذكرا لبني إسرائيل بهذه القصة التي جرت لأسلافهم مع نبيهم : (59/304)
وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده يعني من بعد ذهابه إلى ربه وليس المراد من بعد موته وأنتم ظالمون أي بعبادة غير الله تعالى لأن الشرك أظلم الظلم لأن المشرك وضع العبادة في غير موضعها
فلما قدم موسى عليه السلام ورأى ما أصاب قومه من الفتنة اشتد غضبه وألقى الألواح عن رأسه وفيها كلام الله الذي كتبه له وأخذ برأس أخيه ولحيته ولم يعتب الله عليه في ذلك لأنه حمله عليه الغضب لله وكان الله عز و جل قد أعلمه بفتنة قومه ولكن لما رأى الحال مشاهدة حدث له غضب آخر فإنه ليس الخبر كالمعاينة
فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة في حياة نبيهم أيضا : ما
قصه الله تعالى في كتابه حيث يقول : وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة أي عيانا قال ابن جرير : ذكرهم الله تعالى بذلك اختلاف آبائهم وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم مع كثرة معاينتهم من آيات الله ما يثلج بأقلها الصدور وتطمئن بالتصديق معها النفوس وذلك مع تتابع الحجج عليهم وسبوغ النعم من الله تعالى لديهم وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله ومرة يعبدون العجل من دون الله ومرة يقولون : لا نصدقك حتى نرى الله جهرة وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ومرة يقال لهم : قولوا حطة (59/305)
وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم فيقولون : حبة في شعيرة ويدخلون من قبل أستاههم ومرة يعرض عليهم العمل بالتوراة فيمتنعون من ذلك حتى نتق الله تعالى عليهم الجبل كأنه ظلة إلى غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم التي يكثر إحصاؤها فأعلم ربنا تبارك وتعالى الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول اللهAأنهم لن يعدوا أن يكونوا في تكذيبهم محمداA وجحودهم نبوته وتركهم الإقرار به وبما جاء به مع علمهم به ومعرفتهم بحقيقة أمره كأسلافهم وآبائهم الذين قص الله علينا قصصهم
وقال محمد بن إسحق : لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل وقال لأخيه وللسامرى ما قال وحرق العجل وذراه في اليم اختار موسى منهم سبعين رجلا الخير فالخير وقال : انطلقوا إلى الله عز و جل فتوبوا إلى الله مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم فصوموا وتطهروا وطهروا نياتكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا للقاء الله : يا موسى اطلب لنا إلى ربك أن نسمع كلام ربنا فقال : أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى فأدخل فيه وقال للقوم : ادنوا وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم ان ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه تعالى وهو يكلم نبيه موسى يأمره وينهاه : افعل ولا تفعل فلما فرغ الله من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا لموسى عليه السلام : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا جميعا وقام موسى عليه السلام يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول : رب لو شئت أهلكتهم (59/306)
من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا
فإن قيل : فما مقصود موسى بقوله : لو شئت أهلكتهم من قبل فقد ذكر فيه وجوه
فقال السدي : لما ماتوا قام موسى يبكي ويقول : يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتتهم وقد أهلكت خيارهم
وقال محمد بن إسحق : اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد فما الذي يصدقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا
وعلى هذا فالمعنى : لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني
وقال الزجاج : المعنى : لو شئت أهلكتهم من قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة قلت : وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود والذي يظهر والله اعلم بمراده ومراد نبيه : أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل حين عبد قومهم العجل ولم ينكروا عليهم يقول موسى : إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك ولم تهلكهم فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل
وهذا كما يقول من واخذه سيده بجرم لو شئت واخذتني من قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم ولكن وسعني عفوك أولا فليسعني اليوم
ثم قال نبي الله : أتهلكنا بما فعل السفهاء منا
فقال ابن الإنباري وغيره : هذا استفهام على معنى الجحد أي لست تفعل ذلك
والسفهاء هنا : عبدة العجل قال الفراء : ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل فقال : أتهلكنا بما فعل (59/307)
السفهاء منا وإنما كان إهلاكهم بقولهم أرنا الله جهرة ثم قال : إن هي إلا فتنتك وهذا من تمام الاستعطاف أي ما هي إلا ابتلاؤك واختبارك لعبادك فأنت ابتليتهم وامتحنتهم فالأمر كله لك وبيدك لا يكشفه إلا أنت كما لم يمتحن به ويختبر به إلا أنت فنحن عائذون بك منك ولاجئون منك إليك
فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة وكيده لهم
أنهم قيل لهم وهم مع نبيهم والوحي ينزل عليه من الله تعالى أدخلوا هذه القرية قال قتادة وابن زيد والسدي وابن جرير وغيرهم : هي قرية بيت المقدس فكلوا منها حيث شئتم رغدا أي هنيئا واسعا وادخلوا الباب سجدا قال السدعي : هو باب من أبواب بيت المقدس وكذلك قال بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال والسجود بمعنى الركوع وأصل السجود الانحناء لمن تعظمه فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد قاله ابن جرير وغيره
قلت : وعلى هذا فانحناء المتلاقين عند السلام أحدهما لصاحبه من السجود المحرم وفيه نهي صريح عن النبيA
ثم قيل لهم : قولوا حطة أي حط عنا خطايانا هذا قول الحسن وقتادة وعطاء
وقال عكرمة وغيره : أي قولوا : لا إله إلا الله وكأن أصحاب هذا القول اعتبروا الكلمة التي تحط بها الخطايا وهي كلمة التوحيد
وقال سعيد بن جبيرعن ابن عباس : أمروا بالاستغفار (59/308)
وعلى القولين : فيكونون مأمورين بالدخول بالتوحيد والاستغفار وضمن لهم بذلك مغفرة خطاياهم فتلاعب الشيطان بهم فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم وفعلا غير الذي أمروا به
فروى البخاري في صحيحه ومسلم أيضا من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللهA قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعرة فبدلوا القول والفعل معا فأنزل الله عليهم رجزا من السماء قال أبو العالية : هو الغضب وقال ابن زيد : هو الطاعون
وعلى هذا فالطاعون بالرصد لمن بدل دين الله قولا وعملا
فصل ومن تلاعب الشيطان بهم
أنهم كانوا في البرية قد ظلل عليه الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى فملو ذلك وذكروا عيش الثوم والبصل والعدس والبقل والقثاء فسألوه موسى عليه السلام وهذا من سوء اختيارهم لأنفسهم وقلة بصرهم بالأغذية النافعة الملائمة واستبدال الأغذية الضارة القليلة التغذية منها ولهذا قال لهم موسى عليه السلام : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا أي مصرا من الأمصار فإن لكم ما سألتم (59/309)
فكانوا في أفسح الأمكنة وأوسعها وأطيبها هواء وأبعدها عن الأذى ومجاورة الأنتان والأقذار سقفهم الذي يظلهم من الشمس : الغمام وطعامهم : السلوى وشرابهم : المن
قال ابن زيد : كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا وشرابهم واحدا كان شرابهم عسلا ينزل من السماء يقال له : المن وطعامهم طير يقال له : السلوى يأكلون الطير ويشربون العسل لم يكن لهم خبز ولا غيره
ومعلوم فضل هذا الغذاء والشراب على غيرهما من الأغذية والأشربة
وكانوا مع ذلك يتفجر لهم من الحجر اثنا عشر عينا من الماء فطلبوا الاستبدال بما هو دون ذلك بكثير فذموا على ذلك فكيف بمن استبدل الضلال بالهدى والغي بالرشاد والشرك بالتوحيد والسنة بالبدعة وخدمة الخالق بخدمة المخلوق والعيش الطيب في المساكن الطيبة في جوار الله تعالى بحظه من العيش النكد الفاني في هذه الدار (59/310)
فصل ومن تلاعبه بهم
أنهم لما عرضت عليهم التوراة لم يقبلوها وقد شاهدوا من الآيات ما شاهدوه حتى أمر الله سبحانه جبريل فقلع جبلا من أصله على قدرهم ثم رفعه فوق رؤوسهم وقيل لهم : إن لم تقبلوها ألقيناه عليكم فقبلوه كرها قال الله تعالى : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون قال عبدالله بن وهب قال ابن زيد : لما رجع موسى من عند ربه بالألواح قال لبني إسرائيل : إن هذه الألواح فيها كتاب الله وأمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه فقالوا : ومن يأخذ بقولك أنت لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله إلينا فيقول : هذا كتابي فخذوه فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى فيقول : هذا كتابي فخذوه فجاءت غضبة من الله تعالى فجاءتهم صاعقة فصعقتهم فماتوا أجمعون قال : ثم أحياهم الله تعالى بعد موتهم فقال لهم موسى : خذوا كتاب الله فقالوا : لا فقال : أي شيء أصابكم قالوا : متنا ثم حيينا فقال : خذوا كتاب الله قالوا : لا قال : فبعث الله ملائكته فنتقت الجبل فوقهم فقيل لهم : أتعرفون هذا قالوا : نعم الطور قال : خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم قال : فأخذوه بالميثاق وقال السدى : لما قال الله تعالى لهم : ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فأبوا أن يسجدوا فأمر الله الجبل أن يرتفع فوق رؤوسهم فنظروا إليه وقد غشيهم فسقطوا سجدا على شق ونظروا بالشق الآخر فكشفه عنهم ثم تولوا من بعد هذه الآيات وأعرضوا (59/311)
ولم يعملوا بما في كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم فقال تعالى مذكرا لهؤلاء بما جرى من أسلافهم وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين
فصل ومن تلاعبه بهم
أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه وفرق بهم البحر وأراهم الآيات والعجائب ونصرهم وآواهم وأعزهم وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين
ثم أمرهم أن يدخلوا القرية التي كتب الله لهم وفي ضمن هذا بشارتهم بأنهم منصورون ومفتوح لهم وأن تلك القرية لهم فأبوا طاعته وامتثال أمره وقابلوا هذا الأمر والبشارة بقولهم : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون
وتأمل : تلطف نبي الله تعالى موسى عليه السلام بهم وحسن خطابه لهم وتذكيرهم بنعم الله عليهم وبشارتهم بوعد الله لهم : بأن القرية مكتوبة لهم ونهيهم عن معصيته بارتدادهم على أدبارهم وأنهم إن عصوا أمره ولم يمتثلوا : انقلبوا خاسرين
فجمع لهم بين الأمر والنهى والبشارة والنذارة والترغيب والترهيب والتذكير بالنعم السالفة فقابلوه أقبح المقابلة فعارضوا أمر الله تعالى بقولهم : يا موسى إن فيها قوما جبارين فلم يوقروا رسول الله وكليمه حتى نادوه باسمه ولم يقولوا : يا نبى الله وقالوا : إن فيها قوما جبارين ونسوا قدرة جبار السموات والأرض الذي يذل الجبابرة لأهل طاعته وكان خوفهم من أولئك الجبارين الذين نواصيهم بيد الله أعظم من خوفهم من الجبار الأعلى سبحانه وكانوا أشد رهبة في صدورهم منه
ثم صرحوا بالمعصية والامتناع من الطاعة فقالوا : إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فأكدوا معصيتهم بأنواع من التأكيد (59/312)
أحدها : تمهيد عذر العصيان بقولهم إن فيها قوما جبارين
والثاني : تصريحهم بأنهم غير مطيعين وصدروا الجملة بحرف التأكيد وهو إن ثم حققوا النفي بأداة لن الدالة على نفي المستقبل أي لا ندخلها الآن ولا في المستقبل
ثم علقوا دخولها بشرط خروج الجبارين منها فقال لهم رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما بطاعته والانقياد إلى أمره من الذين يخافون الله هذا قول الأكثرين وهو الصحيح وقيل : من الذين يخافونهم من الجبارين أسلما واتبعا موسى عليه السلام ادخلوا عليهم الباب أي باب القرية فاهجموا عليهم فإنهم قد ملئوا منكم رعبا فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ثم ارشداهم إلى ما يحقق النصر والغلبة لهم وهو التوكل
فكان جواب القوم أن قالوا : يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فسبحان من عظم حلمه حيث يقابل أمره بمثل هذه المقابلة ويواجه رسوله بمثل هذا الخطاب وهو يحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة بل وسعهم حلمه وكرمه وكان أقصى ما عاقبهم به : أن رددهم في برية التيه أربعين عاما يظلل عليهم الغمام من الحر وينزل عليهم المن والسلوى
وفي الصحيحين : عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به أتى النبيAوهو يدعو على المشركين فقال : لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكنا نقاتل عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك فرأيت رسول اللهAأشرق وجهه لذلك وسر به (59/313)
فلما قابلوا نبي الله بهذه المقابلة قال : رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين
فصل ومن تلاعبه بهم في حياة نبيهم أيضا
ما قصه الله سبحانه وتعالى في كتابه من قصة القتيل الذي قتلوه وتدافعوا فيه حتى أمروا بذبح بقرة وضربه ببعضها
وفي هذه القصة أنواع من العبر :
منها : أن الإخبار بها من أعلام نبوة رسول اللهA
ومنها : الدلالة على نبوة موسى وأنه رسول رب العالمين
ومنها : الدلالة على صحة ما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم : من معاد الأبدان وقيام الموتى من قبورهم
ومنها : إثبات الفاعل المختار وأنه عالم بكل شيء قادر على كل شىء عدل لا يجوز عليه الظلم والجور حكيم لا يجوز عليه العبث
ومنها : إقامة أنواع الآيات والبراهين والحجج على عباده بالطرق المتنوعات زيادة في هداية المهتدي وإعذارا وإنذارا للضال (59/314)
ومنها : إنه لا ينبغي مقابلة أمر الله تعالى بالتعنت وكثرة الأسئلة بل يبادر إلى الإمتثال فإنهم لما أمروا أن يذبحوا بقرة كان الواجب عليهم أن يبادروا إلى الإمتثال بذبح أي بقرة اتفقت فإن الأمر بذلك لا إجمال فيه ولا إشكال بل هو بمنزلة قوله : اعتق رقبة وأطعم مسكينا وصم يوما ونحو ذلك ولذلك غلط من احتج بالآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب فإن الآية غنية عن البيان المنفصل مبينة بنفسها ولكن لما تعنتوا وشددوا شدد عليهم
قال أبو جعفر بن جرير عن الربيع عن أبي العالية : لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم
ومنها : أنه لا يجوز مقابلة أمر الله الذي لا يعلم المأمور به وجه الحكمة فيه بالإنكار وذلك نوع من الكفر فإن القوم لما قال لهم نبيهم : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قابلوا هذا الأمر بقولهم أتتخذنا هزوا فلما لم يعلموا وجه الحكمة في ارتباط هذا الأمر بما سألوه عنه قالوا : أتتخذنا هزوا وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله فإنه أخبرهم عن أمر الله لهم بذلك ولم يكن هو الآمر به ولو كان هو الآمر به لم يجز لمن آمن بالرسول أن يقابل أمره بذلك فلما قال لهم : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين وتيقنوا أن الله سبحانه أمره بذلك أخذوا في التعنت بسؤالهم عن عينها ولونها فلما أخبروا عن ذلك رجعوا إلى السؤال مرة ثالثة عن عينها فلما تعينت لهم ولم يبق إشكال توقفوا في الامتثال ولم يكادوا يفعلون (59/315)
ثم من أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم الآن جئت بالحق فإن أرادوا بذلك : أنك لم تأت بالحق قبل ذلك في أمر البقرة فتلك ردة وكفر ظاهر وإن أرادوا : أنك الآن بيت لنا البيان التام في تعيين البقرة المأمور بذبحها فذلك جهل ظاهر فإن البيان قد حصل بقوله إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فإنه لا إجمال في الأمر ولا في الفعل ولا في المذبوح فقد جاء رسول الله بالحق من أول مرة
قال محمد بن جرير : وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى : الآن جئت بالحق وزعم أن ذلك نفي منهم أن يكون موسى عليه السلام أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك وأن ذلك كفر منهم قال : وليس الأمر كما قال عندنا لأنهم قد أذعنوا بالطاعة بذبحها وإن كان قولهم الذي قالوا لموسى جهلا منهم وهفوة من هفواتهم (59/316)
فصل ومنها : الإخبار عن قساوة قلوب هذه الأمة وغلظها وعدم تمكن
الإيمان فيها قال عبد الصمد بن معقل عن وهب : كان ابن عباس يقول : إن القوم بعد أن أحي الله تعالى الميت فأخبرهم بقاتله أنكروا قتله وقالوا : والله ما قتلناه بعد أن رأوا الآيات والحق قال الله تعالى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة
ومنها : مقابلة الظالم الباغي بنقيض قصده شرعا وقدرا فإن القاتل قصده ميراث المقتول ودفع القتل عن نفسه ففضحه الله تعالى وهتكه وحرمه ميراث المقتول
ومنها : أن بني إسرائيل فتنوا بالبقرة مرتين من بين سائر الدواب ففتنوا بعبادة العجل وفتنوا بالأمر بذبح البقرة والبقر من أبلد الحيوان حتى ليضرب به المثل
والظاهر : أن هذه القصة كانت بعد قصة العجل ففي الأمر بذبح البقرة تنبيه على أن هذا النوع من الحيوان الذي لا يمتنع من الذبح والحرث والسقي لا يصلح أن يكون إلها معبودا من دون الله تعالى وأنه إنما يصلح للذبح والحرث والسقى والعمل
فصل ومن تلاعبه بهذه الأمة أيضا
ما قصه الله تعالى علينا من قصة أصحاب السبت حتى مسخهم قردة لما تحيلوا على استحلال محارم الله تعالى
ومعلوم أنهم كانوا يعصون الله تعالى بأكل الحرام واستباحة الفروج والحرام (59/317)
والدم الحرام وذلك أعظم إثما من مجرد العمل يوم السبت ولكن لما استحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل وتلاعبوا بدينه وخادعوه مخادعة الصبيان ومسخوا دينه بالاحتيال مسخهم الله تعالى قردة وكان الله تعالى قد أباح لهم الصيد في كل أيام الأسبوع إلا يوما واحدا فلم يدعهم حرصهم وجشعهم حتى تعدوا إلى الصيد فيه وساعد القدر بأن عوقبوا بإمساك الحيتان عنهم في غير يوم السبت وإرسالها عليهم يوم السبت وهكذا يفعل الله سبحانه بمن تعرض لمحارمه فإنه يرسلها عليه بالقدر تزدلف إليه بأيها يبدأ فانظر ما فعل الحرص وما أوجب من الحرمان بالكلية ومن ههنا قيل : من طلبه كله فاته كله
فصل ومن تلاعب الشيطان بهم أيضا أنهم لما حرمت عليهم الشحوم
أذابوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها وهذا من عدم فقههم وفهمهم عن الله تعالى دينه فان ثمنها بدل منها فتحريمها تحريم لبدلها والمعاوضة عنها كما أن تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير يتناول تحريم أعيانها وأبدالها (59/318)
ومن تلاعبه بهم أيضا : إتخاذ قبور أنبيائهم مساجد وقد لعنهم رسول اللهAعلى ذلك ولعنته تتناول فعلهم
ومن تلاعبه بهم أيضا : أنهم كانوا يقتلون الأنبياء الذين لا تنال الهداية إلا على أيديهم ويتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى يحرمون عليهم ويحلون لهم فيأخذون بتحريمهم وتحليلهم ولا يلتفتون : هل ذلك التحريم والتحليل من عند الله تعالى أم لا
قال عدي بن حاتم : أتيت رسول اللهA فسألته عن قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فقلت : يا رسول الله ما عبدوهم فقال : حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم رواه الترمذي وغيره
وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالانسان : أن يقتل أو يقاتل من هداه على يديه ويتخذ من لم تضمن له عصمته ندا لله يحرم عليه ويحلل له ومن تلاعبه بهم : ما كان منهم في شأن زكريا ويحيى عليهما السلام وقتلهم لهما حتى سلط الله عليهم بختنصر وسنجاريب وجنودهما فنالوا منهم ما نالوه (59/319)
ثم كان منهم في شأن المسيح ورميه وأمه بالعظائم وهم يعلمون أنه رسول الله تعالى إليهم فكفروا به بغيا وعنادا وراموا قتله وصلبه فصانه الله تعالى من ذلك ورفعه إليه وطهره منهم فأوقعوا القتل والصلب على شبهه وهم يظنون أنه رسول الله عيسىA فانتقم الله تعالى منهم ودمر عليهم أعظم تدمير وألزمهم كلهم حكم الكفر بتكذيبهم بالمسيح كما ألزم النصارى معهم حكم الكفر بتكذيبهم بمحمدA
ولم يزل أمر اليهود بعد تكذيبهم بالمسيح وكفرهم به في سفال ونقص إلى أن قطعهم الله تعالى في الأرض أمما ومزقهم كل ممزق وسلبهم عزهم وملكهم فلم يقم لهم بعد ذلك ملك إلى أن بعث الله تعالى محمداAفكفروا به وكذبوه فأتم عليهم غضبه ودمرهم غاية التدمير وألزمهم ذلا وصغارا لا يرفع عنهم إلى أن ينزل أخوه المسيح من السماء فيستأصل شأفتهم ويطهر الأرض منهم ومن عباد الصليب قال تعالى : بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين
فالغضب الأول : بسبب كفرهم بالمسيح والغضب الثاني : بسبب كفرهم بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما
فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة أن ألقى إليهم أن الرب تعالى
محجور عليه في نسخ الشرائع فحجروا عليه أن يفعل ما يشاء (59/320)
ويحكم ما يريد وجعلوا هذه الشبهة الشيطانية ترسا لهم في جحد نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه و سلم وقرروا ذلك بأن النسخ يستلزم البداء وهو على الله تعالى محال
وقد أكذبهم الله تعالى في نص التوراة كما أكذبهم في القرآن قال الله تعالى : كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
فتضمنت هذه الآيات بيان كذبهم صريحا في إبطال النسخ فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كله كان حلالا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه
ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم اسرائيل وملته وأن الذي كان لهم حلالا إنما هو بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم التي كانت حلالا لبني إسرائيل وهذا محض النسخ
وقوله تعالى : من قبل أن تنزل التوراة أي كانت حلالا لهم قبل نزول التوراة وهم يعلمون ذلك ثم قال تعالى : قل فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين هل تجدون فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما حرمته التوارة عليكم أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم وهي لحوم الإبل وألبانها خاصة وإذا كان إنما حرم هذا وحده وكان ما سواه حلالا له ولبنيه وقد حرمت التوراة كثيرا منه ظهر كذبكم وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع والحجر على الله تعالى في نسخها
فتأمل هذا الموضع الشريف الذي حام حوله أكثر المفسرين وما وردوه
وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام عليهم بأن التوراة حرمت أشياء كثيرة (59/321)
من المناكح والذبائح والأفعال والأقوال وذلك نسخ لحكم البراءة الأصلية فإن هذه المناظرة ضعيفة جدا فإن القوم لم ينكروا رفع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب إذ هذا شأن كل الشرائع وإنما أنكروا تحريم ما أباحه الله تعالى فيجعله حراما أو تحليل ما كان حرمه فيجعله مباحا وأما رفع البراءة والاستصحاب فلم ينكره أحد من أهل الملل
ثم يقال لهذه الأمة الغضبية : هل تقرون أنه كان قبل التوراة شريعة أم لا فهم لا ينكرون أن يكون قبل التوراة شريعة
فيقال لهم : فهل رفعت التوراة شيئا من أحكام تلك الشرائع المتقدمة أم لا
فإن قالوا : لم ترفع شيئا من أحكام تلك الشرائع فقد جاهروا بالكذب
والبهت وإن قالوا : قد رفعت بعض الشرائع المتقدمة فقد أقروا بالنسخ قطعا (59/322)
وأيضا فيقال للأمة الغضبية : هل أنتم اليوم على ما كان عليه موسى عليه السلام فإن قالوا : نعم قلنا : أليس في التوراة أن من مس عظم ميت أو وطيء قبرا أو حضر حضر ميتا عند موته فإنه يصير من النجاسة بحال لا مخرج له منها إلا برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها فلا يمكنهم إنكار ذلك فيقال لهم : فهل أنتم اليوم على ذلك
فإن قالوا : لا نقدر عليه فيقال لهم : لم جعلتم أن من مس العظم والقبر والميت طاهرا يصلح للصلاة والذي في كتابكم خلافه
فإن قالوا : لأنا عدمنا أسباب الطهارة وهي رماد البقرة وعدمنا الإمام المطهر المستغفر
فيقال لهم : فهل أغناكم عدمه عن فعله أو لم يغنكم
فإن قالوا : أغنانا عدمه عن فعله
قيل لهم : قد تبدل الحكم الشرعي من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر
فيقال : وكذلك يتبدل الحكم الشرعي بنسخه لمصلحة النسخ فإنكم إن بنيتم على اعتبار المصالح والمفاسد في الأحكام فلا ريب أن الشيء يكون مصلحة في وقت دون وقت وفي شريعة دون أخرى كما كان تزويج الأخ بالأخت مصلحة في شريعة آدم عليه السلام
ثم صار مفسدة في سائر الشرائع وكذلك إباحة العمل يوم السبت كان مصلحة في شريعة إبراهيم عليه السلام ومن قبله وفي سائر الشرائع ثم صار مفسدة في شريعة موسى عليه السلام وأمثال ذلك كثيرة
وإن منعتم مراعاة المصالح في الأحكام ومنعتم تعليلها بها فالأمر حينئذ أظهر
فإنه سبحانه يحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء والتحليل والتحريم تبع لمجرد مشيئته لا يسأل عما يفعل وإن قلتم : لا نستغني في الطهارة عن ذلك الطهور الذي كان عليه أسلافنا فقد أقررتم بأنكم الأنجاس أبدا ولا سبيل لكم إلى حصول الطهارة (59/323)
فإن قالوا : نعم الأمر كذلك
قيل لهم : فإذا كنتم أنجاسا على مقتضى أصولكم فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام اعتزالا تخرجون فيه إلى حد لو أن أحدكم لمس ثوبه ثوب المرأة نجستموه مع ثوبه
فإن قلتم : ذلك من أحكام التوراة
قيل لكم : ليس في التوراة أن ذلك يراد به الطهارة فإذا كانت الطهارة قد تعذرت عندكم والنجاسة التي أنتم عليها لا ترتفع بالغسل فهي إذا أشد من نجاسة الحيض
ثم إنكم ترون أن الحائض طاهر إذا كانت من غير ملتكم ولا تنحسون من لمسها ولا الثوب الذي تلمسه فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس في التوراة
فصل قالت الأمة الغضبية : التوراة قد حظرت أمورا كانت مباحة من
قبل ولم تأت بإباحة محظور والنسخ الذي ننكره ونمنع منه : هو ما أوجب إباحة محظور لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكداتها ومقرراتها فإذا جاء من أباحه علمنا بإباحة المفسدة : أنه غير نبي بخلاف تحريم ما كان مباحا فإنا نكون متعبدين بتحريمه
قالوا : وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرمته التوراة مع أنه إنما حرم لما فيه من المفسدة
فهذه النكتة هي التي تعتمد عليها الأمة الغضبية ويتلقاها خالف منهم عن سالف
والمتكلمون لم يشفوهم في جوابها وإنما أطالوا معهم الكلام في رفع البراءة الأصلية بالشرائع وفي نسخ الإباحة بالتحريم
ولعمر الله إنه بما يبطل شبهتهم لأن رفع البراءة الأصلية ورفع الإباحة بالتحريم : هو تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابي أو الشرعي بحكم آخر لمصلحة اقتضت تغييره ولا فرق في اقتضاء المصلحة بين تغيير الإباحة بالتحريم أو تغيير التحريم بالإباحة (59/324)
والشبهة التي عرضت لهم في أحد الموضعين هي بعينها في الموضع الآخر فإن إباحة الشيء في الشريعة تابع لعدم مفسدته إذ لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأت الشريعة باباحته فإذا حرمته الشريعة الأخرى وجب قطعا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة كما كان إباحته في الشريعة الأولى هو المصلحة فإن تضمن إباحة الشحوم المحرمة في الشريعة الأولى إباحة المفاسد وحاشا لله تضمن تحريم المباح في الشريعة الأولى تحريم المصالح وكلاهما باطل قطعا
فإذا جاز أن تأتي شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم ومن تقدمه يستبيحه فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان في التوراة محظورا
وهذه الشبهة الباطلة الداحضة هي التي ردت بها الأمة الغضبية نبوة سيدنا محمدA هي بعينها رد بها أسلافهم نبوة المسيح وتوارثوها كافرا عن كافر وقالوا لمحمدA كما قال أسلافهم للمسيح : لا نقر بنبوة من غير شريعة التوراة
فيقال لهم : فكيف أقررتم لموسى بالنبوة وقد جاء بتغيير بعض شرائع من تقدمه فإن قدح ذلك في المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قدح في موسى فلا تقدحون في نبوتهما بقادح (59/325)
إلا ومثله في نبوة موسى سواء كما أنكم لا تثبتون نبوة موسى ببرهان إلا وأضعافه شاهد على نبوة محمدA فمن أبين المحال أن يكون موسى رسولا صادقا ومحمد ليس برسول أو يكون المسيح رسولا ومحمدAليس برسول
ويقال للأمة الغضبية أيضا : لا يخلو المحرم إما أن يكون تحريمه لعينه وذاته بحيث تمنع إباحته في زمان من الأزمنة وإما أن يكون تحريمه لما تضمنه من المفسدة في زمان دون زمان ومكان دون مكان وحال دون حال
فإن كان الأول لزم أن يكون ما حرمته التوراة محرما على جميع الأنبياء في كل زمان ومكان من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء عليهم السلام
وإن كان الثاني ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصالح وإنما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال فيكون الشيء الواحد حراما في ملة دون ملة وفي وقت دون وقت وفي مكان دون مكان وفي حال دون حال وهذا معلوم بالاضطرار من الشرائع ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك
ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لعينه لكان حراما على إبراهيم ونوح وسائر النبيين
وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها لو كان حراما لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبي وفي كل شريعة
وإذا كان الرب تعالى لا حجر عليه بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ويبتلي عباده بما يشاء ويحكم ولا يحكم عليه فما الذي يحيل عليه ويمنعه أن يأمر أمة بأمر من أوامر الشريعة ثم ينهى أمة أخرى عنه أو يحرم محرما على أمة ويبيحه لأمة أخرى
بل أي شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك في الشريعة الواحدة في وقتين مختلفين بحسب المصلحة وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض [ ]
فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء ويثبت (59/326)
فهكذا أحكامه الدينية الأمرية ينسخ منها ما يشاء ويثبت منها ما يشاء فمن أكفر الكفر وأظلم الظلم : أن يعارض الرسول الذي جاء بالبينات والهدى وتدفع نبوته وتجحد رسالته : بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله أو تحريم بعض ما كان مباحا لهم وبالله التوفيق يضل من يشاء ويهدي من يشاء
ومن العجب أن هذه الامة الغضبية تحجر على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه وقد تركوا شريعة موسى عليه السلام في أكثر ما هم عليه وتمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم
فمن ذلك : أنهم يقولون في صلاتهم ما ترجمته هكذا : اللهم اضرب ببوق عظيم لفيفنا واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك سبحانك يا جامع شتات قوم إسرائيل
ويقولون كل يوم ما ترجمته هكذا : أردد حكامنا كالأولين ومسراتنا كالابتداء وابن أو رشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزنا بابتنائها سبحانك ياباني يورشليم
فهذا قولهم في صلاتهم مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئا من ذلك ولكنها فصول لفقوها بعد زوال دولتهم
وكذلك صيامهم كصوم إحراق بيت المقدس وصوم أحصا وصوم كدليا التي جعلوها فرضا لم يصمها موسى ولا يوشع بن نون وكذلك صوم صلب هامان ليس شيء من ذلك في التوراة وإنما وضعوها لأسباب اقتضت وضعها عندهم
هذا مع أن في التوراة ما ترجمته لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا ولا تنقصوا منه شيئا وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدا هم مجمعون على تعطيلها وإلغائها فإما أن تكون منسوخة بنصوص أخرى من التوراة أو بنقل صحيح عن موسى عليه السلام أو باجتهاد (59/327)
علمائهم وعلى التقادير الثلاث فقد بطلت شبهتهم في إنكار النسخ ثم من العجب أن أكبر تلك الأوامر التي هم مجمعون على عدم القول والعمل بها إنما يستندون فيها إلى أقوال علمائهم وأمرائهم وقد اتفقوا على تعطيل الرجم للزاني وهو نص التوراة وتعطيل أحكام كثيرة منصوصة في التوراة ومن تلاعب الشيطان بهم
أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالا وإذا حرموه صار حراما وإن كان نص التوراة بخلافه
وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة فحجروا على الرب تعالى وتقدس أن ينسخ ما يريد من شريعته وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم كما تكبر إبليس أن يسجد لأدم ورأى أن ذلك يغض منه ثم رضي أن يكون قوادا لكل عاص وفاسق
وكما أبى عباد الأصنام أن يكون النبي المرسل إليهم بشرا ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجرا
وكما نزهت النصارى بتاركتهم عن الولد والصاحبة ولم يتحاشوا من نسبة ذلك إلى الله سبحانه وتعالى وكما نزهت الفرعونية من الجهمية الرب سبحانه أن يكون مستويا على عرشه لئلا يلزم الحصر ثم جعلوه سبحانه في الآبار والحانات وأجواف الحيوانات (59/328)
فصل ومن تلاعب الشيطان بهم ما شددوه على أنفسهم في باب الذبائح
وغيرها مما ليس له أصل عن موسى عليه السلام ولا هو في التوراة وإنما هو من أوضاع الحاخاميم وآرائهم وهم فقهاؤهم
ولقد كان لهذه الأمة في قديم الزمان بالشأم والعراق والمدائن مدارس وفقهاء كثيرون وذلك في زمن دولة البابليين والفرس ودولة اليونان والروم حتى اجتمع فقهاؤهم في بعض تلك الدول على تأليف المشنا والتلمود
فأما المشنا فهو الكتاب الأصغر ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة
وأما التلمود فهو الكتاب الأكبر ومبلغه نحو نصف حمل بغل لكبره ولم يكن الفقهاء الذين ألفوه في عصر واحد وإنما ألفوه جيلا بعد جيل فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه وأن في الزيادات المتأخرة ما يناقض أوائل هذا التأليف علموا أنهم إن لم يقطعوا ذلك ويمنعوا من الزيادة فيه أدى إلى الخلل الذي لا يمكن سده قطعوا الزيادة فيه ومنعوا منها وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه وإضافة شيء آخر إليه وحرموا من يضيف إليه شيئا آخر فوقف على ذلك المقدار
وكانت أئمتهم قد حرموا عليهم في هذين الكتابين مؤاكلة الأجانب وهم من كان على غير ملتهم فحرموا عليهم الأكل من ذبيحة من لم يكن على دينهم لأن علماءهم علموا أن دينهم لا يبقى في هذه الجلوة مع كونهم تحت الذل والعبودية إلا أن يصدوهم عن مخالطة من هو على غير ملتهم فحرموا عليهم الأكل من ذبائحهم ومناكحتهم ولم يمكن تقرير ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم ويكذبون بها على الله تعالى لأن التوراة إنما حرمت عليهم (59/329)
مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يوافقوا الأزواج في عبادة الأصنام والشرك وحرم عليهم في التوراة أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قربانا إلى الأصنام لأنه قد سمي عليها اسم غير الله تعالى فأما الذبائح التي لم تذبح قربانا للأصنام فلم تنطق التوراة بتحريمها وإنما نطقت بإباحة الأكل من أيدي غيرهم من الأمم وموسى عليه السلام إنما نهاهم عن مناكحة عباد الأصنام وأكل ما يذبحونها على اسمها
فما بال هؤلاء لا يأكلون من ذبائح المسلمين وهم لا يذبحون للأصنام ولا يذكرون اسمها عليها
فلما نظر أئمتهم إلى أن التوراة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عباد الأصنام وأن التوراة قد صرحت بأن تحريم مواكلتهم ومخالطتهم خوف استدارج المخالطة إلى المناكحة وأن مناكحتهم إنما منع منها خوف استتباعها إلى الانتقال إلى أديانهم وعبادة أوثانهم ووجدوا جميع هذا واضحا في التوراة اختلقوا كتابا في علم الذباحة ووضعوا فيه من التشديد والآصار والأغلال ما شغلوهم به عما هم فيه من الذل والمشقة
وذلك أنهم أمروهم أن ينفخوا الرئة حتى يملؤها هواء ويتأملوها هل يخرج الهواء من ثقب منها أم لا فإن خرج منها الهواء حرموها وإن كان بعض أطراف الرئة لاصقا ببعض لم يأكلوه وأمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة ويتأمل بأصابعه فإن وجد القلب ملتصقا إلى الظهر أو أحد الجانبين ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة حرموه ولم يأكلوه وسموه طريفا يعنون بذلك أنه تنجس وأكله حرام (59/330)
وهذه التسمية هي أصل بلائهم
وذلك أن التوراة حرمت عليهم أكل الطريفا والطريفا : هي الفريسة التي يفترسها الأسد أو الذئب أو غيرها من السباع وهو الذي عبر عنه القرآن بقوله تعالى : وما أكل السبع
والدليل على ذلك : أنه قال في التوراة : ولحما في الصحراء فريسة لا تأكلوه وللكلب ألقوه
وأصل لفظ طريفا طوارف وقد جاءت هذه اللفظة في التوراة في قصة يوسف عليه السلام لما جاء إخوته على قميصه بدم كذب وزعموا أن الذئب افترسه وقال في الترواة : ولحما في الصحراء فريسة لا تأكلوا والفريسة إنما توجد غالبا في الصحراء وكان سبب نزول هذا عليهم : أنهم كانوا ذوي أخبية يسكنون البر لأنهم مكثوا يترددون في التيه أربعين سنة وكانوا لا يجدون طعاما إلا المن والسلوى وهو طائر صغير يشبه السمان وفيه من الخاصية : أن أكل لحمه يلين القلب ويذهب بالخنزوانه والقساوة فإن هذا الطائر يموت إذا سمع صوت الرعد كما أن الخطاف يقتله البرد فألهمه الله سبحانه وتعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون بها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض فجلب الله تعالى إليهم هذا الطائر لينتفعوا به ويكون اغتذاؤهم به كالدواء لغلظ قلوبهم وقسوتها (59/331)
والمقصود : أن مشايخهم تعدوا في تفسير الطريفا عن موضوعها وما أريد بها وكذلك فقهاؤهم اختلقوا من أنفسهم هذيانات وخرافات تتعلق بالرئة والقلب وقالوا : ما كان من الذبائح سليما من تلك الشروط فهو دحيا ومعنى هذه اللفظة أنه طاهر وما كان خارجا عن هذه الشروط فهو طريفا وتفسيرها : أنه حرام
قالوا : ومعنى نص التوراة ولحما فريسة في الصحراء لا تأكلوه وللكلب ألقوه أي إنكم إذا ذبحتم ذبيحة ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها بل تبيعونها على من ليس من أهل ملتكم
وفسروا قوله للكلب ألقوه أي لمن ليس من أهل ملتكم فأطعموه وبيعوه وهم أحق بهذا اللقب وأشبه الناس بالكلاب [ فرقتا اليهود ]
ثم إن هذه الأمة الغضبية فرقتان إحداهما : عرفوا أن أولئك السلف الذين ألفوا المشنا والتلمود هم فقهاء اليهود وهم قوم كذابون على الله وعلى موسى النبي وهم أصحاب حماقات وتنطع ودعاوى كاذبة يزعمون أنهم كانوا إذا اختلفوا في شيء من تلك المسائل يوحى الله تعالى إليهم بصوت يسمعه جمهورهم يقول : الحق في هذه المسألة مع الفقيه فلان ويسمون هذا الصوت بث قول فلما نظرت اليهود القراءون وهم أصحاب عانان وبنيامين إلى هذه المحالات الشنيعة وهذا الافتراء الفاحش والكذب البارد وانفصلوا بأنفسهم عن الفقهاء وعن كل من يقول بمقالاتهم وكذبوهم في كل ما افتروا به على الله وزعموا أنه لا يجوز قبول شيء من أقوالهم حيث ادعوا النبوة وأن الله تعالى كان يوحي إليهم كما يوحي إلى الأنبياء (59/332)
وأما تلك الترهات التي ألفها الحاخاميم وهم فقهاؤهم ونسبوها إلى التوراة وإلى موسى فإن القرائين أطرحوها كلها وألقوها ولم يحرموا شيئا من الذبائح التي يتولون ذباحتها البته ولم يحرموا سوى لحم الجدي بلبن أمه فقط
مراعاة لنص التوراة لا تنضج الجدي بلبن أمه وليسوا بأصحاب قياس بل أصحاب ظاهر فقط وأما الفرقة الثانية فهم الربانون وهم أصحاب القياس وهم أكثر عددا من القرائين وفيهم الحاخاميم المفترون على الله تعالى الكذب الذين زعموا أن الله تعالى كان يخاطب جميعهم في كل مسألة مسألهبالصوت الذي يسمونه بث قول
وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم لأن حاخاميمهم أوهموهم أن المأكولات إنما تحل للناس إن استعملوا فيها هذا العلم الذي نسبوه إلى موسى عليه السلام وإلى الله تعالى وأن سائر الأمم لا يعرفون هذا وأنهم إنما شرفهم الله تعالى بهذا وأمثال ذلك من الترهات فصار أحدهم ينظر إلى من ليس على مذهبه وملته كما ينظر إلى الحيوان الهيم وينظر مآكل الأمم وذبائحهم كما ينظر إلى العذرة
وهذا من كيد الشيطان لهم ولعبه بهم فإن الحاخاميم قصدوا بذلك المبالغة في مخالفتهم الأمم والإزراء عليهم ونسبتهم إلى قلة العلم وأنهم اختصوا دون الأمم بهذه الآصار والأغلال والتشديدات
وكلما كان الحاخاميم فيهم أكثر تكلفا وأشد إصرا وأكثر تحريما قالوا : هذا هو العالم الرباني
ومما دعاهم إلى التضييق والتشديد : أنهم مبددون في شرق الأرض وغربها فما من جماعة منهم في بلدة إلا إذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة يظهر لهم الخشونة في دينهم والمبالغة في الاحتياط فإن كان من المتفقهة فهو يسرع في إنكار أشياء عليهم ويوهمهم التنزه عما هم عليهم وينسبهم إلى قلة الدين وينسب ما ينكره عليهم إلى مشايخه وإلى أهل بلده (59/333)
ويكون في أكثر تلك الأشياء كاذبا وقصده بذلك إما الرياسة عليهم وإما تحصيل بعض مآربه منهم ولا سيما إن أراد المقام عندهم
فتراه أول ما ينزل بهم لا يأكل من أطعمتهم ولا من ذبائحهم ويتأمل سكين ذابحهم وينكر عليهم بعض أمره ويقول : أنا لا آكل إلا من ذبيحة يدي فتراهم معه في عذاب لا يزال ينكر عليهم المباح ويوهمهم تحريمه بأشياء يخترعها حتى لا يشكون في ذلك
فإن قدم عليهم قادم آخر فخاف المقيم أن ينقض عليه القادم تلقاه وأكرمه وسعى في موافقته وتصديقه فيستحسن مافعله الأول ويقول لهم : لقد عظم الله تعالى ثواب فلان إذ قوى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة وشد سياج الشرع عندهم وإذا لقيه يظهر من مدحه وشكره والدعاء له ما يؤكد أمره
وإن كان القادم الثاني منكرا لما جاء به الأول من التشديد والتضييق لم يقع عندهم بموقع وينسبونه إما إلى الجهل وإما إلى رقة الدين لأنهم يعتقدون أن تضييق المعيشة وتحريم الحلال هو المبالغة في الدين
وهم أبدا يعتقدون الصواب والحق مع من يشدد ويضيق عليهم هذا إن كان القادم من فقهائهم
فأما إن كانوا من عبادهم وأحبارهم فهناك ترى العجب العجاب من الناموس الذي يعتمد والسنن التي يحدثها ويلحقها بالفرائض فتراهم مسلمين له منقادين وهو يحتلب درهم ويجتلب درهمهم حتى إذا بلغه أن يهوديا جلس على قارعة الطريق يوم السبت أو اشترى لبنا من مسلم ثلبه وسبه في مجمع اليهود وأباح عرضه ونسبه إلى قلة الدين (59/334)
فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية أنهم إذا رأوا الأمر أو
النهي مما أمروا به أو نهوا عنه شاقا عليهم طلبوا التخلص منه بوجوه الحيل فإن أعيتهم الحيل قالوا : هذا كان علينا لما كان لنا الملك والرياسة
فمن ذلك : أنهم إذا أقام أخوان في موضع واحد ومات أحدهما ولم يعقب ولدا فلا تخرج امرأة الميت إلى رجل أجنبي بل ولد حميها ينكحها وأول ولد ممن ينكحها ينسب إلى أخيه الدارج فإن أبى أن ينكحها خرجت مشتكية منه إلى مشيخة قومه تقول : قد أبى ابن حمي أن يستبقى اسما لأخيه في إسرائيل ولم يرد نكاحي فيحضره الحاكم هناك ويكلفه أن يقف ويقول : ما أردت نكاحها فتتناول المرأة نعله فتخرجها من رجله وتمسكها بيدها وتبصق في وجهه وتنادي عليه : كذا فليصنع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه ويدعى فيما بعد : بالمخلوع النعل وينبز بنوه ببني مخلوع النعل
