عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟" قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله، قال: "أما إنه قد كذبك، وسيعود" ، فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود، فرصدته، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟" قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته، فخليت سبيله، قال: "أما إنه قد كذبك، وسيعود" ، فرصدته الثالثة، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم لا تعود ثم تعود, قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم) حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان، حتى تصبح. فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك البارحة؟" قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: "ما هي؟" قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) ، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح- وكانوا أحرص شيء على الخير- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب مذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟" قال:(49/26)
لا. قال: "ذاك شيطان" .
صحيح (خ،ت)
ومن الحروز للرؤيا
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئًا يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات، وليتعوذ بالله من شرها، فإنها لن تضره" . فقال: إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من جبل. فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث. فما أباليها.
صحيح (خ،م)
وفي رواية: "فليبصق عن يساره حين يهب من نومه ثلاث مرات" .
وفي أخرى: "وليتحول عن جنبه الذي كان عليه" .
وفي ثالثة: "ولا يخبر بها أحدًا. .".
وفي رابعة: "فإن رأى أحدكم ما يكره، فليقم فليصل، ولا يحدث بها الناس" .
وكل هذه الروايات عند مسلم، وعند غيره أيضًا.
وفي رواية من طريق أبي سلمة قال: إن كنت لأرى الرؤيا تمرضني، قال: فلقيت أبا قتادة. فقال: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني. حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب، فلا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها، ولا يحدث بها أحدًا فإنها لن تضره"
صحيح (خ،م)
وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنها هي من الله، فليحمد الله عليها، وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره"
صحيح(خ)
عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثًا، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثًا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه" .
صحيح (م)(49/27)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءًا من النبوة، والرؤيا ثلاثة، فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره، فليقم فليصل، ولا يحدث بها الناس ".
صحيح (م)
الاستعاذة من تخبط الشيطان عند الموت
عن أبي اليسر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من التردي، والهدم، والغرق، والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرًا، وأعوذ بك أن أموت لديغًا".
صحيح (ن,د)
اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا يجعل أحدكم للشيطان شيئًا من صلاته، يرى أن حقًا عليه أن لا ينصرف، إلا عن يمينه، لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ينصرف عن يساره.
صحيح (خ،م)
______________________________
(1) وقد قال الله تبارك وتعالى: ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) [طه: 123].
حاصل الأمر في الرقية وما يدفع به المس، وما يتحصن به العبد:
مما تقدم يتلخص أن مما يدفع به المس وكيد الشيطان، وما يتحصن به العبد، هو على وجه الإجمال: تقوى الله -سبحانه وتعالى-، وحسن التوكل عليه، ثم الإكثار من ذكر الله -عز وجل-، والالتجاء إليه، والاعتصام به، والتعوذ به-كذلك- من الشيطان الرجيم، والمحافظة على الوضوء والصلاة فرضًا ونفلاً، والمحافظة على الأذكار الموظفة، كأذكار الصباح والمساء، والدخول والخروج، والسور والآيات، وسائر الأذكار، فإن في هذا الشفاء كل الشفاء، وإن طال الأمد واشتد البلاء.(49/28)
وهذا مزيد مما ورد في الرقية من صحيح الأخبار ومحكم الآيات.
العلاج بدعاء الله عز وجل
العلاج بدعاء الله عز وجل فإن أمر الشفاء كله بيديه، ومن ثم قال الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم: ( وإذا مرضت فهو يشفين( [ الشعراء: 80].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى المريض يدعو له.. قال: "أذهب البأس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا" ، وفي رواية أبي بكر: فدعا له، وقال: "وأنت الشافي" .
صحيح (خ،م)
وقال الله تبارك وتعالى: (وإن يمسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو(. [يونس:107].
وقال الله تبارك وتعالى: ( قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ) [ الزمر:38].
وقال تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) [ غافر: 60].
وقال سبحانه: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) [ البقرة:186].
وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إني أصرع ،وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة (1) ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك" (2) . قالت: أصبر.. قالت: فإني أتكشف, فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها.
صحيح (خ،م)
______________________________
(1) فيه عزاء وتسلية للمبتلى، الذي طال سقمه وبلاؤه، فقد يطول البلاء بشخص، والله سبحانه وتعالى يدخر له الأجر، وجميل الثواب..
(2) قال الحافظ بن حجر -رحمه الله تعالى- "فتح الباري": وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله، أنجح وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك، وانفعال البدن عنه، أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجح بأمرين:(49/29)
أحدهما: من جهة العليل، وهو صدق القصد.
والآخر: من جهة المداوي، وهو قوة توجهه، وقوة قلبه، بالتقوى والتوكل على الله، والله أعلم.
وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم فما كان منه إلا الدعاء الكثير المتواصل
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق. يقال له لبيد بن الأعصم، قالت: حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، دعا رسول الله ثم دعا، ثم دعا، ثم قال: "يا عائشة! أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي، أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب (1) ،قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة (2) ،قال: وجب (3) طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان " (4) .
قالت: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه، ثم قال: "يا عائشة! والله لكان ماءها نقاعة الحناء (5) ، ولكأن نخلها رؤس الشياطين" .
قالت : فقلت: يا رسول الله! أفلا أحرقته؟ قال: "لا. أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شرًا، فأمرت بها فدفنت" .
صحيح (خ،م)
______________________________
(1) مطبوب : مسحور.
(2) المشاطة: هي الشعر المتساقط من الرأس واللحية عند تسريحهما .
(3) الجب: هو الوعاء، يعني وعاء طلع النخل، وهو الغشاء الذي يكون عليه.
(4) ذي أروان: ورد أيضًا "ذروان" هي بئر بالمدينة في بستان بني زريق.
(5) نقاعة الحناء: هي الماء الذي نقعت فيه الحناء.
الرقية وطرد الشيطان ببعض سور الكتاب العزيز(49/30)
وابتداًء بالقرآن كله شفاء.. قال الله تبارك وتعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) [ يونس:57]. وقال تعالى: ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) [ الإسراء: 82].
إلا أن هناك بعض السور أبلغ من بعض في هذا الباب فمن ذلك ما يلي:
سورة البقرة
تقدم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة"
صحيح (م)
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرأوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرأوا الزهراوين (1) : البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان (2) ، أو كأنهما فرقان من طير صواف (3) تحاجان عن أصحابهما (4) . اقرأوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها (5) البطلة" .
صحيح (م)
قال معاوية -وهو أحد الرواة-: بلغني أن البطلة: السحرة.
وتقدم أيضًا ما ورد في فضل آية الكرسي والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة، وكيف أنهما حرز من الشيطان.
______________________________
(1) [الزهراوين]: سميتا الزهراوين لنورهما، وهدايتهما، وعظيم أجرهما.
(2) [ كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان] قال أهل اللغة: الغمامة والغيابة: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه، سحابة وغبرة وغيرهما، قال العلماء: المراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين.
(3) [ كأنهما فرقان من طير صواف] وفي الرواية الأخرى: كأنهما حزقان من طير صواف، الفرقان والحزقان، معناهما واحد، وهما: قطيعان وجماعتان، وقوله: من طير صواف، جمع صافة، وهي من الطيور ما يبسط أجنحتها في الهواء.
(4) [ تحاجان عن أصحابهما] أي: تدافعان الجحيم والزبانية، وهو كناية عن المبالغة في الشفاعة.
(5) [ولا تستطيعها] أي: لا يقدر على تحصيلها. نقلاً من حاشية مسلم، انظر في محمد فؤاد.
الرقية بالمعوذات(49/31)
أما المعوذات فشأنها عظيم، فلا ينبغي العدول عنها، بل يلزم الإكثار منها، وقد تقدم شيء من فضلها، ومما ورد في شأنها أيضًا:
حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث، فلما اشتد وجعه كنت اقرأ عليه، وأمسح عنه، بيده، رجاء بركتها.
صحيح (خ،م)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله، نفث (1) عليه بالمعوذات, فلما مرض مرضه الذي مات فيه، جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي.
صحيح (خ،م)
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط؟ قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس" .
صحيح (م)
______________________________
(1) النفث: نفخ لطيف بلا ريق .
الرقية بفاتحة الكتاب
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر، فمروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فقالوا لهم: هل فيكم راق؟ فإن سيد الحي لديغ أو مصاب. فقال رجل منهم: نعم، فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب، فبرأ الرجل، فأعطي قطيعًا (1) من غنم، فأبى أن يقبلها، وقال: حتى أذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له, فقال: يا رسول الله والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب، فتبسم، وقال: "وما أدراك أنها رقية؟" . ثم قال (2) : "خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم" .
صحيح (خ،م)
______________________________
(1) في رواية: "فأعطوه غنمًا، وسقونا لبنًا" .
(2) في رواية: "اقسموا واضربوا لي بسهم معكم".
صور أخرى من الرقى
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي بهذه الرقية "أذهب البأس رب الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت" .
صحيح (خ،م)(49/32)
وعنها رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا اشتكى منا إنسان، مسحه بيمينه، ثم قال: "أذهب البأس، رب الناس ،واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا (1) "
فلما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقل: أخذت بيده لأصنع به نحو ما كان يصنع، فانتزع يده من يدي. ثم قال: "اللهم! اغفر لي واجعلني مع الرفيق الأعلى" .
قالت: فذهبت أنظر، فإذا هو قضى.
صحيح (م)
وعن عبدالعزيز قال: دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك، فقال ثابت: يا أبا حمزة اشتكيت، فقال أنس: ألا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: اللهم رب الناس، مذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقمًا.
صحيح(خ)
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة أو جرح، قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا، ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعه: "باسم الله، تربة أرضنا، بريقة (2) بعضنا ليشفى به سقيمنا، بإذن ربنا"
صحيح (خ،م)
وفي رواية : "ليُشفى سقيمنا" .
عن عثمان بن أبي العاص الثقفي، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعًا، يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: باسم الله ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" (3)
صحيح (م)
______________________________
(1) لا يغادر: لا يترك.
(2) [أرضنا بريقة] قال جمهور العلماء: المراد بأرضنا هنا، جملة الأرض، وقيل: أرض المدينة خاصة لبركتها، والريقة أقل من الريق، ومعنى الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء، فيمسح به على الموضع الجريح، أو العليل، ويقول هذا الكلام في حال المسح.(49/33)
(3) أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن عثمان بن أبي العاص، قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف، جعل يعرض لي شيء في صلاتي، حتى ما أدري ما أصلي، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ابن أبي العاص؟ " قلت: نعم يا رسول الله، قال: "ما جاء بك؟" قلت: يا رسول الله عرض لي شيء في صلواتي، حتى ما أدري ما أصلي، قال: "ذاك شيطان ادنه"، فدنوت منه فجلست على صدور قدمي قال: فضرب صدري بيده، وتفل في فمي، وقال: "اخرج عدو الله" ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: "الحق بعملك". قال: فقال عثمان: فلعمري ما أحسبه خالطني بعد..
رقية جبريل عليه السلام
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل، قال: باسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين.
صحيح(خ،م)
عن أبي سعيد أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! اشتكيت؟ فقال: "نعم" ، قال: باسم الله أرقيك, من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسدٍ الله يشفيك، باسم الله أرقيك.
صحيح(م)
الرقية من العين
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أسترقي من العين.
صحيح(خ,م)
عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين (1) ، وإذا استغسلتم فاغسلوا" .
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه يقول: رخص النبي صلى الله عليه وسلم لآل حزم في رقية الحية، وقال لأسماء بنت عميس: "مالي أرى أجسام بني أخي (2) ضارعة (3) تصيبهم الحاجة"، قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم، قال: "ارقيهم"، قالت: فعرضت عليه، فقال: "ارقيهم".(49/34)
عن أم سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجارية في بيت أم سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، رأى بوجهها سفعة (4) ، فقال: "بها نظرة (5) ،فاسترقوا لها" يعني: بوجهها صفرة.
______________________________
(1) [ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين] فيه إثبات القدر، وهو حق، بالنصوص وإجماع أهل السنة، ومعناه: أن الأشياء كلها بقدر الله تعالى، ولا تقع إلا على حسب ما قدرها الله تعالى وسبق بها علمه، فلا يقع ضرر العين، ولا غيره من الخير والشر إلا بقدر الله تعالى، وفيه صحة أمر العين، وإنها قوية الضرر.
(2) يعني أبناء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
(3) ضارعة: أي نحيفة.
(4) [السفعة] قد فسرها في الحديث بالصفرة، وقيل: سواد، وقال ابن قتيبة: هي لون يخالف لون الوجه.
(5) [نظرة] النظرة هي: العين، أي: أصابتها عين، وقيل: هي المس أي مس الشيطان.
طلب الاغتسال من العائن وصب الماء على المصاب
تقد م حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: "إذا استغسلتم فاغتسلوا" .
عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف قال: رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة!! فلبط سهل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل: يا رسول الله، هل لك في سهل ابن حنيف، والله ما يرفع رأسه (1) ، فقال: "هل تتهمون أحدًا؟" قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرًا فتغيظ عليه، وقال: "علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت (2) ؟ اغتسل له". فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه فراح سهل مع الناس ليس به بأس.
صحيح لغيره (حم,ن,جه)
وفي رواية أن عامر بن ربيعة قال: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء، قال: فوعك سهل مكانه، واشتد وعكه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلاً وعك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله..(49/35)
______________________________
(1) في رواية: "والله ما يرفع رأسه وما يفيق"، وفي رواية: "أدرك سهلاً صريعًا".
(2) وفي رواية: "إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة".
الرقية من ذوات السموم
عن أنس رضي الله عنه قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين، والحمة (1) ، والنملة (2) .
صحيح(م)
عن عبدالرحمن ابن الأسود وعن أبيه، قال: سألت عائشة عن الرقية؟ فقالت: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار، في الرقية، من كل ذي حمة.
صحيح(خ,م)
وعمومًا.. فقد ورد في صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا علي رُقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك" .
صحيح(م)
وعن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى. قال: فعرضوها عليه. فقال: "ما أرى بأسًا من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه" .
صحيح(م)
وفي رواية عن جابر رضي الله عنه قال: أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في رقية الحية لبني عمرو، قال أبو الزبير: وسمعت جابر بن عبدالله يقول: لدغت رجلاً منا عقرب ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله! أرقي؟ قال: "من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل" .
صحيح(م)
وفي رواية أخرى عنه أيضًا رضي الله عنه قال: كان لي خال يرقي من العقرب، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، قال: فأتاه فقال: يا رسول الله! إنك نهيت عن الرقى، وأنا أرقي من العقرب، فقال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل" .
______________________________
(1) الحمة: المراد بها هنا ذوات السموم.
(2) النملة :قروح تخرج من الجنب.(49/36)
التحذير من إتيان السحرة والكهان وبيان كذبهم
قال الله تبارك وتعالى: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) [ البقرة:102].
وقال سبحانه: ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) [البقرة:102].
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل منه صلاة أربعين ليلة" .
صحيح(م)
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الملائكة تتحدث في العنان، -والعنان: الغمام -بالأمر يكون في الأرض، فتستمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة" .
صحيح(خ)
الإكثار من الاستغفار
فالبلايا والمصائب تنزل وتحل بسبب الذنوب في كثير من الأحيان، كما قال تعالى: ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) [ الشورى:30].
والاستغفار يدفع هذه المصائب والبلايا، كما قال تعالى: ( وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) [ الأنفال:33].
وقال هود عليه السلام لقومه: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين) [هود:52].
فجدير بكل من وقع في بلاء أو فتنة أن يكثر من الاستغفار والتضرع، حتى يدفع الله عنه البلاء والفتن، فقد قال تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) [الأنعام:43]. وكذلك فلترد المظالم إلى العباد، فدعوة المظلوم تستجاب، وتجلب البلاء.
فضل حسبنا الله ونعم الوكيل(49/37)
قال الله تعالى: ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) [ آل عمران: 173-175].
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) [آل عمران: 173].
فحسبنا الله ونعم الوكيل تكفي من كل شيء سواء من أذى ظاهر أو من عدو خفي، أو من شر حاسد، أو إضلال شيطان، أو غير ذلك.
وختامًا
فالاعتصام بالله والالتجاء إليه، والتعوذ به وذكره، وتلاوة كتابه وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، واتباع رسله، ذلك رأس كل خير، والدافع لكل شر، قال الله تعالى: ( ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم)[ آل عمران: 101]. وقال سبحانه: ( قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) [ الزمر:38].
عصمنا الله والمسلمين والمسلمات، من كل مكروه وسوء، وحفظ علينا ربنا ديننا وإيماننا، وجمعنا الله بنبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد التي أعدت للمتقين.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه أبو عبد الله/ مصطفى العدوي(49/38)
مواقع ومنتديات الرقية الشرعية
* موقع الشفاء العلاج بالرقية الشرعية - إشراف الشيخ عبدالله السدحان :
http://www.shefaa.org/
* شبكة الجن والعفاريت ( دار الرقية الشرعية ) - برعاية الشيخ خالد الجريسي :
http://www.rogyah.com/vb/index.php
* موقع الرقية الشرعية - الشيخ ابو البراء :
http://www.ruqya.net/
* منتدى الخير للرقية الشرعية - إشراف الشيخ بندر الزهراني :
http://www.roqyah.com/
* موقع الرقية الشرعية - الشيخ خالد الحبشي
http://www.alroqya.com/
* الرقية الشرعية - الشيخ محمد وحيد :
http://www.alroqyah.com/
* موقع الحواج " العطار " .. الشيخ مجدي محمد الشهاوي :
http://www.khayma.com/hawaj/(50/1)
الخطبة التي كان يفتتح بها المؤلف كتبه
الحمدلله نستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فهدى به من الضلالة وبصر به من العمى وأرشد به من الغي وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وفرق به بين الحق والباطل والهدى والضلال والرشاد والغي والمؤمنين والكفار والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار وبين أولياء الله وأعداء الله فمن شهد له محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أولياء الله فهو من أولياء الرحمن ومن شهد له بأنه من أعداء الله فهو من أعداء الله وأولياء الشياطين(51/1)
لله أولياء وللشيطان أولياء
وقد بين سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لله أولياء من الناس وللشيطان أولياء ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فقال تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم } وقال تعالى : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } وقال تعالى : { هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا }(51/2)
وذكر أولياء الشيطان فقال تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } وقال تعالى : { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا } وقال تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } وقال تعالى : { ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا } وقال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } وقال تعالى : { إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون * وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } إلى قوله { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون } وقال تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } وقال الخليل عليه السلام : { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } الآيات إلى قوله { إنك أنت العزيز الحكيم }
صفات أولياء الله
فصل في صفات أولياء الله
وإذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء كما فرق الله ورسوله بينهما فأولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون }(51/3)
الإيمان والتقوى
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة - أو فقد آذنته بالحرب - وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ] - وفي رواية فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي - [ ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه ] وهذا أصح حديث يروى في الأولياء فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من عادى وليا لله فقد بارز الله في المحاربة
الحب في الله والبغض في الله
وفي حديث آخر : [ و إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب ] أي : آخذ ثأرهم ممن عاداهم كما يأخذ الليث الحرب ثأره وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض ورضوا بما يرضى وسخطوا بما يسخط وأمروا بما يأمر ونهوا عما نهى وأعطوا لمن يحب أن يعطى ومنعوا من يحب أن يمنع كما في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ أوثق عرى الإيمان : الحب في الله والبغض في الله ] وفي حديث آخر رواه أبو داود وقال : [ من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ](51/4)
موالاة الطاعات
والولاية : ضد العداوة وأصل الولاية : المحبة والقرب وأصل العداوة : البغض والبعد وقد قيل أن الولي سمي وليا من موالاته للطاعات أي متابعته لها والأول أصح والولي : القريب يقال : هذا يلي هذا أي يقرب منه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : [ ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ] أي لأقرب رجل إلى الميت ووكده بلفظ الذكر ليبين أنه حكم يختص بالذكور ولا يشترك فيه الذكور والإناث كما قال في الزكاة : [ فابن لبون ذكر ]
فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه كان المعادي لوليه معاديا له كما قال تعالى : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } فمن عادى أولياء الله فقد عاداه ومن عاداه فقد حاربه فلهذا قال : [ ومن عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ]
أفضل أولياء الله
وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم وأفضل المرسلين أولو العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وقال تعالى : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا * ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما }(51/5)
أفضل أولي العزم
وأفضل أولي العزم : محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون وصاحب لواء الحمد وصاحب الحوض المورود وشفيع الخلائق يوم القيامة وصاحب الوسيلة والفضيلة الذي بعثه الله بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم وهم آخر الأمم خلقا وأول الأمم بعثا كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : [ نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه - يعني يوم الجمعة - فهدانا الله له : الناس لنا تبع فيه غدا لليهود وبعد للنصارى ]
وقال صلى الله عليه وسلم : [ أنا أول من تنشق عنه الأرض ] وقال صلىالله عليه وسلم : [ آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : أنا محمد فيقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك ](51/6)
وفضائله صلى الله عليه وسلم وفضائل أمته كثيرة ومن حين بعثه الله جعله الفارق بين أوليائه وبين أعدائه : فلا يكون وليا لله إلا من آمن به وبما جاء به واتبعه باطنا وظاهرا ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان قال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } قال الحسن البصري رحمه الله : ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من أولياء الله : وأن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء لله ( وأنه لا يدخل الجنة إلا من كان منهم بل يدعون أنهم أبناؤه ) وأحباؤه قال تعالى : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق } الآية وقال تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم } إلى قوله : { ولا هم يحزنون }
ادعاء مشركي العرب أنهم أهل الله
وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت وكانوا يستكبرون به على غيرهم كما قال تعالى : { قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون * مستكبرين به سامرا تهجرون } وقال تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك } إلى قوله : { وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته إنما أولياؤه المتقون(51/7)
حديث : وليي الله وصالح المؤمنين
وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهارا من غير سر : [ إن آل فلان ليسوا لي بأولياء - يعني طائفة من أقاربه - إنما وليي الله وصالح المؤمنين ] وهذا موافق لقوله تعالى : { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } الآية وصالح المؤمنين : هو من كان صالحا من المؤمنين وهم المؤمنون المتقون أولياء الله ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة وكانوا ألفا وأربعمائة وكلهم في الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة ] ومثل هذا الحديث الآخر : إن أوليائي المتقون أيا كانوا وحيث كانوا
لا طريق غير طريق الإسلام
كما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله وليس وليا لله بل عدو له فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الاسلام يقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنه مرسل إلى جميع الأنس بل إلى الثقلين : الأنس والجن ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك مثل أن لا يقروا في الباطن بأنه رسول الله وإنما كان ملكا مطاعا ساس الناس برأيه من جنس غيره من الملوك أو يقولون : إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب كما يقوله كثير من اليهود والنصارى أو أنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم ولا يحتاجون إليه بل لهم طريق إلى الله من غير جهته كما كان الخضر مع موسى أو أنهم يأخذون عن الله كل مايحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها وأما الحقائق الباطنة فلم يرسل بها أولم يكن يعرفها أو هم أعرف بها منه أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته(51/8)
حال أهل الصفة
وقد يقول بعض هؤلاء : إن أهل الصفة كانوا مستغنين عنه ولم يرسل إليهم ومنهم من يقول : إن الله أوحى إلى أهل الصفة في الباطن ما أوحى إليه ليلة المعراج فصار أهل الصفة بمنزلته وهؤلاء من فرط جهلهم لا يعلمون أن الإسراء كان بمكة كما قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } وأن الصفة لم تكن إلا بالمدينة وكانت صفة في شمالي مسجده صلى الله عليه وسلم ينزل بها الغرباء الذين ليس لهم أهل وأصحاب ينزلون عندهم فإن المؤمنين كانوا يهاجرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فمن أمكنه أن ينزل في مكان نزل به ومن تعذر ذلك عليه نزل في المسجد إلى أن يتيسر له مكان ينتقل إليه
ولم يكن أهل الصفة ناسا بأعيانهم يلازمون الصفة بل كانوا يقلون تارة ويكثرون أخرى ويقيم الرجل بها زمانا ثم ينتقل منها والذين ينزلون بها من جنس سائر المسلمين ليس لهم مزية في علم ولا دين بل فيهم من ارتد عن الاسلام وقتله النبي صلى الله عليه وسلم كالعرنيين الذين اجتووا المدينة أي : استوخموها فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح - أي إبل لها لبن - وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأتى بهم فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون
وحديثهم في الصحيحين من حديث أنس وفيه أنهم نزلوا الصفة فكان ينزلها مثل هؤلاء ونزلها من خيار المسلمين سعد بن أبي وقاص وهو أفضل من نزل بالصفة ثم انتقل عنها ونزلها أبو هريرة وغيره وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي تاريخ من نزل الصفة
وأما الأنصار فلم يكونوا من أهل الصفة وكذلك أكابر المهاجرين - كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن ابن عوف وأبي عبيدة ( بن الجراح ) وغيرهم - لم يكونوا من أهل الصفة(51/9)
كذب كل حديث يروى عن النبي في عدة الأولياء
وقد روي أنه كان بها غلام للمغيرة بن شعبة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : هذا واحد من السبعة وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم وإن كان قد رواه أبو نعيم في الحلية وكذا كل حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة الأولياء والأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد والأقطاب مثل أربعة أو سبعة أو اثني عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة أو ثلاثمائة وثلاثة عشر أو القطب الواحد فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ الأبدال
وروي فيهم حديث أنهم أربعون رجلا وأنهم بالشام وهو في المسند من حديث علي كرم الله وجهه وهو حديث منقطع ليس بثابت ومعلوم أن عليا ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بالشام فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر علي
وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق ] وهؤلاء المارقون هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لما حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة علي فقتلهم علي ابن أبي طالب وأصحابه فدل هذا الحديث الصحيح على أن علي ابن أبي طالب أولى بالحق من معاوية وأصحابه وكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما
وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنشد منشد :
( قد لسعت حية الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راقي )
( إلا الحبيب الذي شغفت به ... فعنده رقيتي وترياقي )
وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبه فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث وأكذب منه مايرويه بعضهم أنه مزق ثوبه وأن جبريل أخذ قطعة منه فعلقها على العرش فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أظهر الأحاديث كذبا عليه
وكذلك ما يروونه عن عمر رضي الله عنه أنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجي وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث
(51/10)
هل يكون لله ولي من النصارى واليهود
والمقصود هنا أن فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر ومن يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك فيكون منافقا وهو يدعي في نفسه وأمثاله أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إما عنادا أو جهلا كما أن كثيرا من النصارى واليهود يعتقدون أنهم أولياء الله وأن محمدا رسول الله لكن يقولون : إنما أرسل إلى غير أهل الكتاب وإنه لا يجب علينا اتباعه لأنه أرسل إلينا رسلا قبله فهؤلاء كلهم كفار مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله وإنما أولياء الله الذين وصفهم الله تعالى بولايته بقوله : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون }
ما لابد منه في الإيمان
ولابد في الايمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بكل رسول أرسله الله وكل كتاب أنزله الله كما قال تعالى : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم }(51/11)
الأركان الخمسة
وقال تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين }
محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين
وقال في أول السورة : { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } فلا بد في الايمان من أن تؤمن أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين : الجن والانس
الإيمان بجملة ما جاء
فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين ومن آمن ببعض ماجاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن كما قال الله تعالى : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا * والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما }
الإيمان بوساطته في التبليغ
ومن الايمان به : الايمان بأنه هو الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده وحلاله وحرامه فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان
وأما خلق الله تعالى للخلق ورزقه إياهم وإجابتهم لدعائهم وهدايته لقلوبهم ونصرهم على أعدائهم وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار فهذا لله وحده يفعله بما يشاء من الأسباب لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل
(51/12)
أولياء من جنس الكهان والسحرة
ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن ولا ولي لله تعالى كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبادهم وكذلك المنتسبين إلى العلم والعبادة من المشركين مشركي العرب والترك والهند وغيرهم ممن كان من حكماء الهند والترك وله علم أو زهد وعبادة في دينه وليس مؤمنا بجميع ما جاء به محمد فهو كافر عدو لله وإن ظن طائفة أنه ولي لله كما كان حكماء الفرس من المجوس كفارا مجوسا وكذلك حكماء اليونان مثل أرسطو وأمثاله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب وكان أرسطو قبل المسيح عليه السلام بثلاثمائة سنة وكان وزيرا للاسكندر بن فيلبس المقدوني وهو الذي تؤرخ له تواريخ الروم واليونان وتؤرخ به اليهود والنصارى وليس هذا هو ذا القرنين الذي ذكره الله في كتابه كما يظن بعض الناس أن أرسطوا كان وزيرا لذي القرنين لما رأوا أن ذاك اسمه الاسكندر وهذا قد يسمى بالاسكندر ظنوا أن هذا ذاك كما يظنه ابن سينا وطائفة معه
وليس الأمر كذلك بل هذا الاسكندر المشرك - الذي قد كان أرسطو وزيره - متأخر عن ذاك ولم يبن هذا السد ولا وصل إلى بلاد يأجوج ومأجوج وهذا الاسكندر الذي كان أرسطو من وزرائه يؤرخ له تاريخ الروم المعروف(51/13)
وفي أصناف المشركين من مشركي العرب ومشركي العرب ومشركي الهند واليونان وغيرهم من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة ولكن ليس بمتبع للرسل ولا مؤمن بما جاؤوا به ولا يصدقهم فيما أخبروا به ولا يطيعهم فيما أمروا فهؤلاء ليسوا بمؤمنين ولا أولياء الله وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتنزل عليهم فيكاشفون الناس ببعض الأمور ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر وهم من جنس الكهان والسحرة الذي تنزل عليهم الشيطان قال تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات إذا لم يكونوا متبعين للرسل فلا بد أن يكذبوا وتكذيبهم شياطينهم ولا بد أن يكون في أعمالهم ماهو إثم وفجور مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة
ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن قال تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } وذكر الرحمن هو الذكر الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل القرآن فمن لم يؤمن بالقرآن ويصدق خبره ويعتقد وجوب أمره فقد أعرض عنه فيقيض له الشيطان فيقترن به
قال تعالى : { وهذا ذكر مبارك أنزلناه } وقال تعالى : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } فدل ذلك على أن ذكره هو آياته التي أنزلها ولهذا لو ذكر الرجل الله سبحانه وتعالى دائما ليلا ونهارا مع غاية الزهد وعبده مجتهدا في عبادته ولم يكن متبعا لذكره الذي أنزله - وهو القرآن - كان من أولياء الشيطان ولو طار في الهواء أو مشى على الماء فإن الشيطان يحمله في الهواء وهذا مبسوط في غير هذا الموضع(51/14)
خصال المنافقين أربع من أمر الجاهلية
فصل
ومن الناس من يكون فيه إيمان وفيه شعبة من نفاق كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر ]
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ الايمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الايمان ] فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان فيه خصلة من هذه الخصال ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها
و [ قد ثبت في الصحيحين أنه قال لأبي ذر وهو من خيار المؤمنين : إنك امرؤ فيك جاهلية فقال : يا رسول الله ! أعلى كبر سني ؟ قال : ( نعم ) ]
وثبت في الصحيح عنه أنه قال : [ أربع في أمتي من أمر الجاهلية : الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والنياحة على الميت والاستسقاء بالنجوم ]
وفي الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ]
وفي صحيح مسلم : [ وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ]
خوف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من النفاق
وذكر البخاري عن ابن أبي مليكة أنه قال : أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه وقد قال الله تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } فقد جعل هؤلاء إلى الكفر أقرب منهم للإيمان فعلم أنهم مخلطون وكفرهم أقوى وغيرهم يكون مخلطا وإيمانه أقوى(51/15)
وإذا كان أولياء الله هم المؤمنون المتقون فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى فمن كن أكمل إيمانا وتقوى كان أكمل ولاية لله فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسب تفاضلهم في الايمان والتقوى وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق قال الله تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } وقال تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر } وقال تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وقال تعالى في المنافقين { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } فبين سبحانه وتعالى : أن الشخص الواحد قد يكون فيه قسط من ولاية الله بحسب إيمانه وقد يكون فيه قسط من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه
وقال تعالى : { ويزداد الذين آمنوا إيمانا } وقال تعالى : { ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم }
أولياء الله طبقتان : سابقون مقربون وأصحاب يمين
فصل وأولياء الله على طبقتين : سابقون مقربون وأصحاب يمين مقتصدون وذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة ( الواقعة ) وآخرها وفي سورة ( الانسان ) و
( المطففين ) وفي سورة ( فاطر ) فإنه سبحانه وتعالى ذكر في ( الواقعة ) القيامة الكبرى في أولها وذكر القيامة الصغرى في آخرها فقال في أولها : { إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة * إذا رجت الأرض رجا * وبست الجبال بسا * فكانت هباء منبثا * وكنتم أزواجا ثلاثة * فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة * وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة * والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم * ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين }(51/16)
فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين كما وصف الله سبحانه ذلك في كتابه في غير موضع ثم قال تعالى في آخر السورة : { فلولا } أي فهلا { إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين * فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم * وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين * وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن هذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم }
وقال تعالى في سورة الإنسان : { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا * إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا * إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا * عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا * يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا * ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا } الآيات
وكذلك ذكر في سورة المطففين فقال : { كلا إن كتاب الفجار لفي سجين * وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم * ويل يومئذ للمكذبين * الذين يكذبون بيوم الدين * وما يكذب به إلا كل معتد أثيم * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم * ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون * كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون * إن الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون * ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون }(51/17)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف قالوا : يمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشرب بها المقربون صرفا وهو كما قالوا : فإنه تعالى قال : { يشرب بها } ولم يقل يشرب منها لأنه ضمن قوله : يشرب معنى يروى فإن الشارب قد يشرب ولا يروى فإذا قيل : يشربون منها لم يدل على الري فإذا قيل : يشربون بها كان المعنى يروون بها فالمقربون يروون بها فلا يحتاجون معها إلى ما دونها فلهذا يشربون منها صرفا بخلاف أصحاب اليمين فإنها مزجت لهم مزجا وهو كما قال تعالى في سورة الانسان : { كان مزاجها كافورا * عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا }
الجزاء من جنس العمل
فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والأخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ] رواه مسلم في صحيحه وقال صلى الله عليه وسلم : [ الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ] قال الترمذي : حديث صحيح
وفي الحديث الآخر الصحيح الذي في السنن يقول الله تعالى : [ أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته ] وقال : [ ومن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله ] ومثل هذا كثير(51/18)
وأولياء الله تعالى على نوعين : مقربون وأصحاب يمين كما تقدم وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عمل القسمين في حديث الأولياء فقال : يقول الله تعالى : [ من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ]
فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض يفعلون ما أوجب الله عليهم ويتركون ما حرم الله عليهم ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات ولا الكف عن فضول المباحات
وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ففعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات فلما تقربوا إليه بجميع مايقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبا تاما كما قال تعالى : [ ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ] يعني الحب المطلق كقوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } أي أنعم عليهم الانعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا }
فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله عز وجل فكانت أعمالهم كلها عبادات لله فشربوا صرفا كما عملوا له صرفا والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم فلا يعاقبون عليه ولا يثابون عليه فلم يشربوا صرفا بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا(51/19)
الأنبياء منهم عبد رسول ومنهم نبي ملك
ونظير هذا انقسام الأنبياء عليهم السلام إلى عبد رسول ونبي ملك وقد خير الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم وبين أن يكون عبدا رسولا وبين أن يكون نبيا ملكا فاختار أن يكون عبدا رسولا فالنبي الملك مثل داود وسليمان ونحوهما عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى في قصة سليمان الذي قال : { رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب * فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد * هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } أي : أعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك فالنبي الملك يفعل ما فرض الله عليه ويترك ما حرم الله عليه ويتصرف في الولاية والمال بما يحبه ويختار من غير إثم عليه
وأما العبد الرسول فلا يعطي أحدا إلا بأمر ربه ولا يعطي من يشاء ويحرم من يشاء بل يعطي من أمره ربه باعطائه ويولي من أمره ربه بتوليته فأعماله كلها عبادات لله تعالى كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ إني والله لا أعطي أحدا ولاأمنع أحدا إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ] ولهذا يضيف الله الأموال الشرعية إلى الله والرسول كقوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } وقوله تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول } وقوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول }
ولهذا كان أظهر أقوال العلماء أن هذه الأموال تصرف فيما يحبه الله ورسوله بحسب اجتهاد ولي الأمر كما هو مذهب مالك وغيره من السلف ويذكر هذا رواية عن أحمد وقد قيل في الخمس : إنه يقسم على خمسة كقول الشافعي و أحمد في المعروف عنه وقيل : على ثلاثة كقول أبي حنيفة رحمه الله(51/20)
والمقصود هنا أن العبد الرسول هو أفضل من النبي الملك كما أن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام أفضل من يوسف وداود وسليمان عليهم السلام كما أن المقربين السابقين أفضل من الأبرار أصحاب اليمين الذين ليسوا مقربين سابقين فمن أدى ما أوجب الله عليه وفعل من المباحات مايحبه فهو من هؤلاء ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه ويقصد أن يستعين بما أبيح له على ما أمره الله فهو من أولئك
فصل
وقد ذكر الله تعالى أولياءه المقتصدين والسابقين في سورة ( فاطر ) في قوله تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب } لكن هذه الاصناف الثلاثة في هذه الآية هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة كما قال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير }(51/21)
أمة محمد صلى الله عليه وسلم وارثة الكتاب
وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة وليس ذلك مختصا بحفاظ القرآن بل كل من آمن بالقرآن فهو من هؤلاء وقسمهم إلى ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بخلاف الآيات التي في ( الواقعة ) ( والمطففين ) ( والانفطار ) فإنه دخل فيها جميع الأمم المتقدمة كافرهم ومؤمنهم وهذا التقسيم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فالظالم لنفسه : أصحاب الذنوب المصرون عليها والمقتصد : المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم والسابق للخيرات : هو المؤدي للفرائض والنوافل كما في تلك الآيات ومن تاب من ذنبه أي ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج بذلك عن السابقين والمقتصدين كما في قوله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين }
وقوله : { جنات عدن يدخلونها } مما يستدل به أهل السنة على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد(51/22)
القول في عذاب أهل الكبائر
وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار فهذا مما توارت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تواترت بخروجهم من النار وشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وإخراج من يخرج من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة غيره فمن قال : إن أهل الكبائر مخلدون في النار وتأول الآية على أن السابقين هم الذين يدخلونها وأن المقتصد أو الظالم لنفسه لا يدخلها كما تأوله ( من تأوله ) من المعتزلة فهو مقابل بتأويل المرجئة الذين لا يقطعون بدخول أحد من أهل الكبائر النار ويزعمون أن أهل الكبائر قد يدخل جميعهم الجنة من غير عذاب وكلاهما مخالف للسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولإجماع سلف الأمة وأئمتها
وقد دل على فساد قول الطائفتين قول الله تعالى في آيتين من كتابه وهو قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك وأخبر أنه يغفر ما دونه لمن يشاء ولا يجوز أن يراد بذلك التائب كما يقوله من يقوله من المعتزلة لأن الشرك يغفره الله لمن تاب وما دون الشرك يغفره الله أيضا للتائب فلا تعلق بالمشيئة وهذا لما ذكر المغفرة للتائبين قال تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } فهنا عمم المغفرة وأطلقها فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه فمن تاب من الشرك غفر الله له ومن تاب من الكبائر غفر الله له وأي ذنب تاب العبد منه غفر الله له(51/23)
ففي آية التوبة عمم وأطلق وفي تلك الآية خصص وعلق فخص الشرك بأنه لا يغفره وعلق ما سواه على المشيئة ومن الشرك التعطيل للحالتين وهذا يدل على فساد قول من يجزم بالمغفرة لكل مذنب ونبه بالشرك على ما هو أعظم منه كتعطيل الخالق أويجوز أن لا يعذب بذنب فأنه لو كان كذلك لما ذكر أنه يغفر للبعض دون البعض ولو كان كل ظالم لنفسه مغفورا له بلا توبة ولا حسنات ماحية لم يعلق ذلك بالمشيئة
وقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } دليل على أنه يغفر للبعض دون البعض فبطل النفي والعفو العام
أصل الإيمان
فصل
وإذا كان أولياء الله عز وجل هم المؤمنين المتقين والناس يتفاضلون في الأيمان والتقوى فهم متفاضلون في ولاية الله بحسب ذلك كما أنهم لما كانوا متفاضلين في الكفر والنفاق كانوا متفاضلين في عداوة الله بحسب ذلك
وأصل الإيمان والتقوى : الايمان برسل الله وجماع ذلك : الايمان بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم فالايمان به يتضمن الايمان بجميع كتب الله ورسله وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل وبما جاؤوا به فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة فإن الله تعالى أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة قال الله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقال تعالى : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقال تعالى عن أهل النار : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير }(51/24)
فأخبر أنه كلما ألقي في النار فوج أقروا بأنهم جاءهم النذير فكذبوه فدل ذلك على أنه لا يلقى فيها فوج إلا من كذب النذير وقال تعالى في خطابه لابليس : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } فأخبر أنه يملؤها بإبليس ومن اتبعه فإذا ملئت بهم لم يدخلها غيرهم فعلم أنه لا يدخل النار إلا من تبع الشيطان وهذا يدل على أنه لا يدخلها من لا ذنب له فإنه ممن لم يتبع الشيطان ولم يكن مذنبا وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها إلا من قامت عليه الحجة بالرسل(51/25)
الإيمان المجمل والمفصل
ومن الناس من يؤمن بالرسل إيمانا ( عاما ) مجملا وأما الايمان المفصل فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ولم يبلغه بعض ذلك فيؤمن بما بلغه عن الرسل وما لم يبلغه لم يعرفه ولو بلغه لآمن به ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيمانا مجملا فهذا إذا عمل بما علم أن أمره به مع إيمانه وتقواه فهو من أولياء الله تعالى له من ولاية الله بحسب إيمانه وتقواه وما لم تقم عليه الحجة به فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته والايمان المفصل به فلا يعذبه على تركه لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك فمن علم بما جاء به الرسول وآمن به إيمانا مفصلا وعمل به فهو أكمل إيمانا وولاية لله ممن لم يعلم ذلك مفصلا ولم يعمل به وكلاهما ولي الله تعالى والجنة درجات متفاضلة تفاضلا عظيما وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم قال الله تبارك وتعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } فبين الله سبحانه وتعالى أنه يمد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة من عطائه وأن عطاءه ما كان محظورا من بر ولا فاجر ثم قال تعالى : { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } فبين الله سبحانه أن أهل الاخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا وأن درجاتها أكبر من درجات الدنيا وقد بين تفاضل أنبيائه عليهم السلام كتفاضل سائر عباده المؤمنين فقال تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } وقال تعالى : { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا }(51/26)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل : لوأني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان ]
وفي الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ : إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ] وقد قال الله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } وقال تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما } وقال تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } وقال تعالى : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب } وقال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير }(51/27)
لا يكون أحد من الكفار والمنافقين وليا
فصل
وإذا كان العبد لا يكون وليا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيا لقوله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون }
وفي صحيح البخاري الحديث المشهور وقد تقدم يقول الله تبارك وتعالى فيه : [ ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ] ولا يكون مؤمنا تقيا حتى يتقرب إلىبالفرائض فيكون من الأبرار أهل اليمين ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته وإن قدر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ومن لم تبلغه الدعوة وإن قيل : أنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم فلا يكونون من أولياء الله إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين فمن ( لم ) يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بترك السيئات لم يكن من أولياء الله
المجنون والمكاشفات
وكذلك المجانين والأطفال فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ يرفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ ]
وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول لكن الصبي المميز تصح عباداته ويثاب عليها عند جمهور العلماء وأما المجنون الذي رفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات ولا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة فلا يصلح أن يكون بزازا ولا عطارا ولا حدادا ولا نجارا ولا تصح عقوده باتفاق العلماء فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته ولا غير ذلك من أقواله بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي ولا ثواب ولا عقاب بخلاف الصبي المميز فإن له أقوالا معتبرة في مواضع بالنص والإجماع وفي مواضع فيها نزاع(51/28)
لا ولاية لمن لا يؤدي الفرائض
وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل وامتنع أن يكون وليا لله فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه أو نوع من تصرف مثل أن يراه قد أشار إلى أحد فمات أو صرع فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية كالكهان والسحرة وعباد المشركين وأهل الكتاب فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليا لله وإن لم يعلم منه ما يناقض ولاية الله فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة أويعتقد أن لأولياء الله طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو يقول : إن الأنبياء ضيقوا الطريق أو هم قدوة على العامة أنه ولي لله ولكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمنا بالله متقيا كان له من ولاية الله بحسب ذلك وإن كان له حال إفاقته فيه كفر أو نفاق أو كان كافرا أو منافقا ثم طرأ عليه الجنون فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق
بدعة التميز باللباس والحلاقة
وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحا ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره إذا كان مباحا كما قيل : كم من صديق في قباء وكم من زنديق في عباء بل يوجد في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور فيوجدون في أهل القرآن وأهل العلم ويوجد في أهل الجهاد والسيف ويوجدون في التجار والصناع والزراع
وقد ذكر الله أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه }(51/29)
التحقيق في إسم الصوفية
وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم : ( القراء ) فيدخل فيهم العلماء والنساك ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية و الفقراء واسم الصوفية : هو نسبة إلى لباس الصوف هذا هو الصحيح
وقد قيل : إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء وقيل : إلى صوفة ( بن مر ) ابن أد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك وقيل إلى أهل الصفة وقيل : إلى ( أهل ) الصفاء وقيل : إلى الصفوة وقيل : إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى وهذه أقوال ضعيفة فإنه لو كان كذلك لقيل : صفي أو صفائي أو صفوي أو صفي ولم يقل : صوفي وصار اسم الفقراء يعنى به أهل السلوك وهذا عرف حادث وقد تنازع الناس : أيهما أفضل مسمى الصوفي أو مسمى الفقير ؟ و يتنازعون أيضا أيهما أفضل الغني الشاكر أو الفقير الصابر ؟
الناس معادن وتفاضلهم بالتقوى
وهذه المسألة فيها نزاع قديم بين الجنيد وبين أبي العباس بن عطاء وقد روي عن أحمد بن حنبل فيها روايتان والصواب في هذا كله ما قاله الله تبارك وتعالى حيث قال : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم }(51/30)
وفي الصحيح [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل : أي الناس أفضل ؟ قال : ( أتقاهم ) قيل له : ليس عن هذا نسألك فقال : يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن اسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله فقيل له : ليس عن هذا نسألك فقال : عن معادن العرب تسألوني ؟ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا ]
فدل الكتاب والسنة أن أكرم الناس عند الله أتقاهم
وفي السنن عن النبي صلى أنه قال : [ لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب ]
وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ إن الله تعالى أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء الناس رجلان : مؤمن تقي وفاجر شقي ] فمن كان من هذه الأصناف اتقى لله فهو أكرم عند الله وإذا استويا في التقوى استويا في الدرجة
لفظ الفقر شرعا
ولفظ الفقر في الشرع يراد به الفقر من المال ويراد به فقر المخلوق إلى خالقه كا قال تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } وقال تعالى : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله } وقد مدح الله تعالى في القرآن صنفين من الفقراء : أهل الصدقات وأهل الفيء
فقال في الصنف الأول : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا }
وقال في الصنف الثاني وهم أفضل الصنفين : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون }(51/31)
وهذه صفة المهاجرين الذين هجروا السيئات وجاهدوا أعداء الله باطنا وظاهرا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ المؤمن من أمنه الناس علىدمائهم وأموالهم ] و [ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ] [ والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله ]
لا أصل لحديث : رجعنا من الجهاد الأصغر
وأما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك : رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر فلا أصل له ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله
جهاد الكفار من أعظم الجهاد
وجهاد الكفار من أعظم الأعمال بل هو أفضل ما تطوع به الإنسان قال الله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما }
أفضل الإيمان
وقال تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم }
وثبت في صحيح مسلم وغيره عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الاسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخر : ما أبالي أن أعمل عملا بعد الاسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال علي ابن أبي طالب : الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتما فقال عمر : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن إذا قضيت الصلاة سألته فسأله فأنزل الله تعالى هذه الآية(51/32)
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قلت : يارسول الله أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل ؟ قال : [ الصلاة على وقتها ] قلت : ثم أي ؟ قال : [ بر الوالدين ] قلت : ثم أي ؟ قال : [ الجهاد قي سبيل الله ] قال : حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه أنه سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : [ إيمان بالله وجهاد في سبيله ] قيل : ثم ماذا ؟ قال : [ حج مبرور ]
وفي الصحيحين أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ! أخبرني بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله قال : [ لا تستطيعه أولا تطيقه ] قال فأخبرني به قال : [ هل تستطيع إذا خرجت مجاهدا أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر ؟ ]
حق الله على عباده
وفي السنن [ عن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصاه لما بعثه إلى اليمن فقال : يامعاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ] وقال : [ يا معاذ إني لأحبك فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ] وقال له وهو رديفه : [ يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : حقهم عليه ألا يعذبهم ](51/33)
وقال أيضا لمعاذ : [ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ] وقال : [ يا معاذ ألا أخبرك بأبواب البر ؟ الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وقيام الرجل في جوف الليل ثم قرأ : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } ثم قال : يا معاذ ألا أخبرك بما هو أملك لك من ذلك ؟ فقال : امسك عليك لسانك هذا فأخذ بلسانه قال : يا رسول الله وإنا لمؤخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ]
ليس في السنة إفراط ولا تفريط
وتفسير هذا ما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ] فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه والصمت عن الشر خير من التكلم به فأما الصمت الدائم فبدعة منهي عنها وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء فذلك من البدع المذمومة أيضا كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال : ما هذا ؟ فقالوا : أبوإسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه ](51/34)
وثبت في الصحيحين عن أنس أن رجالا سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالوها فقالوا : وأينا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ثم قال أحدهم : أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الآخر : أما أنا فأقوم ولا أنام وقال الآخر : أما أنا فلا آكل اللحم وقال الاخر : أما أنا فلا أتزوج النساء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ما بال رجال يقول أحدهم : كذا وكذا ولكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ] أي سلك غيرها ظانا أن غيرها خير منها فمن كان كذلك فهو بريء من الله ورسوله وقال تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } بل يجب على كل مسلم أن يعتقد أن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يخطب بذلك كل يوم جمعة
هل يعصم الأولياء
فصل وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ بل يجوز أن يخفي عليه بعض علم الشريعة ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى الله عنه ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبسها عليه لنقص درجته ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه(51/35)
الدعاء بالآية : ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا
فقال تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين }
وقد ثبت في الصحيح أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال : [ قد فعلت ]
ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ لما نزلت هذه الآية : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } قال : دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها قبل ذلك شيء أشد منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا قال : فألقى الله الايمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } إلى قوله { أو أخطأنا } قال الله : قد فعلت { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } قال : قد فعلت { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } قال : قد فعلت وقد قال تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } ]
أجرالمحتهد
وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعا أنه قال : [ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وأن أخطأ فله أجر ] فلم يؤثم المجتهد المخطئ بل جعل له أجرا على اجتهاده وجعل خطأه مغفورا له ولكن المجتهد المصيب له أجران فهو أفضل منه ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلط ولم يجب على الناس الايمان بجميع ما يقوله من هو ولي لله إلا أن يكون نبيا(51/36)
لا يجوز لولي الاعتماد على ما يلقى في قلبه
بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه إلا أن يكون موافقا وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ماجاء به محمد فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه
والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف : طرفان ووسط فمنهم من من إذا اعتقد في شخص أنه ولي لله وافقه في كل ما يظن أنه حدثه به قلبه عن ربه وسلم إليه جميع ما يفعله ومنهم من إذا رآه قد قال او فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهدا مخطئا وخيار الأمور أوساطها وهو أن لا يجعل معصوما ولا مأثوما إذا كان مجتهدا مخطئا فلا يتبع في كل ما يقوله ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده
وجوب اتباع ما بعث الله رسوله
والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء ووافق قول آخرين لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف ويقول : هذا خالف الشرع
أحاديث في فضائل عمر رضي الله عنه
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر منهم ] وروى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ](51/37)
وفي حديث آخر : [ إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ] وفيه : [ لو كان نبي بعدي لكان عمر ] وكان علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يقول : ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر ثبت هذا عنه من رواية الشعبي وقال ابن عمر : ما كان عمر يقول في شيء : إني لأراه كذا إلا كان كما يقول وعن قيس بن طارق قال : كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك وكان عمر يقول : اقتربوامن أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون فإنه تتجلى لهم أمور صادقة وهذه الامور الصادقة التي أخبر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه انها تتجلى للمطيعين هي الأمور التي يكشفها الله عز وجل لهم فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات ومكاشفات وأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فإن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر
وقد ثبت في الصحيح تعيين عمر بأنه محدث في هذه الأمة فأي محدث ومخاطب فرض في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فعمر أفضل منه ومع هذا فكان عمر رضي الله عنه يفعل ما هو الواجب عليه فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر كما نزل القرآن بموافقته غير مرة وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين والحديث معروف في البخاري وغيره فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر سنة ست من الهجرة ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة وهم الذين بايعوه تحت الشجرة وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام ويعتمر من العام القابل وشرط لهم شروطا فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر فشق ذلك على كثير من المسلمين وكان الله ورسوله أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة(51/38)
حديث إني رسول الله ولست أعصيه
وكان عمر فيمن كره ذلك حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : [ بلى ] قال : أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : [ بلى ] قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : [ إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه ] ثم قال : أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به قال : [ بلى ] قال : [ أقلت لك : إنك تأتيه العام ؟ ] قال : لا قال : [ إنك آتيه ومطوف به ]
فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه أبو بكر مثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن أبو بكر يسمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم فكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله عليه وسلم من عمر وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك وقال فعملت لذلك أعمالا
وكذلك لما مات النبي صلى الله عليه أنكر عمر موته أولا فلما قال أبو بكر : إنه مات رجع عمر عن ذلك
قتال مانعي الزكاة
وكذلك في قتال مانعي الزكاة قال عمر لأبي بكر : كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله وسلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله ألا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها ] فقال له أبو بكر رضي الله عنه : ألم يقل : [ إلا بحقها ] فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى اللله عليه وسلم لقتلتهم على منعها قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق
مرتبة الصديق ومرتبة المحدث
ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر مع أن عمر رضي الله عنه محدث فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم(51/39)
لا ولاية لمن خالف الكتاب والسنة
ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة ويقرهم على منازعته ولا يقول لهم : أنا محدث ملهم مخاطب فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني فأي أحد ادعى أو ادعى له أصحابه أنه ولي لله وأنه مخاطب يجب على أتباعه ان يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة فهو وهم مخطئون ومثل هذا أضل الناس فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه وهو أمير المؤمنين وكان المسلمون ينازعونه ويعرضون ما يقوله - وهو وهم - على الكتاب والسنة وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأنبياء وحدهم يطاعون في كل ما يأمرون به
وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الايمان بجميع ما يخبرون به عن الله عز وجل وتجب طاعتهم فيما يأمرون به بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به ولا الايمان بجميع ما يخبرون به بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله وما خالف الكتاب والسنة كان مردودا وإن كان صاحبه من أولياء الله وكان مجتهدا معذورا فيما قاله له أجر على اجتهاده ولكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئا وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع فإن الله تعالى يقول : { فاتقوا الله ما استطعتم }(51/40)
معنى : اتقوا الله حق تقاته
وهذا تفسير قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته }
قال ابن مسعود وغيره : حق تقاته : أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر أي بحسب استطاعتكم فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها كما قال تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } وقال تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } وقال تعالى : { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها }
كيف يكفر أدعياء الولاية
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الايمان بما جاءت به الأنبياء في غير موضع كقوله تعالى : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } وقال تعالى : { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } وقال تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون }
وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل ومن خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه الذين أمر الله باتباعهم بل إما ان يكون كافرا وإما ان يكون مفرطا في الجهل(51/41)
أقوال لأبي سليمان الداراني و الجنيد
وهذا كثير في كلام المشايخ كقول الشيخ أبي سليمان الداراني : انه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين : الكتاب والسنة
وقال أبو القاسم الجنيد رحمه الله عليه : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا أو قال : لا يقتدى به
وقال أبو عثمان النيسابوري : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم : { وإن تطيعوه تهتدوا }
وقال أبو عمر بن نجيد : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل
غلط الناس في اتباع من خالف السنة والكتاب
وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يقوله ويسلم إليه كل مايفعله وإن خالف الكتاب والسنة فيوافق ذلك الشخص له ويخالف ما بعث الله به رسوله الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر وجعله الفارق بين أوليائه واعدائه وبين أهل الجنة وأهل النار وبين السعداء والأشقياء فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولا إلى البدعة والضلال وآخر إلى الكفر والنفاق ويكون له نصيب من قوله تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } وقوله تعالى : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا }(51/42)
مشابهتم للنصارى
وقوله تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب * إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار }
وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }
وفي المسند وصححه الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسيره هذه الاية لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال : ما عبدوهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم [ احلو عليهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم وكانت هذه عبادتهم إياهم ] ولهذا قيل في مثل هؤلاء : إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول فإن أصل الأصول تحقيق الايمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد من الايمان بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم عربهم وعجمهم علمائهم وعبادهم ملوكهم وسوقتهم وأنه لاطريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطنا وظاهرا حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه كا قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }(51/43)
ميثاق الله على الأنبياء للايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهن أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وقد قال تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا * وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما * فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }(51/44)
الاغترار بالمكاشفات والتصرفات الخارقة للعادة
وكل من خالف شيئا مما جاء به الرسول مقلدا في ذلك لمن يظن أنه ولي لله فإنه بنى أمره على أنه ولي الله وان ولي الله لا يخالف في شيء ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة فكيف إذا لم يكن كذلك ؟ ! وتجد كثيرا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت أويطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أو يمشي على الماء أحيانا أو يملأ إبريقا من الهواء أو ينفق بعض الأوقات من الغيب أو يختفي أحيانا عن أعين الناس أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته او يخبر الناس بما سرق لهم أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك من الأمور وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي الله بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يعتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه
معنى الكرامة
وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله فقد يكون عدوا لله فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع وتكون من الشياطين فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ويعرفون بنور الايمان والقرآن وبحقائق الايمان الباطنة وشرائع الاسلام الظاهرة(51/45)
مثال ذلك أن الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة بل يكون ملابسا للنجاسات معاشرا للكلاب يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية ولا يتنظف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب ولا كلب ] وقال عن هذه الأخلية : [ إن هذه الحشوش محتضرة ] أي يحضرها الشيطان وقال : [ من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ]
وقال : [ إن الله طيت لا يقبل إلا طيبا ] وقال : [ إن الله نظيف يحب النظافة ] وقال : [ خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية والفأرة والحدأة والكلب العقور ]
وفي رواية : [ الحية والعقرب ] وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلاب وقال : [ من أقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط ] وقال : [ لا تصحب الملائكة رفقة معه كلب ] وقال : [ إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب ]
وقال تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون }(51/46)
علامات أولياء الشيطان
فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها أو يسجد إلى ناحية شيخه ولا يخلص الدين لرب العالمين أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة أو يأوي إلى المقابر ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن فهذه علامات اولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله وإن كان يبعض القرآن فهو يبغض الله ورسوله
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل
وقال ابن مسعود : الذكر ينبت الايمان في القلب كما ينبت الماء البقل والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وإن كان الرجل خبيرا بحقائق الايمان الباطنة فارقا بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية فيكون قد قذف الله في قلبه من نوره كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم } وقال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } فهذا من المؤمنين الذين جاء فيهم الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ] قال الترمذي حديث حسن(51/47)
المؤمن يفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في البخاري وغيره قال فيه : [ لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ( فبي يسمع وبي بيصر وبي يبطش وبي يمشي ) ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ( ولا بد له منه ) ]
فإذا كان العبد من هؤلاء فرق بين حال أولياء الرحمن وحال أولياء الشيطان كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبي الكذاب فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول رب العالمين وموسى والمسيح وغيرهم وبين مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطلحة الأسدي والحارث الدمشقي وباباه الرومي وغيرهم من الكذابين وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين
لكل نبي شرعة ومنهاج
فصل والحقيقة حقيقة الدين دين رب العالمين : هي ما اتفق عليها الأنبياء والمرسلون وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاج فالشرعة : هي الشريعة قال الله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } وقال تعالى : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين } والمنهاج : هو الطريق قال تعالى : { وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا * لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا }(51/48)
فالشرعة بنزله الشريعة للنهر والمنهاج هو الطريق الذي سلك فيه والغاية المقصودة هي حقيقة الدين وهي عبادة الله وحده لا شريك له وهي حقيقة دين الاسلام وهي أن يستسلم العبد لله رب العالمين لا يستسلم لغيره فمن استسلم لغيره كان مشركا والله { لا يغفر أن يشرك به } ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيه : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }
الإسلام دين الأنبياء
ودين الاسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين وقوله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } عام في كل زمان ومكان
فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون كلهم دينهم الاسلام الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له قال الله تعالى عن نوح : { يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم } إلى قوله : { وأمرت أن أكون من المسلمين } وقال تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وقال تعالى : { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين }
وقال السحرة : { ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين }
وقال يوسف عليه السلام : { توفني مسلما وألحقني بالصالحين }
وقالت بلقيس : { أسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وقال تعالى : { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار } وقال الحواريون : { آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون }(51/49)
دين واحد وشرائع منوعة
فدين الأنبياء واحد وإن تنوعت شرائعهم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إنا معشر الأنبياء ديننا واحد ] قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون }
الأنبياء أفضل من الأولياء بالاتفاق
فصل
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب فقال تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا }
أفضل الناس بعد الأنبياء أبو بكر
وفي الحديث : [ ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر ] وأفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } وقال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في المسند : [ أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ]
خير القرون
وأفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرن الأول
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال : [ خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ] وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه
أفضل السابقين الأولين
وفي الصحيحين أيضا عنه صلى الله عليه وسم انه قال : [ لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا مابلغ مد أحدهم ولا نصيفه ]
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة(51/50)
قال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } وقال تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } والسابقون الأولون : الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا والمراد بالفتح : صلح الحديبية فإنه كان من أول فتح مكة وفيه أنزل الله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } فقالوا : يا رسول الله أو فتح هو ؟ قال : [ نعم ]
وأفضل السابقين الأولين الخلفاء الأربعة وأفضلهم أبو بكر ثم عمر وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها وقد دلت على ذلك دلائل بسطناها في منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية
وبالجملة اتفقت طوائف السنة والشيعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به فهو أفضل أولياء الله إذاكانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم وأفضلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه
الكلام على خاتم الأولياء
وقد ظن طائفة غالطة أن خاتم الأولياء أفضل الأولياء قياسا على خاتم الأنبياء ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي فإنه صنف مصنفا غلط فيه في مواضع ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته(51/51)
مزاعم ابن عربي
كما زعم ذلك ابن عربي صاحب كتاب الفتوحات المكية وكتاب الفصوص فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأولياءه كما يقال لمن قال : فخر عليهم السقف من تحتهم : لا عقل ولا قرآن
وذلك أن الأنبياء أفضل في زمان من أولياء هذه الأمة والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء فكيف الأنبياء كلهم ؟ ! والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم ويدعي أنه خاتم الأولياء وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم ثبت بالنصوص الدالة على ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : [ أنا سيد آدم ولا فخر ] وقوله : [ آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد فيقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك ]
احتياج شريعة عيسى عليه السلام إلى النبوات السابقة
وليلة المعراج رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم فكان احقهم بقوله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } إلى غير ذلك من الدلائل كل منهم يأتيه الوحي من الله لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نبوته محتاجا إلى غيره فلم تحتج شريعته إلى سابق ولا إلى لاحق بخلاف المسيح احالهم في أكثر الشريعة على التوراة وجاء المسيح فكملها ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور وتمام الأربع وعشرين نبوة وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدثين بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا إلى محدث بل جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة ما فرقه في غيره من الأنبياء فكان ما فضله الله بما به أنزله إليه وأرسله إليه لا بتوسط بشر(51/52)
وهذا بخلاف الأولياء فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون وليا لله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون وليا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسل إليه
هل للولي طريق لا يحتاج فيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم
ومن ادعى أن من الأولياء بالذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد وإذا قال : أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا : إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض فكانوا كفار بذلك
إيمان الأولياء بين الباطن والظاهر
وكذلك هذا الذي يقول : إن محمدا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر وهو أكفر من أولئك لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الايمان الباطنة وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الاسلام الظاهرة
كفر من يدعي ان محمدا صلى الله عليه وسلم علم من الأمور ظاهرها وان الأولياء علموا باطنها
فإذا ادعى المدعي أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الايمان وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر وهذا شر ممن يقول : أومن ببعض وأكفر ببعض ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين
لا مثيل لولاية محمد صلى الله عليه وسلم على الاطلاق
وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولاية أفضل من النبوة ويلبسون على الناس فيقولون : ولايته أفضل من نبوته وينشدون :
( مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي )(51/53)
ويقولون : نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته وهذا من أعظم ضلالهم فإن ولاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى فضلا عن أن يماثله فيها هؤلاء الملحدون
وكل رسول نبي ولي فالرسول نبي ولي ورسالته متضمنة لنبوته ونبوته متضمنة لولايته وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله فهذا تقدير ممتنع فإنه حال إنبائه إياه ممتنع أن يكون إلا وليا لله ولا تكون مجردة عن ولايته ولو قدرت مجردة لم يكن أحد مماثلا للرسول في ولايته
ادعاؤهم بوحدة معدن الأنبياء والأولياء
وهؤلاء قد يقولون كما يقول صاحب الفصوص ابن عربي : إنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول وذلك أنهم اعتقدوا عقيدة المتفلسفة ثم أخرجوها في قالب المكاشفة وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا : إن الأفلاك قديمة أزلية لها علة تتشبه بها كما يقوله أرسطو وأتباعه : أولها موجب بذاته كما يقوله متأخروهم كابن سينا وأمثاله ولايقولون : إنها لرب خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته ولا يعلم الجزيئات بل إما أن ينكروا علمه مطلقا كقول أرسطو أو يقولوا : إنما يعلم في الأمور المتغيرة كلياتها كما يقول ابن سينا وحقيقة هذا القول إنكار علمه بها فان كل موجود في الخارج فهو معين جزئي الافلاك كل معين منها جزئي وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات والكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان
والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر في رد تعارض العقل والنقل وغيره فإن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى بل ومشركي العرب فإن جميع هؤلاء يقولون : إن الله خلق السماوات والأرض وإنه خلق المخلوقات بمشيئته وقدرته(51/54)
و أرسطو ونحو من المتفلسفة واليونان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام وهم لا يعرفون الملائكة والانبياء وليس في كتب أرسطو ذكر شيء من ذلك وإنما غالب علوم القوم الأمور الطبيعية
فساد تلفيق ابن سينا في الأمور الإلهية
وأما الأمور الإلهية فكل منهم فيها قليل الصواب كثير الخطأ واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل اعلم بالهيئات منهم بكثير ولكن متأخروهم كابن سينا ( غيره ) أرادوا أن يلفقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل فأخذوا أشياء من أصول الجهمية والمعتزلة وركبوا مذهبا قد يعتزى إليه متفلسفة اهل الملل وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبهنا على بعضه في غير هذا الموضع
وهؤلاء لما رأوا أمر الرسل كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قد بهر العالم واعترفوا بالناموس الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم ناموس طرق العالم ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن أرادوا ان يجمعوا بين ذلك وبين أقوال سلفهم اليونان الذين أبعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأولئك قد أثبتوا عقولا عشرة يسمونها : المجردات والمفارقات
وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن وسموا تلك : المفارقات لمفارقتها المادة وتجردها عنها وأثبتوا الأفلاك لكل فلك نفسا وأكثرهم جعلوها أعراضا وبعضهم جعلوها جواهر
خصائص النبوة عند ابن سينا وغيره من المتفلسفة
وهذه المجردات التي أثبتوها ترحع عند التحقيق إلى أمور موجودة في الأذهان لا في الأعيان ( كما أثبت أصحاب فيثاغورس أعدادا مجردة و ) كما أثبت أصحاب أفلاطون الأمثال الافلاطونية المجردة أثبتوا هيولى مجردة عن الصورة ومدة وخلاء مجردين وقد اعترف حذاقهم بأن ذلك إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم كابن سينا أن يثبت أمر النبوات على أصولهم الفاسدة زعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة من اتصف بها فهو نبي :(51/55)
1 - أن تكون له قوة علمية يسمونها القوة القدسية ينال بها العلم بلا تعلم
2 - وأن يكون له قوة تخيلية تخيل له ما يعقل في نفسه بحيث يرى في نفسه صورا أو يسمع في نفسه أصواتا كما يراه النائم ويسمعه ولا يكون لها وجود في الخارج وزعموا أن تلك الصور هي ملائكة الله وتلك الأصوات هي كلام الله تعالى
3 - وأن يكون له قوة فعالة يؤثر بها في هيولى العالم وجعلوا معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق السحرة هي ( من ) قوى الأنفس فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم من قلب العصا حية دون انشقاق القمر ونحو ذلك فإنهم ينكرون وجود هذا
نقد آراء ابن سينا
وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع وبينا أن كلامهم هذا أفسد الكلام وأن هذا الذي جعلوه من خصائص النبي يحصل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأتباع الأنبياء وأن الملائكة التي أخبرت بها الرسل أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله وهم كثيرون كما قال تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } وليسوا عشرة ولسوا أعراضا لا سيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو العقل الأول وعنه صدر كل ما دونه والعقل الفعال العاشر رب كل ما تحت فلك القمر
كذب الحديث الذي ذكروه في العقل ونقضه لغة وشرعا
وهذا كله يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل فليس أحج من الملائكة مبدع لكل ما سوى الله وهؤلاء يزعمون أن العقل المذكور في حديث يروى : [ إن أول ما خلق الله العقل فقال له : أقبل فأقبل فقال له : أدبر فأدبر فقال : وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب ] ويسمونه أيضا القلم لما روي [ إن أول ما خلق الله القلم ] الحديث رواه الترمذي(51/56)
والحديث الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك أبو حاتم البستي و الدارقطني و ابن الجوزي وغيرهم وليس في شيء من دواوين الحديث التي يعتمد عليها ومع هذا فلفظه لو كان ثابتا حجة عليهم فإن لفظة [ أول ما خلق الله تعالى العقل ] قال : - ويروى - [ لما خلق الله العقل قال له ] فمعنى الحديث : أنه خاطبه في أول أوقات خلقه وليس معناه أنه أول المخلوقات ( وأول ) منصوب على الظرف كما في اللفظ الآخر ( لما ) وتمام الحديث [ ما خلقت خلقا أكرم علي منك ] فهذا يقتضي أنه خلق قبل غيره ثم قال : [ فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب ] فذكر اربعة أنواع من الأعراض وعندهم ان جميع جواهر العالم العلوي والسفلي صدر عن ذلك العقل فأين هذا من هذا ؟
وسبب غلطهم أن لفظ العقل في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونان فإن العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا كما في القرآن { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } ويراد بالعقل الغريزة التي جعلها الله تعالى في الإنسان يعقل بها
وأما أولئك فالعقل عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل وليس هذا مطابقا للغة الرسل والقرآن وعالم الخلق عندهم كما يذكره أبو حامد عالم الأجسام : العقل والنفوس فيسميها عالم الأمر وقد يسمي ( العقل ) عالم الجبروت ( والنفوس عالم الملكوت ) و ( الأجسام ) عالم الملك ويظن من لم يعرف لغه الرسل ولم يعرف معنى الكتاب والسنة أن ما في الكتاب والسنة من ذكر الملك والملكوت والجبروت موافق لهذا وليس الأمر كذلك(51/57)
التحقيق في المخلوق والمحدث والقديم الأزلي
وهؤلاء يلبسون على المسلمين تلبيسا كثيرا كإطلاقهم أن الفلك محدث أي معلول مع أنه قديم عندهم والمحدث لا يكون إلا مسبوقا بالعدم ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلي : محدثا والله قد أخبر أنه خالق كل شيء وكل مخلوق فهو محدث وكل محدث كائن بعد أن لم يكن لكن ناظرهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبر به الرسول ولا أحكموا فيها قضايا العقول فلا للاسلام نصروا ولا للأعداء كسروا وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة فصار قصور هؤلاء في العلوم السمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك كما قد بسط في غير هذا الموضع
ما بناه ابن عربي على فساد الفلاسفة من وهم وما اجترحه من خلط في أمر النبوة
وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون جبريل هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والخيال تابع للعقل فجاء الملاحدة الذين شاركوا هؤلاء الملاحدة المتفلسفة وزعموا أنهم أولياء الله وأن أولياء الله أفضل من أنبياء الله وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة كابن عربي صاحب الفتوحات و الفصوص فقال : إنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول والمعدن عنده هو العقل والملك هو الخيال والخيال تابع للعقل وهو بزعمه يأخذ عن الذي هو أصل الخيال والرسول يأخذ عن الخيال فلهذا صار عند نفسه فوق النبي ولو كان خاصة النبي ما ذكروه ولم يكن هو من جنسة فضلا عن أن يكون فوقه فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين ؟ ! والنبوة أمر وراء ذلك فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة ليسوا من صوفية أهل العلم فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض و إبراهيم بن أدهم و أبي سليمان الداراني و معروف الكرخي و الجنيد ابن محمد و سهل بن عبد الله التستري وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين(51/58)
صفات الملائكة في القرآن
والله سبحانه وتعالى قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء كقوله تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } وقال تعالى : { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال تعالى : { وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون }
نفي صفة الخيال عن جبريل
وقد أخبر أن الملائكة جاءت إبراهيم عليه السلام في صورة البشر وأن الملك تمثل لمريم بشرا سويا وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي ويراه الناس كذلك
وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بأنه ذو قوة { عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين } وأن محمدا صلى الله عليه وسلم { رآه بالأفق المبين } ووصفه بأنه { شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى }(51/59)
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ير جبريل في صورته التي خلق عليها غير مرتين يعني المرة الأولى بالأفق الأعلى والنزلة الأخرى عند سدرة المنتهى ووصف جبريل عليه السلام في موضع آخر بأن الروح الأمين وأنه روح القدس إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء والعقلاء وأنه جوهر قائم بنفسه ليس خيالا في نفس النبي كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة والمدعون ولاية الله وأنهم أعلم من الأنبياء
الكشف عن غاية المتصوفة من الفلاسفة من أفكار أصول الإيمان ومجد الخالق
وغاية حقيقة هؤلاء إنكار أصول الأيمان بأن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وحقيقة أمرهم جحد الخالق فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق
نقد فكرتي الحلول ووحدة الوجود
وقالوا : الوجود واحد ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع فإن الموجودات تشترك في مسمى الوجود كما تشترك الأناسي في مسمى الانسان والحيوانات في مسمى الحيوان ولكن هذا المشترك الكلي لا يكون مشتركا كليا إلا في الذهن وإلا فالحيوانية القائمة بهذا الانسان ليست هي الحيوانية القائمة بالفرس ووجود السماوات ليس هو بعينه وجود الانسان فوجود الخالق جل جلاله ليس هو كوجود مخلوقاته
وحقيقة قولهم قول فرعون الذي عطل الصانع فإنه لم يكن منكرا هذا الموجود والمشهود لكن زعم أنه موجود بنفسه لا صانع له وهؤلاء وافقوه في ذلك لكن زعموا بأنه هو الله فكانوا أضل منه وإن كان قوله هذا هو أظهر فسادا منهم ولهذا جعلوا عباد الاصنام ما عبدوا إلا الله وقالوا : لما كان فرعون في منصب التحكم صاحب السيف - وإن جاز في العرف الناموس - لذلك قال : أنا ربكم الأعلى - أي وأن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منكم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم(51/60)
قالوا : ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله أقروا له بذلك وقالوا : { اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة } قالوا : فصح قول فرعون : { أنا ربكم الأعلى }
وكان فرعون عين الحق ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة فصاروا كافرين بالله واليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله مع دعواهم أنهم خلاصة خاصة الخاصة من أهل ولاية الله وأنهم أفضل من الأنبياء وأن الأنبياء إنما يعرفون الله من مشكاتهم
وليس هذا موضع بسط إلحاد هؤلاء ولكن لما كان الكلام في أولياء الله والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وكان هؤلاء من أعظم الناس ادعاء لولاية الله وهم أعظم الناس ولاية للشيطان نبهنا على ذلك ولهذا عامة كلامهم إنما هو في الحالات الشيطانية ويقولون ما قاله صاحب الفتوحات ( باب أرض الحقيقة ) ويقولون : هي أرض الخيال
فتعرف بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال ومحل تصرف الشيطان فإن الشيطان يخيل للأنسان الأمور بخلاف ما هي(51/61)
كيف تتلبسهم الشياطين فيظنونها ملائكة
قال تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين * ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } وقال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } إلى قوله : { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } وقال تعالى : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم } وقال تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب }
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : أنه رأى جبريل يزع الملائكة والشياطين إذا رأت ملائكة الله التي يؤيد بها عباده هربت منهم والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته
قال تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } وقال تعالى : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها } وقال تعالى : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين }
كذاب ثقيف ومبيرها
وهؤلاء تأتيهم أرواح تخاطبهم وتتمثل لهم وهي جن وشياطين فيظنونها ملائكة كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام(51/62)
وكان من أول ما ظهر من هؤلاء في الاسلام : المختار ابن أبي عبيدالذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ سيكون في ثقيف كذاب ومبير ] وكان الكذاب : المختار ابن أبي عبيد والمبير : الحجاج بن يوسف فقيل لابن عمر وابن عباس إن المختار يزعم أنه ينزل إليه فقالا : صدق قال تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم }
وقال الآخر : وقيل له : إن المختار يزعم أنه يوحي إليه فقال : قال الله تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم }
تفنيد مزاعم ابن عربي
وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات أنه ألقى إليه ذلك الكتاب ولهذا يذكر أنواعا من الخلوات بطعام معين وشيء معين وهذه مما تتفتح لصاحبها اتصالا بالجن والشياطين فيظنون ذلك من كرامات الأولياء
أحواله الشيطانية
وإنما هو من الأحوال الشيطانية وأعرف من هؤلاء عددا ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به ومنهم من كاتت تدله على السرقات بجعل يحصل له من الناس أو لعطاء يعطونه إذا دلهم على سرقاتهم ونحوذلك
ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يوجد في كلام صاحب الفتوحات المكية و الفصوص
مدحه الكفار
وأشباه ذلك يمدح الكفار مصل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم وينتقص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وهارون ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين كالجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهما ويمدح المذمومين عند المسلمين كالحلاج ونحوه كما ذكره في تجلياته الخيالية الشيطانية(51/63)
عقيدته في القديم والمحدث
فإن الجنيد - قدس الله روحه - كان من أئمة الهدى فسئل عن التوحيد فقال : التوحيد إفراد الحدوث عن القدم فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث وبين الخالق والمخلوق
وصاحب الفصوص أنكر هذا وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له : يا جنيد ! هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما ؟ فخطأ الجنيد في قوله : إفراد الحدوث عن القدم لأن قوله هو : إن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قاله في فصوصه : ومن أسمائه الحسنى : ( العلي ) على من ؟ وما ثم إلا هو وعن ماذا ؟ وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو إلى أن قال :
هو عين ما بطن وهو عين ماظهر وما ثم من يراه غيره وما ثم من ينطق عنه سواه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من الأسماء المحدثات
فيقال لهذا الملحد : ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثا غيرهما فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وغيره وليس هو ثالثا فالعبد يعرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده كما نطق بذلك القرآن غير غير موضع والاستشهاد بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطنا وظاهرا
زعمهم أن القرآن شرك لأنه خالف الفصوص
وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم وهو أحذقهم في اتحادهم - لما قرىء عليه الفصوص فقيل له القرآن يخالف فصوصكم فقال : القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا فقيل له : فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حراما ؟ فقال : الكل عندنا حلال ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام فقلنا : حرام عليكم(51/64)
نقد فكرة وحدة الوجود
وهذا مع كفره العظيم متناقض ظاهر فإن الوجود إذا كان واحدا فمن المحجوب ومن الحاجب ؟ ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده : من قال لك : إن في الكون سوى الله فقد كذب فقال له مريده : فمن هو الذي يكذب ؟ قالوا لآخر : هذه مظاهر فقال لهم : المظاهر غير المظاهر أم هي ؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالنسبة وإن كانت إياها فلا فرق
وقد بسطنا الكلام على كشف أسرار هؤلاء في موضع آخر وبينا حقيقة قول كل واحد منهم وإن صاحب الفصوص يقول : المعدوم شيء ووجود الحق فاض عليهما فيفرق بين الوجود والثبوت
والمعتزلة الذين قالوا : المعدوم شيء ثابت في الخارج مع ضلالهم خير منه فإن أولئك قالوا : إن الرب خلق لهذه الأشياء الثابتة في العدم وجودا ليس هو وجود الرب وهذا زعم أن عين وجود الرب فاض عليه فليس عنده وجود مخلوق مباين لوجود الخالق وصاحبه الدرالقونوي يفرق بين المطلق والمعين لأنه كان أقرب إلى الفلسفة فلم يقر بأن المعدوم شيء لكن جعل الحق هو الوجود المطلق وصنف مفتاح غيب الجمع والوجود
القول في تعطيلهم الخالق القول في تعميم الألوهية
وهذا القول أدخل في تعطيل الخالق وعدمه فإن المطلق بشرط الأطلاق وهو الكلي العقلي لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان والمطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي وإن قيل : إنه موجود في الخارج فلا يوجد إلى معينا وهو جزء من المعين عند من يقول بثبوته في الخارج فيلزم أن يكون وجود الرب إما منتفيا في الخارج وإما أن يكون جزءا من وجود المخلوقات وإما أن يكون عين وجود المخلوقات وله يخلق الجزء الكل أم يخلق الشيء نفسه ؟ أم العدم يخلق الوجود ؟ أو يكون بعض الشيء خالقا لجميعه ؟
وهؤلاء يفرون من لفظ الحلول لأنه يقتضي حالا ومحلا ومن لفظ الاتحاد لأنه يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر وعندهم الوجود واحد ويقولون : النصارى إنما كفروا لما خصصوا المسيح بأنه هو الله ولو عمموا لما كفروا
وكذلك يقولون في عباد الأصنام : إنما أخطأوا لما عبدوا بعض الظاهر دون بعض فلو عبدوا الجميع لما أخطأوا عندهم والعارف المحقق عندهم لا يضره عبادة الأصنام
(51/65)
القول في طلبهم ترك العقل و الشرع
وهذا ما فيه من الكفر العظيم ففيه ما يلزمهم دائما من التناقض لأنه يقال لهم : فمن المخطىء ؟ لكنهم يقولون : إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التبي يوصف بها المخلوق ويقولون : إن المخلوقات يوصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق ويقولون ما قاله صاحب الفصوص : فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا أو عقلا أو شرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة وهم مع كفرهم هذا لا يندفع عنهم التناقض فإنه معلوم بالحس والعقل أن هذا ليس هو ذاك وهؤلاء يقولون ماكان يقوله التلمساني إنه ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل ويقولون من أراد التحقيق - يعني تحقيقهم - فيترك العقل والشرع
وقد قلت لمن خاطبته منهم : ومعلوم أن كشف الأنبياء أعظم وأتم من كشف غيرهم وخبرهم أصدق من خبر غيرهم والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته لا بما يعرف الناس بعقولهم أنه ممتنع فيخبرون بمجازات العقول لا بمحالات العقول ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض صريح العقول ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان سواء كانا عقليين أو سمعيين أو كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا فكيف بمن ادعى كشفا يناقض صريح الشرع والعقل ؟ !
وهؤلاء قد لا يتعمدون الكذب لكم يخيل لهم أشياء تكون في نفوسهم ويظنونها في الخارج وأشياء يرونها تكون موجودة في الخارج لكن يظنونها من كرامات الصالحين وتكون من تلبيسات الشياطين(51/66)
تقديمهم الأولياء على الأنبياء وقولهم بعدم انقطاع النبوة
وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة قد يقدمون الأولياء على الأنبياء ويذكرون أن النبوة لم تنقطع
القول في المعصية
كما يذكر عن ابن سبعين وغيره ويجعلون المراتب ثلاثة : يقولون : العبد يشهد أولا طاعة ومعصية ثم طاعة بلا معصية ثم لا طاعة ولا معصية والشهود الأول هو الشهود الصحيح وهو الفرق بين الطاعات والمعاصي وأما الشهود الثاني فيريدون به شهود القدر كما أن بعض هؤلاء يقول : أنا كافر برب يعصى وهذا يزعم أن المعصية : مخالفة الإرادة التي هي المشيئة والخلق كلهم داخلون تحت حكم المشيئة ويقول شاعرهم :
( أصبحت منفعلا لما تختاره ... مني ففعلي كله طاعات )(51/67)
ومعلوم أن هذا خلاف ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه فإن المعصية التي يستحق صاحبها الذم والعقاب مخالفة أمر الله ورسوله كما قال تعالى : { تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } وسنذكر الفرق بين الإرادة الكونية والدينية والأمر الكوني والديني وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية فبينها الجنيد رحمه الله لهم فمن اتبع الجنيد فيها كان على السداد ومن خالفه ضل لأنهم تكلموا بأن الأمور كلها بمشيئة الله وقدرته وفي شهود هذا التوحيد وهذا يسمونه الجمع الأول فبين لهم الجنيد أنه لا بد من شهود الفرق الثاني وهو أنه مع شهود كون الأشياء كلها مشتركة في مشيئة الله وقدرته وخلقه يجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه وبين ما ينهى عنه ويكره ويسخطه ويفرق بين أوليائه وأعدائه كما قال تعالى : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون } وقال تعالى : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } وقال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } وقال تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون }
ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا رب غيره وهو مع ذلك أمر بالطاعة ونهى عن المعصية وهو لايحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر بالفحشاء وإن كانت واقعة بمشيئته فهو لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم(51/68)
وأما المرتبة الثالثة : أن لا يشهد طاعة ولا معصية فإنه يرى أن الوجود واحد وعندهم أن هذا غاية التحقيق والولاية لله وهو في الحقيقة غاية الالحاد في أسماء الله وآياته وغاية العداوة لله فإن صاحب هذا المشهد يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار أولياء وقد قال تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } ولا يتبرأ من الشرك والأوثان فيخرج عن ملة إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال الله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } وقال الخليل عليه السلام لقومه المشركين : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }
القول في قصيدة نظم السلوك وتوهم ابن الفارض الالوهية
وقال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } وهؤلاء قد صنف بعضهم كتبا وقصائد على مذهبه مثل قصيدة ابن الفارض المسماة : بنظم السلوك يقول فيها :
( لها صلواتي في المقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت )
( كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة )
( وما كان لي صلى ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة )
إلى أن قال :
( ما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي صلت )
( إلي رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي علي استدلت )
( فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت )
إلى أمثال هذا الكلام ولهذا كان هذا القائل عند الموت ينشد ويقول :
( إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي )
( أمنية ظفرت نفسي بها زمنا ... واليوم أحسبها أضغاث أحلام )(51/69)
فإنه كان يظن أنه هو الله فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه تبين بطلان ما كان يظنه وقال الله تعالى : { سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } فجميع ما في السماوات والأرض يسبح لله ليس هو الله ثم قال تعالى : { له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير * هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم }
وفي صحيح مسلم [ عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه : اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والانجيل والقرآن أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر ]
ثم قال تعالى : { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } فذكر أن السماوات والأرض وفي موضع آخر : { وما بينهما } مخلوق مسبح له وأخبر سبحانه أنه يعلم كل شيء(51/70)
معية الله بعلمه لا بذاته وهي عامة وخاصة
وأما قوله : { وهو معكم } فلفظ { مع } لا تقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطا بالآخر كقوله تعالى : { اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } وقوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار } وقوله تعالى : { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } ولفظ { مع } جاءت في القرآن عامة وخاصة فالعامة في هذه الآية وفي آية المجادلة : { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم } فافتتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم ولهذا قال ابن عباس و الضحاك و سفيان الثوري و أحمد بن حنبل : هو معهم بعلمه
وأما المعية الخاصة ففي قوله تعالى : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } وقوله تعالى لموسى : { إنني معكما أسمع وأرى } وقال تعالى : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه فهو مع موسى وهارون دون فرعون ومع محمد وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين
فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك وقوله تعالى : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أي هو إله من في السماوات وإله من في الأرض كما قال تعالى : { وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } وكذلك قوله تعالى : { وهو الله في السماوات وفي الأرض } كما فسره أئمة العلم كـ الإمام أحمد وغيره : أنه المعبود في السماوات والأرض(51/71)
القول في الصفات ليس كمثله شيء
وأجمع سلف الأمة وأئمتها على أن الرب تعالى بائن من مخلوقاته يوصف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل يوصف بصفات الكمال دون صفات النقص ويعلم أنه ليس كمثله شيء ولا كقوله في شيء من صفات الكمال كما قال الله تعالى : { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } وقال ابن عباس : الصمد : العليم الذي كمل في علمه والعظيم الذي كمل في عظمته القدير الكامل في قدرته الحكيم الكامل في حكمته السيد الكامل في سؤدده
وقال ابن مسعود وغيره : هو الذي لا جوف له والأحد : الذي لا نظير له فاسمه ( الصمد ) يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه واسمه ( الأحد ) يتضمن اتصافه أنه لا مثل له وقد بسطنا الكلام على تفسير ذلك في هذه السورة وفي كونها تعدل ثلث القرآن
الله تعالى خالق كل شيء ومليكه
وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الايمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية فإن الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر كما قال تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه لا خالق غيره ولا رب سواه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله ونهى عن معصيته ومعصية رسله أمر بالتوحيد والاخلاص
الشرك أعظم الذنوب أوامر الله ونواهيه
ونهى عن الاشراك بالله فأعظم الحسنات التوحيد وأعظم السيئات الشرك قال الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله }(51/72)
وفي الصحيحين [ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ! أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك ] فأنزل الله تصديق ذلك : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما }
وأمر سبحانه بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وأخبر أنه يحب المتقين ويحب المحسنين ويحب المقسطين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وهو يكره ما نهى عنه كما قال في سورة ( سبحان ) : { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها }
وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق ونهى عن التبذير وعن التقتير وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه وأن يبسطها كل البسط ونهى عن قتل النفس بغير الحق وعن الزنا وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إلى أن قال : { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها }
دعاء النبي لله واستغفاره
وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائما قال الله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون }
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ]
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ](51/73)
وفي السنن عن ابن عمر قال : [ كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول : رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة ] أو قال : [ أكثر من مائة مرة ]
وقد أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار [ فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثا ويقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ]
كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه وقد قال تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار
وكذلك ختم سورة ( المزمل ) وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى : { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم }
وكذلك قال في ( الحج ) : { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين * ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم }
بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهي آخر غزواته : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم } وهي من آخر ما نزل من القرآن
وقد قيل : إن آخر سورة نزلت قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } فأمره الله تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم [ كان يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي - يتأول القرآن ](51/74)
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه [ كان يقول : اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسرت وما أعلنت لا إله إلا أنت ]
وفي الصحيحين أن أبا بكر رضي الله عنه قال : [ يا رسول الله علمني دعاء أدعوا به في صلاتي قال : قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ]
وفي السنن عن أبي بكر رضي الله عنه قال : [ يا رسول الله ! علمني دعاء أدعوا به إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال : قل : اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا إخذت مضجعك ]
عدم الاصرار على الذنب من محبة الله للعبد
فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائما قال الله تبارك وتعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما }
فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبته عباده الصالحين ومغفرته لهم
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ لن يدخل الجنة أحد بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ] وهذا لا ينافي قوله : { كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى باء المقابلة والمعادلة والقرآن أثبت باء السبب(51/75)
وقول من قال : إذا أحب الله عبدا لم تضره الذنوب معناه أنه إذا أحب عبدا ألهمه التوبة والأستغفار فلم يصر على الذنوب ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
وإنما عباده الممدوحون هم المذكورون في قوله : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون }
جعل القدر حجة لأهل الذنوب من الشرك
ومن ظن أن القدر حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } قال الله تعالى ردا عليهم : { كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون * قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين }(51/76)
ولو كان القدر حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات وقوم فرعون ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعا لهواه بغير هدى من الله ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم والعقاب فعليه أن لا يذم أحدا ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه بل يستوي عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم فلا يفرق بين من يفعل معه خيرا وبين من يفعل معه شرا وهذا ممتنع طبعا وعقلا وشرعا وقد قال تعالى : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } وقال تعالى : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } وقال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } وقال تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } وقال تعالى : { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى
حديث : احتج آدم وموسى تخريج الحديث وشرحه
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ احتج آدم وموسى قال موسى : يا آدم ! أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده ؟ فبكم وجدت مكتوبا علي قبل أن أخلق : { وعصى آدم ربه فغوى } ؟ قال : بأربعين سنة ؟ قال : فلم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة ؟ قال : فحج آدم موسى ] أي غلبه بالحجة(51/77)
وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان : طائفة كذبت له لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر وطائفة شر من هؤلاء جعلوه حجة وقد يقولون القدر حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه أو الذين لا يرون أن لهم فعلا ومن الناس من قال : إنما حج آدم موسى لأنه أبوه أو لأنه قد تاب أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى وكل هذا باطل
الأمر بالصبر عند المصائب
ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة فقال له : لما أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبا وتاب منه فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام وقد تاب منه أيضا ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل : { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين }
والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب قال الله تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك } فأمره بالصبر على المصائب والاستغفار من المعائب
وقال تعالى : { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه } قال ابن مسعود : هو الرجل تصيبه المصيبة يعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم
فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة مثل المرض والفقر والذل صبروا لحكم الله وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي فافتقر أولاده لذلك فعليهم أن يصبروا لما أصابهم وإذا لاموا الأب لحظوظهم ذكر لهم القدر
الرضى بحكم الله أعلى مرتبة من الصبر
والصبر واجب باتفاق العلماء وأعلى من ذلك الرضى بحكم الله والرضى قد قيل : إنه واجب وقيل : هو مستحب وهو الصحيح وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها جعلها سببا لتكفير خطاياه ورفع درجته وإنابته إلى الله وتضرعه إليه وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه دون المخلوقين(51/78)
أهل البغي عند الطاعة قدريون وعند المعصية جبريون
وأما أهل البغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها كما قال بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به
وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا أنعام الله عليهم بها وأنه هو الذي أنعم عليهم وجعلهم مسلمين وجعلهم يقيمون الصلاة وألهمهم التقوى وأنه لا حول ولا قوة إلا به فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها
سيد الاستغفار
ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأن عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فأنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة ]
حديث : يا عبادي اني حرمت الظلم على نفسي
وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم [ فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي إنكم تخطؤون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي فاستغفروا أغفر لكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم(51/79)
يا عبادي كلكم عار ألا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هيدته فاستهدوني أهدكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ]
فأمر سبحانه بحمد الله على ما يجده العبد من خير وأنه إذا وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه
الفرق بين الحقيقة الكونية والحقيقة الدينية
وكثير من الناس يتكلم بلسان الحقيقة ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بخلقه ومشيئته وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته ولا يفرق بين من يقوم بالحقيقة الدينية موافقا لما أمر الله به على ألسن رسله ولا يفرق بين من يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة كما أن لفظ الشريعة يتكلم به كثير من الناس ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه ولا يخرج عنه إلا كافر وبين الشرع الذي هو حكم الحاكم فالحاكم تارة يصيب وتارة يخطىء هذا إذا كان عالما عادلا
أفضل القضاة
وإلا ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق فقضى بغيره فهو في النار ](51/80)
وأفضل القضاء العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : [ إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإ ما أقطع به قطعة من النار ]
فقد أخبر سيد الخلق أنه إذا قضى بشيء مما سمعه وكان في الباطن يخلاف ذلك لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضي به له وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار
وهذا متفق عليه بين العلماء في الأملاك المطلقة إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبينة والاقرار وكان الباطن بخلاف الظاهر لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضي به له بالاتفاق وإن حكم في العقود والفسوخ بمثل ذلك فأكثر العلماء يقول : إن الأمر كذلك وهو مذهب مالك و الشافعي و أحمد بن حنبل وفرق أبو حنيفة رضي الله عنه بين النوعين
مدلول لفظ الشرع و الشريعة
فلفظ الشرع والشريعة إذا أريد به الكتاب والسنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقا إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا فلم بتابعه باطنا وظاهرا فهو كافر
الاحتجاج بقصة موسى مع الخضر ودفعه من وجهين
ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخضر كان غالطا من وجهين : أحدهما : أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولا كان على الخضر اتباعه فإن موسى كان مبعوثا إلى بني إسرائيل وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين : الجن والأنس ولو أدركه من هو أفضل من الخضر كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتباعه فكيف بالخضر سواء كان نبيا أو وليا ؟ ! ولهذا قال الخضر لموسى : ( أنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه ) وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا(51/81)
الثاني : أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفا لشريعة موسى عليه السلام وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرا ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاء قتله
قال ابن عباس رضي الله عنهما لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان قال له : إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم رواه البخاري
وأما الإحسان إلى اليتيم بلا عوض والصبر على الجوع فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيء مخالفا شرع الله
وأما إذا أريد بالشرع حكم الحاكم فقد يكون ظالما وقد يكون عادلا وقد يكون صوابا وقد يكون خطأ وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه كأبي حنيفة و الثوري ومالك بن أنس و الأوزاعي و الليث بن سعد و الشافعي و أحمد و إسحاق و داود وغيرهم فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة وإذا قلد غيره حيث يجوز ذلك كان جائزا أي ليس اتباع أحدهم واجبا على جميع الأمة كاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم اتباع من يتكلم بغير علم
وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراه أو تأول النصوص بخلاف مراد الله ونحو ذلك فهذا من نوع التبديل فيجب الفرق بين الشرع المنزل والشرع المؤول والشرع المبدل كما يفرق بين الحقيقة الكونية والحقيقة الدينية الأمرية وبين ما يستدل عليها بالكتاب والسنة وبين ما يكتفي فيها بذوق صاحبها ووجده(51/82)
الإرادة الكونية
وقد ذكر الله في كتابه : الفرق بين الإرادة والأمر والقضاء والإذن والتحريم والبعث والإرسال والكلام والجعل وبين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه وإن كان لم يأمر به ولا يحبه ولا يثيب أصحابه ولا يجعلهم من أوليائه المتقين وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأثاب فاعليه وأكرمهم وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين وهذا من أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه فمن استعمله الرب سبحانه وتعالى فيما يحبه ويرضاه ومات على ذلك كان من أوليائه ومن كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه ومات على ذلك كان من أعدائه
فالإرادة الكونية هي مشيئته لما خلقه وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وإرادته الكونية والارادة الدينية هي المتضمنة لمحبته ورضاه المتناولة لما أمر به وجعله شرعا ودينا
وهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح قال الله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء }
وقال نوح عليه السلام لقومه : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } وقال تعالى : { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } وقال تعالى في الثانية : { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال في آية الطهارة : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح قال : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا }(51/83)
الأمر
وقال لما ذكر ما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نهاهن عنه : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } والمعنى أنه أمركم بما يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فمن أطاع أمره كان مطهرا قد أذهب عنه الرجس بخلاف من عصاه
وأما الأمر فقال في الأمر الكوني : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وقال تعالى : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } وقال تعالى : { أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس }
وأما الأمر الديني فال تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون } وقال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا }
الاذن القضاء
وأما الإذن فقال في الكوني لما ذكر السحر : { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } أي بمشيئته وقدرته وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل
وقال في الإذن الديني : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال تعالى : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه } وقال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وقال تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } وأما القضاء فقال في الكوني : { فقضاهن سبع سماوات في يومين } وقال سبحانه : { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون }
وقال في الديني : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } أي أمر وليس المراد به : قدر ذلك فإنه قد عبد غيره كما أخبر في غير موضع كقوله تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله }(51/84)
وقال الخليل عليه السلام لقومه : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } وقال تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء } وقال تعالى : { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين } وهذه كلمة تقتضي براءته من دينهم ولا تقتضي رضاه بذلك كما قال تعالى في الآية الأخرى : { وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون }
ومن ظن من الملاحدة أن هذا رضى منه بدين الكفار فهو من أكذب الناس وأكفرهم كمن ظن أن قوله : { وقضى ربك } بمعنى قدر وأن الله سبحانه ما قضى بشيء إلا وقع وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله فإن هذا من أعظم الناس كفرا بالكتب
البعث الارسال الجعل
وأما لفظ البعث فقال تعالى في البعث الكوني : { فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا }
وقال في البعث الديني : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } وقال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت }
وأما لفظ الإرسال فقال في الإرسال الكوني : { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } وقال تعالى : { وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته }(51/85)
وقال في الديني : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } وقال تعالى : { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه } وقال تعالى : { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا } وقال تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس }
وأما لفظ الجعل فقال في الكوني { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار }
وقال في الديني : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } وقال تعالى : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام }
التحريم الكلمات
وأما لفظ التحريم فقال في الكوني : { وحرمنا عليه المراضع من قبل } وقال تعالى : { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض }
وقال في الديني : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } وقال تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } الآية
وأما لفظ الكلمات فقال في الكلمات الكونية : { وصدقت بكلمات ربها وكتبه }
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه [ كان يقول : أعوذ بكلمات الله التامة كلها من شر ما خلق ومن غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ] وقال صلى الله عليه وسلم : [ من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ] وكان يقول : [ أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يارحمن ]
وكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر هي التي كون بها الكائنات فلا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته وأما كلماته الدينية وهي كتبه المنزلة وما فيها من أمره ونهيه فأطاعها الأبرار وعصاها الفجار(51/86)
تعريف أولياء الله المتقين واعدائه
وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية وجعله الديني وإذنه الديني وإرادته الدينية
وأما كلماته الكونية التي لا يجاوزها بر ولا فاجر فإنه يدخل تحتها جميع الخلق حتى إبليس وجنوده وجميع الكفار وسائر من يدخل النار فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق والمشيئة والقدرة والقدر لهم فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضى والغضب
وأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور وتركوا المحظور وصبروا على المقدور فأحبهم وأحبوه ورضي عنهم ورضوا عنه
وأعداؤه أولياء الشياطين وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم ويغضب عليهم ويلعنهم ويعادلهم
مجامع الفرق بين الولايتين
وبسط هذه الجمل له موضع آخر وإنما كتبت هنا تنبيها على مجامع الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وجمع الفرق بينهما اعتبارهم بموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء وأعدائه الأشقياء وبين أوليائه أهل الجنة وأعدائه أهل النار وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد وبين أعدائه أهل الغي والضلال والفساد وأعدائه حزب الشيطان وأوليائه الذين كتب في قولبهم الإيمان وأيدهم بروح منه قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } الآية وقال تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان }
وقال في أعدائه : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } وقال : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } وقال : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون * والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }(51/87)
من كتاب الله
وقال تعالى : { فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين * ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين * وإنه لتذكرة للمتقين * وإنا لنعلم أن منكم مكذبين * وإنه لحسرة على الكافرين * وإنه لحق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم } وقال تعالى : { فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } إلى قوله : { إن كانوا صادقين }(51/88)
فنزه سبحانه وتعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم عمن تقترن به الشياطين من الكهان والشعراء والمجانين وبين أن الذي جاءه بالقرآن ملك كريم اصطفاه وقال تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } وقال تعالى : { وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } وقال تعالى : { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله } الاية وقال تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } إلى قوله : { وبشرى للمسلمين } فسماه الروح الأمين وسماه روح القدس وقال تعالى : { فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس } يعني الكواكب التي تكون في السماء خانسة أي مختفية قبل طلوعها فإذا ظهرت رآها الناس جارية في السماء فإذا غربت ذهبت إلى كناسها الذي يحجبها { والليل إذا عسعس } أي إذا أدبر وأقبل الصبح { والصبح إذا تنفس } أي أقبل { إنه لقول رسول كريم } وهو جبريل عليه السلام { ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين } أي مطاع في السماء أمين ثم قال : { وما صاحبكم بمجنون } أي صاحبكم الذي من الله عليكم به إذ بعثه إليكم رسولا من جنسكم يصحبكم إذ كنتم لا تطيقون أن تروا الملائكة كما قال تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون * ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } الآية وقال تعالى : { ولقد رآه بالأفق المبين } أي رأى جبريل عليه السلام { وما هو على الغيب بضنين } أي بمتهم وفي القراءة الأخرى { بضنين } أي ببخيل يكتم العلم ولا يبذله الإ بجعل كما يفعل من يكتم العلم إلا بالعوض { وما هو بقول شيطان رجيم } فنزه جبريل عليه السلام عن أن يكون شيطانا كما نزه محمدا صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعرا أو كاهنا(51/89)
من المعقول الشرعي
فأولياء الله المتقدون بمحمد صلى الله عليه وسلم فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه فيؤيدهم بملائكته وروح منه ويقذف الله في قلوبهم من أنواره ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين وخيار أولياء الله كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم كذلك
كيف تحصل كرامات أولياء الله
وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم
كرامات النبي صلى الله عليه وسلم
مثل انشقاق القمر وتسبيح الحصا في كفه وإتيان الشجر إليه وحنين الجذع إليه وإخباره ليلة المعراج بصفة بيت المقدس وإخباره بما كان وما يكون وإتيانه بالكتاب العزيز وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة كما أشبع في الخندق العسكر من قدر طعام وهو لم ينقص في حديث أم سليم المشهور وروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص وهم نحو ثلاثين ألفا ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتىكفى الناس الذين كانوا معه كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة أو خمسمائة ورده لعين أبي قتادة حين سالت على خده فرجعت أحسن عينيه ولما أرسل محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف فوقع وانكسرت رجله فمسحها فبرأت وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلا كلا منهم حز له قطعة وجعل منها قصعتين فأكلوا منهما جميعهم ثم فضل فضله وقضى ( دين ) عبدالله أبي جابر لليهودي وهو ثلاثون وسقا
قال جابر : فأمر صاحب الدين أن يأخذ التمر جميعه بالذي كان له فلم يقبل فمشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لجابر : جد له فوفاه الثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا ومثل هذا كثير قد جمعت نحو ألف معجزة(51/90)
كرامات الصحابة والتابعين
وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جدا مثل ما كان أسيد بن حضير يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقرائته وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين وكان سلمان و أبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها و [ عباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط فلما افترقا افترق الضوء معهما ] رواه البخاري وغيره
وقصة الصديق في الصحيحين [ لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته وجعل لا يأكل لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مماكانت فرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا ]
وخبيب بن عدي كان أسيرا عند المشركين بمكة شرفها الله تعالى وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة
وعامر بن فهيرة قتل شهيدا فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه وكان لما كان قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع وقال عروة : فيرون الملائكة رفعته
وخرجت أم أيمن مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسا على رأسها فرفعته فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بقية عمرها
[ وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده ](51/91)
والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله تعالى أبر قسمه وكان الحرب إذا اشتدت على المسلمين في الجهاد يقولون : يا براء ! أقسم على ربك فيقول : يا رب ! أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم فيهزم العدو فلما كان يوم القادسية قال : أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدا وخالد بن الوليد حاصر حصنا منيعا فقالوا : لا نسلم حتى تشرب السم فشربه فلم يضره
وسعد بن أبي وقاص كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلا استجيب له وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق
وعمر بن الخطاب لما أرسل جيشا أمر عليهم رجلا يسمى سارية فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر : يا سارية ! الجبل يا سارية الجبل الجبل فقدم رسول الجيش فسأله فقال يا أمير المؤمنين ! لقيننا عدونا فهزمونا فإذا بصائح : يا سارية الجبل يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله
ولما عذبت الزنيرة على الاسلام في الله فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها قال المشركون : أصاب بصرها اللات والعزى قالت : كلا والله فرد الله عليها بصرها
ودعا سعيد بن زيد على أروى بنت الحكم فأعمى بصرها لما كذبت عليه فقال : اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت(51/92)
والعلاء بن الحضرمي كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين وكان يقول في دعائه : يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم فيستجاب له ودعا الله بأن يسقوا ويتوضؤوا لما عدموا الماء والإسقاء لما بعدهم فأجيب ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات فلم يجدوه في اللحد وجرى مثل ذلك لأبي مسلم الخولاني الذي ألقي في النار فإنه مشى هو ومن معه من المعسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها ثم التفت إلى أصحابه فقال : تفقدون من متاعكم شيئا حتى أدعو الله عز وجل فيه ؟ فقال بعضهم : فقدت مخلاة فقال : اتبعني فتبعته فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : ما أسمع قال : أتشهد أن محمد رسول الله ؟ قال : نعم فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلي فيها وقد صارت عليه بردا وسلاما
وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله ووضعت له جاريته السم في طعامه فلم يضره وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت وجاءت وتابت فدعا لها فرد الله عليها بصرها
وكان عمر بن عبد قيس يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه ومايلقاه سائل في طريقه ألا أعطاه بغير عدد ثم يجيء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بثيابه الأسد ثم وضع رجله على عنقه وقال : إنما أنت كلب من كلاب الرحمن وإني أستحيي من الله أن أخاف شيئا غيره ومرت القافلة ودعا الله تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء فكان يؤتى بالماء له بخار ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه(51/93)
وتغيب الحسن البصري عن الحجاج فدخلوا عليه ست مرات فدعا الله عز وجل فلم يروه ودعا على بعض الخوارج - كان يؤذيهم - فخر ميتا
وصلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو فقال : اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه فلما وصل إلى بيته قال : يا بني خذ سرج الفرس فانه عارية وأخذ سرجه فمات الفرس وجاع مرة بالأهواز فدعا الله عز وجل استطعمه فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير فأكل التمر وبقي الثوب عند زوجته زمانا وجاءه الأسد وهو يصلي في غيضه بالليل فلما سلم قال له : اطلب الرزق من غير هذا الموضع فولى الأسد وله زئير
وكان سعيد ين المسيب في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات الصلوات وكان المسجد قد خلا فلم يبقى غيره
ورجل من النخع كان له حمار فمات في الطريق فقال له أصحابه : هلم نتوزع متاعك على رحالنا فقال لهم : أمهلوني هنيهة ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فأحيا له حماره فحمل عليه متاعه
ولما مات أويس القرني وجدوا في ثيابه أكفانا لم تكن معه قبل ووجدوا له قبرا محفورا فيه لحد في صخرة فدفنوه فيه وكفنوه في تلك الأثواب
وكان عمرو بن عقبة بن فرقد يصلي يوما في شدة الحر فأظلته غمامة وكان السبع يحميه وهو يرعى ركاب أصحابه لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أنه يخدمهم
وكان مطرف بن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه آنيته وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة فأضاء لهما طرف السوط
ولما مات الأحنف بن قيس وقعت قلنسوة رجل في قبره فأهوى ليأخذها فوجد القبر قد فسح فيه مد البصر
وكان إبراهيم التميمي يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئا وخرج يمتار لأهله طعاما فلم يقدر عليه فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله ففتحها فإذا هي حنطة حمراء فكان إذا زرع منها تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا(51/94)
وكان عتبة الغلام سأل ربه ثلاث خصال : صوتا حسنا ودمعا غزيرا وطعاما من غير تكلف فكان إذا قرأ بكى وأبكى ودموعه جارية دهره وكان يأوي إلى منزله فيصيب فيه قوته ولا يدري من أين يأتيه
وكان عبد الواحد بن زيد أصابه الفالج فسأل ربه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء فكانت وقت الوضوء تطلق له أعضاءه ثم تعود بعدها
وهذا باب واسع ( و ) قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع
وأما ما نعرفه نحن عيانا ونعرفه في هذا الزمان فكثير ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل فإذا احتاج إليها الضعيف الايمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيا عن ذلك فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها لنقص ولايته ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدي الخلق ولحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة
بعض الأحوال الشيطانية
وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية مثل حال عبد الله بن صياد الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال لكنه كان من جنس الكهان قال له النبي صلى الله عليه وسلم : [ قد خبأت لك خبأ قال : الدخ الدخ وقد كان خبأ له سورة الدخان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إخسأ فلن تعدو قدرك ] يعني إنما أنت من إخوان الكهان والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع وكانوا يخلطون الصدق بالكذب كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ](51/95)
وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ بينما النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ماكنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه ؟ قالوا : كنا نقول : يموت عظيم أو يولد عظيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء ثم يسأل أهل السماء السابعة حملة العرش : ماذا قال ربنا ؟ فيخبرونهم ثم يستخير أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا وتخطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون ]
وفي رواية قال معمر : قلت للزهري : أكان يرمى بها في الجاهلية ؟ قال : نعم ولكنها غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم
والأسود العنسي الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه
وكذلك مسيلمة الكذاب كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات ويعينه على بعض الأمور
وأمثال هؤلاء كثيرون مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة وكانت الشياطين تخرج رجليه من القيد وتمنع السلاح أن ينفذ فيه وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده وكان يرى الناس رجالا وركبانا على خيل في الهواء ويقول : هي الملائكة وإنما كانوا جنا ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه فقال له عبد الملك : إنك لم تسم الله فسمى الله فطعنه فقتله(51/96)
آية الكرسي تطرد الشياطين
وهكذا أهل الأحوال الشيطانية تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها مثل آية الكرسي فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه [ لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم : ما فعل أسيرك البارحة ؟ فيقول : زعم أنه لا يعود فيقول : كذبك وأنه سيعود فلما كان في المرة الثالثة قال : دعني حتى أعلمك ما ينفعك : إذا أويت إلى فراشك فأقرأ آية الكرسي : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } إلى آخرها فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال : صدقك وهو كذوب وأخبره أنه شيطان ]
ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها مثل من يدخل النار بحال شيطاني أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلاما لا يعلم وربما لا يفقه
وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه وربما تكلم بألسنة مختلفة كما يتكلم الجني على لسان المصروع والانسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس ولبسه وتكلم على لسانه فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال
ولهذا قد يضرب المصروع ( ضربا كثيرا حتى قد يقتل مثله الإنسي أو يمرضه لو كان هو المضروب ) وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء لأن الضرب كان على الجني الذي لبسه(51/97)
ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما ومنهم من يحملهم عشية عرفة ثم يعيده من ليلته فلا يحج حجا شرعيا بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات ولا يلبي ولا يقف بمزدلفة ولا يطوف بالبيت ولا يسعى بين الصفا والمروة ولا يرمي الجمار بل يقف بعرفة بثيابه ثم يرجع من ليلته وهذا ليس بحج ( مشروع باتفاق المسلمين بل هو كمن يأتي الجمعة ويصلي بغير وضوء وإلى غير القبلة ومن هؤلاء المحمولين من حمل مرة إلى عرفات ورجع فرأى في النوم ملائكة يكتبون الحجاج ) فقال : ألا تكتبوني ؟ فقالوا : لست من الحجاج يعني لم تحج حجا شرعيا
فروق بين كرامات الأولياء والأحوال الشيطانية
وبين كرامات الأولياء وبين ما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة : منها أن كرامات الأولياء سببها الايمان والتقوى والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله
وقد قال تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } فالقول على الله بغير علم والشرك والظلم والفواحش قد حرمها الله تعالى ورسوله فلا تكون سببا لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش
أحوال شيطانية أخرى
فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية
ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار فإذا حضر رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه فيسقط كما جرى هذا لغير واحد(51/98)
ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت سواء كان ذلك المخلوق مسلما أو نصرانيا أو مشركا فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث فيظن أنه ذلك الشخص أو هو ملك تصور على صورته وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله كما كانت الشياطين تدخل في الأصنام وتكلم المشركين
ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له : أنا الخضر وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته وهم يعتقدون أنه ذلك الميت ويقضي الديون ويرد الودائع ويفعل أشياء تتعلق بالميت ويدخل إلى زوجته ويذهب وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال : إذا أنا مت فلا تدع أحدا يغسلني فأن أجيء وأغسل نفسي فلما مات رأى خادمه شخصا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه فلما قضى ذلك الداخل غسله أي غسل الميت غاب وكان ذلك شيطانا وكان قد أضل الميت وقال : إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك فلما مات جاء أيضا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك
ومنهم من يرى عرشا في الهواء وفوقه نور ويسمع من يخاطبه ويقول : أنا ربك فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجروه واستعاذ بالله منه فيزول
ومنهم من يرى أشخاصا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين وقد جرى هذا لغير واحد ( وهؤلاء منهم من يرى ذلك عند قبر الذي يزوره فيرى القبر قد انشق وخرج إليه صورة فيعتقدها الميت وإنما هو جني تصور بتلك الصورة ومنهم من يرى فارسا قد خرج من قبره أو دخل في قبره ويكون ذلك شيطانا وكل من قال : أنه رأى نبيا بعين رأسه فما رأى إلا خيالا )(51/99)
ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر إما الصديق رضي الله عنه أوغيره قد قص شعره أوحلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر إنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وعلى مذهبهم والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطىء فإن كان الإنسي كافرا أو فاسقا أو جاهلا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة أويقلب فاتحة الكتاب أو سورة الإخلاص أو آية الكرسي أو غيرهن ويكتبهن بنجاسة فيغورون له الماء وينقلونه بسبب ما يرضيهم به من الكفر وقد يأتونه بمن يهواه من امرأة أو صبي إما في الهواء وإما مدفوعا ملجأ إليه إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها والإيمان بها إيمان بالجبت والطاغوت والجبت : السحر والطاغوت : الشياطين والأصنام وإن كان الرجل مطيعا لله ورسوله باطنا وظاهرا لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أو مسالمته
ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله كان عمار المساجد أبعد عن الأحوال الشيطانية وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى فيدعون الميت أو يدعون به أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب - أقرب إلى الأحوال الشيطانية
اتخاذ القبور مساجد
فإنه ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ](51/100)
وثبت في صحيح مسلم عنه أنه [ قال قبل أن يموت بخمس ليال : إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر أن من كان قبلكم يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ]
وفي الصحيحين عنه [ أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة وذكروا من حسنها وتصاوير فيها فقال : إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصورا فيها تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ]
وفي المسند و صحيح أبي حاتم عنه صلى الله عليه وسلم قال : [ أن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين اتخذوا القبور مساجد ]
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ]
وفي الموطأ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ الله لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ]
وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ]
وقال صلى الله عليه وسلم : [ ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ]
وقال صلى الله عليه وسلم : [ إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام ]
وقال صلى الله عليه وسلم : [ أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا : يا رسول ! كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ - يقولون : بليت - فقال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ](51/101)
وقد قال الله تعالى في كتابه عن المشركين من قوم نوح عليه السلام : { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } قال ابن عباس وغيره من السلف : هؤلاء قوم كانوا صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم فكان هذا مبدأ عبادة الأوثان
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ليسد باب الشرك كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ والشيطان يقارنها وقت الطلوع ووقت الغروب فتكون في الصلاة حينئذ مشابهة لصلاة المشركين فسد هذا الباب
والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها كما يفعل أهل دعوة الكواكب فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور ويسمون ذلك روحانية الكواكب وهو شيطان والشيطان وإن أعان الانسان على بعض مقاصده فإنه يضره اضعاف ما ينفعه وعاقبة من أطاعه إلى شر إلا أن يتوب الله عليه
حال أصنام الجاهلية
وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين وكذلك من استغاث بميت أو غائب وكذلك من دعا الميت أو دعا به أو ظن أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد ويروون حديثا هو كذب باتفاق أهل المعرفة وهو : إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور
وإنما هذا وضع من فتح باب الشرك
ويوجد لأهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بهم من عباد الأصنام والنصارى والضلال من المسلمين أحوال عند المشاهد يظنونها كرامات وهي من الشياطين مثل أن يضعوا سراويل عند القبر فيجدونه قد انعقد أو يوضع عنده مصروع فيرون شيطانه قد فارقه يفعل الشيطان هذا ليضلهم وإذا قرأت آية الكرسي هناك بصدق بطل هذا فإن التوحيد يطرد الشيطان ولهذا حمل بعضهم في الهواء فقال : لا إله إلا الله فسقط ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق وخرج منه إنسان فيظنه الميت وهو شيطان
وهذا باب واسع لا يتسع له هذا الموضع(51/102)
مغارات الشياطين
ولما كان هذا الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله صارت الشياطين كثيرا ما تأوي المغارات والجبال مثل مغارة الدم التي بجبل قاسيون وجبل لبنان الذي بساحل الشام وجبل الفتح بأسوان بمصر وجبال بالروم وخراسان وجبال بالجزيرة وغير ذلك وجبل اللكام وجبل الأحيش وجبل سولان قرب أردبيل وجبل شهنك عند تبريز وجبل ماشكو عند أتشوان وجبل نهاوند وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالا من الصالحين من الإنس ويسمونهم : رجال الغيب وإنما هناك رجال من الجن فالجن رجال كما أن الإنس رجال قال تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا }
ومن هؤلاء من يظهر بصورة شعراني جلده يشبه جلد الماعز فيظن من لا يعرفه أنه إنسي وإنما هو جني ويقال : بكل جبل من هذه الجبال الأربعون الأبدال وهؤلاء الذين يظنون أنهم الأبدال هم جن بهذه الجبال كما يعرف ذلك بطرق متعددة
وهذا باب لا يتسع هذا الموضع لبسطه وذكر ما نعرفه من ذلك فإنا قد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه في هذا المختصر الذي كتب لمن سأل أن نذكر له من الكلام على أولياء الله تعالى ما يعرف به جمل ذلك
أقسام الناس في خوارق العادات
والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام : قسم يكذب وجود ذلك لغير الأنبياء وربما صدق به مجملا وكذب ما يذكر له عن كثير من الناس لكونه عنده ليس من الأولياء ومنهم من يظن أن كل ما كان له نوع من خرق العادة كان وليا لله وكلا الأمرين خطأ ولهذا تجد أن هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين وأنهم من أولياء الله وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة والصواب القول الثالث وهو أن معهم من ينصرهم من جنسهم لا من أولياء الله عز وجل كما قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم }(51/103)
وهؤلاء العباد والزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسنة تقترن بهم الشياطين فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله لكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضا وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم ولابد أن يكون في أحدهم من الكذب جهلا أو عمدا ومن الاثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة بهم ليفرق الله بذلك بين أوليائه المتقين وبين المتشبهين بهم من أولياء الشياطين قال الله تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم } والأفاك : الكذاب والأثيم : الفاجر
ما يقوي الأحوال الشيطانية من السماع والمكاء والتصدية
ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي وهو سماع المشركين قال الله تعالى : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية }
قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهما من السلف : التصدية : التصفيق باليد والمكاء : مثل الصفير فكان المشركون يتخذون هذا عبادة
سماع النبي للقرآن ومدح الله لهذا النوع من السماع
أما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك والاجتماعات الشرعية ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط لا بكف ولا بدف ولا تواجد ولا سقطت بردته بل كل ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه(51/104)
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم أن يقرأ والباقون يستمعون وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري : ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون و [ مر النبي صلى الله بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له : مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك فقال : لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا ] أي لحسنته لك تحسينا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ زينوا القرآن بأصواتكم ] وقال صلى الله عليه وسلم : [ لله أشد أذنا - أي استماعا - إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى
قينته ] وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود : [ إقرأ علي القرآن فقال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال : إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة ( النساء ) حتى انتهيت إلى هذه الآية : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } قال : حسبك فإذا عيناه تذرفان من البكاء ]
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكر الله ذلك في القرآن فقال : { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا }
وقال في أهل المعرفة : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق }
ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم }(51/105)
سماع الكف والدف
وأما السماع المحدث سماع الكف والدف والقصب فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر من أئمة الدين يجعلون هذا طريقا إلى الله تبارك وتعالى ولا يعدونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة حتى قال الشافعي : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك ويعلمون أن للشيطان فيه نصبيا وافرا ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم
ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله كان نصيب الشيطان فيه أكثر وهو بمنزلة الخمر ( بل هو ) يؤثر في النفوس اعظم من تأثير الخمر ولهذا إذا قويت سكرة أهله نزلت عليهم الشياطين وتكلمت على ألسنة بعضهم وحملت بعضهم في الهواء وقد تحصل عداوة بينهم كما تحصل بين شراب الخمر فتكون شياطين أحدهم أقوى من شياطين الآخر فيقتلونه
غاية الكرامة لزوم الاستقامة
ويظن الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله وهو من أحوال الشياطين فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله فكيف يكون قتل المعصوم مما يكرم الله به أولياءه ؟ ! وانما غاية الكرامة لزوم الاستقامة فلم يكرم الله عبدا بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه ويزيده مما يقربه اليه ويرفع به درجته وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات ومنها ما هو من جنس الغنى من جنس ما يعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال والغنى(51/106)
انخداع صاحب الخوارق الشيطانية بحاله
وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور إن استعان به على ما يحبه ويرضاه ويقربه إليه ويرفع درجته ويأمره الله به ورسوله ازداد بذلك رفعة وقربا إلى الله ورسوله وعلت درجته وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله كالشرك والظلم والفواحش استحق بذلك الذم والعقاب فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أو حسنات ماحية وإلا كان كأمثاله من المذنبين ولهذا كثيرا ما يعاقب أصحاب الخوارق تارة بسلبها كما يعزل الملك عن ملكه ويسلب العالم علمه وتارة بسلب التطوعات فينقل من الولاية الخاصة إلى العامة وتارة ينزل إلى درجة الفساق وتارة يرتد عن الاسلام وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية فإن كثيرا من هؤلاء يرتد عن الاسلام وكثيرا منهم لا يعرف أن هذه شيطانية بل يظنها من كرامات أولياء الله ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبدا خرق عادة لم يحاسبه على ذلك كمن يظن أن الله إذا أعطى عبدا ملكا ومالا وتصرفا لم يحاسبه عليه ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة لا مأمور بها ولا منهي عنها فهذا يكون من عموم الأولياء وهم الأبرار المقتصدون وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء كما أن العبد الرسول أعلى من النبي الملك(51/107)
ولما كانت الخوارق كثيرا ما ينقص بها درجة الرجل كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك ويستغفر الله تعالى كما يتوب من الذنوب كالزنا والسرقة وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها وكلهم يأمر المريد السالك أن لا يقف عندها ولا يجعلها همته ولا يتبجح بها مع ظنهم أنها كرامات فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها ؟ ! فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول : هنيئا لك يا ولي الله فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول : خذني حتى يأكلني الفقراء ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك ومنهم من يكوني في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح وبالعكس وكذلك في أبواب المدينة وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة أو تريه أنوارا وتحضر عنده من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله
وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له : أنا من أمر الله ويعده بأنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر له الخوارق مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يمينا وشمالا ذهب حيث أراد وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر وتحمله إلى مكة وتأتي به وتأتي بأشخاص في صورة جميلة وتقول له هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك فيقول في نفسه : كيف تصوروا بصورة المردان فيرفع رأسه فيجدهم بلحى ويقول له : علامة أنك أنت المهدي أنك تنبت في جسدك شامة فتنبت ويراها وغير ذلك وكله من مكر الشيطان(51/108)
وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرف منه لاحتاج إلى مجلد كبير وقد قال تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن } قال الله تبارك وتعالى : { كلا } ولفظ ( كلا ) فيها زجر وتنبيه زجر عن مثل هذا القول وتنبيه على ما يخبر به ويأمر به بعده وذلك أنه ليس كل ما حصل له نعم دنيوية تعد كرامة يكون الله عز وجل مكرما له لها ولا كل من قدر عليه ذلك يكون مهينا له بذلك بل هو سبحانه يبتلي عبده بالسراء والضراء فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه ولا هو كريم عنده ليستدرجه بذلك وقد يحمي منها من يحبه ويواليه لئلا ينقص بذلك مرتبته عنده أو يقع بسببها فيما يكرهه منه
الإيمان والتقوى سبب كرامات الأنبياء
وأيضا كرامات الأولياء لا بد أن يكون سببها الإيمان والتقوى فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله لا من كرامات أولياء الله فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء وإنما تحصل عند الشرك مثل دعاء الميت والغائب أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات كالحيات والزنابير والخنافس والدم وغيره من النجاسات ومثل الغناء والرقص لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن وتقوى عند سماع مزامير الشيطان فيرقص ليلا طويلا فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدا أو ينقر الصلاة نقر الديك وهو يبغض سماع القرآن وينفر عنه ويتكلفه ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده ويحب سماع المكاء والتصدية ويجد عنده مواجيد فهذه أحوال شيطانية وهو ممن يتناوله قوله تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين }(51/109)
فالقرآن هو ذكر الرحمن قال تعالى : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } يعني تركت العمل بها
قال ابن عباس رضي الله عنهما : تكفل الله لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشفى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية
رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة
ومما يجب أن يعلم أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الانس والجن فلم يبقى إنسي ولا جني إلا وجب عليه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه فعليه أن يصدقه فيما أخبر ويطيعه فيما أمر ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به فهو كافر سواء كان إنسيا أو جنيا
ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين باتفاق المسلمين وقد استمعت الجن للقرآن وولوا إلى قومهم منذرين لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ببطن نخلة لما رجع من الطائف وأخبره الله بذلك في القرآن بقوله : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين }
إيمان نفر من الجن
وأنزل الله تعالى بعد ذلك : { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا * وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا * وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا * وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا * وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } أي السفينه منا في أظهر قولي العلماء(51/110)
من استعاذ بالجن
وقال غير واحد من السلف : كان الرجل من الإنس إذا نزل بالوادي قال : أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه فلما استغاثت الإنس بالجن ازدادت الجن طغيانا وكفرا كما قال تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا * وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا * وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا } وكانت الشياطين ترمى بالشهب قبل أن ينزل القرآن لكن كانوا أحيانا يسترقون السمع قبل أن يصل الشهاب إلى أحدهم فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا وصارت الشهب مرصدة لهم قبل أن يسمعوا كما قالوا : { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } وقال تعالى في الآية الأخرى : { وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون } قالوا : { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا * وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا } أي على مذاهب شتى كما قال العلماء : منهم المسلم والمشرك واليهود والنصراني والسني والبدعي { وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا } أخبروه أنهم لا يعجزونه لا إن أقاموا في الأرض ولا إن هربوا منه : { وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا * وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون } أي الظالمون(51/111)
يقال : أقسط إذا عدل وقسط : إذا جار وظلم { فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا * وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا * لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا * وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا * وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا * قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا * قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا } أي ملجأ ومعاذا { إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا * حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا }
ثم [ لما سمعت الجن القرآن أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وهم جن نصيبين كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود وروي أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وكان إذا قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } قالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد ]
[ ولما اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم سألوه بالزاد لهم ولدوبهم فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوبكم ] قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن ] وهذا النهي ثابت عنه من وجوه متعددة وبذلك احتج العلماء على النهي عن الاستنجاء بذلك وقالوا : فإذا منع من الاستنجاء بما للجن ولدوابهم فما أعد للإنس ولدوبهم من الطعام والعلف أولى وأحرى
ومحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الإنس والجن وهذا أعظم قدرا عند الله تعالى من كون الجن سخروا لسليمان عليه السلام فإنهم سخروا له يتصرف فيهم بحكم الملك ومحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم يأمرهم بما أمر الله به ورسوله لأنه عبد الله ورسوله ومنزلة العبد فوق منزلة النبي الملك(51/112)
دخول كفار الجن النار
وكفار الجن يدخلون النار بالنص والإجماع وأما مؤمنوهم فجمهور العلماء على أنهم يدخلون الجنة وجمهور العلماء على أن الرسل من الإنس ولم يبعث من الجن رسول لكن منهم النذر وهذه المسائل لبسطها موضع آخر
والمقصود هنا أن الجن مع الإنس على أحوال : فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه ويأمر الإنس بذلك فهذا من أفضل أولياء الله تعالى وهو في ذلك من خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له وهذا كان يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم ويستعملهم في مباحات له فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك
هذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى فغايته أن يكون في عموم اولياء الله تعالى مثل النبي الملك مع العبد الرسول كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
كفر من استعاذ بالجن
ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك وإما في قتل معصوم الدم أو في العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه وإنسائه العلم وغير ذلك وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص إما فاسق وإما مذنب غير فاسق
وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات مثل أن يستعين بهم على الحج أو أن يطيروا به عند السماع البدعي أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمر الله به ورسوله وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به(51/113)
وكثير من هؤلاء قد لا يعرف أن ذلك من الجن بل قد سمع أن أولياء الله لهم كرامات خوارق للعادات وليس عندهم من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامات الرحمانية وبين التلبيسات الشيطانية فيمكرون به بحسب اعتقاده فإن كان مشركا يعبد الكواكب والأوثان أوهموه أنه ينتفع بتلك العبادة ويكون قصده الاستشفاع والتوسل ممن صور ذلك الصنم على صورته من ملك أو نبي أوشيخ صالح فيظن أنه يعبد ذلك النبي أو الصالح وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان قال الله تعالى : { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون }
من يسجد للشمس والقمر
ولهذا كان الذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب يقصدون السجود لها فيقارنها الشيطان عند سجودهم ليكون سجودهم له ولهذا يتمثل الشيطان بصورة من يستغيث به المشركون فإن كان نصرانيا واستغاث بجرجس أو غيره جاء الشيطان في صورة جرجس أو من يستغيث به
الاستغاثة بالشيوخ
وإن كان منتسبا إلى الإسلام واستغاث بشيخ يحسن الظن به من شيوخ المسلمين جاء في صورة ذلك الشيخ وإن كان من مشركي الهند جاء في صورة من يعظمه ذلك المشرك
ثم إن الشيخ المستغاث به إن كان ممن له خبرة بالشريعة لم يعرفه الشيطان أنه تمثل لأصحابه المستغيثين به وإن كان الشيخ ممن لا خبرة له أخبره بأقولهم ونقل أقوالهم له فيظن أولئك أن الشيخ سمع اصواتهم من البعد وأجابهم من البعد وأجابهم وإنما هو يتوسط الشيطان
ولقد أخبر بعض الشيوخ الذين كان قد جرى لهم مثل هذا بصورة مكاشفة ومخاطبة فقال : يريني الجن شيئا براقا مثل الماء والزجاج ويمثلون له فيه ما يطلب منه الإخبار به قال : فأخبر الناس به ويوصلون إلي كلام من استغاث بي من أصحابي فأجيبة فيوصلون جوابي إليه(51/114)
الحيل الشيطانية
وكان كثير من الشيوخ الذين حصل لهم كثير من هذه الخوارق إذا كذب بها من لم يعرفها وقال : إنكم تفعلون هذا بطريق الحيلة كما يدخل النار بحجر الطلق و قشور النارنج ودهن الضفادع وغير ذلك من الحيل الطبيعة - يتعجب هؤلاء المشايخ ويقولون : نحن والله لا نعرف شيئا من هذه الحيل فلما ذكر لهم الخبير : إنكم لصادقون في ذلك ولكن هذه الأحوال شيطانية أقروا بذلك وتاب منهم من تاب الله عليه لما تبين لهم الحق وتبين لهم من وجوه أنها من الشيطان ورأوا أنها من الشياطين لما رأوا أنها تحصل بمثل البدع المذمومة في الشرع وعند المعاصي لله فلا تحصل عندما يحبه الله ورسوله من العبادات الشرعية فعلموا أنها حينئذ من مخارق الشيطان لأوليائه لا من كرامات الرحمن لأوليائه(51/115)
التَّعْلِيقَاتُ الحِسَان على كتاب :
الفرقان(1)
بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية
-رحمه الله تعالى-
علَّق عليه
الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله-
[(09) أشرطة مفرّغة والمسجلة بين الخميس 16جمادى الآخرة1416هوالخميس 18شعبان1418هـ]
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد(2) أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة، وبصّر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عميا وآذانا صُمًّا وقلوبا غلفا، وفَرَقَ به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغيّ، والمؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، وبين أولياء الله وأعداء الله، فمن شهد له محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أولياء الله فهو من أولياء الرحمن، ومن شهد له بأنه من أعداء الله فهو من أعداء الله ومن أولياء الشيطان.
__________
(1) ملاحظة: العنوان من اختيار المفرّغ، هذا أولا، أما ثانيا فإنه من الملاحظ أن الأشرطة تسجيلها في كثير من الأماكن غير مسموع جيدا ولذلك الكلمات غير المفهومة فقد وضعت مكانها... ، وأرجو المعذرة. [قام بإعداد هذه المادة سالم الجزائري].
(2) قول شيخ الإسلام (ونشهد) فيه جواز ذلك؛ لأنّ من الناس من قال الأفضل أن يتكلم المرءُ عن نفسه فيقول: أشهد، وألاّ يأتي بنون الجمع الدالة على نفسه وعلى غيره، لأنّ الشهادة أمرها باطن. وهذا جائز يقول عن نفسه وعن غيره أيضا باعتبار ظاهر الحال.(52/1)
قد بين سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنَّ لله أولياء من الناس، وللشيطان أولياء، ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فقال تعالى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[يونس:62-64]،(1) وقال تعالى ?اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?[البقرة:257]، وقال تعالى ?يَاأَيُّهَا
__________
(1) في هذه الآية أنّ الأولياء هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، ولهذا عرّف جماعة من أهل العلم الولي: بأنّه كل مؤمن تقي وليس بنبي؛ ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس: 63] هم الأولياء، والإيمان والتقوى تتفاضل؛ الإيمان يتفاضل يزيد وينقص، ويتفاضل أهله فيه، وكذلك التقوى يتفاضل أهلُها فيها، فيكون إذن وصف الوَلاية يتفاضل أهله فيه، فالأولياء إذن ليسوا على مرتبة واحدة، لكن صار غالبا في الاصطلاح أنّ الولي هو المؤمن الذي كمَّل التقوى بحسب استطاعته، وليس مَن عنده شيء من الإيمان وشيء من التقوى وليا، وإنْ كان كل مؤمن تقي له وَلاية بحسَب ذلك، ففرق بين الاسم؛ اسم الولي وبين الوَلاية؛ الولاية التي هي محبة الله لعبده ونصرتُه له هذه تكون عنده بقدر ما عنده من الإيمان والتقوى، وأمّا اسم الولي فالآية دلت على أنّ من عنده إيمان وتقوى فهو من الأولياء، لكن في الإصطلاح إذا قيل الأولياء فهم العُبّاد الصالحون الذين كمّلوا التقوى بحسب استطاعتهم، أو بحسب حالهم، فلا يدخل فيه من خلط عملا صالحا وآخر سيئا.(52/2)
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (1)
__________
(1) قوله جل وعلا هنا ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51] هذا التولي المكفر الذي هو نصرة الكافر عن المسلم في حال الحرب لقصد ظهور الكفر، أو بقصد سلامة النفس على سلامة الإسلام، يدلّ على هذا التفسير قوله في الآيات نفسها ?فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ?[المائدة:52] (يُسَارِعُونَ فِيهِم) يعني في توليهم وفي نصرتهم ? يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ?[المائدة:52] فهذه دلّت على أن المقصود بقوله ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51] أنّه في حال القتال والنصرة؛ ? لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51] يعني خرج عن الدين لأنه نصرهم في حال قتالهم لأهل الإسلام، استشهد بها شيخ الإسلام للدِّلالة على معنى الوَلاية وأن الوَلاية هي المحبة والنصرة، (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) يعني أحبابا منصورين تنصرونهم وتتناصرون معهم، (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) بعضهم يحب بعضا وينصر بعضا.
القصد؛ في قصة حاطب، حاطب حصل منه مسارعة في إفشاء السر والإخبار بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على إتيان مكة، فلما قال عمر للنبي عليه الصلاة والسلام يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال« يا عمر أرسله، يا حاطب ما حملك على هذا؟» فاستفصاله عليه الصلاة والسلام دال على اعتبار القصد، وقد علل هو بأمر دنيوي، فقال: يارسول الله ما من أحد من صحابتك إلا وله في مكة قرابة أو أهل، يدفعون عن ماله، وليس لي أحد، فأردت أن يكون لي بذلك يد أدفع بها عن مالي. فقال عليه الصلاة والسلام «صدقكم»، فدل هذا على أنه لم يقصد ظهور الكفر على الإسلام، وإنما قصد حماية نفسه. قصد حماية المال والنفس هذا راجع إلى أمر الدنيا وليس راجع إلى أمر الدين، فيكون التولي أو الوالاة بهذا المعنى محرّم وضلال عن سواء السبيل، ولكن ليست مكفرة، وذلك لقول الله جل وعلا ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1] قال العلماء: أثبت أنهم ألقوا المودة، ومع ذلك ناداهم باسم الإيمان فقال (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ومع ذلك قال في آخرها ?وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ?[الممتحنة:1] فدلّ على أن هذا الفعل وهو الموالاة بهذا المعنى محرّم وضلال عن سواء السبيل ولكن لا يخرج عن اسم الإيمان. ومَنْ نَصَرَ مُرجِّحًا سلامة نفسه على سلامة الإسلام فهو هنا يكفر ولو بالفعل، فرق بين أن يُسرّ لهم بشيء أو يمدهم بمال أو نحو ذلك وما بين فعل شيء فيه نصر لهم على المسلمين؛ يعني يفعل شيء معه نصر للكفر على الإسلام أو ظهور للكفار على المسلمين، ولهذا في نواقض الإسلام لإمام الدعوة رحمه الله ذَكر من النواقض مظاهرة المشركين على المسلمين، والمظاهرة لفظ له هذا المعنى الذي ذكرت، هذا بحث له موطن آخر بتفصيل.(52/3)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أو أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ(52)وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ(53)يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(54)إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ?[المائدة:51-56]، وقال تعالى ?هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا?[الكهف:44]، (1)
__________
(1) هذه الآيات السالفة كلها في بيان أولياء الرحمن، والولاية كما ذكرت معناها المحبة والنصرة ?هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ?[الكهف:44] يعني النصرة الكاملة والمحبة في الله ولله جل وعلا الحق سبحانه وتعالى، فمن أحب شيئا دون الله جل وعلا وتعلق قلبه به خذل من جهته، وكذلك من طلب النّصرة من غير الله جل وعلا وتعلق القلب بذلك خُذِل من جهته، ومن تعلق قلبه بالله وانتصر به كفاه، وهذا معنى قوله ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا?[المائدة:55] يعني يحبكم وناصركم الله ورسوله والذين آمنوا، هذا هو الواجب أن تكون وَلاية المؤمنين في الله جل وعلا ولله.(52/4)
وذكر أولياء الشيطان فقال تعالى ?فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(98)إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ*إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ?[النحل:98-100]، وقال تعالى?الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا?[النساء:76]، وقال تعالى?وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا?[الكهف:50]، وقال تعالى?وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا?[النساء:119]، وقال تعالى?الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174)إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:173-175]، وقال تعالى?اإِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ(27)وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا? إلى قوله ?إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ(52/5)
مُهْتَدُونَ?[الأعراف:27-30]، وقال تعالى?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ?[الأنعام:121]، وقال الخليل عليه الصلاة والسلام?يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا?[مريم:45]، وقال تعالى?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ? الآيات إلى قوله?إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[الممتحنة:1-5]. (1)
فصل
وإذا عُرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء كما فرق الله ورسوله بينهما، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]
__________
(1) هذا كله استدلال بالآيات على التسمية؛ يعني كأنه استحضر رحمه الله من يقول له: من أين أتيت بهذه التسمية أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؟ فأتى بالآيات التي تدل أن للرحمن أولياء وعلى أن للشيطان أولياء، هذه خطبة للكتاب، يعني مقدمة، بعدها يأتي للصفات؛ ما صفات هؤلاء وما صفات هؤلاء.(52/6)
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله من عادى لي وليا [فقد بارزني بالمحاربة] (1) أو فقد آذنته بالحرب وما تقرّب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» وهذا أصح حديث يُروي في الأولياء فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من عادى وليا لله فقد بارز الله بالمحاربة. (2)
__________
(1) شيخ الإسلام دائما استدلاله بالأول (فقد بارزني بالمحاربة) وهذا اللفظ ليس في كتب الصحاح، إنما هو عند أبي نعيم، وعند غيره من الكتب غير المشهورة، ولعله أخذها من بعض المستخرجات على الصحيح كمستخرج أبي عوانة، أو مستخرج الإسماعيلي البخاري ونحو ذلك، لأنه عنده عناية بالجمع بين الصحيحين للحميدي. المقصود أن هذا اللفمظ مما يعترض به على شيخ الإسلان كثيرا لأن هذا اللفظ غير معروف (فقد بارزني بالمحاربة)، واللفظ المعروف في الصحيحين (فقد آذنته بالحرب) هذا هو المعروف في الحديث المسمى حديث الولي.
(2) هذا القول في أوائل هذا الفصل فيه البيان على أنّ الله جل وعلا فرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان، فكونه سبحانه يذكر في القرآن أنّ لله أولياء وأنّ للشيطان أولياء، ثم لا يفرق بين هؤلاء وهؤلاء بالصفات بما يُعلم به هؤلاء وهؤلاء، هذا ممتنع؛ لأن الله جل جلاله جعل هذا القرآن فرقانا ? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ?[الفرقان:1] فهو فرقان بين الأشياء المتقابلة التي قد تلتبس، ومن ذلك وصف أولياء الرحمن ووصف أولياء الشيطان، فالفرقان قائم بين هذين الحزبين وبين هاتين الطائفتين، هؤلاء لهم صفات وهؤلاء لهم صفات، أعظم ما في القرآن من وصف أولياء الله جل وعلا في آية سورة يونس التي استدل وبها وهي قوله تعالى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] فبيّن جل وعلا أنّ الأولياء هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، ومن المتقرر أنّ الإيمان يتبعض وأنّه درجات بعضها فوق بعض، وأنّ التقوى كذلك تتبعض والناس فيها مختلفون كلٌّ يأخذ منها بحسب ما يُسِّر له، فنتج من ذلك أن الأولياء أيضا ليسوا على مرتبة واحدة، بل هم مراتب فصفات الأولياء التي تجمعهم أنهم المؤمنون المتقون، والمؤمن هو المؤمن بالله ورسوله وبكتابه، فلا يُتصور من الولي الخروج عن أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر كتاب الله لأهواء ولآراء، بل هو متبع للكتاب والسنة، كذلك لا يُتصور في الولي أنه صاحب كبيرة أو صاحب إصرار على الصغائر واستمرار فيها؛ لأن التقوى هي صفته التي لازمته (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) والتعبير أواستعمال (كَانُوا يَتَّقُونَ) يفيد ثبات هذه الصفة. فإذا كان كذلك، كان وصف الأولياء في القرآن أنهم المؤمنون المتقون.
أما وصفهم في السنة فقد جاء بأكثر تفصيلا في حديث الولي المعروف وهو ما رواه البخراري رحمه الله وغيره، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال « يقول الله تعالى من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه» هنا الفرائض أحب إلى الله جل وعلا من النوافل، وزيادة تقرب العبد بالنوافل سبب في محبة الله جل وعلا لعبده قال«فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به» سمعَه يعني يسدد في سمعه، كان الله سمع الولي يعني سدده في سمعه فلا يسمع إلا ما يحب ربه ومولاه «وبصره الذي يبصر به» يعني أسدده في بصره فلا يبصر إلا ما أحب، ولا يستأنس في بصره إلا بما أحب «ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» يعني يسدد في هذا كله؛ فلا يبطش بيده إلا فيما أذن الله جل وعلا به، ولا يمشي برجله إلا بما يحب الله جل وعلا، قال «ولئن سألني لأعطينه» يعني أنه مجاب الدعاء «ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» التردد هنا، تكلم عليه أهل العلم بكلمات وأصح ذلك أن التردد مثل الصفات الأخر التي هي صفة المكر والاستهزاء ونحو ذلك من جهة أنّه يكون نقصا ويكون كمالا:
فيكون نقصا إذا كان التردد مع عدم علم بالعاقبة؛ لأنّه يكون من نتائج الجهل، فالمتردد يتردد ويكون نقْصا في حقه أنه تردد؛ لأنه لا يعلم العاقبة، أو لخوفه وعدم جرأته على الأمر، أو لعدم قدرته عليه؛ يشك هل هو يقدر أو لا يقدر، أو هل سيقوى أو لا يقوى، وعدم علمه بالعاقبة هي سبب هذا التردد، وهذا التردد نقص وهذا منفي عن الله جل وعلا.
والنوع الثاني وهو تردد بين أمرين كل منهما هو حق ومحمود في نفسه، لكن يختلف الإختيار بحسَب تعلقه بالمختار له، مثل –في حياة البشر- تريد أن تشتري لمن تحب شيئا، تردد بين هذا وهذا لا من جهة عدم علمك بالأفضل، ولكن من جهة الإكرام...، هذا التردد ليس بنقص، أنت الآن بين كرم وبين أكرم، فهذا ليس نقصا، هذا تردد فيما يناسب المختار له، هذا هو الذي من جنسه جاء هذا الحديث، (وما ترددت في شيء أنا فاعله) هذا التردد الحق، التردد الذي هو كمال الذي لا نقص فيه، بوجه من الوجوه.
هذا من أحسن الأجوبة على ذلك وهو طريقة المحققين.
( السمع والبصر معنويان؛ يعني نوعان من أنواع الإدراكات معنويان، تشوف السمع؟ ما تشوفه، تشوف البصر؟ ما تشوفه، لكن اليد والرجل هذا ظاهران، فمثل بشيئن معنويين وبشيئين ظاهرين، وهذا له نظائر في القرآن ?أم تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ?[الفرقان:44]، ? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا?[الأعراف:179]، وكقوله في آخر السورة?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(191)وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ? [الأعراف:191-192] إلى آخر الآيات، المقصود من ذلك أنه يُرد التمثيل بالحواس، فهذا ليس المراد به الحصر؛ كنت سمعه وبصره وأيضا لسانه وفهمه وتفكيره، خذ فيه رواية موضوعة يستدل بها الصوفية وهي مكذوبة في هذا الحديث بعد قوله (ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وحتى يقول للشيء كن فيكون)، هذه موجودة في بعض كتب الحديث مسندة لكنها موضوعة، يستدل بها بعض الصوفية في أن الله جل وعلا يُعطي الأولياء ملكوته يتصرفون فيه بما يريدون، وهذا باطل من جهة الإستدلال وباطل من جهة الأصول القطعية على أنّ الله جل وعلا لا ينازعه أحد في ملكه وليس له شريك في مُلكه.(52/7)
وفي حديث آخر: «وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحَرِب» أي آخذ ثأرهم ممن عادهم كما يأخذ الليث الحرب ثأره، وهذا لأن أولياء الله هم الذين أمنوا به ووالوه فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض ورضوا بما يرضى وسَخِطُوا بما يسخط وأمروا بما أمر ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطى، ومنعوا من يحب أن يمنع، كما في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله».
وفي حديث آخر رواه أبو داود قال «ومن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» والوَلاية ضد العداوة، [وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد](1)
__________
(1) هذا الأصل في الموالاة والمعاداة هو القدر الواجب في الولاء والبراء، القدر الذي به يصح الإسلام، فلا يصح إسلام أحد حتى يكون عنده موالاة ومعاداة؛ عنده ولاء وبراء.
الولاء الذي يصحّ به أصل الإسلام: هو المحبة؛ محبة الله, محبة دينه، محبة رسوله، محبة توحيده، هذه الحبة هي الأصل، لها لاوازم في الظاهر، هذه لها أحكامُها.
العداوة أو البراء: هو بغض الشرك، بغض الضلال، بغض الشيطان، بغض عبادة غير الله، بغض الكفر، هذا القدْر هو الشرط من لم يأتِ به فلا إسلام له.
فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هذه مشتملة على الولاء والبراء، مشتملة على الموالاة والمعاداة، لكن الولاء والبراء منه قدر مجزئ لا يصح إسلام أحد إلا به؛ يعني مجزئ في صحة الإسلام، ومنه قدْر آخر واجب لكن ليس شرطا في الصحة، القدْر الواجب هو ما كان من قبيل الحب والبغض، أصل المعنى، وهو الموجود في القلب، فمحبة التوحيد وبغض الشرك هذا أصل في الإسلام وهو معنى الولاء والبراء ومعنى كلمة التوحيد، فمن لم يكن عنده حب للتوحيد وبغض للشرك فلا إسلام له أصلا، بخلاف محبة أهل التوحيد، محبة أهل الشرك ونحو ذلك، فهذه فيها أحوال وتفصيلات.(52/8)
وقد قيل أن الولي سُمِّي وليا من موالاته للطاعات أي متابعته لها والأول أصح والولي القريب فيقال هذا يلي هذا؛ أي يقرب منه.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر» أي لأقرب رجل إلى الميت، وأكده بلفظ الذكر ليبين أنه حكم يختص بالذكور ولا يشترك فيه الذكور والاناث كما قال في الزكاة «فابن لبون ذكر»، فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معاديا له كما قال تعالى ?لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1]، فمن عادى أولياء الله فقد عاداه ومن عاداه فقد حاربه فلهذا قال ومن عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، (1)
__________
(1) هذا من شيخ الإسلام ذكر لبعض شروط الولي من جهة اللغة فإنه فسّر لفظ الولي والموالاة بما تضمنه كلامه السابق وفيه شورط الولي، فمن شروطه:
يأمر بما أمر الله ويأمر بأتمر بذلك.
ينهى ما ينهى عنه الله وينتهى عن ذلك.
يرضى ما يرضي الله ويسخط ما يسخط الله جل وعلا.
ويحب ما أحب الله ويبغض ما أبغض الله.
فهذا جاء من جهة اللغة مع ضميمة أيضا الذين آمنوا وكانوا يتقون، تخلص من ذلك إلى أن صفات الأولياء التي منها ماهو صفة شرط؛ يعني صفة إذا لم توجد لم يكن وليا مأخوذة من قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يعني كلمة الإيمان والتقوى، ومأخوذة أيضا من جهة اللفظ؛ لفظ الولي؛ لأن الولي هو المحي التابع الناصر، وهذه المحبة تقتضي موافقته فيما أحب، موافقته فيما نهى عنه جل وعلا، وهكذا، وهذا من نوع الفرقان بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان.(52/9)
وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، وأفضل المرسلين أولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وعليهم وسلم، قال تعالى ?شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ?[الشورى:13]، وقال تعالى ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا(7)لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا?[الأحزاب:7-8]. وأفضل أولي العزم(1) محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد وصاحب الحوض المورود وشفيع الخلائق يوم القيامة وصاحب الوسيلة والفضيلة الذي بعثه الله بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم(2)
__________
(1) أولو العزم يعني أولوا الصبر، العزم هنا الصبر وتحمل المشاق والقوة، وجميع المرسلين أولو صبر وتحمل للمشاق وقوة، لكن أولئك أولوصبر خاص وعزم خاص فخصوا؛ لهذا الاسم دون غيرهم، وهم الخمسة الذين ذكرهم الله جل وعلا.