هذا كله مفترض عليهم فيما يزعمون في التوراة وفيه حكمة ملجئة للرجل إلى نكاح زوجة أخيه الدارج فإنه إذا علم أن ذلك يناله إن لم ينكحها آثر نكاحها عليه فإن كان مبغضا لها زهدا في نكاحها أو كانت هي زاهدة في نكاحه مبغضة له استخرج له الفقهاء حيلة يتخلص بها منها وتتخلص منه فيلزمونها الحضور عند الحاكم بمحضر من مشايخهم ويلقنونها أن تقول : أبى ابن حمى أن يقيم لأخيه اسما في إسرائيل لم يرد نكاحي فيلزمونها بالكذب عليه لأنه أراد نكاحها وكرهته وإذا لقنوها هذه الألفاظ قالتها فيأمرونه بالكذب وأن يقوم ويقول : ما أرت نكاحها ولعل ذلك سؤله وأمنيته فيأمرونه بأن يكذب ولم يكفهم أن كذبوا عليه وألزموه أن يكذب حتى سلطوها على الإخراق به والبصاق في وجهه ويسمون هذه المسألة البياما والجالوس
وقد تقدم من التنبيه على حيلهم في استباحتهم محارم الله تعالى بعض ما فيه كفاية
فالقوم بيت الحيل والمكر والخبث
وقد كانوا يتنوعون في عهد رسول اللهAبأنواع الحيل والكيد والمكر عليه وعلى أصحابه ويرد الله سبحانه وتعالى ذلك كله عليهم
فتحيلوا عليه وأرادوا قتله مرارا والله تعالى ينجيه من كيدهم (59/335)
فتحيلوا عليه وصعدوا فوق سطح وأخذوا رحا أرادوا طرحها عليه وهو جالس في ظلحائط فأتاه الوحي فقام منصرفا وأخذ في حربهم وإجلائهم
ومكروا به وظاهروا عليه أعدائه من المشركين فظفره الله تعالى بهم
ومكروا به وأخذوا في جمع العدو له فظفره الله تعالى برئيسهم فقتله
ومكروا به وأرادوا قتله بالسم فأعلمه الله تعالى به ونجاه منه (59/336)
ومكروا به فسحروه حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله فشفاه الله تعالى وخلصه
ومكروا به في قولهم : آمنوا به وجه النهار واكفروا آخره يريدون بذلك تشكيك المسلمين في نبوته فإنهم إذا اسلموا اول النهار إطمأن المسلمون إليهم وقالوا : قد اتبعوا الحق وظهرت لهم أدلته فيكفرون آخر النهار ويجحدون نبوته ويقولون : لم نقصد إلا الحق واتباعه فلما تبين لنا أنه ليس به رجعنا عن الإيمان به
وهذا من أعظم خبثهم ومكرهم
ولم يزالوا موضعين مجتهدين في المكر والخبث إلى أن أخزاهم الله بيد رسوله وأتباعه صلى الله عليه و سلمورضي عنهم أعظم الخزي ومزقهم كل ممزق وشتت شملهم كل مشتت
وكانوا يعاهدونه عليه الصلاة و السلام ويصالحونه فإذا خرج لحرب عدوه نقضوا عهده
ولما سلب الله تعالى هذه الأمة ملكها وعزها وأذلها وقطعهم في الأرض انتقلوا من التدبير بالقدرة والسلطان إلى التدبير بالمكر والدهاء والخيانة والخداع وكذلك كل عاجز جبان سلطانه في مكره وخداعه وبهته وكذبه ولذلك كان النساء بيت المكر والخداع والكذب والخيانة كما قال الله تعالى عن شاهد يوسف عليه السلام أنه قال : إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة
أنهم يمثلون أنفسهم بعناقيد الكرم وسائر الأمم بالشوك المحيط بأعالي حيطان الكرم (59/337)
وهذا من غاية جهلهم وسفههم فإن المعتنين بمصالح الكرم إنما يجعلون على أعالي حيطانه الشوك حفظا له وحياطة وصيانة ولسنا نرى لليهود من سائر الأمم إلا الضرر والذل والصغار كما يفعل الناس بالشوك ومن تلاعبه بهم أنهم ينتظرون قائما من ولد داود النبي إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم وأن هذا المنتظر يزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به
وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال فهم أكثر أتباعه وإلا فمسيح الهدى عيسى بن مريم عليه السلام يقتلهم ولا يبقي منهم أحدا
والأمم الثلاث تنتظر منتظرا يخرج في آخر الزمان فإنهم وعدوا به في كل ملة والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى بن مريم من السماء لكسر الصليب وقتل الخنزير وقتل اعدائه من اليهود وعباده من النصارى وينتظرون خروج المهدي من أهل بيت النبوة يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا
فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية أنهم في العشر الأول من
الشهر الأول من كل سنة يقولون في صلاتهم : لم تقول الأمم : أين إلههم انتبه كم تنام يا رب استيقظ من رقدتك
وهؤلاء إنما أقدموا على هذه الكفريات من شدة ضجرهم من الذل والعبودية وانتظار فرج لا يزداد منهم إلا بعدا فأوقعهم ذلك في الكفر والتزندق الذي لا يستحسنه إلا أمثالهم وتجرؤا على الله سبحانه وتعالى بهذه المناجاة القبيحة كأنهم ينخونه بذلك لينتخي لهم ويحمي لنفسه فكأنهم يخبرونه سبحانه وتعالى بأنه قد اختار الخمول لنفسه ولأحبابه ولأبناء أنبيائه فينخونه للنباهة واشتهار الصيت (59/338)
فترى أحدهم إذا تلا هذه الكلمات في الصلاة يقشعر جلده ولا يشك أن هذه المناجاة تقع عند الله تعالى بموقع عظيم وأنها تؤثر فيه وتحركه وتهره وتنخيه ومن ذلك : أنهم ينسبون إلى الله سبحانه وتعالى الندم على الفعل فمن ذلك : قولهم في التوراة التي بأيديهم : وندم الله سبحانه وتعالى على خلق البشر الذين في الأرض وشق عليه وعاد في رأيه
وذلك عندهم في قصة قوم نوح
وزعموا أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لما رأى فساد قوم نوح وأن شركهم وكفرهم قد عظم ندم على خلق البشر
وكثير منهم يقول : إنه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وأنه عض على أنامله حتى جرى الدم منها
وقالوا أيضا : إن الله تعالى ندم على تمليكه شاؤول على بني إسرائيل وأنه قال ذلك لشمويل
وعندهم أيضا : أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة بدأ ببناء مذبح لله تعالى وقرب عليه قرابين وأن الله تعالى استنشق رائحة القتار فقال الله تعالى في ذاته : لن أعاود لعنة الأرض بسبب الناس لأن خاطر البشر مطبوع على الرداءة ولن أهلك جميع الحيوان كما صنعت
وقد واجهوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بأمثال هذه الكفريات
فقال قائل منهم للنبي صلى الله عليه و سلم إن الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح فشق ذلك على النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (59/339)
وتأمل قوله تعالى عقيب ذلك : فاصبر على ما يقولون فإن أعداء الرسولAنسبوه إلى ما لا يليق به وقالوا فيه ما هو منزه عنه فأمره الله سبحانه وتعالى أن يصبر على قولهم ويكون له أسوة بربه سبحانه وتعالى حيث قال أعداؤه فيه مالا يليق
وكذلك قال فنحاص لأبي بكر رضي الله عنه : إن الله فقير ونحن أغنياء ولهذا استقرضنا من أموالنا فأنزل الله سبحانه وتعالى : لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن اغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق [ ]
وقالوا أيضا يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ويقولون في العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة : يا إلهنا وإله آبائنا املك على جميع أهل الأرض ليقول كل ذي نسمة : الله إله إسرائيل قد ملك ومملكته في الكل متسلطة
ويقولون في هذه الصلاة أيضا : وسيكون لله تعالى الملك وفي ذلك اليوم يكون الله تعالى واحدا واسمه واحدا
ويعنون بذلك : أنه لا يظهر الملك لله تعالى إلا إذا صارت الدولة لليهود الذين هم صفوته (59/340)
وأمته فأما ما دامت الدولة لغير اليهود فإنه سبحانه وتعالى خامل الذكر عند الأمم مطعون في ملكه مشكوك في قدرته
فصل ومن تلاعب الشيطان بهم
أنهم يقولون بالقدح في الأنبياء وأذيتهم
وقد أذوا موسى عليه السلام في حياته ونسبوه إلى ما برأه الله تعالى منه ونهى الله سبحانه هذه الأمة عن الاقتداء بهم في ذلك حيث يقول يا أيها الذين ا منوا لا تكونوا كالذين ا ذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها
وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيAقال : كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالت بنو إسرائيل : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه ا در فذهب موسى يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال : فجمح موسى بأثره يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى وقالوا : والله ما بموسى من بأس فقال الحجر حتى نظر إليه بنو إسرائيل وأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضربا قال أبو هريرة : والله إن بالحجر لندبا ستة أو سبعة من أثر ضرب موسى الحجر وأنزل الله تعالى هذه الا ية يا أيها الذين ا منوا لا تكونوا كالذين ا ذوا موسى فبرأه الله مما قالوا الآية
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد قالت بنو إسرائيل : إن موسى ا در وقالت طائفة : هو أبرص من شدة تستره
وقال ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبيA كان موسى حييا ستيرا لا يكاد يرى من جلده شيء استحياء منه فا ذاه من ا ذاه من بني إسرائيل وقالوا : ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة وإما ا فة وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا وذكر الحديث (59/341)
وقال سفيان بن حسين عن الحكم عن ابن جبير عن ابن عباس عن على بن أبي طالب في قوله تعالى : لا تكونوا كالذين آذوا موسى قال : صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل : أنت قتلته وكان أشد حبا لنا منك وألين لنا منك وآذوه بذلك فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات فبرأه الله تعالى من ذلك فانطلقوا به فدفنوه فلم يطلع على قبره أحد من خلق الله تعالى إلا الرخم فجعله الله تعالى أصم أبكم
وقال الله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم
وتأمل قوله : وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فإنها جملة في موضع الحال أي أتؤذونني وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم وذلك أبلغ في العناد
وكذلك المسيح قال : يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين
فهذا قليل من كثير من أذاهم لأنبيائهم
وأما أذاهم لهم بالقتل والبغي فأشهر من أن يذكر
ولقد بالغوا في أذى النبي صلى الله عليه و سلم بجهدهم بالقول والفعل حتى ردهم الله تعالى خاسئين
ومن قدحهم في الأنبياء : ما نسبوه إلى نص التوراة
أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها ونجى لوطا بابنتيه فقط ظن ابنتاه أن الأرض قد (59/342)
خلت ممن يستبقين منه نسلا فقالت الصغرى للكبرى : إن أبانا شيخ ولم يبق في الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر فهلمي نسقي أبانا خمرا ونضاجعه لنستبقي من أبينا نسلا ففعلتا ذلك بزعمهم
فنسبوا لوطا النبي عليه السلام إلى أنه سكر حتى لم يعرف ابنتيه ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما فولدت إحداهما ولدا أسمته مواب يعني أنه من الأب والثانية سمت ولدها بني عمو يعني أنه من قبيلها
وقد أجاب بعضهم عن هذا : بأنه كان قبل نزول التوراة فلم يكن نكاح الأقارب حراما والتوراة تكذبهم
فإن فيها أن إبراهيم الخليل خاف في ذلك العصر أن يقتله المصريون حسدا له على زوجته سارة فأخفى نكاحها وقال : هي أختي علما منه بأنه إذا قال ذلك لم يبق للظنون إليهما سبيل
وهذا أظهر دليل على أن تحريم نكاح الأخت كان ثابتا في ذلك الزمان فما ظنك بنكاح البنت الذي لم يشرع ولا في زمن آدم عليه السلام
وعندهم أيضا في التوراة التي بأيديهم : قصة أعجب من هذه
وهي أن يهوذا بن يعقوب النبي زوج ولده الأكبر من امرأة يقال لها تامار فكان يأتيها مستدبرا فغضب الله تعالى من فعله فأماته فزوجها يهوذا من ولده الآخر فكان إذا دخل بها أنزل على الأرض علما منه بأنه إن أولدها كان أول الأولاد مدعوا باسم أخيه ومنسوبا إلى أخيه فكره الله تعالى ذلك من فعله فأماته أيضا فأمرها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر ولده شبلا ويتم عقله حذرا من أن يصيبه ما أصاب أخويه فأقامت في بيت أبيها ثم ماتت من بعد زوجة يهوذا وصعد إلى منزل [ يقال له تمناث ] ليحرس غنمه فلما أخبرت المرأة تامار بإصعاد حموها إلى المنزل لبست زي الزواني وجلست في مستشرف على طريقه لعلمها بشبقه فلما مر بها خالها زانية فراودها فطالبته بالأجرة فوعدها بجدى ورهن عندها عصاه وخاتمه ودخل بها فعلقت منه فلما أخبر يهوذا أن كنته علقت من الزنا أذن (59/343)
بإحراقها فبعثت إليه بخاتمه وعصاه فقالت : من رب هذين أنا حامل فقال : صدقت ومني ذلك واعتذر بأنه لم يعرفها ولم يستحل معاودتها ولا تسليمها إلى ولده وعلقت من هذا الزنا بفارص قالوا : ومن ولدها داود النبي
ففي ذلك من نسبتهم الزنا والكفر إلى بيت النبوة ما يقارب ما نسبوه إلى لوط عليه السلام
وهذا كله عندهم وفي نص كتابهم وهم يجعلون هذا نسبا لداود وسليمان عليهما السلام ولمسيحهم المنتظر ومن العجب : أنهم يجعلون المسلمين أولاد زنا ويسمونهم ممزيريم واحدهم ممزير وهو اسم لولد الزنا لأن شرعهم أن الزوج إذا راجع زوجته بعد أن نكحت زوجا غيره فأولادهما أولاد زنا وزعموا أن ما جاءت به شريعة الإسلام من ذلك هو من موضوعات عبدالله بن سلام قصد به أن يجعل أولاد المسلمين ممزيريم بزعمهم
قالوا : وكان محمدAقد رأى أحلاما تدل على أنه صاحب دولة فسافر إلى الشام في تجارة لخديجة واجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه فعلموا أنه صاحب دولة فأصحبوه عبدالله بن سلام فقرأ عليه علوم التوراة وفقهها مدة ونسبوا الفصاحة والإعجاز اللذين في القرآن إلى عبدالله بن سلام وأن من جملة ما دبره عبدالله بن سلام : أن الزوجة لا تحل للمطلق ثلاثا إلا بعد أن ينكحها رجل آخر ليجعل أولاد المسلمين ممزيريم أولاد زنا
ولا ريب أن مثل هذا البهت يروج على كثير من حميرهم
وقد خلق الله تعالى لكل باطل وبهت حملة كما جعل للحق حملة وليس وراء هذا البهت بهت
وليس بمستنكر من أمة قدحت في معبودها وإلهها ونسبته إلى ما لا يليق بعظمته وجلاله ونسبت أنبياءه إلى ما لا يليق بهم ورمتهم بالعظائم : أن ينسبوا محمداA (59/344)
وبجل وكرم وعظم إلى ذلك وعداوته لهم وملاحمه فيهم وإجلاؤه لهم من ديارهم وأموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم : معلوم غير مجهول
وقد نسبت هذه الأمة الغضبية عيسى ابن مريم إلى أنه ساحر ولد بغية ونسبت أمه إلى الفجور
ونسبت لوطا إلى أنه وطىء ابنتيه وأولدهما وهو سكران من الخمر
ونسبوا سليمان عليه السلام إلى أنه كان ملكا ساحرا وكان أبوه عندهم ملكا مسيحا
ونسبوا يوسف عليه السلام إلى أنه حل تكة سراويله وتكة سراويل سيدته وأنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته وأن الحائط انشق له فرأى أباه يعقوب عليه السلام عاضا على أنامله فلم يقم حتى نزل جبريل عليه السلام فقال : يا يوسف تكون من الزناة وأنت معدود عند الله تعالى من الأنبياء فقام حينئذ
ومعلوم أن ترك الفاحشة عن هذا لا مدح فيه فإن أفسق الناس لو رأى هذا لولى هاربا وترك الفاحشة
ومنهم من يزعم أن المسيح كان من العلماء وأنه كان يداوى المرضى بالأدوية ويوهمهم أن الانتفاع إنما حصل لهم بدعائهم وأنه داوى جماعة من المرضى في يوم السبت فأنكرت عليه اليهود ذلك فقال لهم : أخبروني عن الشاة من الغنم إن وقعت في بئر أما تنزلون إليها وتحلون السبت لتخليصها قالوا : بلى قال : فلم أحللتم السبت لتخليص الغنم ولا تحلونه لتخليص الإنسان الذي هو أكبر حرمة من الغنم فأفحموا (59/345)
ويحكون أيضا عنه : أنه مشى مع قوم من تلاميذه في جبل ولم يحضرهم الطعام فأذن لهم في تناول الحشيش يوم السبت فأنكرت عليه اليهود قطع الحشيش في يوم السبت فقال لهم : أرأيتم لو أن أحدكم كان وحيدا مع قوم على غير ملته وأمروه بقطع النبات وإلقائه لدوابهم لا يقصدون بذلك إبطال السبت ألستم تجيزون له قطع النبات قالوا : بلى قال : فإن هؤلاء القوم أمرتهم بقطع النبات ليأكلوه وليتغذوا به لا لقطع السبت
ومن العجب : أن عندهم في التوراة التي بأيديهم : لا يزول الملك من آل يهوذا والراسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح وهم لا يقدرون أن يجحدوا ذلك
فيقال لهم : إنكم كنتم أصحاب دولة حتى ظهر المسيح ثم انقضى ملككم ولم يبق لكم اليوم ملك وهذا برهان على أن المسيح قد أرسل
ومن حين بعث المسيح وكفروا به وطلبوا قتله استولت ملوك الروم على اليهود وبيت المقدس وانقضت دولتهم وتفرق شملهم
فيقال لهم : ما تقولون في عيسى بن مريم
فيقولون : إنه ولد يوسف النجار لغية لا لرشدة وقد كان عرف اسم الله الأعظم يسخر به كثيرا من الأشياء
وعند هذه الأمة الغضبية أيضا : أن الله تعالى كان قد أطلع موسى عليه السلام على الاسم المركب من اثنين وأربعين حرفا وبه شق البحر وعمل المعجزات فيقال لهم : فإذا كان موسى قد عمل المعجزات باسم الله فلم صدقتم نبوته وأقررتم بها وجحدتم نبوة عيسى وقد عمل المعجزات بالاسم الأعظم (59/346)
فأجاب بعضهم عن الإلزام : بأن الله سبحانه وتعالى علم موسى ذلك الاسم فعلمه بالوحي وعيسى إنما تعلم من حيطان بيت المقدس
وهذا هو اللائق ببهتهم وكذبهم على الله تعالى وأنبيائه وهو يسد عليهم العلو بنبوة موسى لأن كلا الرسولين اشتركا في المعجزات والآيات الظاهرة التي لا يقدر أحد أن يأتي بمثلها فإن كان أحدهما قد تعلمها بحيلة أو بعلم فالآخر يمكن ذلك في حقه وقد أخبرا جميعا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أجرى ذلك على أيديهما وأنه ليس من صنعهما فتكذيب أحدهما وتصديق الآخر تفريق بين المتماثلين
وأيضا فإنه لا دليل لهم على أن موسى تلقى تلك المعجزات عن الله تعالى إلا وهو يدل على أن عيسى عليه السلام تلقاها أيضا عن الله تعالى فإن أمكن القدح في معجزات عيسى أمكن القدح في معجزات موسى عليه السلام وإن كان ذلك باطلا فهذا أيضا باطل
وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين مع بعد العهد وتشتت شمل أمتيهما في الأرض وانقطاع معجزاتهما فما الظن بنبوة من معجزاته وآياته تزيد على الألف والعهد بها قريب وناقلوها أصدق الخلق وأبرهم ونقلها ثابت بالتواتر قرنا بعد قرن وأعظمها معجزة كتاب باق غض طري لم يتغير ولم يتبدل منه شيء بل كأنه منزل الآن وهو القرآن العظيم وما أخبر به يقع كل وقت على الوجه الذي أخبر به كأنه كان يشاهده عيانا
فصل ولا يمكن ألبتة أن يؤمن يهودي بنبوة موسى عليه السلام إن لم
يؤمن بنبوة محمدA ولا يمكن نصرانيا أن يقر بنبوة المسيح إلا بعد إقراره بنبوة محمدA (59/347)
وبيان ذلك : أن يقال لهاتين الأمتين :
أنتم لم تشاهدوا هذين الرسولين ولا شاهدتم آياتهما وبراهين نبوتهما فكيف يسع العاقل أن يكذب نبيا ذا دعوة سابقة وكلمة قائمة وآيات باهرة ويصدق من ليس مثله ولا قريبا منه في ذلك لأنه لم ير أحد النبيين ولا شاهد معجزاته فإذا كذب بنبوة أحدهما لزمه التكذيب بنبوتهما وإن صدق بأحدهما لزمه التصديق بنبوتهما فمن كفر بنبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم ولم ينفعه إيمانه به قال الله تعالى : إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما وقال تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلك آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله فنقول للمغضوب عليه : هل رأيت موسى وعاينت معجزاته فبالضرورة يقول : لا فنقول له : بأي شيء عرفت نبوته وصدقه فله جوابان : أحدهما : أن يقول : أبي عرفني ذلك وأخبرنى به (59/348)
والثاني : أن يقول : التواتر وشهادات الأمم حقق ذلك عندي كما حققت شهادتهم وجود البلاد النائية والبحار والأنهار المعروفة وإن لم أشاهدها ! فإن اختار الجواب الأول وقال : إن شهادة أبي وإخباره إياى بنبوة موسى هي سبب تصديقى بنبوته
قلنا له : ولم كان أبوك عندك صادقا في ذلك معصوما عن الكذب وأنت ترى الكفار يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك فإذا كنت ترى الأديان الباطلة والمذاهب الفاسدة قد أخذها أربابها عن آبائهم كأخذك مذهبك عن أبيك وأنت تعلم أن الذي هم عليه ضلال فلزمك أن تبحث عما أخذته عن أبيك خوفا أن تكون هذه حاله
فإن قال : إن الذي أخذته عن أبي أصح من الذي أخذه الناس عن آبائهم كفاه معارضة غيره له بمثل قوله
فإن قال : أبي أصدق من آبائهم وأعرف وأفضل عارضه سائر الناس في آبائهم بنظير ذلك فإن قال : أنا أعرف حال أبي ولا أعرف حال غيره قيل له : فما يؤمنك أن يكون غير أبيك أصدق من أبيك وأفضل وأعرف وبكل حال : فإن كان تقليد أبيه حجة صحيحة كان تقليد غيره لأبيه كذلك وإن كان ذلك باطلا كان تقليده لأبيه باطلا
فإن رجع عن هذا الجواب واختار الجواب الثاني وقال : إنما علمت نبوة موسى بالتواتر قرنا بعد قرن فإنهم أخبروا بظهوره وبمعجزاته وآياته وبراهين نبوته التي تضطرني إلى تصديقه
فيقال له : لا ينفعك هذا الجواب لأنك قد أبطلت ما شهد به التواتر من نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام
فإن قلت : تواتر ظهور موسى ومعجزاته وآياته ولم يتواتر ذلك في المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قيل لك هذا هو اللائق ببهت الأمة الغضبية فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قوم بهت وإلا فمن المعلوم أن الناقلين لمعجزات المسيح ومحمدAأضعاف أضعافكم بكثير والمعجزات التي شاهدها أوائلهم لا تنقص عن المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن وأنت لا تقبل (59/349)
خبر التواتر في ذلك وترد ه فيلزمك أن لا تقربه في أمر موسى عليه السلام
ومن المعلوم بالضرورة : أن من أثبت شيئا ونفى نظيره فقد تناقض وإذا اشتهر النبيA في عصر وصحت نبوته في ذلك العصر بالآيات التي ظهرت عليه لأهل عصره ووصل خبره إلى أهل عصر آخر وجب عليهم تصديقه والإيمان به وموسى ومحمد والمسيح في هذا سواء ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمد لأن الأمة الغضبية قد مزقها الله تعالى كل ممزق وقطعها في الأرض وسلبها ملكها وعزها فلا عيش لها إلا تحت قهر سواها من الأمم لها بخلاف أمة عيسى عليه السلام فإنها قد انتشرت في الأرض وفيهم الملوك ولهم الممالك وأما الحنفاء فممالكهم قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها وملأوا الدنيا سهلا وجبلا فكيف يكون نقلهم لما نقلوه كذبا ونقل الأمة الغضبية الخاملة القليلة الزائلة صدقا !
فثبت أنه لا يمكن يهوديا على وجه الأرض أن يصدق بنبوة موسى عليه السلام إلا بتصديقه وإقراره بنبوة محمدA ولا يمكن نصرانيا ألبتة الإيمان بالمسيح عليه السلام إلا بعد الإيمان بمحمدA
ولا ينفع هاتين الأمتين شهادة المسلمين بنبوة موسى والمسيح لأنهم آمنوا بهما على يد محمدA وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد وبما جاء به فلولاه ما عرفنا نبوتهما ولا آمنا بهما
ولا سيما فإن أمة الغضب والضلال ليس بأيديهم عن أنبيائهم ما يوجب الإيمان بهم فلولا القرآن ومحمدAما عرفنا شيئا من آيات الأنبياء المتقدمين فمحمدAوكتابه هو الذي قرر نبوة موسى ونبوة المسيح لا اليهود ولا النصارى بل كان نفس ظهوره ومجيئه تصديقا لنبوتهما فإنهما أخبرا بظهوره وبشرا به قبل ظهوره فلما بعث كان بعثه تصديقا لهما وهذا أحد المعنيين في قوله تعالى ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين أي مجيئه تصديق لهم من جهتين : من (59/350)
جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروه به ومطابقة ما جاءو به لما جاؤا به فإن الرسول الأول إذا أتى بأمر لا يعلم إلا بالوحي ثم جاء نبي آخر لم يقارنه في الزمان ولا في المكان ولا تلقى عنه ما جاء به وأخبر بمثل ما أخبر به سواء دل ذلك على صدق الرسولين الأول والآخر وكان ذلك بمنزلة رجلين أخبر أحدهما بخبر عن عيان ثم جاء آخر من غير بلده وناحيته بحيث يعلم أنه لم يجتمع به ولا تلقى عنه ولا عمن تلقى عنه فأخبر بمثل ما أخبر به الأول سواء فإنه يضطر السامع إلى تصديق الأول والثاني والمعنى الثاني : أنه لم يأت مكذبا لمن قبله من الأنبياء مزريا عليهم كما يفعل الملوك المتغلبون على الناس بمن تقدمهم من الملوك بل جاء مصدقا لهم شاهدا بنبوتهم ولو كان كاذبا متقولا منشئا من عنده سياسة لم يصدق من قبله بل كان يزري بهم ويطعن عليهم كما يفعل أعداء الأنبياء
فصل وقد اختلفت أقوال الناس في التوراة التي بأيديهم : هل هي مبدلة
أم التبديل والتحريف وقع في التأويل دون التنزيل على ثلاثة أقوال : طرفين ووسط
فأفرطت طائفة وزعمت أنها كلها أو أكثرها مبدلة مغيرة ليست التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام وتعرض هؤلاء لتناقضها وتكذيب بعضها لبعض وغلا بعضهم فجوز الاستجمار بها من البول
وقابلهم طائفة أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام فقالوا : بل التبديل وقع في التأويل لا في التنزيل (59/351)
وهذا مذهب أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري (59/352)
قال في صحيحه يحرفون : يزيلون وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله تعالى ولكنهم يحرفونه : يتأولونه على غير تأويله
وهذا اختيار الرازي في تفسيره
وسمعت شيخنا يقول : وقع النزاع في هذه المسألة بين بعض الفضلاء فاختار هذا المذهب ووهن غيره فأنكر عليه فأحضر لهم خمسة عشر نقلا به
ومن حجة هؤلاء : أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها وانتشرت جنوبا وشمالا ولا يعلم عدد نسخها إلا الله تعالى ومن الممتنع أن يقع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ بحيث لا يبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة مغيرة والتغيير على منهاج واحد وهذا مما يحيله العقل ويشهد ببطلانه
قالوا : وقد قال الله تعالى لنبيهAمحتجا على اليهود بها : قل فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين قالوا : وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم ولم يمكنهم تغييرها من التوراة ولهذا لما قرؤها على النبيAوضع القارىء يده على آية الرجم فقال له عبدالله بن سلام : ارفع يدك عن آية الرجم فرفعها فإذا هي تلوح تحتها فلو كانوا قد بدلوا ألفاظ التوراة لكان هذا من أهم ما يبدلونه قالوا : وكذلك صفات النبيAومخرجه هو في التوراة بين جدا ولم (59/353)
يمكنهم إزالته وتغييره : وإنما ذمهم الله تعالى بكتمانهم وكانوا إذا احتج عليهم بما في التوراة من نعمته وصفته يقولون : ليس هو ونحن ننتظره
قالوا : وقد روى أبو داود في سننه عن ابن عمر قال : أتى نفر من اليهود فدعوا رسول اللهAإلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا : يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم فوضعوا لرسول اللهAوسادة فجلس عليها ثم قال : ائتوني بالتوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها ثم قال : آمنت بك وبمن أنزلك ثم قال : ائتوني بأعلمكم فأتي بفتى شاب ثم ذكر قصة الرجم
قالوا : فلو كانت مبدلة مغيرة لم يضعها على الوسادة ولم يقل : آمنت بك وبمن أنزلك قالوا : وقد قال تعالى : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم والتوراة من كلماته
قالوا : والآثار التي في كتمان اليهود صفة رسول اللهAفي التوراة ومنعهم أولادهم وعوامهم الاطلاع عليها مشهورة ومن اطلع عليها منهم قالوا له : ليس به فهذا بعض ما احتجت به هذه الفرقة
وتوسطت طائفة ثالثة وقالوا : قد زيد فيها وغير ألفاظ يسيرة ولكن أكثرها باق على ما أنزل عليه والتبديل في يسير منها جدا وممن اختار هذا القول شيخنا في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
قال : وهذا كما في التوراة عندهم : أن الله سبحانه وتعالى قال لإبراهيم عليه السلام : (59/354)
إذبح ولدك بكرك ووحيدك إسحق ف إسحق زيادة منهم في لفظ التوراة قلت : وهي باطلة قطعا من عشرة أوجه
أحدها : أن بكره ووحيده هو إسماعيل باتفاق الملل الثلاث فالجمع بين كونه مأمورا بذبح بكره وتعيينه بإسحق جمع بين النقيضين الثاني : أن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم أن ينقل هاجر وابنها إسماعيل عن سارة ويسكنها في برية مكة لئلا تغير سارة فأمر بابعاد السرية وولدها عنها حفظا لقلبها ودفعا لأذى الغيرة عنها فكيف يأمر الله سبحانه وتعالى بعد هذا بذبح ابن سارة وإبقاء ابن السرعية فهذا مما لا تقتضيه الحكمة
الثالث : أن قصة الذبح كانت بمكة قطعا ولهذا جعل الله تعالى ذبح الهدايا والقرابين بمكة تذكيرا للأمة بما كان من قصة أبيهم إبراهيم مع ولده الرابع : أن الله سبحانه بشر سارة أم إسحق بإسحق ومن وراء إسحاق يعقوب فبشرها بهما جميعا فكيف يأمر بعد ذلك بذبح إسحق وقد بشر أبويه بولد ولده
الخامس : أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصة الذبيح وتسليمه نفسه لله تعالى وإقدام إبراهيم على ذبحه وفرغ من قصته قال بعدها : وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين فشكر الله تعالى له استسلامه لأمره وبذل ولده له وجعل من إثابته على ذلك : أن آتاه إسحق فنجى إسماعيل من الذبح وزاده عليه إسحق
السادس : أن إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه سأل ربه الولد فأجاب الله دعاءه وبشره فلما بلغ معه السعي أمره بذبحه قال تعالى : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم (59/355)
فهذا دليل على أن هذا الولد إنما بشر به بعد دعائه وسؤاله ربه أن يهب له ولدا وهذا المبشر به هو المأمور بذبحه قطعا بنص القرآن وأما إسحق فإنما بشر به من غير دعوة منه بل على كبر السن وكون مثله لا يولد له وإنما كانت البشارة به لامرأته سارة ولهذا تعجبت من حصول الولد منها ومنه
قال تعالى : ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله
فتأمل سياق هذه البشارة وتلك تجدهما بشارتين متفاوتتين مخرج إحداهما غير مخرج الأخرى
والبشارة الأولى كانت له والثانية كانت لها
والبشارة الأولي هي التي أمر بذبح من بشر فيها دون الثانية السابع : أن إبراهيم عليه السلام لم يقدم بإسحاق إلى مكة البتة ولم يفرق بينه وبين أمه وكيف يأمره الله تعالى أن يذهب بابن امرأته فيذبحه بموضع ضرتها في بلدها ويدع ابن ضرتها
الثامن : أن الله تعالى لما اتخذ ابراهيم خليلا والخلة تتضمن أن يكون قلبه كله متعلقا بربه ليس في شعبة لغيره فلما سأله الولد وهبه اسماعيل فتعلق به شعبة من قلبه فأراد خليله سبحانه أن تكون تلك الشعبة له ليست لغيره من الخلق فامتحنه بذبح ولده فلما أقدم على الامتثال خلصت له تلك الخلة وتمحضت لله وحده فنسخ الأمر بالذبح لحصول المقصود وهو العزم وتوطين النفس على الامتثال
ومن المعلوم : أن هذا إنما يكون في أول الأولاد لا في آخرها فلما حصل هذا المقصود من الولد الأول لم يحتج في الولد الآخر إلى مثله فإنه لو زاحمت محبة الولد الآخر الخلة لأمر بذبحه كما أمر بذبح الأول فلو كان المأمور بذبحه هو الولد الآخر لكان قد أقره في الأول (59/356)
على مزاحمة الخلة به مدة طويلة ثم أمره بما يزيل المزاحم بعد ذلك وهذا خلاف مقتضى الحكمة فتأمله
التاسع : أن إبراهيم عليه السلام إنما رزق إسحاق عليه السلام على الكبر وإسماعيل عليه السلام رزقه في عنفوانه وقوته والعادة أن القلب أعلق بأول الأولاد وهو إليه أميل وله أحب بخلاف من يرزقه على الكبر ومحل الولد بعد الكبر كمحل الشهوة للمرأة
العاشر : أن النبيAكان يفتخر بقوله : أنا ابن الذبيحين يعني أباه عبدالله وجده إسماعيل (59/357)
والمقصود : أن هذه اللفظة مما زادوها في التوراة
ونحن نذكر السبب الموجب لتغيير ما غير منها والحق أحق ما اتبع فلا نغلو غلو المستهينين بها المتمسخرين بها بل معاذ الله من ذلك
ولا نقول : إنها باقية كما أنزلت من كل وجه كالقرآن
فنقول وبالله التوفيق :
علماء اليهود وأحبارهم يعتقدون أن هذه التوراة التي بأيديهم ليست هي التي أنزلها الله تعالى على موسى بن عمران بعينها لأن موسى عليه السلام صان التوراة عن بني إسرائيل خوفا من اختلافهم من بعده في تأويلها المؤدي إلى تفرقهم أحزابا وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد لاوي
ودليل ذلك قوله في التوراة وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى بني إسرائيل إلى الأئمة من بني لاوي
وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم لأن الإمامة وخدمة القرابين وبيت المقدس كانت موقوفة عليهم ولم يبذل موسى عليه السلام من التوراة لبني إسرائيل إلا نصف سورة وهي التي قال فيها : وكتب موسى هذه السورة وعلمها بني إسرائيل (59/358)
هذا نص التوراة عندهم قال : وتكون لي هذه السورة شاهدة على بني إسرائيل وفيها : قال الله تعالى : إن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم
يعني أن هذه السورة مشتملة على ذم طبائعهم وأنهم سيخالفون شرائع التوراة وأن السخط يأتيهم بعد ذلك وتخرب ديارهم ويسبون في البلاد فهذه السورة تكون متداولة في أفواهم كالشاهد عليهم الموقف لهم على صحة ما قيل لهم
فلما نصت التوراة أن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم دل ذلك على أن غيرها من السور ليس كذلك وأنه يجوز أن ينسى من أفواههم
وهذا يدل على أن موسى عليه السلام لم يعط بني إسرائيل من التوراة إلا هذه السورة فأما بقيتها فدفعها إلى أولاد هارون وجعلها فيهم وصانها عمن سواهم وهؤلاء الأئمة الهارونيون الذين كانوا يعرفون التوراة ويحفظون أكثرها قتلهم بختنصر على دم واحد يوم فتح بيت المقدس ولم يكن حفظ التوراة فرضا عليهم ولا سنة بل كان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلا من التوراة فلما رأى عزرا أن القوم قد أحرق هيكلهم وزالت دولتهم وتفرق جمعهم ورفع كتابهم جمع من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما اجتمعت منه هذه التوراة التي بأيديهم ولذلك بالغوا في تعظيم عزرا هذا غاية المبالغة
فزعموا أن النور الآن يظهر على قبره وهو عند بطائح العراق لأنه جمع لهم ما يحفظ دينهم (59/359)
وغلا بعضهم فيه حتى قال : هو ابن الله ولذلك نسب الله تعالى ذلك إلى اليهود إلى جنسهم لا إلى كل واحد منهم
فهذه التوراة التي بأيديهم في الحقيقة كتاب عزرا وفيها كثير من التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه الصلاة و السلام ثم تداولتها أمة قد مزقها الله تعالى كل ممزق وشتت شملها فلحقها ثلاثة أمور
أحدها : بعض الزيادة والنقصان
الثاني : اختلاف الترجمة (59/360)
الثالث : اختلاف التأويل والتفسير
ونحن نذكر من ذلك أمثلة تبين حقيقة الحال المثال الأول
ما تقدم من قوله ولحم فريسة في الصحراء لا تأكلوه وللكلب ألقوه
وتقدم بيان تحريفهم هذا النص وحمله على غير محمله المثال الثاني قوله في التوراة نبيا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك به فليؤمنوا فحرفوا تأويله إذ لم يمكنهم أن يبدلوا تنزيله وقالوا : هذه بشارة بني من بني إسرائيل وهذا باطل من وجوه
أحدها : أنه لو أراد ذلك لقال : من أنفسهم كما قال في حق محمدA لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم وقال تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم ولم يقل : من إخوتكم الثاني : أن المعهود في التوراة : أن إخوتهم غير بني إسرائيل ففي الجزء الأول من السفر الخامس قوله : أنتم عابرون في تخوم إخوتكم بني العيص المقيمين في سيعير إياكم أن تطمعوا في شيء من أرضهم
فإذا كان بنو العيص إخوة لبني إسرائيل لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق والروم هم بنو العيص واليهود هم بنو إسرائيل وهم إخوتهم فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم (59/361)
الثالث : أن هذه البشارة لو كانت بشمويل أو غيره من بني إسرائيل لم يصح أن يقال : بنو إسرائيل إخوة بني إسرائيل وإنما المفهوم من هذا أن بني إسماعيل أو بني العيص هم إخوة بني إسرائيل
الرابع : أنه قال : سأقيم لهم نبيا مثلك وفي موضع آخر : أنزل عليه توراة مثل توراة موسى
ومعلوم أن شمويل وغيره من أنبياء بني إسرائيل لم يكن فيهم مثل موسى لا سيما وفي التوراة لا يقوم في بني إسرائيل مثل موسى وأيضا فليس في بني إسرائيل من أنزل عليه توراة مثل توراة موسى إلا محمد والمسيح عليهم الصلاة والسلام والمسيح كان من أنفس بني إسرائيل لا من إخوتهم بخلاف محمدAفإنه من إخوتهم بني إسماعيل
وأيضا فإن في بعض ألفاظ هذا النص كلكم له تسمعون وشموئيل لم يأت بزيادة ولا بنسخ لأنه إنما أرسل ليقوي أيديهم على أهل فلسطين وليردهم إلى شرع التوراة فلم يأت بشريعة جديدة ولا كتاب جديد وإنما حكمه حكم سائر الأنبياء من بني إسرائيل فإنهم كانوا يسوسهم الأنبياء كلما مات نبي قام فيهم نبي فإن كانت هذه البشارة لشمويل فهي بشارة بسائر الأنبياء الذي بعثوا فيهم ويكونون كلهم مثل موسى عليه السلام وكلهم قد أنزل عليهم كتاب مثل كتاب موسى عليه السلام (59/362)
المثال الثالث
قوله في التوراة جاء الله تعالى من طور سيناء وأشرق نوره من سيعير واستعلن من جبال فاران ومعه ربوات المقدسين
وهم يعلمون أن جبل سيعير هو جبل السراة الذي يسكنه بنو العيص الذين آمنوا بعيسى ويعلمون أن في هذا الجبل كان مقام المسيح ويعلمون أن سيناء هو جبل الطور
وأما جبال فاران فهم يحملونها على جبال الشأم وهذا من بهتهم وتحريف التأويل
فإن جبال فاران هي جبال مكة و فاران اسم من أسماء مكة وقد دل على هذا نص التوراة : أن إسماعيل لما فارق أباه سكن برية فاران وهي جبال مكة ولفظ التوراة أن إسماعيل أقام في برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر
فثبت بنص التوراة أن جبال فاران مسكن لولد إسماعيل وإذا كانت التوراة قد أشارت إلى نبوة تنزل على جبال فاران لزم أنها تنزل على ولد إسماعيل لأنهم سكانها
ومن المعلوم بالضرورة أنها لم تنزل على غير محمدAمن ولد إسماعيل عليه السلام
وهذا من أظهر الأمور بحمد الله تعالى (59/363)
فصل ومما يدل على غلظ أفهام هذه الأمة الغضبية وقلة فقههم وفساد
رأيهم وعقولهم كما في التوراة أنهم شعب عادم الرأي فليس فيهم فطانة : أنهم سمعوا في التوراة يكون ثمار أرضك تحمل إلى بيت الله ربك ولا ينضج الجدي بلبن أمه
والمراد بذلك : أنهم أمروا عقيب افتراض الحج إلى بيت المقدس عليهم : أن يستصحبوا معهم إذا حجوا أبكار أغنامهم وأبكار مستغلات أرضهم لأنه كان فرض عليهم قبل ذلك أن تبقى سخولة الغنم والبقر وراء أمها سبعة أيام وفي اليوم الثامن فصاعدا يصلح أن تكون قربانا فأشار في هذا النص بقوله : لا ينضج الجدى بلبن أمه إلى أنهم لا يبالغون في إطالة مكث باكور أولاد البقر والغنم وراء أمها بل يستصحبون أبكارهم اللاتي قد عبرت سبعة أيام منذ ميلادهن معهم إذا حجوا إلى بيت المقدس ليتخذوا منها القرابين
فتوهم المشايخ البله أن الشرع يريد بالإنضاج إنضاج الطبيخ في القدر وأنهم نهوا أن يطبخوا لحم الجدي باللبن ولم يكفهم هذا الغلط في تفسير هذه اللفظة حتى حرموا أكل سائر اللحمان باللبن فألغوا لفظ الجدى وألغوا لفظ أمه وحملوا النص مالا يحتمله وإذا أراد أن يأكلوا اللحم واللبن أكلوا كلا منهما على حدة والأمر في هذا ونحوه قريب (59/364)
فصل ولا يستبعد اصطلاح كافة هذه الأمة على المحال واتفاقهم على أنواع
الضلال
فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها وأخذها انطمست معالم دينها واندرست آثارها فإن الدولة إنما يكون زوالها بتتابع الغارات والمصافات وإخراب البلاد وإحراقها ولا تزال هذه الأمور متواترة عليها إلى أن يعود علمها جهلا وعزها ذلا وكثرتها قلة
وكلما كانت الأمة أقدم واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالذل والصغار كان حظها من اندراس معالم دينها وآثارها أوفر
وهذه الأمة أوفر الأمم حظا من هذا الأمر لأنها من أقدم الأمم ولكثرة الأمم التي استولت عليها : من الكلدانيين والبابليين والفرس واليونان والنصارى وآخر ذلك المسلمون وما من هذه الأمم إلا من طلب استئصالهم وبالغ في إحراق بلادهم وكتبهم وقطع آثارهم إلا المسلمين فإنهم أعدل الأمم فيهم وفي غيرهم حفظا لوصية الله تعالى بهم حيث قال : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ويقول : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنآن قم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى وصادف الإسلام هذه الأمة تحت ذمة الفرس وذمة النصارى بحيث لم يبق لهم مدينة ولا جيش
وأعز ما صادفه الإسلام من هذه الأمة يهود خيبر والمدينة وما جاورها (59/365)
فإنهم إنما قصدوا تلك الناحية لما كانوا وعدوا به من ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يقاتلون المشركين من العرب فيستنصرون عليهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره ويعدونهم بأنه سيخرج نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما بعث الله عز و جل نبيه صلى الله عليه وسلم سبقهم إليه من كانوا يحاربونهم من العرب فحملهم الحسد والبغي على الكفر به وتكذيبه
وأشد ما على هذه الأمة الغضبية من ذلك ما نالهم من ملوك العصاة وغيرهم من ملوك الإسرائيليين الذين قتلوا الأنبياء وبالغوا في تطلبهم وعبدوا الأصنام وأحضروا من البلاد سدنتها ليعلموا رسومها في العبادة وبنوا لها البيع والهياكل وعكفوا على عبادتها وتركوا أحكام التوراة أعصارا متصلة
فإذا كان هذا تواتر الآفات على دينهم من قبل ملوكهم ومن قبل أنفسهم فما الظن بالآفات التي نالتهم من غير ملوكهم وقتلهم أئمتهم وإحراقهم كتبهم ومنعهم من القيام بدينهم
فإن الفرس كثيرا ما منعوهم عن الختان وكثيرا ما منعوهم من الصلاة لمعرفتهم بأن معظم صلاة هذه الطائفة دعاء على الأمم بالبوار وعلى العالم بالخراب [ سوى بلادهم التي(59/366)
هي أرض كنعان ]
فلما رأت هذه الأمة الجد من الفرس في منعهم من الصلاة اخترعوا أدية [ زعموا أنها فصول من صلاتهم ] سموها الحزانة وصاغوا لها ألحانا عديدة وصاروا يجتمعون في أوقات صلاتهم على تلحينها وتلاوتها وسموا القائم بها الحزان
والفرق بينها وبين الصلاة : أن الصلاة بغير لحن والمصلي يتلو الصلاة وحده ولا يجهر معه غيره والحزان يشاركه غيره في الجهر بالحزانة ويعاونونه في الألحان
فكانت الفرس إذا أنكرت ذلك منهم قالت اليهود : إنا ننعى أحيانا وننوح على أنفسنا فيتركونهم وذلك
فلما قام الإسلام وأقرهم على صلاتهم استصحبوا تلك الحزانة ولم يعطلوها فهذه فصول مختصرة في كيد الشيطان وتلاعبه بهذه الأمة يعرف بها المسلم الحنيف قدر نعمة الله تعالى عز و جل عليه وما من به عليه من نعمة العلم والإيمان ويهتدي بها من أراد الله تعالى هدايته من طالبي الحق من هذه الأمة
ومن الله التوفيق والإرشاد إلى سواء الطريق والحمد لله رب العالمين اللهم صل وسلم على جميع الأنبياء والمرسلين خصوصا من بينهم محمدا وآله بفضل الصلاة والتسليم
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد كلما ذكره الذاكرون وصل وسلم على سيدنا محمد كلما غفل عن ذكره الغافلون وهدانا الله لهدايته وحشرنا في زمرته تحت لوائه وأوردنا حوضه الذي لا يظمأ من شرب منه وأوفر نصيبنا من شفاعته إنه جواد كريم (59/367)
* ملاحظتان :
[1] – أرقام الأحاديث موافقة لترقيم الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي على طبعة المطبعة السلفية.