(2) هذه الكلمات قارنها بالختمة المنسوبة لشيخ الإسلام (ختمة القرآن)فيها هذه الكلمات، الكلمات الموجودة في الختمة لم تصح اسنادا؛ لكنها مشهورة النسبة، كلماتها موجودة متفرقة في كتب شيخ الإسلام، يعني من أراد أن ياخذها جملا ويحيل كل جملة إلى موضعها من كلام شيخ الإسلام وجد ذلك، ولهذا يقول علماؤنا إنّ هذه نفسها نفس شيخ الإسلام، كلامها كلام شيخ الإسلام، من عرف كلام شيخ الإسلام قال أنها له.(52/10)
وهم آخر الأمم خلقا وأول الأمم بعثا، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «نَحْنُ الآخِرُونَ السابقون, بَيْدَ أَنّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ, فهذا اليوم الذي كتب الله عليهم, فاختلفوا فيه, -يعني يوم الجمعة- فهدانا الله له، فالنّاسُ لَنَا تَبَعٌ فِيهِ, غَداً للْيَهُودُ, وَبَعْدَ غَدٍ للنّصَارَى»، وقال صلى الله عليه وسلم «وَأَنَا أَوّلُ مَنْ تَنْشَقّ عَنْهُ الأرْضُ» وقال صلى الله عليه وسلم «آتِي بَابَ الْجَنّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَأَسْتَفْتِحُ. فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمّدٌ. فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لاَ أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ» وفضائله صلى الله عليه وسلم وفضائل أمته كثيرة ومن حين بعثه الله جعله الله الفارق بين أوليائه وبين أعدائه، فلا يكون وليا لله إلا من آمن به وبما جاء به واتبعه باطنا وظاهرا، ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان، قال تعالى?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ?[آل عمران:31]. قال الحسن البصري رحمه الله: ادعى قوم إنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم، وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فان الله يحبه ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من أولياء الله، وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله، فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه قال تعال ?قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ?[المائدة:18] الآية، وقال تعالى ?وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ? إلى قوله ?وَلَا هُمْ(52/11)
يَحْزَنُونَ?[البقرة:111-112]، وكان مشركوا العرب يدعون إنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت وكانوا يستكبرون به على غيرهم كما قال تعالى?قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ(66)مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ?[المؤمنون:66-67]، وقال تعالى?وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أو يَقْتُلُوكَ? إلى قوله ?وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ?[الأنفال:30-34]، فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته إنما أولياؤه المتقون.(52/12)
وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهارا من غير سر «إنّ آل فلان ليسوا لي بأولياء» يعني طائفة من أقاربه «إنما ولي الله وصالح المؤمنين» وهذا موافق لقوله تعالى?فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ?[التحريم:4]الآية، (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (1) هو من كان صالحا من المؤمنين، وهم المؤمنون المتقون أولياء الله، ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة وكانوا ألفا وأربعمائة وكلهم في الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال«لا يدخل النار
__________
(1) الصالح في الشرع هو من قام بحقوق الله جل وعلا الواجبة عليه وقام بحقوق خلقه الواجبة عليه. القائم بحقوق الله وحقوق الخلق هو الصالح من عباد الله، والصالحون مقتصدون وسابقون، فالمقتصد هذا صالح؛ يعني الذي يفعل الواجبات وينتهي عن المحرمات، والسابق بالخيرات هذا أفضل الصالحين، فأولياء الله جل وعلا هم صالحوا المؤمنين الذين يفعلون الواجبات وينتهون عن المحرمات، ومنهم وأخصّهم الذين يسارعون في الخيرات، لكن لفظ الولي بخصوصه أُطلق على من كان سابقا بالخيرات، على من كان من خاصّة صالحي المؤمنين، ففي العُرف ليس المقتصدون يعني الذين إختصروا على آداء الواجبات وتركوا المحرمات يُسَمَّوْن أولياء، هم في الحقيقة أولياء لله لقول الله جل وعلا ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] وقوله ?فَإِنَّ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ?[التحريم:4]، ?إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ?[الأنفال:34] ونحو ذلك من الأدلة.(52/13)
أحد بايع تحت الشجرة»(1) ومثل هذا الحديث الآخر «إن أوليائي المتقون أيا كانوا وحيث كانوا»، كما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله وليس وليا لله بل عدو له، فكذلك من المنافقين الذين يُظهرون الإسلام يقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنه مرسل إلى جميع الإنس بل إلى الثقلين الإنس والجن، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك مثل أن لا يقروا في الباطن بأنه رسول الله وإنما كان ملكا مطاعا ساس الناس برأيه من جنس غيره من الملوك، أو يقولون إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب كما يقوله كثير من اليهود والنصارى، أو أنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يُرسل إليهم ولا يحتاجون إليه بل لهم طريق إلى الله من غير جهته كما كان الخضر مع موسى، أو أنهم يأخذون عن الله كلَّ ما يحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة، أو أنّه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها، وأما الحقائق الباطنية فلم يُرسل بها أو لم يكن يعرفها، (2)
__________
(1) «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» له نظائر في النصوص من استعمال كلمة (لا يدخل) إما في الجنة أو في النار؛ «لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان«، «لا يدخل الجنة قتاد«، «لا يدخل الجنة قاتل«، ونحو ذلك، وهذا النفي بالدخول عند أهل السنة تارة يُراد به نفي الأصل، وتارة يراد به نفي تخليد، وتارة يُراد به نفي الأولوية، ففي النفي في هذا الحديث المراد به نفي الأصل (لا يدخل أحد النار بايع تحت الشجرة) يعني لا يدخلها أصلا، وما جاء في النفي بدخول الجنة «لا يدخل الجنة قتاد نمام«، ونحو ذلك، هذا المراد به الدخول الأولي، يعني لا يدخلون أولا بل يتأخرون، ويقابل هذا النفي التحريم في النصوص، يَحْرُم على النار، ونحو ذلك في الجنة فإنّه يراد به تارة تحريم الأبدي وتارة تحريم المعقد أو التحريم الأمدي. هذه –يعني الألفاظ- ينبغي أن تفهم على ضوء ما ذكرنا.
(2) يقصد بالمنافقون الذين هذه صفتهم، ملتبسا عليه الأمر، فيكون على ضلال من جهة الباطن ألحقه بالمنافقين. فإنّ طوائف من غلاة الصوفية والإتحادية يقولون نحن في الظاهر متبعون لصاحب الشريعة وفي الباطن مستقلون، كما قاله ابن عربي وغيره قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام لما طاف بالبناء؛ بناء الأنبياء فوجد البناء قد كَمُل وحَسُن إلا موضع لبنة فقال عليه الصلاة والسلام أنا هذه اللبنة التي كمل بها هذا البناء؛ بناء الأنبياء، فقال ابن عربي بعد ذلك: ولا بد لخاتم الأولياء أن يرى نفسه في موضع لبنتين، لبنة ذهب ولبنة فضة، فيكون الظاهر لبنة، ويكون الباطن لبنة، أما اللبنة الظاهرة فتأخذ من صاحب الشريعة، وأما اللبنة الباطنة فيستقي بها من المعدن الذي استقى منه الملك؛ يعني يأخذ من عن الله جل وعلا مباشرة، فإنهم في الباطن هم غير متعبدين بالشرع، في الظاهر متابعون، وهؤلاء هم الذين يدّعون الوَلاية ويدّعون أنهم أولياء، ويغتر الناس بهم في كثير من أمصار المسلمين هم غلاة المتصوفة الذين يقولون بأقوال أهل الإتحاد وأشباه ذلك. لهذا تجد عندهم من غرائب الأقوال والأعمال ما يخرجون به عن الشريعة، حتى زعم كثير منهم أنّهم سقطت عنهم التكاليف، وكانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام كالخضر مع موسى حيث وسعه الخروج عن شريعة موسى، وهذا كفر وزندقة، وهو نوع من أنواع النفاق. فشيخ الإسلام يريد بالمنافقين في هذا الكلام هذه الطائفة التي كانت منتشرة وهي موجودة إلى يومنا هذا.(52/14)
أو هم أعرف بها منه، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته، (1) وقد يقول بعض هؤلاء أن أهل الصُّفَّة كانوا مستغنين عنه ولم يرسل إليهم، ومنهم من يقول أن الله أوحى إلى أهل الصُّفَّة في الباطن ما أوحى إليه ليلة المعراج فصار أهل الصفة بمنزلته، وهؤلاء من فرط جهلهم لا يعلمون أن الاسراء كان بمكة كما قال تعالى ?سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ?[الإسراء:1]. وأن الصفة لم تكن إلا بالمدينة، وكانت صفة في شمالي مسجده صلى الله عليه وسلم ينزل بها الغرباء الذين ليس لهم أهل وأصحاب ينزلون عندهم، فإن المؤمنين كانوا يهاجرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فمن أمكنه أن ينزل في مكان نزل به، ومن تعذّر ذلك عليه نزل في المسجد إلى أن يتيسر له مكان ينتقل إليه، ولم يكن أهل الصفة ناسا بأعيانهم يلازمون الصفة بل كانوا يَقِلُّون تارة ويكثرون أخرى، ويقيم الرجل بها زمانا ثم ينتقل منها، والذين ينزلون بها هم من جنس سائر المسلمين ليس لهم مزيّة في علم ولا دين بل فيهم من إرتد عن الإسلام وقتله النبي صلى الله عليه وسلم كالعُرَنِيِّين الذين اجتووا المدينة أي استوخموها، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح أي إبل لها لبن وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأتى بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسُمِرَت أعينهم وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، وحديثهم في الصحيحين من حديث أنس وفيه أنهم نزلوا الصفة فكان ينزلها مثل هؤلاء، ونزلها من خيار المسلمين سعد بن أبي وقاص وهو أفضل من نزل بالصفة، ثم انتقل
__________
(1) كل واحدة من هذه هو قول لفرقة، كل وصف من هذه قول لفرقة من الفرق، هي ليست من باب الإستطراد بل كل واحدة قول لطائفة، نسأل الله العافية والسلامة.(52/15)
منها ونزلها أبو هريرة وغيره، وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي تاريخ من نزل الصفة.
وأما الأنصار فلم يكونوا من أهل الصفة وكذلك أكابر المهاجرين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن ابن عوف وأبي عبيدة وغيرهم لم يكونوا من أهل الصفة. وقد روى أنه بها غلام للمغيرة بن شعبة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا واحد من السبعة. وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم وإن كان قد رواه أبو نعيم في الحِلْيَة، وكذا كل حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة الأولياء والأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد والأقطاب مثل أربعة أو سبعة أو انثي عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شيءصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ الأبدال، وروى فيهم حديث أنهم أربعون رجلا وانهم بالشام وهو في المسند من حديث علي كرم الله وجهه وهو حديث منقطع ليس بثابت ومعلوم أن عليا ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر علي. وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق» وهؤلاء المارقون هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لما حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة علي فقتلهم علي بن أبي طالب وأصحابُه، فدل هذا الحديث الصحيح على أن علي بن أبي طالب أولى بالحق من معاوية وأصحابه، وكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما. وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنشد منشد:
قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقِ
إلا الحبيب الذي شُغفت به فعنده رقيتي وترياقي(52/16)
وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبه، فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وأكذب منه ما يرويه بعضهم أنه مزق ثوبه، وأن جبريل أخذ قطعة منه فعلقها على العرش، فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أظهر الأحايث كذبا عليه صلى الله عليه وسلم. وكذلك ما يروونه عن عمر رضي الله عنه أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجي، وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. والمقصود هنا أنه فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر ومن يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك فيكون منافقا وهو يدَّعي في نفسه وأمثاله أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، إما عنادا، وإما جهلا، كما أن كثيرا من النصارى واليهود يعتقدون أنهم أولياء الله، وأن محمدا رسول الله، لكن يقولون إنما أرسل إلى غير أهل الكتاب، وأنه لا يجب علينا إتباعه لأنه أرسل إلينا رسلا قبله فهؤلاء كلهم كفار مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله، وإنما أولياء الله الذين وصفهم الله تعالى بوَلايته بقوله?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]، ولابد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، (1)
__________
(1) هذا الكتاب هو كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان والله جل وعلا فرق بين هؤلاء وهؤلاء؛ فوصف أولياء الرحمن ووصف أولياء الشيطان، وما ذكره المصنف في هذا المقطع الذي قرأنا فيه بيان أنّ الكفار من أولياء الشيطان، وأنّ المنافقين في هذه الأمة نظروا إلى الوَلاية؛ ولاية.....-الشريط مقطوع-....... وما يحصل لهم من أشياء يعجز عنها من حولهم حتى زعموا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن مختصا بهذا العِلم الذي جاء، بل من الصحابة من كانوا في منزلته في العلم بل هناك بعضهم من هو أرفع منه، كما يقوله طائفة، فزعموا أنّ العلوم الخاصة غير العلوم العامة وأن هناك العلوم الباطنة جعلها الله سبحانه الفقراء، ولهذا مثّل بأهل الصفة والمقصود بالتمثيل بالفقراء، والاعتقاد بالفقراء، وهذا كثير في البلاد الإسلامية فيظنون ملازمة الولاية للفقر، وأنّ الولي لابد أن يكون فقيرا متنكبا عن الدنيا، وهذا باطل بل سادة أولياء الله جل وعلا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلمالعشرة المبشرون بالجنة في مجلس واحد، ومنهم أبو بكر رضي الله عنه وكان غنيا, وعمر رضي الله عنه وكان غنيا, ومنهم عثمان وكان غنيا, ومنهم عبد الرحمن بن عوف وكان غنيا، ومنهم سعد وكان غنيا.
فوصف الغنى والفقر ليس من الأوصاف التي يكشف بها الولي، فمن ظن أن وَلاية أهل الصفة كانت من جراء كونهم فقراء فقط، فهذا ليس بصحيح، بل الوَلاية كما قال الله جل وعلا ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]، فالولي هو كل مؤمن تقي وليس بنبي، وليس من أوصافه أن يكون فقيرا أو أن يكون من حاله كذا وكذا، في أمر دنياه، بل الولاية راجعة إلى أمر الدين إلى أمر اتباع الشريعة، وأولياء الله جل وعلا ليس لهم علوم خاصة بل علومهم تابعة للشرع تابعة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فليسوا محدَّثين بأشياء ليست عند النبي عليه الصلاة والسلام، بل علمهم منُوط بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذهب بعض المتأخرون من الجهال أنّ هناك من أولياء الله من يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملَك مباشرة، يقولون: الولي يأخذ عن الله مباشرة أما النبي صلى الله عليه وسلم فيأخذ عن الله جل وعلا بواسطة جبريل. كما ذكر ابن عربي وكما ذكر غيرُه قال: الولي ياخذ من المعدن الذي أخذ منه المعدن مباشرة. يعني فلا يحتاج إلى واسطة، ففضُل بهذا عن النبي، وقالوا الولي يمكن أن يخرج عن شريعة النبي لأنه في الظاهر متبع للنبي، لكنه في الباطن يتلقى تلقيا خاصا، ولهذا زعموا بأن هناك من تسقط عنه التكاليف، وأنّ هناك من يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسِع الخضر الخروج عن شريعة موسى.
وهذا الإعتقاد في جهّال المسلمين من قديم، وفي زمن الدعوة كان هذا موجودا في نجد؛ الاعتقاد في الصوفية وفي الفقراء وربما أنهم فعلوا أشياء خارجة عن الشريعة ويبقون على وَلاتهم، كما ذكر الشيخ رحمه الله في النواقض –نواقض الإسلام- أن من النواقض أن أحدا من الخلق يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى. هؤلاء الجهال يعتقدون في المجانين و يعتقدون في الفقراء و يعتقدون في الشياطين، وربما جعلوهم أقطابا أو جعلوهم أوتادا أو جعلوهم أبدالا أو جعلوهم نجباء إلى آخره، فتجدهم يقولون مثلا الغوث الأكبر واحد، وكل غوث له أقطاب أربعة في الأرض، لكلّ واحد منهم قسم من الأرض، ولكل واحد من هذه الأربعة سبعة، ولكل واحد من هذه السبعة أربعون، فلن تصل إلى الغوث إلا عن هذه الطريقة. وصنفت المصنفات في ذلك في ذكر الأربعين ولي في مصر، أو الأربعين وتد في المغرب، هذه مصنفات موجودة، عندهم أن الأربعين هؤلاء يرفعون إلى السبعة، والسبعة يرفعون إلى الأربعة، والأربعة يرفعون إلى الغوث، والغوث يطلب من الله جل جلاله، فهؤلاء إذا تأملت أسماءهم وتراجمهم وهي موجودة وجدت أنه كما ذكر شيخ الإسلام أنهم من المنافقين، أو من المجانين، فلا يصح أن يكونوا أولياء فضلا أن يكونوا من سادة الأولياء أو من المقدمين. وهذه الألفاظ أقطاب، أبدال، نجباء إلى آخره، الغوث، كلها لم ترد في الكتاب والسنة، وإنما جاء لفظ الأبدال في بعض الأحاديث، وإنْ كان في إسنادها شيء، ومن حسنها فالمعنى واضح؛ فإنّ الأبدال هم الذين يأتي طائفة منهم بدل من قبلكم أبدال بمعني أنهم يبدلون بغيرهم ويبدل غيرهم بهم، وهذا كما قال عليه الصلاة والسلام «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله». نكتفي بهذا القدْر وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.(52/17)
ويؤمن بكل رسول أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله كما قال تعالى ?قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136)فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ?[البقرة:136-137]، وقال تعالى ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ?[البقرة:285]إلى آخر السورة، وقال في أول السورة ?الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?[البقرة:1-4]، (1)
__________
(1) هذا الكتاب هو الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وذكرنا لكم أن تعريف الولي عندنا أنه كل مؤمن تقي ليس بنبي، فلا بد في الولي أن يكون مؤمنا، ولا بد أن يكون تقيا لإطلاق خصوص الولي عليه، وذكرنا الإيمان يتبعض وأن التقوى تتبعض، وبالتالي يكون ما ينتج منهما وهو الوَلاية تتبعض، فيكون الأولياء ليسوا على مرتبة واحدة، وذلك كما قال جل وعلا ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ?[المائدة:55-56]، فلكل مؤمن وَلاية بحسبه، لكن اسم الولي هذا خاص بمن كمّل الإيمان والتقوى، يعني سعى في تكميل إيمانه وتقواه والإيمان؛ إيمان بالأركان الستة التي جاءت في هذه الآيات وفي حديث جبريل وغيرها، ومنها الإيمان بالرسل، والإيمان بالكتب، ومن الإيمان بالرسل والإيمان بالكتب بل هو أخصها الإيمان بأنّ محمدا بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنّ القرآن خاتم الكتب، وأنّ طاعة محمد بن عبد الله فرض وليس لأحد أن يخرج عن طاعته، هذا كل السياق من شيخ الإسلام ليبين أن قول حزب الشيطان في عصره وما بعده، أنّ هناك أولياء لا يخضعون لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم باطنا وإنْ خضعوا لها ظاهرا بحكمهم من الأمة بأن هذا باطل، كما ادعى طائفة أن الولي له ظاهر وباطن، وظاهره متابع لشريعة النبي الذي أُرسل إليه، وباطنه يتلقى من مشكاة الوحي الذي تلقى منها ذاك النبي، وقد يَفْضُل عليه إلى آخر ذلك، فهذا السياق لتقرير أن الولي مؤمن بأركان الإيمان.(52/18)
فلابد في الإيمان من اأن تؤمن أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده، وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين، ومن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن كما قال الله تعالى ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا(150)أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(151)وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?[النساء:150-152]، (1)
__________
(1) الكفر هنا في قوله (من آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض) وكذلك في الآية ?نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ?[النساء:150]، الكفر هذا قسمان:
القسم الأول: كفر التكذيب وهو أن يكذبوا بالكتاب أو برسالة الرسول، يقولون فلان رسول، وفلان ليس برسول، نكذّب برسالة فلان ولا نقر له بالرسالة، تكذيبا له فيما جاء به، وفُلان هذا من عباد الله هذا رسول، فهذا تكذيب برسالة بعض، وإقرار برسالة بعض، ومن كذب فقد كفر، ومن صدق فهو مؤمن.
القسم الثاني: كفر من جهة الإيباء والإستكبار والإمتناع؛ بمعنى أنه أبى أنْ يتّبع ذلك الرسول، أبى أن يكون ملتزما بشريعة ذلك الرسول بل يقول أنا أومن بالرسول وأتبع شريعة فلان ولا أتبع شريعة الآخر، وهذا من جهة الإحتجاج على اليهود.
والواجب على عباد الله أن يكونوا مؤمنين بالرسل جميعا مصدقين، وأنْ يكونوا منْقادين طائعين لما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به القرآن لأنه خاتم الكتب لأن محمدا عليه الصلاة والسلام خاتم الرسل.
فإذن يكون الإيمان على درجتين كل منهما فرض لا يتم الإيمان إلا بهما جميعا، الإيمان بمعنى التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الإيمان بمعنى الإلتزام بما جاء به وعدم الإمتناع عما جاء به فمن كذب فقد كفر، ومن أبى واستكبر فهو كافر.(52/19)
ومن الإيمان به الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده وحلاله وحرامه، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر من أولياء الشيطان.
وأما خلق الله تعالى للخلق ورَزْقُه(1)إياهم وإجابته لدعائهم وهدايته لقلوبهم ونصرهم على أعدائهم وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار فهذا لله وحده يفعله بما يشاء من الأسباب لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل. ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن، ولا ولي لله تعالى كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعُبَّادهم، وكذلك المنتسبون إلى العلم والعبادة من المشركين؛ مشركي العرب والترك والهند وغيرهم ممن كان من حكماء الهند والترك وله علم أو زهد وعبادة في دينه، وليس مؤمنا بجميع ما جاء به محمد فهو كافر عدو لله، وإن ظن طائفة أنه ولي لله، كما كان حكماء الفرس من المجوس كفارا مجوسا، وكذلك حكماء اليونان مثل أرسطو وأمثاله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب، وكان أرسطو قبل المسيح عليه السلام بثلاثمائة سنة، وكان وزيرا للإسكندر بن فيلبس المقدوني، وهو الذي يؤرخ له تواريخ الروم واليونان وتؤرخ به اليهود والنصارى، وليس هذا هو ذو القرنين الذي ذكره الله في كتابه كما يظن بعض الناس أن ارسطو كان وزيرا لذي القرنين لما رأوا أن ذاك اسمه الإسكندر وهذا قد يسمى بالإسكندر ظنوا أن هذا ذاك كما يظنه ابن سينا وطائفة معه، وليس الأمر كذلك بل هذا
__________
(1) الرَّزق بالفتح، المصدر بالفتح، الرِّزق هو الشيء المرزوق، رَزَقَ الله عبدا رَزْقا، فذاك الشيء هو الرِّزق، وأما المصدر فهو الرَّزق. الخَلق والرَّزق والإحياء والإماتة والبَرّ إلى آخره.(52/20)
الإسكندر المشرك الذي قد كان أرسطو وزيره، متأخر عن ذاك ولم يبن هذا السُّور ولا وصل إلى بلاد يأجوج ومأجوج وهذا الإسكندر الذي كان أرسطو من وزرائه يؤرخ له تاريخ الروم المعروف وفي أصناف المشركين من مشركي العرب ومشركي الهند والترك واليونان وغيرهم من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة ولكن ليس بمتبع للرسل ولا يؤمن بما جاءوا به ولا يصدقهم بما أخبروا به ولا يطيعهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين ولا أولياء الله وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتَنَزَّل عليهم فيكاشفون الناس ببعض الأمور ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين قال الله تعالى ?هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222)يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ?[الشعراء:221-223]، وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات، إذْ لم يكونوا متبعين الرسل فلابد أن يكذبوا وتُكَذِبُهم شياطينهم، ولابد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، (1)
__________
(1) هذا الكلام يريد به شيخ الإسلام رحمه الله بيان أنّ الطوائف من المسلمين الذين إدَّعَوا الولاية، أُدعي فيهم أنهم أولياء وعُظِّموا بسبب ذلك، هؤلاء، وإنْ كان سبب وَلايتهم أنهم متبعون للرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا مؤمنون به يحكمون لشريعته في أنفسهم، هذا ظاهر لأنهم من أولياء الله، وأما إنْ كان سبب إطلاق الولاية عليه بهم أنهم زهاد عباد وأنهم متنزهون عن كثير من الدنيا، وأنهم مقبلون على أمر آخرتهم، وفيهم مكاشفات وإخبار بغيبيات، ويحصل لهم خوارق عادات، فإنَّ هذا القدْر يحصل أيضا لكثير من المتزهدة ومن له بعض فلسفة وعلم من الذين داووا نفوسهم وباطنهم من غير هذه الأمة، فذكر أمثلة من التُّرك يعني الروس الآن وإلى تركستان وما حولها، ومن الهند ومن خراسان، وكذلك من اليونان، هؤلاء فيهم أناس نُقل من نَقل المستفيض أنه يحصلهم خوارق عادات، وأن عندهم زهد وعبادة إلى آخره، فإن كان-شيخ الإسلام كأنه يتنزل ويناظر- مدار الوَلاية وإطلاق اسم الولي على من عنده زهد وعبادة أوخوارق عادات فأولئك أيضا كذلك، لكن هم كفار بالإجماع؛ لأن متعبدة اليهود، زهاد النصارى قد يكون لهم بكاء من خشية الله وقد يكون عندهم خوارق عادات، وكذلك زهاد ومتعبدة الهند والترك والفرس واليونان إلى آخره هؤلاء كفار بالإجماع؛ لأنهم لم يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا مسلمين ظاهرا وباطنا. فإذن ما الفرق في الحال بين هؤلاء الذين أُدعي فيهم الولاية وادعوا الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأولئك؟ فإذا قيل إن عندهم خوارق عادات، فنقول إن خوارق العادة ليس هو الكرامة، فالذي يؤتي الله جل وعلا الأولياء هي الكرامات، وأما الخوارق فإنها تجري للسحرة، وتجري للكهنة، وتجري للشياطين وغير ذلك، فحصول الخارق للعادة ليس برهانا على أنّ من حصل له ولي من أولياء الله، خارق للعادة مثل يخبرك بها في نفسك، مثل أن يجري شيئا غريبا، مثل أن ينتقل من مكان إلى مكان بسرعة عجيبة، مثل أن يَحْضُر شيء من الأطعمة ليست في أوانها.[انتهى الشريط الأول] إلى آخره
هذه نحصل للسحرة وتحصل للكهنة وتحصل للمشعوذين فالخارق للعادة أمر يشترك بين الأنبياء والرسل، وما بين الأولياء وما بين المشعوذون والكهنة والسحرة والبطّالون:
فإن كان الخارق للعادة أوتي نبيا فيُسمى آية وبرهانا.
وإن كان الخارق للعادة أوتي عبدا صالحا تبعا لنبي فيسمى كرامة للوليِّ.
وإن كان الخارق للعادة أوتي مستكبرا على الأنبياء أو مبتدعا أو فاجرا أو كافرا فإنّه يُسمى مخاريق شيطانية أو من مساعدة الشياطين.
فإذن ليس العبرة في خرق العادة. ولهذا تعرّف الكرامة التي تكون للأولياء بأن الكرامة أمر خارق للعادة يرى على يدي ولي، وآية النبي أمر خارق لعادة الجن والإنس، يرى على يدي نبي، والعادة التي تُخرق لفظها غير منضبط؛ لأنهم قالوا خارق للعادة. العادة هذه عادة من؟ هذا الوصف غير منضبط لأنه خارق للعادة ، لهذا عند التحقيق يكون ثَم تفصيل:
فالعادة التي تُخرق للرسل والأنبياء آية وبرهان، فتكون العادة هي عادة الجن والإنس عادة الثقلين، قد دل على هذا قوله تعالى?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?[الإسراء:88].
وأما الكرامة فهي خارق لعادة الإنس الذين فيهم ذلك الولي، قد يكون في مكان آخر لا تخرق العادة، لكنه يكرم بهذا مثل طعام يؤتاه في فصل الصيف وهو من طعام الشتاء، في مكان أخر من الأرض يكون ثَم شتاء في وقت هذا الصيف فيكون طعامهم طعام الشتاء، فيكون إذن العادة في حق الولي عادة الإنس الذين فيهم ذلك الولي، وقد يكون الإنس بعامة مثل المشي على الماء، أو الطيران في الهواء أو إلى آخره، لكن هذا يختلف باختلاف الأزمنة، فمثلا إذا مشى على الماء؛ الماء صار له يابسا ومشى عليه، اليوم ممكن أنه يقوم ببعض المعالجات الماء يكون يابس ويُمشي عليه، كذلك الطيران في الهواء كرامة، اليوم اختلف الوضع صار البر والفاجر يطير في الهواء بوسائل أحدثت، فإذن خرق العادة بالنسبة للولي قيده أن تكون عادة الناس في زمنه، أو عادة جنسه الذين يعيش فيهم.
أما خرق العادة بالنسبة الشياطين: الكهنة والسحرة فهم يأتون بأمور خارقة للعادة ولكنها عادة من ليس منهم، فالساحر يخرِق عادة من ليس بساحر، والكاهن يخرق عادة من ليس بكاهن.
المقصود من هذا بيان التفصيل في هذه الكلمة المجملة وهي خرق العادة، وأنّ ما آتاه الله جل وعلا للأنبياء والرسل خوارق للعادات، ولكن عادة كذا وكذا، وما آتاه الله جل وعلا الأولياء خارق للعادة من الكرامات ولكن عادة كذا وكذا، وأما مخاريق السحرة والكهنة فهي خارق للعادة من ليس من السحرة والكهنة، ولهذا لما أتى الله جل وعلا بآية موسى بطَلَت مكايد السحرة وما فعلوا؛ لأن ذلك الذي أعطاه جل وعلا موسى فوق ما تخرق الشياطين وتخبر به الجن أو يفعله السحرة والكهنة.
كل هذا لأجل تقرير الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، إذن كون الشيء يحصل خارقا للعادة المعتادة لا يدلّ على أن من حصل له وليا، يخبر بما في نفسه أو يخبر بأمر غائب، أو يأتيه شيء غريب في وقت غريب، أو يحصل له نوع أشياء وانتقالات، أو يسّر له أمور ونحو ذلك لا يدل على أنه ولي حتى يكون مؤمنا تقيا، لأن الخوارق قد تحصل من جهة الشياطين وحزبه. في هذا القدْر كفاية وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(52/21)
قال الله تعالى ?وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ?[الزخرف:36]، وذِكر الرحمن هو الذِّكر الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم مثل القرآن فمن لم يؤمن بالقرآن ويصدق خبره ويعتقد وجوب أمره فقد أعرض عنه فيقيض له الشيطان فيقترن به قال تعالى ?وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ?[الأنبياء:50]، وقال تعالى ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) (1)قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى?[طه:124-126]، فدل ذلك على أن ذكره هو آياته التي أنزلها، ولهذا لو ذكر الرجل الله سبحانه وتعالى دائما ليلا ونهارا مع غاية الزهد، وعَبَدَه مجتهدا في عبادته، ولم يكن متبعا لذكره الذي أنزله وهو القرآن كان من أولياء الشيطان، ولو طار في الهواء أو مشى على الماء فإن الشيطان يحمله في الهواء، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
فصل
__________
(1) صلة لما سبق من أن أولياء الله جل جلاله أهل الإيمان والتُّقى والطاعة، فلا يوصفون إلا بمتابعة الكتاب والسنة والإيمان والتقوى، وليسوا بمعرِضين عن ذكر الله بل مقبلون عليه، والذي لا يقرأ القرآن ولا يتبع ما فيه ولا يستن بسنة النبي العدنان بل يخالفها بأقواله وأعماله وعلمه، فإنّ هذا ليس من أولياء الله، بل أولياء الله جل وعلا هم المؤمنون المتقون. فهذا تتمة لما سلف الكلام عليه من وصف أولياء الله بأنّهم أهل ذكر الله وأهل طاعته وتقواه(52/22)
ومن الناس من يكون فيه إيمان وفيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أربعٌ مَنْ كُنّ فيهِ كان مُنافِقاً خالصاً, وَمَنْ كانتْ فيهِ خَصْلةٌ مِنهنّ كانتْ فيهِ خَصْلةٌ مِنَ النفاقِ حتى يَدَعَها: إذا حدّثَ كَذَبَ, وإذا وعد أخلف، وإذا ائْتُمِنَ خان, وإذا عاهَدَ غدرَ».(1)
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان فيه خصلة من هذه الخصال ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها.
وقد ثبت في الصحيحين أنه قال لأبي ذر وهو من خيار المؤمنين «إنك إمرؤ فيك جاهلية» فقال: يا رسول الله أعلى كبر سني قال «نعم».
__________
(1) المقصود بـ (الخصلة)أن يكون يغلب على أمره ذلك، أما من حصل منه مرة كذب في الحديث، أو خيانة في الأمانة، أو إخلاف للوعد، فلا يقول فيه لهذا شعبة من شعب النفاق، بل يكون عنده معصية فالشعبة من شعب النفاق تكون لمن كان على ذلك مستمرًّا، كان إذا حدّث كذبّ يكذب في الحديث دائما، أو يغلب عليه الكذب، معروف بالكذب في الحديث، فهذا هو الذي يكون فيه خصلة من النفاق، وكذلك إذا عاهد غدر أو إذا أئتمن خان أو إذا خاصم فجر، أما حصول ذلك على جهة القلّة ليس هذا دليلا على شعب النفاق في من كانت فيه. وقوله «إذا وعد أخلف» يعني إذا أعطى الوعد ناويا به الإخلاف، أما إذا وعد على رجاء الوفاء ثم حصل منه الإخلاف فإنّ هذا غير مراد هنا، كما هو مبسوط في مكانه في الشروح.(52/23)
وثبت في الصحيح عنه أنه قال «أربع في أمتى من أمر الجاهلية الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت والاستسقاء بالنجوم».(1)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال«آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان». وفي صحيح مسلم «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».
__________
(1) الفخر بالأحساب بقصد الترفع على القبائل الأخرى، يفخر بحسَبه لإظهار فضله على غيره، أما الفخر في الحسب لإظهار حسبه وأنّه أصيل ونحو ذلك، دون ترفع على غيره، ليس هذا بمراد هنا لأنه ليس أمر الجاهلية. كذلك الطعن في النسب المقصود منه طعن في الأنساب بغير دليل، أو لازدراء الناس ونحو ذلك والقاعدة الشرعية أن الناس مؤتمنون على أنسابهم، لكن من ادعى نسبا وهو فيه كاذب، فتكذيبه فيه بما يُعلم أنّه كاذب فيه ليس طعنا في النسب، وتفصيل شرح هذا الحديث في شروح كتاب التوحيد وفي شروح كتب السنة.(52/24)
وذكر البخارى عن ابن أبي مليكة قال أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه وقد قال الله تعالى?وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ(166)وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أو ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ?[آل عمران:166-167]، فقد جعل هؤلاء إلى الكفر أقرب منهم للإيمان فعلم أنهم مخلطون وكفرهم أقوى، وغيرهم يكون مخلطا وإيمانه أقوى، وإذا كان أولياء الله هم المؤمنين المتقين(1)
__________
(1) المؤمنين المتقين خبر كان، (وإذا كان أولياء الله هم) هم: ضمير فصل لا محل له من الإعراب، ليس مبتدأ وما بعده خبر، وما بعده خبر كان، كقوله جل وعلا ? الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمْ الْخَاسِرِينَ?[الأعراف:92] أو في قوله في سورة الأنفال ? وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ?[الأتفال:32] ضمير الفصل (هُوَ)وأشباهه، إذا يأتي بين المبتدأ والخبر في اسم كان وخبرها أو في اسم إنّ وخبرها أو غير ذلك يراد به الفصل بين المبتدأ والخبر حتى لا يشابه الصفات؛ حتى لا يتشابه الخبر بالنعت، لأنه بدون(هم) تقرأها هكذا (وإذا كان أولياءُ الله المؤمنين المتقين) يشتبه، تقول (أولياء الله المؤمنون المتقون) مبتدأ وخبر يشتبه، هل المؤمنون المتقون نعت، اخبر لم يأتِ، أو أنها خبر، (أولياء الله المؤمنون المتقون لهم الجنة) يُشكل، لكن إذا قلت (أولياء الله هم المؤمنون المتقون) ظهر بظهير الفصل لأنك فصلت الخبر والمبتدأ بهم لئلا يشتبه الخبر بأنه نعت للمبتدأ، وهذا على طريقة عامة النحاة، وإن كان سيبويه أجاز على لغة بعض العرب أن يكون الضمير هذا ضمير الفصل مبتدأ وما بعده خبرا للمبتدأ، وعليها بعض القراءات في بعض الآيات.(52/25)
فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيمانا وتقوى كان أكمل وَلاية لله، فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسَب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق، قال الله تعالى ?وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124)وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ?[التوبة:124-125]، وقال تعالى?إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ?[التوبة:37]، وقال تعالى?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ?[محمد:17]، وقال تعالى في المنافقين?فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا?[البقرة:10].(52/26)
فبين سبحانه وتعالى أن الشخص الواحد قد يكون فيه قسط من ولاية الله بحسب إيمانه، وقد يكون فيه قسط من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه، وقال تعالى?وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا?[المدثر:31]، وقال تعالى?لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ?[الفتح:4]. (1)
فصل
__________
(1) هذا الفصل لبيان أن الوَلاية ليست على مرتبة واحدة، وأنّ الأولياء متفاوتون، وذاك لأنّ شرطي الوَلاية الإيمان والتقوى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]، ومن المتقرر أنّ الإيمان في أهله متفاضل، وأنّ التقوى في أهلها متفاضلة، فنتج من ذلك أن ما ترتب منهما وهي الوَلاية تتفاضل؛ لأنّ الإيمان متفاضل والتقوى متفاضلة، فالوَلاية متفاضلة، فالولي قد يكون عنده بعض نقص، في الإيمان والتقوى، ولكن هو له نصيب من وَلاية الله جل وعلا لما معهم من الإيمان والتقوى، لهذا نقول كل مؤمن له نصيب من الوَلاية وليس كل مسلم، لكن كل مؤمن عنده إيمان له نصيب من ولاية الله جل وعلا، وهؤلاء يتفاوتون، ومَنْ وصل إلى مرتبة الإيمان فهو من أولياء الله إذا كان من المتقين، لكن درجته فيه مختلفة، وسبب نقص الإيمان أو نقص التقوى في الولي ليس هو ارتكاب المعاصي، وإنما هو إما من جهة الإقتصاد، وإما من جهة أنّه لم يسابق في الخيرات.
فإذن الأولياء ليسوا بظالمي أنفسهم، وإنما هم من المؤمنين المتقين، والمتقي أقلّ درجاته أن يكون تاركا للمحرمات ممتثلا للواجبات، وأكمل درجات هؤلاء أن يكون مسابقا في الخيرات، لهذا يأتيك في الفصل الذي بعده أنّ الأولياء على قسمين مقتصدون وسابقون.(52/27)
وأولياء الله على طبقتين، سابقون مقربون وأصحاب يمين مقتصدون، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وآخرها، وفي سورة الإنسان، والمطففين، وفي سورة فاطر، فإنه سبحانه وتعالى ذكر في الواقعة القيامة الكبرى في أولها، وذكر القيامة الصغرى في آخرها فقال في أولها ?إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)إِذَا رُجَّتْ الْأَرْضُ رَجًّا(4)وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا(5)فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا(6)وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً(7)فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ(8)وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ(9)وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10)أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(12)ثُلَّةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ(13) وَقَلِيلٌ مِنْ الْآخِرِينَ?[الواقعة:1-14]، فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين، كما وصف الله سبحانه ذلك في كتابه في غير موضع ثم قال تعالى في آخر السورة ?فَلَوْلَا? أي فهَلَّا ?إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ(83)وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ(84)وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ(85)فَلَوْلَا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ(86)تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(87)فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ(88)فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ(89)وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ(90)فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ(91)وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ(92)فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ(93)وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ(94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ(95)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ?[الواقعة:83-96]، وقال تعالى في سورة الإنسان ?إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا(52/28)
شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلًا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا(4)إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا(5)عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا(6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا(7)وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا(8)إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9)إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا(10)فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا(11)وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا?[الإنسان:3-12]الآيات، وكذلك ذكر في سورة المطففين فقال?كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ? إلى أن قال ?كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ(18)وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ(19)كِتَابٌ مَرْقُومٌ(20)يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ(21)إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(22)عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ(23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ(24)يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ(25)خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ(26)وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ(27)عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ?[المطففين:18-28].(52/29)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف قالوا يمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشرب بها المقربون صرفا، وهو كما قالوا فإن الله تعالى قال (يَشْرَبُ بِهَا) ولم يقل يشرب منها لأنه ضمَّن ذلك قوله (يَشْرَبُ) يعنى يروى بها فإن الشارب قد يشرب ولا يروى. فإذا قيل يشربون منها لم يدل على الري فإذا قيل يشربون بها كان المعني يروون بها، فالمقربون يروون بها فلا يحتاجون معها إلى مادونها، فلهذا يشربون منها صرفا، بخلاف أصحاب اليمين فإنها مزجت لهم مزجا وهو كما قال تعالى في سورة الانسان?كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا(5)عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا?الإنسان:5-6]، فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَفّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدّنْيَا, نَفّسَ اللّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ يَسّرَ عَلَىَ مُعْسِرٍ, يَسّرَ اللّهُ عَلَيْهِ فِي الدّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً, سَتَرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَاللّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً, سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إلى الْجَنّةِ. وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللّهِ, يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ, وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ, إِلاّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السّكِينَةُ, وَغَشِيَتْهُمُ الرّحْمَةُ وَحَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ, وَذَكَرَهُمُ اللّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. وَمَنْ أَبَطأَ بِهِ عَمَلُهُ, لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» رواه مسلم في صحيحه.(52/30)
وقال صلى الله عليه وسلم «الرّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرّحْمَنُ. ارْحَمُوا مَنْ في اْلأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السّماءِ» قال الترمذي حديث صحيح.
وفي الحديث الآخر الصحيح الذي في السنن «قال الله تَعالى: أَنَا الرّحْمنُ, خَلَقْتُ الرّحِم وَشَقَقْتُ لَهَا مِنْ اْسِمي, فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ». وقال «ومن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله» ومثل هذا كثير. وأولياء الله تعالى على نوعين: مقربون وأصحاب يمين كما تقدم.(52/31)
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عمل القسمين في حديث الأولياء فقال «يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها». فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض يفعلون ما أوجب الله عليهم ويتركون ما حرم الله عليهم ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات ولا الكف عن فضول المباحات. وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبًّا تاما. كما قال تعالى ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ يعني الحب المطلق(1) كقوله تعالى ?اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ?[الفاتحة:6-7]، أي أنعم عليهم الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى ?وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا?[النساء:69]، فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله عز وجل فكانت أعمالهم كلها عبادات لله، فشربوا صرفا، كما عملوا له صرفا، والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم فلا يعاقبون عليه ولا يثابون
__________
(1) الحب المطلق يعني الكامل، كنظائره: الإيمان المطلق يعني الكامل، الهداية المطلقة يعني الكاملة، الكفر المطلق يعني الكامل، بخلاف مطلق الحب يعني أصلَه، مطلق الإيمان يعني أصله، مطلق الهداية يعني أصلها، مطلق الكفر يعني أصل الكفر، وكل هذه قد تكون أقل الدرجات.(52/32)
عليه فلم يشربوا صرفا بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا.
ونظير هذا إنقسام الانبياء عليهم السلام إلى عبدٍ رسولٍ ونبيِ ملك، وقد خير الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبدا رسولا وبين أن يكون نبيا ملكا، فاختار أن يكون عبدا رسولا؛ فالنبي الملك مثل داود وسليمان ونحوهما عليهما الصلاة والسلام، قال الله تعالى في قصة سليمان الذي قال ?قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(37)وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ(38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أو أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ?[ص:35-39] أي إعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك. فالنبي الملك يفعل ما فرض الله عليه ويترك ما حرم الله عليه ويتصرف في الولاية والمال بما يحبه ويختار من غير إثم عليه.
وأما العبد الرسول فلا يعطي أحدا إلا بأمر ربه ولا يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، بل يعطي من أمره ربه بإعطائه، ويولي من أمره ربه بتوليته، فأعماله كلها عبادات لله تعالى كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت» ولهذا يضيف الله الأموال الشرعية إلى الله والرسول كقوله تعالى ?قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ?[الأنفال:1]، وقوله تعالى ?مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ?[الحشر:7]، وقوله تعالى ?وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ?[الأنفال:41].(52/33)
ولهذا كان أظهر أقوال العلماء أن هذه الاموال تصرف فيما يحبه الله ورسوله بحسب اجتهاد ولي الأمر كما هو مذهب مالك وغيره من السلف. ويذكر هذا رواية عن أحمد، وقد قيل في الخمس أنه يقسم عل خمسة كقول الشافعي وأحمد في المعروف عنه، وقيل على ثلاثة كقول أبي حنيفة رحمه الله، والمقصود هنا أن العبد الرسول هو أفضل من النبي الملك كما أن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام أفضل من يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، كما أن المقربين السابقين أفضل من الأبرار أصحاب اليمين الذين ليسوا مقربين سابقين فمن أدى ما أوجب الله عليه وفعل من المباحات ما يحبه فهو من هؤلاء، ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه ويقصد أن يستعين بما أُبيح له على ما أمره الله فهو من أولئك. (1)
__________
(1) هذه مباحث متنوعة لكن يجمعُها أنّ أولياء الله جل وعلا لا يكونون من الظالمين لأنفسهم، بل أولياء الله إمّا مقربون سابقون بالخيرات، وإمّا مقتصدون أصحاب يمين، وأمّا الظالم لنفسه الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا من الأشياء التي لا تكفر مثل يعني الكبائر وأشباه ذلك، فإنّ هذا لا يسمى وليا بالإتفاق، وله نصيب من الوَلاية؛ ولاية الله لعبده بقدر ما عنده من الإيمان، لكن ليس له اسم الولي؛ فالأولياء هم الصالحون من عباد الله القائمون بحقوقه وحقوق عباده إمّا مقتصدون وإما مقربون سابقون بالخيرات، وهؤلاء لهم محبة الله جل وعلا وعوْنه وتوفيقه ومعيته الخاصة، ذَكر أيضا أن هذا نظير امتثال الأنبياء والرّسل إلى عبد رسول وإلى نبي ملِك، فالعبد الرسول كأولي العزم من الرسل، والنبي الملك كيوسف وداوود وسليمان عليهم الصلاة والسلام، ففرّق بينهما:
• لأن النبيّ الملِك يتصرّف في المال باختياره؛ يعني أنه ينظر للمصالح العامة وفيما يراه فيتصرف في المال بما يراه، إذ المال بيده فيتصرف فيه كيف يشاء فيما لم يأتِ فيه أمر أو نهي بخصوصه.
•أما العبد الرسول فإنه قاسم يضع المال حيث أمره الله جل وعلا ولا يجتهد فيه، هذا باعتبار الغالب، وقد يجتهد فيه في بعض الأحوال، كما اجتهد الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض قسمة الفيء فأعطى رجلا واحدا ما بين جبلين من الإبل والماشية، وهكذا.
لهذا اختلف الصحابة رضوان الله عليهم كما ذكر لك أنّ أصح قولي العلماء أن ولي الأمر والإمام يتصرف في المال بما فيه المصلحة الدينية حيث أمر الله جل وعلا، والقول الآخر لأهل العلم أن ولي الأمر يتصرف في المال حيث ينظر هو المصلحة فيه فيما يتعلق لما فيه المصالح والمفاسد من قسمة الفيء ونحو ذلك، ولا يلزم له الرجوع لأهل العلم ولا لما يشاوَر فيه بل بما ينظر فيه، وشيخ الإسلام بسط هذه المسألة طويلا في كتابه منهاج أهل السنة النبوية لمّا ذكر طعن الرافضة في عثمان وأنّه تصرف في الأموال كيف شاء، قال شيخ الإسلام هناك ما حاصله: إنّ أهل العلم في مسألة تصرف الوالي في المال على قولين:
( منهم من يقول يأخذون بما عليه العبد الرسول، فلا يضعون المال إلا فيما أمر الله به في الشرع، وإذا لم يكن ثَم أمر ونهي في خصوصه وتعرضت له المصلحة فإن عليه أن يشاور في وضع المال، وعلى هذا سيرة أبي بكر وعمر فإنهما لم يجتهدا في المال رضي الله عنهما.
( والقول الآخر أنّ ولي الأمر له أن يأخذ بسيرة النبي الملك، فيتصرف في المال كيف شاء بما يراه فيه مصلحة، ولو كان فيه محاباة لبعض أهله وأقاربه. قال: وعلى هذا يخرّج فعل عثمان رضي الله عنه، وفعل معاوية رضي الله عنه؛ وهما عثمان أحد الخلفاء الراشدين ولم يخطئه أحد من أهل السنة في فعله؛ في تصرفه في المال، إنما خطّأه الظلاّل، وذاك معاوية خير ملوك المسلمين وتصرف في المال على هذا النحو.
المقصود من هذا –المسألة تحتاج إلى زيادة تفصيل- لكن التنبيه إلى أصل هذه المسألة حيث أشار شيخ الإسلام هنا بقوله؛ في أصح قولي العلماء أن ولي الأمر يتصرف في المال حيث المصلحة الشرعية فيما يحبه الله ورسوله بحسب إجتهاده. والقول الآخر أن له أن يتصرف حيث يرى هو المصلحة دون الرجوع لأهل العلم إلا فيما فيه أمر ونهي من أداء الزكاة وصرفها في مصارفٍ شرعية أما الفيء الذي يَفِيؤُه الله جل وعلا في الأموال العامة فله أن يجتهد فيها بحسب ما يرى، فهما قولان لأهل العلم، وحبذا مراجعة المسألة في كتاب منهاج أهل السنة فقد بسطها وأجاب عن قول الرافضة والخوارج في طعنهم على عثمان وعلى معاوية رضي الله عنهما في التصرف في المال، وقال إنّ أهل السنة لم يطعن أحد منهم في عثمان لأجل تصرفه في المال من جهة محاباته لأقاربه وتوليته بعض الولايات لذوي رحمه؛ لأنّ هذا راجع إلى تخريج شرعي، وعثمان أجل من أن يظن فيه أنه يسير في ذلك وفق هواه، وإنما يسير في ذلك وفق الإجتهاد الشرعي الذي يراه لكونه نائب في هذا المال عن النبي وله أنْ يُعطي وله أن يمنع بحسب ما يراه، فهما قولان والصحيح ما ذكر هنا منْ أنّ ولي الأمر يتصرف في المال على وفق ما يحبه الله ورسوله...
إذا تقرر هذا فإنّ أولياء الله يوصفون بأنهم متنزهون عن فضول المباحات، وشيخ الإسلام حرّم على المسلم أنْ يأتي كل مباح، سواء كان من مباحات النّظر أم من مباحات السماع أم من مباحات العمل، قال: للمسلم أن يعمل بعض المباحات لكن أنْ يأتي كل مباح دون تنزه عن فضول المباحات، قال هذا لا يجوز، وأخذ هذا من ظاهر قول الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام ?لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى?[طه:131]، وظاهر قوله جل وعلا ?أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا?[الأحقاف:20] فيرى أنّ التمتع بفضول المباحات لا يجوز.
والقول الآخر لأهل العلم أن التمتع بفضول المباحات جائز وهذا هو الظاهر؛ لأن قوله (وَلَا تَمُدَّنَّ) هذا للنبي عليه الصلاة والسلام خاصة، وهذا يدل على تكْميله عليه الصلاة والسلام، وأنْ لا يتعرض إلى ما فيه إنقاص لمرتبته العليا عليه الصلاة والسلام، أما قوله (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا) فهي في الكفار وليست في المسلمين.
فأولياء الله يتنزهون عن فضول المباحات وليس كل مباح يأتونه، بل هناك مباحات لا تناسبهم ولو كانت مباحات في الشرع، ولكن تناسب غيرهم من المسلمين، فالأولياء يتنزهون عن كثير من المباحات، إما من جهة الورع وإما من جهة ترك خوارم المروءة وإما من جهة أشياء قد يراها الولي لا تناسبه، مثاله مثلا كثرة المزاح والضحك بأنْ يغلب هذا على المرء وإنْ كان مباحا إذا لم يكن ينطق بكذب وأشباه هذا، لكن أولياء الله في قلوبهم فإجلال الله وخشيته والرغبة فيما عنده ما يجعلهم لا يُكثرون من هذا، وإنما إن فعلوا فيكون من جهة الإستنباط الوارد عنه الصلاة والسلام، وهذا أصل في أن الأولياء فيما يفعلون من فضول المباحات، يتابعون النبي صلى الله عليه وسلم في أصول ما فعل، فيضحكون بعضا من الوقت لأنه ضحك عليه الصلاة والسلام وتبسم، ويفعلون بعض الأشياء التي فيها ترويح بما لا يكون قادحا وأشباه ذلك بنية الإقتداء ونية العمل، وهذا في بعض المباحات ما في كل المباحات، والولي لا بمد أن يكون متنزها عن فضول المباحات، أمّا الولي لا يتصور فيه من حيث الواقع أنْ يأتي كل مباح، بل الولي من حيث الواقع ومن حيث دِلالة العمل الأول عليه أنّه لابد أن يكون متنزها على مباحات كثيرة لأسباب.
نكتفي بهذا القدر صلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.(52/34)
فصل
وقد ذكر الله تعالى أولياءه المقتصدين والسابقين في سورة فاطر في قوله تعالى ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34)الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ?[فاطر:32-35]، لكن هذه الأصناف الثلاثة في هذه الآية هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة كما قال تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة، وليس ذلك مختصا بحفّاظ القرآن بل كل من آمن بالقرآن فهو من هؤلاء، وقسّمهم إلى ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، بخلاف الآيات التي في الواقعة والمطففين والإنفطار فإنه دخل فيها جميع الأمم المتقدمة كافرهم ومؤمنهم، وهذا التقسيم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالظالم لنفسه أصحاب الذنوب المصرون عليها، والمقتصد المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم، والسابق للخيرات هو المؤدي للفرائض والنوافل، كما في تلك الآيات، (1)
__________
(1) أنّ الأمم التي سبقت أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالمؤمنون فيها قسمان: مقتصدون وظالمون لأنفسهم، أما السابقون بالخيرات في الأمم السالفة هم الأنبياء والرسل، وفي أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ثلّة من الأولين وقليل من الآخرين، فالأمم السالفة قسمان، كما قال جل وعلا في سورة المائدة ? أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ?[المائدة:66] وعلى هذا أكثر أهل التفسير بأن الأمم السالفة تنقسم على ظاهر هذه الآية –يعني من استجاب إلى الرسل- إلى ظالم لنفسه وإلى مقتصد، والسبْق بالخيرات هذا من فضل الله جل وعلا لهذه الأمة.(52/35)
ومن تاب من ذنبه أي ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج بذلك عن السابقين والمقتصدين كما في قوله تعالى ?وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134) وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135)أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ?[آل عمران:133-136]، والمقتصد المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم، والسابق بالخيرات هو المؤدي للفرائض والنوافل كما في تلك الآيات، وقوله ?جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا?(1) مما يستدل به أهل السنة على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد.
__________
(1) الرعد:23، النحل:31، فاطر:33.(52/36)
وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار فهذا مما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تواترت بخروجهم من النار وشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وإخراج من يخرج من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة غيره، (1) فمن قال أن أهل الكبائر مخلدون في النار وتَأَوَّلَ الآية على أن السابقين هم الذين يدخلونها، وأن المقتصد أو الظالم لنفسه لا يدخلها، كما تأوله من المعتزلة، فهو مقابل بتأويل المرجئة الذين لا يقطعون بدخول أحد من أهل الكبائر النار، ويزعمون أن أهل الكبائر قد يدخل جميعهم الجنة من غير عذاب، (2)
__________
(1) هذا كله استطراد البحث كان في الأولياء وأنّ الأولياء قسمان مقتصدون وسابقون بالخيرات، أما الظالم لنفسه فلا يكون وليا وهو المصر على الذنوب، أما المقتصد قد يكون وليا، السابق بالخيرات قد يكون وليا لله جل جلاله، ثم استطرد رحمه الله لذكر الأقسام الثلاثة وماذا يراد بهذه الأقسام وشرح ذلك، لكن أصل الكلام حتى لا يغيب عنك الكلام في أنّ الأولياء قسمان: صفة الولي أن يكون أما مقتصدا أو يكون سابقا بالخيرات، مع أن الجميع مع الظالم لنفسه موعود بالجنة بفضل الله وكرمه.
(2) لاحظ هنا قوله (أن أهل الكبائر قد يدخل جميعهم الجنة من غير عذاب) هذا قول المرجئة، وأهل السنة يقولون "أهل الكبائر قد يدخلون الجنة بلا عذاب" واضح الفرق بين القولين؟ الفرق بينهما أن أولئك يُجَوِّزُونَ دخول الجميع للجنة بلا عذاب، وأهل السنة يُجَوِّزُونَ دخول البعض الجنة بلا عذاب؛ لأنّ الله جل وعلا قال ?وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[المائدة:40] ووعيده حق جل وعلا فلا بد أن يصيب بعضا منهم وواجب بأن يغفر لمن يشاء وحق فلا بد أن يصيب بعضا منهم. فإذن المرجئة يقولون أهل الكبائر قد يدخلون جميعا الجنة بلا عذاب، هذا غلط بل الصواب أن أهل الكبائر قد يدخل بعضهم الجنة بلا عذاب فيغفر الله جل وعلا له ?وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[المائدة:40]، الفرق في إطلاق لفظ جميعهم.(52/37)
وكلاهما مخالف للسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولإجماع سلف الأمة وأئمتها وقد دل على فساد قول الطائفتين قول الله تعالى في آيتين من كتابه وهو قوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48]، فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دونه لمن يشاء، ولا يجوز أن يراد بذلك التائب كما يقوله من يقوله من المعتزلة، لأن الشرك يغفره الله لمن تاب، وما دون الشرك يغفره الله أيضا للتائب، فلا يتعلق بالمشيئة. ولهذا لما ذكر المغفرة للتائبين، قال تعالى ?قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ?[الزمر:53]، فهنا عمم المغفرة وأطلقها فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه، فمن تاب من الشرك غفر الله له، ومن تاب من الكبائر غفر الله له، وأي ذنب تاب العبد منه غفر الله له، ففى آية التوبة عمم وأطلق، وفي تلك الآية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفره، وعلق ما سواه على المشيئة، ومن الشرك التعطيل للخالق، وهذا يدل على فساد قول من يجزم بالمغفرة لكل مذنب، ونبه بالشرك على ما هو أعظم منه كتعطيل الخالق، أو يجوز أن لا يعذب بذنب، فإنه لو كان كذلك لما ذكر أنه يغفر البعض دون البعض، ولو كان كل ظالم لنفسه مغفورا له بلا توبة ولا حسنات ماحية لم يعلق ذلك بالمشيئة.
وقوله تعالى ?وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48], دليل على أنه يغفر البعض دون البعض، فبطل النفي والعفو العام.
فصل(52/38)
وإذا كان أولياء الله عز وجل هم المؤمنون المتقون، والناس يتفاضلون في الإيمان والتقوى، فهم متفاضلون في وَلاية الله بحسب ذلك، كما أنهم لما كانوا متفاضلين في الكفر والنفاق كانوا متفاضلين في عداوة الله بحسب ذلك، وأصل الإيمان والتقوى الإيمان برسل الله، وجِماع ذلك الإيمان بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فالإيمان به يتضمن الإيمان بجميع كتب الله ورسله، وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل وبما جاءوا به، فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة، فإن الله تعالى أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة؛ قال الله تعالى ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا?[الإسراء:15]، وقال تعالى ?إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا(163)وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(164)رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:163-165]، وقال تعالى عن أهل النار ?كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(8)قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ?[الملك:8-9]، فأخبر أنه كلما أُلقي في النار فوج أقروا بأنهم جاءهم النذير فكذبوه، فدل ذلك على أنه لا يلقى فيها فوج إلا من كذب النذير، وقال تعالى في خطابه لإبليس ?لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ?[ص:85]،(52/39)
فأخبر أنه يملؤها بإبليس ومن اتبعه، فإذا ملئت بهم لم يدخلها غيرهم، فعلم أنه لا يدخل النار إلا من تبع الشيطان، وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها من لا ذنب له، فإنه ممن لم يتّبع الشيطان، ولم يكن مذنبا، وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها إلا من قامت عليه الحجة بالرسل. (1)
__________
(1) نربط الموضوع بأصله وهو أن هذا الكتاب فيه ذكر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، يعني الفاصل والفصل وما يميز هذا من هذا، وقد ذكرنا أن الأصل في الفرق هو قول الله جل وعلا?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]، وإذا كان كذلك، فإنّ أولياء الله هم المؤمنون المتقون والإيمان يتبعض والناس ليسوا فيه سواء، وكذلك التقوى تتبعض والناس ليسوا في التقوى بسواء فحصل من ذلك أن وَلاية الله جل وعلا لعباده المؤمنين المتقين ليست واحدة بل متفاضلة، فالله جل وعلا يحبّ المؤمن المتقي بعامة، ومن كان أكثر إيمانا وتقوى كان أحب إلى الله جل وعلا، وهذا من جهة محبة الله جل وعلا للعبد فإنّ كل مؤمن مُتَّقٍ له نصيب من ولاية الله جل وعلا وله نصيب من محبة الله جل وعلا ونصرَتِه على حسب ما معه من الإيمان والتقوى، كذلك إذا كان معه عصيان وضلال وبدع وفسوق وفجور فله نصيب من بغض الله جل وعلا له، فعندنا أنه يجتمع في حق المعين ما يوجب الولاية وما يوجب العداوة، هذا من جهة الوصف أما من جهة الاسم أو اسم الولي فإنما يطلق في الإصطلاح على من حقق الإيمان والتقوى وكل ذلك بحسبه وسعته وطاقته؛ فلا يقال فلان ولي لحصول أصل الإيمان والتقوى فيه لأن كل مسلم عنده أصل الإيمان وأصل التقوى، فإنّ كل مسلم عنده قدر من الإيمان، وكل مسلم عنده قدر من التقوى، فالمقصود أنّ الولي هو من حقق الإيمان والتقوى هذا من حيث الإصطلاح، أما من حيث الشرع فكما ذكر في أول الكلام أنّ الولي هو المؤمن التقي، وأنّ كل واحد له نصيب من هذه الولاية إذا كان عنده إيمان وتقوى، ذكر شيخ الإسلام بعد ذلك أنّ أصل حصول الولاية إنما هو باتباع الرسل، فإن الإيمان إيمان بالرسل وما جاءت به الرسل، والتقوى هي اتقاء ما حذرت عنه الرسل وأنذرت وخوفت، وإذا كان كذلك رجعت الوَلاية وحصول هذه المحبة والنصرة من الله جل وعلا، رجعت إلى الإيمان بالرسل وإلى متابعة الرسل والتصديق بما جاءت به الرسل، كلٌّ بحسب الرسول الذي بُعث إليه، ولما بعث المصطفي محمد عليه الصلاة والسلام صار الإيمان والتقوى راجعا إلى هذه الوسيلة العظيمة وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فكلّ ادعاء لوَلاية ليست سببها الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام واتقاء ما حذر عنه عليه الصلاة والسلام فهو ادعاء كاذب. وبهذا سيفصل في ذكر الإيمان بالرسل لتحقيق أنّ الوَلاية لا تكون إلا باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام.(52/40)
فصل
ومن الناس من يؤمن بالرسل إيمانا عاما مجملا، وأما الإيمان المفصل فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ولم يبلغه بعض ذلك، فيؤمن بما بلغه عن الرسل وما لم يبلغه لم يعرفه ولو بلغه لآمن به، ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيمانا مجملا، فهذا إذا عمل بما علم، إن الله أمره به مع إيمانه وتقواه، فهو من أولياء الله تعالى، له من ولاية الله بحسب إيمانه وتقواه، وما لم تقم عليه الحجة به فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته، والإيمان المفصل به، فلا يعذبه على تركه، لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك، فمن علم بما جاء به الرسل وآمن به إيمانا مفصلا وعمل به فهو أكمل إيمانا ووَلاية لله ممن لم يعلم ذلك مفصلا ولم يعمل به وكلاهما ولي لله تعالى والجنة درجات متفاضلة تفاضلا عظيما، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم، قال الله تبارك وتعالى ?مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا(18)وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(20)انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا?[الإسراء:18-21]، فبين الله سبحانه وتعالى أنه يمد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة من عطائه، وأن عطاءه ما كان محظورا من بر ولا فاجر، ثم قال تعالى (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) فبين الله سبحانه أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا، وأن درجاتها أكبر من درجات الدنيا، وقد بين تفاضل(52/41)
أنبيائه عليهم السلام كتفاضل سائر عباده المؤمنين، فقال تعالى ?تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ?[البقرة:253]، وقال تعالى ?وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا?[الإسراء:55].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيّ خَيْرٌ وَأَحَبّ إلى اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضّعِيفِ. وَفِي كُلَ خَيْرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللّهِ. وَلاَ تَعْجِزْ. وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنّي فَعَلْتُ لكان كذا وكذا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللّهِ. وَمَا شَاءَ فَعَلَ. فَإِنّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَانِ».(52/42)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذَا اجتهد الْحَاكِمُ فَأَصَابَ, فَلَهُ أَجْرَانِ, وَإذَا اجْتَهَد فََأَخْطَأَ, فَلَهُ أَجْرٌ»، وقد قال الله تعالى ?لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أعظم دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى?[الحديد:10]، وقال تعالى ?لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95)دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?[النساء:95-96]، وقال تعالى ?أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19)الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أعظم دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20)يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21)خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ?[التوبة:19-22]، وقال تعالى ?أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا(52/43)
يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?[الزمر:9]، وقال تعالى ? يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ?[المجادلة:11]. (1)
__________
(1) هذا استطراد من شيخ الإسلام رحمه الله، ليبين أن المؤمنين بالرسل من هذه الأمة ليسوا على مرتبة سواء، فبعضهم إيمانه مجمَل وليس عنده إيمان مفصل، فيكون مؤمنا تقيا؛ مؤمنا بما جاءه وما عنده من الإيمان المجمَل، وهناك من إيمانه مفصل يعني عمل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فآمن به مفصَّلا، ومنهم من آمن فما جاءه مفصلا لكن ما جاء غيره أكثر لما عنده من العلم، فصار الذين يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام متفاضلين فبعظمهم أعظم إيمانا من بعض لما وصله من العلم. كذلك من جهة العمل فإنّ الإيمان منه العمل فإذا عمل بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام كان أعظم إيمانا به، ونتج من ذلك أنه أعظم وَلاية، فإذن الأولياء ليسوا على مرتبة واحدة، ثم ذكر الأدلة الدالة على أنّ التفاضل بين أهل الإيمان كثير في النصوص، فذكر أنّ الرسل فضل الله جل وعلا بعضهم على بعض، وذكر أنّ المؤمنين فضل الله بعضهم على بعض في عدة نصوص من القرآن، وكذلك المجاهدين فضل الله بعضهم على بعض ?لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ?[الحديد:10] والصحابة يختلفون في مراتبهم و«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خير»، فهذا الإستطراد يدل على أن الأصل الذي أصله معروف في الشريعة. وهذا تنتبه له في طريقة شيخ الإسلام رحمه الله في أنّه يقرر في صدر الكلام ما يريده، ثم يستحضر سؤالا أو استشكالا يورده عليه من أنشأ الرسالة لأجله (هذه الرسالة أو غير هذه الرسالة) فيأتي بالنظائر التي تدل على أن أصله الذي أصله سليم من جهة الإستدلال وسليم من جهة النظر، وهذا لا شك أنه قوة في الحجة سيما مع المجادلين والمبتدعة لأن هذه الكتب ألفها شيخ الإسلام لهداية من ضل في باب السلوك.(52/44)
فصل
وإذا كان العبد لا يكون وليا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيا لقوله تعالى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63].
وفي صحيح البخاري الحديث المشهور وقد تقدم، يقول الله تبارك وتعالى فيه «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه»، ولا يكون مؤمنا تقيا حتى يتقرب إلى الله بالفرائض، فيكون من الأبرار أهل اليمين، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين، فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله، وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته وإن قُدِّر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ومن لم تبلغه الدعوة، وإن قيل إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسولا فلا يكونون من أولياء الله إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين، فمن لم يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بترك السيئات لم يكن من أولياء الله، وكذلك المجانين والأطفال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رُفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ» وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقَبول، لكن الصبي المميز تصح عباداته ويثاب عليها عند جمهور العلماء، وأما المجنون الذي رُفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات، بل لا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة، فلا يصلح أن يكون بزازا ولا عطارا ولا حدادا ولا نجارا، ولا تصح عقوده باتفاق العلماء، فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته ولا غير ذلك من أقواله، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي، (1) ولا ثواب ولا
__________
(1) لا يتعلق بها حكم شرعي، المقصود به التكليفي أما الوضعي فيؤاخذ به.(52/45)
عقاب، بخلاف الصبي المميز فإن له أقوالا معتبرة في مواضع بالنص والإجماع، وفي مواضع فيها نزاع، وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل وامتنع أن يكون وليا لله فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله، لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من تصرف مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صُرع، فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية كالكهان والسحرة وعُبَّاد المشركين(1)
__________
(1) كلام شيخ الإسلام من أول الفصل إلى هذا الموطن يريد أنّه بعد أنْ بين أنّ التقوى والإيمان سبب ولاية الله لعبده، وأنّ الولي هو المؤمن التقي، بين أنّ الإيمان والتقوى والتقوى لا تصح من العبد إلا إذا كان باختياره، يعني إذا كان مكلفا وصار متقيا لرغبته واختياره، وصار مؤمنا برغبته واختياره، وأمّا منْ رفع عنه القلم لا يوصف بالإيمان والتقوى، حتى ولو حصل منه بعض الأشياء التي هي منَ العبادات فإنّه لا يوصف بالإيمان والتقوى حتى يأتيها اختيارا، ومثَّل بذلك بالمجنون لأنّ الصوفية لهم اعتقاد في المجنون لأن الصوفية لهم اعتقاد في المجانين كما سيأتي في بقية الكلام، فالمجنون هذا لم يقع منه في جنونه إيمان وتقوى برغبة واختيار وطاعة لله، فإذن تعريف الولي بأنه كل مؤمن تقي وليس بنبي هذا لا يصدق عليه لأنه لم يأتِ الإيمان والتقوى طاعة لله واختيارا، بل هو غاقل أو مجنون والمجنون مرفوع عنه القلم، ومثَّل له أنّ الناس مجمعون على أن المجنون لا يبايع ولا ينكح إلى آخره، ويأباه الناس حتى لا يقعوا في تصرفات له لا يعقلوها، وكذلك أعظم الأمور وأهم المهمات وهو الإيمان فإنه لا يوصف المجنون بذلك، معلوم أنّه إذا كان الجنون عرض له فإنّه إذا مات عليه فإن حاله على ما كان قبل الجنون؛ يعني إذا كان قبل الجنون رجلا صالحا فإنّه إلى حين أن يُجَن فيعتبر رجلا صالحا، وما بعد ذلك لا يوصف بصلاح ولا بغيره، بل بداية الجنون كنزول الموت، فيقال كان كذا، كان رجلا صالحا، أما في حال جنونه من جهة تصرفاته وعطائه الشرعي فإنّه مرفوع عنه القلم، يعني قلم التكليف، قد يقع من المجنون أشياء غريبة وتوافق صوابا في نفسها، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مرة أن أحد ولاة دمشق مرّ في سوق، وكان في الطريق رجل من المجانين فلما مرّ عليه فصاح هذا بالوالي "يا هذا ما فعلت الخبزة" فارتاع الوالي لهذه الكلمة ونزل، وسأل عنه قال هذا المجنون فلان، وكانوا يعتقدون في المجانين، وأخذه وقبل يده. فقال فكان هذا المجنون ربما أتى في مجلس الوالي وبصق في وجهه وذاك مسرور بفعله.
لأنهم يعتقدون أن الجنون سببه إنجذاب الروح عن المخلوق إلى الخالق، فالظاهر في ما بينه وبين الناس أنّه لا عقل له لأن عقله مع ربه جل وعلا، لهذا يعدلون عن اسم المجنون إلى اسم المجذوب يعني الذي جُذب عقله وروحه إلى ربّه فغاب عقله عن الناس وصار مع ربه، فلهذا يقولون أنه إذا تصرف فهو يتصرف بأمر الله، وأشباه ذلك مما يتنزه العقلاء من ظنّه فضلا عن اليقين به، وفي هذا قال قائلهم في وصف المجانين:
والمجانين إلا أنّ سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل
يعني أن سبب الجنون هو كمال المحبة والإنجذاب إلى الله جل وعلا. نسأل الله العافية.(52/46)
وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليا لله وإن لم يعلم منه ما يناقض وَلاية الله، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله، مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو يقول إن الأنبياء ضيّقوا الطريق، أو هم على قدوة العامة دون الخاصة، ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية، فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان فضلا عن ولاية الله عز وجل، فمن احتج بما يصدر عن أحدهم من خرق عادة على وَلايتهم كان أضل من اليهود والنصارى، وكذلك المجنون فإن كونه مجنونا يناقض أن يصح منه الإيمان والعبادات التي هي شرط في وَلاية الله، ومن كان يُجَنُّ أحيانا ويُفيق أحيانا إذا كان في حال إفاقته مؤمنا بالله ورسوله ويؤدي الفرائض ويجتنب المحارم فهذا إذا جُنَّ لم يكن جنونه مانعا من أن يثيبه الله على إيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك، وكذلك من طرأ عليه الجنون بعد إيمانه وتقواه فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من إيمانه وتقواه، ولا يحبطه بالجنون الذي أبتلي به من غير ذنب فعله، والقلم مرفوع عنه في حال جنونه، فعلى هذا فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ولا يجتنب المحارم، بل قد يأتي بما يناقض ذلك،لم يكن لأحد أن يقول هذا ولي، لله فإن هذا إن لم يكن مجنونا بل كان متولها من غير جنون، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة ويفيق أخرى، وهو لا يقوم بالفرائض، بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وإن كان مجنونا باطنا وظاهرا قد ارتفع عنه القلم، فهذا وإن لم يكن معاقبا عقوبة الكافرين فليس هو مستحقا لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل، فلا يجوز على التقديرين أن(52/47)
يعتقد فيه أحد أنه ولي لله، ولكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمنا بالله متقيا كان له من ولاية الله بحسب ذلك، وإن كان له في حال إفاقته فيه كفر أو نفاق أو كان كافرا أو منافقا ثم طرأ عليه الجنون فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق. (1)
__________
(1) ذكر أن شبهة المعتقدين في الجنون والمجنونين والمجذوبين والمتولهين ما يحصل لهم من نوع خوارق للعادات سواء كانت خوارق علمية بذكر أشياء، يقول أنت تقول كذا، وحصل منك كذا، وهو مجنون فيوافق صوابا، أو خوارق من جهة القُدْرة كما ذكر يشير إلى أحد فيموت، أو يشير إلى الماء فيمشي عليه أو يحلق بإصبعه فينزل عليه رغيف وأشباه ذلك من أنواع القدرة والعلم، هذه أنواع خوارق والمتقرر أن الخوارق حصلت للكهان، حصلت للسحرة, وحصلت للمشعوذين وللشياطين وللكفار، وحصلت أيضا الخوارق للمؤمنين وحصلت أيضا الخوارق للرسل والأنبياء، لهذا قسم العلماء الخوارق إلى ثلاثة أقسام من جهة من تحصل له باعتبار من حصلت له. [انتهى الشريط الثاني]
قالوا الخوارق:
قد تحصل للأنبياء والرسل؛ حصلت للأنبياء والرسل وهذه تسمى آيات وبراهين.
والقسم الثاني خوارق تحصل لاتباع الرسل، هذه تسمى الكرامات.
والثالث خوارق تحصل للمنافقين والعاصين للرسل، فهذه خوارق شيطانية ليست إكراما من الله عز وجل لهم؛ لأن الله لايكرم من لم يتبع رسله عليهم الصلاة والسلام،
فإذن ليس اعتبار المرء محبوبا لله، وليا لله، أنه يحصل له خارق؛ لأن الخارق يحصل للشياطين وللكفار وللمنافقين، إذن لابد في النظر فيمن حصلت له، فإنْ حصل الخارق لمطيع للرسل معظم لهم متبع لهم في الظاهر والباطن صارت هذه الخوارق كرامات، وإنْ حصلت لمنافق عاص للرسل مبتدع أو مجنون فنقول هذه من الشياطين لإيقاع الناس في الفتنة أو في الكفر والشرك. هذا باعتبار.
وباعتبار آخر، فإن الخوارق راجعة من حيث الصفات إلى نوعين من الصفات: وهي صفتي الغنى والقدرة. ومعلوم أن غنى المغتني وقدرته على الشيء إنما هي بإقدار الله جل وعلا له وبإغتنائه جل وعلا، وإذا كان كذلك فإن:
الخارق للعادة إذا كان راجعا إلى صفة الغنى فقد يكون لحاجة من حصل له الخارق، فالخارق حصل له لأجل إغنائه، فهذا يدل على أنّ من حصل له الخارق لا يُفضَّل على من لم يحصل له الخارق؛ لأنّ الخوارق راجعة إلى صفتي الغنى والإقتدار، فإذا كان ليس بغني ومحتاج وضعفت نفسه فقد يكون يحصل له خارق، وهو ليس كالولي الذي لم يحصل له خارق، لهذا نجد أنَّ بعض الصحابة كان أكثر خوارق ممن كان أفضل منه كأبي بكر وعمر، وذلك لكمال غنى أبي بكر وعمر الكمال البشري، وافتقار ذلك إلى ما يقوي إيمانه ويصحح أويثبت يقينه.
فحصول الخارق من حيث هو باعتبار صفات الكمال راجع إلى النقص، فيحصل الخارق لفائدة الشخص لرفع النقص عنه في صفات الكمال أو لزيادته في صفات الكمال، فإذا كان ضعيفا من جهة الغنى زِيد في غناه بالخارق ليقوى إيمانه.
كذلك من جهة القدرة ربما أُعطي ليظهر إيقانه كما يحصل للمجاهدين فإنّ بعظهم يُكرم بأشياء؛ لأنهم لم يحققوا من أمر الله جل وعلا ما يوجب إغتناءهم عن الكرامات، فيكون اتيانهم بالكرامات لأجل عدم قدرتهم والله جل وعلا يريد نصر دينه ونصر أتباع دينه على أعدائه وأعداء دينه.
وهذه مسألة تحتاج إلى مزيد بسط لمعرفة أفراد صفات الغنى وتقسيماتها، وأفراد صفات الإقتدار والقدرة وتقسيماتها، وهي مبسوطة في كتب أهل العلم.
المقصود من هذا أن المجنون لا يجوز أن يوصف بأنه من الأولياء لأن ليس له اختيار وليس له فعل بنفسه، وإنما الأولياء هم المؤمنون المتقون.(52/48)
فصل
وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس، إذا كان كلاهما مباحا، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره إذا كان مباحا، كما قيل كم من صِدِّيقٍ في قَبَاء، وكم من زنديق في عَبَاء، بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور، فيوجدون في أهل القرآن وأهل العلم، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف، ويوجدون في التجار والصناع والزراع، وقد ذكر الله أصناف امة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى ?إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ?[المزمل:20]، وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم القراء، فيدخل فيهم العلماء والنساك، ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية والفقراء، واسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح، وقد قيل إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، وقيل إلى صوفة بن أد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك، وقيل إلى أهل الصفة، وقيل إلى الصفا، وقيل إلى الصفوة، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى، وهذه أقوال ضعيفة فإنه لو كان كذلك لقيل صِفِّي أو صفائي أو صَفوي أو صَفِّي ولم يقل صوفي، وصار أيضا اسم الفقراء يعنى به أهل السلوك، وهذا عُرف حادث، وقد تنازع الناس أيهما أفضل مسمى الصوفي أو مسمى الفقير، ويتنازعون أيضا أيهما أفضل الغني الشاكر أم الفقير الصابر، وهذه المسألة فيها نزاع قديم بين الجنيد وبين(52/49)
أبي العباس بن عطاء.
وقد روي عن أحمد بن حنبل فيها روايتان، والصواب في هذا كله ما قاله الله تبارك وتعالى حيث قال ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ?[الحجرات:13].