[2] – أحيانا يشرح الحافظ ابن حجر الحديث في مواضع أخرى من كتابه في غير كتاب الطب ، وقد أدرجنا هنا شروح وفوائد تلك الأحاديث المتعلقة بالطب من مواضعها الأخرى بالفتح ، وما أدرجناه من تلك المواضع إلى كتاب الطب تجده بين معقوفتين هكذا [ ... ] .
*****
76 – كتاب الطب
1 - باب مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً .
قَوْله : ( بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم ، كِتَاب الطِّبّ )(60/1)
كَذَا لَهُمْ ، إِلَّا النَّسَفِيّ فَتَرْجَمَ " كِتَاب الطِّبّ " أَوَّل كَفَّارَة الْمَرَض وَلَمْ يُفْرِد كِتَاب الطِّبّ ، وَزَادَ فِي نُسْخَة الصَّغَانِيّ " وَالْأَدْوِيَة " . وَالطِّبّ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَة وَحَكَى اِبْن السَّيِّد تَثْلِيثهَا . وَالطَّبِيب هُوَ الْحَاذِق بِالطِّبِّ ، وَيُقَال لَهُ أَيْضًا طَبَّ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْر وَمُسْتَطَبّ وَامْرَأَة طَبّ بِالْفَتْحِ ، يُقَال اِسْتَطَبَّ تَعَاطَى الطِّبّ وَاسْتَطَبَّ اِسْتَوْصَفَهُ ، وَنَقَلَ أَهْل اللُّغَة أَنَّ الطِّبّ بِالْكَسْرِ يُقَال بِالِاشْتِرَاكِ لِلْمُدَاوِي وَلِلتَّدَاوِي وَلِلدَّاءِ أَيْضًا فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَاد ، وَيُقَال أَيْضًا لِلرِّفْقِ وَالسِّحْر ، وَيُقَال لِلشَّهْوَةِ وَلِطَرَائِق تُرَى فِي شُعَاع الشَّمْس وَلِلْحِذْقِ بِالشَّيْءِ ، وَالطَّبِيب الْحَاذِق فِي كُلّ شَيْء ، وَخَصَّ بِهِ الْمُعَالِج عُرْفًا ، وَالْجَمْع فِي الْقِلَّة أَطِبَّة وَفِي الْكَثْرَة أَطِبَّاء . وَالطِّبّ نَوْعَانِ : طِبّ جَسَد وَهُوَ الْمُرَاد هُنَا ، وَطِبّ قَلْب وَمُعَالَجَته خَاصَّة بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَنْ رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى . وَأَمَّا طِبّ الْجَسَد فَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي الْمَنْقُول عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُ مَا جَاءَ عَنْ غَيْره ، وَغَالِبه رَاجِع إِلَى التَّجْرِبَة . ثُمَّ هُوَ نَوْعَانِ : نَوْع لَا يَحْتَاج إِلَى فِكْر وَنَظَر بَلْ فَطَرَ اللَّه عَلَى مَعْرِفَته الْحَيَوَانَات ، مِثْل مَا يَدْفَع الْجُوع وَالْعَطَش . وَنَوْع يَحْتَاج إِلَى الْفِكْر وَالنَّظَر كَدَفْعِ مَا يَحْدُث فِي الْبَدَن مِمَّا يُخْرِجهُ عَنْ الِاعْتِدَال ، وَهُوَ إِمَّا إِلَى حَرَارَة أَوْ بُرُودَة ، وَكُلّ مِنْهُمَا إِمَّا إِلَى رُطُوبَة ، أَوْ يُبُوسَة ، أَوْ إِلَى مَا(60/2)
يَتَرَكَّب مِنْهُمَا . وَغَالِب مَا يُقَاوَم الْوَاحِد مِنْهُمَا بِضِدِّهِ ، وَالدَّفْع قَدْ يَقَع مِنْ خَارِج الْبَدَن وَقَدْ يَقَع مِنْ دَاخِله وَهُوَ أَعْسَرهمَا . وَالطَّرِيق إِلَى مَعْرِفَته بِتَحَقُّقِ السَّبَب وَالْعَلَامَة ، فَالطَّبِيب الْحَاذِق هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي تَفْرِيق مَا يَضُرّ بِالْبَدَنِ جَمْعه أَوْ عَكْسه ، وَفِي تَنْقِيص مَا يَضُرّ بِالْبَدَنِ زِيَادَته أَوْ عَكْسه ، وَمَدَار ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَة أَشْيَاء : حِفْظ الصِّحَّة ، وَالِاحْتِمَاء عَنْ الْمُؤْذِي ، وَاسْتِفْرَاغ الْمَادَّة الْفَاسِدَة . وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الثَّلَاثَة فِي الْقُرْآن : فَالْأَوَّل مِنْ قَوْله تَعَالَى ( فَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر ) وَذَلِكَ أَنَّ السَّفَر مَظِنَّة النَّصَب وَهُوَ مِنْ مُغَيِّرَات الصِّحَّة ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ الصِّيَام اِزْدَادَ فَأُبِيحَ الْفِطْر إِبْقَاء عَلَى الْجَسَد . وَكَذَا الْقَوْل فِي الْمَرَض الثَّانِي وَهُوَ الْحَمِيَّة مِنْ قَوْله تَعَالَى : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) فَإِنَّهُ اِسْتَنْبَطَ مِنْهُ جَوَاز التَّيَمُّم عِنْد خَوْف اِسْتِعْمَال الْمَاء الْبَارِد . وَالثَّالِث مِنْ قَوْله تَعَالَى : ( أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ ) فَإِنَّهُ أُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى جَوَاز حَلْق الرَّأْس الَّذِي مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِم لِاسْتِفْرَاغِ الْأَذَى الْحَاصِل مِنْ الْبُخَار الْمُحْتَقِن فِي الرَّأْس . وَأَخْرَجَ مَالِك فِي " الْمُوَطَّأ " عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ مُرْسَلًا " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلَيْنِ : أَيّكُمَا أَطَبّ ؟ قَالَا : يَا رَسُول اللَّه وَفِي الطِّبّ خَيْر ؟ قَالَ : أَنْزَلَ الدَّاء الَّذِي أَنْزَلَ الدَّوَاء " .(60/3)
قَوْله : ( بَاب مَا أَنْزَلَ اللَّه دَاء إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاء )
كَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ وَابْن بَطَّال وَمَنْ تَبِعَهُ ، وَلَمْ أَرَ لَفْظ " بَاب " مِنْ نُسَخ الصَّحِيح إِلَّا لِلنَّسَفِيِّ .
5678 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِىُّ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِى حُسَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنِى عَطَاءُ بْنُ أَبِى رَبَاحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً » .
قَوْله ( أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ )
هُوَ مُحَمَّدُ بْن عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر الْأَسَدِيُّ ، نُسِبَ لِجَدِّهِ وَهُوَ أَسَد مِنْ بَنِي أَسَد بْن خُزَيْمَةَ ، فَقَدْ يَلْتَبِس بِمَنْ يُنْسَب إِلَى الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام لِكَوْنِهِمْ مِنْ بَنِي أَسَد بْن عَبْد الْعُزَّى ، وَهَذَا مِنْ فُنُون عِلْم الْحَدِيث وَصَنَّفُوا فِيهِ الْأَنْسَاب الْمُتَّفِقَة فِي اللَّفْظ الْمُفْتَرِقَة فِي الشَّخْص . وَقَدْ وَقَعَ عِنْد أَبِي نُعَيْم فِي الطِّبّ مِنْ طَرِيق أَبِي بَكْر وَعُثْمَان بْن أَبِي شَيْبَة " قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الْأَسَدِيُّ أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ " وَعِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق هَارُون بْن عَبْد اللَّه الْحَمَّال " حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الزُّبَيْرِيّ " .
قَوْله : ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَة )(60/4)
كَذَا قَالَ عُمَر بْن سَعِيد عَنْ عَطَاء ، وَخَالَفَهُ شَبِيب بْن بِشْر فَقَالَ " عَنْ عَطَاء عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ " أَخْرَجَهُ الْحَاكِم وَأَبُو نُعَيْم فِي الطِّبّ وَرَوَاهُ طَلْحَة بْن عَمْرو عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس ، هَذِهِ رِوَايَة عَبْد بْن حُمَيْدٍ عَنْ مُحَمَّد بْن عُبَيْد عَنْهُ ، وَقَالَ مُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان " عَنْ طَلْحَة بْن عَمْرو عَنْ عَطَاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " أَخْرَجَهُ اِبْن عَاصِم فِي الطِّبّ وَأَبُو نُعَيْم ، وَهَذَا مِمَّا يَتَرَجَّح بِهِ رِوَايَة عُمَر بْن سَعِيد .
قَوْله : ( مَا أَنْزَلَ اللَّه دَاء )
وَقَعَ فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " مِنْ دَاء " و " مِنْ " زَائِدَة ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَفْعُول " أَنْزَلَ " مَحْذُوفًا فَلَا تَكُون مِنْ زَائِدَة بَلْ لِبَيَانِ الْمَحْذُوف ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفه .
قَوْله : ( إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاء )(60/5)
فِي رِوَايَة طَلْحَة بْن عَمْرو مِنْ الزِّيَادَة فِي أَوَّل الْحَدِيث " يَا أَيّهَا النَّاس تَدَاوَوْا " وَوَقَعَ فِي رِوَايَة طَارِق بْن شِهَاب عَنْ اِبْن مَسْعُود رَفَعَهُ " إِنَّ اللَّه لَمْ يُنْزِل دَاء إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاء فَتَدَاوَوْا " وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان وَالْحَاكِم ، وَنَحْوه لِلطَّحَاوِيّ وَأَبِي نُعَيْم مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس ، وَلِأَحْمَد عَنْ أَنَس " إِنَّ اللَّه حَيْثُ خَلَقَ الدَّاء خَلَقَ الدَّوَاء ، فَتَدَاوَوْا " وَفِي حَدِيث أُسَامَة بْن شَرِيك " تَدَاوَوْا يَا عِبَاد اللَّه ، فَإِنَّ اللَّه لَمْ يَضَع دَاء إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاء ، إِلَّا دَاء وَاحِدًا الْهَرَم " أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالْبُخَارِيّ فِي " الْأَدَب الْمُفْرَد " وَالْأَرْبَعَة وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِم ، وَفِي لَفْظ " إِلَّا السَّام " بِمُهْمَلَةٍ مُخَفَّفَة يَعْنِي الْمَوْت . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ عَنْ اِبْن مَسْعُود نَحْو حَدِيث الْبَاب فِي آخِره " عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان وَالْحَاكِم . وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِر رَفَعَهُ " لِكُلِّ دَاء دَوَاء ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاء الدَّاء بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى " وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيث أَبِي الدَّرْدَاء رَفَعَهُ " إِنَّ اللَّه جَعَلَ لِكُلِّ دَاء دَوَاء فَتَدَاوَوْا ، وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ " وَفِي مَجْمُوع هَذِهِ الْأَلْفَاظ مَا يُعْرَف مِنْهُ الْمُرَاد بِالْإِنْزَالِ فِي حَدِيث الْبَاب وَهُوَ إِنْزَال عِلْم ذَلِكَ عَلَى لِسَان الْمَلَك لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا ، أَوْ عَبَّرَ بِالْإِنْزَالِ عَنْ التَّقْدِير .(60/6)
وَفِيهَا التَّقْيِيد بِالْحَلَالِ فَلَا يَجُوز التَّدَاوِي بِالْحَرَامِ . وَفِي حَدِيث جَابِر مِنْهَا الْإِشَارَة إِلَى أَنَّ الشِّفَاء مُتَوَقِّف عَلَى الْإِصَابَة بِإِذْنِ اللَّه ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّوَاء قَدْ يَحْصُل مَعَهُ مُجَاوَزَة الْحَدّ فِي الْكَيْفِيَّة أَوْ الْكَمِّيَّة فَلَا يَنْجَع ، بَلْ رُبَّمَا أَحْدَثَ دَاء آخَر . وَفِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود الْإِشَارَة إِلَى أَنَّ بَعْض الْأَدْوِيَة لَا يَعْلَمهَا كُلّ أَحَد ، وَفِيهَا كُلّهَا إِثْبَات الْأَسْبَاب ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّل عَلَى اللَّه لِمَنْ اِعْتَقَدَ أَنَّهَا بِإِذْنِ اللَّه وَبِتَقْدِيرِهِ ، وَأَنَّهَا لَا تَنْجَع بِذَوَاتِهَا بَلْ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّه تَعَالَى فِيهَا ، وَأَنَّ الدَّوَاء قَدْ يَنْقَلِب دَاء إِذَا قَدَّرَ اللَّه ذَلِكَ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ فِي حَدِيث جَابِر " بِإِذْنِ اللَّه " فَمَدَار ذَلِكَ كُلّه عَلَى تَقْدِير اللَّه وَإِرَادَته . وَالتَّدَاوِي لَا يُنَافِي التَّوَكُّل كَمَا لَا يُنَافِيه دَفْع الْجُوع وَالْعَطَش بِالْأَكْلِ وَالشُّرْب ، وَكَذَلِكَ تَجَنُّب الْمُهْلِكَات وَالدُّعَاء بِطَلَبِ الْعَافِيَة وَدَفْع الْمَضَارّ وَغَيْر ذَلِكَ ، وَسَيَأْتِي مَزِيد لِهَذَا الْبَحْث فِي " بَاب الرُّقْيَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَيَدْخُل فِي عُمُومهَا أَيْضًا الدَّاء الْقَاتِل الَّذِي اِعْتَرَفَ حُذَّاق الْأَطِبَّاء بِأَنْ لَا دَوَاء لَهُ ، وَأَقَرُّوا بِالْعَجْزِ عَنْ مُدَاوَاته ، وَلَعَلَّ الْإِشَارَة فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود بِقَوْلِهِ " وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ " إِلَى ذَلِكَ فَتَكُون بَاقِيَة عَلَى عُمُومهَا ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فِي الْخَبَر حَذْف تَقْدِيره : لَمْ يُنْزِل دَاء يَقْبَل الدَّوَاء إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاء ، وَالْأَوَّل(60/7)
أَوْلَى . وَمِمَّا يَدْخُل فِي قَوْله " جَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ " مَا يَقَع لِبَعْضِ الْمَرْضَى أَنَّهُ يَتَدَاوَى مِنْ دَاء بِدَوَاءٍ فَيَبْرَأ ثُمَّ يَعْتَرِيه ذَلِكَ الدَّاء بِعَيْنِهِ فَيَتَدَاوَى بِذَلِكَ الدَّوَاء بِعَيْنِهِ فَلَا يَنْجَع ، وَالسَّبَب فِي ذَلِكَ الْجَهْل بِصِفَةٍ مِنْ صِفَات الدَّوَاء فَرُبَّ مَرَضَيْنِ تَشَابَهَا وَيَكُون أَحَدهمَا مُرَكَّبًا لَا يَنْجَع فِيهِ مَا يَنْجَع فِي الَّذِي لَيْسَ مُرَكَّبًا فَيَقَع الْخَطَأ مِنْ هُنَا ، وَقَدْ يَكُون مُتَّحِدًا لَكِنْ يُرِيد اللَّه أَنْ لَا يَنْجَع فَلَا يَنْجَع وَمِنْ هُنَا تَخْضَع رِقَاب الْأَطِبَّاء ، وَقَدْ أَخْرَجَ اِبْن مَاجَهْ مِنْ طَرِيق أَبِي خُزَامَة وَهُوَ بِمُعْجَمَةٍ وَزَاي خَفِيفَة " عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه أَرَأَيْت رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاء نَتَدَاوَى بِهِ هَلْ يَرُدّ مِنْ قَدَر اللَّه شَيْئًا ؟ قَالَ : هِيَ مِنْ قَدَر اللَّه تَعَالَى " وَالْحَاصِل أَنَّ حُصُول الشِّفَاء بِالدَّوَاءِ إِنَّمَا هُوَ كَدَفْعِ الْجُوع بِالْأَكْلِ وَالْعَطَش بِالشُّرْبِ ، وَهُوَ يَنْجَع فِي ذَلِكَ فِي الْغَالِب ، وَقَدْ يَتَخَلَّف لِمَانِعٍ وَاَللَّه أَعْلَم . ثُمَّ الدَّاء وَالدَّوَاء كِلَاهُمَا بِفَتْحِ الدَّال وَبِالْمَدِّ ، وَحُكِيَ كَسْر دَال الدَّوَاء . وَاسْتِثْنَاء الْمَوْت فِي حَدِيث أُسَامَة بْن شَرِيك وَاضِح ، وَلَعَلَّ التَّقْدِير إِلَّا دَاء الْمَوْت ، أَيْ الْمَرَض الَّذِي قُدِّرَ عَلَى صَاحِبه الْمَوْت . وَاسْتِثْنَاء الْهَرَم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى إِمَّا لِأَنَّهُ جَعَلَهُ شَبِيهًا بِالْمَوْتِ وَالْجَامِع بَيْنهمَا نَقْص الصِّحَّة ، أَوْ لِقُرْبِهِ مِنْ الْمَوْت وَإِفْضَائِهِ إِلَيْهِ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطِعًا وَالتَّقْدِير : لَكِنْ(60/8)
الْهَرَم لَا دَوَاء لَهُ ، وَاَللَّه أَعْلَم .
2 - باب هَلْ يُدَاوِى الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَوِ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ .
5679 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ عَنْ رُبَيِّعَ بِنْتِ مُعَوِّذٍ ابْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَسْقِى الْقَوْمَ ، وَنَخْدُمُهُمْ ، وَنَرُدُّ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى إِلَى الْمَدِينَةِ .
قَوْله : ( بَاب هَلْ يُدَاوِي الرَّجُل الْمَرْأَة وَالْمَرْأَة الرَّجُل )
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيث الرُّبَيِّع بِالتَّشْدِيدِ " كُنَّا نَغْزُو وَنَسْقِي الْقَوْم وَنَخْدِمهُمْ وَنَرُدّ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى إِلَى الْمَدِينَة " وَلَيْسَ فِي هَذَا السِّيَاق تَعَرُّض لِلْمُدَاوَاةِ ، إِلَّا إِنْ كَانَ يَدْخُل فِي عُمُوم قَوْلهَا " نَخْدِمهُمْ " نَعَمْ وَرَدَ الْحَدِيث الْمَذْكُور بِلَفْظِ " وَنُدَاوِي الْجَرْحَى وَنَرُدّ الْقَتْلَى " وَقَدْ تَقَدَّمَ كَذَلِكَ فِي " بَاب مُدَاوَاة النِّسَاءِ الْجَرْحَى فِي الْغَزْو " مِنْ كِتَاب الْجِهَاد [...] فَجَرَى الْبُخَارِيّ عَلَى عَادَته فِي الْإِشَارَة إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْض أَلْفَاظ الْحَدِيث ، وَيُؤْخَذ حُكْم مُدَاوَاة الرَّجُل الْمَرْأَة مِنْهُ بِالْقِيَاسِ . وَإِنَّمَا لَمْ يَجْزِم بِالْحُكْمِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون ذَلِكَ قَبْل الْحِجَاب ، أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَة تَصْنَع ذَلِكَ بِمَنْ يَكُون زَوْجًا لَهَا أَوْ مَحْرَمًا . وَأَمَّا حُكْم الْمَسْأَلَة فَتَجُوز مُدَاوَاة الْأَجَانِب عِنْد الضَّرُورَة وَتُقَدَّر بِقَدْرِهَا فِيمَا يَتَعَلَّق بِالنَّظَرِ وَالْجَسّ بِالْيَدِ وَغَيْر ذَلِكَ .(60/9)
[ ... وَفِيهِ جَوَازُ مُعَالَجَة الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة الرَّجُل الْأَجْنَبِيّ لِلضَّرُورَةِ قَالَ اِبْن بَطَّال : وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِذَوَات الْمَحَارِمِ ثُمَّ بِالْمُتَجَالَّاتِ (1) مِنْهُنَّ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْجُرْحِ لَا يُلْتَذُّ بِلَمْسِهِ بَلْ يَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْجِلْدُ فَإِنْ دَعَتْ الضَّرُورَة لِغَيْرِ الْمُتَجَالَّاتِ فَلْيَكُنْ بِغَيْرِ مُبَاشَرَةٍ وَلَا مَسٍّ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اِتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا مَاتَتْ وَلَمْ تُوجَدْ اِمْرَأَة تُغَسِّلُهَا أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُبَاشِرُ غُسْلَهَا بِالْمَسِّ بَلْ يُغَسِّلُهَا مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ كَالزُّهْرِيِّ وَفِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ تُيَمَّمُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ تُدْفَنُ كَمَا هِيَ قَالَ اِبْن الْمُنِير : الْفَرْقُ بَيْنَ حَال الْمُدَاوَاة وَتَغْسِيل الْمَيِّتِ أَنَّ الْغُسْلَ عِبَادَةٌ وَالْمُدَاَواةُ ضَرُورَة وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ ..] .
3 - باب الشِّفَاءُ فِى ثَلاَثٍ .
قَوْله : ( بَاب الشِّفَاء فِي ثَلَاث )
سَقَطَتْ التَّرْجَمَة لِلنَّسَفِيِّ ، وَلَفْظُ " بَاب " لِلسَّرَخْسِيِّ .
5680 - حَدَّثَنِى الْحُسَيْنُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ حَدَّثَنَا سَالِمٌ الأَفْطَسُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ « الشِّفَاءُ فِى ثَلاَثَةٍ شَرْبَةِ عَسَلٍ ، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ ، وَكَيَّةِ نَارٍ ، وَأَنْهَى أُمَّتِى عَنِ الْكَىِّ » . رَفَعَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ الْقُمِّىُّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْعَسَلِ وَالْحَجْمِ .
__________
(1) تَجَالَتْ المرأة أي أسَنَّت وكَبِرَت ، فهي كَهْلَةٌ لا تَحْتَجِبُ احتِجابَ الشَّوابّ.(60/10)
* قَوْله : ( حَدَّثَنِي الْحُسَيْن )
كَذَا لَهُمْ غَيْر مَنْسُوب ، وَجَزَمَ جَمَاعَة بِأَنَّهُ اِبْن مُحَمَّد بْن زِيَاد النَّيْسَابُورِيّ الْمَعْرُوف بِالْقَبَّانِيّ ، قَالَ الْكَلَابَاذِيّ : كَانَ يُلَازِم الْبُخَارِيّ لَمَّا كَانَ بِنَيْسَابُور وَكَانَ عِنْده مُسْنَد أَحْمَد بْن مَنِيع سَمِعَهُ مِنْهُ يَعْنِي شَيْخه فِي هَذَا الْحَدِيث ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَاكِم فِي تَارِيخه مِنْ طَرِيق الْحُسَيْن الْمَذْكُور أَنَّهُ رَوَى حَدِيثًا فَقَالَ : كَتَبَ عَنِّي مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل هَذَا الْحَدِيث . وَرَأَيْت فِي كِتَاب بَعْض الطَّلَبَة قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ عَنِّي ا.هـ . وَقَدْ عَاشَ الْحُسَيْن الْقَبَّانِيّ بَعْد الْبُخَارِيّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَة وَكَانَ مِنْ أَقْرَان مُسْلِم ، فَرِوَايَة الْبُخَارِيّ عَنْهُ مِنْ رِوَايَة الْأَكَابِر عَنْ الْأَصَاغِر . وَأَحْمَد بْن مَنِيع شَيْخ الْحُسَيْن فِيهِ مِنْ الطَّبَقَة الْوُسْطَى مِنْ شُيُوخ الْبُخَارِيّ ، فَلَوْ رَوَاهُ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَة لَمْ يَكُنْ عَالِيًا لَهُ . وَكَانَتْ وَفَاة أَحْمَد بْن مَنِيع - وَكُنْيَته أَبُو جَعْفَر - سَنَة أَرْبَع وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَلَهُ أَرْبَع وَثَمَانُونَ سَنَة ، وَاسْم جَدّه عَبْد الرَّحْمَن وَهُوَ جَدّ أَبِي الْقَاسِم الْبَغَوِيِّ لِأُمِّهِ ، وَلِذَلِكَ يُقَال لَهُ الْمَنِيعِيّ وَابْن بِنْت مَنِيع ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيّ سِوَى هَذَا الْحَدِيث ، وَجَزَمَ الْحَاكِم بِأَنَّ الْحُسَيْن الْمَذْكُور هُوَ اِبْن يَحْيَى بْن جَعْفَر الْبِيكَنْدِيّ وَقَدْ أَكْثَرَ الْبُخَارِيّ الرِّوَايَة عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى بْن جَعْفَر وَهُوَ مِنْ صِغَار شُيُوخه ، وَالْحُسَيْن أَصْغَر مِنْ الْبُخَارِيّ بِكَثِيرٍ ، وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيّ عَنْ الْحُسَيْن سَوَاء كَانَ الْقَبَّانِيّ أَوْ(60/11)
الْبِيكَنْدِيّ سِوَى هَذَا الْحَدِيث . وَقَوْل الْبُخَارِيّ بَعْد ذَلِكَ " حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحِيم " هُوَ الْمَعْرُوف بِصَاعِقَة يَكْنِي أَبَا يَحْيَى وَكَانَ مِنْ كِبَار الْحُفَّاظ وَهُوَ مِنْ أَصَاغِر شُيُوخ الْبُخَارِيّ وَمَاتَ قَبْل الْبُخَارِيّ بِسَنَةٍ وَاحِدَة وَسُرَيْج بْن يُونُس شَيْخه بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيم مِنْ طَبَقَة أَحْمَد بْن مَنِيع وَمَاتَ قَبْله بِعَشْرِ سِنِينَ ، وَشَيْخهمَا مَرْوَان بْن شُجَاع هُوَ الْحَرَّانِيّ أَبُو عَمْرو ، وَأَبُو عَبْد اللَّه مَوْلَى مُحَمَّد بْن مَرْوَان بْن الْحَكَم نَزَلَ بَغْدَاد وَقَوَّاهُ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَغَيْره ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ : يُكْتَب حَدِيثه وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيّ سِوَى هَذَا الْحَدِيث وَآخَر [ ... ] .
5681 - حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ أَبُو الْحَارِثِ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ سَالِمٍ الأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الشِّفَاءُ فِى ثَلاَثَةٍ شَرْطَةِ مِحْجَمٍ ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ ، وَأَنْهَى أُمَّتِى عَنِ الْكَىِّ » .
قَوْله : ( حَدَّثَنِي سَالِم الْأَفْطَس )(60/12)
وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَنْ سَالِم وَقَعَ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ " عَنْ الْمَنِيعِيّ حَدَّثَنَا جَدِّي هُوَ أَحْمَد بْن مَنِيع حَدَّثَنَا مَرْوَان بْن شُجَاع قَالَ مَا أَحْفَظهُ إِلَّا عَنْ سَالِم الْأَفْطَس حَدَّثَنِي " فَذَكَرَهُ ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ : صَارَ الْحَدِيث عَنْ مَرْوَان بْن شُجَاع بِالشَّكِّ مِنْهُ فِيمَنْ حَدَّثَهُ بِهِ . قُلْت : وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَد بْن حَنْبَل عَنْ مَرْوَان بْن شُجَاع سَوَاء ، وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَحْمَد بْن مَنِيع مِثْل رِوَايَة الْبُخَارِيّ الْأُولَى بِغَيْرِ شَكٍّ ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضًا عَنْ الْقَاسِم بْن زَكَرِيَّا عَنْ أَحْمَد بْن مَنِيع ، وَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي " فَوَائِد أَبِي طَاهِر الْمُخْلِص " حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى بْن صَاعِد حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مَنِيع .
قَوْله : ( عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر )
وَقَعَ فِي " مُسْنَد دَعْلَج " مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن الصَّبَاح " حَدَّثَنَا مَرْوَان بْن شُجَاع عَنْ سَالِم الْأَفْطَس أَظُنّهُ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر " كَذَا بِالشَّكِّ أَيْضًا ، وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنْ يَعْتَرِض بِهَذَا أَيْضًا ، وَالْحَقّ أَنَّهُ لَا أَثَر لِلشَّكِّ الْمَذْكُور ، وَالْحَدِيث مُتَّصِل بِلَا رَيْب .
قَوْله : ( عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : الشِّفَاء فِي ثَلَاث )(60/13)
كَذَا أَوْرَدَهُ مَوْقُوفًا ، لَكِنْ آخِره يُشْعِر بِأَنَّهُ مَرْفُوع لِقَوْلِهِ " وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيّ " وَقَوْله " رَفَعَ الْحَدِيث " وَقَدْ صَرَّحَ بِرَفْعِهِ فِي رِوَايَة سُرَيْج بْن يُونُس حَيْثُ قَالَ فِيهِ " عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي إِيرَاد هَذِهِ الطَّرِيق أَيْضًا مَعَ نُزُولهَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِهَا عَنْ الْأُولَى لِلتَّصْرِيحِ فِي الْأُولَى بِقَوْلِ مَرْوَان " حَدَّثَنِي سَالِم " وَوَقَعَتْ فِي الثَّانِيَة بِالْعَنْعَنَةِ .
قَوْله : ( رَوَاهُ الْقُمِّيّ )
بِضَمِّ الْقَاف وَتَشْدِيد الْمِيم هُوَ يَعْقُوب بْن عَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن مَالِك بْن هَانِئ بْن عَامِر بْن أَبِي عَامِر الْأَشْعَرِيّ ، لِجَدِّهِ أَبِي عَامِر صُحْبَة وَكُنْيَة يَعْقُوب أَبُو الْحَسَن وَهُوَ مِنْ أَهْل قُم وَنَزَلَ الرَّيّ ، قَوَّاهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِع . وَلَيْث شَيْخه هُوَ اِبْن سُلَيْمٍ الْكُوفِيّ سَيِّئ الْحِفْظ . وَقَدْ وَقَعَ لَنَا هَذَا الْحَدِيث مِنْ رِوَايَة الْقُمِّيّ مَوْصُولًا فِي " مُسْنَد الْبَزَّار " وَفِي " الْغَيْلَانِيَّات " فِي " جُزْء اِبْن بَخِيت " كُلّهمْ مِنْ رِوَايَة عَبْد الْعَزِيز بْن الْخَطَّاب عَنْهُ بِهَذَا السَّنَد ، وَقَصَّرَ بَعْض الشُّرَّاح فَنَسَبَهُ إِلَى تَخْرِيج أَبِي نُعَيْم فِي الطِّبّ ، وَاَلَّذِي عِنْد أَبِي نُعَيْم بِهَذَا السَّنَد حَدِيث آخَر فِي الْحِجَامَة لَفْظه " اِحْتَجِمُوا لَا يَتَبَيَّغ بِكُمْ الدَّم فَيَقْتُلكُمْ " .
قَوْله : ( فِي الْعَسَل وَالْحَجْم )(60/14)
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " وَالْحِجَامَة " وَوَقَعَ فِي رِوَايَة عَبْد الْعَزِيز بْن الْخَطَّاب الْمَذْكُورَة " إِنْ كَانَ فِي شَيْء مِنْ أَدْوِيَتكُمْ شِفَاء فَفِي مَصَّة مِنْ الْحِجَام ، أَوْ مَصَّة مِنْ الْعَسَل " وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيّ بِقَوْلِهِ " فِي الْعَسَل وَالْحَجْم " وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْكَيّ لَمْ يَقَع فِي هَذِهِ الرِّوَايَة . وَأَغْرَبَ الْحُمَيْدِيّ فِي " الْجَمْع " فَقَالَ فِي أَفْرَاد الْبُخَارِيّ : الْحَدِيث الْخَامِس عَشَر عَنْ طَاوُسٍ عَنْ اِبْن عَبَّاس مِنْ رِوَايَة مُجَاهِد عَنْهُ ، قَالَ : وَبَعْض الرُّوَاة يَقُول فِيهِ عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فِي الْعَسَل وَالْحَجْم الشِّفَاء " وَهَذَا الَّذِي عَزَاهُ لِلْبُخَارِيّ لَمْ أَرَهُ فِيهِ أَصْلًا ، بَلْ وَلَا فِي غَيْره ، وَالْحَدِيث الَّذِي اِخْتَلَفَ الرُّوَاة فِيهِ هَلْ هُوَ عَنْ مُجَاهِد عَنْ طَاوُسٍ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَوْ عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس بِلَا وَاسِطَة إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَبْرَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا يُعَذَّبَانِ ،(...) َأَمَّا حَدِيث الْبَاب فَلَمْ أَرَهُ مِنْ رِوَايَة طَاوُسٍ أَصْلًا ، وَأَمَّا مُجَاهِد فَلَمْ يَذْكُرهُ الْبُخَارِيّ عَنْهُ إِلَّا تَعْلِيقًا كَمَا بَيَّنْته ، وَقَدْ ذَكَرْت مَنْ وَصَلَهُ ، وَسِيَاق لَفْظه : قَالَ الْخَطَّابِيُّ اِنْتَظَمَ هَذَا الْحَدِيث عَلَى جُمْلَة مَا يَتَدَاوَى بِهِ النَّاس ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجْم يَسْتَفْرِغ الدَّم وَهُوَ أَعْظَم الْأَخْلَاط ، وَالْحَجْم أَنْجَحهَا شِفَاء عِنْد هَيَجَان الدَّم ، وَأَمَّا الْعَسَل فَهُوَ مُسَهِّل لِلْأَخْلَاطِ الْبَلْغَمِيَّة ، وَيَدْخُل فِي الْمَعْجُونَات لِيَحْفَظ عَلَى تِلْكَ الْأَدْوِيَة قُوَاهَا وَيُخْرِجهَا مِنْ(60/15)
الْبَدَن ، وَأَمَّا الْكَيّ فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَل فِي الْخَلْط الْبَاغِي الَّذِي لَا تَنْحَسِم مَادَّته إِلَّا بِهِ ، وَلِهَذَا وَصَفَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ ، وَإِنَّمَا كَرِهَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَلَم الشَّدِيد وَالْخَطَر الْعَظِيم ، وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَرَب تَقُول فِي أَمْثَالهَا " آخِر الدَّوَاء الْكَيّ " ، وَقَدْ كَوَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْد بْن مُعَاذ وَغَيْره ، وَاكْتَوَى غَيْر وَاحِد مِنْ الصَّحَابَة . قُلْت : وَلَمْ يُرِدْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَصْر فِي الثَّلَاثَة ، فَإِنَّ الشِّفَاء قَدْ يَكُون فِي غَيْرهَا ، وَإِنَّمَا نَبَّهَ بِهَا عَلَى أُصُول الْعِلَاج ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَاض الِامْتِلَائِيَّة تَكُون دَمَوِيَّة وَصَفْرَاوِيَّة وَبَلْغَمِيَّة وَسَوْدَاوِيَّة ، وَشِفَاء الدَّمَوِيَّة بِإِخْرَاجِ الدَّم ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْحَجْم بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ اِسْتِعْمَال الْعَرَب وَالْفَهْم لَهُ ، بِخِلَافِ الْفَصْد فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْحَجْم لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا لَهَا غَالِبًا . عَلَى أَنَّ فِي التَّعْبِير بِقَوْلِهِ " شَرْطَة مِحْجَم " مَا قَدْ يَتَنَاوَل الْفَصْد ، وَأَيْضًا فَالْحَجْم فِي الْبِلَاد الْحَارَّة أَنْجَح مِنْ الْفَصْد ، وَالْفَصْد فِي الْبِلَاد الَّتِي لَيْسَتْ بِحَارَّةٍ أَنْجَحَ مِنْ الْحَجْم . وَأَمَّا الِامْتِلَاء الصَّفْرَاوِيّ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ فَدَوَاؤُهُ بِالْمُسَهِّلِ ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْعَسَل ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيه ذَلِكَ فِي الْبَاب الَّذِي بَعْده . وَأَمَّا الْكَيّ فَإِنَّهُ يَقَع آخِرًا لِإِخْرَاجِ مَا يَتَعَسَّر إِخْرَاجه مِنْ الْفَضَلَات ؛ وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ مَعَ إثْبَاتِهِ(60/16)
الشِّفَاء فِيهِ إِمَّا لِكَوْنِهِمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَحْسِم الْمَادَّة بِطَبْعِهِ فَكَرِهَهُ لِذَلِكَ ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يُبَادِرُونَ إِلَيْهِ قَبْل حُصُول الدَّاء لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ يَحْسِم الدَّاء فَتَعَجَّلَ الَّذِي يَكْتَوِي التَّعْذِيب بِالنَّارِ لِأَمْرٍ مَظْنُون ، وَقَدْ لَا يَتَّفِق أَنْ يَقَع لَهُ ذَلِكَ الْمَرَض الَّذِي يَقْطَعهُ الْكَيّ . وَيُؤْخَذ مِنْ الْجَمْع بَيْن كَرَاهَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْكَيِّ وَبَيْن اِسْتِعْمَاله لَهُ أَنَّهُ لَا يُتْرَك مُطْلَقًا وَلَا يُسْتَعْمَل مُطْلَقًا ، بَلْ يُسْتَعْمَل عِنْد تَعَيُّنه طَرِيقًا إِلَى الشِّفَاء مَعَ مُصَاحَبَة اِعْتِقَاد أَنَّ الشِّفَاء بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِير يُحْمَل حَدِيث الْمُغِيرَة رَفَعَهُ " مَنْ اِكْتَوَى أَوْ اِسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنْ التَّوَكُّل " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان وَالْحَاكِم . وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة : عُلِمَ مِنْ مَجْمُوع كَلَامه فِي الْكَيّ أَنَّ فِيهِ نَفْعًا وَأَنَّ فِيهِ مَضَرَّة ، فَلَمَّا نَهَى عَنْهُ عُلِمَ أَنَّ جَانِب الْمَضَرَّة فِيهِ أَغْلَب ، وَقَرِيب مِنْهُ إِخْبَار اللَّه تَعَالَى أَنَّ فِي الْخَمْر مَنَافِع ثُمَّ حَرَّمَهَا لِأَنَّ الْمَضَارّ الَّتِي فِيهَا أَعْظَم مِنْ الْمَنَافِع . اِنْتَهَى مُلَخَّصًا . وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى كُلّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُور الثَّلَاثَة فِي أَبْوَاب مُفْرَدَة لَهَا . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْمُرَاد بِالشِّفَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيث الشِّفَاء مِنْ أَحَد قِسْمَيْ الْمَرَض ، لِأَنَّ الْأَمْرَاض كُلّهَا إِمَّا مَادِّيَّة أَوْ غَيْرهَا ؛ وَالْمَادِّيَّة كَمَا تَقَدَّمَ حَارَّة وَبَارِدَة ، وَكُلّ مِنْهُمَا وَإِنْ(60/17)
اِنْقَسَمَ إِلَى رَطْبَة وَيَابِسَة وَمُرَكَّبَة فَالْأَصْل الْحَرَارَة وَالْبُرُودَة وَمَا عَدَاهُمَا يَنْفَعِل مِنْ إِحْدَاهُمَا ، فَنَبَّهَ بِالْخَبَرِ عَلَى أَصْل الْمُعَالَجَة بِضَرْبٍ مِنْ الْمِثَال ، فَالْحَارَّة تُعَالَج بِإِخْرَاجِ الدَّم لِمَا فِيهِ مِنْ اِسْتِفْرَاغ الْمَادَّة وَتَبْرِيد الْمِزَاج ، وَالْبَارِدَة بِتَنَاوُلِ الْعَسَل لِمَا فِيهِ مِنْ التَّسْخِين وَالْإِنْضَاج وَالتَّقْطِيع وَالتَّلْطِيف وَالْجَلَاء وَالتَّلْيِين ، فَيَحْصُل بِذَلِكَ اِسْتِفْرَاغ الْمَادَّة بِرِفْقٍ ، وَأَمَّا الْكَيّ فَخَاصّ بِالْمَرَضِ الْمُزْمِن لِأَنَّهُ يَكُون عَنْ مَادَّة بَارِدَة فَقَدْ تُفْسِد مِزَاج الْعُضْو فَإِذَا كُوِيَ خَرَجَتْ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْأَمْرَاض الَّتِي لَيْسَتْ بِمَادِّيَّةِ فَقَدْ أُشِيرَ إِلَى عِلَاجهَا بِحَدِيثِ " الْحُمَّى مِنْ فَيْح جَهَنَّم فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ " وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ عِنْد شَرْحه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَأَمَّا قَوْله " وَمَا أُحِبّ أَنْ أَكْتَوِي " فَهُوَ مِنْ جِنْس تَرْكه أَكْل الضَّبّ مَعَ تَقْرِيره أَكْله عَلَى مَائِدَته وَاعْتِذَاره بِأَنَّهُ يَعَافهُ .
4 - باب الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ . وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) .
* قَوْله : ( بَاب الدَّوَاء بِالْعَسَلِ ، وَقَوْل اللَّه تَعَالَى : فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ )(60/18)
كَأَنَّهُ أَشَارَ بِذِكْرِ الْآيَة إِلَى أَنَّ الضَّمِير فِيهَا لِلْعَسَلِ وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور ، وَزَعَمَ بَعْض أَهْل التَّفْسِير أَنَّهُ لِلْقُرْآنِ . وَذَكَرَ اِبْن بَطَّال أَنَّ بَعْضهمْ قَالَ : إِنَّ قَوْله تَعَالَى ( فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ ) أَيْ لِبَعْضِهِمْ ، وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ تَنَاوُل الْعَسَل قَدْ يَضُرّ بِبَعْضِ النَّاس كَمَنْ يَكُون حَارّ الْمِزَاج ، لَكِنْ لَا يَحْتَاج إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَمْله عَلَى الْعُمُوم مَا يَمْنَع أَنَّهُ قَدْ يَضُرّ الْأَبْدَان بِطَرِيقِ الْعَرْض . وَالْعَسَل يُذَكَّر وَيُؤَنَّث ، وَأَسْمَاؤُهُ تَزِيد عَلَى الْمِائَة ، وَفِيهِ مِنْ الْمَنَافِع مَا لَخَّصَهُ الْمُوَفَّق الْبَغْدَادِيّ وَغَيْره فَقَالُوا : يَجْلُو الْأَوْسَاخ الَّتِي فِي الْعُرُوق وَالْأَمْعَاء ، وَيَدْفَع الْفَضَلَات ، وَيَغْسِل خَمْل الْمَعِدَة ، وَيُسَخِّنهَا تَسْخِينًا مُعْتَدِلًا ، وَيَفْتَح أَفْوَاه الْعُرُوق وَيَشُدّ الْمَعِدَة وَالْكَبِد وَالْكُلَى وَالْمَثَانَة وَالْمَنَافِذ ، وَفِيهِ تَحْلِيل لِلرُّطُوبَاتِ أَكْلًا وَطِلَاء وَتَغْذِيَة ، وَفِيهِ حِفْظ الْمَعْجُونَات وَإِذْهَاب لِكَيْفِيَّةِ الْأَدْوِيَة الْمُسْتَكْرَهَة ، وَتَنْقِيَة الْكَبِد وَالصَّدْر ، وَإِدْرَار الْبَوْل وَالطَّمْث ، وَنَفْع لِلسُّعَالِ الْكَائِن مِنْ الْبَلْغَم ، وَنَفْع لِأَصْحَابِ الْبَلْغَم وَالْأَمْزِجَة الْبَارِدَة . وَإِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ الْخَلّ نَفَعَ أَصْحَاب الصَّفْرَاء . ثُمَّ هُوَ غِذَاء مِنْ الْأَغْذِيَة ، وَدَوَاء مِنْ الْأَدْوِيَة ، وَشَرَاب مِنْ الْأَشْرِبَة ، وَحَلْوَى مِنْ الْحَلَاوَات ، وَطِلَاء مِنْ الْأَطْلِيَة ، وَمُفْرِح مِنْ الْمُفْرِحَات . وَمِنْ مَنَافِعه أَنَّهُ إِذَا شُرِبَ حَارًّا بِدُهْنِ الْوَرْد نَفَعَ مِنْ نَهْش الْحَيَوَان(60/19)
، وَإِذَا شُرِبَ وَحْده بِمَاءٍ نَفَعَ مِنْ عَضَّة الْكَلْب الْكَلِب ، وَإِذَا جُعِلَ فِيهِ اللَّحْم الطَّرِيّ حَفِظَ طَرَاوَته ثَلَاثَة أَشْهُر ، وَكَذَلِكَ الْخِيَار وَالْقَرْع وَالْبَاذِنْجَان وَاللَّيْمُون وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْفَوَاكِه ، وَإِذَا لُطِّخَ بِهِ الْبَدَن لِلْقَمْلِ قَتَلَ الْقَمْل وَالصِّئْبَان ، وَطَوَّلَ الشَّعْر وَحَسَّنَهُ وَنَعَّمَهُ ، وَإِنْ اُكْتُحِلَ بِهِ جَلَا ظُلْمَة الْبَصَر ، وَإِنْ اُسْتُنَّ بِهِ صَقَلَ الْأَسْنَان وَحَفِظَ صِحَّتهَا . وَهُوَ عَجِيب فِي حِفْظ جُثَث الْمَوْتَى فَلَا يَسْرُع إِلَيْهَا الْبِلَى ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مَأْمُون الْغَائِلَة قَلِيل الْمَضَرَّة ، وَلَمْ يَكُنْ يُعَوِّل قُدَمَاء الْأَطِبَّاء فِي الْأَدْوِيَة الْمُرَكَّبَة إِلَّا عَلَيْهِ ، وَلَا ذِكْر لِلسُّكَّرِ فِي أَكْثَر كُتُبهمْ أَصْلًا . وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْم فِي " الطِّبّ النَّبَوِيّ " بِسَنَدٍ ضَعِيف مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رَفَعَهُ وَابْن مَاجَهْ بِسَنَدٍ ضَعِيف مِنْ حَدِيث جَابِر رَفَعَهُ " مَنْ لَعِقَ الْعَسَل ثَلَاث غَدَوَات فِي كُلّ شَهْر لَمْ يُصِبْهُ عَظِيم بَلَاء " وَاَللَّه أَعْلَم .
5682 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ أَخْبَرَنِى هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ .
* حَدِيث عَائِشَة " كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبهُ الْحَلْوَاء وَالْعَسَل " قَالَ الْكَرْمَانِيُّ : الْإِعْجَاب أَعَمّ مِنْ أَنْ يَكُون عَلَى سَبِيل الدَّوَاء أَوْ الْغِذَاء . فَتُؤْخَذ الْمُنَاسَبَة بِهَذِهِ الطَّرِيق [ ... ] .(60/20)
5683 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنْ كَانَ فِى شَىْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ - أَوْ يَكُونُ فِى شَىْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ - خَيْرٌ فَفِى شَرْطَةِ مِحْجَمٍ ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِىَ » .
* قَوْله : ( عَبْد الرَّحْمَن اِبْن الْغَسِيل )(60/21)
اِسْم الْغَسِيل حَنْظَلَة بْن أَبِي عَامِر الْأَوْسِيّ الْأَنْصَارِيّ ، اُسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ وَهُوَ جُنُب فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَة فَقِيلَ لَهُ الْغَسِيل ، وَهُوَ فَعِيل بِمَعْنَى مَفْعُول ، وَهُوَ جَدّ جَدّ عَبْد الرَّحْمَن ، فَهُوَ اِبْن سُلَيْمَان بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن حَنْظَلَة ، وَعَبْد الرَّحْمَن مَعْدُود فِي صِغَار التَّابِعِينَ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَسًا وَسَهْل بْن سَعْد ، وَجُلّ رِوَايَته عَنْ التَّابِعِينَ ، وَهُوَ ثِقَة عِنْد الْأَكْثَر وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْل النَّسَائِيِّ ، وَقَالَ اِبْن حِبَّان : كَانَ يُخْطِئ كَثِيرًا. ا هـ . وَكَانَ قَدْ عَمَّرَ فَجَازَ الْمِائَة فَلَعَلَّهُ تَغَيَّرَ حِفْظه فِي الْآخَر وَقَدْ اِحْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ ، وَشَيْخه عَاصِم بْن عُمَر بْن قَتَادَة أَيْ اِبْن النُّعْمَان الْأَنْصَارِيّ الْأَوْسِيّ يُكَنَّى أَبَا عُمَر (... ) تَابِعِيّ ثِقَة عِنْدهمْ ، وَأَغْرَبَ عَبْد الْحَقّ فَقَالَ فِي " الْأَحْكَام " : وَثَّقَهُ اِبْن مَعِين وَأَبُو زُرْعَة وَضَعَّفَهُ غَيْرهمَا . وَرَدَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَن بْن الْقَطَّان عَلَى عَبْد الْحَقّ فَقَالَ : لَا أَعْرِف أَحَدًا ضَعَّفَهُ وَلَا ذَكَرَهُ فِي الضُّعَفَاء ا ه . وَهُوَ كَمَا قَالَ .
قَوْله : ( إِنْ كَانَ فِي شَيْء مِنْ أَدْوِيَتكُمْ أَوْ يَكُون فِي شَيْء مِنْ أَدْوِيَتكُمْ )(60/22)
كَذَا وَقَعَ بِالشَّكِّ ، وَكَذَا لِأَحْمَد عَنْ أَبِي أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ عَنْ اِبْن الْغَسِيل ، وَسَيَأْتِي بَعْد أَبْوَاب بِاللَّفْظِ الْأَوَّل بِغَيْرِ شَكٍّ ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ ، وَذَكَرْت فِيهِ فِي " بَاب الْحِجَامَة مِنْ الدَّاء " قِصَّة ، وَقَوْله " أَوْ يَكُون " قَالَ اِبْن التِّين صَوَابه " أَوْ يَكُنْ " لِأَنَّهُ مَعْطُوف عَلَى مَجْزُوم فَيَكُون مَجْزُومًا . قُلْت : وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة أَحْمَد " إِنْ كَانَ أَوْ إِنْ يَكُنْ " فَلَعَلَّ الرَّاوِي أَشْبَعَ الضَّمَّة فَظَنَّ السَّامِع أَنَّ فِيهَا وَاوًا فَأَثْبَتَهَا ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون التَّقْدِير : إِنْ كَانَ فِي شَيْء أَوْ إِنْ كَانَ يَكُون فِي شَيْء ، فَيَكُون التَّرَدُّد لِإِثْبَاتِ لَفْظ يَكُون وَعَدَمهَا ، وَقَرَأَهَا بَعْضهمْ بِتَشْدِيدِ الْوَاو وَسُكُون النُّون ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْفُوظٍ .
قَوْله : ( فَفِي شَرْطَة مِحْجَم )
بِكَسْرِ الْمِيم وَسُكُون الْمُهْمَلَة وَفَتْح الْجِيم .
قَوْله : ( أَوْ لَذْعَة بِنَارٍ )
بِذَالٍ مُعْجَمَة سَاكِنَة وَعَيْن مُهْمَلَة ، اللَّذْع هُوَ الْخَفِيف مِنْ حَرْق النَّار . وَأَمَّا اللَّدْغ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَة وَالْغَيْن الْمُعْجَمَة فَهُوَ ضَرْب أَوْ عَضّ ذَات السُّمّ .
قَوْله : ( تَوَافَقَ الدَّاء )
فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْكَيّ إِنَّمَا يُشْرَع مِنْهُ مَا يَتَعَيَّن طَرِيقًا إِلَى إِزَالَة ذَلِكَ الدَّاء ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّجْرِبَة لِذَلِكَ وَلَا اِسْتِعْمَاله إِلَّا بَعْد التَّحَقُّق ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْمُوَافَقَةِ مُوَافَقَة الْقَدَر .
قَوْله : ( وَمَا أُحِبّ أَنْ أَكْتَوِي )
سَيَأْتِي بَيَانه بَعْد أَبْوَاب .(60/23)
5684 - حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِى الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَخِى يَشْتَكِى بَطْنَهُ . فَقَالَ « اسْقِهِ عَسَلاً » . ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ « اسْقِهِ عَسَلاً » . ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ فَعَلْتُ . فَقَالَ « صَدَقَ اللَّهُ ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ ، اسْقِهِ عَسَلاً » . فَسَقَاهُ فَبَرَأَ .
* حَدِيث أَبِي سَعِيد فِي الَّذِي اِشْتَكَى بَطْنه فَأُمِرَ بِشُرْبِ الْعَسَل ، وَسَيَأْتِي شَرْحه فِي " بَاب دَوَاء الْمَبْطُون " . وَشَيْخه عَبَّاس فِيهِ هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ مُهْمَلَة النَّرْسِيّ بِنُونٍ وَمُهْمَلَة ، وَعَبْد الْأَعْلَى شَيْخه هُوَ اِبْن عَبْد الْأَعْلَى ، وَسَعِيد هُوَ اِبْن أَبِي عَرُوبَة ، وَالْإِسْنَاد كُلّه بَصْرِيُّونَ .
5 - باب الدَّوَاءِ بِأَلْبَانِ الإِبِلِ .
قَوْله : ( بَاب الدَّوَاء بِأَلْبَانِ الْإِبِل )
أَيْ فِي الْمَرَضِ الْمُلَائِم لَهُ .(60/24)
5685 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا سَلاَّمُ بْنُ مِسْكِينٍ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَاسًا كَانَ بِهِمْ سَقَمٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ آوِنَا وَأَطْعِمْنَا فَلَمَّا صَحُّوا قَالُوا إِنَّ الْمَدِينَةَ وَخِمَةٌ . فَأَنْزَلَهُمُ الْحَرَّةَ فِى ذَوْدٍ لَهُ فَقَالَ « اشْرَبُوا أَلْبَانَهَا » . فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِىَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَاسْتَاقُوا ذَوْدَهُ ، فَبَعَثَ فِى آثَارِهِمْ ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ ، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَكْدُمُ الأَرْضَ بِلِسَانِهِ حَتَّى يَمُوتَ . قَالَ سَلاَّمٌ فَبَلَغَنِى أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لأَنَسٍ حَدِّثْنِى بِأَشَدِّ عُقُوبَةٍ عَاقَبَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَحَدَّثَهُ بِهَذَا . فَبَلَغَ الْحَسَنَ فَقَالَ وَدِدْتُ أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْهُ .
* قَوْله : ( سَلَّام بْن مِسْكِين )
هُوَ الْأَزْدِيّ ، وَهُوَ بِالتَّشْدِيدِ ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيّ سِوَى هَذَا الْحَدِيث وَآخَر سَيَأْتِي فِي كِتَاب الْأَدَب . وَوَقَعَ فِي اللِّبَاس عَنْ مُوسَى بْن إِسْمَاعِيل " حَدَّثَنَا سَلَّام عَنْ عُثْمَان بْن عَبْد اللَّه " فَزَعَمَ الْكَلَابَاذِيّ أَنَّهُ سَلَّام بْن مِسْكِين ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ سَلَّام بْن أَبِي مُطِيع ، وَسَأَذْكُرُ الْحُجَّة لِذَلِكَ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( حَدَّثَنَا ثَابِت )(60/25)
هُوَ الْبُنَانِيّ ، وَوَقَعَ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَة بَهْز بْن أَسَد " عَنْ سَلَّام بْن مِسْكِين قَالَ حَدَّثَ ثَابِت الْحَسَن وَأَصْحَابه وَأَنَا شَاهِد مِنْهُمْ " فَيُؤْخَذ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط فِي قَوْل الرَّاوِي حَدَّثَنَا فُلَان أَنْ يَكُون فُلَان قَدْ قَصَدَ إِلَيْهِ بِالتَّحْدِيثِ ، بَلْ إِنْ سَمِعَ مِنْهُ اِتِّفَاقًا جَازَ أَنْ يَقُول حَدَّثَنَا فُلَان ، وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد أَيْضًا كُلّهمْ بَصْرِيُّونَ .
قَوْله : ( أَنَّ نَاسًا ) زَادَ بَهْز فِي رِوَايَته " مِنْ أَهْل الْحِجَاز " وَ[ في رواية عند البخاري ] فِي الطَّهَارَة : (أَنَّهُمْ مِنْ عُكْل أَوْ عُرَيْنَة ) بِالشَّكِّ ، وَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِيَة وَأَنَّ أَرْبَعَة مِنْهُمْ كَانُوا مِنْ عُكْل وَثَلَاثَة مِنْ عُرَيْنَة وَالرَّابِع كَانَ تَبَعًا لَهُمْ .
قَوْله : ( كَانَ بِهِمْ سَقَم فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه آوِنَا وَأَطْعِمْنَا ، فَلَمَّا صَحُّوا )(60/26)
فِي السِّيَاق حَذْف تَقْدِيره فَآوَاهُمْ وَأَطْعَمَهُمْ ، فَلَمَّا صَحُّوا قَالُوا إِنَّ الْمَدِينَة وَخِمَة ، وَكَانَ السَّقَم الَّذِي بِهِمْ أَوَّلًا مِنْ الْجُوع أَوْ مِنْ التَّعَب فَلَمَّا زَالَ ذَلِكَ عَنْهُمْ خَشُوا مِنْ وَخَم الْمَدِينَة إِمَّا لِكَوْنِهِمْ أَهْل رِيف فَلَمْ يَعْتَادُوا بِالْحَضَرِ ، وَإِمَّا بِسَبَبِ مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْحُمَّى ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْدهَا " اِجْتَوَوْا الْمَدِينَة " [... قَالَ اِبْن فَارِس : اجْتَوَيْت الْبَلَد إِذَا كَرَهْت الْمُقَام فِيهِ وَإِنْ كُنْت فِي نِعْمَة . وَقَيَّدَهُ الْخَطَّابِيُّ بِمَا إِذَا تَضَرَّرَ بِالْإِقَامَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ . وَقَالَ الْقَزَّاز : اجْتَوَوْا أَيْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ طَعَامهَا ، وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيِّ : الْجَوَى دَاء يَأْخُذُ مِنْ الْوَبَاءِ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : " اِسْتَوْخَمُوا " قَالَ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ . وَقَالَ غَيْره : الْجَوَى دَاء يُصِيبُ الْجَوْف ... ] . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة بَهْز بْن أَسَد " بِهِمْ ضُرّ وَجَهْد " وَهُوَ يُشِير إِلَى مَا قُلْنَاهُ .
قَوْله : ( فِي ذَوْد لَهُ ) ذَكَرَ اِبْن سَعْد أَنَّ عَدَد الذَّوْد كَانَ خَمْس عَشْرَة ، وَفِي رِوَايَة بَهْز بْن أَسَد : أَنَّ الذَّوْد كَانَ مَعَ الرَّاعِي بِجَانِبِ الْحَرَّة .
قَوْله : ( فَقَالَ اِشْرَبُوا أَلْبَانهَا ) كَذَا هُنَا ، وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَة أَبِي قِلَابَةَ وَغَيْره عَنْ أَنَس " مِنْ أَلْبَانهَا وَأَبْوَالهَا " .
قَوْله : ( فَلَمَّا صَحُّوا )
فِي السِّيَاق حَذْف تَقْدِيره : فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا فَلِمَا صَحُّوا .
قَوْله : ( وَسَمَرَ أَعْيُنهمْ )(60/27)
كَذَا لِلْأَكْثَرِ ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيّ بِاللَّامِ بَدَل الرَّاء ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحهَا .
قَوْله : ( فَرَأَيْت الرَّجُل مِنْهُمْ يَكْدُم الْأَرْض بِلِسَانِهِ حَتَّى يَمُوت )
زَادَ بَهْز فِي رِوَايَته " مِمَّا يَجِد مِنْ الْغَمّ وَالْوَجَع " وَفِي صَحِيح أَبِي عَوَانَة هُنَا يَعَضّ الْأَرْض لِيَجِد بَرْدهَا مِمَّا يَجِد مِنْ الْحَرّ وَالشِّدَّة " .
قَوْله : ( قَالَ سَلَّام )
هُوَ مَوْصُول بِالسَّنَدِ الْمَذْكُور ،
وَقَوْله " فَبَلَغَنِي أَنَّ الْحَجَّاج "
هُوَ اِبْن يُوسُف الْأَمِير الْمَشْهُور ، وَفِي رِوَايَة أَنَس " فَذَكَرَ ذَلِكَ قَوْم لِلْحَجَّاجِ فَبَعَثَ إِلَى أَنَس فَقَالَ : هَذَا خَاتَمِي فَلْيَكُنْ بِيَدِك - أَيْ يَصِير خَازِنًا لَهُ - فَقَالَ أَنَس : إِنِّي أَعْجِز عَنْ ذَلِكَ . قَالَ فَحَدِّثْنِي بِأَشَدّ عُقُوبَة " الْحَدِيث .
قَوْله : ( بِأَشَدّ عُقُوبَة عَاقَبَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
كَذَا بِالتَّذْكِيرِ عَلَى إِرَادَة الْعِقَاب ، وَفِي رِوَايَة بَهْز " عَاقَبَهَا " عَلَى ظَاهِر اللَّفْظ .
قَوْله : ( فَبَلَغَ الْحَسَن )
هُوَ اِبْن أَبِي الْحَسَن الْبَصْرِيّ
( فَقَالَ : وَدِدْت أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثهُ )(60/28)
زَادَ الْكُشْمِيهَنِيّ " بِهَذَا " وَفِي رِوَايَة بَهْز " فَوَاَللَّهِ مَا اِنْتَهَى الْحَجَّاج حَتَّى قَامَ بِهَا عَلَى الْمِنْبَر فَقَالَ : حَدَّثَنَا أَنَس " فَذَكَرَهُ وَقَالَ " قَطَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُل وَسَمَلَ الْأَعْيُن فِي مَعْصِيَة اللَّه ، أَفَلَا نَفْعَل نَحْنُ ذَلِكَ فِي مَعْصِيَة اللَّه " ؟ وَسَاقَ الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ ثَابِت " حَدَّثَنِي أَنَس قَالَ : مَا نَدِمْت عَلَى شَيْء مَا نَدِمْت عَلَى حَدِيث حَدَّثْت بِهِ الْحَجَّاج " فَذَكَرَهُ ، وَإِنَّمَا نَدِمَ أَنَس عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجَّاج كَانَ مُسْرِفًا فِي الْعُقُوبَة ، وَكَانَ يَتَعَلَّق بِأَدْنَى شُبْهَة . وَلَا حُجَّة لَهُ فِي قِصَّة الْعُرَنِيِّينَ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّصْرِيح فِي بَعْض طُرُقه أَنَّهُمْ اِرْتَدُّوا ، وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا قَبْل أَنْ تَنْزِل الْحُدُود كَمَا فِي الَّذِي بَعْده ، وَقَبْل النَّهْي عَنْ الْمُثْلَة [ ... ] ، وَقَدْ حَضَرَ أَبُو هُرَيْرَة الْأَمْر بِالتَّعْذِيبِ بِالنَّارِ ثُمَّ حَضَرَ نَسْخه وَالنَّهْي عَنْ التَّعْذِيب بِالنَّارِ كَمَا مَرَّ فِي كِتَاب الْجِهَاد ، وَكَانَ إِسْلَام أَبِي هُرَيْرَة مُتَأَخِّرًا عَنْ قِصَّة الْعُرَنِيِّينَ [ ... ] .
6 - باب الدَّوَاءِ بِأَبْوَالِ الإِبِلِ .
قَوْله : ( بَاب الدَّوَاء بِأَبْوَالِ الْإِبِل )
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيث الْعُرَنِيِّينَ ، وَوَقَعَ فِي خُصُوص التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِل حَدِيث أَخْرَجَهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ اِبْن عَبَّاس رَفَعَهُ " عَلَيْكُمْ بِأَبْوَالِ الْإِبِل فَإِنَّهَا نَافِعَة لِلذَّرِبَةِ بُطُونهمْ " وَالذَّرِبَة بِفَتْحِ الْمُعْجَمَة وَكَسْر الرَّاء جَمْع ذَرِب ، وَالذَّرَب بِفَتْحَتَيْنِ فَسَاد الْمَعِدَة .(60/29)
5686 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ نَاسًا اجْتَوَوْا فِى الْمَدِينَةِ فَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ - يَعْنِى الإِبِلَ - فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا ، فَلَحِقُوا بِرَاعِيهِ فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا ، حَتَّى صَلَحَتْ أَبْدَانُهُمْ فَقَتَلُوا الرَّاعِىَ وَسَاقُوا الإِبِلَ ، فَبَلَغَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثَ فِى طَلَبِهِمْ ، فَجِىءَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ . قَالَ قَتَادَةُ فَحَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ .
* قَوْله : ( أَنَّ نَاسًا اِجْتَوَوْا فِي الْمَدِينَة )
كَذَا هُنَا بِإِثْبَاتِ " فِي " وَهِيَ ظَرْفِيَّة أَيْ حَصَلَ لَهُمْ الْجَوَى وَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَس " اِجْتَوَوْا الْمَدِينَة " .
قَوْله : ( أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ يَعْنِي الْإِبِل )
كَذَا فِي الْأَصْل ، وَفِي رِوَايَة مُسْلِم مِنْ هَذَا الْوَجْه أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِي الْإِبِل " .
قَوْله : ( حَتَّى صَلَحَتْ )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " صَحَّتْ " .
قَوْله : ( قَالَ قَتَادَة )
هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور ، وَقَوْله " فَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سِيرِينَ إِلَخْ " يُعَكِّر عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ طَرِيق سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَس قَالَ " إِنَّمَا سَمَلَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُن الرُّعَاة " [ ... ] .
7 - باب الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ .
قَوْله : ( بَاب الْحَبَّة السَّوْدَاء )(60/30)
سَيَأْتِي بَيَان الْمُرَاد بِهَا فِي آخِر الْبَاب .
5687 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ خَرَجْنَا وَمَعَنَا غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ فَمَرِضَ فِى الطَّرِيقِ ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهْوَ مَرِيضٌ ، فَعَادَهُ ابْنُ أَبِى عَتِيقٍ فَقَالَ لَنَا عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحُبَيْبَةِ السَّوْدَاءِ ، فَخُذُوا مِنْهَا خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَاسْحَقُوهَا ، ثُمَّ اقْطُرُوهَا فِى أَنْفِهِ بِقَطَرَاتِ زَيْتٍ فِى هَذَا الْجَانِبِ وَفِى هَذَا الْجَانِبِ ، فَإِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِى أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ مِنَ السَّامِ » . قُلْتُ وَمَا السَّامُ قَالَ الْمَوْتُ .
* قَوْله : ( حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي شَيْبَة ) كَذَا سَمَّاهُ وَنَسَبَهُ لِجَدِّهِ وَهُوَ أَبُو بَكْر ، مَشْهُور بِكُنْيَتِهِ أَكْثَر مِنْ اِسْمه " وَأَبُو شَيْبَة جَدّه ، وَهُوَ اِبْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم ، وَكَانَ إِبْرَاهِيم أَبُو شَيْبَة قَاضِي وَاسِط .(60/31)
قَوْله : ( حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه ) بِالتَّصْغِيرِ كَذَا لِلْجَمِيعِ غَيْر مَنْسُوب ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ عُبَيْد اللَّه غَيْر مَنْسُوب ، وَجَزَمَ أَبُو نُعَيْم فِي " الْمُسْتَخْرَج " بِأَنَّهُ عُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق أَبِي بَكْر الْأَعْيَن وَالْخَطِيب فِي كِتَاب " رِوَايَة الْآبَاء عَنْ الْأَبْنَاء " مِنْ طَرِيق أَبِي مَسْعُود الرَّازِيِّ ، وَهُوَ عِنْدنَا بِعُلُوِّ مِنْ طَرِيقه ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَد بْن حَازِم عَنْ أَبِي غَرَزَة - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وَالزَّاي - فِي مُسْنَده ، وَمِنْ طَرِيقه الْخَطِيب أَيْضًا كُلّهمْ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى ، وَهُوَ الْكُوفِيّ الْمَشْهُور ، وَرِجَال الْإسْنَاد كُلّهمْ كُوفِيُّونَ ، وَعُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى مِنْ كِبَار شُيُوخ الْبُخَارِيّ ، وَرُبَّمَا حَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَاَلَّذِي هُنَا .
قَوْله : ( عَنْ مَنْصُور )
هُوَ اِبْن الْمُعْتَمِر .
قَوْله : ( عَنْ خَالِد بْن سَعْد )
هُوَ مَوْلَى أَبِي مَسْعُود الْبَدْرِيّ الْأَنْصَارِيّ ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيّ سِوَى هَذَا الْحَدِيث ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمَنْجَنِيقِيّ فِي كِتَاب " رِوَايَة الْأَكَابِر عَنْ الْأَصَاغِر " عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى بِهَذَا الْإِسْنَاد فَأَدْخَلَ بَيْن مَنْصُور وَخَالِد بْن سَعْد مُجَاهِدًا ، وَتَعَقَّبَهُ الْخَطِيب بَعْد أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيق الْمَنْجَنِيقِيّ بِأَنَّ ذِكْر مُجَاهِد فِيهِ وَهْم . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْمَنْجَنِيقِيّ أَيْضًا " خَالِد بْن سَعِيد " بِزِيَادَةِ يَاء فِي اِسْم أَبِيهِ ، وَهُوَ وَهْم نَبَّهَ عَلَيْهِ الْخَطِيب أَيْضًا .
قَوْله : ( وَمَعَنَا غَالِب بْن أَبْجَر )(60/32)
بِمُوَحَّدَةٍ وَجِيم وَزْن أَحْمَد ، يُقَال إِنَّهُ الصَّحَابِيّ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُر الْأَهْلِيَّة . وَحَدِيثه عِنْد أَبِي دَاوُدَ .
قَوْله : ( فَعَادَهُ اِبْن أَبِي عَتِيق )
فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر الْأَعْيَن " فَعَادَهُ أَبُو بَكْر بْن أَبِي عَتِيق " وَكَذَا قَالَ سَائِر أَصْحَاب عَبْد اللَّه بْن مُوسَى إِلَّا الْمَنْجَنِيقِيّ فَقَالَ فِي رِوَايَته " عَنْ خَالِد بْن سَعْد عَنْ غَالِب بْن أَبْجَر عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق عَنْ عَائِشَة " وَاخْتَصَرَ الْقِصَّة ، وَبِسِيَاقِهَا يَتَبَيَّن الصَّوَاب ، قَالَ الْخَطِيب : وَقَوْله فِي السَّنَد " عَنْ غَالِب بْن أَبْجَر " وَهْم فَلَيْسَ لِغَالِبٍ فِيهِ رِوَايَة ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ خَالِد مَعَ غَالِب مِنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي عَتِيق ، قَالَ وَأَبُو بَكْر بْن أَبِي عَتِيق هَذَا هُوَ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر الصِّدِّيق ، وَأَبُو عَتِيق كُنْيَة أَبِيهِ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن ، وَهُوَ مَعْدُود فِي الصَّحَابَة لِكَوْنِهِ وُلِدَ فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبُوهُ وَجَدّه وَجَدّ أَبِيهِ صَحَابَة مَشْهُورُونَ .
قَوْله : ( عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحُبَيْبَة السُّوَيْدَاء )
كَذَا هُنَا بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا إِلَّا الْكُشْمِيهَنِيّ فَقَالَ " السَّوْدَاء " وَهِيَ رِوَايَة الْأَكْثَر مِمَّنْ قَدَّمْت ذِكْره أَنَّهُ أَخْرَجَ الْحَدِيث .
قَوْله : ( فَإِنَّ عَائِشَة حَدَّثَتْنِي أَنَّ هَذِهِ الْحَبَّة السَّوْدَاء شِفَاء )(60/33)
وَلِلْكُشْمِيهَنِيّ " أَنَّ فِي هَذِهِ الْحَبَّة شِفَاء " كَذَا لِلْأَكْثَرِ ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْيُن " هَذِهِ الْحَبَّة السَّوْدَاء الَّتِي تَكُون فِي الْمِلْح " وَكَانَ هَذَا قَدْ أَشْكَلَ عَلِيّ ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ يُرِيد الْكَمُّون وَكَانَتْ عَادَتهمْ جَرَتْ أَنْ يُخْلَط بِالْمِلْحِ .
قَوْله : ( إِلَّا مِنْ السَّام )
بِالْمُهْمَلَةِ بِغَيْرِ هَمْز ، وَلِابْنِ مَاجَهْ " إِلَّا أَنْ يَكُون الْمَوْت " ، وَفِي هَذَا أَنَّ الْمَوْت دَاء مِنْ جُمْلَة الْأَدْوَاء ، قَالَ الشَّاعِر " وَدَاء الْمَوْت لَيْسَ لَهُ دَوَاء " وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيه إِطْلَاق الدَّاء عَلَى الْمَوْت فِي الْبَاب الْأَوَّل .
قَوْله : ( قُلْت وَمَا السَّام ؟ قَالَ : الْمَوْت )(60/34)
لَمْ أَعْرِف اِسْم السَّائِل وَلَا الْقَائِل ، وَأَظُنّ السَّائِل خَالِد بْن سَعْد وَالْمُجِيب اِبْن أَبِي عَتِيق . وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ اِبْن أَبِي عَتِيق ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاء فِي عِلَاج الزُّكَام الْعَارِض مِنْهُ عُطَاس كَثِير وَقَالُوا : تُقْلَى الْحَبَّة السَّوْدَاء ثُمَّ تُدَقّ نَاعِمًا ثُمَّ تُنْقَع فِي زَيْت ثُمَّ يُقَطَّر مِنْهُ فِي الْأَنْف ثَلَاث قَطَرَات ، فَلَعَلَّ غَالِب بْن أَبْجَر كَانَ مَزْكُومًا فَلِذَلِكَ وَصَفَ لَهُ اِبْن أَبِي عَتِيق الصِّفَة الْمَذْكُورَة ، وَظَاهِر سِيَاقه أَنَّهَا مَوْقُوفَة عَلَيْهِ ، وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون عِنْده مَرْفُوعَة أَيْضًا ، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة الْأَعْيَن عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ بَعْد قَوْله مِنْ كُلّ دَاء " وَأَقْطِرُوا عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الزَّيْت " وَفِي رِوَايَة لَهُ أُخْرَى " وَرُبَّمَا قَالَ وَأَقْطِرُوا إِلَخْ " وَادَّعَى الْإِسْمَاعِيلِيّ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة مُدْرَجَة فِي الْخَبَر ، وَقَدْ أَوْضَحَتْ ذَلِكَ رِوَايَة اِبْن أَبِي شَيْبَة ؛ ثُمَّ وَجَدْتهَا مَرْفُوعَة مِنْ حَدِيث بُرَيْدَةَ فَأَخْرَجَ الْمُسْتَغْفِرِيّ فِي " كِتَاب الطِّبّ " مِنْ طَرِيق حُسَام بْن مِصَكٍّ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ الْحَبَّة السَّوْدَاء فِيهَا شِفَاء " الْحَدِيث ، قَالَ وَفِي لَفْظ " قِيلَ : وَمَا الْحَبَّة السَّوْدَاء ؟ قَالَ : الشُّونِيز قَالَ : وَكَيْف أَصْنَع بِهَا ؟ قَالَ : تَأْخُذ إِحْدَى وَعِشْرِينَ حَبَّة فَتَصُرّهَا فِي خِرْقَة ثُمَّ تَضَعهَا فِي مَاء لَيْلَة ، فَإِذَا أَصْبَحْت قَطَرْت فِي الْمَنْخِر الْأَيْمَن وَاحِدَة وَفِي الْأَيْسَر اِثْنَتَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَد قَطَرْت فِي الْمَنْخِر الْأَيْمَن اِثْنَتَيْنِ وَفِي(60/35)
الْأَيْسَر وَاحِدَة ، فَإِذَا كَانَ الْيَوْم الثَّالِث قَطَرْت فِي الْأَيْمَن وَاحِدَة وَفِي الْأَيْسَر اِثْنَتَيْنِ " وَيُؤْخَذ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى كَوْن الْحَبَّة شِفَاء مِنْ كُلّ دَاء أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَل فِي كُلّ دَاء صِرْفًا بَلْ رُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ مُفْرَدَة ، وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ مُرَكَّبَة ، وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ مَسْحُوقَة وَغَيْر مَسْحُوقَة ، وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ أَكْلًا وَشُرْبًا وَسَعُوطًا وَضِمَادًا وَغَيْر ذَلِكَ . وَقِيلَ إِنَّ قَوْله " كُلّ دَاء " تَقْدِيره يَقْبَل الْعِلَاج بِهَا ، فَإِنَّهَا تَنْفَع مِنْ الْأَمْرَاض الْبَارِدَة ، وَأَمَّا الْحَارَّة فَلَا . نَعَمْ قَدْ تَدْخُل فِي بَعْض الْأَمْرَاض الْحَارَّة الْيَابِسَة بِالْعَرْضِ فَتُوَصِّل قُوَى الْأَدْوِيَة الرَّطْبَة الْبَارِدَة إِلَيْهَا بِسُرْعَةِ تَنْفِيذهَا ، وَيُسْتَعْمَل الْحَارّ فِي بَعْض الْأَمْرَاض الْحَارَّة لِخَاصِّيَّةٍ فِيهِ لَا يُسْتَنْكَر كَالْعَنْزَرُوت فَإِنَّهُ حَارّ وَيُسْتَعْمَل فِي أَدْوِيَة الرَّمَد الْمُرَكَّبَة ، مَعَ أَنَّ الرَّمَد وَرَم حَارّ بِاتِّفَاقِ الْأَطِبَّاء ، وَقَدْ قَالَ أَهْل الْعِلْم بِالطِّبِّ : إِنَّ طَبْع الْحَبَّة السَّوْدَاء حَارّ يَابِس ، وَهِيَ مُذْهِبَة لِلنَّفْخِ ، نَافِعَة مِنْ حُمَّى الرِّبْع وَالْبَلْغَم ، مُفَتِّحَة لِلسُّدَدِ وَالرِّيح ، مُجَفِّفَة لِبَلَّةِ الْمَعِدَة ، وَإِذَا دُقَّتْ وَعُجِنَتْ بِالْعَسَلِ وَشُرِبَتْ بِالْمَاءِ الْحَارّ أَذَابَتْ الْحَصَاة وَأَدَرَّتْ الْبَوْل وَالطَّمْث ، وَفِيهَا جَلَاء وَتَقْطِيع ، وَإِذَا دُقَّتْ وَرُبِطَتْ بِخِرْقَةٍ مِنْ كَتَّان وَأَدِيم شَمّهَا نَفَعَ مِنْ الزُّكَام الْبَارِد ، وَإِذَا نُقِعَ مِنْهَا سَبْع حَبَّات فِي لَبَن اِمْرَأَة وَسُعِطَ بِهِ صَاحِب الْيَرَقَان أَفَادَهُ(60/36)
، وَإِذَا شُرِبَ مِنْهَا وَزْن مِثْقَال بِمَاءٍ أَفَادَ مِنْ ضِيق النَّفْس ، وَالضِّمَاد بِهَا يَنْفَع مِنْ الصُّدَاع الْبَارِد ، وَإِذَا طُبِخَتْ بُخْل وَتُمُضْمِضَ بِهَا نَفَعَتْ مِنْ وَجَع الْأَسْنَان الْكَائِن عَنْ بَرْد ، وَقَدْ ذَكَرَ اِبْن الْبَيْطَار وَغَيْره مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْمُفْرَدَات فِي مَنَافِعهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْته وَأَكْثَر مِنْهُ . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : قَوْله " مِنْ كُلّ دَاء " هُوَ مِنْ الْعَامّ الَّذِي يُرَاد بِهِ الْخَاصّ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي طَبْع شَيْء مِنْ النَّبَات مَا يَجْمَع جَمِيع الْأُمُور الَّتِي تُقَابِل الطَّبَائِع فِي مُعَالَجَة الْأَدْوَاء بِمُقَابِلِهَا ، وَإِنَّمَا الْمُرَاد أَنَّهَا شِفَاء مِنْ كُلّ دَاء يَحْدُث مِنْ الرُّطُوبَة . وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : الْعَسَل عِنْد الْأَطِبَّاء أَقْرَب إِلَى أَنْ يَكُون دَوَاء مِنْ كُلّ دَاء مِنْ الْحَبَّة السَّوْدَاء ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ الْأَمْرَاض مَا لَوْ شَرِبَ صَاحِبه الْعَسَل لَتَأَذَّى بِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي الْعَسَل " فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ " الْأَكْثَر الْأَغْلَب فَحَمْل الْحَبَّة السَّوْدَاء عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى . وَقَالَ غَيْره : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِف الدَّوَاء بِحَسَبِ مَا يُشَاهِدهُ مِنْ حَال الْمَرِيض ، فَلَعَلَّ قَوْله فِي الْحَبَّة السَّوْدَاء وَافَقَ مَرَض مِنْ مِزَاجه بَارِد ، فَيَكُون مَعْنِيّ قَوْله " شِفَاء مِنْ كُلّ دَاء " أَيْ مِنْ هَذَا الْجِنْس الَّذِي وَقَعَ الْقَوْل فِيهِ ، وَالتَّخْصِيص بِالْحَيْثِيَّةِ كَثِير شَائِع وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة : تَكَلَّمَ النَّاس فِي هَذَا الْحَدِيث وَخَصُّوا عُمُومه وَرَدُّوهُ إِلَى قَوْل أَهْل الطِّبّ(60/37)
وَالتَّجْرِبَة ، وَلَا خَفَاء بِغَلَطِ قَائِل ذَلِكَ ، لِأَنَّا إِذَا صَدَّقْنَا أَهْل الطِّبّ - وَمَدَار عِلْمهمْ غَالِبًا إِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّجْرِبَة الَّتِي بِنَاؤُهَا عَلَى ظَنّ غَالِب - فَتَصْدِيق مَنْ لَا يَنْطِق عَنْ الْهَوَى أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ كَلَامهمْ . اِنْتَهَى وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيه حَمْله عَلَى عُمُومه بِأَنْ يَكُون الْمُرَاد بِذَلِكَ مَا هُوَ أَعَمّ مِنْ الْإِفْرَاد وَالتَّرْكِيب ، وَلَا مَحْذُور فِي ذَلِكَ وَلَا خُرُوج عَنْ ظَاهِر الْحَدِيث ، وَاَللَّه أَعْلَم .
5688 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « فِى الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ السَّامَ » . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَالسَّامُ الْمَوْتُ ، وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ .
* قَوْله : ( أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَة ) هُوَ اِبْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف .
قَوْلُهُ : ( وَسَعِيد هُوَ اِبْن الْمُسَيِّب ) كَذَا فِي رِوَايَة عُقَيْل ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ وَجْهَيْنِ اِقْتَصَرَ فِي كُلّ مِنْهُمَا عَلَى وَاحِد مِنْهُمَا ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم أَيْضًا مِنْ رِوَايَة الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِلَفْظِ " مَا مِنْ دَاء إِلَّا وَفِي الْحَبَّة السَّوْدَاء مِنْهُ شِفَاء إِلَّا السَّام " .(60/38)
قَوْله : ( وَالْحَبَّة السَّوْدَاء الشُّونِيز ) كَذَا عَطَفَهُ عَلَى تَفْسِير اِبْن شِهَاب لِلسَّامِ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ تَفْسِير الْحَبَّة السَّوْدَاء أَيْضًا لَهُ . وَالشُّونِيز بِضَمِّ الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وَكَسْر النُّون وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا زَاي . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : قَيَّدَ بَعْض مَشَايِخنَا الشِّين بِالْفَتْحِ وَحَكَى عِيَاض عَنْ اِبْن الْأَعْرَابِيّ أَنَّهُ كَسَرَهَا فَأَبْدَلَ الْوَاو يَاء فَقَالَ الشِّينِيز ، وَتَفْسِير الْحَبَّة السَّوْدَاء بِالشُّونِيزِ لِشُهْرَة الشُّونِيز عِنْدهمْ إِذْ ذَاكَ ، وَأَمَّا الْآن فَالْأَمْر بِالْعَكْسِ ، وَالْحَبَّة السَّوْدَاء أَشْهَر عِنْد أَهْل هَذَا الْعَصْر مِنْ الشُّونِيز بِكَثِيرٍ ، وَتَفْسِيرهَا بِالشُّونِيزِ هُوَ الْأَكْثَر الْأَشْهَر وَهِيَ الْكَمُّون الْأَسْوَد وَيُقَال لَهُ أَيْضًا الْكَمُّون الْهِنْدِيّ . وَنَقَلَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي " غَرِيب الْحَدِيث " عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ أَنَّهَا الْخَرْدَل ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْد الْهَرَوِيُّ فِي " الْغَرِيبَيْنِ " أَنَّهَا ثَمَرَة الْبُطْم بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة وَسُكُون الْمُهْمَلَة ، وَاسْم شَجَرَتهَا الضِّرْو بِكَسْرِ الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : هُوَ صَمْغ شَجَرَة تُدْعَى الْكَمْكَام تُجْلَب مِنْ الْيَمَن ، وَرَائِحَتهَا طَيِّبَة ، وَتُسْتَعْمَل فِي الْبَخُور . قُلْت : وَلَيْسَتْ الْمُرَاد هُنَا جَزْمًا . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : تَفْسِيرهَا بِالشُّونِيزِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ قَوْل الْأَكْثَر ، وَالثَّانِي كَثْرَة مَنَافِعهَا بِخِلَافِ الْخَرْدَل وَالْبُطْم .
8 - باب التَّلْبِينَةِ لِلْمَرِيضِ .
قَوْله : ( بَاب التَّلْبِينَة لِلْمَرِيضِ )(60/39)
هِيَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة وَسُكُون اللَّام وَكَسْر الْمُوَحَّدَة بَعْدهَا تَحْتَانِيَّة ثُمَّ نُون ثُمَّ هَاء ، وَقَدْ يُقَال بِلَا هَاء ، قَالَ الْأَصْمَعِيّ : هِيَ حَسَاء يُعْمَل مِنْ دَقِيق أَوْ نُخَالَة وَيُجْعَل فِيهِ عَسَل قَالَ غَيْره : أَوْ لَبَن . سُمِّيَتْ تَلْبِينَة تَشْبِيهًا لَهَا بِاللَّبَنِ فِي بَيَاضهَا وَرِقَّتهَا . وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة : وَعَلَى قَوْل مَنْ قَالَ يُخْلَط فِيهَا لَبَن سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمُخَالَطَةِ اللَّبَن لَهَا . وَقَالَ أَبُو نُعَيْم فِي الطِّبّ : هِيَ دَقِيق بَحْت . وَقَالَ قَوْم : فِيهِ شَحْم . وَقَالَ الدَّاوُدِيّ : يُؤْخَذ الْعَجِين غَيْر خَمِير فَيُخْرَج مَاؤُهُ فَيُجْعَل حَسْوًا فَيَكُون لَا يُخَالِطهُ شَيْء ، فَلِذَلِكَ كَثُرَ نَفْعه . وَقَالَ الْمُوَفَّق الْبَغْدَادِيّ : التَّلْبِينَة الْحَسَاء وَيَكُون فِي قَوَام اللَّبَن ، وَهُوَ الدَّقِيق النَّضِيج لَا الْغَلِيظ النِّيء .
5689 - حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ ، وَكَانَتْ تَقُولُ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ ، وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ » .
5257 - قَوْلُهُ : ( عَبْد اللَّه ) هُوَ اِبْن الْمُبَارَك .(60/40)
قَوْله : ( حَدَّثَنَا يُونُس بْن يَزِيد عَنْ عُقَيْل ) هُوَ مِنْ رِوَايَة الْأَقْرَان . وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو عَلَى الْأَسْيُوطِيّ عَنْهُ أَنَّ عُقَيْلًا تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ الزُّهْرِيّ . وَوَقَعَ فِي التِّرْمِذِيّ عَقِب حَدِيث مُحَمَّد بْن السَّائِب بْن بَرَكَة عَنْ أُمّه عَنْ عَائِشَة فِي التَّلْبِينَة ، وَقَدْ رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة " حَدَّثَنَا بِذَلِكَ الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّالْقَانِيّ حَدَّثَنَا اِبْن الْمُبَارَك عَنْ يُونُس عَنْ الزُّهْرِيّ " قَالَ الْمِزِّيّ : كَذَا فِي النُّسَخ لَيْسَ فِيهِ عُقَيْل . قُلْت : وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ رِوَايَة نُعَيْم بْن حَمَّاد وَمِنْ رِوَايَة عَبْد اللَّه بْن سِنَان كِلَاهُمَا عَنْ اِبْن الْمُبَارَك لَيْسَ فِيهِ عُقَيْل ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَة عَلِيّ بْن الْحَسَن بْن شَقِيق عَنْ اِبْن الْمُبَارَك بِإِثْبَاتِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ ، وَكَأَنَّ مَنْ لَمْ يَذْكُر فِيهِ عُقَيْلًا جَرَى عَلَى الْجَادَّة لِأَنَّ يُونُس مُكْثِر عَنْ الزُّهْرِيّ ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ عُقَيْل أَيْضًا اللَّيْثُ بْن سَعْد [ .. ] .
قَوْله : ( أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُر بِالتَّلْبِينِ ) فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " بِالتَّلْبِينَة " بِزِيَادَةِ الْهَاء .
قَوْله : ( لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ ) أَيْ بِصُنْعِهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا ، وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَة اللَّيْث عَنْ عُقَيْل " أَنَّ عَائِشَة كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّت مِنْ أَهْلهَا ثُمَّ اِجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاء ثُمَّ تَفَرَّقْنَ أَمَرَتْ بِبُرْمَةِ تَلْبِينَة فَطُبِخَتْ ثُمَّ قَالَتْ : كُلُوا مِنْهَا " .
قَوْله : ( عَلَيْكُمْ بِالتَّلْبِينَة ) أَيْ كُلُوهَا .(60/41)
قَوْله : ( فَإِنَّهَا تَجُمّ ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة وَضَمَّ الْجِيم وَبِضَمِّ أَوَّله وَكَسْر ثَانِيه وَهُمَا بِمَعْنًى ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اللَّيْث " فَإِنَّهَا مَجَمَّة " بِفَتْحِ الْمِيم وَالْجِيم وَتَشْدِيد الْمِيم الثَّانِيَة هَذَا هُوَ الْمَشْهُور ، وَرُوِيَ بِضَمِّ أَوَّله وَكَسْر ثَانِيه وَهُمَا بِمَعْنًى ، يُقَال جَمَّ وَأَجَمّ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تُرِيح فُؤَاده وَتُزِيل عَنْهُ الْهَمّ وَتُنَشِّطهُ ، وَالْجَامّ بِالتَّشْدِيدِ الْمُسْتَرِيح ، وَالْمَصْدَر الْجَمَام وَالْإِجْمَام ، وَيُقَال جَمّ الْفَرَس وَأُجِمَّ إِذَا أُرِيح فَلَمْ يُرْكَب فَيَكُون أَدْعَى لِنَشَاطِهِ . وَحَكَى اِبْن بَطَّال أَنَّهُ رُوِيَ تُخَمّ بِخَاءٍ مُعْجَمَة قَالَ : وَالْمِخَمَّة الْمِكْنَسَة .
5690 - حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِى الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينَةِ وَتَقُولُ هُوَ الْبَغِيضُ النَّافِعُ .
* قوله ( حَدَّثَنَا فَرْوَة ) بِفَتْحِ الْفَاء ( اِبْن أَبِي الْمَغْرَاء ) بِفَتْحِ الْمِيم وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَبِالْمَدِّ هُوَ الْكِنْدِيّ الْكُوفِيّ ، وَاسْم أَبِي الْمَغْرَاء مَعْدِي كَرِبَ وَكُنْيَة فَرْوَة أَبُو الْقَاسِم ، مِنْ الطَّبَقَة الْوُسْطَى مِنْ شُيُوخ الْبُخَارِيّ وَلَمْ يُكْثِر عَنْهُ .