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الناس أفضل قال «أتقاهم» قيل له: ليس عن هذا نسألك، فقال «يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن اسحق نبي الله إبراهيم خليل الله» فقيل له ليس عن هذا نسألك، فقال «عن معادن العرب تسألوني؟ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقِهُوا» فدل الكتاب والسنة أن أكرم الناس عند الله أتقاهم. (1)
__________
(1) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه،أما بعد: فهذا الفصل تفريع على تعريف الولي وشروط الوَلاية، قد ذكرنا لكم أن الولي هو كل مؤمن تقي وليس بنبي، والولي هو من حصّل الإيمان والتقوى، ومعلوم أنّ الإيمان والتقوى لا يشترط على أهله أنْ يكونوا على صفة ما في المأكل أو المشرب أو في اللباس، إلا أنْ يكون ذلك إتيان الحلال و ترك الحرام، فإنّ هذا هو الذي جعلهم أولياء مؤمنين أتقياء، تميّز الأولياء بلباس خاص يُشار إلهيم به ليس له أصل، وتميّزهم بشكل في شعورهم ليس له أصل، إما بحلق الرأس أو بتكثيره أو ما أشبه ذلك، فهذا كله ليس له أصل، وكذلك تميّزهم في مآكلهم أو في مراكبهم أو في مشاربهم ونحو ذلك، هذا كله ليس له أصل، بل يختلفون في هذه إذا كان ما يأتون من المباح لهم. نعم، مِن صفة أولياء الله جل وعلا أنهم لا يتوسّعون في المباحات؛ يعني ليس كل مباح يأتونه لأنّ الله جل وعلا نهى نبيه عن ذلك بقوله ?لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى?[طه:131]، وذَكر أنّ مدّ النظر إلى ما مُتِّع به الناس من زهرة الحياة الدنيا أنّ هذا من عاجلة الدنيا، ونُهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مدِّ العين إلى كل المباحات في الآية، وأنّ رزق الله خير وأبقى يعني في الآخرة، هذا يدل على أنّ من صفة العُبَّاد ومن صفة أولياء الله الذين كمّلوا الإيمان والتقوى أنهم لا يتوسّعون في المباحات، فربما كان الشيء مباحا وتُرك لأنّ فيه نوع تعلق بالدنيا، لكن مِن جهة الأمور لا يختلفون عن غيرهم إلا فيما يكون فيه نوع خرم للمروءة ودناءة أو أشباه ذلك فإنهم يتنزهون عنه، لهذا كان الناس يأتون النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه فيسألون أيكم محمد؟ لأنّه لم يكن عليه الصلاة والسلام يتميز عنهم بمكان أو بلباس أو بشارة ونحو ذلك عليه الصلاة والسلام، وأمّا إحداث بعض الألبسة لخاصة من الناس فإنما حدث في المائة الثانية، كما حدث أنّ للصوفية لباس خاص يعني للزهاد أو للفقراء، وكما حدث في المئة الثامنة أنْ يُخصّ آل البيت بلباس أخضر يجعلونه على أكتافهم أو بعمامة خضراء؛ ليدلوا الناس على أن هذا من آل البيت حتى يعطوه حقه الذي أوجبه الله جل وعلا له. هذه كلّها أمور حادثة، فعُلم منه أنّ الصالحين والأولياء والمتقين ليس لهم لباس خاص، ومن منع بعض الأشياء لأجل أنها ليست من لباس الأولياء،؛ فهذا من جنس المُحدثين في الدين وإن أعتقد صار ذلك بدعة وقولا على الله جل وعلا بلا علم، وهذا له أصناف شتى قد يقع الناس فيه من حيث لا يشعرون، يرون مثلا أنّ بعض الألوان تناسب وبعض الألوان لا تناسب، ويرون مثلا أنّ بعض الأغذية تناسب وبعض الأغذية لاتناسب،... وبعض المراكب تناسب وبعض المراكب لا تناسب، وأشباه هذا، وهذا إذا كان من جهة الرّأي فلا أصل له، أما إذا كان من جهة ترك مشابهة الفسّاق فإن هذا مطلوب، فإنّ الأولياء الصالحين لا يلبسون لباسا يشابهون فيه لباس الفساق وإن كان مباحا، ولا يعملون عملا يشابهون فيه الفسّاق ولو كان مستحبا، بل ربما تركوه لترك المشابهة، وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد حينما أتى لبيان حال النبي صلى الله عليه وسلم في شعره وأنّه عليه الصلاة والسلام كانت له جُمَّة تضرب إلى أنصاف أذنيه وكان له غَدائر يعني شعر طويل ربما جعله غدائر ، قال وكان على هذا العلماء حتى فشى في فسقة الجُنْد أنهم يتخذون الشعر للزينة عند أهل الفسق والمجون، لما شاع ذلك فيهم ترك العلماء إكرام الشعر وتربيته واختاروا قَصَّهُ مخالفة لفسقة الجند. وهذا أصل معروف وشاع في الأزمنة المتأخرة أنه يكون من صفة أهل الفسق أو من صفة أهل عدم الطاعة أنّ لهم كذا وكذا من الأحوال، فهي وإنْ كانت مباحة فتترك إذا كانت مميزة له، هذا يتميز به الصالحون لا حرج في ذلك، أما أنْ يُعتقد شيء من المباحات لاوما لأهل الصلاح، أو يُعتقد في شيء من المباحات أنه لا يجوز في أهل الصلاح دون سبب شرعي من مشابهة ونحو ذلك فإنه لا يسوغ، بل أولياء الله هم المؤمنون المتقون كما وصفهم الله جل وعلا لأنهم من جميع الفئات، فمنهم العابد، ومنهم العالم، ومنهم التاجر، ومنهم المعلم، ومنهم الغازي في سبيل الله، وأشباه هؤلاء في أصناف الأمة، كما قال الله جل وعلا في آخر سورة المزمل ?إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ?[المزمل:20]الآية، فذكر فيها أصناف الناس وأن منهم الذين يضربون في الأرض ويبتغون من فضل الله، وأنّ منهم من يقاتل في سبيل الله، وهذا يعم من أنواعا كثيرة.
أما لفظ الصوفية ولفظ الفقراء فهذان لفظان حادثان من جهة وسم المتعبدين الزهاد بذلك، وذكر عدة أقوال في الصوفية واشتقاقها، وذكر الصحيح منها أنها نسبة إلى الصّوف، ولِبْس الصوف في الصيف والشتاء -الصوف الخشن- يدلّ على بعد عن التلذذ في الحياة في الدنيا، ولذلك صار سُنّة لهم أنهم لا يلبسون الرقيق من الثياب ولا القطن ولا الكَتَّان وأشباه ذلك من الثياب الناعمة؛ لأنّ فيها نوع تلذذ ونوع إقبال على الدنيا، وهذا بلا شك في أصله خروج عن السنّة؛ لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يلبس الثياب ما جرت عادة قومه بلبسه ما لم يكن مما يخص المشركين في هيئتهم الظاهرة أو يخص أهل الكتاب في هيئتهم الظاهرة، فلبِسَ الإزار والرداء، ولبس القميص والسراويلات، ولبس العمائم وترك، ولبس الصوف ولبس الخزّ ولبس الكتان ولبس القطن ونحو ذلك، وهذا يدل على أن لبس الخشن من الثياب لأهل الصلاح أنه بدعة، قال الصحيح أنهم نسبوا إلى الصوف، فقيل لهم صوفية نسبة إلى الصوف، وهذا أرجح الأقوال كما ذكر، ومن القوال أيضا في نسبتهم التي لم يذكرها أنهم منسوبون إلى كلمة يونانية هي كلمة (صوفيا) وهؤلاء هم متنسكة اليونان الذين يطلبون الحكمة. فالفلسفة (فلا صوفيا) وبالعربية تكون بالسين وبالصاد.
وإذا عرفتَ تاريخ ظهور هؤلاء الصوفية في بلاد الإسلام، عرفتَ أنه جاء من جهة النصارى، فإنّ اتصال بعض من لا علم عنده من المتزهّدة بالنصارى وانقطاع أولئك مع النصارى في معابدهم في الكنائس والأديرة خارج البلدان المعمورة خارج المدن، أنشأ هذا المذهب أو هذه الطريقة الصوفية، كما هو ظاهر من كتاب الديارات للسابُسكي وغيره مما هو معروف في تاريخ الصوفية، يعني أنهم يطلبون – يعالصوفية- أنهم أهل الإشراق الروحي أو أهل الحكمة السلوكية. هذا قول نصره أيضا طائفة من العلماء.(52/50)
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب». وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله تعالى أذهب عنكم عَبِيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس رجلان مؤمن تقي وفاجر شقي». فمن كان من هذه الأصناف أتقى لله فهو أكرم عند الله وإذا استويا في التقوى استويا في الدرجة، ولفظ الفقر في الشرع يراد به الفقر من المال، ويراد به فقر المخلوق إلى خالقه، كما قال تعالى ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ?[التوبة:60]، وقال تعالى ? يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إلى اللَّهِ?[فاطر:15].
وقد مدح الله تعالى في القرآن صنفين من الفقراء؛ أهل الصدقات وأهل الفيء، فقال في الصنف الأول ?لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا?[البقرة:273]، وقال في الصنف الثاني وهم أفضل الصنفين ?لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ?[الحشر:8]، وهذه صفة المهاجرين الذين هجروا السيئات وجاهدوا أعداء الله باطنا وظاهرا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله».(52/51)
أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» فلا أصل له ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وجهاد الكفار من أعظم الأعمال بل هو أفضل ما تطوع به الإنسان. قال الله تعالى ?لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا?[النساء:95]، وقال تعالى ?أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19)الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أعظم دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20)يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21)خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ?[التوبة:19-22].
وثبت في صحيح مسلم وغيره عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر ما أبالي أن أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال علي ابن أبي طالب الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتماه، فقال عمر لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا قضيت الصلاة سألته. فسأله فأنزل الله تعالى هذه الآية.(52/52)
وفي الصحيحين عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيّ الأَعْمَالِ أَفضل إلى اللّهِ عز وجل؟ قَالَ: «الصّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ «ثُمّ بِرّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ «ثُمّ الّجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ» قَالَ: حَدّثَنِي بِهِنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم , وَلَو اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الأعمال أفضل قال «إيمان بالله وجهاد في سبيله» قيل ثم ماذا؟ قال «حج مبرور».
وفي الصحيحين أن رجلا قال له صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أخبرنى بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله قال «لا تستطيعه أو لا تطيقه» قال فأخبرنى به قال «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر».(1)
__________
(1) هذه الأحاديث التي ذَكر فيها بيان خصال أهل الإيمان والتقوى، وأنّ مَنْ أتى بهذه الخصال فهو أحبّ إلى الله جل وعلا، ومعلوم أن من يُسَمَّوْن بالفقراء في البلاد التي تنتشر فيها الصوفية أو المتصوفة أنهم يتركون الجهاد في سبيل الله، وينقطعون عن الأعمال، ويَلزَمون مجالسهم في مساجدهم، أو يلزمون الذِّكر، أو يلتزمون الببيوت، ولا يعملون من الأعمال الصالحة ما ذكر الله جل وعلا في كتابه أو بيّنه الله جل وعلا في سنته من حل أهل الإيمان والتقوى، فعُلم منه أنه يفوتهم شيء كثير من الطاعات، فمن أتى بهذه الطاعات فهو أفضل منهم ولو كانوا منقطعين فإنّ الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وكلما كان المرء أكثر طاعة لله كلما كان أقرب وأعظم وأكرم عند الله جل وعلا.
لهذا ليس من صفة الأولياء الإنقطاع عن مخالطة الناس، وليس من صفة الأولياء أنهم يلتزمون البحث عن النفس وعن عيوبها ويتركون بهذا الأعداء بأصناف الأعداء، بل أولياء الله جل وعلا هم الذين يمتثلون الأوامر حيث وجبت عليهم، أو توجّهت إليهم؛ فإذا كان المقام مقام إصلاح للنفس أصلحوها، وإذا كان المقام مقام تركٍ للحرام تركوه، وإذا كان المقام مقام جهاد جاهدوا، وإذا كان المقام مقام دعوة دَعَوْا، وإذا كان المقام مقام أمر ونهي أمروا ونهوا، كل ذلك لتحصيل ما أمر الله جل وعلا به، أما من يترك هذه الأشياء ويلتزم الذِّكر الطويل ويلتزم العبادة الطويلة والصلاة الطويلة ويترك واجبات كثيرة، فهذا ليس بأفضل ممن يقوم بواجبات هاهنا يعني حيث وجبت. فيقوم بكلّ ما أوجب الله جل وعلا عليه بحسب طاقته. نكتفي بهذا.(52/53)
وفى السنن عن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصاه لما بعثه إلى اليمن فقال «يا معاذ اتق اللّهَ حيثما كنتَ, واتْبَعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُهَا, وخالقِ الناسَ بخلقٍ حسنٍ» وقال «يا معاذ إني لأحبك فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»، وقال له وهو رديفه «يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده» قلت الله ورسوله أعلم قال «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك» قلت الله ورسوله أعلم قال «حقهم عليه ألا يعذبهم»، وقال أيضا لمعاذ «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» وقال «يا معاذ ألا أخبرك بأبواب البر الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار، وقيام الرجل في جوف الليل، ثم قرأ ?تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(16)فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[السجدة:16-17]» ثم قال «يا معاذ ألا أخبرك أملك لك من ذلك» فقال «أمسك عليك لسانك هذا، فأخذ بلسانه» قال: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، فقال «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يَكُبُّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»، وتفسير هذا ما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «ومن كان يؤمن بالله واليوم الاَخرِ فلْيَقُلْ خيراً أو ليَصمُت» فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والصمت عن الشر خير من التكلم به، فأما الصمت الدائم فبدعة منهي عنها، وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء فذلك من البدع المذمومة أيضا، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال «ما هذا؟» فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس(52/54)
ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم «مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه».
وثبت في الصحيحين عن أنس أن رجالا سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالُّوها فقالوا وأينا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا، ولكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» أي سلك غيرها ظانا أن غيرها خير منها، فمن كان كذلك فهو بريء من الله ورسوله، قال تعالى ?وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ?[البقرة:130]، بل يجب على كل مسلم أن يعتقد أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يخطب بذلك كل يوم جمعة. (1)
فصل
__________
(1) هذا تتمة لما سبق في بيان أنّ أولياء الله جل وعلا ليس لهم وصف غير الإيمان والتقوى والسعي في تكميل ما أوجب الله جل وعلا عليهم والابتعاد عما نهى وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وأن هؤلاء لهم صفات متعددة فأكرمهم عند الله أتقاهم فأعلاهم منزلة عند الله جل وعلا أمثلهم وأكثرهم امتثالا لشرعه ودينه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفليسوا بالاسم يكونون أولياء؛ باسم الفقير، أو باسم الصوفي، أو باسم العالِم، أو باسم المحدِّث، أو باسم المؤلف، أو باسم كذا يكونون أولياء، وإنما يكونون أولياء بتقربهم إلى الله جل وعلا بالطاعات الواجبة والمستحبة وابتعادهم عما نهى الله جل وعلا عنه ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه صفتهم.(52/55)
وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطىء، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهىالله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبَّسها عليه لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان وأن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الامة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فقال تعالى ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285)لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ?[البقرة:285-286].(52/56)
وقد ثبت في الصحيح أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال قد فعلت، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت هذه الآية ?وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[البقرة:284]، قال دخل قلوبهم منها شيءلم يدخلها قبل ذلك شيء أشد منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا» قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى ?لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا? إلى قوله ?أَوْ أَخْطَأْنَا? قال الله قد فعلتُ ?رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا? قال قد فعلت ?رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ? قال قد فعلت، وقد قال تعالى ?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ?[الأحزاب:5].(52/57)
وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعا أنه قال «إذَا اجتهد الْحَاكِمُ فَأَصَابَ, فَلَهُ أَجْرَانِ, وَإذَا اجْتَهَد فََأَخْطَأَ, فَلَهُ أَجْرٌ»، فلم يؤثم المجتهد المخطىء بل جعل له أجرا على اجتهاده وجعل خطأه مغفورا له، ولكن المجتهد المصيب له أجران فهو أفضل منه، ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلَط(1)لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي لله إلا يكون نبيا، بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه إلا أن يكون موافقا للشرع، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه. (2)
__________
(1) غلِط، يغلَط،غلَطا، في الماضي غلِط، والمضارع يغلَط.
(2) هذا التفصيل أصل في مسألة الوَلاية؛ وهو أنّه ليس من شرط ولي الله جل وعلا أنه لا يخطئ البتة، أو لا يغلط أبدا، أو لا يكون عنده إلتباس في بعض المسائل المهمة في العقيدة أو في الشريعة، أو لا يكون عنده نقص في العمل في بعض الأشياء، هذا ليس مِنْ شرط ولي الله جل وعلا أنْ يكون كاملا، إذْ لو شرط هذا لقيل إن الولي في مرتبة النبي؛ لأن النبي هو الذي لا يغلَط وهو الذي لا ينقص عن الكمال في مسألة الطاعة، ولا يلتبس عليه شيء، أمّا أولياء الله جل وعلا في هذه الأمة وفي الأمم فَهُم أكمل أقوامهم وأكمل أتباع الأنبياء، فقد يحصل لهم غلط والتباس واشتباه وبعض قصور في العمل، ولا ينفي ذلك أن يكونوا أولياء الله جل وعلا؛ لكن من كان أتم في العلم والعمل كان أكثر وأعظم ولاية؛ لأن الولاية تتبعض -كما ذكرنا في دروس ماضية-.
ومن المهم في هذا الباب أنَّ الولي -كما ذَكر- قد يحصل له اشتباه فيما يحصل له من أنواع الكرامات أو الخوارق؛ فإنّه يأتيه خارق قد يحصل له اشتباه في أنْ يظنّه كرامة وهذا لا يقدح في أن يكون وليا ولو كان هذا الخارق شيطانيا؛ لأنّ هذا راجع إلى العلم، فالتفرقة ما بين العارض الشيطاني والعارض الرحماني، أو الكرامة الرحمانية والخارق الشيطاني هذا يحتاج إلى العلم بالتفريق في ما بين هذا وهذا، فإذَا لم يفرِّق كان ذاك بسبب قصور العلم، وقصور العلم لا ينفي أن يكون وليا لله جل وعلا في مثل هذا؛ لأنّ الإلتباس وقع على كثير من الصفوة في مثل هذه المسائل فيقع لهم أشياء من خوارق الشيطان، وقد يكون ضعيفا عن العلم بها.
القاضي يكون وليا لله جل وعلا وقد يخطئ في اجتهاده، ... لكنه حين اجتهد استفرغ وسعه أو يعطي مالا لغير مستحقه في نفس الأمر، لكنه حين أعطى استفرغ وسعه في الإجتهاد وبذل طاقته، والله جل وعلا رفع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان، وثبت كما نقل شيخ الإسلام في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال «إذَا اجتهد الْحَاكِمُ فَأَصَابَ, فَلَهُ أَجْرَانِ» أجر الإجتهاد وأجر الإصابة، وإن أخطأ فله أجر واحد وهو أجر الإجتهاد بذل الوسع في معرفة حكم الشرع في هذه المسألة.
فهذا يعني أن من رُئِي عليه نقص في العلم والعمل مما لا يقوده إلى معصية فإنه لا ينفي أن يكون وليا لله جل وعلا، وقد يكون عنده قصور في السنّة في بعض المسائل، أو قصور في العلم في بعض المسائل، ويكون عنده من الخير والعبادة وتحقيق الإيمان والتقوى ما به يكون وليا لله جل وعلا، والأولياء مراتب ودرجات ليسوا مرتبة واحدة إما أن تحصل وإما ألاّ تحصل، بل هم متفاوتون في ذلك كما قال جل وعلا ?هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ?[آل عمران:163].(52/58)
الناس في هذا الباب ثلاثة أصناف طرفان ووسط، فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي لله وافقه في كل ما يظن أنه حدّثه به قبله عن ربه وسلم إليه جميع ما يفعله، ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهدا مخطئا، وخيار الأمور أوساطها، وهو أن لا يجعل معصوما ولا مأثوما، إذ كان مجتهدا مخطئا فلا يتبع في كل ما يقوله ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده، (1)
__________
(1) المقصود من (مع اجتهاده) فيما يسوغ فيه الإجتهاد، أمّا الإجتهاد في المسائل المجمع عليها أو في العقيدة؛ عقيده أهل السنة أو ما أشبه ذلك فهذه لا يسوغ فيها الإجتهاد، ومن خالف واجتهد فيما ليس مجالا للإجتهاد فهو معلوم ومؤثّم، أما المسائل التي يقبل فيها الاجتهاد لا يلام صاحبها بل يشكر، ولا يؤثم إذا أخطأ بل يقال أخطأ وأراد الخير حيث اجتهد فيما يسوغ فيه الإجتهاد.
( ...أمّا من جهة المواجهة فلا، لأنها مدح وثناء، فلا يكون في وجه الرجل أما في ذكره وخلفه يعني فيما لا يكون مواجهة فلا بأس، إذا كان المرء قالها عن علم لا عن هوى لأن مسألو الولاية تدخل فيها الأهواء وقد يقول لمعجب له هذا ولي الله ليرفع مقامه بين الناس، هذا حكم عليه بأنّه ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] لا يجوز التجرّي في مثل هذه المسألة إلا بعلم، وهدي السلف ترك المقولة هذه إلا في أشخاص معدودين مثل أنهم قالوا فلان من الأبدال، فلان من أولياء الله، قليل، فيمن اشتهرت إمامته وعلمه وتقواه زصلاحه فلا بأس، أما أن تدخل هذه الأسماء الأهواءُ وكل معجب بأحد يقول هذا ولي الله، وإذا لم يكن هذا ولي لله فليس لله ولي، أومثل هذه العبارات، فهذا من التَجَرِّي على الدين وعلى ما يحب الله.(52/59)
والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله، وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء ووافق قول آخرين لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف، ويقول هذا خالف الشرع.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «قد كان في الأمم قبلكم محدَّثُون فإن يكن في أمتي أحد فعمر منهم»،(1)
__________
(1) مُحَدَّث يعني مُلهَم، فيُلقى الصواب في روعه فيدركه؛ يأتيه، وعُبّر عنه بلفظ المحدَّث لأن صاحبه يشعر أنه يحدث بهذا الصواب، فيحدث كأنّ أحدا يكلمه في داخله ويقول كذا وكذا، من الكلام في المسألة، مثل ما حصل لعمر رضي الله عنه فإنه ثبت عليه الصلاة والسلام أنه قال «إن الله ألقى الحق على لسان عمر وقلبه» وعمر رضي الله عنه حُدِّث بحال سارية فتكلم به ((يا ساريةُ الجبل، الجبل)) يعني إلزم الجبل، حُدِّث بحاله فأوصى، وكُشِفَ له حجاب البصر فرأى ما يفعل سارية فأوصى، فإذن التحديث راجع إلى علم سمعي، قد ذكرنا لكم أنّ الكرامات منها ما يحصل من جهة العلم، ومنها ما يحصل من جهة السمع، ومنها ما يحصل من جهة البصر، ومنها ما يحصل من جهة القدرة، فهي أربعة اقسام: كرامات علمية، كرامات سمعية، وكرامات بصرية، وكرامات قُدرية.
فالعلمية: مِثْل ما حصل لأبي بكر الصديق أنه قال لإمرأته أن في بطنها أنثى هذا من جهة العلم، ويدخل فيه قول عمر يا سارية الجبل، الجبل.
والسمعية: مثل سماع سارية لكلام عمر رضي الله عنه فسمع كلام عمر؛ فهذا كرامة من جهة السمع.
من جهة البصر: يرى ما لا يرى غيرُه، أو أو يحجب عنه ما يُرى بالبصر، مثل أن شُرَط دخلوا على الحسن يريدونه فبحثوا في البيت، بحثوا، لم يجدوا أحدا وخرجوا وهو بفناء الدار جالس يُسبِّح أمامهم، فحُجب عنهم أن يُبصروه، هذا من جهة الكرامات البصرية.
والكرامات القُدريّة: -من جهة القدرة- أنْ يقدر على ما لا يقدر غيره. يقدر على أن يمشي على الماء بإقدار الله جل وعلا عليه وإكرامه له، يقدر على أن يُحيى له الميت، مثل ما حصل للصحابي مع فرسه، أو حصلت له من جهة القدرة أنه يرفع فلا يُعرف له مكان، أو دخل النار فلا يضره ذلك. وأشباه هذا.
إذن هي أقسام يمكن أن ترجع أنواع الكرامة إلى واحدة من هذه الأقسام، وكلّ قسم منها أيضا ينقسم إلى نوعين: لازم، ومتعدي. وحصول اللازم والمتعدي لمن حصلت له لا يدل على قوة إيمانه، ولا قوة إيمان من حصلت فيهم؛ لأنّه قد يكون محتاجا إلى ذلك فيُثَبَّت بالكرامة، فقد يكون الناس محتاجين فيثبتون بالكرامة إذا حصلت لبعضهم.(52/60)
وروى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لولم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» وفي حديث آخر «أن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه» وفيه «لو كان نبي بعدي لكان عمر» وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول ما كنا نبعد أن السكينة تنطق(1) على لسان عمر، ثبت هذا عنه من رواية الشعبي، وقال ابن عمر ما كان عمر يقول في شيء أني لأراه كذا إلا كان كما يقول(2). وعن قيس بن طارق قال كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك. وكان عمر يقول اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون فإنه تتجلى لهم أمور صادقة. وهذه الأمور الصادقة التي أخبر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها تتجلى للمطيعين هي الأمور التي يكشفها الله عز وجل لهم، فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات(3)
__________
(1) السكينة اسم لما يُسكن إليه من الأقوال والإعتقادات والأعمال، ويُسكن إليه لأنّه الحق. كما قال جل وعلا في الإعتقادات ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ?[الفتح:4]، وقوله (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا) دل على أنّ السكينة حصل بها زيادة إيمان لهم، فهي نوع اعتقاد نتج عنه الطمأنينة والراحة. كذلك ما يُسكن إليه مِنَ الحق في الأقوال يقال سكينة، وما يُسكن إليه من الأعمال للحق يُقال له سكينة،... (سكينة تنطق) هذه سكينة قولية.
(2) ومن هذا الموافقات؛ وافَقَ حكم عمر حكم الرب جل وعلا في مواضع في القرآن.
(3) وقصد بالمخاطبات ليست المخاطبات التي يخاطب بها الرب عبادَه أو تخاطِب بها الملائكةُ العباد؛ لأن هذا للأنبياء، وإنما يقصد بالمخاطبات الإلهام القولي الذي يُحس به الولي المحدَّث في نفسه؛ فيحس أنه يخاطَب بشيء، وأنّ كلاما يقال له في أذنه أو في قلبه، وهذا نوع من الإلهام له، قد يكون بواسطة الملَك الذي يلازمه وقد يكون بواسطة ملَك آخر، المهم أنه ليس وحيا إليه، ولا مكاشفة قولية من الرب جل وعلا كما يزعم الصوفية.(52/61)
ومكاشفات فأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فإن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر.
وقد ثبت في الصحيح(1) تعيين عمر بأنه محدَّث في هذه الأمة، فأيُّ محدّث ومخاطب فرض في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فعمر أفضل منه، ومع هذا فكان عمر رضي الله عنه يفعل ما هو الواجب عليه فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر كما نزل القرآن بموافقته غير مرة، ووافق ربه غير مرة، وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك، كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين. والحديث معروف في البخاري وغيره فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر سنة ست من الهجرة ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة، وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام ويعتمر من العام القابل، وشرط لهم شروطا فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة، وكان عمر فيمن كره ذلك، حتى قال للنبى صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال «بلى»، قال: أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال«بلى»، قال فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه» ثم قال: أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال«بلى»، قال «أقلت لك أنك تأتيه العام؟» قال: لا، قال «إنك آتيه ومطوف به» فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر مثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أبو بكر يسمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم فكان أبو بكر رضي
__________
(1) ثبت في الصحيح يحتمل أن يكون المراد ثبت في البخاري أو مسلم أو هما معا. ومراده هنا مسلم.(52/62)
الله عنه أكمل موافقة لله وللنبى صلى الله عليه وسلم من عمر، وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك وقال: فعملت لذلك أعمالا. وكذلك لما مات النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عمر موته أولا، فلما قال أبو بكر أنه مات رجع عمر عن ذلك. وكذلك في قتال مانعي الزكاة قال عمر لأبي بكر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، فقال له أبو بكر رضي الله عنه ألم يقل «إلا بحقها» فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عَناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق.(52/63)
ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر مع أن عمر رضي الله عنه محدَّث، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدَّث، لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدَّث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويُقِرُّهم على منازعته ولا يقول لهم أنا محدَّث ملهم مخاطب فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني، فأي أحد إدعى أو إدعى له أصحابه أنه ولي لله وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة فهو وهم مخطئون، ومثل هذا من أضل الناس، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه فيما يقوله وهو وهم على الكتاب والسنة، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبرون به عن الله عز وجل، وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به، ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به، بل يُعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وماخالف الكتاب والسنة كان مردودا وإن كان صاحبه من أولياء الله، وكان مجتهدا معذورا فيما قاله له أجر على اجتهاده، لكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئا، وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع، فإن الله تعالى يقول ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ?[التغابن:16]، وهذا تفسير قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ(52/64)
تُقَاتِهِ?[آل عمران:102]، قال ابن مسعود وغيره (حَقَّ تُقَاتِهِ) أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، أي بحسب استطاعتكم فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها كما قال تعالى ?لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ?[البقرة:286]، وقال تعالى ?وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?[الأعراف:42]، وقال تعالى ?وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا?[الأنعام:152]. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الإيمان بما جاءت به الأنبياء في غير موضع كقوله تعالى ?قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ?[البقرة:136]، وقال تعالى ?الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?[البقرة:1-5]، وقال تعالى ?لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ(52/65)
وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ?[البقرة:177]. وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الإعتصام بالكتاب والسنة وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة، هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل، من خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه، الذين أمر الله باتباعهم، بل إما أن يكون كافرا، وإما أن يكون مفرطا في الجهل، وهذا كثير في كلام المشايخ، كقول الشيخ أبي سليمان الداراني، أنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم(1)
__________
(1) النكتة من نكت القوم يعني يأتي في خاطره وفي قلبه شيء مما يتصل بالإيمان والأحوال وتزكية النفس ورؤية الأشياء والتفكر وأشباه ذلك. فيقع في الخاطر أشياء. قال فلا أقبلها إلا بشاهدين من الكتاب والسنة؛ لأنّه قد يكون هذا الخاطر الذي جاءه ليس بحق، قد يكون هذا التأمل الذي جاءه باطل، قد يكون هذا الاستنتاج الذي استنتجه باطل، فإذا شهد له الكتاب والسنة وهما القاضيان والشاهدان والمعدِّلان والمزكيان للأفكار والآراء، فإنه إذا لم يُشهد له فإنه باطل.
(... لأنه يعلم وخالف عنه فهذا من أهل الإباء والإستكبار مثل حال ابن عربي والتلمساني وأشباههم؛ الذين يقولون لأقوامهم ما نقول لكم وحي من الله، ونحن معصومون أن نخطئ لا في اللفظ ولا في العمل ولا في الفكر، هؤلاء إما أنْ يكونوا علماء فهؤلاء كفار لأنهم أبوا واستكبروا عن الإنقياد للحق وإلا أن يكونوا جهّالا هؤلاء قد يعذرون.(52/66)
فلا أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة. وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لايصلح له أن يتكلم في علمنا أو قال لا يقتدى به. وقال أبو عثمان النيسابوري من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم(1)
__________
(1) في كلامه (القديم) غلط؛ لأن القرآن محدث ليس بالقديم، كما قال سبحانه ?مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(2)لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا?[الأنبياء:2-3]، وكذلك في آية سورة الشعراء، فالقرآن مُحْدَث بمعنى حديث النزول من ربه جل وعلا حديث العهد من ربه جل وعلا، إنما تكلم الله به فسمعه جبريل فبلغه للنبي عليه الصلاة والسلام، وأما الذي يقال أنه قديم هو كلام الله ليس القرآن، الكلام كلام الرحمن جل وعلا نقول قديم النوع حادث الآحاد، ويجوز أن نقول إنّ كلام الله قديم؛ يعني قديم النوع لا بأس بهذا؛ لأنّ الله جل وعلا أول وكذلك صفاته سبحانه وتعالى أزلية -يعني الصفات الذاتية- أزلية قديمة، فهو سبحانه وتعالى يتكلم كيف شاء وإذا شاء وكلامه قديم ولا يزال يتجدد كلامه بتجدد الأحوال، متعلِّقا بمشيئته سبحانه وتعالى وقدرته، فالقرآن لا يسوغ وصفه بأنّه قديم، بل هذا مذهب الأشاعرة فإنهم يجعلون القرآن قديما تكلم الله به في الأزل، فكل كلام أراده الله ثم يتعلق هذا الكلام بالإرادة وبالزمن الذي يصلح له فيتجدد، فليس عندهم أن القرآن كلام الله جل وعلا الذي تكلم به حين أَنزل القرآن، ولهذا اعترض الآمدي عليهم في هذه المسألة في كتابه أفكار الأفكار وفي كتابه نهاية وغاية المرام وفي غيرهما بأن قول الأشاعرة باطل فإم أن يكون الحق من جهة التقسيم قول أهل السنة وإما أن يكون قول المعتزلة الذي هو أن القرآن مخلوق ثم استدل على بطلان قول المعتزلة وبقي الحق وهو قول أهل السنة؛ لأنه يلزم من أن القرآن قديم -حسَب كلام الآمدي- قال تأملت هذه المسألة -وهو أشعري من كبارهم، من علماء أهل الكلام- من يقول الكلام قديم فإذا في القرآن ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا?[المجادلة:1]، وفي القرآن ?قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ?[البقرة:144]، وفي القرآن ?قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ?[الأنعام:33] ونحو ذلك مما فيه ذكر صيغة الماضي قد سمع الله فإن كان هذا الكلام قديما فإن الله يقول قد سمع لشيء لم يحصل وهذا، وهذا لا يجوز لأنّه نوع من الكذب وهذا يدل على بطلان هذا القول.
المقصود أنّ القول هذا (في كلامه القديم) هذا غلط موافق لطريقة الأشاعرة لعله من إضافاتهم.(52/67)
?وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا?[النور:54]، وقال أبو عمرو بن نجيد كل وَجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل. وكثير من الناس يغلَط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله، ويسلم إليه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يفعله، وإن خالف الكتاب والسنة، فيوافق ذلك الشخص له ويخالف ما بعث الله به رسوله، الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء، فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولا إلى البدعة والضلال، وآخرا إلى الكفر والنفاق،(1)
__________
(1) هذا الكلام الذي سبق كله تفريع على ما ذكرتُ في أول الفصل من أن أولياء الله جل وعلا ليس من شرطهم أن يكونوا معصومين من الغلط؛ بل قد يكون المرء يغلط بالعمل وقد يكون عنده بعض غفلة؛ بعض نسيان، قد يغلط في بعض ما يجتهد فيه سواء في أمور العمليات أو العلميات فكل هذا يحصل، وهم على نوعين:
منهم من يغلط بعد استفراغ الوسع والطاقة في الإجتهاد، فهذا معذور وله أجر على اجتهاده؛ لأنّه نظر واجتهد وأفرغ الوُسع والطاقة، والله سبحانه وتعالى يقول ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ?[التغابن:16].
ومنهم من لا يُفرغ الوسع والطاقة، ولا يجتهد عن بذل لتحري الحق، وبذل لطاقته في تحصيل الحق، وإنما يثق بأول خاطر أو إذا نَدَر عليه شيء و عرض لذهنه شيء أو لقلبه تطق به أو تكلم، وذكر ذلك عن نفسه أو حثَّ الناس عليه، دون الإجتهاد والرجوع إلى النصوص، فهذا مذموم، وإن كان يُسَمِّي نفسه مجتهدا فهو مذموم.
فأولياء الله جل وعلا لا يشترط فيهم عدم الغلط، بل يكون وليا وإنْ كان عنده نوع معصية أو غفلة لا يقيم عليها، أو عنده نوع إجتهاد يغلط فيه ويبقى على غلطه لعدم ظهور الحجة له، أو لتأوله ولإجتهاده هذا بخلاف حال الأنبياء فهم الذين لا يتكلمون إلا بحق ولا يوافقون أو يقرون على إجتهاد باطل، وهذا من الفروق ما بين الأنبياء –كما ذكر- وبين الأولياء، وهذا يبين لك ضلال قول من قال إنّ الأولياء أرفع رتبة من الأنبياء، مثل ما قاله الضال الزنديق حيث يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ببناء الأنبياء فوجد لبنة في زاوية منه لم تَكْمُل فقال أنا تلك اللبنة. قال: فيرى خاتم الأولياء نفسه في مقام لبنتين في البناء لبنة ظاهرة من ذهب، ولبنة باطنة من فضة -أو العكس- ويأخذ من المشكاة التي أخذ منها الرسول. فهو في الظاهر متبع وهو في الباطن يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الرسول عليه الصلاة والسلام؛ يعني يأخذ من الله مباشرة أو من جبريل، وهذا رفع لمقام الأولياء على مقام الأنبياء وهو من أنواع الزندقة، فمن فَضَّل وليا على نبي فإنه كافر بالله جل وعلا لأن الأنبياء هم أفضل الخلق والأولياء تبع لهم بل ما ارتفع الأولياء إلا لكونهم أتباع الأنبياء، فدليل وَلاية الولي أنّه تابع للنبي كيف يكون أفضل منه؟ أو يأمر بشيء لم يجيء بالكتاب والسنة أو ينهى عن شيء قد جاء الأمر به في الكتاب والسنة، وأشباه ذلك، لا شك أن هذا ليس من صنيع أولياء الله.
ومثل هذا الكلام هنا ربما لا نعرف أبعاده لكن في البلاد التي يكثر فيها الصوفية وغلاة الصوفية يرون من هذا شيئا عجيبا، حتى أن الشعراني ذكر بأن فلانا الولي يقول ومنهم يعني من الأولياء سيدي فلان الفلاني كان رضي الله عنه يتلو آيات ليست في القرآن، وكان فلان من الأولياء يخطب الجمعة في سبع صلاة يعني في نفس الوقت، ونحو ذلك مما يفضلون به الأولياء على الأنبياء، مثل ما قال قائلهم:
مقام النبوة في برزخ فُوَيْقَ الرسول ودون الولي
يعني أن أعلى مقامات الولي ثم يليه النبي ويليه الرسول، عكسوا.[انتهى تعليقات الشريط الثالث](52/68)
ويكون له نصيب من قوله تعالى ?وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا(27)يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا(28)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا?[الفرقان:27-29]، وقوله تعالى ?يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ(66)وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ(67)رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا?[الأحزاب:66-68]، وقوله تعالى ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(165)إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ(166)وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ?[البقرة:165-167]، وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ?[التوبة:31].(52/69)
وفي المسند وصححه الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسيره هذه الآية لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال ما عبدوهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، وكانت هذه عبادتهم إياهم» ولهذا قيل في مثل هؤلاء إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول، فإن أصل الأصول تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلابد من الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلابد من الإيمان بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم وعربهم وعجمهم علمائهم وعُبّادهم ملوكهم وسوقتهم، وأنه لا طريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطنا وظاهرا، حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه، كما قال تعالى ?وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ(81)فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ?[آل عمران:81-82].(52/70)
قال ابن عباس رضي الله عنهما ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقد قال تعالى ?أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا(60)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا(61)فَكَيْفَ إذا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا(62) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا(63)وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا(64)فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[النساء:60-65]، وكل من خالف شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مقلدا في ذلك لمن يظن أنه ولي لله، فإنه بنى أمره على أنه ولي لله، وأن ولي الله لا يخالف في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله، كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، لم يُقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك، وتجد كثيرا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله أنه قد(52/71)
صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، مثل أن يُشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانا أو يملأ إبريقا من الهواء، أو ينفق(1) بعض الأوقات من الغيب، أو أن يختفى أحيانا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سُرق لهم، أو بحال غائب لهم، أو مريض أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور، ما يدل على أن صاحبها ولي لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يُغترَّ به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه، (2)
__________
(1) ينطق بعض الأوقات من الغيب.
(2) هذا الكلام مبني على تفصيل ما ذكره في الفصل، وأنّ أولياء الله جل وعلا لا يكونون أولياء حتى يكونوا مِن المتبعين للكتاب والمتبعين للسنة وليس الوَلاية دعوى ليس لها برهان، فمِن الناس من يغلط في هذا الموضع فيقول هذا ولي الله فيقبل منه ما جاء به ما ذكر على أساس هذه المقدمة الباطلة أنّه ولي لله، فلا يكون وليا لله في الواقع لمخالفته للأمر والنهي ولوقوعه في مفسِّقات أو في أمور بدعية أو شركية إلى غير ذلك، فيُسَلِّم له الأمور البدعية أو الشركية على أساس أنه ولي لله جل وعلا، وهذا هو الذي جعل البدع والشركيات تنتشر في الأمصار من جرّاء الاعتقاد في الأولياء، فإنّه يكون هذا الولي حيًّا ويكون فاسقا فيحبّب للناس بعض المنكرات أو بعض البدع ليحصُل منهم على مال أو على جاه أو إلى آخره، فيعتقد الناس أنّه ولي فيتبعونه على ذلك ويقولون قالها الولي الفلاني، والذي يحطِّم هذا الأمر هو إقامة البرهان عند الناس أن الوَلاية لا تكون إلا للمؤمنين المتقين ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] فالمؤمن الذي حصَّل الإيمان والأركانه، المتقي الخائف من اللله جل وعلا، والممتثل للواجب، وينتهي عن المحرم ووجل قلبه من الله، ويستعد للقائه، وهذا هو المتقي، وهو المؤمن الذي يرجى أن يكون وليا لله جل وعلا، أمّا الذين أتوا بالبدع والشركيات ليسوا من أولياء الله فَرَاج أمرهم في الناس والناس لا ينظرون هل هو ولي أم ليس بولي. إنتشر في الناس أنه ولي فقبلوا كل ما جاء به ولهذا ذكر لك في أول الكلام أبي عمرو بن نجيد (كل وَجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل) والوَجد يعنون به ما يظهر للمرء من الاستحسان لأشياء في العبادة أو في التأملات والتفكر، أو في السلوك مع الناس وكل وجد ليس عليه دليل فهو باطل.
ومن عجائب ذلك ما ذكره بعض العلماء أن رجلاً من أحفاد أحد الأولياء -كما يزعمون- في المغرب، زعم عند بعض الناس أنه من أولياء الله وأن جدَّه حدثه بكذا وكذا وكذا، فعظَّمه من حلّ بهم وأسكنوه عندهم، فصار يأمرهم وينهاهم وهم يطيعون، فقال لا أكافؤكم إلاّ أن تحجوا معي هذا العام، قالوا أَوَ تحج؟ قال نعم وستحجون معي جميعا، -وهم في المغرب- فلما صار وقت الحج قرب وأعدّ العدة، قالوا ألاَ نحج؟ قال سوف نحج فالأمر عند الأولياء يسير، والثاني والثالث، والرابع حتى أتى يوم عرفة، فقالوا ألا تحج؟ فقال بلى إذا أتى بعد العصر ذهبنا إلى عرفة، فلما أتى بعد العصر أمرهم بالإستعداد، ولما تجهزوا هم وأهلوهم، قال هلمُّوا، فصعد بهم إلى سطح البيت، وقال لهم سبحان الله هذا جبل عرفة، فقالوا له أين جبل عرفة؟ فقال لهم وهل تريدون أن تروا نُورَ الأولياء؟ هذا جبل عرفة أدعوا هنا، فدعوا فلما مكث مدة، قال غابت الشمس في عرفة فارحلوا فرحلوا قليلا، فقال افعلوا كذا، أتريدون أن نطوف هذه الكعبة، فطوفوا، فأخذ يعمل بهم مثل هذه الحركات وهم يسلمون له للوَلاية.
يعني أن الدرجة الأولى التي يدخل بها صنيع الدجالين والمشعوذين والكهنة وأشباه هؤلاء أن يقال لكل الناس وأن يعلم كل الناس أن الولي لا يكون إلا مؤمنا تقيا، فإذا كان حي في الناس يأمرهم وينهاهم ويدعوهم إلى أشياء ويعتقد أنها تفيد، فيقال لهم الولي هو المؤمن التقي وهذا من أفعاله كيت وكيت وكيت من المحرمات، والأولياء الدجالين أشاعوا في الناس أن الأولياء أعمالهم الظاهرة غير أعمالهم الباطنة حتى لا يأتي مثل هذا، فيقال هو في الظاهر يعمل أشياءً وفي الباطن قلبه وعمله لله جل وعلا، ومنهم طائفة تسمى الملامكية أو الملامية، وهم الذين إدَّعَوْا أنهم لإخلاصهم يُظهرون خلاف التوحيد، أوخلاف الإستقامة، خلاف الإخلاص لأجل أن لا يُتَّهموا بالرياء يقولون نظهر هذا في الناس لأجل الإخلاص حتى لا يقال هم مراؤون، فيُخفون الطاعات ويظهرون الفسوق لأجل ألا يرائي في الناس، ففي مثل هؤلاء قال فضيل بن عياض وجماعة ”العمل لغير الله رياء وترك العمل لغير الله شرك“ فهؤلاء يزعمون أنهم هربوا من الرياء ووقعوا في الشرك، لأنهم تركوا العمل لأجل الناس، فالعمل لغير الله رياء وترك العمل لأجل الناس أو لغير الله هذا شرك. يعني ترك العمل الصالح الواجب.
المقصود من هذا أن تأصيل شيخ الإسلام عظيم في بيان هذه المسألة المهمة.
[الهروي الذي تكلمنا عليه المرة الماضية هو أبو إسماعيل في الصحيح مثل ما هو موجود عندكم في الكتاب أبو إسماعيل عبد الله محمد الهروي ليس إسماعيل إسماعيل رجل آخر غير المنقول الآن؛ أبو إسماعيل عبد الله محمد الهروي](52/72)
وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة، وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله فقد يكون عدوا لله، فان هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين فلا يجوز أن يظن أنّ كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي الله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام الظاهرة.(52/73)
مثال ذلك أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابسا للنجاسات، معاشرا للكلاب، يأوي إلى الحمّامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب ولا كلب»، وقال عن هذه الأخلية «إن هذه الحشوش محتضرة» أي يحضرها الشيطان، وقال «من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا فان الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم»، وقال «إنّ الله طيب لا يقبل الا طيبا» وقال «إنّ الله نظيف يحب النظافة» وقال خمس من الفواسق يُقتلن في الحل والحرم، الحية، والفأرة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور» وفي رواية الحية، والعقرب. وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلاب. وقال «من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط»، وقال «لا تَصحب الملائكة رُفقة معهم كلب»، وقال «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب»، وقال تعالى ?وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?[الأعراف:156-157].(52/74)
فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوى إلى الحمّامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبّها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يُخْلِصُ الدِّين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران، أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه، ويُقَدِّمُ عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن. (1)
__________
(1) هذه صفات موجودة في فئات ممن يُدَّعى أنهم من الأولياء وأنهم من أصحاب الكرامات:
الفئة الأولى المجاذيب والمجانين: وفيهم مثل هذه الصفات من ترْك الوضوء والصلاة لأنه مجنون أصلا، والناس يعتقدون في جنونه كما سبق أن ذكرنا.
الفئة الثانية الدّجّالون: الذين عرفوا أن مثل هذه الصفات يعتقد الناس فيها الوَلاية، فأرادوا أن يجعلوا لأنفسهم مقاما، فتلبسوا بهذه الصفات المنكرة، والعياذ بالله لأجل أن يعظمهم الناس ويدعوا فيهم الوَلاية.
الفئة الثالثة الكهنة والسّحرة وأصحاب المخارق الشيطانية: والمشعوذون منهم عقلاء ولكن يستعينون بالجن ويستخدمون الجن يكون لهم مثل هذه الصفات السئة.
هذه الفئات الثلاث إدعى فيها الناس إلى يومنا هذا أنهم من أهل الكرامات والأولياء، نجد في بعض البلاد يُقال للكاهن أنّه ولي وهو كاهن، إنما يخبر من طريق الجني، وكذلك منهم من يجعل المجنون الذي يترك الصلوات ويلابس النجاسات ولا ينطق كلمة عاقلة يجعلون ذلك أيضا دليلا على ولايته وكرامته كذلك الفئة الثالثة، فكما ذَكر شيخ افسلام هنا أن أهل الإيمان لهم صفات وهؤلاء وإنْ ظهرت على أيديهم خوارق فإنما هي من الشياطين لتغوي الناس، شياطين الجن قد تُظهر للمرء بعض المعلومات، وقد تجعل له بعض الأحوال في مساعدتهم فيغتر الناس لذلك، والجن أقدرهم الله جل وعلا على بعض الأمور لا يقدرها البشر كما قال جل وعلا ?قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ(39)قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ?[النمل:39-40] يعني من الإنس ممن عُلِّم الاسم الأعظم (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ) يعني بالإسم الأعظم الذي إذا سئل به الله جل وعلا أجاب وإذا طلب به منه أعطى?أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ?[النمل:40]، إلى آخر الآيات، فدل أن الجن يقدرون على أشياء أقدرهم الله جل وعلا عليها، (قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ) أحمل لك العرش من اليمن إلى بيتك أو إلى دار لك في الشام قبل أن تقوم من مقامك فقط مدة مقامك في المجلس.
فالجن يخبرون بمغيبات، ليست مغيبات مطلقة؛ مغيبات عن بعض البشر حصلت في الماضي، وربما أخبروا عن مغيبات تحدث في المستقبل، ومنهم من يكون صادقا فيما أخبر ويكون مما إلتقطه المسترق السمع، ومنهم وهو الأكثر أن يكونوا كَذَبَة فيكذبون مع الخبر الصادق مائة كذبة فيروج هذا فيالناس، ومنهم –يعني غير الإقدار وغير الإعلام وهو الوحي- من يوحي يعني يلقي في نفس وليه ما في قلب صاحبه؛ فيأتيه آتٍ ويقول له كلاما فيأتيه الجني ويقول هذا كاذب لأنه حصل منه كذا وكذا فيقول أنت كاذب، كيف تقول هذا وفي بيتك كذا؟ كيف تفعل وأنت البارحة قد عملت كذا فيغتر هذا السائل بحال هذا المسؤول. هو الذي يعلمه بالأمور الغيبية الماضية والحاضرة والمستقبلة ويخبره عن أشياء وهو الملك، ولا يجعلون هذا من الشياطين لأنه بالإتفاق الشياطين لا تخدم أهل الإيمان، لهذا وَجَب على المؤمنين أن يغتروا بمثل هذه الظواهر التي يكون فيها ادعاء للخوارق.
كما ذكرنا أن الخوارق تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
خوارق جرت على يدي الأنبياء هذه تسمى آيات وبراهين ودلائل.
وخوارق جرت على يد أولياء صالحين مؤمنين متقين هذه تسمى كرامات.
والثالث خوارق جرت على أيدي الفسقة، المردة، وربما كفرة بعيدون عن الشريعة لا يصلون ولا يتطهرون، أو عندهم بدع، عندهم خرافات وأشباه ذلك، هذه تكون من عند الشياطين.
طبعا في حدودها مختلفة؛ يعني الخارق الشيطاني غير الكرامة بضابطها غير الآية والبرهان.(52/75)
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو طهُرَت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل. وقال ابن مسعود: الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقل، والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وإن كان الرجل خبيرا بحقائق الإيمان الباطنة فارقا بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية فيكون قد قذف الله في قلبه من نوره، كما قال تعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ?[الحديد:28]، وقال تعالى ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا?[الشورى:52] (1)
__________
(1) وأظهر دلالة على المقصود من إستدلاله بالآيتين قوله جل وعلا في سورة الأنفال ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا?[الأنفال:29] فبتقوى الله جل وعلا يجعل للمرء فرقانا، وهذا الفرقان قد يكون في الأمور العلمية، وقد يكون في الأمور العملية، وقد يكون في الأمور القُدرية يعني الراجعة إلى القدرة, وهذه هي أنحاء الكرامات فالكرامة قد تكون راجعة إلى العلم، وقد تكون راجعة إلى العمل، وقد تكون راجعة إلى القُدرة، ولهذا قوله سبحانه (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) يعني فرقان بين الأشياء بين الحق والباطل في الأمور العلمية، وما بين الهدى والضلال في الأمور العملية، وما بين صنيع الشياطين وصنيع الأولياء وكرامات الأولياء والصالحين ومخاريق الكهنة والشياطين، فهذا يكون بالتقوى، فإذا اتقى اللهَ العبدُ وكان في تقواه محسنا، فإنه يؤتى هذا الفرقان، ويُبصر الحق ويبصر الباطل وكما قال سبحانه وتعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ?[الحديد:28] ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم، وهذا النور هو الفِراسة وقوله عليه الصلاة والسلام «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»، الفراسة قسَمَها العلماء إلى ثلاثة أقسام:
فراسة خَلقية رياضية: هذه الفراسة هي التي كتبت فيها المألفات التي تسمى كتب الفراسة، يعني يستدلون بالخَلق على الخلق، يستدلون بالخَلق على الصفات، يستدلون بصفة العينين على ذكائه من عدمه، يستدلون بكبر الرأس عن ذكائه من عدمه، يستدلون عن سعة الصدر عن حلمه وعدم حلمه، يستدلون بوَفْرة جسمه على كذا من كذا، يستدلون بتقاطيع وجهه، بعرض جبهته، بشموخ أنفه بسعة وجهه، بطول وجهه إلى آخره، هذه أُلفت فيها مألفات كثيرة، بلون الشعر، بلون العينين على صفات هذا المتصف بتلك الصفات. فهذا النوع وهي الفراسة الخَلقية هذه راجعة إلى تجارب الناس منها ما هو حق، و منها ما هو باطل، كذلك ما فيها لا يجوز أن يُعتمد بإطلاقه، كذلك لا يرد بإطلاقه؛ لأنّ فيه ما هو من حق، ومن العلماء من كان يغلو في مثل هذه كان يعتمدها، مثل ما يذكر -وهو صحيح عنه- عن الشافعي رحمه الله، فإنه تعلم هذا النوع من الفراسة و أكثر فيها جدا، حتى ربما أُشتري له الشيء من أحد فسأل عن صفته فربما لم يطعم الطعام لأجل صفته؛ أرسل خادمه مرة فقال له أنْ يشتري له بعض البقول يعني بعض الخضروات فقال: ممن إشتريت؟ قال: من رجل؟ قال: ما صفته؟ قال: كان أعرج. فقال: لا آكله، كلوه. وأشباه ذلك، هذا نوع من التشاؤم وإن كان وقع فيه بغض أجلة أهل العلم وأجلة الأئمة لكنه شيء يغلب على النفس، وكل يأخذ من قوله ويرد0 وبعض العلماء أيضا كان يكثر من هذا ويستعمله في حياته، فهذا لاينبغي فأن الصحابة رضوان الله عليهم كانت صفاتهم محتلفة منهم كان دقيقا قصيرا جدا، ومنهم من كان طويلا، ومنهم من كان كبير الرأس، ومنهم من كان صغير الرأس، ومنهم من كان صغير العينين إلى آخر هذه الصفات التي يزعمون، وكاتوا في مقامات الإيمان والصلاح والفأل ومخالفة ما تعلمه.
والنوع الثاني من الفراسة: فراسة علمية: وهذه الفراسة العلمية تسمّى فراسة؛ لأنّ العلم الصحيح يأتي لصاحبه كوُفود صاحب الفرس عليه، ودنو صاحب الفرس منه وتمكنه من ذلك. أيضا هذا يأتيه من العلم والإلهام ما يعلم به الحق، وهذا النوع من الفراسة هو الذي يكون كرامة من الكرامات ولهذا يببحث العلماء بحث الفِراسة وأنواعها في مبحث كرامات الأولياء لأجل هذا النوع0 فقوله عليه الصلاة والسلام «إتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» يعني هذا النوع من الفراسة في الأمور العلمية الراجعة إلى علمه بالأشياء؛ علمه بما في تفس صاحبه، ينظر إليه فيعلم ما يجول بخاطره، يعلم أنه يفكر في كذا وأشباه هذا، هذا من النور الذي يقذفه الله جل وعلا في قلبه، لكن هذا لايسوغ أن يُحكم به؛ يعني أنْ يجعل دليلا على الحكم؛ فيستعمله المستعمل على أنه دليل، هذا خاطر يأتي للقلب، ويكون في أهل الولاية وأهل الإيمان الصحيح والتقوى فراسةً، لكن لا يسوغ لصاحبه أن يحكم به وأن يستعمله، فيظن بالناس الظنون لأجل هذه الفراسة أو أن يحمدهم لأجل هذه الفراسة، لأن هذه الفراسة دليل ناقص؛ قد تكون من نور الله جل وعلا وقد لاتكون، فالمرء لا يزكي نفسه فلا يدري هذا الخاطر الذي هجم عليه هل هو من نور الله جل وعلا أو هو من الظن السيء أو هو من الظن الحسن الذي فيه تزكية لغيره وأشباه ذلك مما لا يسوغ، فله أن يستعمله من جهة الإحتياط، من جهة المعرفة ولكن ليس له أن يحكم به إلا في بعض الأحوال التي يقوى فيها حيث يكون عنده يقين بذلك قال عليه الصلاة والسلام «كان فيمن كان قبلكم محدَّثون» يعني ملهمين «فإن يكون أحد منكم فعمر»
النوع الثالث من الفراسة -أُدخلت في الفِراسة- المسماة بالقيافة: والقافة منهم من يعلم الأشكال فيلحق هذا بأبيه، ومنهم من يعلم الأثر. وهذه القيافة قد تصل في أهلها، معروف عن قبائل العرب فيها هذا الأمر كبني مُرَّة ونحوهم يعرفون من وطئ القدم هو من أي قبيلة، ويعرفون من وطئ القدم هل هو رجل أم إمرأة، وهل المرأة حائض أم طاهر، وهذا يسمى القيافة؛ تتبع الأثر، هذا علم خاص يتداولونه فيما بينهم وهو صحيح دلت التجارب على صحته، والشريعة جاء فيها الحكم بالقيافة، فالقائف يُحكم بقوله في المسائل التي يحتاج فيها إلى قائس، مثل تنازع الأنساب وأشباه ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام كان عنده زيد بن حارثة نائما وابنه أسامة بن زيد وقد غطيا وجهيهما وبدت أقدامهما، فات رجل من القافة قال يارسول الله هذه الأقدام بعضها من بعض فسُرّ النبي صلى الله عليه وسلم وبرقت أسارير وجهه عليه الصلاة والسلام، لمحبته لأسامة ولأبيه رضي الله عنها، فهذا النوع شرعا ويحكم به ويصير القاضي إليه، وهو من حيث الظاهر أقوى الأدلة، يعني أقوى أنواع الفراسة، وليست الأدلة التي هي البينات عند القاضي، أقوى أنواع الفراسة؛ يعني من حيث الحكم الظاهر، أما الباطن فالثاني الذي هو الكرامة؛ فراسة المؤمن، والأول قد يكون أو لا يكون.
العلماء يقولون علم ... فيه استعداد فطري لكن هو علم. نكتفي بهذا(52/76)
فهذا من المؤمنين الذين جاء فيهم الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال« اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» قال الترمذي حديث حسن، وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في البخاري وغيره قال « ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» فإذا كان العبد من هؤلاء فرّق بين حال أولياء الرحمن وحال أولياء الشيطان كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزَّيْف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء، وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبىء الكذاب، فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول ربّ العالمين صلى الله عليه وسلم وموسى والمسيح وغيرهم وبين مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطليحة الأسدي والحارث الدمشقي وباباه الرومي وغيرهم من الكذابين، وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين.
فصل(52/77)
والحقيقة حقيقة الدين؛ دين رب العالمين هي ما اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاجا، فالشرعة هي الشريعة، قال الله تعالى ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]، وقال تعالى ?ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(18)إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ?[الجاثية:18-19]، والمنهاج هو الطريق، قال تعالى ?وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا?[الجن:16-17]، فالشِّرعة بمنزلة الشريعة للنهر، والمنهاج هو الطريق الذي سُلِك فيه، والغاية المقصودة هي حقيقة الدين وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وهي حقيقة دين الإسلام وهو أن يستسلم العبد لله رب العالمين لا يستسلم لغيره، فمن استسلم له ولغيره كان مشركا، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيه ?إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ?[غافر:60]، ودين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين، وقوله تعالى ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ?[آل عمران:85] عام في كل زمان ومكان، فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون كلهم دينهم الإسلام الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له. (1)
__________
(1) يعني دين الإسلام العام، فكل دين؛ الذي جاء به الرسل هو دين الإسلام لكنه دين الإسلام عام الذي يشترك فيه الأنبياء والمرسلون الذي هو الاستسلام لله بالتوحيد والإنقياد له الطاعة والبراءة من الشرك وأهله أما الإسلام الخاص فهو شريعة الإسلام؛ الذي أُرسل به محمد عليه الصلاة والسلام، فالإسلام ثلاثة؛ يطلق على ثلاثة أشياء:
الإسلام العام: وهو دين الأنبياء والمرسلين جميعا من أجل قول جل وعلا ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ?[آل عمران:85].
و الثاني دين الإسلام الخاص: وهو الإسلام الذي بُعث به محمد عليه الصلاة والسلام.
والثالث هو الإسلام الأخص: وهو أن تشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن إستطعت إليه سبيلا.
إذن الإسلام في النصوص له هذه الإطلاقات الثلاث عام وخاص وأخص.(52/78)
قال الله تعالى عن نوح ?يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ? إلى قوله ? وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ? وقال تعالى ?وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(130)إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(131)وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[البقرة:130-131] وقال تعالى ?وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ?[يونس:84]، وقال السحرة ?رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ?[الأعراف:126]، وقال يوسف عليه السلام ?تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ?[يوسف:101]، وقالت بلقيس ? وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[النمل:44]، وقال تعالى ? يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ?[المائدة:44]، وقال الحواريون ?آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ?[آل عمران:52]، فدين الأنبياء واحد وإن تنوَّعت شرائعهم. كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنَّا معشر الأنبياء ديننا واحد» قال تعالى ?شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ(52/79)
إِلَيْهِ?[الشورى:13]، وقال تعالى ?يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(51)وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِي(52)فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ?[المؤمنون:51-53].
فصل
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على ان الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء، وقد رتّب الله عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب، فقال تعالى ?وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا?[النساء:69].
وفي الحديث «ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر» وأفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ?[آل عمران:110]، وقال تعالى ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا?[فاطر:32]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في المسند «أنتم تُوَفُّونَ سبعين أمة أنتم خيرها واكرمها على الله» وأفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرن الأول.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال «خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه.
وفي الصحيحين أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه».(52/80)
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة، قال تعالى ?لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أعظم دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى?[الحديد:10]، وقال تعالى ?وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ?[التوبة:100]، والسابقون الأولون الذين انفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والمراد بالفتح صُلح الحديبية فإنه كان أول فتح مكة، وفيه أنزل الله تعالى ?إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1)لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ?[الفتح:1-2] فقالوا يا رسول الله أَوَ فَتْحٌ هو؟ قال «نعم».
وأفضل السابقين الأولين الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر ثم عمر، وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها، وقد دلّت على ذلك دلائل بسطناها في منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية.
وبالجملة اتفقت طوائف السنة والشيعة على أنَّ أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء، ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة.(52/81)
وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه، وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به، فهو أفضل أولياء الله، إذْ كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم، وأفضلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه. وقد ظن طائفة غالطة أنّ خاتم الأولياء أفضل الأولياء قياسا على خاتم الأنبياء، ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي، فانه صنّف مصنفا غلط فيه في مواضع، ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء، ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته، كما زَعم ذلك ابن عربى صاحب كتاب الفتوحات المكية وكتاب الفصوص فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه، كما يقال لمن قال فخَرَّ عليهم السقف من تحتهم. لا عقل ولا قرآن، ذلك أن الأنبياء أفضل في الزمان من أولياء هذه الأمة، والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء، فكيف الأنبياء كلُّهم والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم ويدعي أنه خاتم الأولياء، وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم، فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ بالنصوص الدَّالة على ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم «أنا سيِّد ولد آدم ولا فخر» وقوله «آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من أنت فأقول محمد، فيقول بك أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك» وليلة المعراج رفع الله درجته فوق الأنبياء كلِّهم، فكان أحقهم بقوله تعالى ?تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ?[البقرة:253] إلى غير ذلك من الدلائل، كلٌّ منهم يأتيه الوحي(52/82)
من الله لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نبوته محتاجا إلى غيره؛ فلم تحتج شريعته إلى سابق ولا إلى لاحق، بخلاف المسيح أحالهم في أكثر الشريعة على التوراة، وجاء المسيح فكمَّلها، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور وتمام الأربع وعشرين نبوة، وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدَّثين، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنّ الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا إلى محدَّث، بل جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة وما فرَّقه في غيره من الأنبياء، فكان ما فضّله الله به من الله بما أنزله اليه وأرسله إليه، لا بتوسُّط بشر، وهذا بخلاف الأولياء فإنّ كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون وليا لله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون وليا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أُرسل إليه، (1)
__________
(1) هذا الكلام من أول الفصل على هنا في مسألة أنّ الأنبياء أفضل من الأولياء قطعا، وتفضيل النبي على الولي ظاهر من جهة الدليل، كما ذكر شيخ الإسلام بالأدلة الكثيرة في الباب، وظاهر أيضا من جهة التعليل؛ فإنّ الولي لم يكن وليا إلاّ باتباعه للنبي فبسبب إقتداءه بالنبي واتباعه له صار وليا وجاءته الكرامة من جهة اتباعه للنبي عليه الصلاة والسلام، فهو دائما أقلّ رتبة والأولياء في هذه الأمة أكملهم وأرفعهم درجة الأربعة الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين.
والطوائف التي فضلت الأولياء على الأنبياء، أو فضلت خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء ثلاث طوائف: أما الأولى: فهم غلاة الصوفية، والثانية: هم الرافضة والإسماعيلية باعتبار أصلهم بأنهم طائفة واحدة. والثالثة: الفلاسفة.
غلاة الصوفية: فزعموا أن جهة تفضيل الولي على النبي، أنّ النبي إنما يأخذ من الملَك، وأما الولي فإنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملَك، كما قال ابن عربي في فصوصه؛ فالنبي يأخذ بواسطة والولي يأخذ بلا بواسطة ولهذا كتب ابن عربي كتابه المعروف (الأربعين عن رب العالمين) يعني التي حَدّث بها عن رب العالمين مباشرة لما سمعه منه. وهذا من حيث التفضيل أنّ الولي يصل به المكاشفة إلى حيث لا يكون هناك حجاب، والأنبياء حُجبوا منهم من كلموا في بعض الأحيان، أما الولي فإنه إذا اختار أن يسمع الكلام فما عليه إلا أنْ يصفي قلبه ويعمل بالرياضات الخاصة عندهم؛ الرياضات الروحية، ثم ينكشف له الحجاب فيصبح يرى ما يحدث في الملكوت ويسمع أوامر الحق جل وعلا للملائكة.
والطائفة الثانية الرافضة والإسماعيلية: فإن الرافضة يزعمون أن أئمتهم لهم من المقام ما ليس للأنبياء، وعندهم هذا من ضروريات المذهب حيث يقول بعض أئمتهم: من ضروريات مذهبنا أنّ لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل. يعني مما لا يُحتاج إلى استدلال أصلا معروف، الأئمة الأثني عشر إبتداء من علي إلى العسكري، هؤلاء لا بيلغهم ملَك مقرب ولا نبي مرسل، قال: وأنهم كانوا قبل خلق هذا العالم أنوارا فجعلهم الله بعرشه محدثين وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لم يجعله لأحد من العالمين. والإسماعيلية القرامطة والعبيديين والنصيرية والدروز زعموا أن الأولياء؛ أولياؤهم أعظم من الأنبياء من جهة أنّ الولي -وهم أولياء سبعة عندهم أو أربعة – أنّ الولي يحل فيه الحق جل وعلا، وليس كل شيء يستحق هذه المنزلة، فالأولياء تميزوا على الأنبياء لأنهم يحل فيهم الحق جل وعلا فيصبحون صورة لله جل وعلا؛ صورة ناسوتية وليست لاهوتية يعني بحلول الحق جل وعلا، فالجسمان جسمان إنساني ولكن العلم والحكمة والأمر والنهي إلهي.
والطائفة الثالثة ممن يقولون بتفضيل الأولياء على الأنبياء الفلاسفة: فإنهم يقولون التبوة الفلسفة تجتمع في شيء واحد، وهو أن الجميع فيه تحصيل غاية الحكمة، والنبوة تحصيل الحكمة فيها بواسطة الملَك لا دور للنبي في تحصيل الحكمة بإدراكه وعقله وسعيه وبذله، وأما الفيلسوف الحكيم فإنه حصل له هذا المقام وإدراك الحكمة بفعله وإدراكه وبذله وعقله وفهمه، ولهذا الفيلسوف تساوى مع النبي في إدراك الحكمة، ولكن زاد على أنه أدركها بعقله وبحثه ونظره، وذاك بواسطة، ومن أدرك بنفسه أرفع درجة ممن أدرك بواسطة. وهذا القول وكل الأقوال السالفة زندقة وكل من قال بهذا القول فهو زنديق يستتاب هلى الكفر فإن تاب وإلا قتل. وكلام أهل العلم قالوا يجب قتله بلا استتابة؛ من أظهر هذا القول فإنه يجب قتله بلا استتابة؛ لأنّ هذا القول مما لا شبهة فيه أصلا وإنما هي زندقة محضة.
وما ذكره شيخ الإسلام في تفصيل الكلام واضح من أنّ الرسالات جميعا جاءت بالإسلام وأن الرسل إنما يَفْضُلون بالإسلام لله رب العالمين وباتباع الأنبياء والرسل يشرف أقوامهم والأولياء، إلى آخر ما ساق من الآيات والأحاديث في هذا الباب.
نقف عند هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(52/83)
ومن إدعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد، وإذا قال أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، فهو شرٌّ من اليهود والنصارى الذين قالوا إنّ محمدا رسول إلى الاميين دون أهل الكتاب، فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فكانوا كفّارا بذلك، وكذلك هذا الذي يقول إن محمدا بُعث بعلم الظاهر دون على الباطن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر، وهو أكفر من أولئك؛ لأن علم الباطن الذي هو على إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة.
فإذا إدعى المدعى أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان، وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول أؤمن ببعض وأكفر ببعض ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين، وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولاية أفضل من النبوة، ويُلبِّسون على الناس فيقولون ولايته أفضل من نبوته، وينشدون:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي(52/84)
ويقولون نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن وَلاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى، فضلا عن أن يماثله هؤلاء الملحدون، وكلُّ رسول نبيٍّ وليٍّ، فالرسول نبي ولي، ورسالته متضمنة لنبوته، ونبوته متضمنة لوَلايته، وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون وَلايته لله فهذا تقدير ممتنع، فإنه حال إنبائه إياه ممتنع أن يكون إلا وليا لله، ولا تكون مجردة عن وَلايته، ولو قُدرت مجردة لم يكن أحد مماثلا للرسول في وَلايته، وهؤلاء قد يقولون كما يقول صاحب الفصوص ابن عربى: أنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، وذلك أنهم اعتقدوا عقيدة المتفلسفة ثم أخرجوها في قالب المكاشفة، وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا أن الأفلاك قديمة أزلية لها علة تتشبَّه بها، كما يقوله أرسطو وأتباعه أو لها موجب بذاته كما يقوله متأخروهم كابن سينا وأمثاله، ولا يقولون إنها لربٍّ خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته، ولا يعلم الجزئيات، بل إما اأن ينكروا علمه مطلقا كقول أرسطو، أو يقولوا إنما يعلم في الأمور المتغيرة كلياتها كما يقوله ابن سينا. وحقيقة هذا القول إنكار علمه بها، فإن كل موجود في الخارج فهو معين جزئي الأفلاك كل معين منها جزئي، وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات، والكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان، والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر في رد تعارض العقل والنقل وغيره، فإن كُفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى، بل ومشركي العرب، فإن جميع هؤلاء يقولون إن الله خلق السموات والأرض، وإنه خلق المخلوقات بمشيئته وقدرته، وأرسطو ونحوه من المتفلسفة واليونان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وهم لا يعرفون الملائكة والأنبياء، وليس في كتب أرسطو ذكر شيء من ذلك وإنما غالب(52/85)
علوم القوم الأمور الطبيعية، وأما الامور الإلهية فكل منهم فيها قليل الصواب كثير الخطأ، واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم بالإلهيات منهم بكثير، ولكن متأخروهم كابن سينا أرادوا أن يُلفِّقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل، فأخذوا أشياء من أصول الجهمية والمعتزلة، وركبوا مذهبا قد يعتزى إليه متفلسفة أهل الملل، وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبّهنا على بعضه في غير هذا الموضع، وهؤلاء لما رأوا أمر الرسل كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قد بهر العالم، واعترفوا بأن الناموس الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم ناموس طرق العالم ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن أرادوا ان يجمعوا بين ذلك وبين أقوال سلفهم اليونان الذين هم ابعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأولئك قد اثبتوا عقولا عشرة يسمونها المجردات والمُفَارَقات وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن وسموا تلك المفارقات لمفارقتها المادة وتجردها عنها وأثبتوا الأفلاك لكل فلك نفسا وأكثرهم جعلوها أعراضا وبعضهم جعلها جواهر، وهذه المجردات التي أثبتوها ترجع عند التحقيق إلى أمورموجودة في الأذهان لا في الأعيان كما أثبت أصحاب فيثاغورس أعداد مجردة، كما أثبت أصحاب أفلاطون الأمثال الأفلاطونية المجردة أثبتوا هيولى مجردة عن الصورة ومدة وخلاء مجردين، وقد إعترف حذاقهم بأن ذلك إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان، فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم كابن سينا أن يثبت أمر النبوات على أصولهم الفاسدة، وزعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة من إتصف بها فهو نبي:(52/86)
الأولى أن تكون له قوة علمية يسمونها القوة القدسية، (1)
__________
(1) ما سبق يريد منه الشيخ تقي الدين رحمه الله أنْ يربط ما بين قول غلاة المتصوفة في مسألة الولاية وقول الفلاسفة، فإنّ غلاة المتصوفة أخذوا تفضيل الولي على النبي من الفلاسفة، والفلاسفة -كما ذكرت لك في الدرس الماضي- قالوا إنّ الفيلسوف وصل إلى الحكمة بجهده، وأما النبي فوصل إليها بإعطاء، ومعلومٌ أن المجتهد أفضل من المُعطى وهؤلاء نظروا إلى جهة العمل؛ لأنّ الحكمة والفضل يرجع إلى جهتين: إلى قوة علمية وإلى قوة عملية، فالفلاسفة فضلوا من الجهة العلمية؛ فضلوا الفلاسفة والحكماء على الأنبياء من جهة العلمية، والصوفية؛ غلاة المتصوفة فضلوا الأولياء على الأنبياء من الجهة العملية التي أساسها الجهة العلمية؛ لكن طابع الفلاسفة غير طابع المتصوفة، طابع الفلاسفة شيء والمتصوفة شيء آخر، سبب هذا التفضيل راجع إلى ما وصف لك شيخ الإسلام من أصول أقوال الفلاسفة من فلاسفة اليونان أصلا، والقول بوجودات مجردة وكليات مجردة وتصرفات للكواكب أو تصرفات للعلل التي تنتج المعلولات، وأنّ إدراك هذه الحقائق الكلية وتأثيراتها في هذا الكون هو حقيقة الحكمة والعلم الذي يتفاضل به الناس، فالقوة مختلفة؛ فالقوة العلمية والعملية هذه هي أقوى الإدراكات، وكذلك القوة التخيلية التي بها يُتخيل الأمر، فرجعوا بالنبوات إلى أنها إجتماع قوة علمية وعملية وتخيلية، فلهذا قالوا: نحن نقول ما نقول عن برهان، وأما الأنبياء والرسل فقالوا ما قالوا عن تخيل. والبرهان الذي أقاموه برهان خطابي لا برهان عقلي فإنما جاء في النبوات من ذكر الجنة والنار وذكر الغيبيات أمور عندهم خَطابية والعقليات المجردة وتصور الأمثلة المجردة عن الواقع، المقصود من هذا الكلام وهو مبسوط وله كلام لشرحه ولايناسب شرحه في المساجد.
المقصود من هذا الصلة ما بين قول الفلاسفة الإسلاميين والفلاسفة اليونانيين ثم ما نتج من قول الصوفية، وفي الحقيقة أن الصوفية لم يأخذوا هذا القول كما ذكر شيخ الإسلام أو ما ألمع إليه كلامُه لم يأخذوه من الفلسفة الإسلامية، بل أخذوه من الفلسفة اليونانية، وأصل ذلك أن الفلسفة اليونانية والفلسفة القديمة لها قسمان:
فلسفة علمية: وهذه المراد منها الوصول إلى حقائق الأشياء العلمية على ما هي عليه.
والنوع الثاني فلسفة عملية: والمراد منها الوصول بالروح إلى إشراقها.
ولهذا صارت الفلسفة أقساما ومنها الفلسفة العلمية التي ذهب إليها أفلاطون وتلميذه أرسطو، والفلسفة الإشراقية التي قال بها أفلوطين (أفلوطين غير أفلاطون).
دخلت المذاهب –يعني فيه تفاصيل لمذاهبهم وكذا- هذه إلى بلاد المسلمين وتلقفها من تلقفها:
فالفلسفة العلمية تلقفها العقلانيون من المعتزلة فنشأ من خليط ما عند أهل الإعتزال وما عند الفلاسفة وما في النصوص ما يسمى بعلم الكلام، خليط من هذه الأشياء الثلاثة عقيدة المعتزلة، النصوص، فالفلسفة، فنشأ علم الكلام من مجموع هذه الثلاثة أشياء.
وأما الفلسفة العملية الإشراقية فهذه أيضا دخلت إلى المسلمين عن طريقين: الطريق الأول طريق الكتب المترجمة، والطريق الثاني مخالطة طائفة كبيرة من المسلمين للنصارى في أديرتهم في الشام وفي العراق وفي غيرها.
دخلت الفلسفة الإشراقية -الفلسفة الإشراقية معناها الوصول بالروح إلى إشراقها فتتعدى العالم المحسوس إلى العالم غير المحسوس، وهذا يصل بالرياضة، يصل إليه الواصل بالرياضة-، هذا النوع هو الذي دخل في الصوفية فنشأ الغلو في التصوف من جهة دخول فلسفة أفلوطين الإشراقية، ونشأ ما يسمى بالسلوك الضال أو التصوف في خليط ما بين الزهد الشرعي، وما بين الإشراق الفلسفي وظهرت النظريات أو الأقوال المختلفة عند الصوفية الغالية من الإتحاد والوحدة والفناء إلى آخره نتيجة لهذا.وصلوا كما وصل إليه الفلاسفة العمليين الإشراقيين إلى أنّ الإنسان قد يصل إلى مرتبة تُكشف عنه فيها الحُجُب فيصل إلى ما وراء العالم المنظور إلى آخره.
فحصل القول عند الطائفتين أن الفيلسوف صاحب المحكمة هو أفضل البشر، فالفيلسوف العلمي العقلي أفضل من غيره، وهذا الذي قال به الفلاسفة مثل ابن سينا وجماعته، قالوا يتفضيل الفيلسوف على النبي لما ذكرنا لك في الدرس السابق، والصوفية فضّلوا الولي صاحب الإشراق على النبي؛ لأن النبي حجب بالحجب أما ذاك فأشرق فكمُل ووصل إلى مشاهدة الرب جل وعلا وسماع كلامه والأخذ من المعدن الذي أَخذ منه الملَك الذي نقل إلى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه؛ ففضَلوا من جهة أنهم أخذوا بلا واسطة وأن الأنبياء أخذوا بواسطة.
فيه تفاصيل في هذا الكلام معروف؛ لكن بيان أصل الإتباط ما بين القول بتفضيل الولي على النبي في ربطه بالفلاسفة العلميين والفلاسفة العمليين كما ذكرتُ لك.(52/87)
ينال بها من العلم بلا تعلم.
الثاني أن يكون له قوة تخيليّة تخيل له ما يعقل في نفسه بحيث يرى في نفسه صورا أو يسمع في نفسه أصواتا كما يراه النائم ويسمعه ولا يكون لها وجود في الخارج، وزعموا أن تلك الصور هي ملائكة الله، وتلك الأصوات هي كلام الله تعالى.
الثالث أن يكون له قوة فعالة يؤثر بها في هيولى العالم.
وجعلوا معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق السحرة هي قوى النفس، فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم من قلب العصا حية دون إنشقاق القمر ونحو ذلك، فإنهم ينكرون وجود هذا. وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع وبينا أن كلامهم هذا أفسد الكلام، وأن هذا الذي جعلوه من الخصائص التي تحصّل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأتباع الأنبياء وأن الملائكة التي أخبرت بها الرسل أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله وهم كثيرون، كما قال تعالى?وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ?[المثر:31]، وليسوا عَشَرة، وليسوا أعراضا لاسيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو العقل الأول، وعنه صدر كل ما دونه، والعقل الفعال العاشر رب كل ما تحت فلك القمر، وهذا كله يُعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل، فليس أحد من الملائكة مبدع(1) لكل ما سوى الله، وهؤلاء يزعمون أن العقل المذكور في حديث يروى «إن أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل، فقال له أدبر فأدبر، فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم على منك، فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب» ويسمونه أيضا القلم لما روى «إن أول ما خلق الله القلم» الحديث رواه الترمذي. والحديث الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، كما ذكر ذلك أبو حاتم البُستي(2) والدار قطني وابن الجوزي وغيرهم، وليس في شيء من دواوين الحديث التي يُعتمد عليها، ومع هذا فلفظه لوكان ثابتا حجةً عليهم، فإن لفظه أول ما خلق الله تعالى العقل قال
__________
(1) تكون (مبدعًا) لأنها خبر ليس.