قَوْله : ( أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرنَا بِالتَّلْبِينَة وَتَقُول : هُوَ الْبَغِيض النَّافِع )(60/42)
كَذَا فِيهِ مَوْقُوفًا ، وَقَدْ حَذَفَ الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذِهِ الطَّرِيق وَضَاقَتْ عَلَى أَبِي نُعَيْم فَأَخْرَجَهَا مِنْ طَرِيق الْبُخَارِيّ هَذِهِ عَنْ فَرْوَة ، وَوَقَعَ عِنْد أَحْمَد وَابْن مَاجَهْ مِنْ طَرِيق كُلْثُم عَنْ عَائِشَة مَرْفُوعًا " عَلَيْكُمْ بِالْبَغِيضِ النَّافِع التَّلْبِينَة يَعْنِي الْحَسَاء " وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ عَائِشَة وَزَادَ " وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَغْسِل بَطْن أَحَدكُمْ كَمَا يَغْسِل أَحَدكُمْ الْوَسَخ عَنْ وَجْهه بِالْمَاءِ " وَلَهُ وَهُوَ عِنْد أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن السَّائِب بْن بَرَكَة عَنْ أُمّه عَنْ عَائِشَة قَالَتْ " كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ أَهْله الْوَعْك أَمْر بِالْحَسَاءِ فَصُنِعَ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَحَسَوْا مِنْهُ ثُمَّ قَالَ : إِنَّهُ يَرْتُو فُؤَاد الْحَزِين وَيَسْرُو عَنْ فُؤَاد السَّقِيم ، كَمَا تَسْرُو إِحْدَاكُنَّ الْوَسَخ عَنْ وَجْههَا بِالْمَاءِ " . وَيَرْتُو بِفَتْحِ أَوَّله وَسُكُون الرَّاء وَضَمِّ الْمُثَنَّاة وَيَسْرُو وَزْنه بِسِينٍ مُهْمَلَة ثُمَّ رَاءٍ ، وَمَعْنَى يَرْتُو يُقَوِّي وَمَعْنَى يَسْرُو يَكْشِف ، وَالْبَغِيض بِوَزْنِ عَظِيم مِنْ الْبُغْض أَيْ يُبْغِضهُ الْمَرِيض مَعَ كَوْنه يَنْفَعهُ كَسَائِرِ الْأَدْوِيَة . وَحَكَى عِيَاض أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي زَيْد الْمَرْوَزِيِّ بِالنُّونِ بَدَل الْمُوَحَّدَة ، قَالَ : وَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا . قَالَ الْمُوَفَّق الْبَغْدَادِيّ : إِذَا شِئْت مَعْرِفَة مَنَافِع التَّلْبِينَة فَاعْرِفْ مَنَافِع مَاء الشَّعِير وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ نُخَالَة ، فَإِنَّهُ يَجْلُو وَيَنْفُذ بِسُرْعَةٍ وَيُغَذِّي غِذَاء لَطِيفًا ، وَإِذَا شُرِبَ حَارًّا(60/43)
كَانَ أَجْلَى وَأَقْوَى نُفُوذًا وَأَنْمَى لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّة . قَالَ : وَالْمُرَاد بِالْفُؤَادِ فِي الْحَدِيث رَأْس الْمَعِدَة فَإِنَّ فُؤَاد الْحَزِين يَضْعُف بِاسْتِيلَاءِ الْيُبْس عَلَى أَعْضَائِهِ وَعَلَى مَعِدَته خَاصَّة لِتَقْلِيلِ الْغِذَاء ، وَالْحَسَاء يُرَطِّبهَا وَيُغَذِّيهَا وَيُقَوِّيهَا ، وَيَفْعَل مِثْل ذَلِكَ بِفُؤَادِ الْمَرِيض ، لَكِنْ الْمَرِيض كَثِيرًا مَا يَجْتَمِع فِي مَعِدَته خِلْط مَرَارِيّ أَوْ بَلْغَمِيّ أَوْ صَدِيدِيّ ، وَهَذَا الْحَسَاء يَجْلُو ذَلِكَ عَنْ الْمَعِدَة . قَالَ : وَسَمَّاهُ الْبَغِيض النَّافِع لِأَنَّ الْمَرِيض يَعَافهُ وَهُوَ نَافِع لَهُ ، قَالَ : وَلَا شَيْء أَنْفَع مِنْ الْحَسَاء لِمَنْ يَغْلِب عَلَيْهِ فِي غِذَائِهِ الشَّعِير ، وَأَمَّا مَنْ يَغْلِب عَلَى غِذَائِهِ الْحِنْطَة فَالْأَوْلَى بِهِ فِي مَرَضه حَسَاء الشَّعِير . وَقَالَ صَاحِب " الْهَدْيِ " : التَّلْبِينَة أَنْفَع مِنْ الْحَسَاء لِأَنَّهَا تُطْبَخ مَطْحُونَة فَتَخْرُج خَاصَّة الشَّعِير بِالطَّحْنِ ، وَهِيَ أَكْثَر تَغْذِيَة وَأَقْوَى فِعْلًا وَأَكْثَر جَلَاء ، وَإِنَّمَا اِخْتَارَ الْأَطِبَّاء النَّضِيج لِأَنَّهُ أَرَقّ وَأَلْطَف فَلَا يَثْقُل عَلَى طَبِيعَة الْمَرِيض . وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِف الِانْتِفَاع بِذَلِكَ بِحَسَبِ اِخْتِلَاف الْعَادَة فِي الْبِلَاد ، وَلَعَلَّ اللَّائِق بِالْمَرِيضِ مَاء الشَّعِير إِذَا طُبِخَ صَحِيحًا ، وَبِالْحَزِينِ إِذَا طُبِخَ مَطْحُونًا ، لِمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَة مِنْ الْفَرْق بَيْنهمَا فِي الْخَاصِّيَّة وَاَللَّه أَعْلَم .
9 - باب السَّعُوطِ .
قَوْله : ( بَاب السَّعُوط ) بِمُهْمَلَتَيْنِ : مَا يُجْعَل فِي الْأَنْف مِمَّا يُتَدَاوَى بِهِ .(60/44)
5691 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَاسْتَعَطَ .
* قَوْله : ( وَاسْتَعَطَ ) أَيْ اِسْتَعْمَلَ السَّعُوط وَهُوَ أَنْ يَسْتَلْقِي عَلَى ظَهْره وَيَجْعَل بَيْن كَتِفَيْهِ مَا يَرْفَعهُمَا لِيَنْحَدِر رَأْسه وَيُقْطَر فِي أَنْفه مَاء أَوْ دُهْن فِيهِ دَوَاء مُفْرَد أَوْ مُرَكَّب ، لِيَتَمَكَّن بِذَلِكَ مِنْ الْوُصُول إِلَى دِمَاغه لِاسْتِخْرَاجِ مَا فِيهِ مِنْ الدَّاء بِالْعُطَاسِ ، وَسَيَأْتِي ذِكْر مَا يُسْتَعَطُّ بِهِ فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيه . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ اِبْن عَبَّاس رَفَعَهُ " أَنَّ خَيْر مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السَّعُوط " .
10 - باب السَّعُوطِ بِالْقُسْطِ الْهِنْدِىِّ الْبَحْرِىِّ . وَهُوَ الْكُسْتُ مِثْلُ الْكَافُورِ ، وَالْقَافُورِ مِثْلُ كُشِطَتْ وَقُشِطَتْ نُزِعَتْ ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ قُشِطَتْ .
قَوْله : ( بَاب السُّعُوط بِالْقُسْطِ الْهِنْدِيّ وَالْبَحْرِيّ )
قَالَ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ الْقُسْط نَوْعَانِ : هِنْدِيّ وَهُوَ أَسْوَد ، وَبَحْرِيّ وَهُوَ أَبْيَض ، وَالْهِنْدِيّ أَشَدّهمَا حَرَارَة .
قَوْله : ( وَهُوَ الْكُسْت )
يَعْنِي أَنَّهُ يُقَال بِالْقَافِ وَبِالْكَافِ ، وَيُقَال بِالطَّاءِ وَبِالْمُثَنَّاةِ ، وَذَلِكَ لِقُرْبِ كُلّ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ بِالْآخَرِ ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا مَعَ الْقَاف بِالْمُثَنَّاةِ وَمَعَ الْكَاف بِالطَّاءِ ، وَ[ ... ] فِي حَدِيث أُمّ عَطِيَّة عِنْد الطُّهْر مِنْ الْحَيْض :" نُبْذَة مِنْ الْكُسْت " وَفِي رِوَايَة عَنْهَا " مِنْ قُسْط " [ ... ] .
قَوْله : ( مِثْل الْكَافُور وَالْقَافُور )(60/45)
تَقَدَّمَ هَذَا فِي " بَاب الْقُسْط لِلْحَادَّةِ " [.. أَيْ عِنْد طُهْرهَا مِنْ الْمَحِيض إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيض ، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه " وَهُوَ الْبُخَارِيّ " الْقُسْط وَالْكُسْت مِثْل الْكَافُور وَالْقَافُور " أَيْ يَجُوز فِي كُلّ مِنْهُمَا الْكَاف وَالْقَاف وَزَادَ الْقُسْط أَنَّهُ يُقَال بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة بَدَل الطَّاء ، فَأَرَادَ الْمِثْلِيَّة فِي الْحَرْف الْأَوَّل فَقَطْ . قَالَ النَّوَوِيّ : الْقُسْط وَالْأَظْفَار نَوْعَانِ مَعْرُوفَانِ مِنْ الْبَخُور وَلَيْسَا مِنْ مَقْصُود الطِّيب ، رُخِّصَ فِيهِ لِلْمُغْتَسِلَةِ مِنْ الْحَيْض لِإِزَالَةِ الرَّائِحَة الْكَرِيهَة تَتْبَعُ بِهِ أَثَر الدَّم لَا لِلتَّطَيُّبِ . قُلْت : الْمَقْصُود مِنْ التَّطَيُّب بِهِمَا أَنْ يُخْلَطَا فِي أَجْزَاء أُخَر مِنْ غَيْرهمَا ثُمَّ تُسْحَق فَتَصِير طِيبًا ، وَالْمَقْصُود بِهِمَا هُنَا كَمَا قَالَ الشَّيْخ أَنْ تَتَبَّعَ بِهِمَا أَثَر الدَّم لِإِزَالَةِ الرَّائِحَة لَا لِلتَّطَيُّبِ ، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيّ أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهَا تَسْحَق الْقُسْط وَتُلْقِيه فِي الْمَاء آخِر غُسْلهَا لِتَذْهَب رَائِحَة الْحَيْض ، وَرَدَّهُ عِيَاض بِأَنَّ ظَاهِر الْحَدِيث يَأْبَاهُ ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُل مِنْهُ رَائِحَة طَيِّبَة إِلَّا مِنْ التَّبَخُّر بِهِ ، كَذَا قَالَ وَفِيهِ نَظَر ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَاز اِسْتِعْمَال مَا فِيهِ مَنْفَعَة لَهَا مِنْ جِنْس مَا مُنِعَتْ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّزَيُّنِ أَوْ التَّطَيُّب كَالتَّدَهُّنِ بِالزَّيْتِ فِي شَعْر الرَّأْس أَوْ غَيْره ...] .(60/46)
قَوْله : ( وَمِثْل كُشِطَتْ وَقُشِطَتْ ، وَقَرَأَ عَبْد اللَّه قُشِطَتْ ) زَادَ النَّسَفِيّ " أَيْ نُزِعَتْ " يُرِيد أَنَّ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَرَأَ " وَإِذَا السَّمَاء قُشِطَتْ " بِالْقَافِ وَلَمْ تَشْتَهِر هَذِهِ الْقِرَاءَة ، وَقَدْ وَجَدْت سَلَف الْبُخَارِيّ فِي هَذَا : فَقَرَأْت فِي كِتَاب " مَعَانِي الْقُرْآن لِلْفَرَّاءِ " فِي قَوْله تَعَالَى : ( وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ ) قَالَ يَعْنِي نُزِعَتْ ، وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه قُشِطَتْ بِالْقَافِ وَالْمَعْنَى وَاحِد ، وَالْعَرَب تَقُول : الْكَافُور وَالْقَافُور وَالْقَشْط وَالْكَشْط وَإِذَا تَقَارَبَ الْحَرْفَانِ فِي الْمَخْرَج تَعَاقَبَا فِي الْمَخْرَج هَكَذَا رَأَيْته فِي نُسْخَة جَيِّدَة مِنْهُ " الْكَشْط " بِالْكَافِ وَالطَّاء وَاَللَّه أَعْلَم .
5692 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِىَّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِىِّ ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ . يُسْتَعَطُ بِهِ مِنَ الْعُذْرَةِ ، وَيُلَدُّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ » .
5693 - وَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِابْنٍ لِى لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَيْهِ ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّ عَلَيْهِ .
* قَوْله : ( عَنْ عُبَيْدِ اللَّه ) سَيَأْتِي بِلَفْظِ " أَخْبَرَنِي عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن عُتْبَة " .
قَوْله : ( عَنْ أُمّ قَيْس بِنْت مِحْصَن ) وَقَعَ عِنْد مُسْلِم التَّصْرِيح بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْهَا ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا قَرِيبًا .(60/47)
قَوْله : ( عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُود الْهِنْدِيّ ) كَذَا وَقَعَ هُنَا مُخْتَصَرًا ، وَيَأْتِي بَعْد أَبْوَاب فِي أَوَّله قِصَّة " أَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنٍ لِي وَقَدْ أَعْلَقْت عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرَة فَقَالَ : عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُود الْهِنْدِيّ " . وَأَخْرَجَ أَحْمَد وَأَصْحَاب السُّنَن مِنْ حَدِيث جَابِر مَرْفُوعًا " أَيّمَا اِمْرَأَة أَصَابَ وَلَدهَا عُذْرَة أَوْ وَجَع فِي رَأْسه فَلْتَأْخُذْ قُسْطًا هِنْدِيًّا فَتَحُكّهُ بِمَاءٍ ثُمَّ تُسْعِطهُ إِيَّاهُ " وَفِي حَدِيث أَنَس الْآتِي بَعْد بَابَيْنِ " إِنَّ أَمْثَل مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَة وَالْقُسْط الْبَحْرِيّ " وَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ وَصْف لِكُلِّ مَا يُلَائِمهُ ، فَحَيْثُ وُصِفَ الْهِنْدِيّ كَانَ لِاحْتِيَاجٍ فِي الْمُعَالَجَة إِلَى دَوَاء شَدِيد الْحَرَارَة ، وَحَيْثُ وُصِفَ الْبَحْرِيّ كَانَ دُون ذَلِكَ فِي الْحَرَارَة ، لِأَنَّ الْهِنْدِيّ كَمَا تَقَدَّمَ أَشَدّ حَرَارَة مِنْ الْبَحْرِيّ . وَقَالَ اِبْن سِينَا : الْقُسْط حَارّ فِي الثَّالِثَة يَابِس فِي الثَّانِيَة .
قَوْله : ( فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَة أَشْفِيَة ) جَمْع شَفَاء كَدَوَاءٍ وَأَدْوِيَة .(60/48)
قَوْله : ( يُسْتَعَطُ بِهِ مِنْ الْعُذْرَة ، وَيُلَدّ بِهِ مِنْ ذَات الْجَنْب ) كَذَا وَقَعَ الِاقْتِصَار فِي الْحَدِيث مِنْ السَّبْعَة عَلَى اِثْنَيْنِ ، فَإمَّا أَنْ يَكُون ذَكَرَ السَّبْعَة فَاخْتَصَرَهُ الرَّاوِي أَوْ اِقْتَصَرَ عَلَى الِاثْنَيْنِ لِوُجُودِهِمَا حِينَئِذٍ دُون غَيْرهمَا ، وَسَيَأْتِي مَا يُقَوِّي الِاحْتِمَال الثَّانِي . وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاء مِنْ مَنَافِع الْقُسْط أَنَّهُ يُدِرّ الطَّمْث وَالْبَوْل وَيَقْتُل دِيدَان الْأَمْعَاء وَيَدْفَع السُّمّ وَحُمَّى الرِّبْع وَالْوِرْد وَيُسَخِّن الْمَعِدَة وَيُحَرِّك شَهْوَة الْجِمَاع وَيُذْهِب الْكَلَف طِلَاءً ، فَذَكَرُوا أَكْثَر مِنْ سَبْعَة ، وَأَجَابَ بَعْض الشُّرَّاح بِأَنَّ السَّبْعَة عُلِمَتْ بِالْوَحْيِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا بِالتَّجْرِبَةِ ، فَاقْتَصَرَ عَلَى مَا هُوَ بِالْوَحْيِ لِتَحَقُّقِهِ وَقِيلَ ذَكَرَ مَا يُحْتَاج إِلَيْهِ دُون غَيْره لِأَنَّهُ لَمْ يُبْعَث بِتَفَاصِيل ذَلِكَ قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون السَّبْعَة أُصُول صِفَة التَّدَاوِي بِهَا ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا طِلَاء أَوْ شُرْب أَوْ تَكْمِيد أَوْ تَنْطِيل أَوْ تَبْخِير أَوْ سَعُوط أَوْ لَدُود ؛ فَالطِّلَاء يَدْخُل فِي الْمَرَاهِم وَيُحَلَّى بِالزَّيْتِ وَيُلَطَّخ ، وَكَذَا التَّكْمِيد ، وَالشُّرْب يُسْحَق وَيُجْعَل فِي عَسَل أَوْ مَاء أَوْ غَيْرهمَا ، وَكَذَا التَّنْطِيل ، وَالسَّعُوط يُسْحَق فِي زَيْت وَيُقْطَر فِي الْأَنْف ، وَكَذَا الدُّهْن ، وَالتَّبْخِير وَاضِح ، وَتَحْت كُلّ وَاحِدَة مِنْ السَّبْعَة مَنَافِع لِأَدْوَاءٍ مُخْتَلِفَة وَلَا يُسْتَغْرَب ذَلِكَ مِمَّنْ أُوتِيَ جَوَامِع الْكَلِم . وَأَمَّا الْعُذْرَة فَهِيَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَجَع فِي الْحَلْق يَعْتَرِي الصِّبْيَانِ غَالِبًا ، وَقِيلَ هِيَ(60/49)
قُرْحَة تَخْرُج بَيْن الْأُذُن وَالْحَلْق أَوْ فِي الْخُرْم الَّذِي بَيْن الْأَنْف وَالْحَلْق ، قِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَخْرُج غَالِبًا عِنْد طُلُوع الْعُذْرَة ؛ وَهِيَ خَمْسَة كَوَاكِب تَحْت الشِّعْرَى الْعَبُور ، وَيُقَال لَهَا أَيْضًا الْعَذَارَى ، وَطُلُوعهَا يَقَع وَسَط الْحَرّ . وَقَدْ اِسْتَشْكَلَ مُعَالَجَتهَا بِالْقُسْطِ مَعَ كَوْنه حَارًّا وَالْعُذْرَة إِنَّمَا تَعْرِض فِي زَمَن الْحَرّ بِالصِّبْيَانِ وَأَمْزِجَتهمْ حَارَّة وَلَا سِيَّمَا وَقُطْر الْحِجَاز حَارّ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَادَّة الْعُذْرَة دَم يَغْلِب عَلَيْهِ الْبَلْغَم ، وَفِي الْقُسْط تَخْفِيف لِلرُّطُوبَةِ . وَقَدْ يَكُون نَفْعه فِي هَذَا الدَّوَاء بِالْخَاصِّيَّةِ ، وَأَيْضًا فَالْأَدْوِيَة الْحَارَّة قَدْ تَنْفَع فِي الْأَمْرَاض الْحَارَّة بِالْعَرْضِ كَثِيرًا ، بَلْ وَبِالذَّاتِ أَيْضًا . وَقَدْ ذَكَرَ اِبْن سِينَا فِي مُعَالَجَة سُعُوط اللَّهَاة الْقُسْط مَعَ الشَّبّ الْيَمَانِيّ وَغَيْره . عَلَى أَنَّنَا لَوْ لَمْ نَجِد شَيْئًا مِنْ التَّوْجِيهَات لَكَانَ أَمْر الْمُعْجِزَة خَارِجًا عَنْ الْقَوَاعِد الطِّبِّيَّة .
وَسَيَأْتِي بَيَان ذَات الْجَنْب فِي "بَاب اللَّدُود "وَفِيهِ شَرْح بَقِيَّة حَدِيث أُمّ قَيْس هَذَا ، والله أعلم [ ... ] .
11 - باب أَىَّ سَاعَةٍ يَحْتَجِمُ . وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلاً .
قَوْله : ( بَاب أَيَّة سَاعَة يَحْتَجِم ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " أَيّ سَاعَة " بِلَا هَاء ، وَالْمُرَاد بِالسَّاعَةِ فِي التَّرْجَمَة مُطْلَق الزَّمَان لَا خُصُوص السَّاعَة الْمُتَعَارَفَة .(60/50)
قَوْله ( وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلًا ) ..، [ الحديث وصله البخاري ] فِي كِتَاب الصِّيَام ، وَفِيهِ أَنَّ اِمْتِنَاعه مِنْ الْحِجَامَة نَهَارًا كَانَ بِسَبَبِ الصِّيَام لِئَلَّا يَدْخُلهُ خَلَل ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِك فَكَرِهَ الْحِجَامَة لِلصَّائِمِ لِئَلَّا يُغَرِّر بِصَوْمِهِ ، لَا لِكَوْنِ الْحِجَامَة تُفْطِر الصَّائِم . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْث فِي حَدِيث " أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم " هُنَاكَ وَوَرَدَ فِي الْأَوْقَات اللَّائِقَة بِالْحِجَامَةِ أَحَادِيث لَيْسَ فِيهَا شَيْء عَلَى شَرْطه ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا تُصْنَع عِنْد الِاحْتِيَاج وَلَا تَتَقَيَّد بِوَقْتٍ دُون وَقْت ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الِاحْتِجَام لَيْلًا .
5694 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ احْتَجَمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ صَائِمٌ .(60/51)
* ذَكَرَ حَدِيث اِبْن عَبَّاس " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم " وَهُوَ يَقْتَضِي كَوْن ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ نَهَارًا ، وَعِنْد الْأَطِبَّاء أَنَّ أَنْفَع الْحِجَامَة مَا يَقَع فِي السَّاعَة الثَّانِيَة أَوْ الثَّالِثَة ، وَأَنْ لَا يَقَع عَقِب اِسْتِفْرَاغ عَنْ جِمَاع أَوْ حَمَّام أَوْ غَيْرهمَا وَلَا عَقِب شِبَع وَلَا جُوع . وَقَدْ وَرَدَ فِي تَعْيِين الْأَيَّام لِلْحِجَامَةِ حَدِيث لِابْنِ عُمَر عِنْد اِبْن مَاجَهْ رَفَعَهُ فِي أَثْنَاء حَدِيث وَفِيهِ " فَاحْتَجِمُوا عَلَى بَرَكَة اللَّه يَوْم الْخَمِيس ، وَاحْتَجِمُوا يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاء ؛ وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَة يَوْم الْأَرْبِعَاء وَالْجُمْعَة وَالسَّبْت وَالْأَحَد " أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ ، وَلَهُ طَرِيق ثَالِثَة ضَعِيفَة أَيْضًا عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ فِي " الْأَفْرَاد " وَأَخْرَجَهُ بِسَنَدٍ جَيِّد عَنْ اِبْن عُمَر مَوْقُوفًا ، وَنَقَلَ الْخَلَّال عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ كَرِهَ الْحِجَامَة فِي الْأَيَّام الْمَذْكُورَة وَأَنَّ الْحَدِيث لَمْ يَثْبُت ، وَحَكَى أَنَّ رَجُلًا اِحْتَجَمَ يَوْم الْأَرْبِعَاء فَأَصَابَهُ بَرَص لِكَوْنِهِ تَهَاوَنَ بِالْحَدِيثِ ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث أَبِي بَكْرَة أَنَّهُ كَانَ يَكْرَه الْحِجَامَة يَوْم الثُّلَاثَاء وَقَالَ " إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَوْم الثُّلَاثَاء يَوْم الدَّم ، وَفِيهِ سَاعَة لَا يُرْقَأ فِيهَا " . وَوَرَدَ فِي عَدَد مِنْ الشَّهْر أَحَادِيث : مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رَفَعَهُ " مَنْ اِحْتَجَمَ لِسَبْع عَشْرَة وَتِسْع عَشْرَة وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاء مِنْ كُلّ دَاء " وَهُوَ مِنْ رِوَايَة سَعِيد(60/52)
بْن عَبْد الرَّحْمَن الْجُمَحِيِّ عَنْ سُهَيْل بْن أَبِي صَالِح ، وَسَعِيد وَثَّقَهُ الْأَكْثَر وَلَيَّنَهُ بَعْضهمْ مِنْ قَبْل حِفْظه . وَلَهُ شَاهِد مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس عِنْد أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ وَرِجَاله ثِقَات ، لَكِنَّهُ مَعْلُول . وَشَاهِد آخَر مِنْ حَدِيث أَنَس عِنْد اِبْن مَاجَهْ ، وَسَنَده ضَعِيف . وَهُوَ عِنْد التِّرْمِذِيّ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَنَس لَكِنْ مِنْ فَعَلَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْأَحَادِيث لَمْ يَصِحّ مِنْهَا شَيْء قَالَ حَنْبَل بْن إِسْحَاق : كَانَ أَحْمَد يَحْتَجِم أَيْ وَقْت هَاجَ بِهِ الدَّم وَأَيّ سَاعَة كَانَتْ . وَقَدْ اِتَّفَقَ الْأَطِبَّاء عَلَى أَنَّ الْحِجَامَة فِي النِّصْف الثَّانِي مِنْ الشَّهْر ثُمَّ فِي الرُّبْع الثَّالِث مِنْ أَرْبَاعه أَنْفَع مِنْ الْحِجَامَة فِي أَوَّله وَآخِره ، قَالَ الْمُوَفَّق الْبَغْدَادِيّ : وَذَلِكَ أَنَّ الْأَخْلَاط فِي أَوَّل الشَّهْر تَهِيج وَفِي آخِره تَسْكُن ، فَأَوْلَى مَا يَكُون الِاسْتِفْرَاغ فِي أَثْنَائِهِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
12 - باب الْحَجْمِ فِى السَّفَرِ وَالإِحْرَامِ . قَالَهُ ابْنُ بُحَيْنَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - .
5695 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ وَعَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ احْتَجَمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ مُحْرِمٌ .(60/53)
قَوْله : ( بَاب الْحَجْم فِي السَّفَر وَالْإِحْرَام ، قَالَهُ اِبْن بُحَيْنَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ، كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى مَا أَوْرَدَهُ فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيه مَوْصُولًا عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن بُحَيْنَة " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِحْتَجَمَ فِي طَرِيق مَكَّة " وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ مُحْرِمًا ، فَانْتُزِعَتْ التَّرْجَمَة مِنْ الْحَدِيثَيْنِ مَعًا ، عَلَى أَنَّ حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَحْده كَافٍ فِي ذَلِكَ ، لِأَنَّ مِنْ لَازِم كَوْنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُحْرِمًا أَنْ يَكُون مُسَافِرًا ، لِأَنَّهُ لَمْ يُحْرِم قَطُّ وَهُوَ مُقِيم (...).
وَأَمَّا الْحِجَامَة لِلْمُسَافِرِ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا تُفْعَل عِنْد الِاحْتِيَاج إِلَيْهَا مِنْ هَيَجَان الدَّم وَنَحْو ذَلِكَ فَلَا يَخْتَصّ ذَلِكَ بِحَالَةٍ دُون حَالَة ، وَاَللَّه أَعْلَم .
13 - باب الْحِجَامَةِ مِنَ الدَّاءِ .
5696 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَجْرِ الْحَجَّامِ فَقَالَ احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ ، وَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفُوا عَنْهُ ، وَقَالَ « إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ الْبَحْرِىُّ » . وَقَالَ « لاَ تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ مِنَ الْعُذْرَةِ ، وَعَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ » .
قَوْله : ( بَاب الْحِجَامَة مِنْ الدَّاء )(60/54)
أَيْ بِسَبَبِ الدَّاء . قَالَ الْمُوَفَّق الْبَغْدَادِيّ : الْحِجَامَة تُنَقِّي سَطْح الْبَدَن أَكْثَر مِنْ الْفَصْد ، وَالْفَصْد لِأَعْمَاقِ الْبَدَن ، وَالْحِجَامَة لِلصِّبْيَانِ وَفِي الْبِلَاد الْحَارَّة أَوْلَى مِنْ الْفَصْد وَآمَن غَائِلَة ، وَقَدْ تُغْنِي عَنْ كَثِير مِنْ الْأَدْوِيَة ، وَلِهَذَا وَرَدَتْ الْأَحَادِيث بِذِكْرِهَا دُون الْفَصْد ، وَلِأَنَّ الْعَرَب غَالِبًا مَا كَانَتْ تَعْرِف إِلَّا الْحِجَامَة . وَقَالَ صَاحِب الْهَدْيِ : التَّحْقِيق فِي أَمْر الْفَصْد وَالْحِجَامَة أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الزَّمَان وَالْمَكَان وَالْمِزَاج ، فَالْحِجَامَة فِي الْأَزْمَان الْحَارَّة وَالْأَمْكِنَة الْحَارَّة وَالْأَبْدَانِ الْحَارَّة الَّتِي دَم أَصْحَابهَا فِي غَايَة النُّضْج أَنْفَع ، وَالْفَصْد بِالْعَكْسِ ، وَلِهَذَا كَانَتْ الْحِجَامَة أَنْفَع لِلصِّبْيَانِ وَلِمَنْ لَا يَقْوَى عَلَى الْفَصْد .
* قَوْله : ( عَبْد اللَّه ) هُوَ اِبْن الْمُبَارَك .
قَوْله : ( عَنْ أَنَس ) فِي رِوَايَة شُعْبَة عَنْ حُمَيْدٍ " سَمِعْت أَنَسًا " ( ... ) .
قَوْله ( عَنْ أَجْر الْحَجَّام ) فِي رِوَايَة أَحْمَد عَنْ يَحْيَى الْقَطَّان عَنْ حُمَيْدٍ " كَسْب الْحَجَّام " .
قَوْله : ( حَجْمه أَبُو طَيْبَة ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا مُوَحَّدَة (...) .
قَوْله : ( وَقَالَ : إِنَّ أَمْثَل مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَة )(60/55)
هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مُفْرَدًا مِنْ طَرِيق زِيَاد بْن سَعْد وَغَيْره عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَس بِلَفْظِ " خَيْر مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَة " وَمِنْ طَرِيق مُعْتَمِر عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ " أَفْضَل " ، قَالَ أَهْل الْمَعْرِفَة : الْخِطَاب بِذَلِكَ لِأَهْلِ الْحِجَاز وَمَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ أَهْل الْبِلَاد الْحَارَّة ، لِأَنَّ دِمَاءَهُمْ رَقِيقَة وَتَمِيل إِلَى ظَاهِر الْأَبْدَانِ لِجَذْبِ الْحَرَارَة الْخَارِجَة لَهَا إِلَى سَطْح الْبَدَن ، وَيُؤْخَذ مِنْ هَذَا أَنَّ الْخِطَاب أَيْضًا لِغَيْرِ الشُّيُوخ لِقِلَّةِ الْحَرَارَة فِي أَبْدَانهمْ . وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ اِبْن سِيرِينَ قَالَ : إِذَا بَلَغَ الرَّجُل أَرْبَعِينَ سَنَة لَمْ يَحْتَجِم . قَالَ الطَّبَرِيُّ . وَذَلِكَ أَنَّهُ يَصِير مِنْ حِينَئِذٍ فِي اِنْتِقَاص مِنْ عُمْره وَانْحِلَال مِنْ قُوَى جَسَده ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدهُ وَهْيًا بِإِخْرَاجِ الدَّم ا.هـ . وَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَنْ لَمْ تَتَعَيَّن حَاجَته إِلَيْهِ ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدّ بِهِ ، وَقَدْ قَالَ اِبْن سِينَا فِي أُرْجُوزَته : وَمَنْ يَكُنْ تَعَوَّدَ الْفِصَادَه فَلَا يَكُنْ يَقْطَع تِلْكَ الْعَادَه
ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يُقَلِّل ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ يَنْقَطِع جُمْلَة فِي عَشْر الثَّمَانِينَ .
قَوْله : ( وَقَالَ لَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانكُمْ بِالْغَمْزِ مِنْ الْعُذْرَة ؛ وَعَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ )(60/56)
هُوَ مَوْصُول أَيْضًا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور إِلَى حُمَيْدٍ عَنْ أَنَس مَرْفُوعًا . وَقَدْ أَوْرَدَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيق يَزِيد بْن زُرَيْع عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ مَضْمُومًا إِلَى حَدِيث " خَيْر مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَة " وَقَدْ اِشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيث عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْحِجَامَة وَالتَّرْغِيب فِي الْمُدَاوَاة بِهَا وَلَا سِيَّمَا لِمَنْ اِحْتَاجَ إِلَيْهَا ، وَعَلَى حُكْم كَسْب الْحَجَّام ( ... ) وَعَلَى التَّدَاوِي بِالْقُسْطِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا ، وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى الْأَعْلَاق فِي الْعُذْرَة وَالْغَمْزَة فِي " بَاب اللَّدُود " .
5697 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِى ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عَمْرٌو وَغَيْرُهُ أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - عَادَ الْمُقَنَّعَ ثُمَّ قَالَ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى تَحْتَجِمَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ فِيهِ شِفَاءً » .
* قَوْله : ( حَدَّثَنَا سَعِيد بْن تَلِيد ) بِمُثَنَّاةٍ وَلَام وَزْن سَعِيد ، وَهُوَ سَعِيد بْن عِيسَى بْن تَلِيد نُسِبَ لِجَدِّهِ ، وَهُوَ مِصْرِيّ ، وَثَّقَهُ أَبُو يُونُس وَقَالَ : كَانَ فَقِيهًا ثَبْتًا فِي الْحَدِيث ، وَكَانَ يَكْتُب لِلْقُضَاةِ .(60/57)
قَوْله : ( أَخْبَرَنِي عَمْرو وَغَيْره ) أَمَّا عَمْرو فَهُوَ اِبْن الْحَارِث ، وَأَمَّا غَيْره فَمَا عَرَفْته ؛ وَيَغْلِب عَلَى ظَنِّيّ أَنَّهُ اِبْن لَهِيعَةَ ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيث أَحْمَد وَمُسْلِم وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو عَوَانَة وَالطَّحَاوِيّ وَالْإِسْمَاعِيلِيّ وَابْن حِبَّان مِنْ طُرُق عَنْ اِبْن وَهْب عَنْ عَمْرو بْن الْحَارِث وَحْده لَمْ يَقُلْ أَحَد فِي الْإِسْنَاد " وَغَيْره " وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ ) هَكَذَا أَفْرَدَ الضَّمِير لِوَاحِدٍ بَعْد أَنْ قَدَّمَ ذِكْر اِثْنَيْنِ ، وَبُكَيْر هُوَ اِبْن عَبْد اللَّه بْن الْأَشَجّ وَرُبَّمَا نُسِبَ لِجَدِّهِ ، مَدَنِيّ سَكَنَ مِصْر ، وَالْإِسْنَاد إِلَيْهِ مِصْرِيُّونَ .
قَوْله : ( عَادَ الْمُقَنَّع ) بِقَافٍ وَنُون ثَقِيلَة مَفْتُوحَة هُوَ اِبْن سِنَان تَابِعِيّ . لَا أَعْرِفهُ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيث .
قَوْله : ( إِنَّ فِيهِ شِفَاء ) كَذَا ذَكَرَهُ بُكَيْر بْن الْأَشَجّ مُخْتَصَرًا ، وَمَضَى فِي " بَاب الدَّوَاء بِالْعَسَلِ " مِنْ طَرِيق عَبْد الرَّحْمَن اِبْن الْغَسِيل عَنْ عَاصِم بْن عُمَر مُطَوَّلًا ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا عَنْ قُرْب .
14 - باب الْحِجَامَةِ عَلَى الرَّأْسِ .
* قَوْله : ( بَاب الْحِجَامَة عَلَى الرَّأْس )(60/58)
وَرَدَ فِي فَضْل الْحِجَامَة فِي الرَّأْس حَدِيث ضَعِيف أَخْرَجَهُ اِبْن عَدِيّ مِنْ طَرِيق عُمَر بْن رَبَاح عَنْ عَبْد اللَّه بْن طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَفَعَهُ " الْحِجَامَة فِي الرَّأْس تَنْفَع مِنْ سَبْع : مِنْ الْجُنُون وَالْجُذَام وَالْبَرَص وَالنُّعَاس وَالصُّدَاع وَوَجَع الضِّرْس وَالْعَيْن " . وَعُمَر مَتْرُوك رَمَاهُ الفَلَّاس وَغَيْره بِالْكَذِبِ ، وَلَكِنْ قَالَ الْأَطِبَّاء : إِنَّ الْحِجَامَة فِي وَسَط الرَّأْس نَافِعَة جِدًّا ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا كَمَا فِي أَوَّل حَدِيثَيْ الْبَاب وَآخِرهمَا وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَهُوَ مُقَيَّد بِأَوَّلِهِمَا ، وَوَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِحْتَجَمَ أَيْضًا فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِل أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَحَسَّنَهُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْن مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم . قَالَ أَهْل الْعِلْم بِالطِّبِّ : فَصْد الباسليق يَنْفَع حَرَارَة الْكَبِد وَالطُّحَال وَالرِّئَة وَمِنْ الشَّوْصَة وَذَات الْجَنْب وَسَائِر الْأَمْرَاض الدَّمَوِيَّة الْعَارِضَة مِنْ أَسْفَل الرُّكْبَة إِلَى الْوَرِك ، وَفَصْد الْأَكْحَل يَنْفَع الِامْتِلَاء الْعَارِض فِي جَمِيع الْبَدَن إِذَا كَانَ دَمَوِيًّا وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فَسَدَ ، وَفَصْد الْقِيفَال يَنْفَع مِنْ عِلَل الرَّأْس وَالرَّقَبَة إِذَا كَثُرَ الدَّم أَوْ فَسَدَ ، وَفَصْد الْوَدَجَيْنِ لِوَجَعِ الطُّحَال وَالرَّبْو وَوَجَع الْجَنْبَيْنِ ، وَالْحِجَامَة عَلَى الْكَاهِل تَنْفَع مِنْ وَجَع الْمَنْكِب وَالْحَلْق وَتَنُوب عَنْ فَصْد الباسليق ، وَالْحِجَامَة عَلَى الْأَخْدَعَيْنِ تَنْفَع مِنْ أَمْرَاض الرَّأْس وَالْوَجْه كَالْأُذُنَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأَسْنَان وَالْأَنْف وَالْحَلْق وَتَنُوب(60/59)
عَنْ فَصْد الْقِيفَال ، وَالْحِجَامَة تَحْت الذَّقَن تَنْفَع مِنْ وَجَع الْأَسْنَان وَالْوَجْه وَالْحُلْقُوم وَتُنَقِّي الرَّأْس ، وَالْحِجَامَة عَلَى ظَهْر الْقَدَم تَنُوب عَنْ فَصْد الصَّافِن وَهُوَ عِرْق عِنْد الْكَعْب وَتَنْفَع مِنْ قُرُوح الْفَخِذَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَانْقِطَاع الطَّمْث وَالْحَكَّة الْعَارِضَة فِي الْأُنْثَيَيْنِ ، وَالْحِجَامَة عَلَى أَسْفَل الصَّدْر نَافِعَة مِنْ دَمَامِيل الْفَخِذ وَجَرَبه وَبُثُوره وَمِنْ النِّقْرِس وَالْبَوَاسِير وَدَاء الْفِيل وَحَكَّة الظَّهْر ، وَمَحَلّ ذَلِكَ كُلّه إِذَا كَانَ عَنْ دَم هَائِج وَصَادَفَهُ وَقْت الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ ، وَالْحِجَامَة عَلَى الْمَقْعَدَة تَنْفَع الْأَمْعَاء وَفَسَاد الْحَيْض .
5698 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِى سُلَيْمَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ بُحَيْنَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ بِلَحْىِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ ، وَهْوَ مُحْرِمٌ ، فِى وَسَطِ رَأْسِهِ .
* قَوْله : ( حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل )
هُوَ اِبْن أَبِي أُوَيْس ،
وَسُلَيْمَان
هُوَ اِبْن بِلَال ،
وَعَلْقَمَة
هُوَ اِبْن أَبِي عَلْقَمَة ، وَالسَّنَد كُلّه مَدَنِيُّونَ [ ... ] .(60/60)
قَوْله : ( اِحْتَجَمَ بِلَحْيَيْ جَمَل ) كَذَا وَقَعَ بِالتَّثْنِيَةِ وَتَقَدَّمَ بِلَفْظِ الْإِفْرَاد وَاللَّام مَفْتُوحَة وَيَجُوز كَسْرهَا ، وَجَمَل بِفَتْحِ الْجِيم وَالْمِيم ، قَالَ اِبْن وَضَّاح : هِيَ بُقْعَة مَعْرُوفَة وَهِيَ عَقَبَة الْجُحْفَة عَلَى سَبْعَة أَمْيَال مِنْ السُّقْيَا ، وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّهُ الْآلَة الَّتِي اِحْتَجَمَ بِهَا أَيْ اِحْتَجَمَ بِعَظْمِ جَمَل ، وَالْأَوَّل الْمُعْتَمَد ، وَسَأَذْكُرُ فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس التَّصْرِيح بِقِصَّةِ ذَلِكَ .
قَوْله : ( فِي وَسَط رَأْسه ) بِفَتْحِ السِّين الْمُهْمَلَة وَيَجُوز تَسْكِينهَا [ ... ] .
5699 - وَقَالَ الأَنْصَارِىُّ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ فِى رَأْسِهِ .
قَوْله : ( وَقَالَ الْأَنْصَارِيّ )
وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ قَالَ : " حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن سُفْيَان حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن فَضَالَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَنْصَارِيّ " فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ " اِحْتَجَمَ اِحْتِجَامَة فِي رَأْسه " وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيق أَبِي حَاتِم الرَّازِيِّ حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيّ بِلَفْظِ " اِحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِم مِنْ صُدَاع كَانَ بِهِ أَوْ دَاء ، وَاحْتَجَمَ فِي مَاء يُقَال لَهُ لَحْي جَمَل " وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَد عَنْ الْأَنْصَارِيّ ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي بَعْده فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس بِلَفْظِ " بِمَاءٍ يُقَال لَهُ لَحْي جَمَل " .
15 - باب الْحَجْمِ مِنَ الشَّقِيقَةِ وَالصُّدَاعِ .(60/61)
قَوْله : ( بَاب الْحِجَامَة مِنْ الشَّقِيقَة وَالصُّدَاع ) أَيْ بِسَبَبِهِمَا ، وَقَدْ سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَة مِنْ رِوَايَة النَّسَفِيّ ، وَأَوْرَدَ مَا فِيهَا فِي الَّذِي قَبْله ، وَهُوَ مُتَّجَه . وَالشَّقِيقَة بِشِينٍ مُعْجَمَة وَقَافَيْنِ وَزْن عَظِيمَة : وَجَع يَأْخُذ فِي أَحَد جَانِبَيْ الرَّأْس أَوْ فِي مُقَدَّمه ، وَذَكَرَ أَهْل الطِّبّ أَنَّهُ مِنْ الْأَمْرَاض الْمُزْمِنَة ، وَسَبَبه أَبْخِرَة مُرْتَفِعَة أَوْ أَخْلَاط حَارَّة أَوْ بَارِدَة تَرْتَفِع إِلَى الدِّمَاغ ، فَإِنْ لَمْ تَجِد مَنْفَذًا أَحْدَث الصُّدَاع ، فَإِنْ مَالَ إِلَى أَحَد شِقَّيْ الرَّأْس أَحْدَثَ الشَّقِيقَة ، وَإِنْ مَلَكَ قِمَّة الرَّأْس أَحْدَث دَاء الْبَيْضَة . وَذِكْر الصُّدَاع بَعْده مِنْ الْعَامّ بَعْد الْخَاصّ . وَأَسْبَاب الصُّدَاع كَثِيرَة جِدًّا : مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ ، وَمِنْهَا مَا يَكُون عَنْ وَرَم فِي الْمَعِدَة أَوْ فِي عُرُوقهَا ، أَوْ رِيح غَلِيظَة فِيهَا أَوْ لِامْتِلَائِهَا ، وَمِنْهَا مَا يَكُون مِنْ الْحَرَكَة الْعَنِيفَة كَالْجِمَاعِ وَالْقَيْء وَالِاسْتِفْرَاغ أَوْ السَّهَر أَوْ كَثْرَة الْكَلَام ، وَمِنْهَا مَا يَحْدُث عَنْ الْأَغْرَاض النَّفْسَانِيَّة كَالْهَمِّ وَالْغَمّ وَالْحُزْن وَالْجُوع وَالْحُمَّى ، وَمِنْهَا مَا يَحْدُث عَنْ حَادِث فِي الرَّأْس كَضَرْبَةِ تُصِيبهُ ، أَوْ وَرَم فِي صِفَاق الدِّمَاغ ، أَوْ حَمْل شَيْء ثَقِيل يَضْغَط الرَّأْس ، أَوْ تَسْخِينه بِلُبْسِ شَيْء خَارِج عَنْ الِاعْتِدَال ، أَوْ تَبْرِيده بِمُلَاقَاةِ الْهَوَاء أَوْ الْمَاء فِي الْبَرْد . وَأَمَّا الشَّقِيقَة بِخُصُوصِهَا فَهِيَ فِي شَرَايِين الرَّأْس وَحْدهَا ، وَتَخْتَصّ بِالْمَوْضِعِ الْأَضْعَف مِنْ الرَّأْس ؛ وَعِلَاجهَا بِشَدِّ الْعِصَابَة وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَد مِنْ حَدِيث(60/62)
بُرَيْدَةَ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رُبَّمَا أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَة ؛ فَيَمْكُث الْيَوْم وَالْيَوْمَيْنِ لَا يَخْرُج " الْحَدِيث . وَ[ في ] حَدِيث اِبْن عَبَّاس " خَطَبَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عَصَبَ رَأْسه " .
5700 - حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى عَدِىٍّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ احْتَجَمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى رَأْسِهِ وَهْوَ مُحْرِمٌ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ لَحْىُ جَمَلٍ .
5701 - وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وَهْوَ مُحْرِمٌ فِى رَأْسِهِ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ .
* ( عَنْ هِشَام )
هُوَ اِبْن حَسَّان ،
وَقَوْله : " مِنْ وَجَع "
كَانَ قَدْ بَيَّنَهُ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد .
قَوْله : ( وَقَالَ مُحَمَّد بْن سَوَاء )(60/63)
بِمُهْمَلَةٍ وَمَدّ هُوَ السَّدُوسِيّ ، وَاسْم جَدّه عَنْبَر بِمُهْمَلَةٍ وَنُون وَمُوَحَّدَة ؛ بَصْرِيّ يُكَنَّى أَبَا الْخَطَّاب ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيّ سِوَى حَدِيث مَوْصُول مَضَى فِي الْمَنَاقِب ؛ وَآخَر يَأْتِي فِي الْأَدَب وَهَذَا الْمُعَلَّق ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ قَالَ : " حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الْأَزْدِيّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَوَاء " فَذَكَرَهُ سَوَاء . وَقَدْ اِتَّفَقَتْ هَذِهِ الطُّرُق عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ اِحْتَجَمَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِم فِي رَأْسه ، وَوَافَقَهَا حَدِيث اِبْن بُحَيْنَة ، وَخَالَفَ ذَلِكَ حَدِيث أَنَس : فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ فِي " الشَّمَائِل " وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ اِبْن خُزَيْمَةَ وَابْن حِبَّان مِنْ طَرِيق مَعْمَر عَنْ قَتَادَة عَنْهُ قَالَ ، اِحْتَجَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِم عَلَى ظَهْر الْقَدَم مِنْ وَجَع كَانَ بِهِ ، وَرِجَاله رِجَال الصَّحِيح ؛ إِلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ حَكَى عَنْ أَحْمَد أَنَّ سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة رَوَاهُ عَنْ قَتَادَة فَأَرْسَلَهُ ، وَسَعِيد أَحْفَظ مِنْ مَعْمَر ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِعِلَّةٍ قَادِحَة ، وَالْجَمْع بَيْن حَدِيثَيْ اِبْن عَبَّاس وَأَنَس وَاضِح بِالْحَمْلِ عَلَى التَّعَدُّد ؛ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ . وَفِي الْحَدِيث أَيْضًا جَوَاز الْحِجَامَة لِلْمُحْرِمِ وَأَنَّ إِخْرَاجه الدَّم لَا يَقْدَح فِي إِحْرَامه ، [ ... ] وَحَاصِله أَنَّ الْمُحْرِم إِنْ اِحْتَجَمَ وَسَط رَأْسه لِعُذْرٍ جَازَ مُطْلَقًا ، فَإِنْ قَطَعَ الشَّعْر وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَة ، فَإِنْ اِحْتَجَمَ لِغَيْرِ عُذْر وَقَطَعَ حَرُمَ ؛ وَاَللَّه أَعْلَم .(60/64)
5702 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ قَالَ حَدَّثَنِى عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنْ كَانَ فِى شَىْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِى شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ لَذْعَةٍ مِنْ نَارٍ ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِىَ » .
*قَوْله : ( حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَبَان ) هُوَ الْوَرَّاق الْأَزْدِيّ الْكُوفِيّ أَبُو إِسْحَاق - أَوْ أَبُو إِبْرَاهِيم - مِنْ كِبَار شُيُوخ الْبُخَارِيّ . وَهُوَ صَدُوق ، تَكَلَّمَ فِيهِ الْجُوزَجَانِيُّ لِأَجْلِ التَّشَيُّع ، قَالَ اِبْن عَدِيّ : وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ صَدُوق . وَفِي عَصْره إِسْمَاعِيل بْن أَبَان آخَر يُقَال لَهُ الْغَنَوِيّ ، قَالَ اِبْن مَعِين : الْغَنَوِيّ كَذَّاب وَالْوَرَّاق ثِقَة . وَقَالَ اِبْن الْمَدِينِيّ : الْوَرَّاق لَا بَأْس بِهِ وَالْغَنَوِىّ كَتَبْت عَنْهُ وَتَرَكْته ، وَضَعَّفَهُ جِدًّا . وَكَذَا فَرَّقَ بَيْنهمَا أَحْمَد وَعُثْمَان بْن أَبِي شَيْبَة وَجَمَاعَة ، وَغَفَلَ مَنْ خَلَّطَهُمَا . وَكَانَتْ وَفَاة الْغَنَوِيّ قَبْل الْوَرَّاق بِسِتِّ سِنِينَ ، وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله ( حَدَّثَنَا اِبْن الْغَسِيل ) هُوَ عَبْد الرَّحْمَن بْن سُلَيْمَان ، تَقَدَّمَ شَرْح حَاله قَرِيبًا .
16 - باب الْحَلْقِ مِنَ الأَذَى .
قَوْله : ( بَاب الْحَلْق مِنْ الْأَذَى )
أَيْ حَلْق شَعْر الرَّأْس وَغَيْره .(60/65)
5703 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا عَنِ ابْنِ أَبِى لَيْلَى عَنْ كَعْبٍ هُوَ ابْنُ عُجْرَةَ قَالَ أَتَى عَلَىَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ بُرْمَةٍ ، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَنْ رَأْسِى فَقَالَ « أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ » . قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « فَاحْلِقْ وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةً ، أَوِ انْسُكْ نَسِيكَةً » . قَالَ أَيُّوبُ لاَ أَدْرِى بِأَيَّتِهِنَّ بَدَأَ .
* حَدِيث كَعْب بْن عُجْرَة فِي حَلْق رَأْسه وَهُوَ مُحْرِم بِسَبَبِ كَثْرَة الْقَمْل ( ...) ، وَكَأَنَّه البخاري أَوْرَدَهُ عَقِب حَدِيث الْحِجَامَة وَسَط الرَّأْس لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ جَوَاز حَلْق الشَّعْر لِلْمُحْرِمِ لِأَجْلِ الْحِجَامَة عِنْد الْحَاجَة إِلَيْهَا يُسْتَنْبَط مِنْ جَوَاز حَلْق جَمِيع الرَّأْس لِلْمُحْرِمِ عِنْد الْحَاجَة .
17 - باب مَنِ اكْتَوَى أَوْ كَوَى غَيْرَهُ ، وَفَضْلِ مَنْ لَمْ يَكْتَوِ .
قَوْله : ( بَاب مَنْ اِكْتَوَى أَوْ كَوَى غَيْره ، وَفَضْل مَنْ لَمْ يَكْتَوِ )(60/66)
كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْكَيّ جَائِز لِلْحَاجَةِ ، وَأَنَّ الْأَوْلَى تَرْكه إِذَا لَمْ يَتَعَيَّن ، وَأَنَّهُ إِذَا جَازَ كَانَ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يُبَاشِر الشَّخْص ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ ، وَعُمُوم الْجَوَاز مَأْخُوذ مِنْ نِسْبَة الشِّفَاء إِلَيْهِ فِي أَوَّل حَدِيثَيْ الْبَاب ، وَفَضْل تَرْكه مِنْ قَوْله : " وَمَا أُحِبّ أَنْ أَكْتَوِي " . وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ طَرِيق أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر قَالَ : " رُمِيَ سَعْد بْن مُعَاذ عَلَى أَكْحَله فَحَسَمَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَمِنْ طَرِيق أَبِي سُفْيَان عَنْ جَابِر " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى أُبَيّ بْن كَعْب طَبِيبًا فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا ثُمَّ كَوَاهُ " ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم عَنْ أَنَس قَالَ : " كَوَانِي أَبُو طَلْحَة فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَأَصْله فِي الْبُخَارِيّ ، وَأَنَّهُ كُوِيَ مِنْ ذَات الْجَنْب ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا . وَعِنْد التِّرْمِذِيّ عَنْ أَنَس " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوَى أَسْعَد بْن زُرَارَةَ مِنْ الشَّوْكَة " وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ " كَانَ يُسَلِّم عَلَيَّ حَتَّى اِكْتَوَيْت فَتُرِكْتُ ، ثُمَّ تَرَكْت الْكَيّ فَعَادَ " وَلَهُ عَنْهُ مِنْ وَجْه آخَر " إِنَّ الَّذِي كَانَ اِنْقَطَعَ عَنِّي رَجَعَ إِلَيَّ " يَعْنِي تَسْلِيم الْمَلَائِكَة ، كَذَا فِي الْأَصْل ، وَفِي لَفْظ أَنَّهُ " كَانَ يُسَلِّم عَلَيَّ فَلَمَّا اِكْتَوَيْت أَمْسَكَ عَنِّي ، فَلَمَّا تَرَكْته عَادَ إِلَيَّ " وَأَخْرَجَ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ عِمْرَان " نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ(60/67)
وَسَلَّمَ عَنْ الْكَيّ فَاكْتَوَيْنَا فَمَا أَفْلَحْنَا وَلَا أَنْجَحْنَا " وَفِي لَفْظ " فَلَمْ يُفْلِحْنَ وَلَمْ يُنْجِحْنَ " وَسَنَده قَوِيّ ، وَالنَّهْي فِيهِ مَحْمُول عَلَى الْكَرَاهَة أَوْ عَلَى خِلَاف الْأَوْلَى لِمَا يَقْتَضِيه مَجْمُوع الْأَحَادِيث ، وَقِيلَ إِنَّهُ خَاصّ بِعِمْرَان لِأَنَّهُ كَانَ بِهِ الْبَاسُور وَكَانَ مَوْضِعه خَطِرًا فَنَهَاهُ عَنْ كَيّه . فَلَمَّا اِشْتَدَّ عَلَيْهِ كَوَاهُ فَلَمْ يُنْجِح . وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة : الْكَيّ نَوْعَانِ : كَيّ الصَّحِيح لِئَلَّا يَعْتَلّ فَهَذَا الَّذِي قِيلَ فِيهِ : " لَمْ يَتَوَكَّل مَنْ اِكْتَوَى " لِأَنَّهُ يُرِيد أَنْ يَدْفَع الْقَدَر وَالْقَدَر لَا يُدَافَع ، وَالثَّانِي كَيّ الْجُرْح إِذَا نَغِلَ أَيْ فَسَدَ ، وَالْعُضْو إِذَا قُطِعَ ، فَهُوَ الَّذِي يُشْرَع التَّدَاوِي بِهِ فَإِنْ كَانَ الْكَيّ لِأَمْرٍ مُحْتَمَل فَهُوَ خِلَاف الْأَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْجِيل التَّعْذِيب بِالنَّارِ لِأَمْرٍ غَيْر مُحَقَّق . وَحَاصِل الْجَمْع أَنَّ الْفِعْل يَدُلّ عَلَى الْجَوَاز ، وَعَدَم الْفِعْل لَا يَدُلّ عَلَى الْمَنْع بَلْ يَدُلّ عَلَى أَنَّ تَرْكه أَرْجَح مِنْ فِعْله ، وَكَذَا الثَّنَاء عَلَى تَارِكه . وَأَمَّا النَّهْي عَنْهُ فَإِمَّا عَلَى سَبِيل الِاخْتِيَار وَالتَّنْزِيه وَإِمَّا عَمَّا لَا يَتَعَيَّن طَرِيقًا إِلَى الشِّفَاء وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْء مِنْ هَذَا فِي " بَاب الشِّفَاء فِي ثَلَاث " وَلَمْ أَرَ فِي أَثَر صَحِيح أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِكْتَوَى ، إِلَّا أَنَّ الْقُرْطُبِيّ نَسَبَ إِلَى " كِتَاب أَدَب النُّفُوس " لِلطَّبَرِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِكْتَوَى ، وَذَكَرَهُ الْحَلِيمِيّ بِلَفْظِ " رُوِيَ أَنَّهُ اِكْتَوَى(60/68)
لِلْجُرْحِ الَّذِي أَصَابَهُ بِأُحُدٍ " . قُلْت : وَالثَّابِت فِي الصَّحِيح [ ... ]" أَنَّ فَاطِمَة أَحْرَقَتْ حَصِيرًا فَحَشَتْ بِهِ جُرْحه " وَلَيْسَ هَذَا الْكَيّ الْمَعْهُود ، وَجَزَمَ اِبْن التِّين بِأَنَّهُ اِكْتَوَى ، وَعَكَسَهُ اِبْن الْقَيِّم فِي الْهَدْيِ .
5704 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرًا عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنْ كَانَ فِى شَىْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ فَفِى شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِىَ » .
* قَوْله : ( حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيد هِشَام بْن عَبْد الْمَلِك ) هُوَ الطَّيَالِسِيّ .
قَوْله : ( سَمِعْت جَابِرًا )
فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن خَلَّاد عَنْ أَبِي الْوَلِيد بِسَنَدِهِ " أَتَانَا جَابِر فِي بَيْتنَا فَحَدَّثْنَا " .
قَوْله : ( فَفِي شَرْطَة مِحْجَم ، أَوْ لَذْعَة بِنَارٍ )
كَذَا اِقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الطَّرِيق عَلَى شَيْئَيْنِ ، وَحَذَفَ الثَّالِث وَهُوَ الْعَسَل ؛ وَثَبَتَ ذِكْره فِي رِوَايَة أَبِي نُعَيْم مِنْ طَرِيق أَبِي مَسْعُود عَنْ أَبِي الْوَلِيد ، وَكَذَا عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظه بَلْ أَحَالَ بِهِ عَلَى رِوَايَة أَبِي نُعَيْم عَنْ اِبْن الْغَسِيل ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي نُعَيْم تَامًّا فِي " بَاب الدَّوَاء بِالْعَسَلِ " وَاخْتَصَرَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيق أَيْضًا قَوْله : " تُوَافِق الدَّاء " وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانهَا هُنَاكَ .(60/69)
5705 - حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ . فَذَكَرْتُهُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ ، فَجَعَلَ النَّبِىُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ ، وَالنَّبِىُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى رُفِعَ لِى سَوَادٌ عَظِيمٌ ، قُلْتُ مَا هَذَا أُمَّتِى هَذِهِ قِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ . قِيلَ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ . فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلأُ الأُفُقَ ، ثُمَّ قِيلَ لِى انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِى آفَاقِ السَّمَاءِ فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلأَ الأُفُقَ قِيلَ هَذِهِ أُمَّتُكَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلاَءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ ، ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ فَأَفَاضَ الْقَوْمُ وَقَالُوا نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِاللَّهِ ، وَاتَّبَعْنَا رَسُولَهُ ، فَنَحْنُ هُمْ أَوْ أَوْلاَدُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِى الإِسْلاَمِ فَإِنَّا وُلِدْنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ . فَبَلَغَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَجَ فَقَالَ هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ ، وَلاَ يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » . فَقَالَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « نَعَمْ » . فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا قَالَ « سَبَقَكَ عُكَّاشَةُ » .
* قَوْله : ( عِمْرَان بْن مَيْسَرَة )
بِفَتْحِ الْمِيم وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا مُهْمَلَة .
قَوْله : ( حُصَيْنٌ )
بِالتَّصْغِيرِ هُوَ اِبْن عَبْد الرَّحْمَن الْوَاسِطِيّ ،
وَعَامِر(60/70)
هُوَ الشَّعْبِيّ .
قَوْله : ( عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ قَالَ : لَا رُقْيَة إِلَّا مِنْ عَيْن أَوْ حُمَة )
كَذَا رَوَاهُ مُحَمَّد بْن فُضَيْلٍ عَنْ حُصَيْنٍ مَوْقُوفًا ، وَوَافَقَهُ هُشَيْم وَشُعْبَة عَنْ حُصَيْنٍ عَلَى وَقْفه ، وَرِوَايَة هُشَيْم عِنْد أَحْمَد وَمُسْلِم ، وَرِوَايَة شُعْبَة عِنْد التِّرْمِذِيّ تَعْلِيقًا ، وَوَصَلَهَا اِبْنَا أَبِي شَيْبَة وَلَكِنْ قَالَا " عَنْ بُرَيْدَةَ " بَدَل عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ ، وَخَالَفَ الْجَمِيع مَالِك بْن مِغْوَل عَنْ حُصَيْنٍ فَرَوَاهُ مَرْفُوعًا وَقَالَ : " عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ " أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُدَ ، وَكَذَا قَالَ اِبْن عُيَيْنَةَ " عَنْ حُصَيْنٍ " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ ، وَكَذَا قَالَ إِسْحَاق بْن سُلَيْمَان " عَنْ حُصَيْنٍ " أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ . وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الشَّعْبِيّ اِخْتِلَافًا آخَر فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيق الْعَبَّاس بْن ذَرِيح بِمُعْجَمَةٍ وَرَاء وَآخِره مُهْمَلَة بِوَزْنِ عَظِيم فَقَالَ : " عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ أَنَس " وَرَفَعَهُ ، وَشَذَّ الْعَبَّاس بِذَلِكَ ، وَالْمَحْفُوظ رِوَايَة حُصَيْنٍ مَعَ الِاخْتِلَاف عَلَيْهِ فِي رَفْعه وَوَقْفه ، وَهَلْ هُوَ عَنْ عِمْرَان أَوْ بُرَيْدَةَ ، وَالتَّحْقِيق أَنَّهُ عِنْده عَنْ عِمْرَان وَعَنْ بُرَيْدَةَ جَمِيعًا . وَوَقَعَ لِبَعْضِ الرُّوَاة عَنْ الْبُخَارِيّ قَالَ : حَدِيث الشَّعْبِيّ مُرْسَل ، وَالْمُسْنَد حَدِيث اِبْن عَبَّاس ، فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ أَوْرَدَ حَدِيث الشَّعْبِيّ اِسْتِطْرَادًا وَلَمْ يَقْصِد إِلَى تَصْحِيحه ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي حَذْف الْحُمَيْدِيّ لَهُ مِنْ " الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ " فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرهُ أَصْلًا . ثُمَّ وَجَدْت فِي نُسْخَة الصَّغَانِيّ " قَالَ(60/71)
أَبُو عَبْد اللَّه هُوَ الْمُصَنِّف : إِنَّمَا أَرَدْنَا مِنْ هَذَا حَدِيث اِبْن عَبَّاس ، وَالشَّعْبِيّ عَنْ عِمْرَان مُرْسَل " وَهَذَا يُؤَيِّد مَا ذَكَرْته .
قَوْله : ( لَا رُقْيَة إِلَّا مِنْ عَيْن أَوْ حُمَة ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَتَخْفِيف الْمِيم ، قَالَ ثَعْلَب وَغَيْره : هِيَ سُمّ الْعَقْرَب ، وَقَالَ الْقَزَّاز : قِيلَ : هِيَ شَوْكَة الْعَقْرَب ، وَكَذَا قَالَ اِبْن سِيدَهْ إِنَّهَا الْإِبْرَة الَّتِي تَضْرِب بِهَا الْعَقْرَب وَالزُّنْبُور . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : الْحُمَة كُلّ هَامَة ذَات سُمّ مِنْ حَيَّة أَوْ عَقْرَب . وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث سَهْل بْن حُنَيْف مَرْفُوعًا " لَا رُقْيَة إِلَّا مِنْ نَفْس ، أَوْ حُمَة ، أَوْ لَدْغَة " فَغَايَرَ بَيْنهمَا ، فَيَحْتَمِل أَنْ يُخَرَّج عَلَى أَنَّ الْحُمَة خَاصَّة بِالْعَقْرَبِ ، فَيَكُون ذِكْر اللَّدْغَة بَعْدهَا مِنْ الْعَامّ بَعْد الْخَاصّ . وَسَيَأْتِي بَيَان حُكْم الرُّقْيَة فِي " بَاب رُقْيَة الْحَيَّة وَالْعَقْرَب " بَعْد أَبْوَاب ، وَكَذَلِكَ ذِكْر حُكْم الْعَيْن فِي بَاب مُفْرَد .
قَوْله : ( فَذَكَرْته لِسَعِيدِ بْن جُبَيْر )(60/72)
الْقَائِل ذَلِكَ حُصَيْنٌ بْن عَبْد الرَّحْمَن ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ هُشَيْم عَنْ حُصَيْنٍ بْن عَبْد الرَّحْمَن قَالَ : " كُنْت عِنْد سَعِيد بْن جُبَيْر فَقَالَ : حَدَّثَنِي اِبْن عَبَّاس " [ ... ] . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَد عَنْ هُشَيْم وَمُسْلِم مِنْ وَجْه آخَر عَنْهُ بِزِيَادَةِ قِصَّة قَالَ : " كُنْت عِنْد سَعِيد بْن جُبَيْر فَقَالَ : أَيّكُمْ رَأَى الْكَوْكَب الَّذِي اِنْقَضَّ الْبَارِحَة ؟ قُلْت : أَنَا . ثُمَّ قُلْت : أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاة ، وَلَكِنْ لُدِغْت . قَالَ : وَكَيْف فَعَلْت ؟ قُلْت : اسْتَرْقَيْت . قَالَ : وَمَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ ؟ قُلْت : حَدِيث حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيّ عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ لَا رُقْيَة إِلَّا مِنْ عَيْن أَوْ حُمَة . فَقَالَ سَعِيد قَدْ أَحْسَنَ مَنْ اِنْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ ، ثُمَّ قَالَ : حَدَّثَنَا اِبْن عَبَّاس " فَذَكَرَ الْحَدِيث [ ... ] .
وَقَوْله فِي هَذِهِ الرِّوَايَة " حَتَّى وَقَعَ فِي سَوَاد " كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِوَاوٍ وَقَاف ، وَبِلَفْظِ " فِي " ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيّ " حَتَّى رُفِعَ " بِرَاءٍ وَفَاء ، وَبِلَفْظِ " لِي " وَهُوَ الْمَحْفُوظ فِي جَمِيع طُرُق هَذَا الْحَدِيث .
قَوْله : ( فَقَالَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ )
سَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى الرُّقْيَة بَعْد قَلِيل ، وَكَذَلِكَ يَأْتِي الْقَوْل فِي الطِّيَرَة بَعْد ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
18 - باب الإِثْمِدِ وَالْكُحْلِ مِنَ الرَّمَدِ . فِيهِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ .
قَوْله : ( بَاب الْإِثْمِد وَالْكُحْل مِنْ الرَّمَد )(60/73)
أَيْ بِسَبَب الرَّمَد ، وَالرَّمَد بِفَتْحِ الرَّاء وَالْمِيم : وَرَم حَارّ يَعْرِض فِي الطَّبَقَة الْمُلْتَحِمَة مِنْ الْعَيْن وَهُوَ بَيَاضهَا الظَّاهِر ، وَسَبَبه اِنْصِبَاب أَحَد الْأَخْلَاط أَوْ أَبْخِرَة تَصْعَد مِنْ الْمَعِدَة إِلَى الدِّمَاغ فَإِنْ اِنْدَفَعَ إِلَى الْخَيَاشِيم أَحْدَثَ الزُّكَام ، أَوْ إِلَى الْعَيْن أَحْدَثَ الرَّمَد ، أَوْ إِلَى اللَّهَاة وَالْمَنْخِرَيْنِ أَحْدَثَ الْخُنَان بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالنُّون ، أَوْ إِلَى الصَّدْر أَحْدَث النَّزْلَة ، أَوْ إِلَى الْقَلْب أَحْدَثَ الشَّوْصَة ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَدِر وَطَلَب نَفَاذًا فَلَمْ يَجِد أَحْدَثَ الصُّدَاع كَمَا تَقَدَّمَ .
قَوْله : ( فِيهِ عَنْ أُمّ عَطِيَّة )(60/74)
يُشِير إِلَى حَدِيث أُمّ عَطِيَّة مَرْفُوعًا " لَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر تُحِدّ فَوْق ثَلَاث إِلَّا عَلَى زَوْج " فَإِنَّهَا لَا تَكْتَحِل [ ... ] ، لَكِنْ لَمْ أَرَ فِي شَيْء مِنْ طُرُقه ذِكْر الْإِثْمِد ، فَكَأَنَّهُ ذَكَرَهُ لِكَوْنِ الْعَرَب غَالِبًا إِنَّمَا تَكْتَحِل بِهِ ، وَقَدْ وَرَدَ التَّنْصِيص عَلَيْهِ فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَفَعَهُ " اِكْتَحِلُوا بِالْإِثْمِدِ ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَر وَيُنْبِت الشَّعْر " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَحَسَّنَهُ وَاللَّفْظ لَهُ ، وَابْن مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي " الشَّمَائِل " وَفِي الْبَاب عَنْ جَابِر عِنْد التِّرْمِذِيّ فِي " الشَّمَائِل " وَابْن مَاجَهْ وَابْن عَدِيّ مِنْ ثَلَاث طُرُق عَنْ اِبْن الْمُنْكَدِر عَنْهُ بِلَفْظِ " عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَر وَيُنْبِت الشَّعْر " وَعَنْ عَلِيّ عِنْد اِبْن أَبِي عَاصِم وَالطَّبَرَانِيّ وَلَفْظه " عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ مَنْبَتَة لِلشَّعْرِ ، مَذْهَبَة لِلْقَذَى ، مَصْفَاة لِلْبَصَرِ " وَسَنَده حَسَن ، وَعَنْ اِبْن عُمَر بِنَحْوِهِ عِنْد التِّرْمِذِيّ فِي " الشَّمَائِل " وَعَنْ أَنَس فِي " غَرِيب مَالِك " لِلدّارَقُطْنِيّ بِلَفْظِ " كَانَ يَأْمُرنَا بِالْإِثْمِدِ " وَعَنْ سَعِيد بْن هَوْذَة عِنْد أَحْمَد بِلَفْظِ " اِكْتَحِلُوا بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ " الْحَدِيث ، وَهُوَ عِنْد أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثه بِلَفْظِ " إِنَّهُ أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّح عِنْد النَّوْم " وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِلَفْظِ " خَيْر أَكْحَالكُمْ الْإِثْمِد فَإِنَّهُ " الْحَدِيث أَخْرَجَهُ الْبَزَّار وَفِي سَنَده مَقَال ، وَعَنْ أَبِي رَافِع " أَنَّ(60/75)
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتَحِل بِالْإِثْمِدِ " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَفِي سَنَده مَقَال ، وَعَنْ عَائِشَة " كَانَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْمِد يَكْتَحِل بِهِ عِنْد مَنَامه فِي كُلّ عَيْن ثَلَاثًا " أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخ فِي كِتَاب " أَخْلَاق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِسَنَدٍ ضَعِيف ، وَالْإِثْمِد بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَالْمِيم بَيْنهمَا ثَاء مُثَلَّثَة سَاكِنَة وَحُكِيَ فِيهِ ضَمّ الْهَمْزَة : حَجَر مَعْرُوف أَسْوَد يَضْرِب إِلَى الْحُمْرَة يَكُون فِي بِلَاد الْحِجَاز وَأَجْوَده يُؤْتَى بِهِ مِنْ أَصْبَهَان ، وَاخْتُلِفَ هَلْ هُوَ اِسْم الْحَجْر الَّذِي يُتَّخَذ مِنْهُ الْكُحْل أَوْ هُوَ نَفْس الْكُحْل ؟ ذَكَرَهُ اِبْن سِيدَهْ وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْجَوْهَرِيّ ، وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث اِسْتِحْبَاب الِاكْتِحَال بِالْإِثْمِدِ وَوَقَعَ الْأَمْر بِالِاكْتِحَالِ وِتْرًا مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي " سُنَن أَبِي دَاوُدَ " وَوَقَعَ فِي بَعْض الْأَحَادِيث الَّتِي أَشَرْت إِلَيْهَا كَبَقِيَّةِ الِاكْتِحَال ، وَحَاصِله ثَلَاثًا فِي كُلّ عَيْن ، فَيَكُون الْوِتْر فِي كُلّ وَاحِدَة عَلَى حِدَة ، أَوْ اِثْنَتَيْنِ فِي كُلّ عَيْن وَوَاحِدَة بَيْنهمَا ، أَوْ فِي الْيَمِين ثَلَاثًا وَفِي الْيُسْرَى ثِنْتَيْنِ فَيَكُون الْوِتْر بِالنِّسْبَةِ لَهُمَا جَمِيعًا وَأَرْجَحهَا الْأَوَّل وَاَللَّه أَعْلَم .(60/76)
5706 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِى حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّىَ زَوْجُهَا فَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا ، فَذَكَرُوهَا لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَذَكَرُوا لَهُ الْكُحْلَ ، وَأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى عَيْنِهَا ، فَقَالَ « لَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِى بَيْتِهَا فِى شَرِّ أَحْلاَسِهَا - أَوْ فِى أَحْلاَسِهَا فِى شَرِّ بَيْتِهَا - فَإِذَا مَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بَعْرَةً ، فَلاَ ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا » .
* ذَكَرَ الْمُصَنِّف حَدِيث أُمّ سَلَمَة مِنْ رِوَايَة زَيْنَب وَهِيَ بِنْتهَا عَنْهَا " أَنَّ اِمْرَأَة تُوُفِّيَ زَوْجهَا فَاشْتَكَتْ عَيْنهَا ، فَذَكَرُوهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرُوا لَهُ الْكُحْل وَأَنَّهُ يُخَاف عَلَى عَيْنهَا " الْحَدِيث ، وَقَدْ مَرَّتْ مَبَاحِثه فِي أَبْوَاب الْإِحْدَاد . وَأَمَّا قَوْله فِي آخِره :
" فَلَا ، أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا "
كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَعِنْد الْكُشْمِيهَنِيّ " فَهَلَّا أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا " ؟ وَهِيَ وَاضِحَة ، وَأَمَّا الِاقْتِصَار عَلَى حَرْف النَّهْي فَالْمَنْفِيّ مُقَدَّر كَأَنَّهُ قَالَ : فَلَا تَكْتَحِل ، ثُمَّ قَالَ : تَمْكُث أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا .
19 - باب الْجُذَامِ .
قَوْله : ( بَاب الْجُذَام )
بِضَمِّ الْجِيم وَتَخْفِيف الْمُعْجَمَة ، هُوَ عِلَّة رَدِيئَة تَحْدُث مِنْ اِنْتِشَار الْمِرَّة السَّوْدَاء فِي الْبَدَن كُلّه فَتُفْسِد مِزَاج الْأَعْضَاء ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَ فِي آخِره إِيصَالهَا حَتَّى يَتَأَكَّل . قَالَ اِبْن سِيدَهْ : سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَجَذُّمِ الْأَصَابِع وَتَقَطُّعهَا .(60/77)
5707 - وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ » .
* قَوْله : ( وَقَالَ عَفَّان )
هُوَ اِبْن مُسْلِم الصَّفَّار . وَهُوَ مِنْ شُيُوخ الْبُخَارِيّ لَكِنْ أَكْثَر مَا يَخْرُج عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ ، وَهُوَ مِنْ الْمُعَلَّقَات الَّتِي لَمْ يَصِلهَا فِي مَوْضِع آخَر ، وَقَدْ جَزَمَ أَبُو نُعَيْم أَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْهُ بِلَا رِوَايَة ، وَعَلَى طَرِيقَة اِبْن الصَّلَاح يَكُون مَوْصُولًا . وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْم مِنْ طَرِيق أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ وَأَبِي قُتَيْبَة مُسْلِم بْن قُتَيْبَة كِلَاهُمَا عَنْ سَلِيم بْن حَيَّان شَيْخ عَفَّان فِيهِ ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيق عَمْرو بْن مَرْزُوق عَنْ سَلِيم لَكِنْ مَوْقُوفًا وَلَمْ يَسْتَخْرِجهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ . وَقَدْ وَصَلَهُ اِبْن خُزَيْمَةَ أَيْضًا . وَسَلِيم بِفَتْحِ أَوَّله وَكَسْر ثَانِيه ، وَحَيَّان بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّة ثَقِيلَة .
قَوْله : ( لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَة وَلَا هَامَة وَلَا صَفَر )(60/78)
كَذَا جَمْع الْأَرْبَعَة فِي هَذِهِ الرِّوَايَة ، وَيَأْتِي مِثْله سَوَاء بَعْد عِدَّة أَبْوَاب فِي " بَاب لَا هَامَة " مِنْ طَرِيق أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة ، وَيَأْتِي بَعْد خَمْسَة أَبْوَاب مِنْ طَرِيق أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مِثْله لَكِنْ بِدُونِ قَوْله : " وَلَا طِيَرَة " وَأَعَادَهُ بَعْد أَبْوَاب كَثِيرَة بِزِيَادَةِ قِصَّة ، وَبَعْد عِدَّة أَبْوَاب فِي " بَاب لَا طِيَرَة " مِنْ طَرِيق عُبَيْد اللَّه بْن عُتْبَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " لَا طِيَرَة " حَسْب ، وَفِي " بَاب لَا عَدْوَى " مِنْ طَرِيق سِنَان بْن أَبِي سِنَان عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِلَفْظِ " لَا عَدْوَى " حَسْب ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِلَفْظِ " لَا عَدْوَى وَلَا هَامَة وَلَا طِيَرَة " ، وَأَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ طَرِيق الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مِثْل رِوَايَة أَبِي سَلَمَة وَزَادَ " وَلَا نَوْء " وَيَأْتِي فِي " بَاب لَا عَدْوَى " مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر ، وَمِنْ حَدِيث أَنَس " لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَة " ، وَلِمُسْلِمِ وَابْن حَيَّان مِنْ طَرِيق اِبْن جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا بِلَفْظِ " لَا عَدْوَى وَلَا صَفَر وَلَا غُول " وَأَخْرَجَ اِبْن حِبَّان مِنْ طَرِيق سِمَاك عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس مِثْل رِوَايَة سَعِيد بْن مِينَاء وَأَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَزَادَ فِيهِ الْقِصَّة الَّتِي فِي رِوَايَة أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة ، وَهُوَ فِي اِبْن مَاجَهْ بِاخْتِصَارٍ . فَالْحَاصِل مِنْ ذَلِكَ سِتَّة أَشْيَاء : الْعَدْوَى وَالطِّيَرَة وَالْهَامَة وَالصَّفَر وَالْغُول وَالنَّوْء ، وَالْأَرْبَعَة الْأُوَل قَدْ أَفْرَدَ الْبُخَارِيّ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهَا(60/79)
تَرْجَمَة فَنَذْكُر شَرَحَهَا فِيهِ وَأَمَّا الْغُول فَقَالَ الْجُمْهُور : كَانَتْ الْعَرَب تَزْعُم أَنَّ الْغِيلَان فِي الْفَلَوَات ، وَهِيَ جِنْس مِنْ الشَّيَاطِين تَتَرَاءَى لِلنَّاسِ وَتَتَغَوَّل لَهُمْ تَغَوُّلًا أَيْ تَتَلَوَّن تَلَوُّنًا فَتَضِلّهُمْ عَنْ الطَّرِيق فَتُهْلِكهُمْ ، وَقَدْ كَثُرَ فِي كَلَامهمْ " غَالَتْهُ الْغُول " أَيْ أَهْلَكَتْهُ أَوْ أَضَلَّتْهُ ، فَأَبْطَلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ . وَقِيلَ : لَيْسَ الْمُرَاد إِبْطَال وُجُود الْغِيلَان ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إِبْطَال مَا كَانَتْ الْعَرَب تَزْعُمهُ مِنْ تَلَوُّن الْغُول بِالصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَة ، قَالُوا : وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَطِيع الْغُول أَنْ يُضِلّ أَحَدًا . وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث " إِذَا تَغَوَّلَتْ الْغِيلَان فَنَادُوا بِالْأَذَانِ " أَيْ اِدْفَعُوا شَرّهَا بِذَكَرِ اللَّه . وَفِي حَدِيث أَبِي أَيُّوب عِنْد قَوْله : " كَانَتْ لِي سَهْوَة فِيهَا تَمْر ، فَكَانَتْ الْغُول تَجِيء فَتَأْكُل مِنْهُ " الْحَدِيث ، وَأَمَّا النَّوْء [فأَعْلَى مَا وَقَفْت عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَلَام الشَّافِعِيّ ، قَالَ فِي " الْأُمّ " : مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا عَلَى مَا كَانَ بَعْض أَهْل الشِّرْك يَعْنُونَ مِنْ إِضَافَة الْمَطَر إِلَى أَنَّهُ مَطَر نَوْء كَذَا فَذَلِكَ كُفْر كَمَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ النَّوْء وَقْت وَالْوَقْت مَخْلُوق لَا يَمْلِك لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ شَيْئًا ، وَمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا عَلَى مَعْنَى مُطِرْنَا فِي وَقْت كَذَا فَلَا يَكُون كُفْرًا ، وَغَيْره مِنْ الْكَلَام أَحَبّ إِلَيَّ مِنْهُ ، يَعْنِي حَسْمًا لِلْمَادَّةِ ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل إِطْلَاق الْحَدِيث ، وَحَكَى اِبْن قُتَيْبَة فِي " كِتَاب(60/80)
الْأَنْوَاء " أَنَّ الْعَرَب كَانَتْ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ عَلَى نَحْو مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيّ ، قَالَ : وَمَعْنَى النَّوْء سُقُوط نَجْم فِي الْمَغْرِب مِنْ النُّجُوم الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرِينَ الَّتِي هِيَ مَنَازِل الْقَمَر ، قَالَ : وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ نَاءَ إِذَا سَقَطَ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ النَّوْء طُلُوع نَجْم مِنْهَا ، وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ نَاءَ إِذَا نَهَضَ ، وَلَا تَخَالُف بَيْن الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَقْت لِأَنَّ كُلّ نَجْم مِنْهَا إِذَا طَلَعَ فِي الْمَشْرِق وَقَعَ حَال طُلُوعه آخَر فِي الْمَغْرِب لَا يَزَال ذَلِكَ مُسْتَمِرًّا إِلَى أَنْ تَنْتَهِي الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرُونَ بِانْتِهَاءِ السَّنَة ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهَا ثَلَاثَة عَشَر يَوْمًا تَقْرِيبًا ، قَالَ : وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يَظُنُّونَ أَنَّ نُزُول الْغَيْث بِوَاسِطَةِ النَّوْء إِمَّا بِصُنْعِهِ عَلَى زَعْمهمْ وَإِمَّا بِعَلَامَتِهِ ، فَأَبْطَلَ الشَّرْع قَوْلهمْ وَجَعَلَهُ كُفْرًا ، فَإِنْ اِعْتَقَدَ قَائِل ذَلِكَ أَنَّ لِلنَّوْءِ صُنْعًا فِي ذَلِكَ فَكُفْره كُفْر تَشْرِيك ، وَإِنْ اِعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيل التَّجْرِبَة فَلَيْسَ بِشِرْكٍ لَكِنْ يَجُوز إِطْلَاق الْكُفْر عَلَيْهِ وَإِرَادَة كُفْر النِّعْمَة لِأَنَّهُ لَمْ يَقَع فِي شَيْء مِنْ طُرُق الْحَدِيث بَيْن الْكُفْر وَالشِّرْك وَاسِطَة ، فَيُحْمَل الْكُفْر فِيهِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ لِتَنَاوُلِ الْأَمْرَيْنِ ، وَاَللَّه أَعْلَم .] ، وَكَانُوا يَقُولُونَ " مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا " فَأَبْطَلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَطَر إِنَّمَا يَقَع بِإِذْنِ اللَّه لَا بِفِعْلِ الْكَوَاكِب ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَادَة جَرَتْ بِوُقُوعِ الْمَطَر فِي ذَلِكَ الْوَقْت ، لَكِنْ بِإِرَادَةِ اللَّه(60/81)
تَعَالَى وَتَقْدِيره ، لَا صُنْع لِلْكَوَاكِبِ فِي ذَلِكَ ، وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله ( وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُوم كَمَا تَفِرّ مِنْ الْأَسَد ) لَمْ أَقِف عَلَيْهِ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه ، وَمِنْ وَجْه آخَر عِنْد أَبِي نُعَيْم فِي الطِّبّ ، لَكِنَّهُ مَعْلُول . وَأَخْرَجَ اِبْن خُزَيْمَةَ فِي " كِتَاب التَّوَكُّل " لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيث عَائِشَة وَلَفْظه " لَا عَدْوَى ، وَإِذَا رَأَيْت الْمَجْذُوم فَفِرَّ مِنْهُ كَمَا تَفِرّ مِنْ الْأَسَد " وَأَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن الشَّرِيد الثَّقَفِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : " كَانَ فِي وَفْد ثَقِيف رَجُل مَجْذُوم ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاك ، فَارْجِعْ " قَالَ عِيَاض : اِخْتَلَفَتْ الْآثَار فِي الْمَجْذُوم ، فَجَاءَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ جَابِر " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مَعَ مَجْذُوم وَقَالَ : ثِقَة بِاَللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ " قَالَ فَذَهَبَ عُمَر وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف إِلَى الْأَكْل مَعَهُ وَرَأَوْا أَنَّ الْأَمْر بِاجْتِنَابِهِ مَنْسُوخ . وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ عِيسَى بْن دِينَار مِنْ الْمَالِكِيَّة ، قَالَ : وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر وَيَتَعَيَّن الْمَصِير إِلَيْهِ أَنْ لَا نَسْخ ، بَلْ يَجِب الْجَمْع بَيْن الْحَدِيثَيْنِ وَحَمْل الْأَمْر بِاجْتِنَابِهِ وَالْفِرَار مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَالِاحْتِيَاط ، وَالْأَكْل مَعَهُ عَلَى بَيَان الْجَوَاز ا ه . هَكَذَا اِقْتَصَرَ الْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى حِكَايَة هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ، وَحَكَى غَيْره قَوْلًا ثَالِثًا وَهُوَ التَّرْجِيح ، وَقَدْ سَلَكَهُ فَرِيقَانِ : أَحَدهمَا سَلَكَ تَرْجِيح الْأَخْبَار(60/82)
الدَّالَّة عَلَى نَفْي الْعَدْوَى وَتَزْيِيف الْأَخْبَار الدَّالَّة عَلَى عَكْس ذَلِكَ مِثْل حَدِيث الْبَاب فَأَعَلُّوهُ بِالشُّذُوذِ ، وَبِأَنَّ عَائِشَة أَنْكَرَتْ ذَلِكَ ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْهَا " أَنَّ اِمْرَأَة سَأَلَتْهَا عَنْهُ فَقَالَتْ : مَا قَالَ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : لَا عَدْوَى ، وَقَالَ : فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّل ؟ قَالَتْ : وَكَانَ لِي مَوْلًى بِهِ هَذَا الدَّاء فَكَانَ يَأْكُل فِي صِحَافِي وَيَشْرَب فِي أَقْدَاحِي وَيَنَام عَلَى فِرَاشِي " وَبِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَة تَرَدَّدَ فِي هَذَا الْحُكْم كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فَيُؤْخَذ الْحُكْم مِنْ رِوَايَة غَيْره ، وَبِأَنَّ الْأَخْبَار الْوَارِدَة مِنْ رِوَايَة غَيْره فِي نَفْي الْعَدْوَى كَثِيرَة شَهِيرَة بِخِلَافِ الْأَخْبَار الْمُرَخِّصَة فِي ذَلِكَ ، وَمِثْل حَدِيث " لَا تُدِيمُوا النَّظَر إِلَى الْمَجْذُومِينَ " وَقَدْ أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَسَنَده ضَعِيف ، وَمِثْل حَدِيث عَبْد اللَّه بْن أَبِي أَوْفَى رَفَعَهُ " كَلِّمْ الْمَجْذُوم وَبَيْنك وَبَيْنه قَيْد رُمْحَيْنِ " أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم فِي الطِّبّ بِسَنَدٍ وَاهٍ ، وَمِثْل مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيّ مِنْ طَرِيق مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ " أَنَّ عُمَر قَالَ لِمُعَيْقِيب : اِجْلِسْ مِنِّي قَيْد رُمْح " وَمِنْ طَرِيق خَارِجَة بْن زَيْد كَانَ عُمَر يَقُول نَحْوه ، وَهُمَا أَثَرَانِ مُنْقَطِعَانِ ، وَأَمَّا حَدِيث الشَّرِيد الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِم فَلَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْجُذَام ، وَالْجَوَاب عَنْ ذَلِكَ أَنَّ طَرِيق التَّرْجِيح لَا يُصَار إِلَيْهَا إِلَّا مَعَ تَعَذُّر الْجَمْع ، وَهُوَ مُمْكِن ، فَهُوَ أَوْلَى . الْفَرِيق الثَّانِي سَلَكُوا فِي التَّرْجِيح عَكْس هَذَا الْمَسْلَك ، فَرَدُّوا حَدِيث لَا عَدْوَى(60/83)
بِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَة رَجَعَ عَنْهُ إِمَّا لِشَكِّهِ فِيهِ وَإِمَّا لِثُبُوتِ عَكْسه عِنْده كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحه فِي " بَاب لَا عَدْوَى " قَالُوا : وَالْأَخْبَار الدَّالَّة عَلَى الِاجْتِنَاب أَكْثَر مَخَارِج وَأَكْثَر طُرُقًا فَالْمَصِير إِلَيْهَا أَوْلَى ، قَالُوا : وَأَمَّا حَدِيث جَابِر " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُوم فَوَضَعَهَا فِي الْقَصْعَة وَقَالَ : كُلْ ثِقَة بِاَللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ " فَفِيهِ نَظَر ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَبَيَّنَ الِاخْتِلَاف فِيهِ عَلَى رَاوِيه وَرَجَّحَ وَقْفه عَلَى عُمَر ، وَعَلَى تَقْدِير ثُبُوته فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مَعَهُ ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ وَضَعَ يَده فِي الْقَصْعَة ، قَالَهُ الْكَلَابَاذِيّ فِي " مَعَانِي الْأَخْبَار " . وَالْجَوَاب أَنَّ طَرِيق الْجَمْع أَوْلَى كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَيْضًا فَحَدِيث لَا عَدْوَى ثَبَتَ مِنْ غَيْر طَرِيق أَبِي هُرَيْرَة فَصَحَّ عَنْ عَائِشَة وَابْن عُمَر وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَجَابِر وَغَيْرهمْ ، فَلَا مَعْنَى لِدَعْوَى كَوْنه مَعْلُولًا ، وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي طَرِيق الْجَمْع مَسَالِك أُخْرَى :
أَحَدهَا : نَفْي الْعَدْوَى جُمْلَة وَحَمْل الْأَمْر بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم عَلَى رِعَايَة خَاطِر الْمَجْذُوم ، لِأَنَّهُ إِذَا رَأَى الصَّحِيح الْبَدَن السَّلِيم مِنْ الْآفَة تَعْظُم مُصِيبَته وَتَزْدَاد حَسْرَته ، وَنَحْوه حَدِيث " لَا تُدِيمُوا النَّظَر إِلَى الْمَجْذُومِينَ " فَإِنَّهُ مَحْمُول عَلَى هَذَا الْمَعْنَى .(60/84)
ثَانِيهَا : حَمْل الْخِطَاب بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَات عَلَى حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، فَحَيْثُ جَاءَ " لَا عَدْوَى " كَانَ الْمُخَاطَب بِذَلِكَ مَنْ قَوِيَ يَقِينه وَصَحَّ تَوَكُّله بِحَيْثُ يَسْتَطِيع أَنْ يَدْفَع عَنْ نَفْسه اِعْتِقَاد الْعَدْوَى ، كَمَا يَسْتَطِيع أَنْ يَدْفَع التَّطَيُّر الَّذِي يَقَع فِي نَفْس كُلّ أَحَد ، لَكِنْ الْقَوِيّ الْيَقِين لَا يَتَأَثَّر بِهِ ، وَهَذَا مِثْل مَا تَدْفَع قُوَّة الطَّبِيعَة الْعِلَّة فَتُبْطِلهَا ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَل حَدِيث جَابِر فِي أَكْل الْمَجْذُوم مِنْ الْقَصْعَة وَسَائِر مَا وَرَدَ مِنْ جِنْسه ، وَحَيْثُ جَاءَ " فِرَّ مِنْ الْمَجْذُوم " كَانَ الْمُخَاطَب بِذَلِكَ مَنْ ضَعُفَ يَقِينه ، وَلَمْ يَتَمَكَّن مِنْ تَمَام التَّوَكُّل فَلَا يَكُون لَهُ قُوَّة عَلَى دَفْع اِعْتِقَاد الْعَدْوَى ، فَأُرِيدَ بِذَلِكَ سَدُّ بَاب اِعْتِقَاد الْعَدْوَى عَنْهُ بِأَنْ لَا يُبَاشِر مَا يَكُون سَبَبًا لِإِثْبَاتِهَا . وَقَرِيب مِنْ هَذَا كَرَاهِيَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَيّ مَعَ إِذْنه فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيره ، وَقَدْ فَعَلَ هُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ لِيَتَأَسَّى بِهِ كُلّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ .
ثَالِث الْمَسَالِك : قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر الْبَاقِلَّانِيّ : إِثْبَات الْعَدْوَى فِي الْجُذَام وَنَحْوه مَخْصُوص مِنْ عُمُوم نَفْي الْعَدْوَى ، قَالَ : فَيَكُون مَعَنِي قَوْله : " لَا عَدْوَى " أَيْ إِلَّا مِنْ الْجُذَام وَالْبَرَص وَالْجَرَب مَثَلًا ، قَالَ : فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يُعْدِي شَيْء شَيْئًا إِلَّا مَا تَقَدَّمَ تَبْيِينِي لَهُ أَنَّ فِيهِ الْعَدْوَى . وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ اِبْن بَطَّال .(60/85)
رَابِعهَا : أَنَّ الْأَمْر بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم لَيْسَ مِنْ بَاب الْعَدْوَى فِي شَيْء ، بَلْ هُوَ لِأَمْرٍ طَبِيعِيّ وَهُوَ اِنْتِقَال الدَّاء مِنْ جَسَد لِجَسَدٍ بِوَاسِطَةِ الْمُلَامَسَة وَالْمُخَالَطَة وَشَمِّ الرَّائِحَة ، وَلِذَلِكَ يَقَع فِي كَثِير مِنْ الْأَمْرَاض فِي الْعَادَة اِنْتِقَال الدَّاء مِنْ الْمَرِيض إِلَى الصَّحِيح بِكَثْرَةِ الْمُخَالَطَة ، وَهَذِهِ طَرِيقَة اِبْن قُتَيْبَة فَقَالَ : الْمَجْذُوم تَشْتَدّ رَائِحَته حَتَّى يُسْقِم مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَته وَمُحَادَثَته وَمُضَاجَعَته ، وَكَذَا يَقَع كَثِيرًا بِالْمَرْأَةِ مِنْ الرَّجُل وَعَكْسه ، وَيَنْزِع الْوَلَد إِلَيْهِ ، وَلِهَذَا يَأْمُر الْأَطِبَّاء بِتَرْكِ مُخَالَطَة الْمَجْذُوم لَا عَلَى طَرِيق الْعَدْوَى بَلْ عَلَى طَرِيق التَّأَثُّر بِالرَّائِحَةِ لِأَنَّهَا تُسْقِم مَنْ وَاظَبَ اِشْتِمَامهَا ، قَالَ : وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ " لِأَنَّ الْجَرَب الرَّطْب قَدْ يَكُون بِالْبَعِيرِ ، فَإِذَا خَالَطَ الْإِبِل أَوْ حَكَّكَهَا وَأَوَى إِلَى مَبَارِكهَا وَصْل إِلَيْهَا بِالْمَاءِ الَّذِي يَسِيل مِنْهُ ، وَكَذَا بِالنَّظَرِ نَحْو مَا بِهِ . قَالَ : وَأَمَّا قَوْله : " لَا عَدْوَى " فَلَهُ مَعْنًى آخَر ، وَهُوَ أَنْ يَقَع الْمَرَض بِمَكَانٍ كَالطَّاعُونِ فَيَفِرّ مِنْهُ مَخَافَة أَنْ يُصِيبهُ ، لِأَنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنْ الْفِرَار مِنْ قَدَر اللَّه .(60/86)
الْمَسْلَك الْخَامِس : أَنَّ الْمُرَاد بِنَفْيِ الْعَدْوَى أَنَّ شَيْئًا لَا يُعْدِي بِطَبْعِهِ نَفْيًا لِمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَعْتَقِدهُ أَنَّ الْأَمْرَاض تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْر إِضَافَة إِلَى اللَّه ، فَأَبْطَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِعْتِقَادهمْ ذَلِكَ وَأَكَلَ مَعَ الْمَجْذُوم لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّه هُوَ الَّذِي يُمْرِض وَيَشْفِي ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّنُوّ مِنْهُ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْأَسْبَاب الَّتِي أَجْرَى اللَّه الْعَادَة بِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى مُسَبَّبَاتهَا ، فَفِي نَهْيه إِثْبَات الْأَسْبَاب ، وَفِي فِعْله إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَقِلّ ، بَلْ اللَّه هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا فَلَا تُؤَثِّر شَيْئًا ، وَإِنْ شَاءَ أَبْقَاهَا فَأَثَّرَتْ ، وَيَحْتَمِل أَيْضًا أَنْ يَكُون أَكْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمَجْذُوم أَنَّهُ كَانَ بِهِ أَمْر يَسِير لَا يُعْدِي مِثْله فِي الْعَادَة ، إذْ لَيْسَ الْجَذْمَى كُلّهمْ سَوَاء ، وَلَا تَحْصُل الْعَدْوَى مِنْ جَمِيعهمْ بَلْ لَا يَحْصُل مِنْهُ فِي الْعَادَة عَدْوَى أَصْلًا كَاَلَّذِي أَصَابَهُ شَيْء مِنْ ذَلِكَ وَوَقَفَ فَلَمْ يَعُدْ بَقِيَّة جِسْمه فَلَا يُعْدِي . وَعَلَى الِاحْتِمَال الْأَوَّل جَرَى أَكْثَر الشَّافِعِيَّة ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْد أَنْ أَوْرَدَ قَوْل الشَّافِعِيّ مَا نَصُّهُ : الْجُذَام وَالْبَرَص يَزْعُم أَهْل الْعِلْم بِالطِّبِّ وَالتَّجَارِب أَنَّهُ يُعْدِي الزَّوْج كَثِيرًا ، وَهُوَ دَاء مَانِع لِلْجِمَاعِ لَا تَكَاد نَفْس أَحَد تَطِيب بِمُجَامَعَةِ مَنْ هُوَ بِهِ وَلَا نَفْس اِمْرَأَة أَنْ يُجَامِعهَا مَنْ هُوَ بِهِ ، وَأَمَّا الْوَلَد فَبَيَّنَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ وَلَده أَجْذَم أَوْ أَبْرَص(60/87)
أَنَّهُ قَلَّمَا يَسْلَم ، وَإِنْ سَلِمَ أَدْرَكَ نَسْله . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَأَمَّا مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا عَدْوَى " فَهُوَ عَلَى الْوَجْه الَّذِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة مِنْ إِضَافَة الْفِعْل إِلَى غَيْر اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ يَجْعَل اللَّه بِمَشِيئَتِهِ مُخَالَطَة الصَّحِيح مَنْ بِهِ شَيْء مِنْ هَذِهِ الْعُيُوب سَبَبًا لِحُدُوثِ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِرَّ مِنْ الْمَجْذُوم فِرَارك مِنْ الْأَسَد " وَقَالَ : " لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ " وَقَالَ فِي الطَّاعُون " مَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا يَقْدَم عَلَيْهِ " وَكُلّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّه تَعَالَى . وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ اِبْن الصَّلَاح فِي الْجَمْع بَيْن الْحَدِيثَيْنِ وَمَنْ بَعْده وَطَائِفَة مِمَّنْ قَبْله .(60/88)
الْمَسْلَك السَّادِس : الْعَمَل بِنَفْيِ الْعَدْوَى أَصْلًا وَرَأْسًا ، وَحَمْل الْأَمْر بِالْمُجَانَبَةِ عَلَى حَسْم الْمَادَّة وَسَدّ الذَّرِيعَة لِئَلَّا يَحْدُث لِلْمُخَالِطِ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَيَظُنّ أَنَّهُ بِسَبَبِ الْمُخَالَطَة فَيُثْبِت الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا الشَّارِع ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْل ذَهَبَ أَبُو عُبَيْد وَتَبِعَهُ جَمَاعَة فَقَالَ أَبُو عُبَيْد : لَيْسَ فِي قَوْله : " لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ " إِثْبَات الْعَدْوَى ، بَلْ لِأَنَّ الصِّحَاح لَوْ مَرِضَتْ بِتَقْدِيرِ اللَّه تَعَالَى رُبَّمَا وَقَعَ فِي نَفْس صَاحِبهَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْعَدْوَى فَيُفْتَتَن وَيَتَشَكَّك فِي ذَلِكَ ، فَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهِ . قَالَ : وَكَانَ بَعْض النَّاس يَذْهَب إِلَى أَنَّ الْأَمْر بِالِاجْتِنَابِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَخَافَةِ عَلَى الصَّحِيح مِنْ ذَوَات الْعَاهَة ، قَالَ : وَهَذَا شَرّ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ الْحَدِيث ، لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَات الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا الشَّارِع ، وَلَكِنَّ وَجْه الْحَدِيث عِنْدِي مَا ذَكَرْته . وَأَطْنَبَ اِبْن خُزَيْمَةَ فِي هَذَا فِي " كِتَاب التَّوَكُّل " فَإِنَّهُ أَوْرَدَ حَدِيث " لَا عَدْوَى " عَنْ عِدَّة مِنْ الصَّحَابَة وَحَدِيث " لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ " مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَتَرْجَمَ لِلْأَوَّلِ " التَّوَكُّل عَلَى اللَّه فِي نَفْي الْعَدْوَى " وَلِلثَّانِي " ذِكْر خَبَر غَلِطَ فِي مَعْنَاهُ بَعْض الْعُلَمَاء ، وَأَثْبَتَ الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثُمَّ تَرْجَمَ " الدَّلِيل عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ إِثْبَات الْعَدْوَى بِهَذَا الْقَوْل " فَسَاقَ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " لَا عَدْوَى ، فَقَالَ أَعْرَابِيّ : فَمَا(60/89)
بَال الْإِبِل يُخَالِطهَا الْأَجْرَب فَتَجْرَب ؟ قَالَ : فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّل " ثُمَّ ذَكَرَ طُرُقه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود ، ثُمَّ تَرْجَمَ " ذِكْر خَبَر رُوِيَ فِي الْأَمْر بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم قَدْ يَخْطِر لِبَعْضِ النَّاس أَنَّ فِيهِ إِثْبَات الْعَدْوَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ " وَسَاقَ حَدِيث " فِرَّ مِنْ الْمَجْذُوم فِرَارك مِنْ الْأَسَد " مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَمِنْ حَدِيث عَائِشَة ، وَحَدِيث عَمْرو بْن الشَّرِيد عَنْ أَبِيهِ فِي أَمْر الْمَجْذُوم بِالرُّجُوعِ ، وَحَدِيث اِبْن عَبَّاس " لَا تُدِيمُوا النَّظَر إِلَى الْمَجْذُومِينَ " ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا أَمَرَهُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم كَمَا نَهَاهُمْ أَنْ يُورِد الْمُمْرِض عَلَى الْمُصِحّ شَفَقَة عَلَيْهِمْ ، وَخَشْيَة أَنْ يُصِيب بَعْض مَنْ يُخَالِطهُ الْمَجْذُوم الْجُذَام ، وَالصَّحِيح مِنْ الْمَاشِيَة الْجَرَب فَيَسْبِق إِلَى بَعْض الْمُسْلِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْعَدْوَى فَيُثْبِت الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ بِتَجَنُّبِ ذَلِكَ شَفَقَة مِنْهُ وَرَحْمَة لِيَسْلَمُوا مِنْ التَّصْدِيق بِإِثْبَاتِ الْعَدْوَى ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يُعْدِي شَيْء شَيْئًا . قَالَ : وَيُؤَيِّد هَذَا أَكْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمَجْذُوم ثِقَة بِاَللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ ، وَسَاقَ حَدِيث جَابِر فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ : وَأَمَّا نَهْيه عَنْ إِدَامَة النَّظَر إِلَى الْمَجْذُوم فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون لِأَنَّ الْمَجْذُوم يَغْتَمّ وَيَكْرَه إِدْمَان الصَّحِيح نَظَره إِلَيْهِ ، لِأَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَكُون بِهِ دَاء إِلَّا وَهُوَ يَكْرَه أَنْ يُطَّلَع عَلَيْهِ ا ه .(60/90)
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اِحْتِمَالًا سَبَقَهُ إِلَيْهِ مَالِك ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : مَا سَمِعْت فِيهِ بِكَرَاهِيَةٍ ، وَمَا أَدْرِي مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَخَافَة أَنْ يَقَع فِي نَفْس الْمُؤْمِن شَيْء . وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : الصَّوَاب عِنْدنَا الْقَوْل بِمَا صَحَّ بِهِ الْخَبَر ، وَأَنْ لَا عَدْوَى ، وَأَنَّهُ لَا يُصِيب نَفْسًا إِلَّا مَا كُتِبَ عَلَيْهَا . وَأَمَّا دُنُوّ عَلِيل مِنْ صَحِيح فَغَيْر مُوجِب اِنْتِقَال الْعِلَّة لِلصَّحِيحِ ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِذِي صِحَّة الدُّنُوّ مِنْ صَاحِب الْعَاهَة الَّتِي يَكْرَههَا النَّاس ، لَا لِتَحْرِيمِ ذَلِكَ ، بَلْ لِخَشْيَةِ أَنْ يَظُنّ الصَّحِيح أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ بِهِ ذَلِكَ الدَّاء أَنَّهُ مِنْ جِهَة دُنُوّهُ مِنْ الْعَلِيل فَيَقَع فِيمَا أَبْطَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَدْوَى . قَالَ : وَلَيْسَ فِي أَمْره بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم مُعَارَضَة لِأَكْلِهِ مَعَهُ ، لِأَنَّهُ كَانَ يَأْمُر بِالْأَمْرِ عَلَى سَبِيل الْإِرْشَاد أَحْيَانًا وَعَلَى سَبِيل الْإِبَاحَة أُخْرَى ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَر الْأَوَامِر عَلَى الْإِلْزَام ، إِنَّمَا كَانَ يَفْعَل مَا نَهَى عَنْهُ أَحْيَانَا لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَرَامًا . وَقَدْ سَلَكَ الطَّحَاوِيُّ فِي " مَعَانِي الْآثَار " مَسْلَك اِبْن خُزَيْمَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ فَأَوْرَدَ حَدِيث " لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ " ثُمَّ قَالَ : مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُصِحّ قَدْ يُصِيبهُ ذَلِكَ الْمَرَض فَيَقُول الَّذِي أَوْرَدَهُ لَوْ أَنِّي مَا أَوْرَدْته عَلَيْهِ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ هَذَا الْمَرَض شَيْء ، وَالْوَاقِع أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُورِدهُ لَأَصَابَهُ لِكَوْنِ اللَّه تَعَالَى قَدَّرَهُ ، فَنَهَى عَنْ إِيرَاده(60/91)
لِهَذِهِ الْعِلَّة الَّتِي لَا يُؤْمَن غَالِبًا مِنْ وُقُوعهَا فِي قَلْب الْمَرْء ثُمَّ سَاقَ الْأَحَادِيث فِي ذَلِكَ فَأَطْنَبَ ، وَجَمَعَ بَيْنهَا بِنَحْوِ مَا جَمَعَ بِهِ اِبْن خُزَيْمَةَ . وَلِذَلِكَ قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي " الْمُفْهِم " : إِنَّمَا نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِيرَاد الْمُمْرِض عَلَى الْمُصِحّ مَخَافَة الْوُقُوع فِيمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْل الْجَاهِلِيَّة مِنْ اِعْتِقَاد الْعَدْوَى ، أَوْ مَخَافَة تَشْوِيش النُّفُوس وَتَأْثِير الْأَوْهَام ، وَهُوَ نَحْو قَوْله : " فِرَّ مِنْ الْمَجْذُوم فِرَارك مِنْ الْأَسَد " وَإِنْ كُنَّا نَعْتَقِد أَنَّ الْجُذَام لَا يُعْدِي ، لَكِنَّا نَجِد فِي أَنْفُسنَا نُفْرَة وَكَرَاهِيَة لِمُخَالَطَتِهِ ، حَتَّى لَوْ أَكْرَهَ إِنْسَان نَفْسه عَلَى الْقُرْب مِنْهُ وَعَلَى مُجَالَسَته لَتَأَذَّتْ نَفْسه بِذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ فَالْأَوْلَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَتَعَرَّض إِلَى مَا يَحْتَاج فِيهِ إِلَى مُجَاهَدَة ، فَيَجْتَنِب طُرُق الْأَوْهَام ، وَيُبَاعِد أَسْبَاب الْآلَام ، مَعَ أَنَّهُ يَعْتَقِد أَنَّهُ لَا يُنَجِّي حَذَر مِنْ قَدْر ، وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة : الْأَمْر بِالْفِرَارِ مِنْ الْأَسَد لَيْسَ لِلْوُجُوبِ ، بَلْ لِلشَّفَقَةِ ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى أُمَّته عَنْ كُلّ مَا فِيهِ ضَرَر بِأَيِّ وَجْه كَانَ ، وَيَدُلّهُمْ عَلَى كُلّ مَا فِيهِ خَيْر . وَقَدْ ذَكَرَ بَعْض أَهْل الطِّبّ أَنَّ الرَّوَائِح تُحْدِث فِي الْأَبْدَانِ خَلَلًا فَكَانَ هَذَا وَجْه الْأَمْر بِالْمُجَانَبَةِ ، وَقَدْ أَكَلَ هُوَ مَعَ الْمَجْذُوم ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْر بِمُجَانَبَتِهِ عَلَى الْوُجُوب لِمَا فَعَلَهُ . قَالَ : وَيُمْكِن الْجَمْع(60/92)
بَيْن فِعْله وَقَوْله بِأَنَّ الْقَوْل هُوَ الْمَشْرُوع مِنْ أَجْل ضَعْف الْمُخَاطَبِينَ ، وَفِعْله حَقِيقَة الْإِيمَان ، فَمَنْ فَعَلَ الْأَوَّل أَصَابَ السُّنَّة وَهِيَ أَثَر الْحِكْمَة ، وَمَنْ فَعَلَ الثَّانِي كَانَ أَقْوَى يَقِينًا لِأَنَّ الْأَشْيَاء كُلّهَا لَا تَأْثِير لَهَا إِلَّا بِمُقْتَضَى إِرَادَة اللَّه تَعَالَى وَتَقْدِيره ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه ) فَمَنْ كَانَ قَوِيّ الْيَقِين فَلَهُ أَنْ يُتَابِعهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَعَلَهُ وَلَا يَضُرّهُ شَيْء ، وَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسه ضَعْفًا فَلْيَتْبَعْ أَمْرَهُ فِي الْفِرَار لِئَلَّا يَدْخُل بِفِعْلِهِ فِي إِلْقَاء نَفْسه إِلَى التَّهْلُكَة . فَالْحَاصِل أَنَّ الْأُمُور الَّتِي يُتَوَقَّع مِنْهَا الضَّرَر وَقَدْ أَبَاحَتْ الْحِكْمَة الرَّبَّانِيَّة الْحَذَر مِنْهَا فَلَا يَنْبَغِي لِلضُّعَفَاءِ أَنْ يَقْرَبُوهَا وَأَمَّا أَصْحَاب الصِّدْق وَالْيَقِين فَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ . قَالَ : وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الْحُكْم لِلْأَكْثَرِ لِأَنَّ الْغَالِب مِنْ النَّاس هُوَ الضَّعْف ، فَجَاءَ الْأَمْر بِالْفِرَارِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَاسْتُدِلَّ بِالْأَمْرِ بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم لِإِثْبَاتِ الْخِيَار لِلزَّوْجَيْنِ فِي فَسْخ النِّكَاح إِذَا وَجَدَهُ أَحَدهمَا بِالْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْل جُمْهُور الْعُلَمَاء . وَأَجَابَ فِيهِ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْفَسْخِ بِأَنَّهُ لَوْ أُخِذَ بِعُمُومِهِ لَثَبَتَ الْفَسْخ إِذَا حَدَثَ الْجُذَام وَلَا قَائِل بِهِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْخِلَاف ثَابِت ، بَلْ هُوَ الرَّاجِح عِنْد الشَّافِعِيَّة ، [ ...]. وَاخْتُلِفَ فِي أَمَة الْأَجْذَم : هَلْ يَجُوز لَهَا أَنْ تَمْنَع نَفْسهَا مِنْ اِسْتِمْتَاعه إِذَا(60/93)
أَرَادَهَا ؟ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَجْذُومِينَ إِذَا كَثُرُوا هَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ الْمَسَاجِد وَالْمَجَامِع ؟ وَهَلْ يُتَّخَذ لَهُمْ مَكَان مُنْفَرِد عَنْ الْأَصِحَّاء ؟ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي النَّادِر أَنَّهُ لَا يُمْنَع وَلَا فِي شُهُود الْجُمُعَة .
20 - باب الْمَنُّ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ .
* قَوْله : ( بَاب الْمَنّ شِفَاء لِلْعَيْنِ )
كَذَا لِلْأَكْثَرِ ، وَفِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ " شِفَاء مِنْ الْعَيْن " وَعَلَيْهَا شَرْح اِبْن بَطَّال ، وَيَأْتِي تَوْجِيههَا . وَفِي هَذِهِ التَّرْجَمَة إِشَارَة إِلَى تَرْجِيح الْقَوْل الصَّائِر إِلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْمَنِّ فِي حَدِيث الْبَاب الصِّنْف الْمَخْصُوص مِنْ الْمَأْكُول ، لَا الْمَصْدَر الَّذِي بِمَعْنَى الِامْتِنَان ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الْمَنّ شِفَاء لِأَنَّ الْخَبَر وَرَدَ أَنَّ الْكَمْأَة مِنْهُ وَفِيهَا شِفَاء فَإِذَا ثَبَتَ الْوَصْف لِلْفَرْعِ كَانَ ثُبُوته لِلْأَصْلِ أَوْلَى .
5708 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ » . قَالَ شُعْبَةُ وَأَخْبَرَنِى الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِىِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ شُعْبَةُ لَمَّا حَدَّثَنِى بِهِ الْحَكَمُ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ .
* قَوْله : ( عَنْ عَبْد الْمَلِك )(60/94)
هُوَ اِبْن عُمَيْر ، وَصَرَّحَ بِهِ أَحْمَد فِي رِوَايَته عَنْ مُحَمَّد بْن جَعْفَر غُنْدَر ، وَعَمْرو بْن حُرَيْث هُوَ الْمَخْزُومِيّ لَهُ صُحْبَة .
قَوْله : ( سَمِعْت سَعِيد بْن زَيْد )
أَيْ اِبْن عَمْرو بْن نُفَيْل الْعَدَوِيّ أَحَد الْعَشَرَة ، وَعُمَر بْن الْخَطَّاب بْن نُفَيْل اِبْن عَمّ أَبِيهِ . كَذَا قَالَ عَبْد الْمَلِك بْن عُمَيْر وَمَنْ تَابَعَهُ ، وَخَالَفَهُمْ عَطَاء بْن السَّائِب مِنْ رِوَايَة عَبْد الْوَارِث عَنْهُ فَقَالَ : " عَنْ عَمْرو بْن حُرَيْث عَنْ أَبِيهِ " أَخْرَجَهُ مُسَدَّد فِي مُسْنَده وَابْن السَّكَن فِي الصَّحَابَة وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي " الْأَفْرَاد " وَقَالَ فِي " الْعِلَل " ، الصَّوَاب رِوَايَة عَبْد الْمَلِك . وَقَالَ اِبْن السَّكَن أَظُنّ عَبْد الْوَارِث أَخْطَأَ فِيهِ . وَقِيلَ : كَانَ سَعِيد بْن زَيْد تَزَوَّجَ أُمّ عَمْرو بْن حُرَيْث فَكَأَنَّهُ قَالَ : " حَدَّثَنِي أَبِي " وَأَرَادَ زَوْج أُمّه مَجَازًا فَظَنَّهُ الرَّاوِي أَبَاهُ حَقِيقَة .
قَوْله : ( الْكَمْأَة ) بِفَتْحِ الْكَاف وَسُكُون الْمِيم بَعْدهَا هَمْزَة مَفْتُوحَة ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَفِي الْعَامَّة مَنْ لَا يَهْمِزهُ ، وَاحِدَة الْكَمْء بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُون ثُمَّ هَمْزَة مِثْل تَمْرَة وَتَمْر ، وَعَكَسَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ فَقَالَ : الْكَمْأَة الْجَمْع وَالْكَمْء عَلَى غَيْر قِيَاس ، قَالَ : وَلَمْ يَقَع فِي كَلَامهمْ نَظِير هَذَا سِوَى خَبْأَة وَخَبْء . وَقِيلَ : الْكَمْأَة قَدْ تُطْلَق عَلَى الْوَاحِد وَعَلَى الْجَمْع ، وَقَدْ جَمَعُوهَا عَلَى أَكْمُؤ ، قَالَ الشَّاعِر :
** وَلَقَدْ جَنَيْتُك أَكْمُؤًا وَعَسَاقِلَا **(60/95)
وَالْعَسَاقِل بِمُهْمَلَتَيْنِ وَقَاف وَلَام الشَّرَاب ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْأَكْمُؤ مَحَلّ وِجْدَانهَا الْفَلَوَات . وَالْكَمْأَة نَبَات لَا وَرَق لَهَا وَلَا سَاقَ ، تُوجَد فِي الْأَرْض مِنْ غَيْر أَنْ تُزْرَع . قِيلَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاسْتِتَارِهَا ، يُقَال كَمَأَ الشَّهَادَة إِذَا كَتَمَهَا . وَمَادَّة الْكَمْأَة مِنْ جَوْهَر أَرْضِيّ بُخَارِيّ يَحْتَقِن نَحْو سَطْح الْأَرْض بِبَرْدِ الشِّتَاء وَيُنَمِّيه مَطَر الرَّبِيع فَيَتَوَلَّد وَيَنْدَفِع مُتَجَسِّدًا ، وَلِذَلِكَ كَانَ بَعْض الْعَرَب يُسَمِّيهَا جُدَرِيّ الْأَرْض تَشْبِيهًا لَهَا بِالْجُدَرِيِّ مَادَّة وَصُورَة ، لِأَنَّ مَادَّته رُطُوبَة دَمَوِيَّة تَنْدَفِع غَالِبًا عِنْد التَّرَعْرُع وَفِي اِبْتِدَاء اِسْتِيلَاء الْحَرَارَة وَنَمَاء الْقُوَّة وَمُشَابَهَتهَا لَهُ فِي الصُّورَة ظَاهِر . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : الْكَمْأَة جُدَرِيّ الْأَرْض ، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَمْأَة مِنْ الْمَنّ " الْحَدِيث . وَلِلطَّبَرِيّ مِنْ طَرِيق اِبْن الْمُنْكَدِر عَنْ جَابِر قَالَ : " كَثُرَتْ الْكَمْأَة عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَامْتَنَعَ قَوْم مِنْ أَكْلهَا وَقَالُوا : هِيَ جُدَرِيّ الْأَرْض ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَالَ : إِنَّ الْكَمْأَة لَيْسَتْ مِنْ جُدَرِيّ الْأَرْض ، أَلَا إِنَّ الْكَمْأَة مِنْ الْمَنّ " وَالْعَرَب تُسَمِّي الْكَمْأَة أَيْضًا بَنَات الرَّعْد لِأَنَّهَا تَكْثُر بِكَثْرَتِهِ ثُمَّ تَنْفَطِر عَنْهَا الْأَرْض . وَهِيَ كَثِيرَة بِأَرْضِ الْعَرَب ، وَتُوجَد بِالشَّامِ وَمِصْر ، فَأَجْوَدهَا مَا كَانَتْ أَرْضه(60/96)
رَمْلَة قَلِيلَة الْمَاء ، وَمِنْهَا صِنْف قَتَّال يَضْرِب لَوْنه إِلَى الْحُمْرَة . وَهِيَ بَارِدَة رَطْبَة فِي الثَّانِيَة رَدِيئَة لِلْمَعِدَةِ بَطِيئَة الْهَضْم ، وَإِدْمَان أَكْلهَا يُورِث الْقُولَنْج وَالسَّكْتَة وَالْفَالِج وَعُسْر الْبَوْل ، وَالرَّطْب مِنْهَا أَقَلّ ضَرَرًا مِنْ الْيَابِس ، وَإِذَا دُفِنَتْ فِي الطِّين الرَّطْب ثُمَّ سُلِقَتْ بِالْمَاءِ وَالْمِلْح وَالسَّعْتَر وَأُكِلَتْ بِالزَّيْتِ وَالتَّوَابِل الْحَارَّة قَلَّ ضَرَرهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ فَفِيهَا جَوْهَر مَائِيّ لَطِيف بِدَلِيلِ خِفْتهَا ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَاؤُهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ .
قَوْله : ( مِنْ الْمَنّ ) قِيلَ فِي الْمُرَاد بِالْمَنِّ ثَلَاثَة أَقْوَال :
أَحَدهَا : أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهَا مِنْ الْمَنّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل ، وَهُوَ الطَّلّ الَّذِي يَسْقُط عَلَى الشَّجَر فَيُجْمَع وَيُؤْكَل حُلْوًا ، وَمِنْهُ التَّرَنْجَبِين فَكَأَنَّهُ شَبَّهَ بِهِ الْكَمْأَة بِجَامِعِ مَا بَيْنهمَا مِنْ وُجُود كُلّ مِنْهُمَا عَفْوًا بِغَيْرِ عِلَاج [ ...].(60/97)
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا مِنْ الْمَنّ الَّذِي اِمْتَنَّ اللَّه بِهِ عَلَى عِبَاده عَفْوًا بِغَيْرِ عِلَاج ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْد وَجَمَاعَة ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهَا نَوْع مِنْ الْمَنّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل ، فَإِنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل كَانَ كَالتَّرَنْجَبِين الَّذِي يَسْقُط عَلَى الشَّجَر ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الْكَمْأَة شَيْء يَنْبُت مِنْ غَيْر تَكَلُّف بِبَذْرٍ وَلَا سَقْي ، فَهُوَ مِنْ قَبِيل الْمَنّ الَّذِي كَانَ يَنْزِل عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل فَيَقَع عَلَى الشَّجَر فَيَتَنَاوَلُونَهُ . ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل كَانَ أَنْوَاعًا ، مِنْهَا مَا يَسْقُط عَلَى الشَّجَر ، وَمِنْهَا مَا يَخْرُج مِنْ الْأَرْض فَتَكُون الْكَمْأَة مِنْهُ ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الثَّالِث وَبِهِ جَزَمَ الْمُوَفَّق عَبْد اللَّطِيف الْبَغْدَادِيّ وَمَنْ تَبِعَهُ فَقَالُوا : إِنَّ الْمَنّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل لَيْسَ هُوَ مَا يَسْقُط عَلَى الشَّجَر فَقَطْ بَلْ كَانَ أَنْوَاعًا مِنْ اللَّه عَلَيْهِمْ بِهَا مِنْ النَّبَات الَّذِي يُوجَد عَفْوًا ، وَمِنْ الطَّيْر الَّتِي تَسْقُط عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ اِصْطِيَاد ، وَمِنْ الطَّلّ الَّذِي يَسْقُط عَلَى الشَّجَر . وَالْمَنّ مَصْدَر بِمَعْنَى الْمَفْعُول أَيْ مَمْنُون بِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ فِيهِ شَائِبَة كَسْب كَانَ مَنًّا مَحْضًا ، وَإِنْ كَانَتْ جَمِيع نِعَم اللَّه تَعَالَى عَلَى عَبِيده مَنًّا مِنْهُ عَلَيْهِمْ ، لَكِنْ خُصَّ هَذَا بِاسْمِ الْمَنّ لِكَوْنِهِ لَا صُنْع فِيهِ لِأَحَدٍ ، فَجَعَلَ سُبْحَانه وَتَعَالَى قُوتهمْ فِي التِّيه الْكَمْأَة وَهِيَ تَقُوم(60/98)
مَقَام الْخُبْز ، وَأُدُمهمْ السَّلْوَى وَهِيَ تَقُوم مَقَام اللَّحْم ، وَحَلْوَاهُمْ الطَّلّ الَّذِي يَنْزِل عَلَى الشَّجَر ، فَكَمَّلَ بِذَلِكَ عَيْشهمْ . وَيُشِير إِلَى ذَلِكَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مِنْ الْمَنّ " فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا فَرْد مِنْ أَفْرَاده ، فَالتَّرَنْجَبِين كَذَلِكَ فَرْد مِنْ أَفْرَاد الْمَنّ ، وَإِنْ غَلَبَ اِسْتِعْمَال الْمَنّ عَلَيْهِ عُرْفًا ا ه . وَلَا يُعَكِّر عَلَى هَذَا قَوْلهمْ : ( لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ) لِأَنَّ الْمُرَاد بِالْوَحْدَةِ دَوَام الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة مِنْ غَيْر تَبَدُّل وَذَلِكَ يَصْدُق عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْمَطْعُوم أَصْنَافًا لَكِنَّهَا لَا تَتَبَدَّل أَعْيَانهَا .
قَوْله : ( وَمَاؤُهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَكَذَا عِنْد مُسْلِم ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي " مِنْ الْعَيْن " أَيْ شِفَاء مِنْ دَاء الْعَيْن ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ : إِنَّمَا اِخْتَصَّتْ الْكَمْأَة بِهَذِهِ الْفَضِيلَة لِأَنَّهَا مِنْ الْحَلَال الْمَحْض الَّذِي لَيْسَ فِي اِكْتِسَابه شُبْهَة ، وَيُسْتَنْبَط مِنْهُ أَنَّ اِسْتِعْمَال الْحَلَال الْمَحْض يَجْلُو الْبَصَر ، وَالْعَكْس بِالْعَكْسِ . قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : فِي الْمُرَاد بِكَوْنِهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ قَوْلَانِ :
أَحَدهمَا : أَنَّهُ مَاؤُهَا حَقِيقَة ، إِلَّا أَنَّ أَصْحَاب هَذَا الْقَوْل اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَل صِرْفًا فِي الْعَيْن ، لَكِنْ اِخْتَلَفُوا كَيْف يُصْنَع بِهِ عَلَى رَأْيَيْنِ :
أَحَدهمَا : أَنَّهُ يُخْلَط فِي الْأَدْوِيَة الَّتِي يُكْتَحَل بِهَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْد ، قَالَ : وَيُصَدِّق هَذَا الَّذِي حَكَاهُ أَبُو عُبَيْد أَنَّ بَعْض الْأَطِبَّاء قَالُوا : أَكْل الْكَمْأَة يَجْلُو الْبَصَر ،(60/99)
ثَانِيهمَا : أَنْ تُؤْخَذ فَتُشَقّ وَتُوضَع عَلَى الْجَمْر حَتَّى يَغْلِي مَاؤُهَا ، ثُمَّ يُؤْخَذ الْمِيل فَيُجْعَل فِي ذَلِكَ الشِّقّ وَهُوَ فَاتِر فَيُكْتَحَل بِمَائِهَا ، لِأَنَّ النَّار تُلَطِّفهُ وَتُذْهِب فَضَلَاته الرَّدِيئَة وَيَبْقَى النَّافِع مِنْهُ ، وَلَا يُجْعَل الْمِيل فِي مَائِهَا وَهِيَ بَارِدَة يَابِسَة فَلَا يَنْجَع ، وَقَدْ حَكَى إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ عَنْ صَالِح وَعَبْد اللَّه اِبْنَيْ أَحْمَد بْن حَنْبَل أَنَّهُمَا اِشْتَكَتْ أَعْيُنهمَا فَأَخَذَا كَمْأَة وَعَصَرَاهَا وَاكْتَحَلَا بِمَائِهَا فَهَاجَتْ أَعْيُنهمَا وَرَمِدَا . قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : وَحَكَى شَيْخنَا أَبُو بَكْر بْن عَبْد الْبَاقِي أَنَّ بَعْض النَّاس عَصَرَ مَاء كَمْأَة فَاكْتَحَلَ بِهِ فَذَهَبَتْ عَيْنه . وَالْقَوْل الثَّانِي أَنَّ الْمُرَاد مَاؤُهَا الَّذِي تَنْبُت بِهِ ، فَإِنَّهُ أَوَّل مَطَر يَقَع فِي الْأَرْض فَتُرَبَّى بِهِ الْأَكْحَال حَكَاهُ اِبْن الْجَوْزِيّ عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد الْبَاقِي أَيْضًا ، فَتَكُون الْإِضَافَة إِضَافَة الْكُلّ لَا إِضَافَة جُزْء . قَالَ اِبْن الْقَيِّم : وَهَذَا أَضْعَف الْوُجُوه . قُلْت : وَفِيمَا اِدَّعَاهُ اِبْن الْجَوْزِيّ مِنْ الِاتِّفَاق عَلَى أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَل صِرْفًا نَظَر ، فَقَدْ حَكَى عِيَاض عَنْ بَعْض أَهْل الطِّبّ فِي التَّدَاوِي بِمَاءِ الْكَمْأَة تَفْصِيلًا ، وَهُوَ إِنْ كَانَ لِتَبْرِيدِ مَا يَكُون بِالْعَيْنِ مِنْ الْحَرَارَة فَتُسْتَعْمَل مُفْرَدَة ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَتُسْتَعْمَل مُرَكَّبَة ، وَبِهَذَا جَزَمَ اِبْن الْعَرَبِيّ فَقَالَ : الصَّحِيح أَنَّهُ يَنْفَع بِصُورَتِهِ فِي حَال ، وَبِإِضَافَتِهِ فِي أُخْرَى ، وَقَدْ جُرِّبَ ذَلِكَ فَوُجِدَ صَحِيحًا . نَعَمْ جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ بِمَا قَالَ اِبْن(60/100)
الْجَوْزِيّ فَقَالَ : تُرَبَّى بِهَا التُّوتِيَاء وَغَيْرهَا مِنْ الْأَكْحَال ، قَالَ : وَلَا تُسْتَعْمَل صَرْفًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي الْعَيْن . وَقَالَ الْغَافِقِيّ فِي " الْمُفْرَدَات " : مَاء الْكَمْأَة أَصْلَح الْأَدْوِيَة لِلْعَيْنِ إِذَا عُجِنَ بِهِ الْإِثْمِد وَاكْتُحِلَ بِهِ ، فَإِنَّهُ يُقَوِّي الْجَفْن ، وَيَزِيد الرُّوح الْبَاصِر حِدَّة وَقُوَّة ، وَيَدْفَع عَنْهَا النَّوَازِل . وَقَالَ النَّوَوِيّ : الصَّوَاب أَنَّ مَاءَهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ مُطْلَقًا فَيُعْصَر مَاؤُهَا وَيُجْعَل فِي الْعَيْن مِنْهُ ، قَالَ : وَقَدْ رَأَيْت أَنَا وَغَيْرِي فِي زَمَاننَا مَنْ كَانَ عَمِيَ وَذَهَبَ بَصَره حَقِيقَة فَكَحَّلَ عَيْنه بِمَاءِ الْكَمْأَة مُجَرَّدًا فَشُفِيَ وَعَادَ إِلَيْهِ بَصَره ، وَهُوَ الشَّيْخ الْعَدْل الْأَمِين الْكَمَال بْن عَبْد الدِّمَشْقِيّ صَاحِب صَلَاح وَرِوَايَة فِي الْحَدِيث ، وَكَانَ اِسْتِعْمَاله لِمَاءِ الْكَمْأَة اِعْتِقَادًا فِي الْحَدِيث وَتَبَرُّكًا بِهِ فَنَفَعَهُ اللَّه بِهِ . قُلْت : الْكَمَال الْمَذْكُور هُوَ كَمَال الدِّين بْن عَبْد الْعَزِيز بْن عَبْد الْمُنْعِم بْن الْخَضِر يُعْرَف بِابْنِ عَبْد بِغَيْرِ إِضَافَة الْحَارِثِيّ الدِّمَشْقِيّ مِنْ أَصْحَاب أَبِي طَاهِر الْخُشُوعِيّ ، سَمِعَ مِنْهُ جَمَاعَة مِنْ شُيُوخ شُيُوخنَا ، عَاشَ ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ سَنَة وَمَاتَ سَنَة اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَسِتّمِائَةِ قَبْل النَّوَوِيّ بِأَرْبَعِ سِنِينَ . وَيَنْبَغِي تَقْيِيد ذَلِكَ بِمَنْ عَرَفَ مِنْ نَفْسه قُوَّة اِعْتِقَاد فِي صِحَّة الْحَدِيث وَالْعَمَل بِهِ كَمَا يُشِير إِلَيْهِ آخِر كَلَامه ، وَهُوَ يُنَافِي قَوْله أَوَّلًا مُطْلَقًا ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه بِسَنَدٍ صَحِيح إِلَى قَتَادَة قَالَ : حُدِّثْت أَنَّ أَبَا(60/101)
هُرَيْرَة قَالَ : أَخَذْت ثَلَاثَة أَكْمُؤ أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَعَصَرْتُهُنَّ فَجَعَلْت مَاءَهُنَّ فِي قَارُورَة فَكَحَّلَتْ بِهِ جَارِيَة لِي فَبَرِئَتْ . وَقَالَ اِبْن الْقَيِّم : اِعْتَرَفَ فُضَلَاء الْأَطِبَّاء أَنَّ مَاء الْكَمْأَة يَجْلُو الْعَيْن ، مِنْهُمْ الْمُسَبِّحِيّ وَابْن سِينَا وَغَيْرهمَا . وَاَلَّذِي يُزِيل الْإِشْكَال عَنْ هَذَا الِاخْتِلَاف أَنَّ الْكَمْأَة وَغَيْرهَا مِنْ الْمَخْلُوقَات خُلِقَتْ فِي الْأَصْل سَلِيمَة مِنْ الْمَضَارّ ، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهَا الْآفَات بِأُمُورٍ أُخْرَى مِنْ مُجَاوَرَة أَوْ اِمْتِزَاج أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَاب الَّتِي أَرَادَهَا اللَّه تَعَالَى ، فَالْكَمْأَة فِي الْأَصْل نَافِعَة لِمَا اِخْتَصَّتْ بِهِ مِنْ وَصْفهَا بِأَنَّهَا مِنْ اللَّه ، وَإِنَّمَا عَرَضَتْ لَهَا الْمَضَارّ بِالْمُجَاوَرَةِ ، وَاسْتِعْمَال كُلّ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّة بِصِدْقٍ يَنْتَفِع بِهِ مَنْ يَسْتَعْمِلهُ ، وَيَدْفَع اللَّه عَنْهُ الضَّرَر بِنِيَّتِهِ ، وَالْعَكْس بِالْعَكْسِ ، وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( وَقَالَ شُعْبَة )
كَذَا لِأَبِي ذَرّ بِوَاوٍ فِي أَوَّله وَصُورَته صُورَة التَّعْلِيق ، وَسَقَطَتْ الْوَاو لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ أَوْلَى فَإِنَّهُ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى شَيْخ الْبُخَارِيّ فِيهِ فَأَعَادَ الْإِسْنَاد مِنْ أَوَّله لِلطَّرِيقِ الثَّانِيَة ، وَكَذَا أَوْرَدَهُ أَحْمَد عَنْ مُحَمَّد بْن جَعْفَر بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا .
قَوْله : ( وَأَخْبَرَنِي الْحَكَم )(60/102)
هُوَ اِبْن عُتَيْبَة بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَة مُصَغَّر وَالْحَسَن الْعُرَنِيّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَفَتْح الرَّاء بَعْدهَا نُون هُوَ اِبْن عَبْد اللَّه الْبَجْلِيُّ ، كُوفِيّ وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَة وَالْعِجْلِيّ وَابْن سَعْد ، وَقَالَ اِبْن مَعِين صَدُوق . قُلْت : وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِع .
قَوْله : ( قَالَ شُعْبَة لَمَّا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَكَم لَمْ أُنْكِرهُ مِنْ حَدِيث عَبْد الْمَلِك )
كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ عَبْد الْمَلِك كَبِرَ وَتَغَيَّرَ حِفْظه ، فَلَمَّا حَدَّثَ بِهِ شُعْبَة تَوَقَّفَ فِيهِ ، فَلَمَّا تَابَعَهُ الْحَكَم بِرِوَايَتِهِ ثَبَتَ عِنْد شُعْبَة فَلَمْ يُنْكِرهُ ، وَانْتَفَى عَنْهُ التَّوَقُّف فِيهِ . وَقَدْ تَكَلَّفَ الْكَرْمَانِيُّ لِتَوْجِيهِ كَلَام شُعْبَة أَشْيَاء فِيهَا نَظَر .
أَحَدهَا : أَنَّ الْحُكْم مُدَلِّس وَقَدْ عَنْعَنَ ، وَعَبْد الْمَلِك صَرَّحَ بِقَوْلِهِ : " سَمِعْته " فَلَمَّا تَقْوَى بِرِوَايَةِ عَبْد الْمَلِك لَمْ يَبْقَ بِهِ مَحَلّ لِلْإِنْكَارِ . قُلْت : شُعْبَة مَا كَانَ يَأْخُذ عَنْ شُيُوخه الَّذِينَ ذَكَرَ عَنْهُمْ التَّدْلِيس إِلَّا مَا يَتَحَقَّق سَمَاعهمْ فِيهِ ، وَقَدْ جَزَمَ بِذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيْره بِبُعْدِ هَذَا الِاحْتِمَال ، وَعَلَى تَقْدِير تَسْلِيمه كَانَ يَلْزَم الْأَمْر بِالْعَكْسِ بِأَنْ يَقُول لَمَّا حَدَّثَنِي عَبْد الْمُلْك لَمْ أُنْكِرهُ مِنْ حَدِيث الْحَكَم .