(2) أبو حاتم البستي يعني ابن حبان.(52/88)
له، ويروى لما خلق الله العقل قال له، فمعنى الحديث أنه خاطبه في أول أوقات خلقه ليس معناه أنه أول المخلوقات، وأول منصوب على الظرف كما في اللفظ الآخر لمّا، وتمام الحديث ما خلقت خلقا أكرم علي منك، فهذا يقتضى أنه خلق قبله غيره، ثم قال فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب، فذكر أربعة أنواع من الأعراض وعندهم أن جميع جواهر العالم العلوي والسُّفلي صدر عن ذلك العقل، فأين هذا من هذا وسبب غلطهم أن لفظ العقل في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونان، فإن العقل في لغة المسلمين مصدر عَقَلَ، يَعْقِلُ، عَقْلاً كما في القرآن ?وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أو نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ?[الملك:10]، ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ?[النحل:12]، ?أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أو إذا نٌ يَسْمَعُونَ بِهَا?[الحج:46]، ويُراد بالعقل الغريزة التي جعلها الله تعالى في الإنسان يعقل بها، وأما أولئك فالعقل عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل، وليس هذا مطابقا للغة الرسل والقرآن، وعالم الخلق عندهم كما يذكره أبو حامد عالم الأجسام العقل والنفوس فيسميها عالم الأمر، وقد يسمى العقل عالم الجبروت، والنفوس عالم الملكوت، والأجسام عالم الملك، ويظن من لم يعرف لغة الرسل ولم يعرف معنى الكتاب والسنة أن ما في الكتاب والسنة من ذكر الملك والملكوت والجبروت موافق لهذا، وليس الأمر كذلك، وهؤلاء يُلَبِّسون على المسلمين تلبيسا كثيرا كإطلاقهم أن الفَلَك محدث أي معلول مع أنه قديم عندهم، والمحدث لا يكون إلا مسبوقا بالعدم، ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلى محدثا، والله قد أخبر أنه خالق كل شيء، وكل مخلوق فهو محدَث، وكل محدث كائن بعد أن لم يكن، لكن ناظَرَهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبرت به(52/89)
الرسل، ولا أحكموا فيها قضايا العقول، فلا للإسلام نصروا، ولا للأعداء كسروا، وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة، ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة، فصار قصور هؤلاء في العلوم السّمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك كما قد بُسط في غير هذا الموضع.
وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون جبريل هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، والخيال تابع للعقل، فجاء الملاحدة الذين شاركوا هؤلاء الملاحدة المتفلسفة وزعموا أنهم أولياء الله، وأن أولياء الله أفضل من أنبياء الله، وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة، كابن عربي صاحب الفتوحات والفصوص، فقال: إنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملَك الذي يوحي به إلى الرسول، والمعدن عنده هو العقل، والملك هو الخيال، والخيال تابع للعقل، وهو بزعمه يأخذ عن الذي هو أصل الخيال، والرسول يأخذ عن الخيال، فلهذا صار عند نفسه فوق النبي، ولو كان خاصة النبي ما ذكروه، ولم يكن هو من جنسه فضلا عن أن يكون فوقه، فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين، والنبوة أمر وراء ذلك فإن ابن عربى وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة ليسوا من صوفية أهل العلم، (1) فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين.
والله سبحانه وتعالى قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء(2)
__________
(1) أهل الكلام –مثل ما في النسخة الثانية- لأن أهل الكتاب والسنة هم أهل العلم
(2) المقصود من هذا: الصلة بما سبق الكلام عليه من الفرق ما بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وكرامات الأولياء ومخاريق السحرة ومعجزات الأنبياء، فإنّ الخوارق كما ذكرنا التي تحصل في الأرض ثلاثة أصناف:
خوارق الأنبياء وهذه تسمى آيات وبراهين، وآيات الأنبياء قسمان: آيات كبرى وآيات صغرى.
والثاني من الخوارق ما يختص بالأولياء، وهذه يُقال لها كرامة، وهذه تكون من الآيات الصغرى للأنبياء، أو من جنس الآيات الكبرى مع اختلافها معها في الذات والقدْر والصفة.
والثالث خوارق جرت على ايدي السحرة والكهنة، فهذه مخاريق الشياطين ليست من الله جل وعلا إمدادا لهم، وإنما هي من الشياطين إبتلاء لهم.
الأول آيات وبراهين، والثاني كرامات، والثالث خوارق شيطانية.
أما آيات الأنبياء فإنها لا تشبه كرامات الأولياء، ولا تشبه مخاريق السحرة والشياطين والكهنة، فربُّنا جل وعلا قال في وصف الآيات التي أعطاها نبيه صلى الله عليه وسلم محمدا قال ?لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى?[النجم:18] فدل على إنقسام آيات ربنا جل وعلا إلى كبرى وما هو أدنى من ذلك صغرى وغيرها. كذلك قوله جل وعلا في موسى عليه السلام ?فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى(20)فَكَذَّبَ وَعَصَى?[النازعات:20-21]، فدل المفهوم أن هناك آيات دون ذلك؛ فالآيات الكبرى هذه لا يَشْرَكهم فيها حتى الأولياء لا يمكن أن يعطى الولي آية كبرى؛ لأنّ هذه الآية الكبرى دليل نبوة النبي ودليل رسالة الرسول عليهم صلوات الله وسلامه، أما الآيات الصغرى مثل نبع الطعام منبع الماء قليل مثلا من الأصابع أو مثل سماع الأخبار أو مثل المشي على الماء أو أشباه ذلك هذه آيات تحصل للأنبياء -أو تكثير الطعام القليل- تحصل للأنبياء وتحصل للأولياء وأما الآيات الكبرى فإنها إنْ حصل للولي فإنما يحصل له ما من جنسها لكن لا يماثلها قدْرا ولا ذاتا ولا صفة؛ مثل النار التي جعلت لإبراهيم عليه السلام فأنجاه الله منها، والنار التي جعلت لأبي مسلم الخولاني في نجد فأنجاه الله منها، فما بين النار والنار فرق، وما بين الصفة والصفة فرق، وما بين سبيل النجاة وسبيل النجاة فرق.
فإذن هنا بهذا التفصيل يزول إشكال من قال إنه لا كرامة للولي لأنه لو قلنا بالكرامات لاشتبهت خوارق الأنبياء وآياتهم بكرامات الأولياء كما هو مذهب المعتزلة وابن حزم وجماعة ممن أنكر كرامة الأولياء وأنكر الخوارق، وكذلك يبطل قول من قال أن كل خارق يحصل لحكيم أو لولي، فإنها قد تحصل للشياطين لكن ما يحصل للشياطين فليس معجِزا إلا لمن لم يكن مثلهم، أما من كان مثلهم فهو لا يعجز، لأنّه ليس بإقداره هو وإنما بمقدرته يعني أن الشياطين أعطته ذلك حصل له ذلك بالكهانة، حصل له ذلك بالسحر أما الكرامة فهي من الله جل وعلا لعبده، فالسحرة مثلا الذين جاءوا لموسى جاءوا بسحر عظيم هؤلاء سحرهم العظيم إنما كان خارقا على من لم يكن ساحرا، أما من كان ساحرا فليس عليه بخارق وأما أهل الكرامات، كرامات الأولياء الأولياء الذين لهم الكرامات فإنّهم جنسها يختلف ما بين ولي وولي، وما بين مُكرَم بهذه الكرامة وآخر، وكل أجناسها يكون مُعجزا أو خارقا لناس زمانهم، وقد يكون حصل لناس في الزمن الأول كرامة هي في وقتنا الحاضر ليست كرامة لأنها تحصل لآحاد الناس مثل الطيران في الهواء، مثل المشي على الماء وأشباه ذلك، أو أنْ يكون في الشتاء القارس بملابس خفيفة هذا قد يحصل الآن لاختلاف الزمن.
فإذن كرامة الولي تحصل خارقةً لناس زمانهم ليس الناس جميعا أو للإنس والجن جميعا، وإنما لناس زمانه أي في أرضه ومن عنده؛ ليدل ما حصل له على كرامته على الله جل وعلا، أما خوارق الأنبياء آياتهم وبراهينهم الكبرى فإنها خارقة [انتهى الشريط الرابع] لعادة الجن والإنس جميعا لهذا ينبغي أن يُضبط قول من قال خارق للعادة في الكرامات أو في الخوارق أو في آيات الأنبياء أو في المعجزات.
خارق للعادة, العادة هذه عادة من؟ فإن فُسِّرت بأنها عادة الجن والإنس جميعا فيكون الخارق آية وبرهان لنبيٍّ, لأن الله جل وعلا قال في سورة الإسراء ?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?[الإسراء:88]. فجعلها معلّقة في الجن والإنس جميعا، وأهل الكرامات يكون خارقا لعادة الناس في بلدهم وزمنانهم، فقد لايكون خارقا لأناس في طرف من الأرض آخر, يكون خارقا لمثل أهل زمانهم ما يحصل لهم مثل هذا, مثل مثلا يحضر له عنب في وقت الصيف أو في وقت الشتاء هذا بالنسبة لأهل مكة ليس عندهم عنب لكن لو لكن لو تذهب إلى بلد آخر يكون فيه، هذا ينبغي أن لا يكون خلط هذا بهذا. أما السّحرة والكهنة والخوارق الشيطانية تتقيد بأنها خارقة لعادة من لم يكن مثلهم؛ يعني لمن من الناس من لم يكن ساحرا، ولا يدخل في ذلك من هو أعلى منهم قدرا في المعجزات والبراهين مثل الأنبياء.
مقصود شيخ الإسلام بما مرّ إثبات الكرامات، وأن الكرامة إنما هي خارق أُيِّد به ولي، أو أُعْطِيه ولي، وأنّ جنس الخوارق قد يحصل للشياطين، وأنّ قول طائفة من الصوفية أو أكثر الصوفية أن كل خارق دليل الكرامة هذا غلط، كذلك من شاركهم في ذلك مثل القلاسفة وأتباع الفلاسفة الذين قالوا إنّ الخوارق تحصل بالرياضات؛ فإذا إجتمعت القوة العلمية بالتخيلية والفعلية صار .... الخوارق، قالوا هذه تحصل بالرياضات والجوع والتعب، فبالعلم تحصل القوة العلمية ..... المعلومات، وبالجوع والسهر تحصل القوة التخيلية، وصدق من قال أنه تحصل القوة التخيلية كما قال الذهبي في السير وفي غيرها، لأنهم إذا أداموا الجوع وأدمنوا السهر فإنه فقد يتصورون أشياء ويتخيلون صورا ويسمونها ملائكة، ويسمعون أصواتا من جراء إضطراب أبدانهم وعقولهم ويجعلونها نداء من الملأ الأعلى وهي الشياطين خاطبتهم إلى غير ذلك.
فهذا فرقان عظيم ما بين ما يُعطاه الولي من الكرامة، وما يكون عند الكهنة وأولياء الشياطين من الخوارق، أو ما عند الفلاسفة من الخوارق، فالفلاسفة يقولون لا فرق فإنها تحصل النبوة علما وعملا؛ علم: قوة علمية، وعمل: قوة فعلية، وتخيلات، هذا يحصل للفيلسوف ويحصل للنبي، فالأنبياء إنما هم فلاسفة وأولي إصلاح العالم. نسأل الله جل وعلا العفو والعافية، عليهم من الله ما يستحقون، معلوم أنه فرق كبير بين هذا وهذا. لا يستوي الليل والنهار.
...هيولى الشيء ما منه يتكون؛ قد تكون مادة قد يكون غيرها؛ فهيولى العالم يعني مكونات العالم.
نبّه شيخ الإسلام على مسألة مهمة، ليكن تقعيد في العلوم جميعا، وهي أن: المصنف لعلم قد يستخدم عبارات يتلقاها المتلقي في ما عنده من معنى هذه العبارات والمصنف عنى بها معتى آخر، ويصبح يردد كلام هذا المؤلف أو هذا الذي قرأ كلامه والمراد مختلف؛ مثل قول الفلاسفة إنّ هذا العالم مُحْدَث، أو قولهم في العقل، العقل عندهم غير العقل عند العرب، فالعقل عند منطق اليونان، عند فلسفة اليونان ومن ورث فلسفتهم له معنى آخر، له معنى آخر غير العقل في النصوص، العقل في النصوص له مراد، والعقل هناك له مراد آخر، ولهذا لما جاء أهل الكلام راموا الجمع ما بين الفلسفة والشريعة، فظنوا أن العقل هناك هو العقل في النصوص، فجمعوا بينها على ما ترون بما سُمي بعلم الكلام، فعلم الكلام خليط ما بين فهم الفلسفة وفهم الشريعة وجاء المشترك بينهم الألفاظ التي جاءت هنا وهنا مثل ما نبه شيخ الإسلام، فإذن استعمال لفظ في معنى لم يرده من وضفه أو من استعمله فيه هذا لاشك أنه يُحدث جنايات، وهذا من أنواع استعمال المصطلحات التي تُحدث جنايات في الأمة، كذلك لفظ المُحدث؛ يقول الفلاسفة مثلا هذا العالم مُحدث نحن قد نستعمل المحدث ونريد به أنه مخلوق خُلق وأُحدث من غير مثال سابق –أُحْدث-، وهم يريدون بكلمة محدث أنه معلول، لأنّ المحدث عندهم لا بد أن يكون عن علة أحدثته عندهم، الحدث هو المعلول فإذا قال العالم محدث أو قال هذا الملكوت الذي تراه محدث لا يعني أنه مخلوق، يعني أنه معلول لعلة سبقته، وعلة سبقتها علة إلى أن تصل إلى الأصل الفعال إلى أن نصل إلى الأصل الذي صدرت عنه العلل ومعلولات العلل. فهذا يعطيك تحفُّزا في أنّ استعمال الألفاظ الشرعية لا بد منه بل هو المتعين؛ وأن طالب العلم إذا احتاج إلى استعمال ألفاظ القوم فلا بد أن يفهم مرادهم منها أولا، ثم المراد منها لغة ثانيا، استعمال غيرهم ثم ينزلها منزلتها اللائقة بها، أما أنْ يسمع لفظا ثم يستعمله بدون معرفة لأبعاده ومعرفة المعنى الأول المستعمل له، فهذا يحدث فسادا ويحدث خللا، مثل الألفاظ هذه التي تستعمل؛ المحدثة، قد يستعملها المرء ويظن أنها سليمة لكنّ مراد الأول غير مراد الثاني بها, فأنت تنشر لفظا أُريد به باطل لفهمك له فهما صحيحا، هذا ليس سليما؛ لأنّ المتلقي قد يفهمه فهم الأول أو قد يُنشر في الناس الفهم الأول، فتصبح أنت ناقل لمصطلحات الناس؛ مثل لو قلنا مثلا للناس أنّ الله جل وعلا ليس بجسم، بمعنى ليس بجسم يدخل فيه قول من قال أن الله لا يتصف بالصفات، يعني ليس بجسم هذه الكلمة لمم يرِد نفيها ولم يرد إثباتها، ولو قلنا ليس بجسم كتلك الأجسام لكان صحيحا، لكن إطلاق هذا اللفظ يجعل هذه الكلمة وسيلة لتقرير عقائد باطلة. الألفاظ المحدثة كثيرة والمصطلحات في هذا متنوعة.
فإذن استعمال العقل في النصوص غير العقل عند الفلاسفة، استعمال لفظ الخارق عند أهل السنة غير الخارق عند الصوفية غير الخارق عند الفلاسفة، استخدام لفظ النبوة عندنا غير النبوة عند الفلاسفة، المعاد عندنا غير المعاد عند الفلاسفة، الخطاب، الوحي عندنا غير الوحي عندهم. فإذن معنى كل كلمة لابد له من استدلال، فبعض المعاصرين فيمن قرأنا بعض كتاباتهم لم يفهموا هذا فهما جيدا فأصبحوا ينتقدون بعض كلام شيخ الإسلام أو بعض كلام المحققين فيقولون بل نص فلان في الكتاب الفلاني على أن العالم مُحدث وقال أنه أقر بالنبوة أو ابن سينا أقرّ في موضع بالمعاد هو ما يعرف كلمة المعاد حيث وردت، كلمة العقل حيث وردت إلى آخره.
فإذن فهم كلام المتكلم على غير استعماله للعبارات؛ قد يستعمل عبارة لها مدلول عنده خاص، والمدلول عندنا يختلف فمحاكمته على مدلولاته لا على ما عندنا، فاختلاف اللغات في العلم يسبب خلالا في الفهم والتقويم والإدراك. نقف عند هذا وأسأل الله جل وعلا لي ولكم العفو والعافية.(52/90)
كقوله تعالى ?وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(27)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ(28)وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ?[الأنبياء:26-29]، وقال تعالى ?وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى?[النجم:26]، وقال تعالى ?قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22)وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ?[سبإ:22-23]، وقال تعالى ?وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ(19)يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ?[الأنبياء:19-20]، وقد أخبر أن الملائكة جاءت لإبراهيم عليه السلام في صورة البشر، وأن الملَك تمثّل لمريم بشرا سويا، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي ويراهم الناس كذلك، وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بأنه ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم رآه بالأفق المبين ووصفه بأنه ?شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6)وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(8)فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أو أَدْنَى(9)فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ(52/91)
مَا رَأَى(11)أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(12)وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى(13)عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى(14)عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى(15)إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى(16)مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى(17)لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى?[النجم:5-18].
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ير جبريل في صورته التي خُلق الله عليها غير مرتين، يعني المرة الأولى بالأفق الأعلى، والنزلة الأخرى عند سدرة المنتهى، ووصف جبريل عليه السلام في موضع آخر بأنه الروح الأمين وأنه روح القدس إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء العقلاء، وأنه جوهر قائم بنفسه ليس خيالا في نفس النبي، كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة والمدعون وَلاية الله، وأنهم أعلم من الأنبياء، وغاية حقيقة هؤلاء إنكار أصول الإيمان بأن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وحقيقة أمرهم جحد الخالق فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق وقالوا الوجود واحد ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع، فإن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، كما تشترك الأناسيُّ في مسمى الإنسان، والحيوانات في مسمى الحيوان، ولكن هذا المشترك الكلى لا يكون مشتركا كليا إلا في الذهن، وإلا فالحيوانية القائمة بهذا الإنسان ليست هي الحيوانية القائمة بالفَرَس، ووجود الشهوات ليس هو بعينه وجود الإنسان، فوجود الخالق جل جلاله ليس هو كوجود مخلوقاته، وحقيقة قولهم قول فرعون الذي عطّل الصانع فإنه لم يكن منكرا هذا الوجود المشهود، لكن زعم أنه موجود بنفسه لا صانع له، وهؤلاء وافقوه في ذلك، لكن زعموا بأنه هو الله فكانوا أضل منه، وإن كان قوله هذا هو أظهر فسادا منهم، ولهذا جعلوا عبّاد الأصنام ما عبدوا إلا الله وقالوا لما كان فرعون في منصب التحكم صاحب السيف وإن جاز في العرف(52/92)
الناموس كذلك قال أنا ربكم الأعلى، أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منكم بما أُعطيته في الظاهر من الحكم فيكم، قالوا ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله أقروا له بذلك، وقالوا إقضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضى هذه الحياة الدنيا، قالوا فصحّ قول فرعون أنا ربكم الأعلى وكان فرعون عين الحق، ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة، فصاروا كافرين بالله واليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله مع دعواهم أنهم خلاصة خاصة الخاصة من أهل ولاية الله، وأنهم أفضل من الأنبياء، وأن الأنبياء إنما يعرفون الله من مشكاتهم، وليس هذا موضع بسط إلحاد هؤلاء، ولكن لما كان الكلام في أولياء الله والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وكان هؤلاء من أعظم الناس إدعاء لولاية الله، وهم من أعظم الناس ولاية للشيطان، نبهنا على ذلك. (1)
__________
(1) هذا الكلام واضح في بيان إستطراده لبيان معتقد غلاة المتصوفة أصحاب وحدة الوجود مثل إبن عربي الطائي وأمثاله، وهؤلاء قالوا إنّ الوجود واحد، ووهذا الوجود إنما هو وجود الله جل وعلا، وينقسم إلى وجود مقصود ووجود غير مقصود, وأنّ وجود الله جل وعلا مقصود وهو الأصل وأن وجود غيره وهو وجوده سبحانه، إذْ لو لم يوجد غيره لم يوجد هو فصار الأمر إلى أن الوجود واحد، والوجود من حيث هو صفة لا توجد في الظاهر، لاتوجد كما ترى في خارج الأذهان إلا مضافة إلى متصف بها مثل المعاني العامة التي ذكرنا لكم فيما سبق المعاني لاتوجد من حيث هي عامة إلا في الأذهان؛ ما يوجد في الخارج شيء اسمه كلام، وشيء اسمه وجود، وشيء اسمه حياة، هكذا بدون موجود أو متكلم أو حي، إنما يوجد في الرأس في الذهن تصور الوجود، يوجد في الذهن تصور الحياة، لكنها في خارج الأذهان في الواقع لابد أن تضاف لمتصف بها، فالإشتراك في المعنى الكلي لا يعني الإشتراك في المعنى الإضافي، فالمعنى الكلي نعم؛ يشترك فيه كل موجود، ولكن لكل وجودٍ يناسبه، وإذا تفرّقت الأشياء بالوجود الذي يناسب كل شيء على حِدَا، فإن معنى ذلك أن الأشياء تغايرت فتباينت في الذات، مثل ما ذكر مثل الإنسان والفرس يشتركان في معنى الحيوانية وهي الحياة المتحركة؛ الحياة والحركة، يقال الحيوان الحيِّ المتحرك؛ يعني أن الإنسان والفرس إشتركا في هذه الصفة، لكن الحياة والحركة وهي الحيوانية هذه هل هي موجودة في الخارج بدون متصف بها ؟ لا. فهل يقال إنّ الإنسان والحيوان شيء واحد من جهة صفة الحياتية؟ لا قائل به حتى أصحاب وحدة الوجود. لكنهم يقولون من جهة صفة الوجود نعم. وهذا في الحقيقة راجع إلى شيء وهو أن أصحاب وحدة الوجود أخذوا هذا من قول الجهمية الذين لا يؤمنون إلا بصفة واحدة لله جل وعلا وهي صفة الوجود الأعظم، فلما لم يصفوا الله بشيء وكانت صفة وجود المخلوق مشكلة على إثبات وجود الله جل وعلا جعلوا الخالق عين المخلوق والمخلوق عين الخالق من جهة الوجود، حتى فرعون جعلوه رمزا أو صفة من صفات وجود الله جل وعلا؛ لأنه قال ?مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي?[القصص:38]، وقال ?أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى?[النازعات:24].
ومن هذا المنطلق أو من هذا المبدأ والأصل أخذه النصيرية وأخذه الدروز وأصحاب التناسخ والنصارى بأن هذا وهذا إتحدا وكانا شيئا واحدا، وتفصيل الكلام على مقالهم كما قال شيخ الإسلام ليس هذا موضعه، وإنما المقصود بيان فساد قولهم.(52/93)
ولهذا عامة كلامهم إنما هو في الحالات الشيطانية، ويقولون ما قاله صاحب الفتوحات باب أرض الحقيقة، ويقولون هي أرض الخيال، فتعرف بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال، ومحل تصرف الشيطان، فإن الشيطان يخيل للإنسان الأمور بخلاف ما هي عليه، قال تعالى ?وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ(36)وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ(37)حَتَّى إذا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ(38)وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ?[الزخرف:36-39]، وقال تعالى ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا? إلى قوله ?يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا?[النساء:116-120]، وقال تعالى ?وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ?[إبراهيم:22]، وقال تعالى ?وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ(52/94)
الْعِقَابِ?[الأنفال:48].
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه رأى جبريل يَزَعُ الملائكة، والشياطين إذا رأت ملائكة الله التي يؤيِّد بها عباده هربت منهم، والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته، قال تعالى ?إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا?[الأنفال:12]، وقال تعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا?[الأحزاب:9]، وقال تعالى ?إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا?[التوبة:40]، وقال تعالى ?إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ(124)بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ?[آل عمران:124-125]، وهؤلاء تأتيهم أرواح تخاطبهم وتتمثل لهم وهي جن وشياطين فيظنونها ملائكة كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام.(52/95)
وكان من أول ما ظهر من هؤلاء في الإسلام المختار بن أبي عبيد الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «سيكون في ثقيف كذاب ومبير» وكان الكذاب المختار بن أبي عبيد، والمبير الحجاج بن يوسف، فقيل لابن عمر وابن عباس أن المختار يزعم أنه ينزل إليه، فقالا صدق قال الله تعالى ?هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ?[الشعراء:221-222]، وقال الآخر وقيل له إن المختار يزعم أنه يوحى إليه فقال قال الله تعالى ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121]، وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات أنه أَلقى إليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أنواعا من الخلوات بطعام معين وشيء معين، وهذه مما تفتح لصاحبها اتصالا بالجن والشياطين فيظنون ذلك من كرامات الأولياء، وإنما هو من الأحوال الشيطانية وأعرف من هؤلاء عددا ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كانت يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السرقات بجُعل يحصل له من الناس أو بعطاء يعطونه إذا دلّهم على سرقاتهم، ونحو ذلك.(52/96)
ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، كما يوجد في كلام صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأشباه ذلك يمدح الكفار مثل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم، ويتنقص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وهارون، ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين كالجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثالهما، ويمدح المذمومين عند المسلمين كالحلاج ونحوه، كما ذكره في تجلياته الخيالية الشيطانية، فإن الجنيد قدس اللهُ روحه كان من أئمة الهدى، فسئل عن التوحيد فقال التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث، وبين الخالق والمخلوق، وصاحب الفصوص أنكر هذا وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له يا جنيد هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما، فخطّأ الجنيد في قوله إفراد الحدوث عن القدم؛ لأن قوله هو أن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قال في فصوصه: ومن أسمائه الحسنى العلي على من؟ وما ثم إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه، وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاته، وليست إلا هو. إلى أن قال: هو عين ما بطن، وهو عين ما ظهر، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز!!! وغير ذلك من الأسماء المحدثات.(52/97)
فيقال لهذا الملحد ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثا غيرهما، فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وغيره، وليس هو ثالث، فالعبد يعرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه، والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته، ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، والاستشهاد بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطنا وظاهرا، وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم، وهو أحذقهم في إتحادهم لما قرىء عليه الفصوص فقيل له القرآن يخالف فصوصكم، فقال القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، فقيل له فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حراما، فقال الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم. وهذا مع كفره العظيم متناقض ظاهرا، فإن الوجود إذا كان واحدا، فمن المحجوب ومن الحاجب؟ ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده من قال لك أن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له مريده فمن هو الذي يكذب؟ وقالوا لآخر هذه مظاهر، فقال لهم المظاهر غير الظاهر أم هي؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالنسبة وإن كانت إياها فلا فرق. وقد بسطنا الكلام على كشف أسرار هؤلاء في موضع آخر وبينا حقيقة قول كل واحد منهم، وأن صاحب الفصوص يقول المعدوم شيء ووجود الحق فاض عليهما. فيُفرِّق بين الوجود والثبوت(1)
__________
(1) هذا الكلام استطراد في بيان حال المدعون للإتحاد ووحدة الوجود والذي يهمُّك في هذا أشياء:
الأول: أن إنشاء شيخ الإسلام لهذا الإستطراد وهذه البينات لهؤلاء الملاحدة، الغرض أنّ أهل الشام ومصر في ذلك الوقت يعظمون أصحاب وحدة الوجود؛ يعظمون ابن عربي والتلمساني وأشباه هؤلاء، وابن الفارض يعظمونهم جدا، واشتهر عنهم أنهم يقولون بهذا الكلام ومع ذلك يعظمونهم، ولهذا أوجب أن يبين أن هؤلاء ليسوا من أولياء الله، فاستطرد ليبين لك فساد قول هؤلاء وأنه لا يكون أمثال هؤلاء أولياء لله جل وعلا.
الثاني: أنّ هؤلاء الملاحدة والزنادقة أمثال ابن عربي وأشباهه، شاع في الناس أنّ لهم كرامات وأنهم يخبِرون بأشياء تكون حقا، وأنّ الكهان من اتباعهم والمنتسبين للتصوف عندهم أحوال إيمانية ينكشف لهم بها الغيب، وأنّه يوحى إليه، وأنه تأتيه المعلومات ليست إلا عندهم، فجعلوا هذه الأشياء من كراماتهم فبيّن رحمه الله فيما ذكر أنّ هذه الأشياء التي تنسب إليهم صحيحة، ولكن ليست هي كرامات تأتيهم من الملائكة وإنما هي أحوال شيطانية تأتيهم من الشياطين ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121]، والشيطان يتنزل على مَن يواليه ويخبره بأشياء ويعلمه ويعطيه معلومات فربما حمله وربما تصور بصورته وربما طار به في الهواء وربما سخر له بعض الأشياء بما أقدره الله عليه، فإذن فالشأن ليس في أنّه يُخدم، أو أنه يُدَّعَى أنّ الملائكة تخدمه وتعمل له، ولكن الشأن هل هو من أولياء الله موافق لشرع الله ومتبع للسنة أو لا؟ فإذا لم يكن متبعا للسنة ويقول مثل هذه الأقوال الكفرية فنعلم قطعا أنه من أولياء الشيطان، وأنّ ما قاله وافتراه وادعاه من هذه الأقوال الباطلة هي دليل أنه شيطان من الشياطين، وأنّ المؤمن لا يجوز له أن يغتر بأحوال هؤلاء وأنْ يجعلهم من أولياء الله جل وعلا .
والثالث من أسباب إنشائه هذا الكلام أو الاستطراد: أنّ أكثر السحرة والكهنة في أزمنة الإسلام ادَّعَوا الصلاح، وادعوا أنّ ما يأتيهم إنما هو من جهة الملائكة، فهذا تسمعه عند كثير من مُغَفَّل من المسلمين وجهلتهم فيما يذكرون من أخبار بعض الناس في بلد كذا وبلد كذا وبلد كذا، هم يقولون فلان تأتيه هذا تخبره الملائكة لأنه رجل صالح، وهذا لاشك أن هذا من براثن تلك الخلفية العامة، فإذا قيل إنّ فلانا تنزل عليه الملائكة فاعلم أن هذا من جهة أولياء الشيطان؛ لأننا لا نعلم أحدا من الصحابة ولا من التابعين ولا من سادات المسلمين قيل أن الملائكة تنزل عليه فتخبره إلى آخره، وإنما هي دعوى لأولئك الفسقة الفجرة فيها يروجون على الناس في كهانتهم أو سحرهم، فالسحرة الآن يأمرون الناس بتلاوة القرآن؛ ويتلون عليهم القرآن ثم يخلطون معها غيرها، يقولون نخبركم؛ الملائكة تأتينا وتخبرنا، وهي الشياطين، وهم أصلا من أكذب الناس فكيف يصدَّقون في مثل هذه الأشياء، فإذن يبيّن شيخ الإسلام حال من كان في زمنه؛ وهو الوجه الثاني الذي ذكرنا، والوجه الثالث حال كل من ادعى نزول الملائكة عليهم، فإنّه الحجة كما قال ابن عباس في حال المختار بن أبي عبيد؛ قيل له إنه ينزّل عليه قال صدق فإنه تنزّل عليه الشياطين، كما قيل إنه يوحى إليه قال نعم كما قال الله ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121]
وملخص هذا أن الكلام أو الغرض منه ما ذكرنا من بيان الفرقان العظيم بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وأن مسألة خرق العادات ليست فرقانا؛ أن يحصل للمرء خارقا للعادة؛ أن يحصل له شيء لم يحصل لغيره هذا ليس دليلا على صلاحه، وليس دليلا على فساده، حتى ينظر في أمره فإن كان من أهل الإيمان والصلاح المتابعين للحق فإنه يرجى أن تكون هذه كرامة له، وإن كان من غير أهل الإيمان؛ من أهل البدعة والفسق والفجور فإن ما حصل له يعتبر فارقا شيطانيا وحالا شيطانية وليست بكرامة. فإذن هذا كل ما بحثه في هذا الموضع والذي قبله ملخصه أن الأحوال والخوارق ليست برهانا ولا دِلالة، وإنما البرهان والدلالة هو ما قال الله جل وعلا ? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62]، والملائكة لا تنزل إلا على الرسل أو على المؤمنين لتثبيتهم في القتال أما الإخبار بالمغيبات وأشباه ذلك فلا يكون، قد يُلقى في روع المؤمن من أن يكون هذا الأمر كذا؛ يكون من باب الفراسة الإيمانية التي يعطيها الله جل وعلا لمن يشاء من خلقه، لكن تحديث الملائكة ويقول سمعت الملائكة قالت لي الملائكة هذا لا شك أنه من صنيع الشيطان.
سؤال فقهي: أرجو التوضيح فيما قلتم في الفرق بين... ؟ البر والشعير من الأصناف الربوية كما هو معلوم والذهب والفضة من الأصناف الربوية والنبي عليه الصلاة والسلام قال «إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» فبهذا الحديث ترى عند اختلاف الأصناف أن يكون مقبوضا يدا بيد، ذهب بفضة لابد أن يكون يدا بيد، ذهب ببر لا بد أن يكون يدا بيد، ذهب بشعير، فضة بشعير يدا بيد، فهل هذا في كل الأنواع أم لا؟ هذا ليس في كل الأنواع، إذا كان أحد النوعين نقدا جاز التفاضل وأن نتداين، إذا كان أحد العوضين نقد...
هذا أحد الأخوة كتب على حقيقة التوحيد للدكتور يوسف القرضاوي فيه أغلاط كثيرة في التوحيد منها عده الذبح والنذر من الشرك الأصغر ومنها أن المقصود توحيد الربوبية وأشياء من هذا، ومن جهة مكاتب الدعوة والجاليات يُنَبَّهون إلى منعه من التداول ومن توزيعه وإقرائه... فمن رآه في مكتب ينبها إن شاء الله ونتابع هذا نحن مأمورون بإزالة هذا الكتاب مع أنه طبع في الإفتاء في المكان الذي نشروه تبع الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله لكن ... أنّ فيه أغلاط كثيرة فمن رآه ينبه صاحب المكتب الجاليات والدعوة عليه ويذكرني بهذا ... لأن فيه خلطا كثيرا .(52/98)
والمعتزلة الذين قالوا المعدوم شيء ثابت في الخارج مع ضلالهم خير منه فإن أولئك قالوا إن الرب خلق لهذه الأشياء الثابتة في العدم وجودا ليس هو وجود الرب، وهذا زعم أن عين وجود الرب فاض عليهما، فليس عنده وجود مخلوق مباين لوجود الخالق، وصاحبه الصدر القونوي يفرق بين المطلق والمعين لأنه كان أقرب إلى الفلسفة، فلم يقر بأن المعدوم شيء، لكن جعل الحق هو الوجود المطلق وصنَّف مفتاح غيب الجمع والوجود، وهذا القول أدخل في تعطيل الخالق وعدمه، فإن المطلق بشرط الإطلاق وهو الكلي العقلي لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان، والمطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي، وإن قيل أنه موجود في الخارج فلا يوجد في الخارج إلا معيَّنا، وهو جزء من المعين عند من يقول بثبوته في الخارج، فيلزم أن يكون وجود الرب إما منتفيا في الخارج، وإما أن يكون جزءا من وجود المخلوقات، وإما أن يكون عين وجود المخلوقات وهل يخلق الجزء الكل؟ أم يخلق الشيء نفسه؟ أم العدم يخلق الوجود؟ أو يكون يعض الشيء خالقا لجميعه؟ وهؤلاء يفرون من لفظ الحلول لأنه يقتضي حالاَّ ومحلاًّ، ومن لفظ الاتحاد لأنه يقتضي شيئين إتحد أحدهما بالآخر، وعندهم الوجود واحد ويقولون النصارى إنما كفروا لما خصصوا المسيح بأنه هو الله، ولو عمَّمُوا لما كفروا، وكذلك يقولون في عُبَّاد الأصنام إنما أخطأوا لما عبدوا بعض المظاهر دون بعض، فلو عبدوا الجميع لما أخطأوا عندهم، والعارف المحقق عندهم لا يضره عبادة الأصنام، وهذا مع ما فيه من الكفر العظيم، ففيه ما يلزمهم دائما من التناقض، لأنه يقال لهم فمن المخطىء؟ لكنهم يقولون إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التي يوصف بها المخلوق، ويقولون إن المخلوقات توصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق، ويقولون ما قاله صاحب الفصوص، فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفا أو عقلا أو(52/99)
شرعا، أو مذمومة عُرفا وعقلا وشرعا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة، وهم مع كفرهم هذا لا يندفع عنهم التناقض فإنه معلوم بالحسن والعقل أن هذا ليس هو ذاك، وهؤلاء يقولون ما كان يقوله التلمساني أنه ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل، ويقولون من أراد التحقيق يعنى تحقيقهم فليترك العقل والشرع. وقد قلت لمن خاطبته منهم، ومعلوم أن كشف الأنبياء أعظم، وأتم من كشف غيرهم، وخبرهم أصدق من خبر غيرهم، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته، لا بما يعرف الناس بعقولهم أنه ممتنع فيخبرون بمجارات العقول(1) لا بمحالات العقول، ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض صريح العقول، ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان سواء كانا عقليين أو سمعيين أو كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا، فكيف بمن ادعى كشفا يناقض صريح الشرع والعقل، وهؤلاء قد لا يتعمدون الكذب، لكن يخيل لهم أشياء تكون في نفوسهم ويظنونها في الخارج، وأشياء يرونها تكون موجودة في الخارج لكن يظنونها من كرامات الصالحين، وتكون من تلبيسات الشياطين، وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة قد يقدمون الأولياء على الأنبياء، ويذكرون أن النبوة لم تنقطع، كما يُذكر عن ابن سبعين وغيره، (2)
__________
(1) مجازات العقول يعني ما تُجيزه العقول فليس المقصود المجاز الذي هو قسيم الحقيقة أو مقابل الحقيقة؛ مجازات العقول هنا يعني ما تجيزه العقول، هذا أصل معنى المجاز؛ أصل معنى المجاز ما يجيزه الشيء، فمجاز في اللغة ما تجيزه، هنا مجاز العقول يعني ما تجيزه العقول لا بمحالات العقول.
(2) هذا الكلام راجع إلى كون كلام الناس في الإتحاد والحلول، وتقرير هذا الباب وفهم كلام شيخ الاسلام، هذا يحتاج إلى إيضاح لمعنى الحلول والإتحاد:
الحلول في عُرف القوم أن شيئين متمايزين مختلفين في الحقيقة يحل أحدُهما في الآخر مع بقاء التميّز.
والإتحاد أيضا شيئان مختلفانفي الحقيقة يتحد أحدهما بالآخر فيزول التميُّز.
• فالحلول يبقى هذا وهذا لكن الصورة الظاهرة واحدة، ولكن حل أحدُهما في الآخر؛ مثل الكأس والماء فالكأس إذا حلّ فيه الماء, حقيقة الكأس شيء وحقيقة الماء شيء وصارا شيئا واحدا كأس ماء لكن هناك تميز؛ يمكن هذا أن يفصل عن هذا.
• لكن الإتحاد مثل السكر والماء, الحبر والماء, الملح والماء، الشاي والماء, كانا منفصلين فاتحد أحدهما بالآخر حتى صارا لا ينفك أحدهما عن الآخر، يعني لا يتميز أحدهما عن الآخر، السكر لما ذاب في الماء، أين السكر؟ تقول في الماء، والماء ذاب فيه السكر، أين هذا وهذا؟ سكر وماء، أفصلهما، ما ينفصلان، ورق شاي حَطِّيتَهْ في الماء كذلك صار ماء وشاي إلى آخره. هذا الفهم في تقريرها مهم في بيان ما عليه الناس في ذلك.
إذا تبين هذا في المعنى العام. فالحلول نوعان، والإتحاد أيضا نوعان، الحلول عام وخاص عند أهله، والإتحاد عام وخاص عند أهله:
(فالقائلون بالحلول منهم من قال حلّ في أشخاص معينين؛ حلّ الله جل جلاله -تعالى الله عن قولهم- حلّ في أشخاص معينين؛ حلّ في عُزير عند اليهود، حلّ في المسيح عند النصارى، حلّ في البقر عند عباد البقر، حلّ في الإله الفلاني عندهم، حلّ في الصنم، حلّ في كذا وكذا إلى آخره، حلّ في أئمة آل البيت عند غلاة الرافضة، حلّ في الحاكم بأمر الله العبيدي عند الدروز، وهكذا، هذا حلول خاص في بعض المخلوقات.
(وهناك حلول عام وهو قول من قال: الله حالٌّ في كل مكان. وهذا قول المتكلمين والمعتزلة والأشاعرة وأشباههم، الله حالٌّ في كل مكان، في أي مكان هو حال، ولكن منفصل ليست مختلطة، الحقيقة متميزة.
والإتحاد نوعان أيضا: إتحاد خاص وإتحاد عام، والقائلون بالإتحاد هم غلاة التصوفة هم الذين يقولون بالإتحاد، وأما الحلول فلا يقول به غلاة المتصوفة وإنما يرون أنّ من قال بالحلول في شخص معين فهو كافر، فعند أهل الوحدة -وحدة الوجود، أو إتحاد الله بكل موجود حتى صارت الحقيقة مع حقيقة المخلوق غير متميزة- يقولون كفر من كفر لادعائه عدم الإتحاد أو لإدعائه الحلول في بعض المخلوقات دون بعض؛ لأنّ النصارى كفرت لأن المسيح حل فيه الله، واليهود كفروا كذا، والعرب كفرت لأنها قالت إنّ هذه الأصنام آلهة يعني يحل فيها الله، وهكذا، ولو أنهم قالوا حلّ في كل شيء؛ يعني إتحد بكل شيء فصارت الأشياء عين وجود الله جل وعلا لم يكفروا، وعندهم الإتحاد -عند القائلين به- نوعان: إتحاد خاص وهو ببعض المخلوقات، وإتحاد عام بجميع المخلوقات:
(فالذين يقولون بالإتحاد العام هم الذين يُعَبَّر عنهم بأصحاب وحدة الوجود، إتحد بالسموات والأرض؛ كل شيء هذه إتحد بها حتى صار موجود الحق جل وعلا هو عين وجود هذه المخلوقات، وجود المخلوقات هو عين وجود الله؛ حتى ما تفك هذه عن هذه، مثل السكر الذي ذاب في الماء صارت الحقيقة واحدة لا يمكن إنفصال إحدى الحقيقتين عن الأخرى.
(والذين قالوا بالإتحاد الخاص –غير الإتحاد العام- هؤلاء لا يقال لهم أصحاب وحدة الوجود هم طائفة من المتصوفة، فغلاة المتصوفة جميعا إتحادية، لكن منهم أهل وحدة الوجود ومن إتحد بكل موجود، بحيث صار عين الوجود واحدة، ومنهم من يقول بالإتحاد في بعض المخلوقات دون بعض.
ومن أعظم ما يدل على كفر هؤلاء؛ على كفر من يقول بالإتحاد العام وكذلك الإتحاد الخاص: أنّ هذا القول يعني أنّ الكفر والفِسق صارا في الله جل وعلا؛ لأن الفاسق والمجرم والقاتل والزاني وشارب الخمر وفاعل الفواحش والكاذب إلى آخره من أنواع الموبقات والكبائر لما كان هو عين الوجود ولا تمايز بينهما يكون لا يُفَرَّق بين الكاذب شَخْصًا والكاذب إتحادًا، لأنه صارت حقيقة واحدة، كما أننا لا نقول الماء حلو والسكر لا طعم، كما أننا لا نقول السكر حلو والماء لا طعم له، فأنت إذا شربت ماءً زِيد فيه سكر صارت الحقيقة واحدة، ما تستطيع أن تقول هذا حلو وهذا وهذا مالح والماء هذا فيه ملح ما تستطيع أن تميز بين هذا وهذا لأنه بالإتحاد صارت الحقيقة واحدة هذا هو معنى الإتحاد، فيلزم من هذا أن يكون كل من شر وكل فسق وكل هذا منسوب لله جل وعلا، لهذا ابن القيم لما ذكر هذه المسائل في أول النونية قال:
يا أمة منكوحها معبودها أين الإله وثغرة الطعام
ما فيه تفريق صار المنكوح حالّ فيه الإله يعني إتحد به الإله الحقيقة واحدة؛ مَاهُو حلّ لأن الحلول يقتضي الإنفصال في بعض الأحوال لكن المتحد مع المتحد به صارت الحقيقة واحدة صار الناكح هو المنكوح فأين الإله بين هذا وهذا، لاشك أن هذا من أعظم ما يكون من إهانة الرب جل وعلا وسبّه وعدم قدْره حق قدْره سبحانه. هؤلاء لما قالوا بالإتحاد وبالوحدة قالوا إنّ الاتحاد العام والوحدة العامة هذه متفاوتة بين أهلها؛ فيكون الولي له من الإتحاد لتخصيصه ما ليس لغيره من الموجودات، فلهذا يصبح ينظر بنظر الإله لما له من خصوصية في الإتحاد، ويصبح يقدْر بقدرة الاله لما له من خصوصية في الإتحاد، فالإتحاد عام لكن درجات المتَّحد بهم مختلفة من حيث الصفات، ولهذا جعلوا للأولياء مقاما يزيد على مقام الأنبياء؛ لأنّ عندهم درجة الإتحاد مختلفة فالأنبياء أعطوا درجة لكن هذه الدرجة زاد عليهم فيها أصحاب الوَحدة من جهة أنّ أولئك -في شبههم- وجودهم هو عين وجود الله جل وعلا، لكن عند غلاة المتصوفة الأنبياء يحتاجون في الأخذ من السماء كلام الله جل وعلا إلى واسطة، فلم يكن الإتحاد بهم من جميع الصفات, وأما الأولياء -كُمَّلُ الأولياء عندهم- فإنهم الإتحاد بهم جاء في الصفات كلها، لهذا يجعلون العالم مقسَّما قسم يتولاه الولي الفلاني وقسم يتولاه الولي الفلاني، وقسم يتولاه الولي الفلاني، إلى آخر ما عندهم في ذلك.
المقصود أن فهم هذا الكلام، وفهم هذه المسائل، وما يدور عليها:
راجع إلى فهم معنى الحلول والإتحاد.(واحد)
راجع إلى معنى أقسام الحلول والإتحاد.(اثنين)
راجع إلى أنّ أصحاب الوَحدة -غلاة الصوفية- يقسمون القسمة لاختلاف الصفات، فلا يجعلون الإتحاد عاما في الصفات، كما أن أهل الحلول لا يجعلونه متساويا فيمن حلّ بهم.
هذا أصل مسألة تفضيل الولي على النبي عندهم، وأن الولي له كرامات أكثر ويصل، تكشف عنه الحجب والنبي قد لا يُعمل عقله، لكن الولي يرى ما لا يراه غيره وحسه يكذب العقليات، إلى غير ذلك من المسائل. نعم
[سؤال: عن لازم المذهب هل هو من المذهب؟]
هذا إن كانوا ينكرون هم لا ينكرون هذا هم يفتخرون به قال ابن الفارض
لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلّت
ما في جبتي إلا هو، هم يعترفون بذلك مثل ما قال لك شيخ الإسلام أن رجلا من غلاتهم قال لمريده من حدّثك أن في الوجود غير الله فهو كاذب، إذا قال لك أحد في الوجود غير الله فهو كاذب، فقال له الغلام: من الكاذب؟!!! – ما أعرف من هو الكاذب إذا كان ما في الوجود غير الله- إذا ما كان في الوجود غير الله فمن الكاذب. فهم يعترفون، لازم المذهب ليس بمذهب إذا كان لا يُقِرُّه هو، لا يلتزم به، لكن في مثل هذه المسائل هم يلتزمون بها، نقول لازم المذهب ليس بمذهب في التفصيلات التي ذكرها شارحج الطحاوية في أولها: يلزم منها إبطال الرسالات... لازم المذهب ليس بمذهب، لكن في أنهم يرون أن هذا الذي صلى إليه هو الله ويستدلون بقوله تعالى ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ?[الإسراء:23] هذا قضاء كوني فلم يعبد إلا هو فمن عبد الصنم عبد الله ما كفر بعبادته الصنم ممكن الرجل الصالح يعبد الصنم ولا يكفر، لكن كفر باعتقاده أنّ الصنم غير الله جل وعلا لأن الصنم هنا منفصل باعتقاده في الحجر من حيث هو، أما إن عبد الحجر من حيث فيه الله حال فيه فهذا ما عبد غير الله جل وعلا، أعوذ بالله من كلامهم.
لكن المقصود من هذا أن تفهم مراد شيخ الإسلام في ما أورد أعوذ بالله منهم ومما قرب إلى قولهم. نعم
نحن ما أوردنا الآثار المترتبة، ولا أوردها هو، لكن هم إعترافهم أن المصلي صلى لنفسه:
لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت
لا يفرق بين هذا وهذا.
انفصل اللاهوت يعني الجثمان هذا صفة بشرية، روح عيسى هذه إلهية، لذلك عندهم أنه لما انقضت المدة مدة التكفير عن الخطيئة دفن عيسى بعد صلبه، والقسم اللاهوتي الذي حل في هذا الجثمان البشري صعد إلى الله يعني رجع إلى أصله؛ فيكون عندهم قبر في القدس لعيسى عليه السلام حسب ما يدعيه النصارى ?وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ?[النساء:157] عندهم أنه بقي في القبر ثلاثة أيام حتى الجثمان نفسه ثم صعد؛ رفع حتى الجثمان، يعني معتقد النصارى كلها أشياء يضحك منها العاقل فضلا عن ذوي البصيرة.
• شوف هذه عندك مخلوقات توصف هذه التي ذكرتها أنت من أن الوحدة عامة في الصفات، فجنس المخلوقات التي فيها صفات الخالق كلها يخصص بعضهم لكذا وبعضهم لكذا، يعني صفات الخالق موجودة في المخلوقات؛ لأنهم لما قالوا بأن وجود المخلوق هو عين وجود الله ووجود الله جل وعلا هو عين وجود المخلوق، فصارت صفات الحق جل وعلا؛ صفات الله سبحانه وتعالى موجودة في المخلوقات لكن بالتخصيص، تختلف بالتخصيص الذي ذكرته لك.
• (ويقولون ما قاله صاحب الفصوص، فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفا أو عقلا أو شرعا) لعله يعني بها هو لما قسمها إلى نعوت وجودية ونسب عدمية أنّ كمال يجمع ما بين النفي والإثبات، فالصفات صفات الكمال فيها وجود؛ صفات وجودية يثبتها يعني يثبتونها وجودا، وفيه أشياء تنفي وهي التي تسمى عند الأشاعرة والمتكلمين السُّلُوب؛ ما بسلب على الله جل وعلا فهنا يقول (فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية –وهي والمثبتة- والنسب العدمية – يعني الصفات السلبية-) لاحظ ما قال صفات وإنما سمّاها نسب يعني ما ينسب إليه مما يعدم ولا يثبت.(52/100)
ويجعلون المراتب ثلاثة يقولون العبد يشهد:
أولا طاعة معصية.
ثم طاعة بلا معصية.
ثم لا طاعة ولا معصية.
والشهود الأول هو الشهود الصحيح، وهو الفرق بين الطاعات والمعاصي، وأما الشهود الثاني فيريدون به شهود القدر، كما أن بعض هؤلاء يقول إنا كافرون برب يعصى، وهذا يزعم أن المعصية مخالفة الإرادة التي هي المشيئة(1) والخلق كلهم داخلون تحت حكم المشيئة ويقول شاعرهم:
أصبحت منفعلا لما تختاره مني ففعلي كله طاعات(2)
__________
(1) أنا كافر برب يُعصى) يَقصد به يُعصى في كونه، لكن التعبير هذا، تعبير كفري؛ لأن الله جل وعلا يعصى، يعصى في الأرض، فَهُم يشهدون الحقيقة الكونية فيقولون الله غالب على أمره، أمر الله نافذ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فيقولون إذا الرب لا يعصى فوقعت المعصية بإرادة الله الكونية وأمره الكوني، لكن لم تقع بإرادته الشرعية ولا كونه الشرعي، فعبروا بتعبير يوهم حال الإرادة والأمر، وهذا من الألفاظ الكفرية.
(2) لأنهم يقولون بالجبر، الصوفية جبرية.(52/101)
ومعلوم أن هذا خلاف ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه فإن المعصية التي يستحق صاحبها الذم والعقاب مخالفة أمر الله ورسوله كما قال تعالى ?تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(13)وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ?[النساء:13-14]، وسنذكر الفرق بين الإرادة الكونية والدينية والأمر الكوني والديني، وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية فبينها الجنيد رحمه الله لهم، ومن اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضل، لأنهم تكلموا في أن الأمور كلها بمشيئة الله وقدرته، وفي شهود هذا التوحيد وهذا يسمونه الجمع الأول، فبين لهم الجنيد أنه لابد من شهود الفرق الثاني، وهو أنه مع شهود كون الأشياء كلها مشتركة في مشيئة الله وقدرته وخَلقه يجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه، وبين ما ينهى عنه ويكرهه ويسخطه، ويفرق بين أوليائه واعدائه، كما قال تعالى ?أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[35-36]، وقال تعالى ?أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ?[ص:28]، وقال تعالى ?أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ?[الجاثية:21]، وقال تعالى ?وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ?[غافر:58]، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، ما(52/102)
شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا رب غيره، وهو مع ذلك أمر بالطاعة ونهى عن المعصية، وهو لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، وإن كانت واقعة بمشيئته فهو لا يحبها ولا يرضاها، بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم. وأما المرتبة الثالثة أن لا يشهد طاعة ولا معصية فإنه يرى أن الوجود واحد، وعندهم أن هذا غاية التحقيق، والوَلاية لله، وهو في الحقيقة غاية الإلحاد في أسماء الله وآياته وغاية العداوة لله. فإن صاحب هذا المشهد يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار أولياء وقد قال تعالى ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51]، ولا يتبرأ من الشرك والأوثان فيخرج عن ملة ابراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال الله تعالى ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ?[الممتحنة:4]، وقال الخليل عليه السلام لقومه المشركين ?أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:75-77]، وقال تعالى ?لاَتَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أو أَبْنَاءَهُمْ أو إِخْوَانَهُمْ أو عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ?[المجادلة:22]، وهؤلاء قد صنف بعضهم كتبا وقصائد على مذهبه مثل قصيدة ابن الفارض المسمات بنظم السلوك يقول فيها:
لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت(52/103)
كلانا مصل واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة
وماكان لي صلى سوائي ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال:
ومازلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتي لذاتي صلت
إلى رسولا كنت مني مرسلا وذاتي بآياتي على استدلت
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن منادى أجابت من دعاني ولبت
إلى أمثال هذا الكلام، ولهذا كان هذا القائل عند الموت ينشد يقول:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمنا واليوم أحسبها اضغاث احلام
فإنه كان يظن أنه هو الله، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه تبين له بطلان ما كان يظنه، وقال الله تعالى ?سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[الحديد:1] (1) فجميع ما في السموات والأرض يسبح لله ليس هو الله ثم قال تعالى ?لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(2)هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[الحديد:2-3].
__________
(1) وكذلك في الحشر:1، الصف:1.(52/104)
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه «اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، إقض عنى الدَّين وأغنني من الفقر» ثم قال تعالى ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?[الحديد:4]، فذكر أن السموات والأرض وفي موضع آخر وما بينهما مخلوق مسبح له، وأخبر سبحانه أنه يعلم كل شيء، (1)
__________
(1) هذا الكلام له سابق بني عليه، لكن خلاصة ذلك كما قال في أوله حيث قال عنهم يعني الذين يقولون بالوحدة: يجعلون المراتب ثلاثة من حيث شهود الطاعات والمعاصي يقولون العبد يشهد أولا طاعة ومعصية، ثم يشهد طاعة بلا معصية، ثم لا يشهد طاعة ولا معصية. فعندهم أنّ الناس مرتبون على ذلك، فأقل درجات الناس الذين يشهدون الطاعات والمعاصي، ثم يطيع ولا يرى المعصية يعني سقطت عنه التكاليف في المعاصي لعدم تأثيرها فيه ثم تسقط عنه التكاليف كلها لا في التكاليف ولا في المعاصي لعدم تأثير الطاعات فيه إيمانا ولعدم تأثير المعصية فيه إيمانا أو جحدا أو كفرانا، وكما هو معلوم من كلام شيخ الإسلام كما سمعت أن الأول ولا شك أنه هو الذي أُمر به العباد أن يشهدوا الطاعة والمعصية، أن تسره طاعته وأن تسأه معصيته، هذا هو حال الأنبياء والمرسلين وحال أولياء الله جل وعلا.
وأما شهود الطاعة بلا معصية أو لاشهود لا طاعة ولا معصية، هذا عند الصوفية له منشأ، ومنشؤه الغلو في إثبات المشيئة الكونية القدرية وعدم النظر في المشيئة الكونية والإرادة الشرعية، وذلك أنّ النصوص كما هو معلوم لكم في غير هذا الموضع قررت الفرق بين ما يشاؤه الله جل وعلا كونا وبين ما يريده شرعا، فالعبد ينظر بنظرين؛ ينظر إلى ما ينفذه الله جل وعلا في ملكوته كونا وأنه واقع بمشيئة الله جل وعلا الطاعة والمعصية جميعا كما هو قول أهل الحق في القدر، وأنّ الطاعة كانت من مشيئة الله وأن المعصية كانت من معصية الله، وأمّا الشرع فنقول الإرادة الشرعية أن تُفعل الطاعة وألا تفعل المعصية. فإذا غلب على العبد شهود الأمر الكوني نظر إلى أنّ العباد مجبرون على الطاعات وعلى المعاصي، فيُثبت أن الله جل وعلا أجبر العباد، ولذلك الصوفية كلهم جبرية؛ ومنهم من يغلو في الجبر حتى يرى أنّ الإنسان لا منزلة له لشهود الإرادة الكونية حيث لا قيمة له، لا اختيار له أصلا إنما هو مفعول به دائما، ومنهم من يرى الطاعة دون المعصية في شهود الأمر الكوني يعني أنّ المعصية إنما وقعت لأجل الطاعة، لأجل الطاعة يعني من جهة التوبة ومن جهة الإنابة وأشباه ذلك، فإنما يرى طاعة الله بلا معصية لحصول المعصية بحكمة الله جل وعلا، فيرى إذن أمر الله جل وعلا الكوني خاص بالطاعات دون المعاصي وأنّ المعاصي غير مقصودة لذاتها، فالله أجبر على المعصية عندهم ولكن لأجل الطاعة، وهذا إذا نظر فيه المكلف أيضا يعني منهم فيقول أنا مطيع وإن عصيت فلأجل طاعته، فما عصيت إلا لأجل أن أطيع. والعياذ بالله، فهو يرى المعصية يرتكبها ويرضى بها؛ يرضى أن يكون عاصيا لأجل رضائه بإرادة الله الكونية.
والثالث وهو قول ملاحدتهم أنه لا يشهد طاعة ولا معصية.فني عن شهود سوى الله عز وجل، فلا الطاعات لها أثر ولا المعاصي لها أثر، وإنما الأثر فيما حصل لهذا الذي يزعم الوَحدة باتحاده بالله جل وعلا أو حلول الله جل وعلا فيه مثل ما سمعت من كلام ابن العارض.
هذا كله استطراد من شيخ الإسلام في الرد على من يزعم أنه من الأولياء وهو يفضل الأولياء على الأنبياء أو أنه لا يشهد طاعة ولا معصية أو لايشهد معصية وإنما يشهد طاعة، وكل هذه ليست من صفات الأولياء. فأولياء الله وصفتهم أنهم أهل فرقان ?إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا?[الأنفال:29]، وأهل التقوى هم أهل الإيمان وهم الأولياء ? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62]، فحصل من ذلك أن أهل التقوى هم أهل وَلاية الله جل وعلا، وأهل تقوى الله هم الذين لديهم الفرقان، لذلك سمّى شيخ الإسلام كتابه هذا الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ لأن العمدة في الفرق فيما بين ولي الله وولي الشيطان، هل عنده فرقان أم لا؟ والصوفية الغلاة منهم يزعمون أن الأولياء يأخذون إلى المرتبة المتوسطة التي يكون عندهم الحال أنه لا فرق بين الطاعة والمعصية، فالمعصية تؤول إلى الطاعة، والطاعة هي المقصودة، وقد يصل إلى أنه لا فرق أصلا بين الطاعة والمعصية إذ لا طاعة ولا معصية، وهذا إستطراد فيما أصله بعد ذلك. وأولياء الله جل وعلا هم المتقون المؤمنون وهم الذين لديهم الفرقان بين الطاعة والمعصية يشهدوا الطاعة كونا وشرعا ويشهد المعصية كونا وشرعا، فيرضى بالطاعة كونا وشرعا، ويرضى بالمعصية شرعا ويكرهها كونا؛ يعني يكره وقوعها يعني يرضى بها من جهة الحكم من جهة تحريمها ومن جهة ذمها ولا يرضى بوقوعها؛ لأن المعصية وقوعها كان من جهة تفريط العبد، فإذن نشهد الطاعة رضاءً كونا وشرعا، ونشهد المعصية بعدم الرضا بها بل نذم أنفسنا على المعصية، وهذا هو صفة أولياء الله جل وعلا، أما الذي ينظر إلى المهصية؛ كلما فعل المعصية قال هذا خير لي، ويقبل على المعاصي ويقول هذا خير لي، هذا من صفات المهملين ليس من صفات أولياء الله جل وعلا، بل المؤمن هو الذي تسرُّه حسنته وتسوؤه سيته ويكون عنده فرقان بين المحمود والمذموم.(52/105)
وأما قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) فلفظ مَعَ(1) لا تقتضى في لغة العرب أو يكون أحد الشيئين مختلطا بالآخر كقوله تعالى ?اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ?[التوبة:119]، وقوله تعالى ?مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ?[الفتح:29]، وقوله تعالى ?وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ?[الأنفال:75]، ولفظ مَعَ جاءت في القرآن عامة وخاصة، فالعامة في هذه الآية وفي آية المجادلة ?أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[المجادلة:7]، فافتتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل هو معهم بعلمه، وأما المعية الخاصة ففي قوله تعالى?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128]، وقوله تعالى لموسى?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?[طه:47]، وقال تعالى ?إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا?[التوبة:40]، يعنى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، فهو مع موسى وهارون دون فرعون، ومع محمد وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه، ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين، فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام، بل المعنى أنه مع
__________
(1) يعني هذا من أدلة أهل الحلول أن الله يكون مع الولي، إذا كان معه معناه يكون ملازم له أو يكون فيه؟ استدلوا به على أنه يكون حل فيه.(52/106)
هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك وقوله تعالى ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ?[الزخرف:84]، أي هو إله من في السموات وإله من في الأرض كما قال الله تعالى ?وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[الروم:27]، وكذلك قوله تعالى ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ?[الأنعام:3]، كما فسره أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره أنه المعبود في السموات والأرض.(52/107)
وأجمع سلف الأمة وأئمتها على أن الرب تعالى بائن من مخلوقاته، يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، يوصف بصفات الكمال دون صفات النقص، ويعلم أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال، كما قال الله تعالى ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)?[الإخلاص]، قال ابن عباس الصمد العليم الذي كمل في علمه، العظيم الذي كمل في عظمته، القدير الكامل في قدرته، الحكيم الكامل في حكمته، السيد الكامل في سؤدده، وقال ابن مسعود وغيره هو الذي لا جوف له، والأحد الذي لا نظير له، فاسمه الصمد يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه، واسمه الأحد يتضمن إتصافه بأنه لا مثل له، وقد بسطنا الكلام على ذلك في تفسير هذه السورة وفي كونها تعدل ثلث القرآن. (1)
__________
(1) هذا رد عل احتجاج أهل الإتحاد في آية المعية على أن الله جل وعلا يحل في خلقه أو بعض خلقه-لأنه كما ذكرنا لكم الإتحاد والحلول نوعان:عام وخاص- وهذا من جملة الأدلة التي استدلوا بها وظهر لك في البحث أن هذا ليس بدليل بل هو ضد ما قالوا، وهم جهلة أصلا كيف يستدلون، لكن أهل الباطل يبحثون عن شبهة ليتمسكوا بها-هذه قاعدة-؛ لأنّ الله جل وعلا وصفهم بقوله ?فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ?[آل عمران:7] والزيغ موجودا أولا، ثم يأتي اتباع المتشابه ولذا فإنّ المتشابه في القرآن لا يُحدث زيغا، فالله جل وعلا ابتلى العباد به، والزائغ يبحث عن المتشابه ليستدل به على زيغه، قال (فأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) يعني يتتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، فوجود الزيغ أولا، وهؤلاء زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، استدلوا بآية المعية، استدلوا على الوحدة من القرآن والسنة بأدلة كثيرة؛ استدلوا مثلا من القرآن بقوله ? قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ?[الأنعام:19] و(في كل شيء له آية تدل على أنه الواحد)[هذا بيت لأبي العتاهية ذكره الشيخ صالح آل الشيخ في شرح ثلاثة الأصول(المفرغ)] وكل شيء يشهد أن الله جل وعلا هو الرب وحده، جعلوا هذا إلى هذا جعلوا الأشياء كلها هي الله جل وعلا (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) التفسيرات المنسوبة إلى المتصوفة كابن عربي وغيره تجد كثيرا من الآيات التي فيها عموم الخلق أو الشهادة العامة يستدلون بها على الوحدة، وكذلك من أدلتهم أن الآيات؛ آية الأنعام ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ?[الأنعام:3] وكقوله تعالى ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ?[الزخرف:84]يستدلون بها على الوحدة والإتحاد العام. لكن هذه كلها من إتباع المتشابه مما يدل على أنّ في قلوبهم زيغ، الحقيقة ليست متشابهة (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ليست متشابهة لأن دلالتها ظاهرة على المعنى، ليست متشابهة أصلا، وكذلك(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) ليست متشابهة لكن هم يتبعون بما اشتبه عليهم من الإشتباه النسبي فيستدلون به، كل هذا نسأل الله العافية من آثار ترك التمسك والاستسلام للكتاب والسنة.
كتاب الفرقان عندنا الآن أربعة أو خمسة شروح كلها استطراد، ذهب عن الأصل بعد ما عرّف التعريفات، تذكرون الولي وتعريفه وصفات الأولياء و شروح شروط الولي إلى آخره، الآن كلٌّ استغرق في لما أتى للأولياء والفرق بين ولي الرحمن المطيع لله جل وعلا المستجيب للكتاب والسنة المنسجم صاحب عمل[انتهى الشريط الخامس] وأن ولي الشيطان عنده كذا من المخاريق. إذن كلها استطرادات في علوم شتى دخل في علوم الفلاسفة كما تذكرون، وفي بعض المباحث الكلامية، وذهب إلى قول الإتحادية...، يرجع بعد ذلك إلى أصل المبحث والكلام على الكرامات وعلى صفات الأولياء وشروط الكرامة إلى آخر ذلك من المباحث، وهذه نبهتكم مرارا عليها شيخ الإسلام استطراداته تشتت الذهن لهذا ينبغي لطالب العلم لما يقرأ كتب شيخ الإسلام أن لا يسترسل مع استطراداته، إذا أراد أن يفهم الموضوع يفهمه أولا مختصرا عن طريق الفهرس أو عن طريق تتبع الفصول، ويأخذ جملة الكلام ويأخذ القواعد التي هي الفوائد والإستدلالات، وإذا فهم هذا وعرف بناء الكتاب على أي شيء أو بناء القاعدة على أي شيء في فهم شيخ الإسلام وتصوره قبل إنشاء الكلام، بعد ذلك لو قرأ ومرت عليه الإستطرادات فإن انساق مع الإستطرادات نسي الموضوع، وشيخ الإسلام لو استطرد يحصل في استطراده أنواع من العلوم والفوائد، لكن قد لايكون نحريرها في هذا الموضع هو الأكمل، تجد أنه في موضع يستطرد لكنه يكون فيه ثغرات كثيرة ما استكملها، يأتي كلما أراد يبحث يقول (وقد بسطنا هذا في موضع آخر)، (قد بسطناه) ثم لا يكون مع طالب العلم في فهم معنى الإستطراد من كل وجه هو يستطرد لغرض يريد تقريره ليس لتقرير المسألة التي استطردها، لكن المسألة هذه جاءت لغرض آخر .
طالب العلم لابد أن يكون متتبع كلام شيخ الإسلام كليا قبل أن يبحث جزئياته، يعني يتصور الكتاب قبل، مثلا في كتاب الفرقان الولي من هو، الدليل على وجود الأولياء من هم الأولياء، تعريف الولي، شروط الأولياء، الإيمان والتقوى، الإيمان متفاضل، التقوى متفاضلة، فصّل فيها كذا، صفة الأولياء، الخوارق التي تحصل لهم والكرامات، جمع العناوين هذه هي زبدة البحث، إذا جاء الإستطراد تتركه؛ يعني تمر على الكتاب، ثم تستكمل كل الفصول بالعناوين الرئيسة هذه للفصول فتعرف ماذا يريد أن يقرر شيخ الإسلام، في بعض كتبه الإستطراد بلغ مائة صفحة استطرد إلى مئة صفحة رحمه الله تعالى؛ يعني .... صفحة عندنا، هو كتب الواسطية في جلسة والحموية في جلسة إلى آخره فلا غرابة أن يستطرد فهو بحر لا ..... رحمه الله تعالى، لكن طالب العلم في الاستفادة منها واضح أنه ينتبه، ومن الكلام الحسن ما قاله الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله -وسمعته منه-: شيخ الإسلام يأتي إلى جدار الباطل كالموت فيُسقطه جميعا دفعة واحدة، وأما ابن القيم فيأخذ جدار الباطل حجرا حجرا فيكسّره. وهذا واقع ومثل ما وصف الشيخ؛ فإنك تجد ما أجمله شيخ الإسلام واستطرد فيه وجاء جميعا كالموت إذا جمعت بين هذا وهذا أخذت بقوة كلام شيخ الإسلام وبحسن عرض ابن القيم رحمه الله تعالى. نسأل الله جل وعلا أن يرفع منزلتهما في الجنة وأن يجعلهما مع الأنبياء والصديقين وأن يجزيهما عن أهل التوحيد خير الجزاء، فقد أبليا بلاء حسنا عظيما رحمهما الله تعالى، وابن القيم حسنة من حسنات شيخ الإسلام، ولو الله جل وعلا ثم شيخ الإسلام ما راح ابن القيم وما جاء مثل ما ذكر عن نفسه في النونية لما ذكر حالته لما قدم فقال:
حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني
رحمهما الله تعالى.نكتفي بهذا القدر(52/108)
فصل
وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية، فإن الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر، كما قال تعالى ?إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[الأعراف:54]، فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه لا خالق غيره، ولا رب سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه، وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله، أمر بالتوحيد والإخلاص، ونهى عن الإشراك بالله، فأعظم الحسنات التوحيد، وأعظم السيئات الشرك، قال الله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48]، وقال تعالى ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ?[البقرة:165].(52/109)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قلت: ثم أي؟ قال «أن تزني بحليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك ?وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا(69)إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?[الفرقان:68-70]، وأمر سبحانه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأخبر أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، وهو يكره ما نهى عنه، كما قال في سورة سبحان ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا?[الإسراء:38]، وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين، وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق، ونهى عن التبذير وعن التقتير، وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه، وأن يبسطها كل البسط، ونهى عن قتل النفس بغير الحق، وعن الزنا، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن، إلى أن قال ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا?[الإسراء:38]، وهو سبحانه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائما، قال الله تعالى ?وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?[النور:31].(52/110)
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسى بيده إني للأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة».
وفي السنن عن ابن عمر قال كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول «رب إغفر لي وتب علي إنك أنت التّوّاب الرحيم» مائة مرة أو قال أكثر من مائة مرة. وقد أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثا ويقول «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والاكرام»، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه وقد قال تعالى ?وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ?[آل عمران:17] فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار، وكذلك ختم سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى ?وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[المزمل:17]، وكذلك قال في الحج(1)?فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ(198)ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[البقرة:198-199] بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهي آخر غزواته ?لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(117)وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ
__________
(1) هذه في البقرة.(52/111)
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ?[التوبة:117-118]، وهي آخر ما نزل من القرآن، وقد قيل إن آخر سورة نزلت قوله تعالى ?إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3)?[النصر]، فأمره الله تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم إغفر لي يتأول القرآن».
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول «اللهم إغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، لا إله إلا أنت».(52/112)
وفي الصحيحين أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال «قل اللهم إني ظلمت نفسى ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وإرحمني إنك أنت الغفور الرحيم».(1)
__________
(1) شيخ الإسلام رحمه الله يستطرد في الاستدلال قد يذهب لطالب العلم المقصود من ذلك، فتكلم في هذا الكتاب الفرقان بين صفات أولياء الله وصفات أولياء الشيطان فمن صفات الذين ادعوا الوَلاية وتعلق الناس بهم في زمن شيخ الإسلام من أصناف المخرفين رأوا الأمر؛ أمر الله جل وعلا واحدا، رأوا أنه إذا مثل فيهم القدر فقد مثل فيهم الشرع، وأنهم مجبورون وكل ما يعملون، وكل ما يعملون به محبوب لله جل وعلا، ولذلك لا تجد عند أحدهم ندما على ما يحصل له من المعصية ولا فرحا بما يحصل له من الطاعة، فليس عندهم فرق ما بين الأمر الكوني القدري والأمر الشرعي الديني، وأولياء الرحمن جل وعلا هم الذين يفرقون بين الأمرين، الله سبحانه فرّق بين الخلق والأمر فقال ?أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ?[الأعراف:54] وأَمْر الله سبحانه بالشرع غير الأمر الله جل وعلا الكوني القدري، فالأمور الكونية القدرية التي تحصل في ملكوت الله وما في الأرض وما يحصل للإنسان من أشياء وتقلبات وأمور مقدرة عليه وما يحصل من تقاتل الناس إلى آخره، هذه كلها حصلت بإذن الله جل وعلا ومشيئته كما قال سبحانه ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ?[البقرة:253] فإذن الأمر الكوني القدري شيء والأمر الشرعي الديني ما أمر الله به في كتابه وعلى لسانه رسوله عليه الصلاة والسلام شيء آخر، قد يجتمعان فيي المحبة وقد يفترقان، ويكون إذن ما أمر الله جل وعلا به شرعا هو محبوب له سبحانه ولذلك أمر به، فامتثاله امتثال لما هو محبوب وتركه لم يأذن الله جل وعلا به شرعا، تركه مذموم، تركه أصحابه عصاة، ترك الأمر ...النهي مع كونه مأذون به كونا ووقع قدرا بمشيئة الله جل وعلا، ولكن لا يحبه الله ولا يرضاه.
الصوفية أو الذين ادعوا ولاية الله جل علا ممن ضلوا قال طائفة منهم: أنه إذا حصل لي حال أو حصل علي شيء فإن هذا هو نفوذ أمر الله فيّ، فاستسلامي لذلك ورضاي به هو حقيقة التوحيد والإستسلام لله، وهذا باطل؛ لأن الله جل وعلا أوجب على العبد أن يفرح بالطاعة، وأن يبغض المعصية، وأنه إذا غَفل أو جاءه ما يصدّه، أو فرط في أمر الله، أو جاء نهيه سبحانه أو ران على قلبه فإنه يجب الإستغفار والتوبة وهو ما يل على لأن مخالفة الأمر الشرعي يجب منه التوبة ويجب منه الاستغفار ومعنى ذلك أن المخالفة مذمومة، وأن العبد بحاجة إلى أن يكفِّر عن ذلك وأن يستغفر الحق جل وعلا. وهذا يدل على أن نفوذ الأمر الكوني القدري لا يعني أن يُرضى به، بل هذا لله جل وعلا فيه حكمة بالغة.
فإذن فهؤلاء هم الذين أراد شيخ الإسلام أن يرد عليهم الذين يجعلون يحصل عليهم من أمور المعصية والطاعة كلها أمر كوني شرعي قدري، ويخلطون الأمرين ويجعلونها محبوبة لله وبالتالي فهم يرضون لذلك تجد في تراجم الصوفي، تجد أنهم ربما مُدحوا لفعل لبعض المعاصي لماذا؟ لأنهم عندهم على أصلهم أنه لا فرق ما بين الأمر الكوني والأمر الشرعي فنفوذ أمر الله فيهم بهذا الشيء يعني أن لا يختاروا غيره، معناه أن نستسلم لأمر الله وهذا عندهم هو نهاية التوحيد والفناء لأحد أقطابهم كما هو معروف. المقصود أن الاستدلالات؛ والاستطراد في الإستدلال أراد به ما ذكرتُ لك من التفريق والرد على تلك الطائفة.(52/113)
وفي السنن عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال «قل اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم، قله إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك»، فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائما قال الله تبارك وتعالى ?وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?[الأحزاب:72-73]، فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة.(52/114)
وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال«لن يدخل الجنة أحد بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل» وهذا لا ينافي قوله تعالى ?كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ?[الحاقة:24]، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى باء المقابلة والمعادلة، والقرآن أثبت باء السبب، وقول من قال إذا أحب الله عبدا لم تضره الذنوب، معناه أنه إذا أحب عبدا ألهمه التوبة والاستغفار، فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، وإنما عباده الممدوحين هم المذكورون في قوله تعالى ?سَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[آل عمران:133-135]، ومن ظن أن القدر حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم ?سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ? قال الله تعالى رادّا عليهم ?كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ(52/115)
إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ?[الأنعام:148-149]، ولو كان القدر حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات وقوم فرعون، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعا لهواه بغير هدى من الله، ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم والعقاب، فعليه أن لا يذم أحدا ولا يعاقبه إذا إعتدى عليه، بل يستوى عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم، فلا يفرق بين من يفعل معه خيرا وبين من يفعل معه شرا، وهذا ممتنع طبعا وعقلا وشرعا، وقد قال تعالى ?أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ?[ص:28]، وقال تعالى ?أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ?[القلم:35]، وقال تعالى?أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ?[الجاثية:21]، وقال تعالى?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ?[المؤمنون:115]،وقال تعالى?أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى?[القيامة:36]أي مهملا لا يُؤمر ولا يُنهى.(52/116)
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «احتج آدم وموسى، قال موسى: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، أخرجتنا ونفسك من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وكتب لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوبا على قبل أن أخلق، وعصى آدم ربه فغوى. قال: بأربعين سنة. قال: فلم تلومني على أمر قدره الله على قبل أن أخلق بأربعين سنة. قال: فحجّ آدم موسى أي غلبه بالحجة»، وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان؛ طائفة كذبت به لما ظنوا انه يقتضى رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر، وطائفة شرّ من هؤلاء جعلوه حجة، وقد يقولون القدرحجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، أو الذين لا يرون أن لهم فعلا، ومن الناس من قال إنما حج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه كان قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى، وكل هذا باطل ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة، فقال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة. ولم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبا وتاب منه، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب منه أيضا، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل ?رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[الأعراف:23]، والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ?[غافر:55]، فأمره بالصبر على المصائب والاستغفار من المعائب، وقال تعالى ?مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ?[التغابن:11]، قال ابن مسعود(1)
__________
(1) قال الشيخ محمد في كتاب التوحيد قال علقمة وذكره، باب الإيمان بالله والصبر على أقدار الله.(52/117)
هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة مثل المرض والفقر والذل صبروا لحكم الله، وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي، فافتقر أولاده لذلك، فعليهم أن يصبروا لما أصابهم وإذا لاموا الأب لحظوظهم ذكر لهم القدر، والصبر واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله، والرضا قد قيل أنه واجب وقيل هو مستحب، وهو الصحيح، وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها، حيث جعلها سببا لتكفير خطاياه، ورفع درجاته، وإنابته إلى الله، وتضرعه إليه، وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه، دون المخلوقين، (1)
__________
(1) الكلام الذي سبق واضح؛ واضح في دلالته على مراد المصنف الذي من أجله أتى بهذا الكلام وواضح في نفسه، ولهذا لا نقف على ما سبق، وإنما في هذا الموطن وهو قوله رحمه الله تعالى (إنّ الصبر مأمور به وعلينا الرضا وعلينا الشكر) هذه مراتب ثلاث للعبد المؤمن تجاه ما يصيب به الله جل وعلا ويبتليه، وسعادة المؤمن تكمن في أنه إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، ومن كان عنده هذه الثلاث وهي الإستغفار عند الذنب والشكر على النعمة والصبر على الإبتلاء كان قد حصل الإيمان الحق.
الصبر مأمور به فهو واجب، وإذا كان الصبر مأمورا به فإنما يؤجر العبد على صبره، لا على نفس المصيبة، ولهذا إذا أصابت العبد المصيبة فإن المصيبة بنفسها يكفِّر الله جل وعلا بها من خطاياه، فالمصائب كفّارات كما سلف في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:«ما أصاب المؤمن من همّ ولا حَزن ولا وصب حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» وهذا يدل مع أحاديث أُخر على أن المصيبة تكفّر، لكن الأجر على المصيبة لا يكون إلا لمن صبر كما جاء في الحديث الآخر الذي جاء في الصحيح أيضا «عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنّ أَمْرَهُ كُلّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْراً لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرّاءُ صَبَرَ, فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاّ لِلْمُؤْمِنِ ». فإذن المصائب بنفسها كفارة ولا يؤجر إلاّ على الصبر وذلك لأنّ الصبر مأمور به وإذا امتثل الواجب فصبر أُجر على ذلك.
أما الرضا فهو مقام أعلا.
والصبر: -تعلمون تفسيره- هو حبس القلب عن التسخط، واللسان عن التشكي، والجوارح عن إظهار الجزع باللطم والشق أو بأشباه ذلك. فإذن من شكى باللسان فإنه ليس بصابر، ومن تسخط المصيبة بالقلب فليس بصابر، ومن لطم وشق أو عمل أعمالا تنافي الصبر فليس بصابر.
المرتبة الثانية الرضا : قال رحمه الله إن الرضا (قيل واجب وقيل مستحب) وهذان قولان لأهل العلم منهم من قال إن الرضا واجب. ومنهم من قال إن الرضا مستحب. والصواب أن لا يقال أن الرضا لا هو واجب ولا مستحب بل هو جهتان:
الرضا بفعل الله جل وعلا فهو قضاءه وقدره وهذا واجب، لأن الرضا بصفات الله جل وعلا وما يفعله واجب.
والثاني الرضا بالمقضي بالمقدر فهذا مستحب.
مثلا فقد الولد أو فقد حبيب من جهة أنّ هذا الفعل جاء من الله جل وعلا فواجب الرضا عن أفعال الله جل وعلا وأما تسخط أفعال الله جل وعلا في ملكوته لأن هذا يدخل في ظن السوء بالله؛ يدخل في عموم قوله ?الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ?[الفتح:6]، والجهة الثانية المقضيُّ نفسه والمصيبة نفسها وهي فقد الولد، فالرضا به فهذا مستحب، يرضى لكونه يعلم أن هذا فيه خير له وأنه أصلح وأن الله جل وعلا لا يختار للعبد إلا ما هو أصلح له ونحو ذلك فهنا يرضى بالمصيبة وهذا من الأمور المستحبة لذوي المقامات العالية، كما قال تعالى ?وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ?[التغابن:11]، قال علقمة هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها –يعني المصيبة- من عند الله فيرضى بها ويسلّم لله جل وعلا. هذا من تمام الإيمان وهو سبب من أسباب الهداية.
فإذن الرضا له جهتان:
جهة واجبة وهي الرضا بفعل الله؛ الرضا بالقضاء نفسه يعني بما أمر الله جل وعلا به كونا وبما قضاه يعني بما أمر به أن يقضى بفعله سبحانه بصفته بتقديره وأشباه ذلك فهذا واجب. لأن الرضا عن الله جل وعلا عن صفاته وأسمائه واجب، فلا يظن به سبحانه ظن السوء.
والجهة الثانية الرضا بالمقدور فهذا مستحب، الرضا بالمصيبة في نفسها بفقد الولد في نفسه وأشباه ذلك.
المرتبة الثالثة: أن يكون بعد الرضا شاكرا لله جل وعلا على تلك المصيبة وهذه إنما هي لخاصة عباد الله ?وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ?[فصلت:35]. فهو رضى وبعد ذلك يشكر الله جل وعلا أنْ جاءته هذه المصيبة ليكون له بها الخير في جهة تكفير السيئات ومن جهة أنه يصبر فيثاب؛ ومن جهة أنه يرضى عن فعل الله جل وعلا الرضا الواجب فيثاب، ويرضى بالمصيبة أيضا فيثاب، وأيضا لذلك يشكر الله سبحانه وتعالى أن لم يجعله من المتسخطين أو من ... أو نحو ذلك وهذا مقام الشكر لله جل وعلا.
إذن فثم أربع درجات ذكرها شيخ الإسلام الأولى: الصبر، والثانية: الرضا عن القضاء أو عن فعل الله، والثانية: الرضا بالمصيبة والثالثة: الشكر. اثنتان منها واجبة واثنتان مستحبة؛ الصبر والرضا بقضاء الله هذا واجب والرضا بالمصيبة والشكر بعد ذلك مستحبة وهي من مقامات الأولياء. نقف عند هذا، ونكمل إن شاء الله في المرة القادمة.
المصائب كفارات للخطايا بمجردها، الضابط هو أن يكون مؤمنا فقط، أما هو ولو لم تخطر بباله كفّر الله بها من خطاياه لو ما خطر بباله، لو ما علم فمن رحمة الله بهذه الأمة «ما أصاب المؤمن من همّ ولا حَزن ولا وصب حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» فالمصائب كفارات للخطايا بمجردها.
الصبر واجب فإن لم يصبر أثم، يكفّر ولو لم يصبر لكنه لا يؤجر إلا بالصبر. هذا الذي دلت عليه الأحاديث في هذا الباب وهو قول عامة جمهور أهل العلم.
أما من جهة فعل الله جل وعلا فهو ظن السوء به سبحانه بصفته وأن هذه جاءت بغير حكمة أو أنه ابتلاه هو وترك غيره وأن غيره أولى منه وهذا قلّ من يسلم منه... هذا ما رضي عن فعل الله ظن بالله ظن السوء، الرضا بالمصيبة في نفسها وأن ينشرح صدره لها فإن كَلِفَت نفسه وعدّ هذا فعل المصيبة عليه بفقده للولد أو في فقده لأبيه ونفسه ما انشرحت لذلك ويكرهها ويكره ما حصل له هذا ما رضي بالمصيبة في نفسها.(52/118)
وأما أهل البغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها، كما قال بعض العلماء أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله عليهم بها، وأنه هو الذي أنعم عليهم، وجعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة، وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قوة إلا به، فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى، وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها.
ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، أبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة».(52/119)
وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، ياعبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أَكسكم، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجِنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوَفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».(52/120)
فأمر سبحانه بحمد الله على ما يجده العبد من خير، وأنه إذا وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه، وكثير من الناس يتكلم بلسان الحقيقة ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بخلقه ومشيئته، وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته، ولا يفرق بين من يقوم بالحقيقة الدينية موافقا لما أمر الله به على ألسن رسله، وبين من يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة، كما أن لفظ الشريعة يتكلم به كثير من الناس، ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى، وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه، ولا يخرج عنه إلا كافر، وبين الشرع الذي هو حكم الحاكم، فالحاكم تارة يصيب وتارة يخطىء، هذا إذا كان عالما عادلا، وإلا ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «القضاة ثلاثة؛ قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى بغيره فهو في النار» وأفضل القضاة العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمنقضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» قد أخبر سيد الخلق أنه إذا قضى بشيء مما سمعه وكان في الباطن بخلاف ذلك، لم يجزْ للمقضى له أن يأخذ ما قضى به له، وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار، وهذا متفق عليه بين العلماء في الأملاك المطلقة إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبيِّنة والاقرار، وكان الباطن بخلاف الظاهر لم يجز للمقضى له أن يأخذ ما قُضي به له بالاتفاق، وإن حكم في العقود والفسوخ بمثل ذلك، فأكثر العلماء يقول أن الأمر كذلك، وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد بن حنبل، وفرّق أبو حنيفة رضي الله عنه بين النوعين، فلفظ الشرع والشريعة إذا أُريد(52/121)
به الكتاب والسنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه(1)
__________
(1) الحمد لله وبعد: هذا المقطع الذي سمعتم اشتمل على تأصيل مسألة عظيمة هي الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وهي أن العبد المؤمن يفرق ما بين ما يجريه الله جل وعلا كونا وقدرا وما يجعله الله جل وعلا دينا وشرعا. فالحقيقة منقسمة إلى حقيقة كونية قدرية وإلى حقيقة شرعية دينية، فلهذا يتعامل مع ما يجري كونا بالرضا بل بالصبر عليه والرضا به كما ذكرت لك آنفا أن الصبر واجب وأن الرضا مستحب يعني بما يقع، ومع الحقيقة الدينية الشرعية التي يتعامل معها بالامتثال في الأمر والنهي، إذا نظر العبد إلى ما بين هاتين المسألتين وجد أن الولي هو الذي لا يحتج بالقدر إذا ... ولا يحتج بالجبر إذا رغب إذا رغب، فالأمور الكونية التي تحصل من المصائب والبلاء والفتن التي تحصل في الأرض أو مما يحصل في السماء مما يبتلي به الله جل وعلا العباد، هذه أمور كونية لله جل وعلا فيها الحكمة البالغة، لا تؤثر هذه في الإستسلام وفي الرضا على أفعال العبد تجاه هذه الأشياء، فضلَّت طائفة رأوا أن كل ما يجري فيه حكمة ولكن لا يفعلون معها شيء؛ لا يفعلون مع ما يحصل شيئا، وهذا من مثل مثلا ابتلاء الله جل وعلا العباد بالأعداء، ابتلاء الله جل وعلا العباد المؤمنين بالمنافقين، ابتلاء الله جل وعلا العباد بالفُرقة والفتنة ونحو ذلك من الأمور التي تحصل، وهو مما قدره الله كونا ووقع، فهذه من استسلم لها ولم ينظر إلى الحقيقة الشرعية الدونية فإنه ضال وعلى غواية، وأما من جمع بين الأمرين ورأى أن هذه وقعت والله جل وعلا له الحكمة البالغة في ذلك، وإذا وقعت لم يحمله هذا ولم ينشغل به عما يجب عليه شرعا، فإن الناس قد ينشغلون بالكونيات عن الشرعيات، والناس عند ورود البلاء وورود الشبهات وعند ورود الفتن قد لا يستعملون معها الشرعيات، قد لا تتحملها قلوبهم وعقولهم فلا يعملون معها ما يجب، وهذه ليست من صفة أولياء الله، فأولياء الله جل وعلا هم الذين يعلمون أن ما يُجري الله جل وعلا في الكون أنه بحكمة وأن له الأمر الغالب، ثم يستعملون ما أمر به شرعا، إذا كان الميدان ميدان جهاد جاهدوا، إذا كان الميدان ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمروا ونهوا، إذا كان المجال مجال نصيحة نصحوا لله جل وعلا ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإذا كان الميدان ميدان اجتماع وائتلاف ونهي عن الفرقة والإختلاف فإنهم لا يشغلهم ذكر الفرقة والإختلاف عن ما يجد شرعا تجاه ذلك من كف اللسان ومن النصيحة ومن التآلف والتآخي ووقلّ من يَخلص من ذلك بالتوفيق ما بين أمر الله الشرعي وما بين ابتلائه الكوني، وإنما يخلص من ذلك أولياء الله جل وعلا، كذلك ذكر أن أولياء الله جل وعلا بخلاف من ليسوا كذلك في أمر الشريعة فليس أمر الشريعة فيما يسمى شريعة ليس هو فقط فيما أنزل الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم بل ما حكم به الحاكم فيما له أنْ يحكم فيه القاضي هذا أيضا من الشريعة الذي لا يجوز لأحد أن يخرج عنه، لكن ثَم فرق ما بين الكتاب المنزل والسنة والشريعة التي هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي من خالفها فهو كافر وما بين كلام عالم أوحكم قاض ونحو ذلك فليس كل من خالف كلام عالم أو طائفة من العلماء يُعد كافرا، وليس كل من خالف أو لم يرض بحكم الحاكم المعين أنه يكون كافرا، بل ثَم فرق بين النوعين لكن من خالف الشريعة المنزلة أو خرج عنها هذا كافر، ومن خالف عالما معين فهذا فيه التفصيل، فقد يخالفه لأمر آخر يكون فيه محقا أو يكون فيه مبطلا، لكن يكون ثم له شبهة، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام ذكر أنه قد يقضي القضاء عليه الصلاة والسلام ولا يكون مصيبا في حقيقة الأمر، ولكن يكون مصيبا في ظاهر الأمر؛ لأن قضاء القاضي إنما هو على البينات الظاهرة أو على الإقراء، فإذا قضى على من يكون من بيننا أو ما يأتيه من الفهم من حجة هذا وحجة هذا فإنه في الظاهر حكم بشرع الله جل وعلا وأعطى الحق لأهله، وقد لا يكون في الباطن وصل إلى حقيقة الأمر، وهذا ما يجعل هذا القاضي لم يصب حكم الشريعة، لهذا القاضي إذا قضى على نحو ما سمع أو علة نحو ما ظهر له من الأمر وكان في الباطن ليس محقا، فإن هذا لا يقدح فيه فإن النبي عليه الصلاة والسلام وهو أكمل الخلق قد قال «لعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأحكم له فإنما أقضي على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقضي له بقطعة من النار فليأخذ أو ليدع» مع أنه عليه الصلاة والسلام هو النبي وهو المؤيد وهو الذي يوحى إليه، لكن قد يخالف حكمه الظاهر ما في حقيقة باطن المسألة فيقضي لمن ليس له الحق فليس هذا موجبا للقدح فيه، والناس في هذا ما بين طرفين ووسط، والطرفان طرف أولياء الشيطان أو من لم يرعَ للشريعة حقها فرأى أنه بهذا يسعه الخروج من حكم الشريعة إذا حصل له علم الحقيقة الباطن ، وطرف آخر غلا فقال إن القاضي إذا حكم بغير الحق في نفس الأمر فإنه يُحكم عليه بالكفر، ويحكم عليه الضلال ونحو ذلك لأنه إذا لم يكن إلى حقيقة الأمر فإنه اتبع هواه وهذا أيضا باطل والصواب التفريق ما بين الشريعة المطلقة التي لا يسوغ لأحد أن يخرج عنها وما بين حكم الحاكم أو كلام العالم أو فتوى العالم أو رأي العالم أو طائفة من العلماء في مسألة ما أو في مسائل، فإن هذه قد يكون لهم الحق فيها وقد لا يكون، لكن الناس يلزمهم أن يمشوا على فتوى علمائهم، وأن يلتزموا بقضاء قضاتهم، ولو كان في نفس الأمر غير موافق للصواب، لأن الناس لا يصلحون فوضى ولا يصلحون دون حكم حاكم ودون فتوى مُفْتٍ للمسائل.
فإذن يُنتبه إلى طرف الغلاة وهم الذين جعلوا الشريعة قِسْما واحدا وهو ما دل عليه الكتاب والسنة فمن خالفها فهو ضال دون نظر إلى ما يجري ظاهرا على فهم العلماء من المفتين والقضاة، وما بين فئة جَفت فتركت اتباع السنة، واتباع محمد عليه الصلاة والسلام طلبا للحقيقة كما سيأتي في كلام الشيخ رحمه الله تعالى.(52/122)
، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقا إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا فلم يتابعه باطنا وظاهرا فهو كافر، (1) ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخَضِر كان غالطا من وجهين، أحدهما أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثا إلى بني إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس، ولوأدركه من هو أفضل من الخضر كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم إتباعه، فكيف بالخضر سواء كان نبيا أو وليا، ولهذا قال الخضر لموسى أنا على علم من علم الله علَّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا. (2)
__________
(1) مثل بعض المسائل قد يرددها بعضهم وهو لايفقه مثلا يقول: حَكم بغير الشريعة، يقول هذا حُكم بغير الشريعة ونحو ذلك لخروج من فعل ذلك عن الحكم بقول بعض العلماء أو القول ببعض المذاهب ونحو ذلك، فهذا لاشك أنه لا يجوز أن يطلق القول في حق أحد أو في حق دولة أو في حق مجتمع بأنه حكم بغير الشريعة لخروجه عن الحكم بقول طائفة من أهل العلم، وإنما يقال حكم بغير الشريعة وخرج عن الشريعة إذا خرج عن مدلول الكتاب والسنة؛ خرج عن ما دل عليه الدليل، فإنْ كان الدليل محتملا والمسألة ليس فيها إجماع فلا يجوز أن يقال أن فلانا خرج عن حكم الشريعة أو حكم بغير الشريعة، والقاضي الفلاني حكم بالهوى وبحكم بغير الشريعة، أو الدولة الفلانية تحكم بغير الشريعة إذا كانت حكمت بقول غير طائفة معينة من أهل العلم، فإذن لا بد من التفريق ما بين الحكم المطلق للشريعة الذي من تركه فهو كافر وضال وما بين الحكم المقيد الشرعي فهو شريعة فهو حكم طائفة من أهل العلم، فإن الخروج عن الأول كفر؛ الشريعة المنزلة، أما الخروج عن الثاني ففيه تفصيل
(2) الخضر سبب اتصال موسى به أنه قال أي موسى: أنا أعلم أهل الأرض فأوحى الله جل وعلا إليه "إيتي عبدنا خضرا فإنه أعلم منك" والحديث معروف في أول البخاري وفي تفسير سورة الكهف.
الخضر اختلف العلماء فيه: هل كان نبيا أم كان وليا؟
فرأى طائفة أنه نبي وهم [جمهور أهل العلم] أنه كان نبيا، واستدلوا على ذلك بقوله جل وعلا ?وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا?[الكهف:65] وما حصل من قصته مع موسى من أشياء لا يمكن أن يدركها إلا بالوحي وفيها قول ينسب إليه وإلى الملائكة وهو قوله ?فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا? [الكهف:81] وقال في الجدار ?فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ? [الكهف:82] وهذا إنما يكون عن وحي والوحي للأنبياء لا لأولياء لأن للولي إلهام والإلهام في قضايا ولا يكون في مثل هذه يكون في قضايا يحكم فيها يتبين له فيها الصواب أما هذا إنما هو الوحي، قتل الغلام، إقامة الجدار خرق سفينة ونحو ذلك، وقال (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا).
والقول الثاني وهو قول [قليل من أهل العلم] أنه كان وليا، جمهور أهل العلم على أنه كان ولي وقالت طائفة إنه نبي واستدلوا بما ذكرت لك من الأدلة وقال الجمهور إنه ولي وليس بنبي. وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله إن أولى درجات الزندقة أن يقال إن الخضر ولي لأجل أن الزنادقة الذين خرجوا عن اتباع محمد عليه الصلاة والسلام من أصحاب الوحدة قالوا كما وسع الخضر الخروج نخرج. الخضر خرج عن رسالة موسى وعن اتباع موسى لما أُلهم لأنه كان وليا فنحن نخرج كما خرج الخضر عن موسى.
المقصود –حاصل الكلام- أن المحققين من أهل العلم على أنه نبيا، والجمهور على أنه كان وليا يعني أكثر العلماء الذين تكلموا في هذه المسألة.
تعرفون كلمة الراجح هي نسبية معناها الراجح عند المتكلم إذا سمعتم (والراجح كذا) فمعناها الراجح عندي، إذا قال أحد من أهل العلم (الراجح كذا) الراجح عنده لا أنه راجح في نفس الأمر، لأن الرجحان هذا نسبي، والراجح ... يعني عنده، ما فيه راجح عام الرجحان نسبي إفهموها في كلام أهل العلم، إذا قال بعض أهل العلم (والصحيح كذا) يعني والصحيح عنده ليس الصحيح المطلق، إذا قال الراجح في المسألة كذا يعني عنده هو بما تحرى هو من الحق، (أصح القولين في المسألة كذا) يعني عنده،قد لا تكون أصح القولين في نفس الأمر.
لهذا ذكرت لك في المسألة هذه أن جمع من المحققين أنه نبي وأبطلوا القول بأنه ولي، وجمهور أهل العلم على أنه ولي، كذلك إذا قلنا مثلا كيف الراجح؟ معناه –كما في سؤال الأخ- معناه أُوش ترى في المسألة؟ هذا إذا اختلف العلماء وقيل ما الراجح عندك؟ معناه ما قولك في المسألة على أي القولين. (الدرس عندنا درس تعليم الترجيح والإتباع لأهل العلم الراسخين)
كلمة المحققين كلمة فتانة في الدروس والكتب هذه معناها أنه إذا عرض لمسألة فإنه لا يمر عليها على وَفق ما عنده من المعلومات السابقة التي ربما نشأ عليها، بل اعتاد أنه يحرر كل مسألة خاصة المسائل العظام، الذي إعتاد أنْ يحرر كل مسألة يقال له محقق، ليس تحقيق الكتب هذه الآن. وأصلها في اللغة من حَقَّقَ الشيء إذا أحسن نسجه، والثوب المحقق إذا كان نسجه على الغاية، لهذا المحقق من يحسن النظر في المسائل لا يدري هكذا بما ألف أو بما سمع بل يحسن النظر ، معلوم الأمة إختلفت إختلاف كبير في مسائل العلم والمسائل المجمه عليها قليلة، المسائل المختلف فيها كثيرة جدا جدا جدا، لذلك لا يخلو أحد مهما كان من تقليد (التقليد المحمود يعني الإتباع) الإمام مالك رحمه الله، الإمام أبو حنيفة قبله جرى على ما عليه أهل الكوفة أخذ فتاوى ... فتاوى أصحاب ابن مسعود وقاس وزاد أشياء، جرى على أشياء قلد فيها، الإمام مالك أيضا قلد أهل المدينة في أشياء ... عليه، الشافعي قلد أهل مكة وخلط شيء من نظر أهل المدينة ولما ذهب إلى بغداد أيضا شيء من نظر أهل العراق، جمع بين أشياء كون بها فقهه في مصر، الإمام أحمد اختلفت أقواله في المسائل لأسباب تارة في المسألة الواحدة تجد عنده عدة روايات، بل في مسألة جاء سبع روايات، هذا له أسباب يطول المقام بذكرها، لكن منها أنه يتابع بعض العلماء ممن قبله في مسائل، إذا نظرتَ إلى مسائل الأصول؛ أصول الفقه فيها تقليد، شيخ الإسلام بن تيمية اجتهد أن يحقق بعض المسائل في الأصول، إذا نظرت إلى الرجال هل كل عالم له نظر مستقل في الرجال في باب الحديث، يعني فلان ابن اسحاق هل هو ثقة أو صدوق؟ الواقدي هل هو ثقة أم هو ضعيف؟ الحجاج بن ... إيش وضعه؟ السدي الكبير ، اسماعيل بن عبد الرحمان هذا هل هو ثقة هل هو صدوق رواية مسلم لمن روى؟ رواية البخاري لمن روى؟ هذه كلها مسائل إختلف فيها أهل العلم في الرجال أو في المنهج، هل نستطيع أن نحقق في كل مسألة؟لا، فلا بد لكل أحد من التقليد هذه ليمكن الكف عنها ولكن ثم تقليد لأئمة السنة، هذا ولله الحمد به تبرأ الذمة وثم تقليد لمن ليس من أهل العلم المحققين فهذا نوع ما نشأ عليه العبد نشأ عليه الإنسان في بلده أو حسب وضعه يختلف يختلف الحال، فإذن الذين يقولون الاجتهاد، لا يسمى إجتهادا كاملا، يجتهد في مسألة فحققها فصار مجتهد في هذه المسألة المعينة أما أن يصير عالم مجتهد فهذا مستحيل ولذلك من أراد الاجتهاد في أول طلبه العلم في كل مسألة يحررها إلى آخرها فسيكون جاهلا في مسائل كثيرة لن يطلع عليها لن يكون فيها محقق ولا مقلد لأنها تفوته، لأن العلم كثير. لذلك ذكرنا لكم مرارا أنّ طالب العلم يسعى في معرفة كلام العلماء في مسائل المسائل كلها في التوحيد في الفقه يمر عليه بكماله، الأحاديث المشهورة يعرف معناها التفسير يمر عليها بكاملها يكون طالب علم، ثم بعد ذلك مع ما قُدِّر له وما عنده من الإستعدادات والمواهب والآلات وجِدّه واجتهاده في طلب العلم بعد توفيق الله له يكون عنده تحقيق واجتهاد في المسائل إذ هذه المسألة تجد فلان متميز فيها، مثلا صالح بن عبد العزيز عنده مسائل حررها فأحسن الكلام فيها فيه مسائل أخرى ليس كذلك، وهكذا آخر من أهل العلم تجد عنده مسائل حررها وهكذا؛ لأن العلم واسع ولا يمكن لأحد أن يقال كلامي هو التحرير في كل مسألة هذا جناية على العلم وأيضا المرء يجني فيه على نفسه، أو أن يتطلب الواحد منا أن يحرر في كل مسألة الأعمار أقل من ذلك والعلم كثير إذا وصلت آخره نسيت أوله ينبغي لك تكرار وفهم وتصوير المسائل ونحو ذلك، لهذا ينبغي أن ينتبه طالب العلم أن دعوى الإجتهاد في كل مسألة، والنظر كما نظر الأئمة أحمد والشافعي ومالك في فعل السلف وتحري الأدلة في كل مسألة هذا يجعل المرء جاهلا في مسائل كثيرة، نعم يحقق هذه المسألة فيجيد فيها وتجد عنده تفصيل وربما يتميز عن بعض الراسخين في العلم بكثرة معرفته وتفاصيله لهذه المسألة أو المسائل التي حررها، لكن تجد عنده من الجهل الكثير في مسائل لم يطلع عليها لأنه شغل وقته بتحرير مسائل وأطال فيها وترتب على هذا أنه جهل مسائل كثيرة كما هو الواقع، وحرك ترى ولهذا طالب العلم ينبغي عليه أن لا يجعل العلم في طلبه له لذة وشهوة، وقد قال ابن المبارك رحمه الله "إن للعلم طغيانا كطغيان المال" مثل ما يكون الغني يطغى ?أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى?[العلق:7] كذلك طالب العلم ربما يطغى، صار عنده مسائل، شاف نفسه مثلا في الأصول عنده كذا، صار عنده نظر جيد، أو عنده في الحديث أو الرجال معرفة، صار عنده في بعض المسائل، هذا ليس من صنيع أهل العلم، كلما ازدت علما ازدت معرفة بأنك تجهل الكثير، وأنه لو مد الله جل وعلا في عمرك لحققت مسائل كذا ولزدت معلومات وهكذا، لذلك قال بعض أهل العلم أموت ولا زال في نفسي شيء من حتى. حتى تارة ترفع، تارة تنصب، تارة تخفض. وهذه المشائل الرفوع والمنصوب والمخفوض هي مسائل النحو فيموت وهو متعلق بتحرير مسائل المخفوض والمرفوع والمنصوب.لا كما يفهم البعض أموت ولا زال في نفسي شيء من حتى، يعني مات وما يعرف معنى حتى؟ لا. هذه كلمة لأحد علماء النحو الكبار يعني أن مسائل العلم هذه إما مرفوع وإما مخفوض وإما منصوب هذه في النحو، حتى تارة ترفع، تارة تنصب، تارة تخفض وهكذا العلم، تارة ترفع هذا ، وتخفضه وتنصبه فإذن يموت المرء وهو يتعلم، يموت المرء وهو في العلم، لا يظنن ظان أنه سيحيط بالعلوم كلها هذه إقطعها، أن تحيط بكل شيء إقطعها؛ إقطع الأمل، وليكن إن أحطت بكثير فذاك حسن وأعظم ما تهته به ما قاله ابن القيم رحمه الله في نونيته
والعلم أقسام ثلاث مالها
من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للديانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
تهتم بثلاثة علوم إهتمام عام ثم بعد ذلك زد في التفاصيل بحسب ما قدر لك من العمر والإستعدادات والمواهب وما وفق الله جل وعلا العبد به. الإهتمام بالتوحيد في مسائل... لأن صلاح القلب ?إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ?[الشعراء:89] وأعطم الحسنات حسنة التوحيد فعلا وتعلما لأن الوسائل لها أحكام المقاصد. والثاني الأمر والنهي الحلال والحرام فهذه في الفقه تتعدد، واحد يدخل بيته لا يعرف الأحكام الشرعية في عشرته لأهله يعاشرهم هكذا بمقتضى الطبيعة والجبلة وما نشأ عليه وما رأى عليه أهل بيته الجد والجدة وإلى آخره، ما يعرف الأحكام الشرعية فهو سيتصرف بلا على هذا ليس بعالم هذا جاهل يصاحب الناس في البيت، في المسجد يصاحب الناس في العمل زملاء إلى آخره أصناف الناس لن يتعامل معهم بعلم لأنه فاته أشياء كثيرة، في التجارة، في البيع في الأمر، في النهي في النصيحة، في أشياء كثيرة، ما يعترض له من أشياء في يومه وليلته، العالم هو الذي علم فطبق بحسب ما قدر له، هذا العلم في الأمر والنهي؛ الفقه لا بد ينقل بدليله من الكتاب والسنة هذا هو الأصل والإجماع والأدلة البقية المتفق عليها والمختلف فيها، لكن هل كل مسألة ستدركها بالدليل؟ ليس كذلك، فلذلك لا بد أن تعرف الفقه جميعا على كلام طائفة من أهل العلم واحد أو أكثر تتصوره وتمضي، لأن الله جل وعلا كلف العبد بأن يسأل أهل الذكر إن كان لا يعلم ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?[الأنبياء:7، النحل:43] فإذا جهلت في المسألة فاسأل أهل الذكر، فلا بد للعلم، لمعرفة الفقه على قوم هذا سؤال أهل الذكر، أما في المسألة فتحرر فيها هذا لن يكون إلا إذا أمد الله في العمر ثم تتابعت شيئا فشيئا بعد ذلك.
ثم العلم الثالث بعد التوحيد والفقه: علم السلوك، الجزاء، القيامة، أن يحسن فهم العبد، الطمأنينة التي يحسن العبد بها، الاستقامة، وعدم الركون للدنيا، ومعرفة بحال السلف، وحال الأئمة، وحال الصالحين، وحال الزهاد حتى ينطلق في الدنيا فيضل في الفقه، وحتى لا يغفل عن فعل السلف، وعن سلوكهم وعن صلاحهم فيضعف من إخلاصه وتوحيده هذه الثلاث هي العلم، وكل يأخذ بما قُدِّرَ له من ذلك، ولهذا نسأل الله جل وعلا دائما العلم النافع والعمل الصالح وأن يزيدنا علما وعملا ووهدى واقتداء إنه سبحانه جواد كريم، هذه كلمة وإطالة إقتضاها المقام ومناسبة لا أدري هل هي مناسَبة مناسِبة أم لا؟ لكن لا بد من الأخذ بالتّواصي في مثل هذه المسائل وأسأل الله جل وعلا أن يختم لي ولكم برضاه أختم بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.
العلم له شهوة، له لذة، تجده منبسط في السيرة، تجد ليله ونهاره في السيرة، طيب أين التوحيد، سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، نعم هل علمت توحيد الله جل وعلا عليك، الأفعال، الألفاظ، التوحيد، الشرك الظاهر، الخفي، أنواعه ألعقيدة العامة لله جل وعلا وملائكته ورسله، الأمر والنهي وهل خلاصك على بينة، فعلك زكاتك صيامك حجك، كل هذه... عن بينة، الأحكام التي تليها في لبس لباسك في مركبك إلى آخره كل هذه إذا طلب الطالب العلم عن شهوة ولذة تجد أنه يتوسع في أشياء ثم لو نظر في نفسه لوجد أنه يجهل أشياء من ضروريات الدين وهذا لايسوغ، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة له أن العبد قد يطلب العلم بلذة مثل الكريم الذي يكرم الناس بلذة لو ما أكرم وأضاف الأضياف ضاق وما تحمل لما طبعه الله جل وعلا عليه، ولهذا فإن صاحب هذه اللذة فعل ما يجب من تعلم العلم الذي فرض عليه فإنه ينجو بإذن الله تعالى، فإذا كان يجهل ما فرض الله عليه فإنه... فيكون ممن ألهاهم التكاثر، أو ممن اتبعوا الشهوات لأن العلم شهوة وإن كان طلب العلم عبادة لكن العبادة إذا كانت معارضة بعبادة أوجب منها، فعبادة واجبة وعبادة مستحبة، لا يجوز، نعم نظرك في الأصول نظرك في الرجال، نظرك في التخريج، نظرك في السيرة، هذا علم مستحب لكن هل يقدم، هل هو أولى أو الواجب عليك؟ هذه مصيبة تراها الآن في مجتمعات كثيرة، تحقيقات وكتب كثيرة ومطبوعات كثيرة، لكن أين العلم النافع ؟ المسائل الظاهرة ما يعرفها، مسائل النظر فإما أن يغلي فيحرم ما لا يحرم أو يبيح ما لا يباح لا لغرض له في ذلك إلا لأجل عدم العلم... المقصود أن هذه المسألة أنتم تعرفونها، وتعرفون الواقع وواقع طلبة العلم لكن هي ليست لأجل عيب من كان كذلك نبرأ إلى الله من ذلك، لكن لأجل الوصية, أوجه لنفسي بذلك قبلكم وأسأل الله جل وعلا أن يعينني وإياكم على الحق والهدى.(52/123)
الثاني أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفا لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن عَلِمَ الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم، وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرا، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله، قال ابن عباس رضي الله عنهما لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان قال له: إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم. رواه البخاري. وأما الإحسان إلى اليتيم بلا عوض والصبر عل الجوع، فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيءمخالفا شرع الله.(52/124)
وأما إذا أريد بالشرع حكم الحاكم فقد يكون ظالما، وقد يكون عادلا، وقد يكون صوابا، وقد يكون خطأ، وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه كأبي حنيفة والثوري ومالك بن أنس والأوزاعى والليث بسعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم، فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة، وإذا قلد غيره حيث يجوز ذلك كان جائزا أي ليس اتباع أحدهم واجبا على جميع الأمة، كاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم اتباع من يتكلم بغير علم، وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراة، أو تأول النصوص بخلاف مراد الله، ونحو ذلك، فلهذا من نوع التبديل، فيجب الفرق بين الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل، كما يُفرّق بين الحقيقة الكونية، والحقيقة الدينية الأمرية، وبين ما يستدل عليها بالكتاب والسنة، وبين ما يُكتفي فيها بذوق صاحبها ووجده. (1)
__________
(1) الحمد لله وبعد: هذا الكتاب؛ كتاب الفرقان أنشأه شيخ الإسلام لبيان ضلال طوائف من غلاة الصوفية في مسائل الولاية والأولياء وبين في هذا الكتاب الفرق البيّن بين ولي الله وولي الشيطان، وسمى كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فطوائف الضلال في هذا الباب لهم أقوال ولهم آراء ولهم شبه كثيرة في مسألة الوَلاية وفي مسألة الإعتقاد في الأولياء، فمن تلك المسائل زعم طائفة من ظلال الصوفية أنّ أحدا من الناس الذين بلغوا مبلغا عظيما وسمعوا الخطاب، سموا أولا، ثم سمعوا الخطاب؛ خطاب الرب جل وعلا أنّ لهم أن يخرجوا عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، وهذا الرأي الذي ذهبوا إليه مبني على شيئين:
الأول: الخضر خرج على شريعة موسى.
الثاني: خاطبهم الله جل وعلا وأوحى إليهم كما خاطب جل وعلا الخضر وموسى.
هذان القولان ردهما شيخ الإسلام فيما سمعت.
الأول: خروج الخضر عن شريعة موسى لا يعرف أنه خرج عن شريعة موسى بهذه الأفعال الثلاثة التي صحب فيها موسى الخضر، هذه الأفعال الثلاثة جاءت بها شريعة الخضر، وهي موجودة حتى في شريعة الإسلام، ففعل أفعالا ثلاثة أنكرها عليه موسى، وإنكار موسى عليه هذه الأفعال الثلاثة ليس لأجل أنها لا توافق الشريعة لكن لأجل أنه لم يعلم تأويلها ولم يعلم تفسيرها فما صبر لهذا قال الخضر لموسى عليه السلام (أنت على علم من علم الله لا أعلمه وأنا على علم من علم الله لا تعلمه)يعني فإذا كان المرجع علم الرب جل وعلا، فإنّ الواجب عليك أن لا تنكر ما لا تعلم، سبب ذهاب موسى إلى الخضر أنه قال حين سئل أي الناس أعلم، أو أي أهل الأرض أعلم فقال موسى عليه السلام أنا، ولم يُرجع الأمر إلى علم الله فقال له الله جل جلاله موحيا إليه (إيتي عبدنا خضرا فإنه أعلم منك) كما رواه البخاري في أول الصحيح. الأفعال الثلاثة:
( خرق السفينة هذا إحسان والإحسان مطلوب في الشرائع جميعا وفعل الخضر لم يكن ظلما ولم يكن إعتداء بل كان إحسانا إليهم وهذا الإحسان جاءت به شريعة موسى عليه السلام وجاءت به الشرائع جميعا، فإن الملك أراد أن يأخذ الفينة السليمة فلما وجد أن السفينة معابة تركها ثم أصلحت السفينة.
(كذلك الغلام خشي أن يكفر أبويه كما قال سبحانه ?فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا?[الكهف:80] أنْ يَطغى عليهما وأن يكفر أو أن يكفرهما وأن يدلهما على الكفر والباطل فقتل هذا الذي علم أنه سيكون صائلا على أبويه في الدين أصله مشروع؛ لأنّ الصائل على الأبدان يقتل فكيف بالصائل على الدين.
(الثالث بناء الجدار هذا أيضا إحسان فإذن في أفعال الخضر لم يكن شيء منها دالا على أن الخضر خرج عن شريعة موسى، فإذن تأصيلهم المسألة بأن الولي له أن يخرج عن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى هذا مبني على هذه المقدمة غير الصحيحة؛ لأن هذه المقدمة مظنونة، هل كان الخضر مخاطبا بشريعة موسى أو غير مخاطب، هذا لا نعلمه هل كان مأمورا باقتداء موسى أو لم يكن هذا لا نعلمه، هل كان موسى من قوم موسى أم لم يكن لا نعلمه فالخضر علم من الله جل وعلا ?وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا?[الكهف:65] له علم لدني من الله سبحانه وتعالى وأفعاله لا تدل على ذلك وليس ثَم دليل زائد على ما زعموا.
الأمرالثاني الذي بني عليه الكلام: الكلام على الولي مخاطب هذا في الحقيقة باطل لأن الوحي إنقطع والخطابات التي يسمعها من إستعمل الرياضة والجوع والتفكر هذه خطابات من داخل النفس، وليست وحيا من الله جل وعلا، ضلّ طائفة منهم سمعوا أحاديث قدسية يعني سمعوا الرب جل وعلا يتكلم بكلام. حتى منهم من قال إنّ عند بعض الأئمة أو الأولياء عندهم شيء زائد عن القرآن كما ذكر الشعراني في طبقات الأولياء في أوخره في ترجمة أحد الناس قال في ترجمته: كان رحمه الله ورضي عنه يتلو آيات ليست في القرآن. يعني -على أصلهم- أنه سمع كلام الله جل وعلا فأصبح يقرأ أشياء ليست في القرآن، وهذا ولا شك أنها مقدمة باطلة؛ لأن الوحي إنقطع ولايمكن لأحد أن يوحى إليه وحي سماء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما في هذه الأمة فيها الإلهام والتحديث بما يوقع في روع العبد أما السماع يقول سمعت، وكما قلنا في ابن العربي الأربعين في أحاديث رب العالمين، الأحاديث التي سمعها عن الرب جل وعلا الأحاديث القدسية كلها فيها قال الله تعالى كذا فيما يرويه مما سمع.
• ..النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أولاد المشركين قال الله أعلم بما كانوا عاملين، الله جل وعلا أطلع الخضر ما سيعمله هذا، لأنه يُخشى أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا، فالزائد على هذا لا نعلمه لكن إذا كان الله جل وعلا يعلم أنه إذا بلغ سيكون كافرا فإنه من أهل النار الله أعلم بما كانوا عاملين، فأولاد المشركين فيهم أقوال كثيرة عند أهل العلم، وأقرب الأقوال أنْ يقال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الله أعلم بما كانوا عاملين. هل بما كانوا عاملين لو بلغوا أو بما كانوا عاملين يوم القيامة إذا بُعث لهم رسول قولان عند أهل العلم، لكن نقول بما قاله عليه الصلاة والسلام، نقول كما قال الله أعلم بما كانوا يعملون، هذا خشي أن يرهقهما طغيانا وكفرا فقتل....(52/125)
فصل
وقد ذكر الله في كتابه الفرق بين الارادة والأمر، والقضاء والإذن، والتحريم والبعث، والارسال والكلام، والجعل، وبين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه، وإن كان لم يأمر به ولا يحبه ولا يثبت أصحابه ولا يجعلهم من أوليائه المتقين، وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأثاب عليه وأكرمهم وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين، وهذا من أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه، فمن استعمله الرب سبحانه وتعالى فيما يحبه ويرضاه ومات على ذلك كان من أوليائه، ومن كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه ومات على ذلك كان من أعدائه، فالارادة الكونية هي مشيئته لما خلقه، وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وارادته الكونية، (1) والارادة الدينية هي المتضمنة لمحبته ورضاه، المتناولة لما أمر به، وجعله شرعا ودينا، وهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى ?فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ?[الأنعام:125]، وقال نوح عليه السلام لقومه ?وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ?[هود:34]،
__________
(1) الإرادة كما ذكر منقسمة إرادة كونية قدرية وإلى إرادة دينية شرعية، وأما المشيئة فلا تنقسم ولا يقال مشيئة كونية ومشيئة شرعية بل يقال مشيئة الله، ولا توصف المشيئة بكونها كونية أودينية، لأن المشيئة نوع واحد فلا تنقسم المشيئة، فلم يأتي الدليل ما يدل على إنقسامها بل معناها واضح في أنها متعلقة بالكون وليست متعلقة بالشرع، لهذا نقول مشيئة الله جل وعلا نوع واحد، وهي إرادته الكونية، الإرادة هي التي تنقسم كما ذكر لك في هذه الأنواع، هذه الأنواع جميعا تنقسم إلى كونية ودينية، وليس منها المشيئة، الإرادة منقسمة وسيأتي بالأدلة.(52/126)
وقال تعالى ?وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ?[الرعد:11]، وقال تعالى في الثانية ?وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ(1)يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ?[البقرة:185]، وقال في آية الطهارة ?مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ?[المائدة:6]، ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح، قال ?يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(26)وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا(27)يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا?[النساء:26-28]، وقال لما ذكر ما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نهاهم عنه ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33]، والمعنى انه أمركم بما يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، فمن أطاع أمره كان مطهرا قد أُذهب عنه الرجس، بخلاف من عصاه، وأما الأمر فقال في الأمر الكوني ?إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ?[النحل:40]، وقال تعالى ?وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ?[القمر:50]، وقال تعالى ?أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أو نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ?[يونس:24]، وأما الأمر
__________
(1) الثانية الإرادة الدينية، الأولى من الآيات الإرادة الكونية والمجموعة الثانية في الإرادة الدينية الشرعية.(52/127)
الديني فقال تعالى?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ?[النحل:90]، وقال تعالى ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا?[النساء:58]، وأما الإذن فقال في الكوني لما ذكر السحر ?وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ?[البقرة:102] أي بمشيئته وقدرته، وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل، وقال في الإذن الديني ?أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ?[الشورى:21]، وقال تعالى ?إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45)وَدَاعِيًا إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ?[الأحزاب:45-46]، وقال تعالى ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ?[النساء:64]، (1)
__________
(1) هذه محتملة للنوعين ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ?[النساء:64] هذه تحتمل أن تكون الكونية و تحتمل أن تكون الشرعية؛ يعني الآيات فيهما معا تصلح لهذا وتصلح لهذا، فالرسول طاعته شرع، فيكون إذن الله جل وعلا هو الشرع الديني، وأيضا الرسول يطاع بإذن الله جل وعلا الكوني أن يطاع. (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ) يعني ممن أطاعه، وتكون الطاعة هذه بإذن الله، ليس العبد هو الذي يطيع من عند نفسه، بل?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ?[الإنسان:30، التكوير:29] فتصلح للنوعين.
وكذلك ?مَا قطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ?[الحشر:5]،هذه يعني في أمر الله جل وعلا، يعني فيما تُرك وفيما أُبقي ... الشريعة وهو بإذن الله الشرعي، وهو أيضا ما ترك وما أبقي هو بمشيئة الله جل وعلا بإذنه الكوني، ولكن الثانية أظهر في الشرع.
...هناك من يقول إنّ الإذن لا ينقسم إنما إذن كوني فقط. أما المنقسم هو الإرادة وآية السّحر هي في الكوني وغيرها مثلها، ومن قال إن الآيات التي فيها الإذن ديني ما عندنا في الكوني إلا آية السحر ?وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ?[البقرة:102] فإيراد الاحتمال في الجميع يقوي الانقسام، عندك الآن الإذن في آية السحر هذا إذن كوني لأنّ...محرم، ... هم يريدون مثالا آخر على الإذن الكوني؛ من طريق آخر، لا يوردون إلا آية السحر، فالذين يتعلقون بالسحر يقولون الإذن هنا (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الإذن هنا ما هو الإذن الكوني فيدخل فيه الإذن الشرعي أيضا؛ لأنّ هناك من يجيز استعمال السحر فيما ينفع ولا يضر، وبقولون ما يضر يعني مثل...و الصرف والعطف يعني إلى وقتنا الحاضر وفي زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى آخره يجادل كثيرون في أن الصرف والعطف يعني المحبة هذه التي تنتج محبة -وفي الحقيقة فيها ضرر هذه من هنا تكون محرمة- ويكون هنا الإذن هنا يكون ديني (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) يعني الإذن الديني، المقصود أنّ إنقسام الإذن دليله في الإذن الكوني آية السحر، وعدم إيراد العلماء –أنا ما استقرأت القرآن-لأنواع أخرى لأدلة أخرى يشكل في تقوية الإنقسام -واضح هذا؟- لهذا نزول الآيات محتملة لهذا وهذا حتى يقوى التقسيم، وهذا معلوم في قوله مثلا ?وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ?[النساء:27] يعني يحب الله أن يتوب عليكم، أنّ من تاب قد وقعت توبته بالنوعين، لكن لا يلزم من محبة الله جل وعلا وإرادته الشرعية أن يقع الكوني لا يلزم منه من مثل الإذن الكوني؛ يعني قد يريد الله جل وعلا الشيء شرعا ولا يريده كونا كما هو معلوم، وقد يأذن به شرعا ولا يأذن به كونا، والإستلزام غير حاصل من الجهتين أو الإستلزام في الجهة الثانية غير حاصل، يعني أنه وجد الشرعي وُجد الديني, لا, إذا وجد الشرعي قد يكون الكوني موجود وقد لا يكون، فإذا وقع الشرعي لا شك أنه يجتمع فيه الأمران يعني في طاعة المطيع تحصل الإرادتان، في القطع هذا قطع اللينة وتركها هذا يقع وانتهى واجتمع فيه الإذن الشرعي والإذن الديني بمعنى أن الإشياء الدينية التي ذكر هي قد توافق الكوني فتكون واقعة وقد لا توافقه فلا يفعلها العبد، مثل الجعْل فلا يأتيه إلى آخره ?جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ?[المائدة:97] هذا جعل شرعي؛ ديني، أناس ما جعلوها كذلك واقتحموا البيت وقتلوا من قتلوا وسفكوا الدماء كالقرامطة ونحوهم، ما جعلوا البيت قياما للناس، إذن الجعل هما شرعي يعني حينما لم يؤمَّن البيت لم تجتمع الجهتان، فلما أُمِّن البيت إجتمعت هذه وهذه، فإذن وجود الأول وهو الكوني لا يستلزم الثاني ووجود الثاني لا يستلزم الأول [وجود في الآيات(المفرّغ)] لكن وقوع الثاني يستلزم وجود الأول. نعم كمّل.(52/128)
وقال تعالى ?مَا قطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ?[الحشر:5]، وأما القضاء فقال في الكوني ?فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ?[فصلت:12]، وقال سبحانه ?إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ?(1) وقال في الديني ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ?[الإسراء:23]، أي أمر وليس المراد به قدر ذلك فإنه قد عبد غيره كما أخبر في غير موضع كقوله تعالى ?وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ?[يونس:18]، وقول الخليل عليه السلام لقومه ?أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:75-77]، وقال تعالى ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ?[الممتحنة:4]، وقال تعالى ?قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1)لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(3)وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ(4)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5)لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6)?[الكافرون]، وهذه كلمة تقتضى براءته من دينهم ولا تقتضى رضاه بذلك، كما قال تعالى في الآية الآخرى ?وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ
__________
(1) البقرة:117، آل عمران:47، مريم:35.(المفرّغ)(52/129)
أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ?[يونس:41]، ومن ظن من الملاحدة أنّ هذا رضا منه بدين الكفار فهو من أكذب الناس وأكفرهم، كمن ظن أن قوله ?وَقَضَى رَبُّكَ?[الإسراء:23] بمعنى قدّر، وأن الله سبحانه ما قضى بشيء إلا وقع، وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفرا بالكتب، (1)
__________
(1) يعني به أصحاب وحدة الوجود الذين قالوا المعبود والعابد شيء واحد لأن الله جل وعلا قضى أنْ لا يُعبد إلا هو ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ?[الإسراء:23]، يعني قَدَّر أن لا يعبد إلا هو؛ فمن عبد غير الله فقد عبد الله؛ لأن الله قدّر كونا أن لا يُعبد إلا هو، هذا باطل عظيم البطلان؛ لأن (قَضَى) هنا بمعنى أمر ووصى؛ لأنه سبحانه هو الذي أثبت بالقرآن أنهم عبدوا غير الله ?وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[الفرقان:17، مريم:49]، و? أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5] فهو سبحانه هو الذي بين أنهم عبدوا غيره، وكلمة الغَيْرِيّة هذه واضحة، وكونهم عبدوا من دون الله آلهة أيضا واضحة، في أنه لا يمكن أن تكون قضى بمعنى أمضى. وهذا هو الذي ذكره شيخ الإسلام، و الوجه الثاني أن قضى هنا لا تكون بمعنى قدّر و إنما بمعنى أمر لمجيء (أنْ) بعدها فـ(أنْ) تفسيرية تكون بعد كلمة فيها معنى القول دون شروط القول، وكلمة (قدّر) ليس فيها معنى القول وليس فيها حروف القول بخلاف كلمة (أمر) فإنها في معنى القول، ولهذا إذا إخترنا القول في (أنْ) في قوله (أَلَّا تَعْبُدُوا) تفسيرية قضى بمعنى أَمَر واضحة، وكل منهما مترتبة على أخرى، يعني (قَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا)، (أمر ألا تعبدوا) من أجل التفسير بأَمر صارت (أنْ) تفسيرية، وأيضا كون (أنْ) مصدرية هذا فيه بحث.
... كأنه عندك إشكال لماذا خصّ الكتب؟ هو في الحقيقة لا إشكال في ذلك، لكن كقاعدة في الأشياء المتلازمة أنه قد يفترض أحد النوعين ويترك الآخر أو تترك الأشياء التي تلزم إكتفاءً بما ذكر، التكذيب بالكتب هو تكذيب بمن أُنزلت عليه الكتب، فنقول إن الإيمان بالكتب إيمان بالرسل، والإيمان بالرسل إيمان بالكتب، فالأشياء المتلازمة يُكتفى فيها بأحد النوعين. أكمل.(52/130)
وأما لفظ البعث فقال تعالى في البعث الكوني ?فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا?[الإسراء:5]، وقال في البعث الديني ?هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ?[الجمعة:2]، قال تعالى ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، وأما لفظ الإرسال فقال في الإرسال الكوني ?أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا?[مريم:83]، وقال تعالى ?وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ?[الفرقان:48]، وقال في الديني ?إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا?[الأحزاب:45]، وقال تعالى ?إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ?[نوح:1]، وقال تعالى ?إنَّاأَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا?[المزمل:15]، وقال تعالى ?اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ?[الحج:75]، وأما لفظ الجعل فقال في الكوني ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ?[القصص:41]، وقال في الديني ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]، وقال تعالى ?مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ?[المائدة:103]، وأما لفظ التحريم فقال في الكوني ?وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ?[القصص:12]، وقال تعالى ?قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ?[المائدة:26]، وقال في الديني ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ(52/131)
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ?[المائدة:3]، وقال تعالى ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ?[النساء:23]الآية، وأما لفظ الكلمات فقال في الكلمات الكونية ?وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ?[التحريم:12].
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول «أعوذ بكلمات الله التامة، كلها من شر ما خلق ومن غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون»، وقال صلى الله عليه وسلم «من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرَّه(1)
__________
(1) الفعل المشدد دخلت عليه (لم) الأصل أنه يجزم وتكون علامة جزمه السكون وتكون علامة جومه السكون، لكن إلتقى ساكنان؛ سكون التضعيف والسكون الذي هو علامة فلذلك غُيِّر إلى الفتح لسببين:
الأول: لأن الفتحة أخف الحركات.
والثاني: لأن الضم ممتنع لكونه حالة الفعل قبل دخول (لم) والكسر ممتنع لأن الفعل لا يجر أو لايدخله الجر.
هذه مثل: لم يَجُرُّهُ، لم يهمَّه...، إلى آخره، كل فهل مشدد في آخره إذا دخلت عليه (لم) أو حرف من حروف الجزم فإنه يكون مجزوم بسكون مقدّر.(52/132)
شيء حتى يرتحل من منزله ذلك»، وكان يقول «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يارحمن» وكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر هي التي كون بها الكائنات، فلا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته، وأما كلماته الدينية وهي كتبه المنزلة وما فيها من أمره ونهيه فأطاعها الأبرار وعصاها الفجار، وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية وجعله الديني وإذنه الديني وإرادته الدينية، وأما كلماته الكونية إلى لا يجاوزها بر ولا فاجر فانه يدخل تحتها جميع الخلق حتى إبليس وجنوده وجميع الكفار وسائر من يدخل النار، فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق والمشيئة والقدرة والقدر لهم فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضا والغضب، وأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور، وتركوا المحظور، وصبروا على المقدور، فأحبهم وأحبوه، ورضي عنهم ورضوا عنه، وأعداؤه أولياء الشياطين وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم، ويغضب عليهم، ويلعنهم، ويعاديهم، وبسط هذه الجمل له موضع آخر، وإنما كتبت هنا تنبيها على مجامع الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وجِمَاعُ(1) الفرق بينهما اعتبارهم بموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء وأعدائه الأشقياء، وبين أوليائه أهل الجنة وأعدائه أهل النار، وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد وبين أعدائه أهل الغي والضلال والفساد، وأعدائه حزب الشيطان، وأوليائه الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأايدهم بروح منه، قال تعالى ?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ?[المجادلة:22]الآية، وقال
__________
(1) جماع الفرق يعني وأصل الفرق، جِماع الشيء يعني الأصل الذي يقوم عليه.(52/133)
تعالى ?إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ?[الأنفال:12]، وقال ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ?[الأنعام:121]، وقال ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا?[الأنعام:112]، وقال ?هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222)يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(223)وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ(224)أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225)وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ(226)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ?[الشعراء:221-227]، وقال تعالى ?فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ(38)وَمَا لَا تُبْصِرُونَ(39)إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ(41)وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ(42)تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(43)وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ(48)وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ(49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ(50)وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ(51)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ(52/134)
الْعَظِيمِ ?[الحاقة:38-52]، وقال تعالى ?فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ?[الطور:29] إلى قوله ?إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ?[الطور:34]، فنزه سبحانه وتعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم عمن تقترن به الشياطين من الكهان والشعراء والمجانين، وبيّن أن الذي جاءه بالقرآن ملك كريم اصطفاه، قال الله تعالى ?اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ?[الحج:75]، وقال تعالى ?وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ?[الشعراء:192-195]، وقال تعالى ?قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ?[البقرة:97]الآية، وقال تعالى ?فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ?[النحل:98] إلى قول ?وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ?[النحل:102]، فسمّاه الروح الأمين وسماه روح القدس وقال تعالى ?فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15)الْجَوَارِي الْكُنَّسِ?[التكوير:15-16] يعنى الكواكب التي تكون في السماء خانسة أي مختفية قبل طلوعها، فإذا ظهرت رآها الناس جارية في السماء، فإذا غربت ذهبت إلى كناسها الذي يحجبها، ?وَاللَّيْلِ إذا عَسْعَسَ?[التكوير:17] أي إذا أدبر وأقبل الصبح ?وَالصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ?[التكوير:18] أي أقبل، ?إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ?[التكوير:19] وهو جبريل عليه السلام ?ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20)مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ?[التكوير:20-21] أي مطاع في السماء أمين، ثم قال ?وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ?[التكوير:22] أي صاحبكم الذي منَّ الله عليكم به إذ بعثه إليكم رسولا من جنسكم يصحبكم إذْ كنتم لا تطيقون أن تروا الملائكة كما قال تعالى ?وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ(52/135)
عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ(8)وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا?[الأنعام:8-9] الآية وقال تعالى ?وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ?[التكوير:23] أي رأى جبريل عليه السلام ?وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ?[التكوير:24] أي بِمُتَّهَم، وفي القراءة الاخرى ?بضنين? أي ببخيل يكتم العلم ولا يبذله إلا بجُعل كما يفعل من يكتم العلم إلا بالعوض ?وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ?[التكوير:25]، فنزه جبريل عليه السلام عن أن يكون شيطانا كما نزه محمدا صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعرا أو كاهنا.(52/136)
فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بيّن لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين، وخيار أولياء الله كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم، كذلك. وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم مثل انشقاق القمر، وتسبيح الحصى في كفه، وإتيان الشجر إليه، وحنين الجذع إليه، وإخباره ليلة المعراج بصفة بيت المقدس، وإخباره بما كان وما يكون، وإتيانه بالكتاب العزيز، وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة، كما أشبع في الخندق العسكر من قِدْر طعام وهو لم ينقص؛ في حديث أم سلمة المشهور، وأروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص، وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص، وهم نحو ثلاثين ألفا، ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتى كفى الناس الذين كانوا معه، كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة أو خمسمائة، ورده لعين قتادة حين سالت على خده فرجعت أحسن عينيه، ولما أرسل محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف فوقع وانكسرت رجله فمسحها فبرئت، وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلا كلا منهم حز له قطعة وجعل منها قصعتين، فأكلوا منها جميعُهم، ثم فضل فضلة، ودين عبد الله أبي جابر لليهودي وهو ثلاثون وسقا، قال جابر فأمر صاحب الدين أن يأخذ التمر جميعه بالذي كان له فلم يقبل فمشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لجابر جُدَّ له فوفاه الثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا، ومثل هذا كثير قد جمعت نحو ألف معجزة.(52/137)
وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جدا، مثل ما كان أسيد بن حضير يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته.
وكانت الملائكة تسلم على عِمْران بن حُصَيْن، وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها، وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط، فلما افترقا افترق الضوء معهما. رواه البخارى وغيره.
وقصة الصديق في الصحيحين؛ لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته وجعل لا يأكل لقمة إلا ربى من أسفلها أكثر منها فشبعوا، وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت فرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا.
وخبيب بن عدي كان أسيرا عند المشركين بمكة شرّفها الله تعالى وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة.
وعامر بن فهيرة قُتل شهيدا فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه، وكان لما قتل رُفع، فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع، وقال عروة فَيَرَوْن الملائكة رفعته.
وخرجت أم أيمن مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسا على رأسها فرفعته فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها.
وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده.(52/138)
والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله تعالى أبرّ قسمه، وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون يا براء أقسم على ربك فيقول: يا رب أقسمت عليك لمَاَّ(1) منحتنا أكتافهم فيهزم العدو، فلما كان يوم القادسية قال: أقسمت عليك يا رب لمََّا منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدا.
__________
(1) بعنى (إلاّ) قال جل وعلا ?وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ?[يس:32] يعني إلاّ جميعم.(52/139)
وخالد بن الوليد حاصر حصنا منيعا، فقالوا لا نسلم حتى تشرب السّم فشربه فلم يضره. وسعد بن أبي وقاص كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلا استجيب له(1) وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق، وعمر بن الخطاب لما أرسل جيشا أمر عليهم رجلا يسمّى سارية، فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر يا سارية الجبل يا سارية الجبل، الجبل، (2) فقدم رسول الجيش فسأل فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدوا فهزمونا فإذا بصائح يا سارية الجبل يا سارية الجبل، فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله.
ولما عذبت الزَّنِيرَة على الإسلام في الله فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها. قال المشركون أصاب بصرَها اللاتُ والعزى قالت: كلا والله. فردّ الله عليها بصرها.
ودعا سعيد بن زيد على أروى بنت الحكم فأعمى بصرها لما كذبت عليه، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها. فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت.
__________
(1) يعنى ما دعا فاستجاب الدعوة؛ يعني الغالب بل الأكثر، وليس معناه أن له حقا في أنه ما دعا به يُجاب، فهذه لم يُعطها الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، الأنبياء ربما ردت دعواتهم كما ردّت دعاء نوح لابنه ?إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ?[هود:45] وكما ردت دعوة إبراهيم لأبيه?وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ?[التوبة:114]، وكما رد استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب وهكذا، فدعوات الأنبياء هي أعظم الدعوات التي تجاب، ثم الصالحون من أقوامهم ممن يقال فيهم مستجاب الدعوة يعني بأكثر دعواتهم، ويُرد منها كثير لأن إجابة الدعاء من آثار الربوبية والله جل وعلا له الحكمة فيما يأتي، فيما يفعل، وفيما يُقَدِّر، وفيما يجيب، وفيما يمنع، وهو سبحانه المعطي المانع.
(2) معنى يا سارية الجبلَ، الجبلَ: يا سارية إلزم الجبل، إلزم الجبلَ.(52/140)
والعلاء بن الحضرمي كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين، وكان يقول في دعائه: يا عليم يا حليم، يا عليّ يا عظيم. فيستجاب له، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عُدموا الماء والاسقاء لما بعدهم، فأجيب، ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم، ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات فلم يجدوه في اللحد.
وجرى مثل ذلك لأبي مسلم الخولاني الذي أُلقي في النار فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمى بالخشب من مدها، ثم إلتفت إلى أصحابه فقال تفقدون من متاعكم شيئا حتى ادعوا الله عز وجل فيه، فقال بعضهم فقدت مخلاة، فقال اتبعني فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها، وطلبه الأسود العنسي لما دعى النبوة فقال له أتشهد أني رسول الله؟ قال ما أسمع، قال أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلي فيها، وقد صارت عليه بردا وسلاما، وقدِم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وقال الحمد الله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فُعل به كما فُعل بإبراهيم خليل الله، ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره، (1) وخببت إمرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت، وجاءت وتابت فدعا لها فرد الله عليها بصرها.
__________
(1) هذه أمثلة كثيرة لما حصل للصحابة رضوان الله عليهم من كرامات، وما حصل لهم من الإكرام.(52/141)
وكان عامر بن عبد قيس يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه، ومايلقاه سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد، ثم يجيء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها، ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بثيابه الأسد ثم وضع رجله على عنقه. وقال إنما أنت كلب من كلاب الرحمن، وإنى استحي أن أخاف شيئا غيره، ومرت القافلة، ودعا الله تعالى أن يهوّن عليه الطهور في الشتاء فكان يؤتى بالماء له بخار، ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه.
وتغيب الحسن البصرى عن الحجاج فدخلوا عليه ست مرات فدعا الله عز وجل فلم يروه، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتا، وصلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو، فقال اللهم لا تجعل لمخلوق علي مِنَّةً، ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما وصل إلى بيته قال يا بني خذ سرج الفرس فإنه عارية، فأخذ سرجه فمات الفرس، وجاع مرة بالأهواز فدعا الله عز وجل واستطعمه فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير، فأكل التمر وبقي الثوب عند زوجته زمانا، وجاءه الأسد وهو يصلي في غيضة بالليل، فلما سلم قال له أطلب الرزق من غير هذا الموضع، فولى الأسد وله زئير، وكان سعيد بن المسيب في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات، وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره. ورجل من النخع كان له حمار فمات في الطريق، فقال له أصحابه هلم نتوزع متاعك على رحالنا، فقال لهم أمهلوني هنيهة ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فأحيا له حماره، فحمل عليه متاعه. ولما مات أويس القرني وجدوا في ثيابه أكفانا لم تكن معه قبل، ووجدوا له قبرا محفورا فيه لحد في صخرة فدفنوه فيه، وكفنوه في تلك الاثواب.
وكان عمرو بن عقبة بن فرقد يصلي يوما في شدة الحر فأظلته غمامة، وكان السّبع يحميه، وهو يرعى ركاب أصحابه، لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أنه يخدمهم.(52/142)
وكان مطرف بن عبد الله بن الشخّير إذا دخل بيته سبّحت معه آنيته، وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة فأضاء لهما طرف السوط. ولما مات الأحنف بن قيس وقعت قلنسوة رجل في قبره فأهوى ليأخذها فوجد القبر قد فسح فيه مد البصر.
وكان إبراهيم التيمي يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئا، وخرج يمتار لأهله طعاما فلم يقدر عليه، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله ففتحها فإذا هي حنطة حمراء، فكان إذا زرع منها تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا.
وكان عتبة الغلام سأل ربه ثلاث خصال؛ صوتا حسنا، ودمعا غزيرا، وطعاما من غير تكلف، فكان إذا قرأ بكى وأبكى ودموعه جارية دهره، وكان يأوى إلى منزله فيصيب فيه قوته ولا يدرى من أين يأتيه.
وكان عبد الواحد بن زيد أصابه الفالج فسأل ربه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء، فكان وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه ثم تعود بعده.
وهذا باب واسع قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع، (1)وأما ما نعرفه نحن عيانا، ونعرفه في هذا الزمان فكثير.
__________
(1) قاعدة في الكرامات مطبوعة”قاعدة في الكرامات والخوارق“ كبيرة لشيخ الإسلام أصّل فيها قاعدة الخوارق والآيات والكرامات والفرق بين هذه الأمور.(52/143)
ومما ينبغى أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا إحتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوى إيمانه ويسدّ حاجته، ويكون من هو أكملُ وَلاية لله منه مستغنيا(1) عن ذلك فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته، وغناه عنها لا لنقص ولايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يُجري على يديه الخوارق لهدي الخلق ولحاجتهم، فهؤلاء أعظم درجة، وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية(2)
__________
(1) مستغنيا هي الخبر.
(2) هذا الكلام المستفيض ذكر فيه شيخ الإسلام رحمه الله وأجزل له المثوبة وجزاه عنا وعن كل سنُّي خيرا، ذكر فيه الكرامات وأن الكرامة فرع معجزات الأنبياء؛ لأنّ كلّ كرامة لم تحصل إلا باتباع النبي عليه الصلاة والسلام، والذي لا يتّبع النبي عليه الصلاة والسلام لا تحصل له كرامة، وإنما الذي يحصل له خارق شيطاني من الشيطان وليس بكرامة من الله جل وعلا، إذْ الكرامة للمتبعين وليست للمخالفين، وباب الكرامات باب واسع، والكرامة تُعرّف بما يجريه الله من خوارق العادات على يدي ولي، والكرامة من لفظها إكرام للعبد وقد يكون هذا الإكرام لحاجته هو إلى ذلك أو لحاجة غيره، ولهذا حصول الكرامة لا يدل على رِفعة من حصلت له، فهو إكرام خاص، وقد يكون من لم تحصل له كرامة أُكرم بأنواع من الإيمان واليقين والصدق بما لم يكرم به من حصلت له كرامات، لهذا ذكر لك شيخ الإسلام أنّ الكرامات في التابعين أكثر منها في الصحابة لأجل ضَعف الإيمان وحاجتهم لما يقوي إيمانهم ولحاجة غيرهم ممن يراهم إلى اتباعهم واقتفاء أثر التابعين لضَعف الإيمان في الناس وضعف اليقين، فإذن الكرامات من حيث الأصل هي فرع معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، ولا تصل إلى قدرها وإن كانت تشترك معها في الجنس؛ يعني قد يحصل للولي من الكرامة؛ إجراء طعام على يديه لكن لا يبلغ قدْر المعجزة لأن يطعم بطعام الذي يأتي الولي يطعم به الجيش العظيم لكن يحصل له جنس الكرامة، يحصل له ما يشترك به مع المعجزة في الجنس، ومثل النار التي حصلت لإبراهيم عليه السلام قال لها الله جل وعلا ?كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ?[الأنبياء:69] هذه نار عظيمة أجج النار بنار عظيمة، فكانت معجزة لإبراهيم، حصلت لبعض الصحابة أنه أدخل النار فلم تضره لكن كانت نارا ليست على قدر تلك النار كانت نارا صغيرة وهكذا في أجناس ما سمعت.
إذن فكل كرامة هي معجزة للنبي؛ يعني مجموع الكرامات التي حصلت بالإتباع هي من جملة دلائل النبوة؛ لأنها ماحصلت للأولياء إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام.
الكرامات من حيث التقسيم، نحن نؤمن أهل السنة بكرامات الأولياء ونؤمن بما يجري اله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات، فالكرامات نصدّق بها، ونؤمن بأنها تحصل لأولياء الله جل وعلا، وهذه الكرامات على نوعين:
الأول كرامة علمية: فالعلم قد يكون علما كشفيا بأن يعلم الخافي مثل علم أبي بكر بالجنين (بنوع الجنين، علم أبي بكر رضي الله عنه بنوع الجنين رأى بطن امرأته فقال فيها أنثى) وقد يكون علما بالسماع؛ يسمع ما لم يسمعه غيره، مثل سارية سمع كلام عمر، أو اسماع ما لم تجرِ العادة أن يُسمع مِنْ بُعد المسافة مثل الكرامة التي حصلت لعمر، وقد يكون الخارق العلمي من جهة التأثير على الخلق، فيكون العالم أوالرجل الصالح يُعلِّم يؤثر على الناس بعلمه أو بوعظه ونحو ذلك فيهديهم الله جل وعلا ويصلحهم على يديه، هذا نوع إكرام من جهة العلم والتعليم. له أمثلة كثيرة مما مرّ معنا، أدرج الأمثلة المناسبة تحت هذا القسم.
الثاني كرامة من جهة القدرة والتأثير: يعني أنْ يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، وأن يؤثر في الكونيات بما لا يؤثر عليه غيره وإن قلت يأثر ويقدر فهو إجراء الله على يديه ذلك، كما عرفنا الكرامة بقولنا: ما يجري اللهُ من خوارق العادات على يدي ولي. وليس معناه أنه يعطى القدرة بالتأثير، كما يقوله غلاة الصوفية حتى بلغوا فيمن يزعمونه وليا بأنه يقول للشيء كن فيكون، إنما يجريه الله على يديه إكراما له، وليس معناه أنه عنده قدرة دائمة في التأثير أو في قلب الأشياء أو ما أشبه ذلك، من هذا المثال: يُرسل النهر لسعد حتى يمر عليه ومن معه، وسفينة مسك بالأسد حتى أوصله مقصده, وأمثال كثيرة في أنواع القدرة.
إذن الكرامة من حيث هي حاصلة، الكرامة لا تدل على أن من حصلت له أعظم ممن لم تحصل له، الكرامة قد يحتاج إليها ضعيف الإيمان فتحصل له وتُحجب عن قوي الإيمان فلا يُعطى كرامة حسية من قدر وتأثير أو كشف علمي، وإنما يُعطى العلم التأثيري وأشباه ذلك، الخوارق سيأتي كلام شيخ الإسلام عليها وأنها تختلف عن الكرامات، الخوارق تجري على يدي المبتدعة، العصاة إلى آخر ذلك.
إذا تبين هذا، فالكرامة قد تحصل على يدي غير الولي، الأصل أنها لا تحصل إلا لمطيع، لصالح، لولي مؤمن متقي. وقد تحصل لعاصي وقد تحصل لمبتدع، وهذه الحالات القليلة إنما هي لتقوية إيمانه لضعفه أو لتقوية من معه على عدوهم لما معهم من أصل الإيمان مع عدوٍ معه الكفر أو لأنه ينافح عن الدين فيُعطى من الإكرام لأجل منافحته عن الدِّين في مقابل المشرك والكافر، لهذا يُشكل على البعض حصول طائفة من الكرامات أو الخوارق لمن هو مبتدع مثل ما قد يُذكر من حصول كرامات في أفغانستان لبعض الناس وفي قتالهم مع الملاحدة ويأتي طائفة ويقولون ليس بصحيح لأن هؤلاء مبتدعة ويفشو فيهم أنواع من الشِّركيات ويكذبون، وآخرون ويقولون رأينا بأعيننا فيصدقون فيحصل خلط، هل يكذب هذا أم يصدّق؟
وقاعدة أهل السنة في هذا الباب أنّ هؤلاء يقاتلون الملاحدة، يقاتلون الكفار أعداء الله جل وعلا، فهؤلاء المسلمون الذين ينتسبون إلى أصل الإسلام قد يعطون شيئا من الخوارق لا لهم ولكن لإظهار الدين الذي معهم على عدوهم.
وهذا يحصل أيضا في باب المناظرات قد يأتي شخص من المعتزلة ويناظر نصرانيا فيُكرم بأشياء من الحجج ما خطرت بباله، وذلك لما له من أصل الإسلام في مقابلة ذلك النصراني المشرك، وقد يكون أشعريا مثلا يناظر وهكذ.
فإذن الكرامة التي تحصل للعبد ينبغي النظر فيها والتأمل فلا يُعجَّل بالإثبات ولا بالإنكار.
أيضا من قاعدة أهل السنة في الكرامة أن الكرامة لا يُتعلق بأصحابها بل هي إكرام لهم، ولا يُتعلق بصاحبها لأجل الكرامة والله جل وعلا أكرمه وأعظم من كرامة الولي كرامة محمد عليه الصلاة والسلام في حياته وبعد مماته بالآيات وبالبراهين، بل وباصطفائه رسولا وخاتما للأنبياء والمرسلين ومع ذلك هو عليه الصلاة والسلام الذي حذّر أن يتخذ قبره مسجدا، وأن يُدعا، وأن يجعل قبره عيدا وأشباه ذلك لما حدثت لطائفة من الأولياء الذين حُكيت عنهم كرامات. فإذن حصول الكرامة لا تعني التعلق، بل لا يجب التعلق بمن حصلت له الكرامة لا في حياته ولا بعد مماته، التعلق غير الشرعي، أما التعلق الشرعي بأن يتأثر بالرجل الصالح وأن يصاحب لتقوية المصاحَب على طاعة الله أو أن يسأل أحيانا للدعاء، أن يدعو ونحو ذلك، فهذا لا بأس به لكن لا من جهة التعلق به. وهذا لمصلحة؛ لمصلحة عامة يحصل ذلك مثل ما طلب من سعد أن يقسم في الفتح وأشباه ذلك مما هو داخل في ضمن الفائدة العامة.
إذن فأهل السنة في باب الكرامات وسط؛ وسط بين المنكرين كالمعتزلة ومن شابههم كابن حزم وغيره، وبين الغالين كغلاة الصوفية الذين يجعلون الكرامة سبيلا للتعلق البدعي وأيضا لا يفرقون بين الخارق الشيطاني وبين الكرامة. سيأتي في هذه المباحث زيادة تفصيل فيما نستقبل. نقف عند هذا.
...الكرامة مثل ما ذكرت لك ما يُجري الله من خوارق العادات على يدي ولي، أما على يدي نبي الآية والبرهان ما يؤتاه النبي مما يَعجز عنه الإنس والجن، فالأشاعرة عندهم المعجزة والكرامة متساوية في جنسها وقدرها؛ في الجنس والقدر متساوية؛ النار هي النار المعجزة التي تحصل للنبي صلى الله عليه وسلم تحصل للولي بنفسها لكن الفرق بينهما أنها تكون في النبي مقرونة بدعوى النبوة وبالتحدي في بعضها ليس في جميعها، وأما الكرامة فليست مقترنة بذلك. وهذا غير لازم؛ لأن الكرامات مراتب مختلفة في الجنس وفي القدْر وكذلك آيات الأنبياء مختلفة في الجنس والقدْر.
الرؤيا: هذا مثل يضربه الملك لروح النائم أو يُري روحه أشياء وهو نائم قد تكون دليلا على ما سيقع، أما تعبير الرؤيا فهو علم، والله جل وعلا يُعلِّم عباده تعبير الرؤيا. إما بقذف؛ يقذف في قلوبهم الصواب، وإما بالدلائل.ولهذا من عبر الرؤيا وهو ليس عالم بها فهو داخل في الوعيد?وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ?[الإسراء:36] والله سبحانه وتعالى سمّى التعبير علما ?وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ?[يوسف:21] فتأويل الرؤى علم وليس خرصا، ولا يجوز للمرء أن يقدم على تفسير الرؤيا في غير علم بها، العلم قد يكون بدليل منالكتاب والسنة، عندك الفقه في الشرع الفقه في حال السائل في حال الرائي ومعرفة يستدل بالشيء على الشيء لأنها أمثال مضروبة، والمثل قد يدركه صاحب الفِراسة، ويستدل بآية بحديث هذا ظاهر، وقد يكون أن وقع في نفسه تفسير الرؤيا كذا بدون دليل،لو تفكر لا دليل على ذلك أو شيء مستغرب جذا أن يفسره بهذا، وهذا كثير جدا في تعبير الرؤيا. إذن فالمقصود أن تعبير الرؤى علم، ومما ينبغي في آداب الرؤيا أن لا يتحدث المرء بالرؤى؛ إذا رأى رؤيا تسوؤه فيستعيذ بالله جل وعلا من شرها ويتفل عن يساره أولا ثلاثا ثم يستعيذ بالله جل وعلا من شرها وينقلب إلى الجهة الثانية كما ثبت في الصحيح، وإذا رأى رؤيا تسره يحمد الله جل وعلا عليها ويسال الله خيرها، فإذا أراد أن يقصها فلا يقصها إلا على عالم مأمون؛ لأن الرؤيا على رِجل طائر وفي رواية على جناح طائر إذا قٌصَّت وقعت، يعني مثل الطائر الذي له جناح إذا قص الجناح وقع وكذالك الرؤيا على جناح طائر إذا أولت وقعت، فلا ينبغي للمرء أن يعرِّض نفسه لمثل هذه المخالفات قد فيكون في تأويل الرؤيا شر عليه فإذا أمضاها تُركت.