ثَانِيهَا : لَمْ يَكُنْ الْحَدِيث مَنْكُورًا لِي لِأَنِّي كُنْت أَحْفَظهُ .(60/103)
ثَالِثهَا : يَحْتَمِل الْعَكْس بِأَنْ يُرَاد لَمْ يُنْكِر شَيْئًا مِنْ حَدِيث عَبْد الْمَلِك ، وَقَدْ سَاقَ مُسْلِم هَذِهِ الطَّرِيق مِنْ أَوْجُه أُخْرَى عَنْ الْحَكَم . وَوَقَعَ عِنْده فِي الْمَتْن " مِنْ الْمَنّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل " وَفِي لَفْظ " عَلَى مُوسَى " وَقَدْ أَشَرْت إِلَى مَا فِي هَذِهِ الزِّيَادَة مِنْ الْفَائِدَة فِي الْكَلَام عَلَى هَذَا الْحَدِيث فِي تَفْسِيرِ سُورَة الْبَقَرَة .
21 - باب اللَّدُودِ .
قَوْله : ( بَاب اللَّدُود )
بِفَتْحِ اللَّام وَبِمُهْمَلَتَيْنِ : هُوَ الدَّوَاء الَّذِي يُصَبّ فِي أَحَد جَانِبَيْ فَم الْمَرِيض . وَاللُّدُود بِالضَّمِّ الْفِعْل . وَلَدِدْت الْمَرِيض فَعَلْت ذَلِكَ بِهِ .
5709 و 5710 و 5711 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِى مُوسَى بْنُ أَبِى عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رضى الله عنه - قَبَّلَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ مَيِّتٌ .
5712 - قَالَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ لَدَدْنَاهُ فِى مَرَضِهِ ، فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا ، أَنْ لاَ تَلُدُّونِى . فَقُلْنَا كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ . فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ « أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِى » . قُلْنَا كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ . فَقَالَ « لاَ يَبْقَى فِى الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلاَّ لُدَّ - وَأَنَا أَنْظُرُ - إِلاَّ الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ » .(60/104)
* [ قَوْله : ( حَدَّثَنَا عَلِيّ حَدَّثَنَا يَحْيَى وَزَادَ : قَالَتْ عَائِشَة لَدَدْنَاهُ فِي مَرَضه ) أَمَّا عَلِيّ فَهُوَ اِبْن عَبْد اللَّه بْن الْمَدِينِيّ ، وَأَمَّا يَحْيَى فَهُوَ اِبْن سَعِيد الْقَطَّانُ ، وَمُرَاده أَنَّ عَلِيًّا وَافَقَ عَبْد اللَّه بْن أَبِي شَيْبَة فِي رِوَايَته عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد الْحَدِيث الَّذِي قَبْله وَزَادَ عَلَيْهِ قِصَّة اللُّدُود .
قَوْله : ( لَدَدْنَاهُ ) أَيْ جَعَلْنَا فِي جَانِب فَمه دَوَاء بِغَيْرِ اِخْتِيَاره ، وَهَذَا هُوَ اللُّدُود ، فَأَمَّا مَا يُصَبّ فِي الْحَلْق فَيُقَال لَهُ الْوُجُور ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْد الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث الْعَبَّاس " أَنَّهُمْ أَذَابُوا قِسْطًا - أَيْ بِزَيْتٍ - قَلَّدُوهُ بِهِ " .
قَوْله : ( فَجَعَلَ يُشِير إِلَيْنَا أَنْ لَا تَلُدُّونِي ، فَقُلْنَا : كَرَاهِيَة الْمَرِيض لِلدَّوَاءِ )
قَالَ عِيَاض : ضَبَطْنَاهُ بِالرَّفْعِ أَيْ هَذَا مِنْهُ كَرَاهِيَة ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء : هُوَ خَبَر مُبْتَدَأ مَحْذُوف أَيْ هَذَا الِامْتِنَاع كَرَاهِيَة ، وَيَحْتَمِل أَنَّ النَّصْب عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول لَهُ أَيْ نَهَانَا لِلْكَرَاهِيَةِ لِلدَّوَاءِ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَصْدَرًا أَيْ كَرِهَهُ كَرَاهِيَة الدَّوَاء ، قَالَ عِيَاض : الرَّفْع أَوْجَه مِنْ النَّصْب عَلَى الْمَصْدَر .
قَوْله : ( لَا يَبْقَى أَحَد فِي الْبَيْت إِلَّا لُدّ وَأَنَا أَنْظُر إِلَّا الْعَبَّاس فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدكُمْ )(60/105)
قِيلَ : فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْقِصَاص فِي جَمِيع مَا يُصَاب بِهِ الْإِنْسَان عَمْدًا ، وَفِيهِ نَظَر ، لِأَنَّ الْجَمِيع لَمْ يَتَعَاطَوْا ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا فُعِلَ بِهِمْ ذَلِكَ عُقُوبَة لَهُمْ لِتَرْكِهِمْ اِمْتِثَال نَهْيه عَنْ ذَلِكَ ، أَمَّا مَنْ بَاشَرَهُ فَظَاهِر ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُبَاشِرهُ فَلِكَوْنِهِمْ تَرَكُوا نَهْيهمْ عَمَّا نَهَاهُمْ هُوَ عَنْهُ . وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّ التَّأْوِيل الْبَعِيد لَا يُعْذَر بِهِ صَاحِبه وَفِيهِ نَظَر أَيْضًا لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي مُعَارَضَة النَّهْي ، قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَرَادَ أَنْ لَا يَأْتُوا يَوْم الْقِيَامَة وَعَلَيْهِمْ حَقّه فَيَقَعُوا فِي خَطْب عَظِيم ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِن الْعَفْو لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِم لِنَفْسِهِ ، وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَأْدِيبهمْ لِئَلَّا يَعُودُوا ، فَكَانَ ذَلِكَ تَأْدِيبًا لَا قِصَاصًا وَلَا اِنْتِقَامًا . قِيلَ : وَإِنَّمَا كَرِهَ اللَّدّ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَتَدَاوَى لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ يَمُوت فِي مَرَضه ، وَمَنْ حَقَّقَ ذَلِكَ كُرِهَ لَهُ التَّدَاوِي . قُلْت : وَفِيهِ نَظَر ، وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْل التَّخْيِير وَالتَّحَقُّق ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ التَّدَاوِي لِأَنَّهُ كَانَ غَيْر مُلَائِم لِدَائِهِ ، لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ بِهِ ذَات الْجَنْب فَدَاوَوْهُ بِمَا يُلَائِمهَا ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِر فِي سِيَاق الْخَبَر كَمَا تَرَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .(60/106)
وَصَلَهُ مُحَمَّد بْن مُسْعَد عَنْ مُحَمَّد بْن الصَّبَّاحِ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي الزِّنَاد بِهَذَا السَّنَد وَلَفْظه : كَانَتْ تَأْخُذ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَاصِرَة ، فَاشْتَدَّتْ بِهِ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَدَدْنَاهُ ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ : هَذَا مِنْ فِعْل نِسَاء جِئْنَ مِنْ هُنَا ، وَأَشَارَ إِلَى الْحَبَشَة ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّ اللَّه يُسَلِّط عَلَيَّ ذَات الْجَنْب مَا كَانَ اللَّه لِيَجْعَل لَهَا عَلَيَّ سُلْطَانًا ، وَاَللَّه لَا يَبْقَى أَحَد فِي الْبَيْت إِلَّا لُدَّ ، فَمَا بَقِيَ أَحَد فِي الْبَيْت إِلَّا لُدَّ ، وَلَدَدْنَا مَيْمُونَة وَهِيَ صَائِمَة " وَمَنْ طَرِيق أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن أَنَّ أُمّ سَلَمَة وَأَسْمَاء بِنْت عُمَيْسٍ أَشَارَتَا بِأَنْ يَلُدُّوهُ ، وَرَوَاهُ عَبْد الرَّزَّاق بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ أَسْمَاء بِنْت عُمَيْسٍ قَالَتْ : " إِنَّ أَوَّل مَا اِشْتَكَى كَانَ فِي بَيْت مَيْمُونَة ، فَاشْتَدَّ مَرَضه حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، فَتَشَاوَرْنَ فِي لَدّه فَلَدُّوهُ . فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ : هَذَا فِعْل نِسَاء جِئْنَ مِنْ هُنَا - وَأَشَارَ إِلَى الْحَبَشَة - وَكَانَتْ أَسْمَاء مِنْهُنَّ فَقَالُوا : كُنَّا نَتَّهِم بِك ذَات الْجَنْب ، فَقَالَ : مَا كَانَ اللَّه لِيُعَذِّبنِي بِهِ ، لَا يَبْقَى أَحَد فِي الْبَيْت إِلَّا لُدَّ . قَالَ : فَلَقَدْ اِلْتَدَّتْ مَيْمُونَة وَهِيَ صَائِمَة " وَفِي رِوَايَة اِبْن أَبِي الزِّنَاد هَذِهِ بَيَان ضَعْف مَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ فِيهِ اِبْن لَهِيعَة مِنْ وَجْه آخَر عَنْ عَائِشَة " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ مِنْ ذَات الْجَنْب " ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ يُمْكِن الْجَمْع بَيْنهمَا بِأَنَّ ذَات الْجَنْب تُطْلَق(60/107)
بِإِزَاءِ مَرَضَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي كِتَاب الطِّبّ : أَحَدهمَا وَرَم حَارّ يَعْرِض فِي الْغِشَاء الْمُسْتَبْطِن ، وَالْآخَر رِيح مُحْتَقِن بَيْن الْأَضْلَاع ، فَالْأَوَّل هُوَ الْمَنْفِيّ هُنَا ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرَك " ذَات الْجَنْب مِنْ الشَّيْطَان " وَالثَّانِي هُوَ الَّذِي أَثْبَت هُنَا ، وَلَيْسَ فِيهِ مَحْذُور كَالْأَوَّلِ ...] .
5713 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ قَالَتْ دَخَلْتُ بِابْنٍ لِى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ فَقَالَ « عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلاَدَكُنَّ بِهَذَا الْعِلاَقِ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِىِّ ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ ، مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُسْعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ ، وَيُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ » . فَسَمِعْتُ الزُّهْرِىَّ يَقُولُ بَيَّنَ لَنَا اثْنَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا خَمْسَةً . قُلْتُ لِسُفْيَانَ فَإِنَّ مَعْمَرًا يَقُولُ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ . قَالَ لَمْ يَحْفَظْ أَعْلَقْتُ عَنْهُ ، حَفِظْتُهُ مِنْ فِى الزُّهْرِىِّ . وَوَصَفَ سُفْيَانُ الْغُلاَمَ يُحَنَّكُ بِالإِصْبَعِ وَأَدْخَلَ سُفْيَانُ فِى حَنَكِهِ ، إِنَّمَا يَعْنِى رَفْعَ حَنَكِهِ بِإِصْبَعِهِ ، وَلَمْ يَقُلْ أَعْلِقُوا عَنْهُ شَيْئًا .
* الْحَدِيث سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي " بَاب الْعُذْرَة " قَرِيبًا .
22 - باب .(60/108)
5714 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ وَيُونُسُ قَالَ الزُّهْرِىُّ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ ، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِى أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى ، فَأَذِنَّ ، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِى الأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَآخَرَ . فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ هَلْ تَدْرِى مَنِ الرَّجُلُ الآخَرُ الَّذِى لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ قُلْتُ لاَ . قَالَ هُوَ عَلِىٌّ . قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ مَا دَخَلَ بَيْتَهَا وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ « هَرِيقُوا عَلَىَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ ، لَعَلِّى أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ » . قَالَتْ فَأَجْلَسْنَاهُ فِى مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ ، حَتَّى جَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ . قَالَتْ وَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى لَهُمْ وَخَطَبَهُمْ .
* قَوْله : ( بَاب ) كَذَا لَهُمْ بِغَيْرِ تَرْجَمَة ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيث عَائِشَة " لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعه اِسْتَأْذَنَ أَزْوَاجه أَنْ يُمَرَّض فِي بَيْتِي " الْحَدِيث ، [ ... ] وَالْغَرَض مِنْهُ هُنَا قَوْله : " هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْع قِرَب لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتهنَّ "[ .. قَوْله ( هَرِيقُوا )(60/109)
كَذَا لِلْأَكْثَرِ ، وَلِلْأَصِيلِيِّ " أَهْرِيقُوا " بِزِيَادَةِ الْهَمْزَة ، قَالَ اِبْن التِّين هُوَ بِإِسْكَانِ الْهَاء ، وَنُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ أَهْرَاقَ يُهْرِيق إهْرِيَاقًا مِثْل أَسْطَاعَ يُسْطِيع اسْطِيَاعًا بِقَطْعِ الْأَلِف وَفَتْحهَا فِي الْمَاضِي وَضَمّ الْيَاء فِي الْمُسْتَقْبَل وَهِيَ لُغَة فِي أَطَاعَ يُطِيع فَجُعِلَتْ السِّين وَالْهَاء عِوَضًا مِنْ ذَهَاب حَرَكَة عَيْن الْفِعْل ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْهَاء وَاسْتَشْكَلَهُ ، وَيُوَجَّه بِأَنَّ الْهَاء مُبْدَلَة مِنْ الْهَمْزَة لِأَنَّ أَصْل هَرَاقَ أَرَاقَ ثُمَّ اُجْتُلِبَتْ الْهَمْزَة فَتَحْرِيك الْهَاء عَلَى إِبْقَاء الْبَدَل وَالْمُبْدَل مِنْهُ وَلَهُ نَظَائِر ، وَذَكَرَ لَهُ الْجَوْهَرِيّ تَوْجِيهًا آخَر وَأَنَّ أَصْله أَأَرِيقُوا فَأُبْدِلَتْ الْهَمْزَة الثَّانِيَة هَاء لِلْخِفَّةِ ، وَجَزَمَ ثَعْلَب فِي الْفَصِيح بِأَنَّ أَهَرِيقَهُ بِفَتْحِ الْهَاء وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( مِنْ سَبْع قِرَب ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ : يُشْبِه أَنْ يَكُون خَصَّ السَّبْع تَبَرُّكًا بِهَذَا الْعَدَد ؛ لِأَنَّ لَهُ دُخُولًا فِي كَثِير مِنْ أُمُور الشَّرِيعَة وَأَصْل الْخِلْقَة . وَفِي رِوَايَة لِلطَّبَرَانِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث " مِنْ آبَار شَتَّى " وَالظَّاهِر أَنَّ ذَلِكَ لِلتَّدَاوِي لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَة أُخْرَى فِي الصَّحِيح " لَعَلِّي أَسْتَرِيح فَأَعْهَد " أَيْ : أُوصِي ...].(60/110)
وَقَدْ اِسْتَشْكَلَ اِبْن بَطَّال مُنَاسَبَة حَدِيث هَذَا الْبَاب لِتَرْجَمَةِ الَّذِي قَبْله بَعْد أَنْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْبَاب إِذَا كَانَ بِلَا تَرْجَمَة يَكُون كَالْفَصْلِ مِنْ الَّذِي قَبْله ، وَأَجَابَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون أَشَارَ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُفْعَل بِالْمَرِيضِ بِأَمْرِهِ لَا يَلْزَم فَاعِل ذَلِكَ لَوْم وَلَا قِصَاص ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُر بِصَبِّ الْمَاء عَلَى كُلّ مَنْ حَضَرَهُ بِخِلَافِ مَا نَهَى عَنْهُ أَنْ لَا يُفْعَل بِهِ لِأَنَّ فِعْله جِنَايَة عَلَيْهِ فَيَكُون فِيهِ الْقِصَاص . قُلْت : وَلَا يَخْفَى بُعْده . وَيُمْكِن أَنْ يُقَرَّب بِأَنْ يُقَال أَوَّلًا إِنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْحَدِيث عَنْ عَائِشَة فِي مَرَض النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا اِتَّفَقَ لَهُ فِيهِ وَاحِد ذَكَرَهُ بَعْض الرُّوَاة تَامًّا وَاقْتَصَرَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْضه ، وَقِصَّة اللُّدُود كَانَتْ عِنْدَمَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ قِصَّة السَّبْع قِرَب ، لَكِنْ اللُّدُود كَانَ نَهَى عَنْهُ وَلِذَلِكَ عَاتَبَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الصَّبّ فَإِنَّهُ كَانَ أَمَرَ فَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِمْ ، فَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ الْمَرِيض إِذَا كَانَ عَارِفًا لَا يُكْرَه عَلَى تَنَاوُل شَيْء يَنْهَى عَنْهُ وَلَا يُمْنَع مِنْ شَيْء يَأْمُرُ بِهِ .
23 - باب الْعُذْرَةِ .
قَوْله : ( بَاب الْعُذْرَة )
بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة : هُوَ وَجَع الْحَلْق ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى سُقُوط اللَّهَاة ، وَقِيلَ : هُوَ اِسْم اللَّهَاة وَالْمُرَاد وَجَعهَا سُمِّيَ بِاسْمِهَا ، وَقِيلَ : هُوَ مَوْضِع قَرِيب مِنْ اللَّهَاة . وَاللَّهَاة بِفَتْحِ اللَّام اللَّحْمَة الَّتِي فِي أَقْصَى الْحَلْقِ .(60/111)
5715 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أُمَّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَنٍ الأَسَدِيَّةَ - أَسَدَ خُزَيْمَةَ ، وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ اللاَّتِى بَايَعْنَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْىَ أُخْتُ عُكَّاشَةَ - أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِابْنٍ لَهَا ، قَدْ أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلاَدَكُنَّ بِهَذَا الْعِلاَقِ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِىِّ ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ » . يُرِيدُ الْكُسْتَ ، وَهْوَ الْعُودُ الْهِنْدِىُّ . وَقَالَ يُونُسُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَلَّقَتْ عَلَيْهِ .
* قَوْله : ( وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَات إِلَخْ )
يُشْبِه أَنْ يَكُون الْوَصْف مِنْ كَلَام الزُّهْرِيّ فَيَكُون مُدْرَجًا ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ كَلَام شَيْخه فَيَكُون مَوْصُولًا وَهُوَ الظَّاهِر .
قَوْله : ( بِابْنٍ لَهَا ) هو الِابْن الَّذِي بَالَ فِي حِجْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَوْله : ( قَدْ أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ )(60/112)
تَقَدَّمَ قَبْل بَابٍ مِنْ رِوَايَة سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيّ بِلَفْظِ " أَعْلَقَتْ عَنْهُ " وَفِيهِ " قُلْت لِسُفْيَان فَإِنَّ مَعْمَرًا يَقُول أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ ، قَالَ : لَمْ يُحْفَظ ، إِنَّمَا قَالَ : أَعْلَقَتْ عَنْهُ . حَفِظْته مِنْ فِي الزُّهْرِيّ " وَوَقَعَ هُنَا مُعَلَّقًا مِنْ رِوَايَة يُونُس وَهُوَ اِبْن يَزِيد ، وَإِسْحَاق بْن رَاشِد عَنْ الزُّهْرِيّ " عَلَّقَتْ عَلَيْهِ " بِتَشْدِيدِ اللَّام وَالصَّوَاب " أَعْلَقَتْ " وَالِاسْم الْعَلَاق بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة . وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَة سُفْيَان الْمَاضِيَة " بِهَذَا الْعَلَاق " كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيّ ، وَلِغَيْرِهِ " الْأَعْلَاق " وَرِوَايَة يُونُس الْمُعَلَّقَة هُنَا وَصَلَهَا أَحْمَد وَمُسْلِم ، وَرِوَايَة إِسْحَاق بْن رَاشِد وَصَلَهَا الْمُؤَلِّف فِي " بَاب ذَات الْجَنْب " وَسَيَأْتِي قَرِيبًا . وَرِوَايَة مَعْمَر الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه سُفْيَان أَخْرَجَهَا أَحْمَد عَنْ عَبْد الرَّزَّاق عَنْهُ لَكِنْ بِلَفْظِ " جِئْت بِابْنٍ لِي قَدْ أَعَلَقْت عَنْهُ " قَالَ عِيَاض : وَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ أَعْلَقَتْ وَعَلَّقَتْ وَالْعَلَاق وَالْأَعْلَاق ، وَلَمْ يَقَع فِي مُسْلِم إِلَّا " أَعْلَقَتْ " وَذَكَرَ الْعَلَاق فِي رِوَايَة وَالْأَعْلَاق فِي رِوَايَة وَالْكُلّ بِمَعْنًى جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَات ، لَكِنْ أَهْل اللُّغَة إِنَّمَا يَذْكُرُونَ أَعْلَقَتْ ؛ وَالْأَعْلَاق رُبَاعِيّ ، وَتَفْسِيره غَمْز الْعُذْرَة وَهِيَ اللَّهَاة بِالْأُصْبُعِ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة يُونُس عِنْد مُسْلِم " قَالَ أَعْلَقَتْ غَمَزَتْ " وَقَوْله فِي الْحَدِيث " عَلَامَ " أَيْ لِأَيِّ شَيْء .(60/113)
قَوْله : ( تَدْغَرْنَ ) خِطَاب لِلنِّسْوَةِ ، وَهُوَ بَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة وَالدَّال الْمُهْمَلَة ، وَالدَّغْر غَمْز الْحَلْق .
قَوْله : ( عَلَيْكُمْ )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " عَلَيْكُنَّ " .
قَوْله : ( بِهَذَا الْعُود الْهِنْدِيّ ، يُرِيد الْكُسْت )
فِي رِوَايَة إِسْحَاق بْن رَاشِد " يَعْنِي الْقُسْط قَالَ وَهِيَ لُغَة " قُلْت : وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهَا فِي " بَاب السَّعُوط بِالْقُسْطِ الْهِنْدِيّ " ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة سُفْيَان الْمَاضِيَة قَرِيبًا " قَالَ فَسَمِعْت الزُّهْرِيّ يَقُول : بَيَّنَ لَنَا اِثْنَتَيْنِ ، وَلَمْ يُبَيِّن لَنَا خَمْسَة " يَعْنِي مِنْ السَّبْعَة فِي قَوْله : " فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَة أَشْفِيَة " فَذَكَرَ مِنْهَا ذَات الْجَنْب وَيُسْعَط مِنْ الْعُذْرَة . قُلْت : وَقَدْ قَدَّمْت فِي " بَاب السَّعُوط " مِنْ كَلَام الْأَطِبَّاء مَا لَعَلَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُ الْخَمْسَة الْمُشَار إِلَيْهَا .
24 - باب دَوَاءِ الْمَبْطُونِ .
قَوْله : ( بَاب دَوَاء الْمَبْطُون )
الْمُرَاد بِالْمَبْطُونِ مَنْ اِشْتَكَى بَطْنه لِإِفْرَاطِ الْإِسْهَال ، وَأَسْبَابُ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَة .
5716 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِى الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنَّ أَخِى اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ . فَقَالَ « اسْقِهِ عَسَلاً » . فَسَقَاهُ . فَقَالَ إِنِّى سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلاَّ اسْتِطْلاَقًا . فَقَالَ « صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ » . تَابَعَهُ النَّضْرُ عَنْ شُعْبَةَ .
* قَوْله : ( قَتَادَة عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّل )(60/114)
كَذَا لِشُعْبَة وَسَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة . وَخَالَفَهُمَا شَيْبَانَ فَقَالَ : " عَنْ قَتَادَة عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق عَنْ أَبِي سَعِيد " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَلَمْ يُرَجِّح ، وَاَلَّذِي يَظْهَر تَرْجِيح طَرِيق أَبِي الْمُتَوَكِّل لِاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ عَلَيْهَا شُعْبَة وَسَعِيد أَوَّلًا ثُمَّ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم ثَانِيًا ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَحْمَد عَنْ حَجَّاج عَنْ شُعْبَة " عَنْ قَتَادَة سَمِعْت أَبَا الْمُتَوَكِّل " .
قَوْله : ( جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ أَخِي )
لَمْ أَقِف عَلَى اِسْم وَاحِد مِنْهُمَا .
قَوْله : ( اُسْتُطْلِقَ بَطْنه )
بِضَمِّ الْمُثَنَّاة وَسُكُون الطَّاء الْمُهْمَلَة وَكَسْر اللَّام بَعْدهَا قَاف ، أَيْ كَثُرَ خُرُوج مَا فِيهِ ، يُرِيد الْإِسْهَال . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة فِي رَابِع بَاب مِنْ كِتَاب الطِّبّ " هَذَا اِبْن أَخِي يَشْتَكِي بَطْنه " وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقه " قَدْ عَرِبَ بَطْنه " وَهِيَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة وَالرَّاء الْمَكْسُورَة ثُمَّ الْمُوَحَّدَة أَيْ فَسَدَ هَضْمه لِاعْتِلَالِ الْمَعِدَة ، وَمِثْله ذَرِبَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بَدَل الْعَيْن وَزْنًا وَمَعْنًى .
قَوْله : ( فَقَالَ اِسْقِهِ عَسَلًا )
وَعِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق خَالِد بْن الْحَارِث عَنْ شُعْبَة " اِسْقِهِ الْعَسَل " وَاللَّام عَهْدِيَّة ، وَالْمُرَاد عَسَل النَّحْل ، وَهُوَ مَشْهُور عِنْدهمْ ، وَظَاهِرُهُ الْأَمْر بِسَقْيِهِ صِرْفَا ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَمْزُوجًا .
قَوْله : ( فَسَقَاهُ فَقَالَ : إِنِّي سَقَيْته فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اِسْتِطْلَاقًا )
كَذَا فِيهِ ، وَفِي السِّيَاق حَذْف تَقْدِيره .(60/115)
فَسَقَاهُ فَلَمْ يَبْرَأ ، فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي سَقَيْته ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم " فَسَقَاهُ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ : إِنِّي سَقَيْته فَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا اِسْتِطْلَاقًا " أَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّد بْن بَشَّار الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْهُ وَلَكِنْ قَرَنَهُ بِمُحَمَّدِ بْن الْمُثَنَّى وَقَالَ : إِنَّ اللَّفْظ لِمُحَمَّدِ بْن الْمُثَنَّى . نَعَمْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن بَشَّار وَحْده بِلَفْظِ " ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه ، إِنِّي قَدْ سَقَيْته عَسَلًا فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اِسْتِطْلَاقًا " .
قَوْله : ( فَقَالَ صَدَقَ اللَّه )
كَذَا اِخْتَصَرَهُ ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ " فَقَالَ اِسْقِهِ عَسَلًا ، فَسَقَاهُ ، ثُمَّ جَاءَ " فَذَكَرَ مِثْله فَقَالَ : " صَدَقَ اللَّه " وَفِي رِوَايَة مُسْلِم " فَقَالَ لَهُ ثَلَاث مَرَّات ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَة فَقَالَ : اِسْقِهِ عَسَلًا فَقَالَ سَقَيْته فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اِسْتِطْلَاقًا ، فَقَالَ صَدَقَ اللَّه " وَعِنْد أَحْمَد عَنْ يَزِيد بْن هَارُون عَنْ شُعْبَة " فَذَهَبَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ : قَدْ سَقَيْته فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اِسْتِطْلَاقًا ، فَقَالَ : اِسْقِهِ عَسَلًا فَسَقَاهُ " كَذَلِكَ ثَلَاثًا وَفِيهِ " فَقَالَ فِي الرَّابِعَة اِسْقِهِ عَسَلًا " وَعِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ رِوَايَة خَالِد بْن الْحَارِث ثَلَاث مَرَّات يَقُول فِيهِنَّ مَا قَالَ فِي الْأُولَى . وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَة سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة بِلَفْظِ " ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَة فَقَالَ اِسْقِهِ عَسَلًا ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَة " .
قَوْله : ( فَقَالَ صَدَقَ اللَّه وَكَذَبَ بَطْن أَخِيك )(60/116)
زَادَ مُسْلِم فِي رِوَايَته " فَسَقَاهُ فَبَرَأَ " وَكَذَا لِلتِّرْمِذِيِّ ، وَفِي رِوَايَة أَحْمَد عَنْ يَزِيد بْن هَارُون ، فَقَالَ فِي الرَّابِعَة اِسْقِهِ عَسَلًا ، قَالَ : فَأَظُنّهُ قَالَ فَسَقَاهُ فَبَرَأَ ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّابِعَة : صَدَقَ اللَّه وَكَذَبَ بَطْن أَخِيك " كَذَا وَقَعَ لِيَزِيدَ بِالشَّكِّ وَفِي رِوَايَة خَالِد بْن الْحَارِث " فَقَالَ فِي الرَّابِعَة صَدَقَ اللَّه وَكَذَبَ بَطْن أَخِيك " وَاَلَّذِي اِتَّفَقَ عَلَيْهِ مُحَمَّد بْن جَعْفَر وَمَنْ تَابَعَهُ أَرْجَح ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْقَوْل وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد الثَّالِثَة ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْقِيه عَسَلًا فَسَقَاهُ فِي الرَّابِعَة فَبَرَأَ . وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة " ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَة فَقَالَ اِسْقِهِ عَسَلًا ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ : قَدْ فَعَلْت ، فَسَقَاهُ فَبَرَأَ " .
قَوْله : ( تَابَعَهُ النَّضْر )
يَعْنِي اِبْن شُمَيْلٍ بِالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّر
( عَنْ شُعْبَة )(60/117)
وَصَلَهُ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَده عَنْ النَّضْر ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ : وَتَابَعَهُ أَيْضًا يَحْيَى بْن سَعِيد وَخَالِد بْن الْحَارِث وَيَزِيد بْن هَارُون . قُلْت : رِوَايَة يَحْيَى عِنْد النَّسَائِيِّ فِي " الْكُبْرَى " وَرِوَايَة خَالِد عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ عَنْ أَبِي يَعْلَى ، وَرِوَايَة يَزِيد عِنْد أَحْمَد وَتَابَعَهُمْ أَيْضًا حَجَّاج بْن مُحَمَّد وَرَوْح بْن عُبَادَةَ وَرِوَايَتهمَا عِنْد أَحْمَد أَيْضًا ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره : أَهْل الْحِجَاز يُطْلِقُونَ الْكَذِب فِي مَوْضِع الْخَطَأ ، يُقَال كَذَبَ سَمْعك أَيْ زَلَّ فَلَمْ يُدْرِك حَقِيقَة مَا قِيلَ لَهُ ، فَمَعْنَى كَذَبَ بَطْنه أَيْ لَمْ يَصْلُح لِقَبُولِ الشِّفَاء بَلْ زَلَّ عَنْهُ ، وَقَدْ اِعْتَرَضَ بَعْض الْمَلَاحِدَة فَقَالَ : الْعَسَل مُسَهِّل فَكَيْف يُوصَف لِمَنْ وَقَعَ بِهِ الْإِسْهَال ؟ وَالْجَوَاب أَنَّ ذَلِكَ جَهْل مِنْ قَائِله ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ) فَقَدْ اِتَّفَقَ الْأَطِبَّاء عَلَى أَنَّ الْمَرَض الْوَاحِد يَخْتَلِف عِلَاجه بِاخْتِلَافِ السِّنّ وَالْعَادَة وَالزَّمَان وَالْغِذَاء الْمَأْلُوف وَالتَّدْبِير وَقُوَّة الطَّبِيعَة ، وَعَلَى أَنَّ الْإِسْهَال يَحْدُث مِنْ أَنْوَاع مِنْهَا الْهَيْضَة الَّتِي تَنْشَأ عَنْ تُخَمَة وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عِلَاجهَا بِتَرْكِ الطَّبِيعَة وَفِعْلهَا ، فَإِنَّ اِحْتَاجَتْ إِلَى مُسَهِّل مُعَيَّن أُعِينَتْ مَا دَامَ بِالْعَلِيلِ قُوَّة ، فَكَأَنَّ هَذَا الرَّجُل كَانَ اِسْتِطْلَاق بَطْنه عَنْ تُخَمَة أَصَابَتْهُ فَوَصَفَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَسَل لِدَفْعِ الْفُضُول الْمُجْتَمِعَة فِي نَوَاحِي الْمَعِدَة وَالْأَمْعَاء لِمَا فِي الْعَسَل(60/118)
مِنْ الْجَلَاء وَدَفْع الْفُضُول الَّتِي تُصِيب الْمَعِدَة مِنْ أَخْلَاط لَزِجَة تَمْنَع اِسْتِقْرَار الْغِذَاء فِيهَا ، وَلِلْمَعِدَةِ خَمْل كَخَمْلِ الْمِنْشَفَة ، فَإِذَا عَلِقَتْ بِهَا الْأَخْلَاط اللَّزِجَة أَفْسَدَتْهَا وَأَفْسَدَتْ الْغِذَاء الْوَاصِل إِلَيْهَا ، فَكَانَ دَوَاؤُهَا بِاسْتِعْمَالِ مَا يَجْلُو تِلْكَ الْأَخْلَاط ، وَلَا شَيْء فِي ذَلِكَ مِثْل الْعَسَل ، لَا سِيَّمَا إِنْ مُزِجَ بِالْمَاءِ الْحَارّ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفِدْهُ فِي أَوَّل مَرَّة لِأَنَّ الدَّوَاء يَجِب أَنْ يَكُون لَهُ مِقْدَار وَكَمِّيَّة بِحَسَبِ الدَّاء ، إِنْ قَصُرَ عَنْهُ لَمْ يَدْفَعهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ جَاوَزَهُ أَوْهَى الْقُوَّة وَأَحْدَثَ ضَرَرًا آخَر فَكَأَنَّهُ شَرِبَ مِنْهُ أَوَّلًا مِقْدَارًا لَا يَفِي بِمُقَاوَمَةِ الدَّاء ، فَأَمَرَهُ بِمُعَاوَدَةِ سَقْيه ، فَلَمَّا تَكَرَّرَتْ الشَّرَبَات بِحَسَبِ مَادَّة الدَّاء بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى . وَفِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَكَذَبَ بَطْن أَخِيك " إِشَارَة إِلَى أَنَّ هَذَا الدَّوَاء نَافِع ، وَأَنَّ بَقَاء الدَّاء لَيْسَ لِقُصُورِ الدَّوَاء فِي نَفْسه وَلَكِنْ لِكَثْرَةِ الْمَادَّة الْفَاسِدَة ، فَمِنْ ثَمَّ أَمَرَهُ بِمُعَاوَدَةِ شُرْب الْعَسَل لِاسْتِفْرَاغِهَا ، فَكَانَ كَذَلِكَ ، وَبَرَأَ بِإِذْنِ اللَّه . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَالطِّبّ نَوْعَانِ ، طِبّ الْيُونَان وَهُوَ قِيَاسِيّ ، وَطِبّ الْعَرَب وَالْهِنْد وَهُوَ تَجَارِبِيّ ، وَكَانَ أَكْثَر مَا يَصِفهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَكُون عَلِيلًا عَلَى طَرِيقَة طِبّ الْعَرَب ، وَمِنْهُ مَا يَكُون مِمَّا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ . وَقَدْ قَالَ صَاحِب " كِتَاب الْمِائَة فِي الطِّبّ " إِنَّ الْعَسَل تَارَة(60/119)
يَجْرِي سَرِيعًا إِلَى الْعُرُوق وَيَنْفُذ مَعَهُ جُلّ الْغِذَاء وَيُدِرّ الْبَوْل فَيَكُون قَابِضًا ، وَتَارَة يَبْقَى فِي الْمَعِدَة فَيُهَيِّجهَا بِلَذْعِهَا حَتَّى يَدْفَع الطَّعَام وَيُسَهِّل الْبَطْن فَيَكُون مُسَهِّلًا . فَإِنْكَار وَصْفه لِلْمُسْهِلِ مُطْلَقًا قُصُور مِنْ الْمُنْكِر . وَقَالَ غَيْره : طِبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَيَقَّن الْبُرْء لِصُدُورِهِ عَنْ الْوَحْي ، وَطِبّ غَيْره أَكْثَره حَدْس أَوْ تَجْرِبَة ، وَقَدْ يَتَخَلَّف الشِّفَاء عَنْ بَعْض مَنْ يَسْتَعْمِل طِبّ النُّبُوَّة ، وَذَلِكَ لِمَانِعٍ قَامَ بِالْمُسْتَعْمِلِ مِنْ ضَعْف اِعْتِقَاد الشِّفَاء بِهِ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ ، وَأَظْهَر الْأَمْثِلَة فِي ذَلِكَ الْقُرْآن الَّذِي هُوَ شِفَاء لِمَا فِي الصُّدُور ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ لَا يَحْصُل لِبَعْضِ النَّاس شِفَاء صَدْره لِقُصُورِهِ فِي الِاعْتِقَاد وَالتَّلَقِّي بِالْقَبُولِ ، بَلْ لَا يَزِيد الْمُنَافِق إِلَّا رِجْسًا إِلَى رِجْسه وَمَرَضًا إِلَى مَرَضه ، فَطِبّ النُّبُوَّة لَا يُنَاسِب إِلَّا الْأَبْدَان الطَّيِّبَة ، كَمَا أَنَّ شِفَاء الْقُرْآن لَا يُنَاسِب إِلَّا الْقُلُوب الطَّيِّبَة ؛ وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : فِي وَصْفه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَسَل لِهَذَا الْمُنْسَهِل أَرْبَعَة أَقْوَال : أَحَدهَا أَنَّهُ حَمَلَ الْآيَة عَلَى عُمُومهَا فِي الشِّفَاء ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ : " صَدَقَ اللَّه " أَيْ فِي قَوْله : ( فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ ) فَلَمَّا نَبَّهَهُ عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَة تَلَقَّاهَا بِالْقَبُولِ ، فَشُفِيَ بِإِذْنِ اللَّه . الثَّانِي : أَنَّ الْوَصْف الْمَذْكُور عَلَى الْمَأْلُوف مِنْ عَادَتهمْ مِنْ التَّدَاوِي بِالْعَسَلِ فِي الْأَمْرَاض كُلّهَا .(60/120)
الثَّالِث : أَنَّ الْمَوْصُوف لَهُ ذَلِكَ كَانَتْ بِهِ هَيْضَة كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيره . الرَّابِع : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَمَرَهُ بِطَبْخِ الْعَسَل قَبْل شُرْبه فَإِنَّهُ يَعْقِد الْبَلْغَم ، فَلَعَلَّهُ شَرِبَهُ أَوَّلًا بِغَيْرِ طَبْخ اِنْتَهَى . وَالثَّانِي وَالرَّابِع ضَعِيفَانِ وَفِي كَلَام الْخَطَّابِيّ اِحْتِمَال آخَر ، وَهُوَ أَنْ يَكُون الشِّفَاء يَحْصُل لِلْمَذْكُورِ بِبَرَكَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَرَكَة وَصْفه وَدُعَائِهِ ؛ فَيَكُون خَاصًّا بِذَلِكَ الرَّجُل دُون غَيْره ، وَهُوَ ضَعِيف أَيْضًا . وَيُؤَيِّد الْأَوَّل حَدِيث اِبْن مَسْعُود " عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ : الْعَسَل وَالْقُرْآن " أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَالْحَاكِم مَرْفُوعًا ، وَأَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة وَالْحَاكِم مَوْقُوفًا ، وَرِجَاله رِجَال الصَّحِيح . وَأَثَر عَلِيّ " إِذَا اِشْتَكَى أَحَدكُمْ فَلْيَسْتَوْهِب مِنْ اِمْرَأَته مِنْ صَدَاقهَا فَلْيَشْتَرِ بِهِ عَسَلًا ، ثُمَّ يَأْخُذ مَاء السَّمَاء فَيُجْمَع هَنِيئًا مَرِيئًا شِفَاء مُبَارَكًا " أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم فِي التَّفْسِير بِسَنَدٍ حَسَن ، قَالَ اِبْن بَطَّال : يُؤْخَذ مِنْ قَوْله : " صَدَقَ اللَّه وَكَذَبَ بَطْن أَخِيك " أَنَّ الْأَلْفَاظ لَا تُحْمَل عَلَى ظَاهِرهَا ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَرِئَ الْعَلِيل مِنْ أَوَّل شَرْبَة ، فَلَمَّا لَمْ يَبْرَأ إِلَّا بَعْد التَّكْرَار دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَلْفَاظ تَقْتَصِر عَلَى مَعَانِيهَا . قُلْت : وَلَا يَخْفَى تَكَلُّف هَذَا الِانْتِزَاع . وَقَالَ أَيْضًا : فِيهِ أَنَّ الَّذِي يَجْعَل اللَّه فِيهِ الشِّفَاء قَدْ يَتَخَلَّف لِتَتِمّ الْمُدَّة الَّتِي قَدَّرَ اللَّه تَعَالَى فِيهَا الدَّاء . وَقَالَ غَيْره : فِي قَوْله فِي رِوَايَة سَعِيد بْن(60/121)
أَبِي عَرُوبَة " فَسَقَاهُ فَبَرَأَ " بِفَتْحِ الرَّاء وَالْهَمْز بِوَزْنِ قَرَأَ وَهِيَ لُغَة أَهْل الْحِجَاز ، وَغَيْرهمْ يَقُولهَا بِكَسْرِ الرَّاء بِوَزْنِ عَلِمَ ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي الصِّدِّيق النَّاجِيّ فِي آخِره " فَسَقَاهُ فَعَافَاهُ اللَّه " وَاَللَّه أَعْلَم .
25 - باب لاَ صَفَرَ ، وَهْوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْبَطْنَ .
قَوْله : ( بَاب لَا صَفَر وَهُوَ دَاء يَأْخُذ الْبَطْن )
كَذَا جَزَمَ بِتَفْسِيرِ الصَّفَر ، وَهُوَ بِفَتْحَتَيْنِ . وَقَدْ نَقَلَ أَبُو عُبَيْدَة مَعْمَر بْن الْمُثَنَّى فِي " غَرِيب الْحَدِيث " لَهُ عَنْ يُونُس بْن عُبَيْد الْجَرْمِيّ أَنَّهُ سَأَلَ رُؤْبَة بْن الْعَجَّاج فَقَالَ : هِيَ حَيَّة تَكُون فِي الْبَطْن تُصِيب الْمَاشِيَة وَالنَّاس ، وَهِيَ أَعْدَى مِنْ الْجَرَب عِنْد الْعَرَب . فَعَلَى هَذَا فَالْمُرَاد بِنَفْيِ الصَّفَر مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِيهِ مِنْ الْعَدْوَى . وَرَجَحَ عِنْد الْبُخَارِيّ هَذَا الْقَوْل لِكَوْنِهِ قُرِنَ فِي الْحَدِيث بِالْعَدْوَى . وَكَذَا رَجَّحَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْقَوْل وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِ الْأَعْشَى " وَلَا يَعَضّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَر " وَالشُّرْسُوف بِضَمِّ الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء ثُمَّ مُهْمَلَة ثُمَّ فَاء : الضِّلْع ، وَالصَّفَر دُود يَكُون فِي الْجَوْف فَرُبَّمَا عَضَّ الضِّلْع أَوْ الْكَبِد فَقَتَلَ صَاحِبه ، وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالصَّفَرِ الْحَيَّة لَكِنْ الْمُرَاد بِالنَّفْيِ نَفْي مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ أَنَّ مَنْ أَصَابَهُ قَتَلَهُ ، فَرَدَّ ذَلِكَ الشَّارِع بِأَنَّ الْمَوْت لَا يَكُون إِلَّا إِذَا فَرَغَ الْأَجَل . وَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّفْسِير عَنْ جَابِر وَهُوَ أَحَد رُوَاة حَدِيث " لَا صَفَر " قَالَهُ الطَّبَرِيّ . وَقِيلَ : فِي الصَّفَر قَوْل آخَر ،(60/122)
وَهُوَ أَنَّ الْمُرَاد بِهِ شَهْر صَفَر ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَب كَانَتْ تُحَرِّم صَفَر وَتَسْتَحِلّ الْحُرُم [ ... ] ، فَجَاءَ الْإِسْلَام بِرَدِّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا صَفَر " ، قَالَ اِبْن بَطَّال : وَهَذَا الْقَوْل مَرْوِيّ عَنْ مَالِك ، وَالصَّفَر أَيْضًا وَجَع فِي الْبَطْن يَأْخُذ مِنْ الْجُوع وَمِنْ اِجْتِمَاع الْمَاء الَّذِي يَكُون مِنْهُ الِاسْتِسْقَاء ، وَمِنْ الْأَوَّل حَدِيث " صَفَرَة فِي سَبِيل اللَّه خَيْر مِنْ حُمُر النِّعَم " أَيْ جَوْعَة ، وَيَقُولُونَ صَفَرَ الْإِنَاء إِذَا خَلَا عَنْ الطَّعَام ، وَمِنْ الثَّانِي مَا سَبَقَ فِي الْأَشْرِبَة فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود " أَنَّ رَجُلًا أَصَابَهُ الصَّفَر فَنُعِتَ لَهُ السَّكَر " أَيْ حَصَلَ لَهُ الِاسْتِسْقَاء فَوُصِفَ لَهُ النَّبِيذ ، وَحَمْل الْحَدِيث عَلَى هَذَا لَا يَتَّجِه ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ . وَسَيَأْتِي شَرْح الْهَامَّة وَالْعَدْوَى كُلّ مِنْهُمَا فِي بَاب مُفْرَد .
5717 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ عَدْوَى وَلاَ صَفَرَ وَلاَ هَامَةَ » . فَقَالَ أَعْرَابِىٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ إِبِلِى تَكُونُ فِى الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَأْتِى الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا . فَقَالَ « فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ » . رَوَاهُ الزُّهْرِىُّ عَنْ أَبِى سَلَمَةَ وَسِنَانِ بْنِ أَبِى سِنَانٍ .
* قَوْله : ( عَنْ صَالِح )
هُوَ اِبْن كَيْسَانَ ،(60/123)
وَقَوْله : " أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن وَغَيْره "
وَقَعَ فِي رِوَايَة يَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم بْن سَعْد عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِح بْن كَيْسَانَ عِنْد مُسْلِم فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَة ، وَقَوْله فِي آخِر الْبَاب :
" رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَة وَسِنَان بْن أَبِي سِنَان "
يَعْنِي كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي " بَاب لَا عَدْوَى " مِنْ رِوَايَة شُعَيْب عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْهُمَا ، وَفِيهِ تَفْصِيل لَفْظ أَبِي سَلَمَة مِنْ لَفْظ سِنَان ، وَيَأْتِي الْبَحْث فِيهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
26 - باب ذَاتِ الْجَنْبِ .
قَوْله : ( بَاب ذَات الْجَنْب )(60/124)