...هو ما ذكرنا أنه في مقابلة المشرك تحصل له لا في نفسه –لا تحصل للعاصي في نفسه، لا تحصل للمؤمن المبتدع في نفسه إنما تحصل له في مقابلة أهل الشرك في حرب أو مناظرة أو نحو ذلك، لنصرة الدين ، من جنس إنزال الملائكة ومن جنس تأييد الناس قد يؤيدون بأشياء ...(52/144)
مثل حال عبد الله بن صياد الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال، لكنه كان من جنس الكهان، قال له النبي صلى الله عليه وسلم «قد خبأت لك خَبْأ» قال: الدخ الدخ، وقد كان خبأ له سورة الدخان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «إخسأ فلن تعدو قدرك» يعنى إنما أنت من إخوان الكهان، والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إِنّ الملائكةَ تنزلُ في العَنان -وهو السحابُ- فتذكر الأمرَ قُضيَ في السماءَ, فتَسْترقُ الشياطين السمعَ فتوحيه إِلى الكُهّانِ, فيَكذبونَ منها مائةِ كذبةٍ من عندِ أنفُسِهم».
وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه» قالوا كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فَإِنّهَا لاَ يُرْمَىَ بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ. وَلَكِنْ رَبّنَا, تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ إِذَا قَضَىَ أَمْراً سَبّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ. ثُمّ سَبّحَ أَهْلُ السّمَاءِ الّذِينَ يَلُونَهُمْ. ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتّىَ يَبْلُغَ التّسْبِيحُ أَهْلَ هََذِهِ السّمَاءِ. ثم يسأل أهل السماء السابعة حملة العرش: مَاذَا قَالَ رَبُّنا؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ ثم يُسْتَخْبِرُ أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا، وتخطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون».(52/145)
وفي رواية قال معمر قلت للزهري أكان يرمي بها في الجاهلية قال نعم، ولكنها غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم.(1)
__________
(1) استراق السمع موجود قبل النبوة، وفي أثناء حياة النبي عليه الصلاة والسلام، نبيا رسولا، وبعد موته عليه الصلاة والسلام فاستراق السمع لم ينقطع لكنه كان:
قبل البعثة كان كثيرا جدا لحكمة يعلمها الله جل جلاله.
وبعد البعثة ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا، فلم يصل مردة الجن، ولم يصل مسترق السمع إلى ما كان يصلون إليه قبل ذلك، وإنما قلت جدا، ولكنهم استرقوا بعض السمع ولكنهم لم يسترقوا السمع كُلاًّ، مثل ما جاء الحديث ابن صائد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «قد خبأت لك خَبْأ» قال: الدخ ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم «إخسأ فلن تعدو قدرك» ولأنك كاهن سمعت الشياطين الكلمتين وأوحتها إليك الدخ لكن لا تدري البقية لأن الشياطين لا تحسن إستماع الوحي الذي يوحى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ربما تحدث أشياء في وقت النبوة مما يقضي الله جل وعلا به من الأمر في السماء، مما لا يختص بالوحي إنما هو من الأوامر الكونية وما سيحدث ونحو ذلك فتسترق الشياطين السمع فيصلون لكن بقلة.
فإذن الأحوال استراق الشياطين للسمع بالنسبة للبعثة ثلاثة: ما قبل البعثة الاستراق كثير، وفي وقت البعثة مدة الرسالة قليل أو نادر وبعد محمد عليه الصلاة والسلام زاد ولكن لا يوصف بالكثرة ولا بقلة؛ يعني زاد على ما كان في البعثة لكن لا يوصف بكثرة ولذلك كان قبل البعثة الكهان كثيرون يخبرون بالمغيبات، وبعد البعثة لا؛ موجود لكن قليل عما كان؛ يعني بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم قليل عما كان قبل حياته عليه الصلاة والسلام.
هذا من جهة.
والجهة الثانية أن أولياء الشيطان تحصل لهم خوارق مثل الإخبار بالمغيبات فكون الرجل يكون عنده خوارق عنده إخبار بالمغيبات لا يعني أنه ولي، هذا غلِط فيه أناس كثيرفي عهد شيخ الإسلام ومن بعده يعتقدون أن من حصل له خوارق وإخبار بالمغيبات أنه ولي؛ هذا غلط كبير، الولي هو المؤمن التقي المتابع للسنة الموحد الصادق، هذا هو الولي، يجُري الله جل وعلا على أيدي هؤلاء بعض الكرامات، لكن إذا كان فاسقا فاجرا مفرطا عمل المحرمات يترك الفرائض فكيف يكون ما يحدث له كرامة إنما هذه خوارق شيطانية، فإذن الخوارق على هذا ثلاثة أقسام:
القسم الأول: خوارق ليست في مقدور الجن والإنس وهذه هي الآيات والبراهين التي يؤتاها الأنبياء.
والنوع الثاني: خوارق تكون على يدي المؤمن التقي، تجري على يدي المؤمن التقي، وهذه هي التي تسمى كرامة وهو دليل أيضا من دلائل النبوة لأنها ما حصلت لهذا إلا لاتباعه لنبيه.
الثالث: خوارق تحصل للفجرة والكفرة وللعصاة الذين يرتكبون المحرمات ويفعلون الموبقات ويتركون الفرائض هذه تسمى خوارق شيطانية.
إذن حصول الخارق بنفسه بمجرده لا يعني شيئا في الحكم على صاحبه بل يُنظر في حاله.(52/146)
والأسود العنسي الذي إدّعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه.
وكذلك مسيلمة الكذاب وكان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات، ويعينه على بعض الأمور.
وأمثال هؤلاء كثيرون مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان، وادعى النبوة، وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده، وكان يرى الناس رجالا وركبانا على خيل في الهواء، ويقول هي الملائكة وإنما كانوا جِنًّا، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك إنك لم تسم الله، فسمّى الله فطعنه فقتله.(52/147)
وهكذا أهل الأحوال الشيطانية تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها مثل آية الكرسي، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة وهو يمسكه فيتوب فيطلقه فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم «ما فعل أسيرك البارحة» فيقول زعم أنه لا يعود، فيقول «كذبك وإنه سيعود» فلما كان في المرة الثالثة، قال دعني حتى أعلمك ما ينفعك إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ?[البقرة:255] إلى آخرها فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال «صدقك وهو كذوب» وأخبره أنه شيطان، ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها، مثل من يدخل النار بحال شيطاني أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلاما لا يعلم وربما لا يفقه، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة كما يتكلم الجني على لسان المصروع، والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولَبِسَهُ وتكلم على لسانه فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال. ولهذا قد يضرب المصروع وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي، ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء لأن الضرب كان على الجني الذي لبسه. ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير بهم الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته فلا يحج حجا شرعيا، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات، ولا يلبي، ولا يقف بمزدلفة، ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يرمى الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه ثم يرجع من ليلته، وهذا ليس بحج(52/148)
مشروع باتفاق المسلمين، وكمن يأتي الجمعة ويصلي بغير وضوء إلى غير قبلة، وهم هؤلاء المحمولين مرة إلى عرفات، ورجع فرأى ملائكة تكتب الحجاج، فقال ألا تكتبوني، فقالوا لست من الحجاج يعنى لم تحجّ حجًّا شرعيا.
وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة، منها أن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى، والأحوالُ الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله، وقد قال تعالى ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ?[الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم، والشرك، والظلم، والفواحش، قد حرّمها الله تعالى ورسوله، فلا تكون سببا لكرامة الله تعالى ولا يُستعان بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق، وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية، لا من الكرامات الرحمانية، ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار، فإذا حَضَرَ رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه، فيسقط، كما جرى هذا لغير واحد، ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت، سواء كان ذلك الحي مسلما أو نصرانيا أو مشركا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص، وهو ملك تصور على صورته، وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين. ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له أنا الخَضِر، وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه، كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى(52/149)
وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويردّ الودائع، ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ويدخل على زوجته، ويذهب، وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند، فيظنون أنه عاش بعد موته. ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال إذا أنا مِتُّ فلا تدع أحدا يغسلني، فأنا أجيء وأغسل نفسي فلما مات رآى خادمه شخصا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله، أي غسّل الميت غاب، وكان ذلك شيطانا، وكان قد أضل الميت، وقال إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك، فلما مات جاء أيضا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك. ومنهم من يرى عرشا في الهواء وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه ويقول أنا ربك، فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول، ومنهم من يرى أشخاصا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين، وقد جرى هذا لغير واحد، ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر، ما الصديق رضي الله عنه أو غيره قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر، وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه.(52/150)
وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات، والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم، وعلى مذهبهم، والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطىء، فإن كان الإنسي كافرا أو فاسقا أو جاهلا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال، وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر، مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة، أو يقلب فاتحة الكتاب، أو سورة الإخلاص، أو آية الكرسي، أو غيرهن، (1)ويكتبهن بنجاسة فيغورون له الماء وينقلونه بسبب ما يرضيهم به من الكفر. وقد يأتونه بما يهواه من امرأة أو صبي، إما في الهواء وإما مدفوعا ملجأ إليه، (2)
__________
(1) يقلبها يعني يقرأها من آخرها إلى أولها وهذا بالنسبة للآيات.
(2) وهذا سحر من كتابة الآيات بالنجاسات وإهانة المصحف والعياذ بالله أو البول عليه والعياذ بالله، هذا من آخر مراتب السحرة يعني بتعلم السحر والعياذ بالله لا يكون كاهنا ساحرا تخدمه الشياطين وتعمل بأمره فيما يشتهي إلا إذا حصل منه الكفر، بهذه الأنواع كما قد ذكر في بعض كتب السحر المعاصرة والقديمة فالناس في زمن شيخ الإسلام وما قبله إلى زمن قريب من زمننا هذا كانوا يعتقدون في هؤلاء السحرة والكهنة، واليوم في بعض البلاد مثل ما هو موجود في المغرب فيما يذكرون، وفي لبنان وفي مصر أيضا على قلة لكن في المغرب يقولون بكثرة، وفي بعض البلاد يوجد أناس تخدمهم الشياطين ويخبّرونهم بالمغيبات وراج على بعض أهل هذه البلاد من أهل الفطرة راج عليهم أنّ أولئك قالوا الملائكة تخبرهم، الملائكة تخدمهم، هؤلاء صالحون ويظهرون لهم بصورة الصلاح، ويزعمون أن الملائكة هي التي تصنع لهم وتخدمهم، الملائكة لا تفعل شيئا من ذلك، ولم تخدم الصحابة في مثل هذه الأشياء، وإنما هذه من الشياطين، يخبرونهم بالمغيبات ويغيرون لهم الأشياء، وينطق الناطق وهو بعيد ويأتي ويقول الميت يقول كذا وكذا، أو يسمع صوت وأشباه ذلك مما ذكر.
المقصود من هذا البحث الذي ذكر شيخ الإسلام وأطال فيه من حيث الأمثلة، تأصيل القاعدة بأن الفرقان بين الخارق الشيطاني هوحال الشخص، فإذا كان من حصلت له الخوارق مطيعا لله ورسوله آمرا ناهيا صاحب تقوى، فهذا قد يُجري الله على يديه كرامات، وإذا كان عاصيا مخالفا مرتكبا للمحرمات تاركا للفرائض، عنده حب للنجاسات، وعنده إظهار للتعذيب بالنار أو الخوارق التي لا تحصل لأهل الإيمان لأنها أمور منكرة فهذه حال شيطانية، ولو إدعى أنها من الملائكة أو من صلاحه أو إلى آخره فهذه أحوال شيطانية.
كذلك ما يكون من الأمور التي ذكرها من الأمثلة هذه يجب على المرء أن لا يكذب يقول لا ما حصل هذا، لأن الأشياء حصلت ويكون الذي رأى أنه حصل يقول حصل ورأيته بعيني فيحيل الداعية إلى الحق يحيل الموحد، يقول نعم حصل ولكن لم يحصل إلا من الشيطان، نعم سُمع الصوت من القبر وهو صوت فلان وكلمكم قال إفعلوا كذا أو غفرت لكم أو سألت لكم ربي أو شفعت لكم، لكن هو في الواقع صوت شيطان ليس صوت الميت، لأن الشيطان قلد صوت الميت ليغوي العباد فالأموات لا يخاطبون الأحياء، لا يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام الأحياء والصحابة ولا شهداء بدر ولا أكرم الناس، لم يخاطبوا الأحياء بأمور، وإذا الشيطان تكلم على لسان هذا الميت فيحصل من هذا التكليم إغواء تعلق وإعتقادات باطلة إذن فالشياطين مهمتهم الإغواء كما هو معلوم ?لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا(62)قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا(63)وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ?[الإسراء:62-64] صوت الشيطان يشمل كل ما يغوي الشيطان به العباد من الأصوات سواء كانت أصوات المخلوقين التي من جهة الشيطان أو تجد الشيطان نفسه في القبور في هذه الأحوال.
فإذن يجب أن ينتبه إلى مثل هذه المسائل خاصة في البلاد التي يكثر فيها الجهل والإعتقاد بالكهنة والأولياء وما شابه ذلك وأن أكثر ما يحصل لهم من هذه الأشياء إنما هي من الشياطين، وبعضها خيالات، سبب إستطراد شيخ الإسلام في مثل هذه الأمثلة هو أن يُعلم القارئ الذي يقرأ كتابه أنه محيط بأحوال القوم حتى لا يقول قائل أنت تتكلم عنهم وأنت لا تعرفهم فذكر كل الأصناف الأصناف جميعا التي يحصل لهم الخوارق وتخدمهم الشياطين وأصناف ما يحصل لهم في الأطعمة في الأشربة في الطيران في الهواء في الماء وفي الإخبار بالمغيبات وفي المكث عند القبور والتمثل بالأشخاص كل هذه حصلت للناس وهو يمثل بها حتى يجمع ما بين معرفة واقع الناس وما بين تقرير الأحكام الشرعية حتى يكون أعظم في الحجة.
ذكر شيخ الإسلام في بعض كتبه لا أدري هل ذكرها هنا أم لا؟ أن الشيطان تمثل في صورته يقول وقعت مرة لطائفة من أصحابي ضائقة وكرب قالوا فرأينا صورتك يعني فرأيناك عندنا فاستغثنا بك، فأتيت وخلصتنا من العدو، فلما أخبره لما قدموا هنا قال لم آتِ إنما ذاك شيطان تصور بصورتي ليغويكم فاحذروا ، أو كما قال رحمه الله تعالى. فالشيطان بشهادة الثقات الجمع من أصحابه تمثل بصورته لذلك هند شيخ الإسلام هذا يقيني لأنه شهد به الثقات وهو يعلم بيقين من نفسه أنه ما تعدى بنفسه، كيف هؤلاء يقولون حصل لنا كيت وكيت وأنت جئت وخلصتنا لاشك أن هذا من الشيطان لذلك، يتكلم بأشياء مبنية على محسوس والمبني على محسوس لا يُكذَّب والذي ذكرتَه هذا يُرد عليه بما ذكر شيخ الإسلام عن نفسه لأنه لم يتخيل بحال الناس إنما ذكر عن نفسه هذه الأشياء. المسألة هذه تطول نقف عند هذا.(52/151)
إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها والإيمان بها إيمان بالجبت والطاغوت، والجبت السحر، والطاغوت الشياطين والأصنام. وإن كان الرجل مطيعا لله ورسوله باطنا وظاهرا لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أو مسالمته، ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله، كان عمّار المساجد أبعد عن الأحوال الشيطانية، وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى، فيدعون الميت أو يدعون به، أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب، أقرب إلى الأحوال الشيطانية، فإنه ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس ليال «إن من أَمَنِّ الناس عليّ في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أهل الارض لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله، لا يبقين في المسجد خَوخة إلا سُدّت إلا خَوخة أبي بكر، إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك».
وفي الصحيحين عنه أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة وذكروا من حسنها وتصاوير فيها، فقال «إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيها تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».
وفي المسند وصحيح أبي حاتم عنه صلى الله عليه وسلم قال «إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين اتخذوا القبور مساجد».
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها».
وفي الموطأ عنه أنه قال «اللهم لا تجعل قبر وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».(52/152)
وفي السنن عنه أنه قال «لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». وقال صلى الله عليه وسلم «ما من رجل يسلم عليّ إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام»، وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ الله وَكَّل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام»، وقال صلى الله عليه وسلم «أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليّ»، قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي بليت فقال «إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء».(52/153)
وقد قال الله تعالى في كتابه عن المشركين من قوم نوح عليه السلام ?وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا?[نوح:23]، قال ابن عباس وغيره من السلف، هؤلاء قوم كانوا صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، فكان هذا مبدأ عبادة الأوثان، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، ليسدّ باب الشرك، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ، والشيطان يقارنها وقت الطلوع ووقت الغروب، فتكون في الصلاة حينئذ مشابهة لصلاة المشركين، فسد هذا الباب، والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته، فمن عبد الشمس والقمر والكواكب، ودعاها كما يفعل أهل دعوة الكواكب، فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور، ويسمون ذلك روحانية الكواكب، وهو شيطان، والشيطان وإن أعان الإنسان على بعض مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه، وعاقبة من أطاعه إلى شر إلا أن يتوب الله عليه، وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين، وكذلك من استغاث بميت أو غائب، وكذلك من دعا الميت أو دعا به، أو ظنّ أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد، ويروُون حديثا هو كذب باتفاق أهل المعرفة، وهو إذا أعْيَتْكُم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، وإنما هذا وضع من فتح باب الشرك.(52/154)
ويوجد لأهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بهم من عباد الأصنام والنصارى والضلال من المسلمين أحوال عند المشاهد يظنونها كرامات، وهي من الشياطين، مثل أن يضعوا سراويل عند القبر فيجدونه قد انعقد، أو يوضع عنده مصروع فيرون شيطانه قد فارقه، يفعل الشيطان هذا ليضلهم، وإذا قرأت آية الكرسي هناك بصدق بطل هذا، فإن التوحيد يطرد الشيطان، ولهذا حمل بعضهم في الهواء، فقال لا إله إلا الله فسقط، ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد إنشق وخرج منه إنسان فيظنه الميت وهو شيطان. وهذا باب واسع لا يتسع له هذا الموضع. (1)
__________
(1) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فهذه الجمل أوردها شيخ الإسلام المؤلف رحمه الله لبيان حال الذين تحصل لهم خوارق، وأنّ كثيرين من أهل زمنه، بل أن الكثيرين من أهل زمنه لا ينفكون عن أن يكونوا من أهل هذه الصفات إما أن يدعو الميت وإما أن يدعو به وإما أن يتخذوا قبره مكانا للعبادة، والطرق الصوفية بعامة تعلقت بالقبور وتعلق أصحابها وتعلق المريدون بالمشاهد هذه إما قبور من اتبعوهم من أصحاب المعرفة، مثل ما يُفعل عند قبر عبد القادر الجيلاني، ومثل ما يفعل عند قبر الرؤساء منهم في دمشق وفي مصر إلى آخره، هؤلاء صفتهم أنهم يتعلقون بالموتى واتخذوا القبور مساجد وعظموا تلك المساجد ولهذا ذكر لك أنّ هؤلاء الذين تحصل لهم خوارق هم من أهل البدع والشركيات، معلوم أن الكرامة لعبده إنما هي للمؤمن التقي، وأما أهل البدع والشرك فهم إن وقعت لهم خوارق فهي من الشياطين؛ لأنهم يضلونهم بغير علم وهذه الصّور الثلاث التي ذكر أن يدعى الميت بأنواع الدعاء:
إما باستغاثة به يقول يا ولي الله أغثني، أنجدني أنا في كفايتك، أنا في كنفك، أعني على هذا الأمر، أنا في غياثك يا غياث المستغيثين، أغثني ونحو ذلك، مما هو دعوة لغير الله جل وعلا فيما هو من صفات الرب جل جلاله، أو أن يدعى بالميت والدعاء بالميت له صور منها أن يسأل به في ذاته، يقول أسألك ربي بفلان بالميت بعبد القادر بالبدوي بالعندروس وأشباه ذلك، هذا إذا سأل بالميت يظن السائل أنه يحصل له حين ذلك قبول لسؤاله، وتحصل له أحوال عند القبر إذا سأل بالميت؛ لأن روح الولي تساعده والسؤال بفلان هذا وسيلة من وسائل الشرك وبدعة وخيمة، فلا يجوز لأحد أن يبتدع هذه البدعة، ولا أن يعمل بها هي أن يسأل بفلان كائنا من كان ولو كان برسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك بنبيك، أسألك بأبي بكر، أسألك بأهل بدر، أسألك بالولي الفلاني هذا كله بدعة ووسيلة إلى الشرك.
الصورة الثانية للدعاء بالميت، أن يتوسل بما يظنه من منزلة للميت يقول أتوسل إليك ربي بحق فلان الولي عليك أتوسل إليك بعمله الصالح أتوسل إليك بمكانته عندك وحرمته عندك ، ونحو ذلك أو أن نقول أسألك بحقه أسألك بحرمته عندك بجاهه عندك ونحو ذلك هذه كلها داخلة في الدعاء به وهي أيضا بدعة ووسيلة إلى الشرك.
أما الدعاء عند القبور فإنما شرع الدعاء عند القبور للميت وقد يدخل الحي تبعا، فالشرع جاء بالزيارة الشرعية للقبر والدعاء عند القبر للمقبور لا للحي وقد يدخل الحي تبعا في الدعاء فأن يقول الحي للميت: اللهم إرحم المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، أو يقول اللهم إغفر لأصحاب القبور ونور عليهم قبورهم، واغفر لنا ولهم ونحو ذلك، فيكون دعاؤه لنفسه أتى تبعا لأنه دعى للمؤمنين بعامة من أهل القبور، فيدخل هو تبعا لا استقلالا، أما أن يختص موقع قبر أو قبور أو المقبرة للدعاء للحي أو أن يدعو لنفسه فهذا من البدع المحدثة ووسيلة إلى تعظيم القبور والعبادة عندها.
وهذه الصفات الثلاث موجودة عند أهل التصوف وأهل الغلو في الأولياء حتى قال قائلهم في قبر معروف الكرخي العابد المشهور قالوا فيه:
(قبر معروف الترياق المجرب ) يعني من أعياه شيء وأراد الاستشفاء من الأمراض البدنية أو الأمراض الدينية يعني كان عليه جنون أو أراد شيئا في أمره دينه أو دنياه فعليه بقبر معروف فإنه الترياق المجرب، يعني أن يدعى معروف أو أن يسأل به أو أن يدعى عند القبر، كل هذه الصور حاصلة، وإذا كانت هذه الصور من البدع والمحدثات وبعضها بدعة كفرية شركية، فمعلوم أن الشياطين تساعد أهل البدع، وتساعد أهل الشرك كما ساعدت أوائلهم، وأن أول الشرك كما ذكر هو قصة قوم نوح في عبادة ودّ وسواع ويعوق ونسر، ولما عبدوهم أغوتهم الشياطين، وصار عندهم أحوال وآراء وكلام تنطق، وربما خرج من القبر وتصور بصورته وتكلم بصورته إلى غير ذلك مما ذكر، لهذا جاء في هذه الشريعة النهي الشديد عن اتخاذ القبور مساجد «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ألا لا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» وأن من اتخذ القبر مسجدا يعني فصلى عنده أو دعى عنده واختصه بذلك فإن هذا مبتدع وملعون فكيف بمن عبد صاحب القبر واستغاث به لا شك أن هذا أعظم «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» هذه وصية قالها عليه الصلاة ولسلام في آخر حياته وصية أوصى بها الأمة وحذرها من ذلك، فإذا كان هؤلاء من أهل الشرك والبدع والخرافات فإنه يحصل لهم خوارق، وهذه الخوارق من الشياطين ليست كرامات، فإذن لا بد أن يكون ثم فرقان بين الكرامنة والخارق الشيطاني، فالكرامة هي للمؤمن المتقي المتبع للسنة، أما الخارق الشيطاني فهذا يحصل لكل من تولى الشيطان، تولاه بطاعته في الشرك وفي البدع والخرافات وفي التعلق بغير الله جل جلاله.
إذا تبين ذلك فأصحاب الطرق الصوفية في زمن شيخ الإسلام كان عندهم كل هذه أنواع التعلقات؛ التعلق بالقبور، التعلق بالأوثان، التعلق بالأولياء، كان عندهم اعتقاد بالشيخ حتى إنهم يعتقدون فيه أنه يَعلم ما في النفس، حتى ولو بَعُدَ، كما قال قائلهم لأحد مريديه إذا هممت بمعصية فتذكر أني أعلم حالك، هذا لا شك أنه من إدعاء ما ليس له، وبه حصل التعلقات لأنها تربية غير شرعية فهي إن كان نطق بها الأول يريد تخويفه ويريد تربيته لكن هذا إدعاء لشيء من أمور الغيب، والعياذ بالله، ولهذا حصل من التربية الباطلة السلوكية حصل الشرك والبدع وأنواع من الضلالات.
المقصود من هذا أن المكلف الذي يتعلق بهذه البدع بالقبور ودعاء أصحابها وبالبناء على القبور هذه المشاهد الشركية أو بسؤال أصحابها أو السؤال بهم أو الدعاء واختصاص القبور بمزيد مزية، هؤلاء قد تخدمهم الشياطين، وقد تظهر له من القبر من قبر فلان يسمع صوت المدفون هو يعرف صوته؛ من مشايخه ثم يخبره بأشياء فعلها هو فعلت في بيتك كذا وهذا يبقى متعلقا لا يدري أنّ حقيقة الحال أن هذا شيطان، والجن يرونها من حيث لا نراهم ?إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ?[الأعراف:27] فالشيطان ولي لغير المؤمن ينصره ويساعده ويذله، لهذا ينبغي على الناظر في مثل هذه الأحوال، أو الذي يُناظر الذي يذكر مثل هذه الأحوال أن لا يبادر بإنكار وقعها يقول مثل هذا قد يقع، قد يكلمك الميت قد تسمع أصوات، قد يخبرك فلان بالمغيبات، لكن الذي يخبره بهذه الأشياء ويحصل له هذه الخوارق إنما هي الشياطين، لأنها ولية لأهل البدع والشرك، والشيطان يريد بالعباد أن يقعوا في الشرك والبدع التي هي وسائل الشرك هي طريق الشرك، وبريد الشرك لذلك يعينهم الشيطان، فيؤول الأمر أن هذا من فعل الشياطين فلا ينفى وقوعه لأنه وقع وشوهد لكنه يكون خارقا شيطانيا وليس كرامة، فالفرق بين الكرامة وبين الأحوال الشيطانية ظاهر وهي أن الكرامة يؤتاها المؤمن التقي تعالى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] فالولي هو المؤمن التقي ? لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا?[يونس:64] ومن البشرى الكرانات التي قد تحصل لبعض عباد الله أما من ليس على الإيمان والتقوى والسنة من أهل البدع والشركيات هذا تحصل له الخوارق ولكن ليست بكرامات إنما هي خوارق شيطانية إما من جهة القدرة أو من جهة الغنى أو من جهة العلم تحصل لهم خوارق عديدة، مثل ما ذكر نقل في الهواء ولما قال لا إله إلا الله ذهب الشيطان الذي يحمله فسقط، ومثل أن يعلم ما في البطن ومثل أن يغيث في وقت الحاجة، ويكلمهم ويخبرهم بأشياء مخفية كل هذا من فعل الشياطين، والإنسان يعلم قصوره وأنه لا يعلم الغيب? قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ?[النمل:65] سبحانه وتعالى.
هي لا تنسب إليهم بعد الممات، بالنسبة للخارق الشيطاني يحصل لهم في الحياة، أمابعد الممات فليس له لأنه إنتهى لكن الشيطان يضل به ليس خارقا له لكن يضل به مثل ما يحصل عند القبور الشيطان يضله ليس خارقا له لأنه انتهى، وأما الكرامة فإن العبد المؤمن قد يكرم بعد مماته، يكرم في أحبابه يكرم فيمن يعطف عليهم، فيمن يرحمهم، مثل ما أكرم الله جل وعلا به أمة محمد عليه الصلاة والسلام بعد وفاته بأشياء كثيرة فهذا لأجله محبته عليه الصلاة والسلام لنا، ومثل إكرام الله جل وعلا للعبد الصالح الذي يموت فيصلح الله جل وعلا عقبه ويحفظ لهم دينهم وأموالهم إلى آخره كما جاء في سورة الكهف ? وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ?[الكهف:82] فبسبب الصلاح أكرم الأبناء وهكذا، فإذن بعد الممات الموتى لا ينسب الخارق ولا الإكرام للميت وإنما يقال الشياطين فعلت أو أكرم الله جل وعلا فلانا بعد وفاته بكذا بصلاح أحبابه، بنفع من يحب، بنفع الأمة إلى آخره، أما الميت فلا يحصل له كرامة في نفسه فيما يراه الأحياء كرامته في الجنة عند ربه جل وعلا.
ليست منزلة صورة ثانية، صورة مثل السؤال بالذات، لكن السؤال بالذات أعظم وسيلة للشرك من السؤال بالجاه، أو بالعمل أو بحق فلان، الصوفية عندهم كتب في السؤال بالمنظومات في السؤال بالذوات مثل منظومة تسمى جالية الكدر بالسؤال بأهل بدر، منظومة كل بيت نها سؤال بواحد من الصحابة، الصوفية يعظمون السؤال بالموتى كثيرا، السؤال بالذات أعظم وسيلة، السؤال بالحق والجاه أقل منه لكن كلها بدع ووسائل للشرك. هي طريق لتعظيمه بدعة وليست شركا، بدعة واعتداء في الدعاءلأنه لم يأتِ بها دليل ولا وسنة ووسيلة إلى أن يعظم السؤول به فيسأل من دون الله، أول ما حدث كان السؤال بالذوات قبل أن يحصل دعاء غير الله مباشرة كان السؤال بالذوات نسألك بفلان وفلان كثر هذا ثم حصل الشرك بسؤال الميت، نسأل الله العافية، لهذا تجد أن شيخ الإسلام في بعض المواضع يسمي سؤال الميت الشفاعة بدعة والسؤال به بدعة وذلك لأنها لم تكن عند المشركين حتى طوائف مشركي العرب لا تعرف الاستشفاع به مباشرة يعني يقول اشفع لي لكنهم يعبدون ليشفعوا، لكن اشفع لي يا لات اشفع لي يا عزى هذه ما فيه ولكن يعبدون ويتقربون ليشفعوا ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3] فهم يرومون منها الشفاعةلذلك سماها بدعة في بعض المواضع لأنها بدعة حدثت وليست سابقة وهي بدعة كفرية شركية، مثل الشرك نقول محرم ?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[الأنعام:151] البدعة لا يعني أنها ليست بشرك، تكونشركا أكبر وبدعة هذا باعتبار أنها حدثت في الأمة، فالبدع منها بدع كفرية شركية مخرجة من الملة منها بدع ما دون ذلك، لكن في تعبير أهل العلم العام يعني الذي يجري ومشهور أن يُختص البدعة لما دون الشرك أذا أردت أن تعبر سنعبر عن البدعة بما دون الشرك، فإذا كانت المسألة شركا أكبر ننص عليها نقول شرك أكبر مخرج من الملة أو شرك أصغر أو نحو ذلك.(52/155)
ولما كان الإنقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله صارت الشياطين كثيرا ما تأوى إلى المغارات والجبال، مثل مغارة الدم التي بجبل قاسيون، وجبل لبنان الذي بساحل الشام، وجبل الفتح بأسوان بمصر، وجبال بالروم وخراسان، وجبال بالجزيرة، وغير ذلك، وجبل اللكام، وجبل الأحيش، وجبل سولان قرب أردبيل، وجبل شهنك عند تبريز، وجبل ماشكو عند أقشوان، وجبل نهاوند، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالا من الصالحين من الإنس ويسمونهم رجال الغيب، وإنما هناك رجال من الجن، فالجن رجال كما أن الإنس رجال، قال تعالى ?وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا?[الجن:6]، ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجل شعراني جلده يشبه جلد ماعز، فيظن من لا يعرفه أنه أنسي، وإنما هو جني، ويقال بكل جبل من هذه الجبال الأربعون الأبدال، وهؤلاء الذين يظن أنهم الأبدال هم جن بهذه الجبال، كما يعرف ذلك بطرق متعددة، وهذا باب لا يتسع هذا الموضع لبسطه، وذكر ما نعرفه من ذلك، فإنا قد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه في هذا المختصر، الذي كتب لمن سأل أن نذكر له من الكلام على أولياء الله تعالى ما يعرف به جمل ذلك.
والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام:
قسم يكذب بوجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدق به مجملا، وكذّب ما يذكر له عن كثير من الناس، لكونه عنده ليس من الأولياء.
ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان وليا لله.
وكلا الأمرين خطأ، ولهذا تجد أن هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين، وأنهم من أولياء الله، وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة.(52/156)
والصواب القول الثالث وهو أن معهم من ينصرهم من جنسهم لا من أولياء الله عز وجل، كما قال الله تعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51]، وهؤلاء العباد والزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسنة تقترن بهم الشياطين، فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله، لكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضا، وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم، ولا بد ان يكون في أحدهم من الكذب جهلا أو عمدا، ومن الأثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة بهم، ليفرق الله بذلك بين أوليائه المتقين وبين المتشبهين بهم من أولياء الشياطين، قال الله تعالى ?هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ?[الشعراء:221-222] والأفاك الكذّاب، والأثيم الفاجر، ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، قال الله تعالى ?وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً?[الأنفال:35].
قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهما من السلف التصدية التصفيق باليد والمكاء مثل الصفير، فكان المشركون يتخذون هذا عبادة. وأما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك، والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط، لا بكف ولا بدف، ولا تواجد، ولا سقطت بردته، بل كل ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه.(52/157)
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم أن يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستعمون. ومرّ النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له «مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك»، فقال لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا. أي لحسنته لك تحسينا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «زينوا القرآن باصواتكم»، وقال صلى الله عليه وسلم «لله اشد أذنا -أي استماعا- إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته» وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود «اقرأ علي القرآن» فقال أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال «إني أحب أن أسمعه من غيري» فقرأتُ عليه سورة النساء حتى انتهيت إلىهذه الآية ?فَكَيْفَ إذا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا?[النساء:41] قال« حسبك» فاذا عيناه تذرفان من البكاء.(52/158)
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكره الله في القرآن، فقال ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا?[مريم:58] وقال في أهل المعرفة ?وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ?[المائدة:83] ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين، فقال تعالى ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ?[الزمر:23]، وقال تعالى ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ?[الأنفال:2-4].(52/159)
وأما السماع المحدث سماع الكف والدف والقصب فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر من أئمة الدين يجعلون هذا طريقا إلى الله تبارك وتعالى، ولا يعدّونه من القرب والطاعات، بل يعدّونه من البدع المذمومة حتى قال الشافعي ”خلّفتُ ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير“، يصدون به الناس عن القرآن، وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبا وافرا، ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم، ومن كان ابعد عن المعرفة وعن كمال وَلاية الله كان نصيب الشيطان منه أكثر، وهو بمنزلة الخمر يؤثر في النفوس أعظم من تأثير الخمر، ولهذا إذا قويت سكرة أهله نزلت عليهم الشياطين، وتكلمت على ألسنة بعضهم، وحملت بعضهم في الهواء، وقد تحصل عداوة بينهم كما تحصل بين شراب الخمر فتكون شياطين أحدهم أقوى من شياطين الآخر فيقتلونه، ويظن الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله، وهو من أحوال الشياطين، فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله، فكيف يكون قتل المعصوم مما يكرم الله به أولياءه، وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبدا بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه، ويرفع به درجته، وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات، ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات، ومنها ما هو من جنس الغنى ما يعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال. والغنى(52/160)
وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور إن استعان به على ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه ويرفع درجته، ويأمره الله به ورسوله، ازداد بذلك رفعة وقربا إلى الله ورسوله، وعلت درجته، وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله كالشرك والظلم والفواحش، استحق بذلك الذم والعقاب، فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أو حسنات ما حية، وإلا كان كأمثاله من المذنبين، ولهذا كثيرا ما يعاقب أصحاب الخوارق تارة بسلبها كما يعزل الملك عن ملكه، ويسلب العالِمَ علمه، وتارة بسلب التطوعات فينقل من الولاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفساق، وتارة يرتد عن الإسلام، وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية، فإن كثيرا من هؤلاء يرتد عن الإسلام، وكثير منهم لا يعرف أن هذه شيطانية؛ بل يظنها من كرامات أولياء الله،(1)
__________
(1) ذكر في ما سمعنا عدة مسائل:
المسألة الأولى منها: أنّ طائفة ممن تحصل لهم الخوارق تعبّدوا بعبادات بدعية منْ مثل الإنقطاع والذهاب إلى المغارات والجبال والبراري والخلوات يتأملون ويتعبدون وينقطعون عن الناس، فتجد أنّ طائفة منهم يأوون إلى الغيران أو إلى الأودية ويلبسون ملابس الحيوانات يعني صوف الحيوانات ونحو ذلك رغبة في التقشف والبعد عن الملذات وأيضا رغبة في التفكر، ولا شك أن هذه الطريقة لتحصيل الإيمان طريقة بدعية مذمومة، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر بها بعد نزول الوحي عليه، وإنما كان يتعبد ويتحنث في الغار يعني في حراء الليالي ذوات العدد في السنة قبل نزول الوحي عليه، ولما نزل الوحي عليه ونبئ ربما أتى إلى الغار، ثم لما بُعث للناس ترك عليه الصلاة والسلام ذلك تعبدا، فإذن إحداثه بدعة فلم يأمر به عليه الصلاة والسلام بل أمر بمخالطة الناس والصبر على أَذَاهُم قال عليه الصلاة والسلام«الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» فإذن التَّخَلِّي في بمثل هذه الطرق والابتعاد يضم هذا المحذور ويضم محذورا آخر، وهو أن فاعله يسير وحده ويبيت وحده ويأوي إلى هذه الغيران وحده، وهذه أشياء تأتي معها الشياطين كما قال عليه الصلاة والسلام«الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب»، فهؤلاء لما أَوَوْا إلى المغارات وتعبدوا بها العبادات البدعية جاءتهم الشياطين، وذكر أحوالهم وذكر أنواع ما يحصل في الجبال إلى آخره، وهؤلاء تأتيهم أحوال كلامية؛ يعني يسمعون من يكلمهم ومن يحضر لهم الغيلان بكلام رجال وتارة يكون فيه صور رجال لا يعلمونهم، وهذه الأنواع سمتها الصوفية رجال الغيب؛ يعني الرجال الذين لا يُعرفون ويأتون ليخدموا ولينصروا الولي وهم غائبون لا يُعرف من هم، وكما ذكر لك شيخ الإسلام أن الرجل إذا انقطع فإن الشاطين تعينه والذين يعينونه هم رجال الجن فإذا كان رأى رجلا فإنه رأى جنيا والجني قد يتشكل في صورة رجل وقد يسمع صوت رجل، إلى آخره، قالوا الآن تقريبا انقطعت إلا في قلة جدا في العالم، لكن مثل هذه الأحوال والانقطاع للتعبد والنظر والتفكر هذه إنقطعت على هذا النحو.
المسألة الثانية التي عرض لها: هي أنّ الخوارق التي تحصل، الناس في التصديق بها والتكذيب ثلاثة أقسام كما ذكر:
قسم مكذِّب مطلقا.
قسم مصدق مطلقا.
والصواب أنها لا تصدق ولا تكذب؛ بمعنى نقول ليست هذه كرامة من الله -من جهة التكذيب- والواقع حصلت -من جهة التصديق- لكنها من جهة الشياطين.
والعياذ بالله لما دخل الإستعمار ودخل جنود المشركين الكفار إلى طائفة من بلاد الإسلام في القرون المتأخرة، ورآهم مَن رآهم من الصوفية سماها -سمى تلك العساكر الشركية الكفرية- سماها طائفة من الصوفية رجال الغيب؛ يعني أن هؤلاء الرجال الذين ينصرون الأمة بالغيب ...كرامة وهذا ولا شك بسببه تمكن الكفار من بلاد المسلمين، فأعظم من مكن لهم الصوفية الذين إما تركوا الأمر قالوا توكلنا على الله ولم يفعلوا سببا، أو قالوا هؤلاء رجال الغيب الذين يخدمون المؤمنين، وهذا من جراء الاعتقادات الفاسدة والباطلة.
المسألة الثالثة التي ذكر: هي مسألة السماع-السماع مما تكلم فيه العلماء من قديم- وكان الناس يتعبدون به في أول ما حدث من جهة ما يسمى التغبير كما قال الشافعي في من أحدث التغبير في بغداد، والتغبير سمي تغبيرا لأنهم يأخذون جلودا قديمة يَبِسَتْ عليها تراب والغبار فيبدؤون –يعني لأنهم ... متزهدون كما يزعمون- فيضربون عليها بالعصي فتحدث صوتا كصوت الدف، فيترنّمون به مع الأشعار، فسمي الفعل مع الإنشاد تغبيرا؛ لأنه يظهر معه الغبار، وحقيقة التغبير هي إنشاد الأشعار الزهدية مع استخدام الدفوف، هذه حقيقة التغبير، والأشعار الزهدية أحدثها طائفة من المتزهدة لتنشد في مقابلة الغناء المحرم الذي انتشر في عهد الدولة العباسية، انتشر الغناء المحرم والمعاوف يعني في أنواع من الألحان موجودة في كتب ومعروفة وأصوات، فأحدثوا هذا في مقابلة ذاك، وتدرّج الأمر إلى أن صاروا يتقربون إلى الله بسماع الدف نفسه والطبول والمزمار الذي هو القصب يعني لأنه هو القصب؛ قصب السكر يؤخذ ييبّس ويفرّغ وبعد ذلك ...ثم يكون منه مزمارا، فأصبحوا يتقربون إلى الله بذلك، ينشدون الأشعار الزهدية، ويترنمون بهذه الأصوات يعني بالقصب وبالمزمار والطبل بأشياء محزنة، ومعلوم أن هذه الآلات قد تُستخدم بألحان يكون معها نشوة، وقد تُستخدم بألحان يكون معها حزن ورِقّة، فلهذا هم استخدموها في جانب الحزن والرقة والبكاء، وأثّرت على النفوس وبكى من بكى من سماعها، وأثّرت في القلوب وفي ترقيقها ظنّوا أن هذا مشروع؛ لأنها أحدثت أمرا مشروعا وهو البكاء والخوف من الله جل وعلا، فظنوا أنّ وسيلته مشروعة فلهذا ألفوا فيه من ألف من أهل العلم في السماع وفي ذمه، وأنه مما أحدث في مؤلفات كثيرة معلومة لدى المطلع، آلَ الأمر بعد زمن إلى أنْ يصحب هذا السماع رقص، والرقص ليس على صفة الرقص الذي ترونه الآن من الصوفية، لا. هو أول ما بدء رَقْصُ تمايل من التواجد كما يقولون، والتمايل من جراء أثر هذا السماع، فهو من جهة خوفه ورقته وترنمه وانشغاله بهذا السماع ورقة قلبه، أصبح يتمايل ويتمايل، ثم آل الأمر حتى أصبح التمايل مقصود، إلى أن صار هناك أناس يأدونه، فصار طقوسا وشعائر عندهم مع الزمن، هذه كلها أمور لا شك أنها محدثة، أرادوا منها؛ من السماع؛ سماع الأشعار أو سماع المزامير هذه، أرادوا منها رقة القلوب، وأرادوا منها الإستعاظة عن سماع المعازف والسماع الشيطاني، وآل بهم الأمر إلى أن كان سماعا شيطانيا.
ومعلوم أن السماع الذي يحرك القلوب ويبعث فيها الإيمان ويبعث فيها الخوف والرجاء والمحبة وأنواع العبادات القلبية ويثمر العمل إنما هو سماع القرآن هذا هو السماع المشروع?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ?[الحشر:21]، وقال جل وعلا أيضا ?إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا?[مريم:58] من شدة ما سمعوا وتأثُّرهم به، وكما ذكر لك لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام قراءة أبي موسى الأشعري وحدّثه فقال أبو موسى: له لو علمت بك لحبّرته لك تحبيرا. وقال عليه الصلاة والسلام «زينوا القرآن بأصواتكم» القرآن حجة الله الباقية وفي نفسه مؤثر، ولكن مطلوب أن يُزيَّن القرآن بالصوت؛ لأن الصوت من جهته يحصل نوع تأثر فالتأثر يكون بالكلام وبنغمة الصوت؛ رنة الصوت، ولهذا أوتي داوود مزمارا؛ كان داوود إذا ترنم فكأنما يسمعون مزمارا، وهذا التلذذ بسماع القرآن هو السماع الشرعي الذي به تحيا القلوب، وبه يكون الإيمان، وتعظم أنواع العبادات القلبية النفس، الخوف من الله جل وعلا وإجلاله وتعظيمه؛ لأنه يسمع كلام الملك العلام الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، إذن فهذا السماع هو سماع أهل الإيمان.
أما سماع المشركين فهو كما كانوا يفعلون عند البيت ?وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً?[الأنفال:35] يعني دعاءهم عند البيت كان مكاء يعني صفيرا؛ لأن المكاء في اللغة هو الصفير، (مَكَّ) يعني صَفَر، والتصدية هي التصفيق، كانوا يتعبدون بذلك برنة يعني يَصْفِرُونَ ويصفِّقون برنة للتأثير على القلب.
الله جل جلاله جعل سماع أهل الإيمان سماع القرآن ?وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?[الأعراف:204]، فإذن أنواع السماع التي يظن أنها فيها فوائد من سماع الألحان لما يكون غير القرآن هذا كله من المحدثات، ومن جنسه ما حدث في هذا الزمان من الأناشيد التي يسميها الشباب الأناشيد الإسلامية التي فيها استعمال الدفوف أو تحتوي على معنىً باطل أو تكون جماعية، هذه كلها من المحدثات.
فإذا كان النشيد الذي هو الشعر جماعيا هذا واحد، أو كان معه دف أو كان مشتملا على معنى باطل إما من جهة العقيدة؛ الإستغاثات، مخاطبة الموتى، أو من جهة التحنيث الباطل ونحو ذلك، هذه كلها منكرة وهي شبيه بألحان وسماع الصوفية، ولهذا إنما جاءت الأناشيد من جراء التربية الصوفية لبعض الجماعات الإسلامية.
أما نشيد المرء بمفرده فلا بأس، حتى ذكر العلماء أن المرء ليترنم ببيت أو ببيتين من الشعر وترنم بها فهذا لا بأس به، يعني لو كان وحده وكان قليلا، يعني أراد أن يرفع صوته بشيء فهذا لا بأس به، يعني أنه ليس بمنكر لأن النفس قد -كما عللوا- قد تحتاج، بحث هذا السّفاريني في شرح منظومة الآداب، وبما هو معروف في محله. المقصود أن إنشاد المنشد وحده بقصيدة في محل لا بأس به، إذا كان وحده ينشد قصيدة لكن لا يستعاض عنها أو يكون سماعا مقصودا يعني يرقق القلوب بها وتُكرر ويصبح ترقيق القلوب بمثل هذه القصائد التي تتكرر، هذه كلها من جنس سماع الصوفية وقد تفضي إليها, سماع المؤمن هو القرآن، لهذا تجد أن الذين انفتحوا على هذه الأشياء ما يستلذون القرآن، ومن استلذ القرآن وأذن له وسمعه وتلاه أو حفظه هو وقام به فإنه لا يأنس لتلك الأشياء؛ لأن الله جل وعلا قذف بالحق على الباطل?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ?[الأنبياء:18].
...الرياء هذا بحسب النفس؛ يعني مثلا قد أُحسِّن قراءتي بالقرآن لأجل أنْ يقال قراءته جيدة هذا رياء، وقد أحسِّن قراءتي بالقرآن وأتباكى أو أبكي لأجل أنْ يتأثر السامع هذا مشروع «إقرأوا القرأن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا»، «زينوا القرآن بأصواتكم» النية هي المدار، وأبوموسى الأشعري رضي الله عنه يريد أن تكون قراءته أعظم تأثيرا للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه إذا كان حدث للنبي عليه الصلاة والسلام خشوع وتعظيم وعبادة حين سماعه لأبي موسى فله هو أجره فهو يريد هذا الأجر العظيم الذي حصل بسببه لأفضل الخلق عليه الصلاة والسلام.[انتهى الشريط الثامن]
...كلامنا في أي القسمين؟ كلامنا فيمن اتخذ السماع عبادة، أما الذي يسمع للهو؛ يسمع المعازف لغير العبادة فهذا ليس الكلام فيه، نحن تكلمنا فيمن سمع للتعبّد، المعازف معروف الكلام عليها والغناء يعني تصحبه معازف وألحان.
سكر مثل ما ذكر شيخ الإسلام أن الغناء يحدث سكرا، السكر يحصل بثلاثة أشياء: بالهوى وبالغناء أو بالخمرة، الهوى يعني هوى الرجل للصور للمرأة وبالخمر وبالغناء فإذا اجتمعت الثلاث سكر العياذ بالله من جميع الجهات؛ سكر عقله وسكر بدنه إلى آخره، فإذا لم يكن خمر يكن سكر، الهوى يسكر بمعنى أنه يغطي العقل عن الصواب يعني يكون خمرا للعقل يغطي العقل عن إدراك الصواب، كذلك الغناء من استبانه وألف له –الغناء المحرم؛ المعازف المحرمة والغناء المحرم-فيحدث لصاحبه السكر والعياذ بالله، فهذه أنواع السكر إذا اجتمعت طغى السكر على صاحبه؛ يعني صار في أقبح أنواع السكر والعياذ بالله.
... مثل ما قال الصوفية وهذا كلام الصوفية، التغبير أو ما حدث لأجل الترقيقأول ما حدثت عندنا يعني في بيتنا؛ أذكر أنه أول أناشيد جاءت يمكن في حدود عام 96هجري أو 97 أذكرها وكانت تباع بالسر والدَّف كان فيه تسجيلات في البطحة في ... بالدَّف يعني الناس... يكفي أنها منكرة هم عارفين أنها منكرة، ثم بعد ذلك أصبحت تمارس في بعض المعاهد في الأندية الصيفية حتى ألفها الناس، أول ما جاءت الأناشيد السورية لا أدري موجودة الآن أو لا؟ كان معا طبل، بَعْدِينْ جاءت أشياء معها طبل لا أدري إيش، وتوسعوا فيه إلى أن صارت أناشيد متنوعة يعني أغاني متنوعة بعضها خليط وبعضها محلي وبعضها كذا، والله المستعان.
قد يُحتاج إليها للصغير –صغير السن دون التكليف- ، قد يُحتاج إليها في شخص إنتقل من الغناء، يعني هذه الحالات تقدر بقدرها، يعني يقدرها العالم أو المفتي أو المربي بقدرها على حدودها، لكن أنها تكون منهج أو أن تكون عادي ما فيها شيء، الأصل فيها أنها منكرة، الإجتماع عليها منكر.
مثل ما قلت لك أنا هذا الضابط الذي قلت لك ما فيه مانع، كان العلماء يتعاطون بعض الأشعار التي يقرأها أحدهم في مثل هذا ... مع الترنم بها ، يعني فيه سماع له، ..... ما يكون المقصود سماع تلذذ، سماع تعبد، ما يكون سماع تلذذ ولا تعبد، يكون سماع فائدة لا بأس، سماع الفائدة مطلوب، لكن سماع التلذذ للحن هذا ما يصلح، إذا كان سماع تلذذ للحن لا يصلح ؛ للحن، أما إذا كان فائدة يسمعها للفائدة هذا من جنس ما يُقرأ من الأشياء.(52/161)
ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبدا خرْق عادة لم يحاسبه على ذلك، كمن يظن أن الله إذا أعطى عبدا ملكا ومالا وتصرفا لم يحاسبه عليه.
ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة لا مأمورٍ بها ولا منهيٌ عنها، فهذا يكون من عموم الأولياء، وهم الأبرار المقتصدون، وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء كما أن العبد الرسول أعلى من النبي الملك.
ولما كانت الخوارق كثيرا ما تنقص بها درجة الرجل كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك، ويستغفرالله تعالى كما يتوب من الذنوب كالزنا والسرقة، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك أن لا يقف عندها ولا يجعلها همته، ولا يتبجح بها مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها، فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر، وتقول هنيئا لك يا ولي الله، فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول خذني حتى يأكلني، الفقراء ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح، وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة، وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة، أو تُرِيَه أنوارا أو تحضر عنده من يطلبه، ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه، فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله. وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له أنا من أمر الله ويعده بأنه المهدي الذي بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويظهر له الخوارق مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يمينا أو شمالا ذهب حيث أراد وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله إلى مكة وتأتي به، وتأتيه بأشخاص في صورة(52/162)
جميلة وتقول له هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك، فيقول في نفسه كيف تصوروا بصورة المردان فيرفع رأسه فيجدهم بلحى، ويقول له علامة أنّك أنت المهدي أنك تنبت في جسدك شامة فتنبت ويراها، وغير ذلك، وكلّه من مكر الشيطان.
وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير، وقد قال تعالى ?فَأَمَّا الْإِنسَانُ إذا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي(15)وَأَمَّا إذا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ?[الفجر:15-16] قال الله تبارك وتعالى ?كَلاَّ?[الفجر:17] ولفظ (كَلاَّ) فيها زجر وتنبيه؛ زجر عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به ويأمر به بعده، وذلك أنه ليس كل من حصل له نعم دنيوية تعد كرامة يكون الله عز وجل مكرما له بها، ولا كل من قدَّر عليه ذلك يكون مهينا له بذلك، بل هو سبحانه يبتلي عبده بالسراء والضراء، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه ولا هو كريمٌ عنده ليستدرجه بذلك، وقد يحمي منها من يحبه ويواليه لئلا تنقص بذلك مرتبته عنده أو يقع بسببها فيما يكرهه منه.(52/163)
وأيضا كرامات الأولياء، لابد أن يكون سببها الإيمان والتقوى، فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله، لا من كرامات أولياء الله، فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء، وإنما تحصل عند الشرك مثل دعاء الميت والغائب، أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات كالحيات والزنابير والخنافس والدم وغيره من النجاسات، ومثل الغناء والرقص لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن وتقوى عند سماع مزامير الشيطان فيرقص ليلا طويلا فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدا أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن وينفر عنه ويتكلفه، ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده، ويحب سماع المكاء والتصدية، ويجد عنده مواجيد، فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله تعالى ?وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ?[الزخرف:36]، فالقرآن هو ذكر الرحمن، قال الله تعالى ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى?[طه:124-126] يعني تركتَ العمل بها، قال ابن عباس رضي الله عنهما تكفّل الله لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه أن لا يضل في الدينا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية.
فصل
ومما يجب أن يُعلم أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الإنس والجن، فلم يبق إنسي ولا جني إلاّ وجب عليه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه، فعليه أن يصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به فهو كافر، سواء كان إنسيا أو جنيا(52/164)
ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين بإتفاق المسلمين، وقد استمعت الجن القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ببطن نخلة، لما رجع من الطائف وأخبره الله بذلك في القرآن بقوله ?وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ(29)قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ(30)يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(31)وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ?[الأحقاف:29-32]، وأنزل الله تعالى بعد ذلك ?قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا(1)يَهْدِي إلى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا(2)وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا(3)وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا(4)وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا(5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا?[الجن:1-6] أي السفيه منا في أظهر قولي العلماء، وقال غير واحد من السلف كان الرجل من الإنس إذا نزل بالوادي قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه. فلما استغاثت الإنس بالجن ازدادت الجن طغيانا وكفرا، كما قال تعالى ?وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ(52/165)
بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا(6)وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا(7)وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا?[الجن:6-8]، وكانت الشياطين تُرمى بالشهب قبل أن ينزل القرآن، لكن كانوا أحيانا يسترقون السمع قبل أن يصل الشهاب إلى أحدهم فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا، وصارت الشهب مرصدة لهم قبل أن يسمعوا كما قالوا ?وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا?[الجن:9] وقال تعالى في الآية الأخرى ?وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211)إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ?[الشعراء:210-212] قالوا ?وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا(10)وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا?[الجن:10-11] أي على مذاهب شتى كما قال العلماء منهم المسلم والمشرك والنصراني والسني والبدعي ?وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا?[الجن:12]، أخبروا أنهم لا يعجزونه لا إن اقاموا في الأرض ولا إن هربوا منه ?وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا(13)وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ?[الجن:13-14] أي الظالمون يقال أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار وظلم ?فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا(14)وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا(15) وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ(52/166)
يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا(17)وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(18)وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19)قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا(20)قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا(21)قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا?[الجن:14-22] أي ملجأ ومعاذا ?إِلَّا بَلَاغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا(23)حَتَّى إذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا?[الجن:23-24]، ثم لما سمعت الجن القرآن أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وهم جن نصيبين، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود وروى أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وكان إذا قال ?فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ?(1) قالوا ولا بشيء من آلائِكَ ربنا نكذب، فلك الحمد، ولما اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم سألوه الزاد لهم ولدوابهم، فقال «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علفا لدوابكم» قال النبي صلى الله عليه وسلم «فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد لاخوانكم من الجن» وهذا النهي ثابت عنه من وجوه متعددة، وبذلك احتج العلماء على النهي عن الاستنجاء بذلك، وقالوا فإذا منع من الاستنجاء بما للجن ولدوابهم فما أعد للإنس ولدوابهم من الطعام والعلف أولى وأحرى، ومحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الإنس والجن وهذا أعظم قدرا عند الله تعالى من كون الجن سخروا لسليمان عليه السلام، فإنهم سخروا له يتصرف فيهم بحكم الملك، ومحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم
__________
(1) آية مكررة في سورة الرحمن 31 مرة.[المفرغ](52/167)
يأمرهم بما أمر الله به ورسوله؛ لأنه عبد الله ورسوله، ومنزلة العبد الرسول فوق منزلة النبي الملك.
وكفار الجن يدخلون النار بالنص والاجماع، وأما مؤمنوهم فجمهورالعلماء على أنهم يدخلون الجنة، وجمهور العلماء على أن الرسل من الإنس ولم يبعث من الجن رسول، لكن منهم النذر، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر.
والمقصود هنا ان الجن مع الإنس على أحوال:
فمن كان من الانس يأمر الجن بما أمر الله به رسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه، ويأمر الإنس بذلك فهذا من أفضل أولياء الله تعالى، وهو في ذلك من خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه.
[ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حُرّم عليهم، ويستعملهم في مباحات له، فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك،] (1)
__________
(1) هذا إذا كان، إذا كان صحيحا يعني قد يأمرهم وينهاهم مثل ما حصل لسليمان عليه السلام، كل ملَك يأمر وينهى، إذا كان، فهذا يكون بمنزلة الملوك مش بمنزلة المحتاج ما يخرج عن هذا القسم، هو يأمرهم وينهاهم لأنه كالملك عليهم، أوامر كثيرة يدخل ضمنها الأمر الواجب، كذلك عندك في النسخة الثانية (إذا كان يأمرهم) يعني من كان استعملهم في أمر مباح وهو مع هذا يأمرهم وينهاهم بما يجب عليهم فهو كالملك لأن الملك يسعى في صلاح رعيته وهو يجمع ما بين الاستفادة منهم في الأمور المباحة وأمرهم ونهيهم ما يجب شرعا.
الحال الأولى: حال الكُمَّل.
الحال الثانية: هذه موارد زلل.
.... تعرف أصلا أن استخدام الإنس والطلب منه، تعرف الأصل فيه المنع، هذا يعني رتب هذا على هذا، يعني أن الأصل الترك ، يعني وإن عرض يعني عرض جني وقال أخدمك، إن عرض جني وقال أنا أدلك على الطريق، مثل واحد ضاع في فلاة، وقال أنا أدلك على الطريق، أو أشباه ذلك فإن قال له دلني ، فلا بأس، باعتبار أنه حاضر يقدرويسمع، فإن تركه فهو مثل استخدام الإنس وقال له أنا لست محتاج لك، أنا بَدُلْ الطريق بنفسي ، يعني المقصود في أصل المسألة، موش في الاستعانة، يعني فيه أناس يرفضون حتى الاستفادة من الإنس على الأمور المباحة... خاصة الذين يسعون في الكمالات السلوكية.
...ما فيه شك، هو مثل استعمال الإنس ، استعمالك في أمور مباحة، يعلم الإنسي أنها مباحة، هذا إذا جاءه الجني؛ عرض له -مسلم أو غير مسلم- لا بأس به، إذا كان الأمر مشتبها عليه ما يدري فلا بد أن يكون مسلما مثل استخدام الانس لأنه لا يأمن الجني الكافر ولا يشترط هنا؛ لا أعرف أن أهل العلم قالوا تسأله مسلم أو كافر، لكن إذا جاء من جهة الكيد فيحذر الجني، إذا جاء من جهة قبول الخبر: الجني خبره ضعيف لا يصدق إلا أن يكون على البرهان، مثل بعض الناس يجيءه الذين يقرؤون يجيء الجن ينطق يقول هذا فيه بلاء أو يعلمه بعض الأشياء وزوجته ما أدري أوش سوّت، خبر الجن أصله ضعيف ما يصدق لأن الجن هذا لا تعلم عدالته ولا تعلم صدقه ولا تعلم ديانته، كيف تأخذ خبره وتنقله للإنس؟ يحصل مشاكل يحصل مصائب وقطيعة بسبب نقل خبر الجني إلى الإنس، يقول فيكم بلاء مسويلكم كذا وكذا، أم الزوج فعلت فيك كذا وكذا من جهة الجني، والجني خبره ضعيف ما يصدق فلا يجوز نقله حتى تعلم عدالته، العلم بعدالة الجني متعذرة، ولهذا قال أهل العلم في المصطلح ؛ مصطلح الحديث وحديث الجني ضعيف؛ يعني إذا كان في الإسناد جني فالإسناد ضعيف وفيه روايات كثيرة معروفة في أسانيدها جن لكن هي ضعيفة.(52/168)
وهذا إذا قُدّر أنه من أولياء الله تعالى، فغايته ان يكون في عموم أولياء الله، مثل النبي الملك مع العبد الرسول؛ كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك، وإما في قتل معصوم الدم، أو في العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم، وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة، فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان، ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر، وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص إما فاسق وإما مذنب، غير فاسق.(52/169)
وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات مثل أن يستعين بهم على الحج، أو أن يطيروا به عند السماع البدعي، أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ونحو ذلك، فهذا مغرور قد مكروا به، وكثير من هؤلاء قد لا يعرف أن ذلك من الجن، بل قد سمع أن أولياء الله لهم كرامات وخوارق للعادات، (1)
__________
(1) هذا الفصل ذكر فيه شيخ الإسلام رحمه الله أحوال الجن من جهة التكليف ومن جهة النبوة ومن جهة إستجابتهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وما أنزل الله جل وعلا فيهم من قرآن يُتلى، ومن جهة علاقة الإنسي بالجني، وسبب هذا الفصل أنّ طائفة من الذين يدعون الوَلاية يقولون نستخدم الجن فيما ينفعنا، وهذا كان كثير في أنه يكون للإنسي ولي من الجن يساعده على أمور، والجن كما ذكر سابقا هم الذين يعينون أصحاب الخوارق؛ بل يعينون من يدّعون الوَلاية من أهل البدع والفجور والشركيات، يعينونهم على الخوارق ويفعلون بهم أشياء حتى يغووا الناس بهم. فالمقصود من هذا الفصل هو أن علاقة الإنس بالجن مبيّنة في الكتاب والسنة وأنها ليست متروكة لإجتهاد الناس فيما يرون أنه ينفع، فالنبي عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس بعامة، وهذه البعثة معناها أنهم يؤمرون وينهون، وأنّ التكليف الذي على الإنس تكليف على الجن، وأن الجن ليسوا بخارجين على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، فإذن ما يكون بدعة في حق الإنسي هو بدعة في حق الجني، وما كان وسيلة إلى الشرك في حق الإنسي يكون وسيلة إلى الشرك في حق الجني، وما كان شركا في حق الإنسي يكون شركا في حق الجني، لهذا كان الساحر الذي يستخدم الجن كان كافرا لأنه استعان بهم في أمور أشرك فيها وأولئك دعوه إلى الشرك فصاروا هم كفارا وصار الساحر أيضا كافرا، كما قال جل وعلا ?وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ?[البقرة:102] ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «حَدّ السّاحِرِ ضَرْبه بالسّيْفِ» أو «ضَرْبة بالسّيْفِ» الصحيح أن هذا حد ردة وليس حد تعزير أو حد قصاص؛ كما هو مبسوط في موضعه. إذن فالجن مخاطبون بمثل ما خوطب الإنس لهذا من الجن مسلمون ومنهم مشركون، من الجن يهود ونصارى وسنة وبدعة إلى آخره، كما أن الإنس فيهم ذلك، إذا تبين هذا فللإنسي مع الجني كما ذكر أحوال:
أكمل هذه الأحوال أنه إذا علم الإنسي بالجني فإنه يكون فيه في مقام ورثة الأنبياء؛ أنه يأمره وينهاه؛ يأمره بطاعة الله وينهاه عن معصية الله، كما يحصل لبعض أهل العلم إذا قرأوا على أحد وكلمهم الجني الذي يكون متلبسا بالإنسي فإنه إذا نطق فإنهم يعلمونه التوحيد وينهونه عن الشرك ويأمرونه بالإحسان وينهونه عن التعدي والظلم الذي منه دخول الجني في هذا الإنسي، فيأمرونه بما أمر به الله جل وعلا به ورسوله وينهونه عما نهى الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان عليه الصلاة والسلام وورثة الأنبياء يفعلون ذلك لا يطلبون منهم ولا يسألونهم بل يأمرونهم وينهونهم ويتلون عليهم القرآن والسنة إقامة للحجة عليهم وتعليما لهم وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر كما يفعل هذا مع الإنسي، سواء بسواء لأنهم مكلفون.
والحال الثانية أن الإنسي قد يحتاج إلى جني في أمر مباح، وهذا لا حرج أن يستخدم الإنسيُّ الجنيَّ إذا إحتاج إليه في أمر مباح؛ لكن هذا بشرط وهو ألاّ يكون هذا ديدنا له؛ يعني يؤاخي قرينا من الجن أو إذا احتاج علما أو خيرا طلب من جني معين، بل الاستخدام الذي قاله هنا شيخ الإسلام (ومن كان يستخدم الجن في أمور مباحة) يعني إذا عرض له الجتي استعمله في أمر مباح، أما أن يكون الجني مآخيا مستخدما دائما هذه ليست بالحالة الجائزة؛ لأن هذه تفضي إلى محرم والله جل وعلا قال في وصف الإنس والجن ?رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ?[الأنعام:128] ومعنى الاستمتاع يعني الديمومة؛ أن الجني يستمتع دائما بالإنسي والإنسي يستمتع دائما بالجني، كما يستمتع الرجل بصديقه الدائم معه وكما يستمتع الرجل بنسائه وأهله إلى آخره بما يكون ملازما له، إذا عرض له فإنه يخاطبه وقد يطلب منه أشياء ويستخدمه في أمر مباح، وهذا على وجه القلة لا على وجه الديمومة. يعني من عرض له جني فاستفاد منه في أمر مباح فلا يقال هذا خارج عن الشريعة، لكن من كان له جني يقول أنا أستخدم هذا الجني المعين دائما فهذا لاشك أنه محرم؛ لأنه لم يأتِ عليه دليل لا من الكتاب ولا من السنة ولم يكن عليه فعل أهل العلم والسلف بل كانوا يفعلون بالجن كما كان عليه حال النبي عليه الصلاة والسلام وحال أصحابه من بعده.
المقصود من هذا أن قول شيخ الإسلام (ومن كان يستخدم الجن في أمور مباحة فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة) فهو كما استعمل الجن في أمور مباحة؛ فالإنسان يعرض له إنسي فيطلب منه شيء يسأله عن شيء يعرض له يسأله عن شيء لكن لا يتخذه دائما على هذه الحال في سؤال الجني.
فإذن سؤال الجني دائما إما أن يقول أسأل قريني أو يقرأ على أحد وإذا تكلم سأله أو يتخذ عنده شخص فيه جني ملابس له وكلما أراد أن يستعلم شيئا قرأ عليه حتى ينطق الجني ثم بعد ذلك يسأله على أشياء، فإن هذا كله من وسائل البدع والمحدثات وفهو محرم ومنكر ويجب النهي عنه، أما الإستخدام الذي يكون في حالة دون حالة يعني تارة يعرض له مرة ونحو ذلك فهذا لا يقدح مثل ما كان يحصل لبعض الأولياء يعني ممن مثل بهم شيخ الإسلام يعني في مقصود كلامه أنه إذا استخدمه مرة ونحو ذلك استعمله في عمل مباح فهذا لا حرج فيه.
الحال الثالثة في علاقة الإنسي بالجني: في علاقة الاستمتاع بالمحرم إما بالإخبار بالغيب أو بالإتيان بالأمور المحرمة له من النساء أو المردان أو خمر أو مال مسروق يأتي به الجني ونحو ذلك، هذه كلها حرام وهي حرام وهي بحسب الحال إن كان استخدمه في أمور شركية فهو شرك وإن استخدمه في محرم فهو محرم.
ثم ذكر في آخر قال (إن استعان بهم على المعاصي فهو عاصي إما فاسق وإما مذنب غير فاسق) وذلك أن المعصية قد تكون فسقا وقد لاتكون فسقا فبيست كل معصية فسقا، وكذلك ليس كل عاص فاسقا فالفاسق هو الذي يجاهر بالكبيرة، هذا الذي عليه حد الفسق أما فعل الصغائر ليس بفسق، وكذلك الكبيرة إذا استتر بها فلا يحكم عليه بالفسق لقوله « كلّ أمّتي مُعَافىً إلا المجاهِرين»، فالمعاصي منقسمة إلى كبائر وصغائر، وإلى فسوق وإلى غيره؛ وكذلك فاعل المعصية قد يكون مذنبا وقد يكون فاسقا بحسب نوع الذنب وصفة إرتكابه.
...لا، في مقدور الجن ليس في مقدور الإنس إشترط أن يطلب منهم أشياء في مقدورهم.
...هو فتنة إذا حدّث به أو بين لهم أنّ هذا من وَلايته وإلى آخره هذا بحسب الذي يحصل له، حصلت للصحابة أشياء ما افتتن الناس بهم حذيفة رضي الله عنه أتاه أناس في دمشق فسألوه الدعاء يعني طلبوا منه أن يدعوا لهم فدعى، ثم أتوه مرة أخرى فطلبوا منه الدعاء فأنكر عليهم وقال أنبياء نحن؟ ففرق بين الإستمرار والحالة، هذا أصل مهم ففرق بين الإستمرار في الأشياء والحالة لأن الإستمرار يجعل الشيء ملازم يجعل الشيء يعتقد فيهإما اعتقاد في شخص أو إعتقاد في حالة أو صفة إلى آخره العبرة بالحالة العبرة بالفاعل.(52/170)
وليس عنده من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامات الرحمانية وبين التلبيسات الشيطانية، فيمكرون به بحسب اعتقاده، فإن كان مشركا يعبد الكواكب والاوثان أوهموه أنه ينتفع بتلك العبادة ويكون قصده الاستشفاع والتوسل ممن صور ذلك الصنم على صورته من ملك، أو نبي، أو شيخ صالح، فيظن أنه يعبد ذلك النبي أوالصالح، وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان. قال الله تعالى ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41]، ولهذا كان الذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب يقصدون السجود لها فيقارنها الشيطان عند سجودهم ليكون سجودهم له، ولهذا يتمثل الشيطان بصورة من يستغيث به المشركون، فإن كان نصرانيا واستغاث بجرجس أو غيره جاء الشيطان في صورة جرجس أو من يستغيث به، وإن كان منتسبا إلى الإسلام واستغاث بشيخ يحسن الظن به من شيوخ المسلمين، جاء في صورة ذلك الشيخ، وإن كان من مشركي الهند جاء في صورة من يعظمه ذلك المشرك، ثم إن الشيخ المستغاث به إن كان ممن له خبرة بالشريعة لم يعرفه الشيطان أنه تمثل لأصحابه المستغيثين به، وإن كان الشيخ ممن لا خبرة له بأقوالهم نقل أقوالهم له فيظن أولئك أن الشيخ سمع أصواتهم من البعد وأجابهم، وإنما هو بتوسط الشيطان، ولقد أخبر بعض الشيوخ الذين كان قد جرى لهم مثل هذا بصورة مكاشفة ومخاطبة؛ فقال يرونني الجن شيئا براقا مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه ما يطلب منه الإخبار به، قال فأخبر الناس به، ويوصلون إلي كلام من استغاث بي من أصحابي فأجيبه فيوصلون جوابي إليه، وكان كثير من الشيوخ الذين حصل لهم كثير من هذه الخوارق إذا كذّب بها من لم يعرفها، وقال إنكم تفعلون هذا بطريق الحيلة، كما يدخل النار بحجر(52/171)
الطلق، وقشور النارنج، ودهن الضفادع، وغير ذلك من الحيل الطبيعية، فيتعجب هؤلاء المشايخ ويقولون نحن والله لا نعرف شيئا من هذه الحيل، فلما ذكر لهم الخبير إنكم لصادقون في ذلك، ولكن هذه الأحوال شيطانية أقروا بذلك وتاب منهم من تاب الله عليه، لما تبين لهم الحق، وتبين لهم من وجوه أنها من الشيطان، ورأوا أنها من الشياطين لما رأوا أنها تحصل بمثل البدع المذمومة في الشرع وعند المعاصي لله، فلا تحصل عندما يحبه الله ورسوله من العبادات الشرعية، فعلموا أنها حينئذ من مخارق الشيطان لأوليائه، لا من كرامات الرحمن لأوليائه.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وصلى الله وسلم على محمد سيد رسله وأنبيائه وعلى آله وصحبه وأنصاره وأشياعه وخلفائه صلاة وسلاما نستوجب بهما شفاعته آمين(1)
__________
(1) هذا تمام هذه الرسالة النافعة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
وخلاصة هذه الرسالة في مسائل:
المسألة الأولى: في أنّ وجود ولي الله وولي الشيطان هذا أمر مقرّر في الشرع؛ في الكتاب والسنة:
أما وَلاية الله جل وعلا لعبده فهي كما قال ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ?[المائدة:55-56]، وقال? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ?[يونس:62].
وفي وَلاية الشيطان آيات كثيرة ?إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ?[النحل:100]، وقال ?إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:175] والآيات في ذلك كثيرة ساقها الإمام في أول البحث.
المسألة الثانية: في تعريف وليّ الله وتعريف وليّ الشيطان وأنّ:
وليّ الله: الوليّ هو كل مؤمن تقي ليس بنبيّ للآية حيث عرّف الأولياء بأنهم ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:63]، المؤمن المتقي هو الوليّ.
ووليّ الشيطان: هو الذي يطيع الشيطان ويأمر بأمره ويخالف ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله جل وعلا قال ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ?[يس:60] يعني بطاعته في ارتكاب الحرام بأنواعه، في ترك الفرائض بأنواعها، والآيات في هذا كثيرة ذكرنا لكم بعضًا منها.
المسألة الثالثة-في خلاصة هذا-:
أنّ وَلاية المؤمن لله جل وعلا ووَلاية الله جل وعلا لعبده المؤمن متبعِّضة ليست على مرتبة واحدة؛ فكل مؤمن له نصيب من التقوى له نصيب من الوَلاية، فالإيمان والتقوى متبعِّضة فكذلك الوَلاية متبعضة.
وكذلك وَلاية الشيطان للعبد والعبد للشيطان متبعضة فكل عاص له نصيبه من وَلاية الشيطان.
فمعتقد أهل السنة أنه يكون في الشخص أشياء موجبةً لوَلاية الشيطان وموجبة لولاية الرحمن جل وعلا، فيجتمع في المعيّن الوَلاية من الجهتين، وهو لما غَلَبَ منها، يعني يكون ولي لله جل وعلا في طاعته ويكون مطيع للشيطان وولي له فيما عصاه به؛ لكن لا يُقال في المؤمن: إنّه ولي للشيطان بإطلاق. بل يقال: مؤمن وليّ لله جل وعلا فيه معصية، فيه طاعة للشيطان ونحو ذلك. لأن الله سبحانه جعل وَلاية الشيطان وسلطانه على الذين لا يؤمنون؛ ?إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ?[الأعراف:27]. إذن المؤمن لا يُقال: هذا ولي للشيطان بإطلاق. لكن بتقييد.
المسألة الرابعة: أنّ لأولياء الرحمن علامات، ولأولياء الشيطان علامات، وذكرها شيخ الإسلام في الكتاب.
المسألة الخامسة:
أنّ أولياء الرحمن لهم كرامات، والكرامة عُرّفت بأنها أمر خارق للعادة يجري على يدي وليّ، وأن حصول الكرامة لا يعني رِفعة من حصلت له على من لم تحصل له، بل قد يكون من لم تحصل له كرامة أرفع ممن حصلت له كرامة. وهذه قرّرها في كتابه.
وما يحصل لأولياء الشيطان من خوارق هي خوارق شيطانية من جهة الشيطان يعينهم، وليس الله جل وعلا يكرمهم بذلك؛ ليسوا بأهلٍ للإكرام.
فإذن يجب أن يُنظر في الفرق ما بين وليّ الرحمن ووليّ الشيطان من جهة العمل؛ من جهة طاعته لله ورسوله، وليس ذلك عمادُه الخوارق؛ قد تحصل الخوارق الشيطانية لبعض الناس.
المسألة السادسة: أنّ المبتدعة من هذه الأمة والمشركين والذين يتعلقون بالقبور ويتعلقون التعلقات البدعية والشركية بالمعظَّمين، هؤلاء تُعينهم الشياطين على أشياء غريبة، بالأنواع التي ذكرها وأصناف أطال فيها من أمور علمية وأمور قُدَرية وأشباه ذلك، أو أنواع هذه الأجناس، هذا كلُّه إذا كان لمن ليس على الإيمان والتقوى؛ يعني أن أهل الشرك والبدع تحصل لهم أمور خوارق، وهذه من جهة إعانة الشياطين لهم بأمور كثيرة من تكليمهم الموتى، ومن حصول أنواع المعلومات والمعارف، وأحيانا يكون شفاء مرضى، وأحيانا يشفى بقراءته، وأحيانا يشفى بلمسه أو بكتابته أو ما أشبه ذلك، كل هذا يكون من الشيطان، الشيطان الذي يَنْخَسُ المرء ويُوجع، ثم إذا أتى هذا المشرك والمبتدع فحصل منه بعض الأشياء رفع يده، مثل ما قال ابن مسعود: إنما ذلك الشيطان ينخسها بيده.
فهذا أيضا فرقان مهمّ في أنّ أهل الشرك والبدع والتعلقات الشركية والقبور والأوثان ليسوا بأهل لكرامة الله جل وعلا؛ بل هم أهل لإهانة المولى جل جلاله، ولكن يحصل لهم خوارق من فعل الشياطين.
المسألة السابعة: أنّ الجن مكلفون مثل تكليف الإنس، وأنهم مخاطبون، وأنّ وليّ الله جل وعلا إذا عرضت له الجن والشياطين بأشياء تخدمه بها أو أحوال يفعلونها به فإنه يجب عليه أن يأمرهم وينهاهم كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ونهاهم، وأن يتلو عليهم القرآن، وأن يقيم عليم الحجة.
المسألة الثامنة: والأخيرة التي ختم بها الكتاب أنّ العبد إذا تبين له الحق والصواب في هذه المسائل، وعرف المقصد، وعرف سبب ونشأة الضلال، فيجب عليه أن يراجع الصواب وأن يتوب إلى الله جل وعلا فإن الحق ديْدن المؤمن، ولا يجوز له أن يعلم الحق ويكابر، ويترك ذلك إلى غيره، كما ذكر أنّ طائفة من الناس عرفوا الحق في ذلك، وأنّ ما يأتيهم من الشياطين، فاستغفروا وأنابوا وتركوا موجبات إعانة الشيطان من البدعة والشرك إلى آخره، إلى موجبات إعانة الرحمن جل جلاله وتوفيقه وهي السنة ومتابعة الهدي ولزوم طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم. وهذا ختام هذه الرسالة.
وأسأل الله جل جلاله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يُقِرَّ العلم في قلوبنا، وأن لا يحجبه عنا ولا عن أحبابنا بذنوبنا ومعاصينا، كما أسأله سبحانه أن يلهمني وإياكم كلمة التقوى، وأن يجعلنا من الدعاة إلى دينه والمعلمين شريعة نبيه عليه الصلاة والسلام للناس أجمعين، إنّه سبحانه جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(52/172)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق الإنس والجنة وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكون لمن تدرع بها أوقى جنه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى الجنة - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه أولى البأس والنجدة صلاة يعظم بها عليهم المنة وسلم تسليما كثيرا يقوم بالفرض والسنة كما علم الصلاة والسلام عليه وأسنه
وبعد فهذا كتاب جامع لذكر الجن وأخبارهم وما يتعلق بأحكامهم وآثارهم وكان السبب في تصنيفه ونسخه على هذا المنوال الغريب وترصيفه مذاكرة وقعت في مسألة نكاح الجن وإمكانه ووقوعه وضاق المجلس عن تقريرها وتحقيق المباحث فيها وتحريرها ثم رأيت أن هذه المسألة تقتضي مقدمات
الأولى تقرير وجود الجن خلافا لكثير من الفلاسفة وجماهير القدرية وكافة الزنادقة وغيرهم وفساد قول من أنكر وجودهم
الثانية تقرير أن لهم أجساما مشخصة رقيقة أو كثيفة تتطور وتتشكل في صور شتى ليمكن الوقاع ويتأتى لأنه إنما يتصور بين جسمين مماسين ويتفرع على هذا ذكر تحيزهم وأكلهم وشربهم وتناكحهم فيما بينهم لأن جسم الحي لا بد له من تحيز وتناول ما هو سبب لنموه وبقائه وبقاء جنسه بالتوالد
الثالثة بيان تكليفهم خلافا للحشوية وذلك لأن من جوز النكاح بين الإنس والجن أما أن يشترط في نسائهم الإيمان أو أن يكن من أهل الكتاب لأن ما اشترط في حل النساء الآدميات أولى أن يشترط في الجنيات لأن القائل
(1/1)
---(53/1)
بجواز نكاحهم لا يفرق ويتفرع على ذلك ذكر بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم وقبل بعثته إليهم بماذا كانوا مكلفين هل بعث إليهم نبي منهم كما يقوله الضحاك وغيره وقطع به أبو محمد بن حزم أو كان فهم نذر منهم ليسوا رسلا عن الله تعالى ولكن بثهم الله تعالى في الأرض فسمعوا كلام رسل الله عز وجل الذين هم من بني آدم وعادوا إلى قومهم من الجن فأنذروهم وهذا قول جماهير العلماء من السلف والخلف وهذا كما سمع النفر من الجن القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وعادوا إلى قومهم فقالوا انا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى وكان هذا قبل دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم واجتماعهم به ويتفرع على تكليفهم ثوابهم على الطاعة وعقابهم على المعصية ودخول كافرهم النار ومؤمنهم الجنة عند بعض العلماء ويتفرع على كل مقدمة مسائل تتأتى وتتفتح لها أبواب شتى يتشبث بعضها بأذيال بعض وينخرط في عقد سلكها درر لا يكاد نظمها ينفض ويستطرد في غضون ذلك نكت وأخبار وعيون وأحاديث مروية عنهم لا تنتهي ولحديث الجن شجون فاستخرت الله في إبراز هذا التصنيف وإحراز كثير مما ورد عنهم في هذا التأليف وجعلته جامعا لمهم أحكامهم حاويا لأحوالهم في رحلتهم ومقامهم رافعا لستورهم دافعا لما يتطورون عليه من الكيد في صدورهم كاشفا لضمائرهم كاشفا لمناورهم ورتبت على كل مقطع بوابا وفتحت لكل مطلع بابا وضمنته مائة وأربعين بابا وقد يزيد على ذلك بما ينخرط في هذه المسالك من التوابع التي يتعين إيرادها والفصول التي لا يحسن إفرادها وسميته آكام المرجان في أحكام الجان وبالله استعيذ من الشياطين ونزعاتهم وبه استعين على مردة الجن وطغاتهم وبقدرته أدفع سطوة شرورهم وبعزته أدرأ في نحورهم وبذكره أتحصن من كيدهم وبقوته أوهن ما قوى من أيديهم هو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الباب الأول
في بيان إثبات الجن والخلاف فيه
(1/2)
---(53/2)
قال إمام الحرمين في كتابه الشامل اعلموا رحمكم الله أن كثيرا من الفلاسفة وجماهير القدرية وكافة الزنادقة أنكروا الشياطين والجن رأسا ولا يبعد لو أنكر ذلك من لا يتدبر ولا يتشبث بالشريعة وإنما العجب من إنكار القدرية مع نصوص القرآن وتواتر الأخبار واستفاضة الآثار ثم ساق حملة من نصوص الكتاب والسنة وقال أبو قاسم الأنصاري في شرح الإرشاد وقد أنكرهم معظم المعتزلة ودل إنكارهم اياهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم فليس في إثباتهم مستحيل عقلى وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على اثباتهم وحق على اللبيب المعتصم بحبل الدين أن يثبت ما قضى العقل بجوازه ونص الشرع على ثبوته
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني وكثير من القدرية يثبتون وجود الجن قديما وينفون وجودهم ا لآن ومنهم من يقر بوجودهم ويزعم أنهم لا يرون لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع فيها ومنهم من قال إنما لا يرون لأنهم لا ألوان لهم ثم قال إمام الحرمين والتمسك بالظواهر والآحاد تكلف منا مع إجماع كافة العلماء في عصر الصحابة والتابعين على وجود الجن والشياطين والاستعاذة بالله تعالى من شرورهم ولا يراغم مثل هذا الاتفاق متدين متشبث بمسكه من الدين ثم ساق عدة أحاديث ثم قال فمن لم يرتدع بهذا وأمثاله فينبغي أن يتهم في الدين ويعترف بالانسلال منه على أنه ليس في إثبات الشياطين ومردة الجن ما يقدح في أصل من أصول العقل وقضية من قضاياه وأكبر ما يستروحون إليه خطور الجن بنا ونحن لا نراهم ولو شاءت
أبدلت لنا أنفسها وإنما يستبعد ذلك من لم يحط علما بعجائب المقدورات وقولهم في الجن يجرهم الى انكار الحفظة من الملائكة عليهم السلام ومن انتهى بهم المذهب الى هذا وضح افتضاحه
قلت وإنما طويت ذكر ما اورده إمام الحرمين من الآيات والأخبار لأن ذلك يأتى إن شاء الله تعالى مبسوطا في كل باب بحسبه
(1/3)
---(53/3)
وقال القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني أعلم ان الدليل على اثبات وجود الجن السمع دون العقل وذلك أنه لا طريق للعقل إلى إثبات أجسام غائبة لأن الشيء لا يدل على غيره من غير ان يكون بينهما تعلق كتعلق الفعل بالفاعل وتعلق الاعراض بالمحال ألا ترى أن الدلالة لما دلت على حاجة الفعل في حدوثه الى الفاعل وحاجته في كونه محكما الى كون فاعله قادرا عالما وكونه قادرا عالما يقتضى كونه حيا وكونه حيا لا آفة به يقتضى كونه سميعا بصيرا فدل الفعل على أن له فاعلا وأنه على أحوال مخصوصة على ما ذكرنا بينهما من التعلق قال ولا يعلم اثبات الجن باطرار ألا ترى أن العقلاء المكلفين قد اختلفوا فمنهم من يصدق بوجود الجن ومنهم من كذب ذلك من الفلاسفة والباطنية وإن كانوا عقلاء بالغين مأمورين منهيين ولو علم ذلك باضطرار لما جاز أن يختلفوا في ذلك بل لم يجز ان يشكوا فيه لو شككهم فيه مشكك ألا ترى أنه لا يجوز أن يختلف العقلاء في أن الارض تحتهم ولا أن السماء فوقهم ولا يجوز أن يشكوا في ذلك لو شككهم فيه مشكك وفي اختلافهم في اثبات الجن والأمر على ما هو عليه دلالة على أنه لا يجوز أن يعلم اثبات الجن ضرورة ثم قال والذي يدل على اثباتهم آي كثير في القرآن تغنى شهرتها عن ذكرها وأجمع أهل التأويل على ما يذهب اليه من اثباتهم بظاهرها ويدل أيضا على اثباتهم ما علمناه باضطرار من ان النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتدين بإثباتهم وما روى عنه في ذلك من الأخبار والسنن الدالة على اثباتهم أشهر من ان يشتغل بذكرها
(1/4)
---(53/4)
فصل قال الشيخ ابو العباس بن تيمية لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن أما اهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين وإن وجد فيهم من ينكر ذلك فكما يوجد في بعض طوائف المسلمين كالجهمية والمعتزلة من ينكر ذلك وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرون بذلك وهذا لأن وجود الجن تواترت به اخبار الانبياء عليهم السلام تواترا معلوما بالاضطرار ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة مأمورون منهيون ليسوا صفات وأعراضا قائمة بالانسان أو غيره كما يزعمه بعض الملاحدة فلما كان أمر الجن متواترا عن الانبياء عليهم السلام تواترا ظاهرا يعرفه العامة والخاصة لم يمكن طائفة من طوائف المؤمنين بالرسل أن ينكرهم فالمقصود هنا ان جميع طوائف المسلمين يقرون بوجود الجن وكذلك جمهور الكفار كعامة أهل الكتاب وكذلك عامة مشركى العرب وغيرهم من أولاد سام والهند وغيرهم من أولاد حام وكذلك جمهور الكنعانيين واليونانيين وغيرهم من أولاد يافث فجماهير الطوائف تقر بوجود الجن بل يقرون بما يستجلبون به معاونة الجن من العزائم والطلاسيم سواء كان ذلك سائغا عند أهل الأيمان أو كان شركا فإن المشركين يقراون من العزائم والطلاسم والرقى ما فيه عبادة للجن وتعظيم لهم وعامة ما بأيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقى التي لا تفقه بالعربية فيها ما هو شرك بالجن ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقى التى لا يفقه بالعربية معناها لأنها مظنة الشرك وإن لم يعرف الراقي أنها شرك وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص في الرقى ما لم تكن شركا وقال من استطاع ان ينفع أخاه فليفعل وقد كان للعرب ولسائر الأمم من ذلك أمور يطول وصفها وأمور وأخبار
العرب في ذلك متواترة عند من يعرف أخبارهم من علماء المسلمين وكذلك عند غيرهم ولكن المسلمين أخبر بجاهلية العرب منهم بجاهلية سائر الأمم
(1/5)
---(53/5)
فصل ولم ينكر الجن الا شرذمة قليلة من جهال الفلاسفة والأطباء ونحوهم أما أكابر القوم فالمأثور عنهم إما الإقرار بهم وإما أن يحكى عنهم قول في ذلك وأما المعروف عن أبقراط أنه قال في بعض المياه إنه ينفع من الصراع لست أعني الصرع الذي يعالجه أصحاب الهياكل وإنما أعني الصرع الذي تعالجه الأطباء وأنه قال طبنا مع طب أهل الهياكل كطب العجائز مع طبنا وليس لمن أنكر ذلك حجة يعتمد عليها تدل على النفي وإنما معه عدم العلم إذا كانت صناعته ليس فيها ما يدل على ذلك كالطبيب الذي ينظر في البدن من جهة صحته ومرضه الذي يتعلق بمزاجه وليس في هذا تعرض لما يحصل من جهة النفس ولا من جهة الجن وإن كان قد علم من طبه ان للنفس تأثيرا عظيما في البدن أعظم من تأثير الأسباب الطبية وكذلك للجن تأثير في ذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم أ ه
وهو البخار الذي تسميه الأطباء الروح الحيواني المنبعث من القلب الساري في البدن الذي به حياة البدن
فصل قال ابن دريد الجن خلاف الإنس ويقال حنه الليل وأحنه وحن عليه وغطاه في معنى واحد إذا ستره وكل شيء استتر عنك فقد جن عنك وبه سميت الجن وكان أهل الجاهلية يسمون الملائكة جنا لاستتارهم عن العيون والجن والجنة واحد والجنة ما واراك من السلاح قال والحن بالحاء زعموا أنهم ضرب من الجن قال الراجز
يلعبن أحوالي من حن وحن
قال ابو عمر الزاهد الحن كلاب الجن وسفلتهم وقال الجوهري الجان ابو الجن والجمع جينان مثل حائط وحيطان والجان إيضاحية بيضاء قلت وقد وقع في كلام السهيلي في النتائج ان الجن تشتمل على الملائكة وغيرهم مما اجتن عن الأبصار فإنه قال ومما قدم للفصل والشرف تقديم الجن على الإنس في أكثر المواضع لأن الجن تشتمل على الملائكة وغيرهم مما اجتن عن الابصار قال الله تعالى ) وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ( وقال الاعشى
وسخر من جن الملائك سبعة
قياما لديه يعملون بلا أجرل(53/6)
(1/6)
---
فأما قوله تعالى ) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ( وقوله تعالى ) لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ( وقوله تعالى ) وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا (
فإن لفظ الجن ههنا لايتناول الملائكة بحال لنزاهتهم عن العيوب وأنه لا يتوهم عليهم الكذب ولا سائر الذنوب فلما لم يتناولهم عموم اللفظ لهذه القرينة بدأ بلفظ الإنس لفضلهم وكمالهم
وقال ابن عقيل إنما سمي الجن جنا لاستجنانهم واستتارهم عن العيون منه سمي الجنين جنينا والجنة للحرب جنة لسترها والمجن مجنا لستره للمقاتل في الحرب وليس يلزم بأن ينتقص هذا بالملائكة لأن الأسماء المشتقة لا تناقض ألا ترى أن الخابئة سميت بذلك لاشتقاقها من الخبئ وأنه يخبأ فيها ولا يقال يبطل بالصندوق فإنه يخبأ فيه ولا يسمى صندوقا والشياطين
العصاة من الجن وهم ولد إبليس والمردة أعتاهم وأغواهم وهم أعوان إبليس ينفذون بين يديه في الأغواء كأعوان الشياطين قال الجوهري كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان قال جرير
أيام يدعونني الشيطان من غزل
وهن يهوينني إذ كنت شيطانا
والعرب تسمي الحية شيطانا قال يصف ناقته
تلاعب مثنى حضرمي كأنه
تعمج شيطان بذي خروع قفر
وقوله تعالى ) طلعها كأنه رؤوس الشياطين (
قال الفراء فيه ثلاثة أوجه احدها ان يشبه طلعها في قبحه برءوس الشياطين لأنها موصوفة بالقبح والثاني أن العرب تسمى به بعض الحيات والشيطان نونه أصلية قال امية
أيما شاطن عصاه عكاه
ثم يلقى في السجن والأغلال
ويقال أيضا إنها زائدة فإن جعلته فيعالا من قولهم شيطن الرجل صرفته وإن جعلته من تشيطن لم تصرفه لأنه فعلان
وقال ابو البقاء الشيطان فيعال من شطن يشطن إذا بعد ويقال فيه شاطن وتشيطن وسمي بذلك كل متمرد لبعد غوره في الشر وقيل هو فعلان من شاط يشيط إذا هلك فالمتمرد هالك بتمرده ويجوز ان يكون سمي بفعلان لمبالغته في إهلاك غيره
(1/7)
---(53/7)
وقال القاضي ابو يعلى الشياطين مردة الجن وأشرارهم وكذلك يقال في الشرير مارد وشيطان من الشياطين وقد قال تعالى ) شيطان مارد (
وقال الجوهري شطن عنه بعد وأشطنه ابعده
وقال ابن السكيت شطنه يشطنه شطنا إذا خالف عن نية وجهه وبئر شطون بعيدة القعر ونوى شطون بعيد
وقال ابن دريد زعم قوم من اهل اللغة أن اشتقاق ابليس من الابلاس كأنه إبلس أي يئس من رحمة الله وإبلس الرجل إبلاسا فهو مبلس إذا يئس
قلت وهذا يدل على أن إبليس إنما سمي بهذا الاسم بعد لعن الله تعالى إياه وقد روى ابن ابي الدنيا وغيره عن ابن عباس قال كان اسم إبليس حيث كان مع الملائكة عزازيل وكان من الملائكة ذوي الأجنحة الأربعة ثم إبليس بعد وعن ابي المثنى قال كان اسم ابليس نائل فلما أسخط الله تعالى سمي شيطانا وعن ابن عباس رضي الله عنه لما عصى إبليس لعن وصار شيطانا وعن سفيان قال كنية إبليس ابو كدوس
وقال ابو البقاء وإبليس اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف وقيل هو عربي واشتقاقه من الإبلاس ولم ينصرف للتعريف ولأنه لا نظير له في الاسماء وهذا بعيد على أن في الأسماء مثله نحو إخريط وإحفيل وإصليت
قال ابو عمر بن عبد البر الجن عند أهل الكلام والعلم باللسان منزلون على مراتب فإذا ذكروا الجن خالصا قالوا جني فإن أرادوا أنه ممكن يسكن مع الناس قالوا عامر والجمع عمار فإن كان ممن يعرض للصبيان قالوا أرواح فإن خبث وتعزم فهو شيطان فإن زاد على ذلك فهو مارد فإن زاد على ذلك وقوى امره قالوا عفريت والجمع عفاريت والله تعالى أعلم بالصواب
الباب الثاني في ابتداء خلق الجن
(1/8)
---(53/8)
قال ابو حذيفة اسحاق بن بشر القرشي في المبتدأ حدثنا عثمان حدثنا الأعمش عن بكير بن الأخنس عن عبد الرحمن بن سابط القرشي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال خلق الله تعالى بني الجان قبل آدم بألفي سنة أ ه أخبرنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وكان الجن سكان الأرض والملائكة سكان السماء وهم عمارها لكل سماء ملائكة ولكل اهل سماء صلاة وتسبيح ودعاء فكل سماء فوق سمائهم أشد عبادة وأكثر دعاء وصلاة وتسبيحا من الذين تحتهم فكانت الملائكة عمار السماء والجن عمار الأرض أ ه
وقال بعضهم عمروا الارض الفي سنة وقال بعضهم اربعين سنة وقال اسحاق قال ابو روق عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خلق الله سوميا ابو الجن وهو الذي خلق من مارج من نار قال تبارك وتعالى تمن قال أتمنى أن نرى ولا نرى وأن نغيب في الثرى وأن يصير كهلنا شابا فأعطي ذلك فهم يرون ولا يرون وإذا ماتوا غيبوا في الثرى ولا يموت كهلهم حتى يعود شابا يعني مثل الصبي يرد الى أرذل العمر قال وخلق الله تعالى آدم فقيل له تمن قال فتمنى الجبل فأعطي الجبل وقال إسحاق حدثني جويبر وعثمان بإسنادهما أن الله تعالى خلق الجن وأمرهم بعمارة الارض فكانوا يعبدون الله جل ثناؤه حتى طال بهم الأمد فعصوا الله عز وجل وسفكوا الدماء وكان فيهم ملك يقال له يوسف فقتلوه فأرسل الله تعالى عليهم
جندا من الملائكة كانوا في السماء الدنيا كان يقال لذلك الجند الجن فيهم إبليس وهو على أربعة آلاف فهبطوا فأفنوا بني الجان من الأرض وأجلوهم عنها وألحقوهم بجزائر البحر وسكن إبليس والجند الذين كانوا معه الأرض فهان عليهم العمل وأحبوا المكث فيها
(1/9)
---(53/9)
حدثنا محمد بن اسحاق عن حبيب بن أبي ثابت أو غيره أن إبليس وجنوده أقاموا في الأرض قبل خلق آدم أربعين سنة حدثنا إدريس الأودي عن مجاهد قال إبليس كان على سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض وكان مكتوبا في الرفيع عند الله تعالى أنه قد سبق في علمه أنه سيجعل خليفة في الأرض فوجد ذلك إبليس فقرأه وأبصر دون الملائكة فلما ذكر الله عز وجل للملائكة أمر آدم عليه السلام اخبر إبليس الملائكة أن هذا الخليفة الذي يكون تسجد له الملائكة وأسر ابليس في نفسه أنه لن يسجد له أبدا وأخبر الملائكة أن الله تعالى يخلف خليفة يسفك دماء وأنه سيأمر الملائكة فيسجدون لذلك الخليفة قال فلما قال الله عز وجل ) إني جاعل في الأرض خليفة ( حفظوا ما كان قال لهم ابليس قبل ذلك فقالوا ) أتجعل فيها من يفسد فيها ( الآية وأخبرني مقاتل وجويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما أراد الله عز وجل أن يخلق آدم قال للملائكة ) إني جاعل في الأرض خليفة ( قالت الملائكة ) أتجعل فيها من يفسد فيها ( وذلك أنهم أحبوا المكث في الأرض واستخفوا للعبادة فيها قال ابن عباس لم يعلموا الغيب لكنهم اعتبروا أعمال ولد آدم بأعمال الجن فقالوا ) أتجعل فيها من يفسد فيها ( اه
كما أفسدت الجن ويسفك الدماء كما سفكت الجن وذلك إنهم قتلوا نبيا لهم يقال له يوسف وأخبرنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان الله تعالى بعث اليهم رسولا فأمرهم بطاعته وأن لا يشركوا به شيئا وأن لا يقتل بعضهم بعضا فلما تركوا طاعة الله تعالى وقتلوا
(1/10)
---(53/10)
قالت الملائكة ) أتجعل فيها ( الآية فرد عليهم قولهم وأخبرهم أنهم لم يبلغوا عنصر علم الله تعالى في آدم عليه السلام فخافت الملائكة أن يكونوا قد عصوا الله تعالى فيما ردوا عليه فلاذوا بالعرش يطوفون به ويستغفرون من ذلك وبقول الله عز وجل ) إني أعلم ما لا تعلمون ( واعلم أن آدم هو خليفة الأرض وولده عمارها وسكانها وأنتم عمار السماء وأخبرنا ابن جريج قال الله تعالى ) إني جاعل في الأرض خليفة ( فتكلموا يعني بما هو كائن من خلق آدم عليه السلام وقال الله تعالى لهم ) إني أعلم ما لا تعلمون ( ) وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ( فأما الذين كتموا فلما قال الله تعالى ) إني جاعل في الأرض خليفة ( فرجعوا بما قد سمعت ليخلق الله تعالى ربنا ما شاء فوالله لا يخلق ربنا خلقا إلا كنا أكرم عليه وأعلم منه فلما أسجدهم لآدم قالوا هو أكرم على الله تعالى منا غير أنا أعلم منه فلما أنبأهم بأسمائهم علموا أن آدم عليه السلام أعلم منهم
قال الزمخشري في ربيع الأبرار أبو هريرة يرفعه إن الله تعالى خلق الخلق أربعة أصناف الملائكة والشياطين والجن والإنس ثم جعل هؤلاء عشرة أجزاء فتسعة منهم الملائكة وجزء واحد الشياطين والإنس والجن ثم جعل هؤلاء الثلاثة عشرة أجزاء فتسعة منهم الشياطين وواحد الجن والإنس ثم جعل الجن والإنس عشرة أجزاء فتسعة منهم الجن وواحد منهم الإنس قلت فعلى هذا يكون نسبة الإنس من الخلق كنسبة الواحد من الألف ونسبة الجن من الخلق كنسبة التسعة من الألف ونسبة الشياطين من الخلق كنسبة التسعين من الألف ونسبة الملائكة من الخلق كنسبة التسعمائة من الألف والله اعلم
الباب الثالث في أن أصل الجن النار كما أن أصل الإنس الطين
قال الله تعالى ) والجان خلقناه من قبل من نار السموم ( وقال تعالى ) وخلق الجان من مارج من نار ( وقال تعالى حكاية عن إبليس ) خلقتني من نار وخلقته من طين (
(1/11)
---(53/11)
وقال القاضي عبد الجبار الدليل على هذ السمع دون العقل وذلك لأن الجواهر كلها قد دل الدليل على أنها متماثلة لأن كل واحد منها يسد مسد الآخر ويقوم مقامه في الصفة التي تخصه إذا كان على مثل صفته وهذا هو حد المثلين وإنما تختلف صفاتهما وهيئتهما لأغراض تخص بعضها دون بعض وإذا صح هذا فالله قادر على أن يفعل ما شاء من التأليف ويوجد من الألوان وسائر الأعراض ويركب ما شاء من ذلك تركيبا يحتمل الأعراض المحتاجة إلى تركيب مخصوص كالحياة التي يحتاج في وجودها إلى تركيب مخصوص والعلم إلى بنية القلب وكذلك الإرادة وما جرى هذا المجرى وإذا كان هذا هكذا دل على أن لا طريق لنا إلى أن نعلم ان الله عز وجل خلق اصل الجن من قبيل جوهر مخصوص دون قبيل آخر من جهة العقل ولا نعلم ذلك أيضا باضطرار لأن ذلك لو علم باضطرار لم يقع اختلاف في اثباتهم لأن العلم بما خلقوا منه فرع على العلم بأنهم مخلوقون ولا يجوز أن يعلم الفرع باضطرار ويعلم الأصل باكتساب لأن ما يعلم باكتساب يجوز أن يجهل وما يعلم باضطرار لا يجوز أن يجهل مع كمال العقل وبطلان هذا يدل على أنه
لا يجوز أن يعلم أصل الجن ما هو باضطرار للاختلاف في إثباتهم فقد بان أن ذلك لا يعلم باضطرار كما لا يعلم باكتساب من جهة العقل فان قيل كيف تجعلون في قول إبليس ) خلقتني من نار ( دلالة مع أنه يجوز أن يكذب في ذلك أو يظنه ولا يكون له به علم قيل له موضع الدلالة من ذلك قول الله تعالى ولولم يكن الأمر على ما قال لما ترك الله تكذيبه لأن ترك تكذيب الكاذب ممن لا يجوز عليه الخوف والجهل قبيح ا ه
(1/12)
---(53/12)
قال وبهذا بعينه احتج شيوخنا على المخبر بالاستطاعة بقول الجن لسليمان عليه السلام ) أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ( فزعم أن قوى على الإتيان بعرشها قبل أن يفعل الإتيان فلم يجعل قول الجنى دليلا على ذلك وإنما جعلوا سكوت سليمان على تكذيبه والإنكار عليه حجة لأنه لو لم يكن قادرا على الإتيان به لم يدع الإنكار عليه وإذا كان هذا هكذا بطل الاعتراض المذكور بأن صحة ما تقدم ذكره على أنا لا نعلم خلافا بين المسلمين في ذلك ولا يشك أن هذا كان من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن قيل في النار من اليبس ما لا يصح وجود الحياة فيها والحياة في وجودها تحتاج إلى رطوبة كما تحتاج إلى بنية مخصوصة وإلى الروح التي هي النفس المتردد عند شيخكم أبي هاشم إن كان شيخكم أبو علي يجوز وجود الحياة مع عدم النفس ويقول إن أهل النار لا يتنفسون وإذا صح هذا فالرطوبة لا بد منها في وجود الحياة وكذلك البنية فكيف يصح لكم ما قلتم فهلا لديكم هذا على أن الله تعالى أراد بقوله ) خلقناه من قبل من نار السموم ( غير ما ذهبتم اليه وإن الآية ليست على ظاهرها
قيل له إن الامر وإن كان على ما ذكرت فإن الله تعالى قادر على أن يفعل رطوبة في تلك النار بمقدار ما يصح وجود الحياة فيها لأن مجاورة الماء والنار لا تستحيل يدلك على هذا الماء المسخن فإنه إنما يسخن من
(1/13)
---(53/13)
أجزاء من النار تتخلل في خلل الماء فلهذا متى قام في الهواء رقت أجزاء النار وفارقت الماء وعاد إلى ما كان عليه من البرودة ألا ترى أن البخار الذي يرتفع منه صعد إنما يكون ذلك لارتفاع أجزاء النار لأن أجزاءها خفيفة والخفيف هو ما فيه اعتماد صعدا والماء ثقيل لأن فيه اعتمادا سفلا فالبخار وإن كان فيه أجزاء من الرطوبة فإن أكثر ما فيه أجزاء النار فلغلبتها عل الاجزاء الرطبة ترتفع معها وتصير حكم الاجزاء المائية في لطافتها حتى ترفعها أجزاء النار كالقطن وما يجري مجراه مما ترفعه النار بصعودها فدل على صحة ما ذهبنا اليه من مجاورة الماء والنار على هذا السبيل الذي بيناه وإذا صحت هذه الجملة لم يمتنع إحداث الله تعالى أجزاء من الرطوبة في خلل النار حتى يصح وجود الحياة وليس في البنية ولا في الروح لهم تعلق لأن النار تحتمل البنية وكذلك تحتمل مجاورتها الريح والروح هو الهواء للنار قال فإن قيل إذا لم يجوزوا لغة استثناء الشيء من غير جنسه ألا ترى أنك لا تقول عندي عشرة دراهم إلا ثوبا وما شاكله فكيف يجوز استثناء إبليس من جملة الملائكة إذا لم يكن من جنسهم ومن أصلهم مع أن الله تعالى خاطبنا بلغة العرب فهلا دلكم هذا على أنه من جنس الملائكة وأن اصل الجن ليس هو النار
قلنا انما جاز ذلك لما جمعهم وإياه الحكم المقصود وهو الأمر بالسجود وإذا كان هذا سائغا في اللغة وكان مشهورا عند أهلها سقط السؤال وصح ما ذكرناه في هذا الفصل
وقال ابو الوفاء بن عقيل في الفنون سأل سائل عن الجن فقال الله تعالى اخبر عنهم أنهم من نار بقوله تعالى ) والجان خلقناه من قبل من نار السموم ( وأخبر أن الشهب تضرهم وتحرقهم فكيف تحرق النار النار فقال الجواب وبالله التوفيق
(1/14)
---(53/14)
اعلم أن الله تعالى أضاف الشياطين والجن إلى النار حسب ما أضاف الإنسان إلى التراب والطين والفخار والمراد به في حق الانسان أن أصله الطين وليس الآدمي طينا حقيقة لكنه كان طينا كذلك الجان كان نارا في
الأصل والدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض لي الشيطان في صلاتي فخنقته فوجدت برد ريقه على يدي ولولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لقتلته أ ه
ومن يكون نارا محرقة كيف يكون ريقه باردا ولا له ريق رأسا لكن كان يقول له لسان وذؤابة من نار محرقة فعلم صحة ما قلنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - شبههم بالنبط ولولا أنهم على أشكال ليست نارا لما ذكر الصور وترك الالتهاب والشرر انتهى
قلت هكذا لفظه ولولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لقتلته وهذا اللفظ غير معروف بل المعروف في الصحيح والسنن لولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح موثقا حتى تراه الناس وفي الصحيحين ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه ومما يدل على أن الجن ليسوا باقين على عنصرهم الناري قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن عدو الله تعالى إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي أ ه وقوله - صلى الله عليه وسلم - رأيت ليلة أسري بي عفريتا من الجن يطلبني بشعلة من نار كلما التفت رأيته أ ه
وبيان الدلالة منه أنهم لو كانوا باقين على عنصرهم الناري وأنهم نار محرقة لما احتاجوا إلى أن يأتي الشيطان أو العفريت منهم بشعلة من نار ولكانت يد الشياطين أو العفريت أو شيء من أعضائه إذا مس ابن آدم احرقه كما يحرق الآدمي النار الحقيقية بمجرد المس فدل على أن تلك النار انغمرت في سائر العناصر حتى صار البرد ربما كان هو الغالب في بعض الأحيان إما للأعضاء نفسها أو لما تحلل من البدن كاللعاب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى برد لسانه على يدي وفي رواية حتى برد لعابه ولا شك أن الله تعالى جعل الأقوات منمية للأجسام ويكون
(1/15)
---(53/15)
النمو استأصل عن الغذاء على حسبه في الحرارة والبرودة على اختلافهما في الرطوبة واليبوسة ولا شك أنهم يأكلون ويشربون مما نأكل منه ونشرب ويحصل لأجسامهم بذلك نمو وبقاء على حسب المأكول في مأكولهم الحار والبارد الرطبان واليابسان فهذا مع التوالد قد نقلهم عن العنصر الناري وصار فيهم الطبائع الأربع
قال القاضي أبو بكر ولسنا ننكر مع ذلك يعني أن الأصل الذي خلقه منه النار أن يكثفهم الله تعالى ويغلظ أجسامهم ويخلق لهم أعراضا تزيد على ما في النار فيخرجون عن كونهم نارا ويخلق لهم صورا وأشكالا مختلفة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
الباب الرابع
في بيان أجسام الجن
قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي
الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة ويجوز أن تكون كثيفة خلافا للمعتزلة في قولهم إنهم أجسام رقيقة ولرقتهم لا نراهم والدلالة على ذلك علمنا بأن الاجسام يجوز أن تكون رقيقة ويجوز أن تكون كثيفة ولا يمكن معرفة أجسام الجن أنها رقيقة أو كثيفة إلا بالمشاهدة أو الخبر الوارد عن الله تعالى أو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلا الأمرين مفقود فوجب أن لا يصح أنهم أجسام رقيقة أصلا فأما قولهم إن الجن إنما كانت أجساما رقيقة لأننا لا نراها وإنما نراها لرقتها فلا يصح لأننا قد دللنا على أن الرقة ليست بمانعة عن الرؤية في باب الرؤية ويجوز أن تكون الأجسام الكثيفة موجودة ولا نراها إذا لم يخلق الله تعالى فينا الإدراك وقال ابو القاسم الانصاري في شرح الارشاد حكاية عن القاضي ابي بكر ونحن نقول إنما برأهم من رآهم لأن الله تعالى خلق له رؤية وأن من لم يخلق له الرؤية لا يراهم لأنهم أجسام مؤلفة وجثث وقال كثير من المعتزلة إنهم أجسام رقيقة بسيطة
(1/16)
---(53/16)
قال القاضي وهذا عندنا جائز غير ممتنع إن ثبت به سمع ولا سمع نعلمه في ذلك فإن قال قائل كيف يمكن أن يكون الجن مخلوقين من نار مع ما علم أن أجزاء النار وتلهبها يقتضي افتراق اجزائها وعدم ثبوت بنية لها قيل قد ثبت أن الحياة لا تتعلق بحملة الجسم وأن الحي
بها محلها وأنه لو استحال خلقها في الحي دون اتصاله ببنية لم يحتج محلها إلى كونه من بنية مخصوصة على أننا لو قلنا إن الحياة تحتاج إلى بنية لم يمتنع أن يبني الله تعالى من جسم النار وهي على ما هي عليه من التلهب والحركة أجزاء مؤتلفة غير متباينة فإن قيل كيف يجوز كونهم وكون الملائكة رقاق الأجسام مع عظم قدره وحملهم العرش وقلبهم لمدن وسد جبريل ما بين الخافقين بجناحه قيل لا يمتنع أن يخلق الله تعالى في أجسام الملائكة والجن وإن كانوا من نار وريح ما يصير بها إلى حد يحتمل زيادة القدر
وقال القاضي عبد الجبار الهمداني فصل في كون اجسامهم رقيقة ولضعف ابصارنا لا نراهم لا لعلة أخرى لو قوي الله تعالى أبصارنا أو كثف أجسامهم لرأيناهم
(1/17)
---(53/17)
اعلم أن الذي يدل على رقة أجسامهم قوله تعالى ) إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ( فلو كانوا لنا مرئيين وإن كانوا بقربنا ولا حائل بيننا وبينهم بحيث يوسوسون إلينا وكانوا كثافا لرأيناهم كما يرونا كما يرى بعضهم بعضا وفي علمنا بخلاف ذلك من حالنا وحالهم دليل على صحة ما قلناه قال وقد ذكر شيوخنا أن الرقة أحد الموانع من رؤية المرئيات بشرط ضعف البصر كالبعد واللطافة ولهذا قالوا أنه يجوز أن نراهم إذا قوى الله تعالى شعاع ابصارنا كما يجوز أن نراهم لو كثف الله تعالى أجسامهم وعلى هذا الوجه يرى المعاين الملائكة دون من يحضره ويرونهم الأنبياء جميعا ويرون الجن أيضا دون غيرهم على أنهم لو كانوا كثافا لحجز الجني عن رؤية من بحضرتنا إذا تخلل فيما بيننا ويكون حكمه حكم الحائط وسائر الأجسام الكثيفة أنه متى كان ذلك بيننا وبين من يراه لو حجزها حجزت ومنعت عن رؤيته وفي وجداننا الأمر بخلاف ذلك في سائر الأوقات التي نجد الوسواس في قلوبنا على طريقة واحدة في أنه نرى ما بحضرتنا ما يحجز بيننا وبينه حائط وحاجز من بسائر الأجسام دلالة على صحة ما ذكرناه من رقة الأجسام قال وقد استدل غير شيوخنا على ان المانع من رؤية الجن هو أن الله تعالى لا يحدث فيهم من الألوان ما لو فعله لرأيناهم وليس المانع من الرؤية الرقة
(1/18)
---(53/18)
قال القاضي عبد الجبار وهذا لا يصح لوجوه منها أن الله تعالى يراهم ويرى بعضهم بعضا ولو كان الأمر كما قالوا لما جاز أن يروا لأنه جعل العلة في جواز كونهم مرئيين هو إحداث لون مخصوص فإذا لم يحدث لم يكونوا مرئيين وأن يكون الله تعالى أحدث هذا اللون فلهذا رآهم ورأى بعضهم بعضا فيجب أن نراهم نحن وفي عالمنا بأن الأمر بخلاف ذلك دليل على بطلان ما ذكر من الاستدلال ومنها أنه لا يجوز خلو الأجسام من اللون أو ضده عن شيخنا أبي علي فلا بد من أن يكون فيهم لون من الألوان وكل ما يتضاد على الجسم ويدرك بحاسة فلا بد من أن يدرك تلك الحاسة ما ينافيه وبضده وقد جعل الله تعالى في الجن اللون الذي ذكره هذا القائل ورأيناهم ثم نفى هذا اللون بلون آخر لوجب أيضا على ما قلنا إن نراهم فإذا كان حكم كل لون هذا الذي ادعاه في أنه يدرك بالحاسة التي يدرك بها هذا اللون ويدرك الجن لأجله ثم لم تخل الأجسام من الألوان كلها على مذهب شيخنا أبي علي ووجب أن نراهم وفي علمنا باضطرار أن الأمر بخلاف هذا دليل على سقوط هذا الاعتراض وأما على قول أبي هاشم فإنه يجيز خلو الأجسام من الأعراض كثيفة كانت أو رقيقة سوى الألوان ولو كانت كثيفة لم يكن بد من أن يراها الرائي مع عدم السواتر وكيف يصح له هذا الاستدلال مع هذا القول على أن الجسم يرى وإن كان يرى معه اللون ألا ترى أن الرائي يرى حدود الجسم وطوله وعرضه وهذه صفات الأجسام لا صفات الألوان فدل على ان وجود اللون في الجسم ليس من شرطه كونه مرئيا فقد بان بهذه الوجوه بطلان هذا الاستدلال وأن الدليل في كوننا غير رائين لهم إنما هو رقة أجسامهم على ما بينا
(1/19)
---(53/19)
قال وإنما يدرك بعضهم بعضا للطافة حواسهم وللطافة تأثير في هذا الإدراك ألا ترى أن الإنسان يدرك بحدقته من الحر والبرد مالا يدركه بأسفل قدميه وذلك للطاقة الحدقة ونحن أسفل القدم وصلابته فإن قيل في الحاجة في رؤية اللطيف إلى قوة شعاع البصر في رؤيته قيل له الذي يدل على الحاجة إلى قوة شعاع في رؤية اللطيف لا يحتاج إلى مثل ذلك في الكثيف ألا ترى أنا لا نرى الريح ما دامت رقيقة لطيفة فإذا كثفت باختلاط الغبار رأيناها وهذا ظاهر فلذلك قلنا لو كثف الله تعالى أجسام
الجن وقوى شعاع أبصارنا على ما هو عليه من غير أن يقوى لرأيناهم والله تعالى أعلم بالصواب
الباب الخامس
في بيان أصناف الجن
قال أبو القاسم السهيلي الجن ثلاثة أصناف كما جاء في حديث صنف على صور الحيات وصنف على صور كلاب سود وصنف ريح طيارة أو قال هفافة ذو أجنحة وزاد بعض الرواة صنف يحلون ويظعنون وهم السعالى قال ولعل هذا الصنف هو الذي لا يأكل ولا يشرب إن صح أن الجن لا تأكل ولا تشرب يعني الريح الطيارة قلت روى ابن أبي الدنيا في كتاب مكايد الشيطان فقال حدثنا الحسين ابن علي بن الأسود العجلي حدثنا أبو شامة حدثنا يزيد بن سفيان أبو فروة الرهاوي حدثنا أبو منيب الحمصي عن يحيى بن كثير عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي الدرداء قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلق الله تعالى الجن ثلاثة أصناف صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض وصنف كالريح في الهوى وصنف عليهم الحساب والعقاب وخلق الله تعالى الإنس ثلاثة أصناف صنف كالبهائم أ ه
(1/20)
---(53/20)
قال الله تعالى ) لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ( الآية وصنف أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين وصنف في ظل الله تعالى يوم لا ظل الا ظله وأورده في كتاب الهواتف مقتصرا على ذكر الجن فقط وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل العامري الخرائطي في كتاب هواتف الجنان وحدثنا إبراهيم بن هانئ النيسابوري
حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جويبر ابن نفير عن ابي ثعلبة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجن على ثلاثة اصناف صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وكلاب وصنف يحلون ويظعنون قال الزمخشري رأيت للأعاريب من الأعاجيب في باب الجن ما لا يوصف ويقولون من الجن جنس صورته على نصف صورة الانسان واسمه شق وأنه يعرض للمسافر إذا كان وحده وربما أهلكه
الباب السادس في بيان تطور الجن وتشكلهم
ولا شك ان الجن يتطورون ويتشكلون في صور الإنس والبهائم فيتصورون في صور الحيات والعقارب وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وفي صور الطير وفي صور بني آدم كما أتى الشيطان قريشا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر قال الله تعالى ) وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب (
(1/21)
---(53/21)
وكما روى أنه تصور في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة للتشاور في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوك كما قال الله تعالى ) وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ( وروى الترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديث صيفي مولى أبي السائب عن أبي سعيد الخدري يرفعه أن بالمدينة نفرا من الجن قد أسلموا فإذا رأيتم من هذه الهوام شيئا فأذنوه ثلاثا فإن بدا لكم فاقتلوه
فصل قال القاضي ابو يعلى ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور وإنما يجوز أن يعلمهم الله تعالى كلمات وضربا
من ضروب الأفعال إذا فعله وتكلم به نقله الله تعالى من صورة إلى صورة فيقال إنه قادر على التصوير والتخييل على معنى أنه قادر على قول إذا قاله وفعله نقله الله تعالى عن صورته إلى صورة أخرى يجري العادة وأما أنه يصور نفسه فذلك محال لأن انتقالها من صورة إلى صورة إنما يكون بنقض البنية وتفريق الأجزاء وإذا انتقضت بطلت الحياة واستحال وقوع الفعل من الجملة وكيف تنقل نفسها القول في تشكيل الملائكة مثل ذلك قال والذي روى أن إبليس تصور في صورة سراقة بن مالك وأن جبريل تمثل في صورة دحية وقوله تعالى ) فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ( محمول على ما ذكرنا وهو أنه أقدره الله تعالى على قول قاله فنقله الله تعالى من صورته إلى صورة أخرى قلت روى أبو بكر بن ابي الدنيا في كتاب مكايد الشيطان فقال حدثنا ابو خيثمة حدثنا هشيم عن الشيباني عن يسير بن عمرو قال ذكرنا الغيلان عند عمر فقال إن أحدا لا يستطيع أن يتغير عن صورته التي خلقه الله تعالى عليه ولكن لهم سحرة كسحرتكم فإذا رأيتم ذلك فأذنوا
(1/22)
---(53/22)
حدثنا محمد بن يزيد الآدمي حدثنا معن بن عيسى عن جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الغيلان قال هم سحرة الجن ورواه ابراهيم بن هراثة عن جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد عن جابر ووصله
حدثنا محمد بن إدريس حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب عن يونس عن الحسن عن سعد بن أبي وقاص قال أمرنا إذا رأينا الغول أن ننادي بالصلاة
وقال أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي حدثنا أحمد ابن بكار بن أبي ميمونة حدثنا غياث عن خصيف عن مجاهد قال كان الشيطان لا يزال يتزين لي إذا قمت إلى الصلاة في صورة ابن عباس قال
فذكرت قول ابن عباس فجعلت عندي سكينا فتزين لي فحملت عليه فطعنته فوقع وله وجبة فلم أره بعد ذلك وذكر العتبي أن ابن الزبير رأى رجلا طوله شبران على بردعة رحله فقال ما أنت قال إزب قال وما إزب قال رجل من الجن فضربه على رأسه بعود السوط حتى ناص أي هرب ( إزب بكسر الهمزة وإسكان الزاي وقد قال كثير من الناس إن الملائكة والجن إنما توصف بأنها قادرة على التمثل والتصور على معنى أنها تقدر على تخييل وفعل ما يتوهم عنده انتقالها عن صورها فيدرك الراؤون ذلك تخييلا ويظنون أن المرائي ملك أو شيطان وإنما ذلك خيالات واعتقادات يفعلها الله تعالى عند فعل البشر للناظرين فأما أن ينتقل أحد من صورته على الحقيقة إلى غيرها فذلك محال
(1/23)
---(53/23)
فصل قد قدمنا أن مذهب المعتزلة أن الجن أجسام رقاق ولرقتها لا نراها وعندهم يجوز أن يكثف الله اجسام الجن في زمان الانبياء دون غيره من الازمنة وأن يقويهم بخلاف ما هم عليه في غير أزمانهم قال القاضي عبد الجبار ويدل على ذلك ما في القرآن الكريم من قوله تعالى في قصة سليمان بن داود عليهما السلام إنه كثفهم له حتى كان الناس يرونهم وقواهم حتى كانوا يعملون له الاعمال الشاقة من المحاريب والتماثيل والجفان والقدور الراسيات والمقرن في الاصفاد لا يكون إلا جسما كثيفا ثم قال بعد ذلك وأما أقداره إياهم وتكثيف أجسامهم في غير أزمان الانبياء فإنه غير جائز لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون نقضا للعادة قال أبو القاسم بن عساكر في كتاب سبب الزهادة في الشهادة وممن ترد شهادته ولا تسلم له عدالته من يزعم أنه يرى الجن عيانا ويدعي أن له منهم
إخوانا كتب إلى أبو علي الحسن بن أحمد الحداد من أصبهان أخبرني أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ حدثنا محمد بن عبد الرحمن التستري حدثنا يحيى بن أيوب العلاف سمعت بعض اصحابنا قال التستري أظنه حرمله سمعت الشافعي يقول من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته لقول الله تعالى في كتابه الكريم ) إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ( وأنبأني محمد بن الفضل الفقيه عن أحمد بن الحسن الحافظ أنا أبو عبد الرحمن السلمي أنبأنا الحسن بن رشيق إجازة قال أنا عبد الرحمن بن احمد الهروي سمعت الربيع بن سليمان يقول سمعت الشافعي يقول من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن أبطلت شهادته لأن الله تعالى يقول ) إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ( إلا أن يكون نبيا
(1/24)
---(53/24)
فصل قال ابو القاسم الأنصاري في المقنع في شرح الإرشاد واعلم أن الله تعالى باين بين الملائكة والجن والإنس في الصور والأشكال كما باين بينهما في الصفات فمن حصل على بنية الإنسان ظاهرا أو باطنا فهو إنسان والإنسان اسم لهذه الجملة التي نشاهدها كما قال سبحانه ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة ( الآية قال أهل التفسير خلقنا فيه الروح والحياة وقال تعالى ) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه ( الآية وقال تعالى ) قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ( وهذه الآيات وأمثالها تدل على بطلان قول من قال الإنسان هو الروح بأن الروح لم تخلق من الطين ولا بد من النطفة وأنها لا تموت على زعم قائله ولا تقبر ولا تنشر فإن قلب الله تعالى الملك إلى بنية الإنسان ظاهرا وباطنا خرج عن كونه ملكا وكذلك لو قلب الشيطان إلى بنية الإنسان لخرج بذلك عن كونه شيطانا ومن الناس من قال لو قلب الشيطان أو الملك إلى صورة الإنسان ظاهرا صار إنسانا
ومن مسخ من بني إسرائيل قردة هل خرجوا عن كونهم ناسا بالمسخ وقلب الصورة الظاهر أنه يخرج على القولين ومما يدل على أن صورة الملك مخالفة لصورة الإنسان قوله تعالى ) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ( أي جعلناه على صورة البشر ظاهرا والله تعالى أعلم
الباب السابع
في بيان أن بعض الكلاب من الجن
(1/25)
---(53/25)
قال أبو عثمان سعيد بن العباس الرازي أنا إبراهيم بن موسى أنا أبو الأحوص حدثنا سماك عن بشر سمعت ابن عباس يقول وهو على منبر البصرة إن الكلاب من الجن وهي ضعفة الجن فمن غشيه كلب على طعام فليطعمه أو ليؤخره أخبرنا ابراهيم أنا جرير عن الحسن بن عبيد الله عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن قال قال علي أما الجن فما قد عرفتم هي الجن أما الجن فهي الكلاب المعيبة أخبرنا إبراهيم أنا وكيع عن إسرائيل وسفيان عن سماك بن حرب عن بشر عن ابن عباس قال الكلاب من الجن فإذا غشيتكم عند طعامكم فالقوا لهن فإن لها نفسا أخبرنا إبراهيم أنا القاسم بن مالك المدني الكوفي حدثنا خالد عن أبي قلابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها ولكن خفت أن أبيد أمة فاقتلوا منها كل أسود بهيم فإنه جنها وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن مرور الكلب الأسود يقطع الصلاة فقيل له ما بال الأحمر من الأبيض من الأسود فقال الكلب الأسود شيطان فعلل بأنه شيطان وهو كما قال - صلى الله عليه وسلم - فإن الكلب الأسود شيطان الكلاب والجن تتصور بصورته كثيرا وكذلك بصورة القط الأسود لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره وفيه قوة الحرارة وقال القاضي أبو يعلى فإن قيل ما معنى قول النبي صلى الله عليه في الكلب الأسود إنه شيطان ومعلوم أنه مولود من كلب وكذلك قوله في الإبل
إنها جن وهي مولودة من الإبل وأجاب إنما قال ذلك على طريق التشبيه لها بالجن لأن الكلب الأسود أشر الكلاب وأقلها نفعا والإبل تشبه الجن في صعوبتها وصولتها وهذا كما يقال فلان شيطان إذا كان صعبا شريرا والله تعالى أعلم
الباب الثامن في بيان مساكن الجن
(1/26)
---(53/26)
قال أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن جعفر بن حبان الأصبهاني المعروف بأبي الشيخ في الجزء الثاني عشر من كتاب العظمة وذكر بابا في الجن وخلقهم حدثنا محمد بن أحمد بن معدان حدثنا إبراهيم الجوهري حدثنا عبد الله بن كثير حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو ابن عوف عن أبيه عن جده عن بلال بن الحارث قال نزلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فخرج لحاجته وكان إذا خرج لحاجته يبعد فأتيته بأداوة من ماء فانطلق فسمعت عنده خصومة رجال ولغطا ما سمعت أحد من ألسنتهم قال اختصم الجن المسلمون والجن المشركون فسألوني أن أسكنهم فأسكنت المسلمين الجلس وأسكنت الجن المشركين الغور قال الراوي عبد الله بن كثير قلت لكثير ما الجلس وما الغور قال الجلس القرى والجبال والغور ما بين الجبال والبحار وهي يقال لها الجنوب قال كثير وما رأيت أحدا أصيب بالجلس إلا سلم ولا أصيب بالغور إلا لم يكد يسلم ورواه الحافظ أبو نعيم عن أبي محمد بن حبان عن محمد بن أحمد بن معدان وعن سليمان بن احمد حدثنا خالد بن النضر عن ابراهيم بن سعد الجوهري عن عبد الله بن كثير فذكره وقال الزمخشري في ربيع الأبرار تقول الأعراب ربما نزلنا بجمع كثير ورأينا خياما وأناسا ثم فقدناهم من ساعتنا يعتقدون أنهم الجن وأن تلك خيامهم وقبابهم وروى مالك في الموطأ أنه بلغه أن عمر بن الخطاب أراد الخروج إلى
(1/27)
---(53/27)
العراق فقال له كعب الأحبار لا تخرج يا أمير المؤمنين فإن بها تسعة أعشار السحر والشر وفيها فسقة الجن وبها الداء العضال وقال أبو بكر بن عبيد في مكايد الشيطان حدثنا القاسم بن هشام حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد العزيز بن الوليد بن أبي الثائب القرشي عن أبيه عن يزيد بن جابر قال ما من أهل بيت من المسلمين إلا وفي سقف بيتهم من الجن من المسلمين إذا وضع غذاءهم نزلوا فتغدوا معهم وإذا وضع عشاءهم نزلوا فتعشوا معهم يدفع الله بهم عنهم وقال ابن أبي داود حدثنا أبو عبد الرحمن الأزرمي حدثنا هشام عن المغيرة عن ابراهيم قال لا تبل في فم البالوعة لأنه إن عرض منه شيء كان أشد لعلاجه حدثنا أحمد بن يحيى بن مالك حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن قال لا أرى بأسا أن يبول عند مثعبة وعن زيد بن أرقم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن هذه الحشوش محضرة فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه أن هذه الحشوش محضرة فإذا أراد أحدكم أن يدخل فليقل أعوذ بالله من الخبث والخبائث وروى ابن السني من حديث أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال هذه محضرة فإذا دخلها أحدكم الخلاء فليقل بسم الله وروى عبد الرزاق في جامعه من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن هذه الحشوش محضرة فإذا دخلها أحدكم فليقل اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث وقوله محضرة يعني يحضرها الجن فإذا قال المخلي هذا الدعاء احتجب عن أبصارهم فلا يرون عورته
فصل يدل على إطلاع الجن على عورات الناس عند إتيان الخلاء ما رواه الترمذي من حديث علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله
(1/28)
---(53/28)
عليه وسلم قال ستر ما بين أعين الجن وعورات أمتي إذا دخل أحدكم الخلاء أن يقول بسم الله أ ه قال الترمذي هذا غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بالقوي وفي الصحيحين من حديث أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث أ ه ورواه سعيد بن منصور في سننه فقال كان يقول بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث أ ه
فصل وغالب ما يوجد الجن في مواضع النجسات كالحمامات والحشوش والمزابل والقمامين والشيوخ الذين تقرن بهم الشياطين وتكون أحوالهم شيطانية لا رحمانية يأوون كثيرا إلى هذه الأماكن التي هي مأوى الشياطين وقد جاءت الآثار بالنهي عن الصلاة فيها لأنها مأوى الشياطين والفقهاء منهم من علل النهي بكونها مظنة النجاسة ومنهم من قال إنه تعبد لا يعقل معناه والصحيح أن العلة في الحمام وأعطان الإبل ونحو ذلك أنها مأوى الشياطين وفي المقبرة أن ذلك ذريعة إلى الشرك مع أن المقابر تكون أيضا مأوى الشياطين والمقصود أن أهل الضلال والبدع الذين فيهم زهد وعبادة على غير الوجه الشرعي ولهم أحيانا مكاشفات ولهم تأثيرات يأوون كثيرا إلى مواضع الشياطين التي نهى عن الصلاة فيها لأن الشياطين تتنزل عليهم فيها وتخاطبهم ببعض الأمور كما تخاطب الكهان وكما كانت تدخل في الأصنام وتكلم عابدي الاصنام وتفتنهم في بعض المطالب كما تفتن السحرة وكما يفتن عباد الأصنام الشمس والقمر والكواكب إذا عبدوها بالعبادات التي يظنون أنها تناسبها من تسبيح لها ولباس وبخور وغير ذلك فإنه قد تنزل عليهم شياطين يسمونها روحانية الكواكب وقد تقضى بعض حوائجهم إما قتل بعضهم أو إمراضه وأما جلب بعض من يهوونه أو إحضار بعض المال ولكن الضرر الذي يحصل لهم بذلك أعظم من النفع بل قد يكون أضعاف أضعاف النفع والله تعالى أعلم بالصواب
الباب التاسع فيما يمنع الشياطين من المبيت بمنازل الإنس
(1/29)
---(53/29)
روى مسلم وأبو داود عن جابر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا دخل الرجل منزله فذكر اسم الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا ذكر اسم الله عند دخوله ولم يذكره عند طعامه يقول أدركتم العشاء ولا مبيت لكم وإذا لم يذكر اسم الله عند دخوله قال أدركتم المبيت والعشاء
الباب العاشر في بيان القرين من الجن
روى مسلم وأحمد وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها ليلا قالت فغرت عليه قال فجاء فرأى ما أصنع فقال مالك يا عائشة أغرت فقلت ومالي لا يغار مثلي على مثلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفأخذك شيطانك فقلت يا رسول الله أو معي شيطان قال نعم ومع كل إنسان قلت ومعك يا رسول الله قال نعم ولكن ربي عز وجل أعانني عليه حتى أسلم وفي لفظ آخر أعانني عليه فأسلم قال أبو سليمان الخطابي عامة الرواة يقولون فأسلم على مذهب الفعل الماضي يريدون إن الشيطان قد أسلم إلا سفيان بن عيينة فإنه يقول فأسلم من شره وكان يقول الشيطان لا يسلم قال أبو الفرج بن الجوزي وقول ابن عيينة حسن وهو يظهر أثر المجاهدة لمخالفة الشيطان إلا أن حديث ابن مسعود كأنه يرد قول ابن عيينة وهو ما رواه أحمد بن حنبل قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من أحد منكم حد الا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي ولكن الله تعالى أعانني عليه فلا يأمرني إلا بحق وفي رواية ما من احد الا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا وأنت يا رسول الله قال وأنا إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فليس يأمرني إلا بخير انفرد بإخراجه مسلم قال ابن الجوزي وظاهره إسلام الشيطان ويحتمل القول الآخر وقال محمد بن يوسف الفريابي حدثنا سفيان عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن ابيه عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما منكم(53/30)
(1/30)
---
من أحد إلا ومعه قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي
ولكن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير وقد روى أيضا من حديث شريك بن طارق يرفعه ليس أحد منكم إلا وله شيطان قالوا ولك قال ولي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم رواه الجراح أبو وكيع والوليد بن ابي ثور وأبو عوانة في الآخرين عن زياد بن علاقة عن شريك
قلت وقد ورد إسلام القرين النبوي صريحا لا يحتمل التأويل فروى الحافظ أبونعيم في كتاب الدلائل فقال حدثنا ابراهيم بن محمد ابن يحيى النيسابوري وابراهيم بن عبد الله قالا حدثنا محمد بن حمويه بن عباد ( ح ) وحدثنا محمد بن ابراهيم حدثنا عبد الله بن محمد بن الفرج قالا حدثنا محمد بن الوليد بن أبان أبو جعفر بمكة حدثنا إبراهيم بن صرمة حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضلت على آدم بخصلتين كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه حتى أسلم وكن أزواجي عونا لي وكان شيطان آدم كافرا وزوجته عونا على خطيئته أ ه فهذا صريح في إسلام قرين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن هذا خاص بقرين النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون - صلى الله عليه وسلم - مختصا بإسلام قرينه لقوله فضلت على آدم بخصلتين وعد منهما إسلام قرينه قال أبو جعفر الطحاوي في مشكل الآثار في أثناء كلام ساقه في القرين وكان فيما رويناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذين الحديثين ما قد يحتمل ان يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان في ذلك كمن سواه من الناس ويحتمل أن يكون كان فيه بخلافهم فتأملنا ما روى في هذا الباب من سوى هذين الحديثين هل فيه ما يدل على شيء من ذلك فوجدنا فهذا قد حدثنا قال حدثنا عبد الله بن رجاء ثم ساق بسنده عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن فقيل وإياك قال وإياي ولكن(53/31)
الله تعالى
(1/31)
---
أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير ثم ساق بسنده عن جابر قال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تدخلوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم قيل
ومنك يا رسول الله قال ومني ولكن الله تعالى أعانني فأسلم أ ه ثم ساق بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة وكان معي على رأسي فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجدا راصا عقبيه مستقبلا بأطراف اصابعه القبلة فسمعته يقول أعوذ بالله من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك لا أبلغ كل ما فيك فلما انصرف قال يا عائشة أخذك شيطانك فقالت أما لك شيطان قال من آدمي إلا له شيطان فقلت وأنت يا رسول الله قال وانا ولكنني دعوت الله فأعانني عليه فأسلم قال أبو جعفر فعرفنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان في هذا المعنى كسائر الناس سواء وان الله تعالى اعانه عليه بإسلامه الذي هداه له حتى صار - صلى الله عليه وسلم - في السلامة منه بخلاف غيره من الناس فيمن هو معه من جنسه فإن قال قائل فقد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء مما يجب أن يوقف على ارتفاع التضارب عنه وعما رويت مما قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خص به من إسلام شيطانه لكي يسلم منه وذكر في ذلك حديث أبى الأزهر الأنصارى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال بسم الله وضعت جنبي اللهم إني أعوذ من واجس شيطاني وفك رهاني وثقل ميزاني واجعلني في الندى الأعلى قيل له هذا عندنا والله أعلم كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل إسلام شيطانه فلما أسلم استحال أن يكون عليه الصلاة والسلام يدعوا الله تعالى فيه بذلك مع إسلامه الذي هو عليه والله تعالى أعلم
الباب الحادي عشر
في أن الجن يأكلون ويشربون
(1/32)
---(53/32)
قال القاضي أبو يعلى والجن يأكلون ويشربون ويتناكحون كما نفعل قلت للناس في أكل الجن وشربهم ثلاثة أقوال وتتفرع إلى أربعة
أحدها أن جميع الجن لا يأكلون ولا يشربون وهذا قول ساقط الثاني أن صنفا منهم يأكلون ويشربون وصنفا لا يأكلون ولا يشربون ويشهد لهذا القول الأثر الآتي عن وهب عن كثب
الثالث إن جميع الجن يأكلون ويشربون واختلف أصحاب هذا القول في أكلهم وشربهم فقال بعضهم أكلهم وشربهم تشمم واسترواح لا مضغ وبلع هذا قول لا ينهض له دليل وقال الآخرون أكلهم وشربهم مضغ وبلع وهذا القول هو الذي تشهد له الأحاديث الصحيحة والعمومات الصريحة ويدل على مضغهم وبلعهم حديث أمية بن مخشى من رواية أبي داود وفيه ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر الله تعالى استقاء ما في بطنه وسيأتي الحديث بكماله إن شاء الله تعالى في الباب الآتي بعده وقال أبو عمر بن عبد البر حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن الاصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني حدثنا المنيب بن واضح السلمي حدثنا الحكم بن محمد الطغري عن عبد الصمد بن معقل قال سمعت وهب بن منبه يقول وسئل عن الجن ما هم وهل يأكلون ويشربون ويتناكحون فقال هم أجناس فأما خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتوالدون ويتناكحون منهم السعالي والغول والقطرب واشباه ذلك وفي الصحيحين أن الجن
(1/33)
---(53/33)
سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزاد فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في يد أحدهم أوفر ما يكون لحما وكل بعر علف لدوابهم وزاد ابن سلام في تفسيره أن البعر يعود خضرا لدوابهم أ ه وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجى بالعظم والروث وقال إنه زاد اخوانكم من الجن وقد ثبت نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الاستنجاء بالعظم والروث في أحاديث متعددة ففي صحيح مسلم وغيره عن سلمان الفارس قال نهانا ان نستقبل القبلة بغائط أو بول أو نستنجي باليمين أو يستنجى أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار وأن نستنجي برجيع أو عظم وفي صحيح مسلم وغير عن جابر قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتمسح بعظم او بعرة أ ه وكذلك ورد النهي عن ذلك في حديث خزيمة بن ثابت وغيره وقد بين علة ذلك في حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في ايديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تستنجوا بهما لأنهما طعام اخوانكم أ ه وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته فبينما هو يتبعه بها قال من هذا قال أنا أبو هريرة فقال أبغني أحجار استفضل بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت فقلت ما بال الروث والعظم قال لهم طعام الجن وأنه حين أتاني جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاما أ ه
(1/34)
---(53/34)
فصل لفظ الحديث في كتاب مسلم كل عظم ذكر اسم الله عليه ولفظه كتاب أبي داود كل عظم لم يذكر اسم الله عليه واكثر الاحاديث تدل على معنى رواية أبي داود وقال بعض العلماء رواية مسلم في الجن المؤمنين والرواية الأخرى في حق الشياطين قال أبو القاسم السهيلي وهذا قول صحيح تعضده الأحاديث وهذا فيه رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب وتأولوا قوله - صلى الله عليه وسلم - إن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله على غير ظاهره وروى ابن العربي بسنده إلى جابر ابن عبد الله قال بينا أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشى إذ جاءت حية فقامت إلى جنبه فأدنت فاها من أذنه وكأنها تناجيه أو نحو هذا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - نعم فانصرفت قال جابر فسألته فأخبرني أنه رجل من الجن وأنه قال مر أمتك لايستنجوا بالروث ولا بالرمة فإن الله جعل لنا في ذلك رزقا أ ه وقد تقدم حديث زيد بن جابر قال ما من أهل بيت من المسلمين إلا وفي سقف بيتهم من الجن من المسلمين إذا وضع غداءهم نزلوا فتغدوا معهم وإذا وضع عشاءهم نزلوا فتعشوا معهم يدفع الله بهم عنهم فالقائلون إن الجن لا تأكل ولا تشرب إن أرادوا أن جميع الجن لا يأكلون ولا يشربون فهذا قول ساقط لمصادمته الأحاديث الصحيحة وإن أرادوا أن صنفا منهم لا يأكلون ولا يشربون فهو محتمل غير أن العمومات تقتضي أن الكل يأكلون ويشربون وسيأتي في الأبواب احاديث في أكلهم وشربهم قال القاضي عبد الجبار وكون الرقيق لا يمتنع أن يكون ممن يأكل ويشرب كما لا يمنع كون اللطيف لطيفا عن ذلك ثم احترز عن إشكال فقال وإنما قلنا إن الملائكة عليهم السلام لا يأكلون ولا يشربون لإجماع أهل الصلاة على ذلك وللأخبار المروية في ذلك ولكنا نقول علتهم في أنهم لا يأكلون أنهم أجسام رقاق والله تعالى أعلم
الباب الثاني عشر
في أن الشيطان يأكل ويشرب بشماله
(1/35)
---(53/35)
روى مسلم ومالك وأبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يأكلن أحد منكم بشماله ولا يشربن بها فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها قال وكان نافع يزيد ولا يأخذن بها ولا يعطى وروى ابن عبد البر بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه وليأخذ بيمينه وليعط بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويعطى بشماله ويأخذ بشماله أ ه قال أبو عمر في هذا الحديث دليل على أن الشياطين يأكلون ويشربون وقد حمل قوم هذا الحديث وما كان مثله على المجاز فقالوا في قوله إن الشيطان يأكل بشماله أي ان الأكل بالشمال أكل يحبه الشيطان كما قيل في الحمرة زينة الشيطان وفي الاتعاظ بالعمامة عمة الشيطان أي أن الحمرة ومثل تلك العمامة يزينها الشيطان ويدعو إليها وكذلك يدعو إلى الأكل بالشمال والشرب بالشمال ويزينه قال أبو عمر وهذا عندي ليس بشيء ولا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما وقال آخرون أكل الشيطان صحيح ولكنه تشمم واسترواح لا مضغ ولا بلع وإنما المضغ والبلع لذوي الجثث ويكون استرواحه وتشممه من جهة شماله ويكون بذلك مشاركا في المال قال أبو عمر أكثر أهل العلم بالتأويل يقول في قوله الله تعالى ) وشاركهم في الأموال والأولاد ( قالوا الأموال الإنفاق في الحرام والأولاد في الزنا والله تعالى أعلم
الباب الثالث عشر
فيما يمنع الجن من تناول طعام الإنس وشرابهم
(1/36)
---(53/36)
روى مسلم وأبو داود عن حذيفة قال كنا إذا حضرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضع يده وإنا حضرنا مرة معه طعاما فجاءت جارية كأنها تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدها ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فذهب ليضع يده فأخذ بيده فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه وأنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به والذي نفسي بيده أن يده في يدي مع يدها أ ه وروى أبو داود عن أمية بن مخشى رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا ورجل يأكل ولم يسم حتى إذا لم يبق من طعامه إلا لقمة فلما رفعها إلى فيه قال بسم الله أوله وآخره فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر اسم الله استقاء ما في بطنه وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب مكايد الشيطان حدثنا محمد بن إدريس حدثنا عيسى بن أبي فاطمة الرازي حدثنا معاوية بن نفيل العجلي قال كنت عند عنبسة بن سعيد قاضي الري فدخل عليه ثعلبة بن سهيل فقال له عنبسة ما أعجب ما رأيت قال كنت أضع شرابا لي أشربه في السحر فإذا جاء السحر جئت فلم أجد منه شيئا فوضعت شرابا وقرأت عليه يس فلما كان السحر جئته فرأيته على حاله وإذا الشيطان أعمى يدور حول البيت ورواه أبو عبد الرحمن محمد ابن المنذر الهروي في كتاب العجائب فقال حدثنا أبو زرعة الرازي
حدثنا عيسى بن أبي فاطمة فذكره وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن الشيطان جساس لحاس فاحذروه على أنفسكم من بات وفي يده ريح غمر فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه أ ه والله تعالى أعلم
الباب الرابع عشر
في أن الجن يتناكحون ويتناسلون
(1/37)
---(53/37)
قال الله تعالى ) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ( وهذا يدل على أنه يتأتى منهم الطمث وهو الافتضاض يقال طمثها طمثا إذا افتضها قال ابن جرير في تهذيب الآثار واختلفوا في الطمث فقال بعضهم الطمث هو الجماع الذي يكون معه تدمية من فرج الأنثى عن الجماع ونقول ذلك الدم من فرج الأنثى عن الجماع هو الطمث وقال آخرون الطمث هو المس بالمباشرة وحكى ذلك قائل عن العرب سماعا أنها تقول ما طمث هذا البعير حبل قط بمعنى ما مسه حبل قط وقال آخرون المطث هو الحيض نفسه قال والآية محتملة إلى وجه الثلاثة قلت الحيض بعيد واحتماله في المس ظاهر والله أعلم وقال تعالى ) أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ( وهذا يدل على أنهم يتناكحون لأجل الذرية قال القاضي عبد الجبار الذرية هم الولد والأهل ورقتهم لا تمنع من كان ما يلده لطيفا ألا ترى أنا قد نرى الحيوان مالا يتبين للطافته إلا بالتأمل ولا يمنع ذلك من أن يتوالدوا إذا كان ما يتوالدونه لطيفا قال الزمحشري في الكشاف ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يحدها البصر الحاد إلا إذا تحركت فإذا سكنت فالسكون يواريها ثم إذا لوحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها
الظاهرة والباطنة وتفاصيل خلقتها ويبصر بصرها ويطلع على ضميرها ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر ) سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (
قلت فهذه الدويبة لا تمنعها اللطافة المفرطة فسبحان القادر على كل شيء من التوالد ) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (
الباب الخامس عشر
في أن الجن مكلفون بإجماع أهل النظر
قال أبو عمر بن عبد البر الجن عند الجماعة مكلفون مخاطبون لقوله تعالى ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( وقال الرازي في تفسيره أطبق الكل على أن الجن كلهم مكلفون
(1/38)
---(53/38)
فصل قال القاضي عبد الجبار لا نعلم خلافا بين أهل النظر في الجن مكلفون وقد حكى زرقان وغسان فيما ذكراه من المقالات عن الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم وأنهم ليسوا مكلفين قال والدليل على أنهم مكلفون ما في القرآن من ذم الشياطين ولعنهم والتحرز من غوائلهم وشرهم وذكر ما أعد الله لهم من العذاب وهذه الخصال لا يفعلها الله تعالى إلا لمن خالف الامر والنهي وارتكب الكبائر وهتك المحارم مع تمكنه من أن لا يفعل ذلك وقدرته على فعل خلافه ويدل على ذلك أيضا بأنه كان من دين النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الشياطين والبيان عن حالهم وأنهم يدعون إلى الشر والمعاصي ويوسوسون بذلك وهذا كله يدل على أنهم مكلفون وقوله تعالى ) قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ( إلى قوله ) فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ( إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تكليفهم وأنهم مأمورون منهيون انتهى
الباب السادس عشر في أنه هل كان في الجن أنبياء قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -
(1/39)
---(53/39)
جمهور العلماء سلفا وخلفا على أنه لم يكن من الجن قط رسول ولم تكن الرسل إلا من الإنس ونقل معي هذا عن ابن عباس وابن جريح ومجاهد والكلبي وأبي عبيد والواحدي وقد قدمنا في أواخر الباب الثاني ما ذكره اسحاق بن بشر في المبتدأ عن ابن عباس أن الجن قتلوا نبيا لهم قبل آدم اسمه يوسف وأن الله تعالى بعث إليهم رسولا وأمرهم بطاعته وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا عبيد بن سليمان قال سئل الضحاك عن الجن هل كان فيهم من نبي قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ألم تسمع إلى قوله تعالى ) يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم ( يأتي يعني بذلك أن رسلا من الإنس ورسلا من الجن قالوا بلى ثم قال ابن جرين أما الذين قالوا بقول الضحاك فإنهم قالوا إن الله أخبر أن من الجن رسلا أرسلوا اليهم قالوا ولو جاز أن يكون خبره عن رسل الجن بمعنى أنهم رسل الإنس جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رسل الجن قالوا وفي فساد هذا المعنى ما يدل على أن الخبرين جميعا بمعنى الخبر عنهم أنهم رسل الله تعالى لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره وقال ابن حزم لم يبعث إلى الجن نبي من الإنس البتة قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه ليس الجن من قوم الإنس وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وقال ابن حزم وباليقين ندرى أنهم قد أنذروا وأفصح أنهم جاءهم أنبياء منهم قال الله تعالى ) يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا (
) قلت ويدل على ما قاله الضحاك ما رواه الحاكم فقال حدثنا أحمد بن يعقوب الثقفي حدثنا عبيد بن عنام حدثنا علي بن حكيم حدثنا شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس قال ومن الأرض مثلهن قال سبع أرضين في كل نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى قال شيخنا الذهبي إسناده حسن
(1/40)(53/40)
---
قلت وله شاهد قال الحاكم حدثنا عبد الله بن الحسن حدثنا إبراهيم بن الحسين حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قوله تعالى ) خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ( قال في كل أرض نحو إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - قال شيخنا الذهبي هذا حديث على شرط البخاري ومسلم رجاله أئمة وتأول الجمهور الآية على ما نقل عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج وأبي عبيد بما معناه رسل الإنس رسل من الله تعالى إليهم ورسل إلى قوم من الجن ليسوا رسلا عن الله تعالى بعثهم الله تعالى في الأرض فسمعوا كلام رسل الله تعالى الذين هم من آدم وعادوا إلى قومهم من الجن فأنذرهم والله سبحانه وتعالى أعلى
الباب السابع عشر في بيان أن الجن داخلين في عموم بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -
(1/41)
---(53/41)
لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في أن الله تعالى أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى الجن والإنس وثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي إلى أن قال وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة قال ابن عقيل الجن داخلون في مسمى الناس لغة وقال الراغب الناس جماعة حيوان ذي كفر وروية والجن لهم فكر وروية والناس من ناس يقوس إذا تحرك وقال الجوهري الناس قد يكون من الإنس ومن الجن وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثت إلى الأحمر والأسود واختلفت العلماء في المعنى المراد من الأحمر والأسود هنا فقيل هم العرب العجم لأن الغالب على العجم الحمرة والبياض وعلى العرب الآدمة والسواد وقيل أراد الإنس والجن وقيل أراد الأحمر والأبيض مطلقا فإن العرب تقول إمرأة حمراء أي بيضاء ويؤيد قول من قال إنهم الجن إن إطلاق السواد على الجن صحيح باعتبار مشابهتهم للأرواح والأرواح يقال لها اسودة كما في حديث الإسراء أنه رأى آدم وعن يمينه اسودة وعن شماله اسودة وانها نسم بنيه وفي حديث ابن مسعود ليلة الجن فغشيته أسودة حالت بيني وبينه وروى شمة بن موسى من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال أرسلت إلى الجن والإنس وإلى كل أحمر وأسود قال ابن عبد البر ولا يختلفون أن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإنس والجن بشيرا ونذيرا وهذا مما فضل به على الأنبياء أنه بعث إلى الخلق كافة الجن والإنس وغيره ولم يرسل إلا لمكان قومه - صلى الله عليه وسلم -
(1/42)
---(53/42)
وعلى سائر الأنبياء وكذلك نقل ابن حزم وكثيرا ما تذكر العلماء في تصانيفهم كونه - صلى الله عليه وسلم - مبعوثا إلى الثقلين وقال إمام الحرمين في الإرشاد في الرد على العيسوية وقد علمنا ضرورة انه - صلى الله عليه وسلم - أدعى كونه مبعوثا إلى الثقلين وقال الشيخ ابو العباس بن تيمية أرسل الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الثقلين الإنس والجن وأوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته وأن يحللون ما حلل الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويحرمون ما حرم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يوجبوا ما أوجب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويحبوا ما أحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويكرهوا ما كره الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن كل ما ما قامت عليه الحجة برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الإنس والجن فلم يؤمن به استحق عقاب الله تعالى كما يستحق أمثاله من الكافرين الذين بعث اليهم الرسل وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وسائر الطوائف المسلمين أهل السنة والجماعات وغيرهم قلت وقد اخبر الله تعالى في القرآن أن الجن استمعوا القرآن وأنهم آمنوا به كما قال الله تعالى ) وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ( إلى قوله تعالى ) أولئك في ضلال مبين ( ثم أمره أن يخبر الناس بذلك فقال ) قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ( السورة بكمالها فأمره بقول ذلك ليعلم الإنس بأحوال الجن وأنه مبعوث إلى الأنس والجن ولما في ذلك من هدى الإنس والجن إلى ما يجب عليهم من الإيمان بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - واليوم الآخر وما يجب من طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن تحريم الشرك بالجن وغيرهم كما قال في السورة ) وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ( فإنه كان الرجل
(1/43)
---(53/43)
من الإنس ينزل بالوادي والأودية مظان الجن فإنهم يكونون بالأودية أكثر مما يكونون بأعالي الأرض فكان الإنسي يقول أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه روى أن حجاج بن علاظ السلمي والد نصر بن حجاج الذي قيل فيه
أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد مخوف موحش فقال له الركب قم فخذ لنفسك أمانا ولأصحابك فجعل يطوف بالركب ويقول
أعيذ نفسي وأعيذ صحبي
من كل جني بهذا القب
حتى أؤوب سالما وركبي
فسمع قارئا يقرا ) يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا ( الآية فلما قدم مكة خبر كفار قريش بما سمع فقالوا صبأت يا أبا كلاب إن هذا يزعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنزل عليه قال والله لقد سمعته وسمعه هؤلاء معي ثم أسلم وحسن إسلامه وهاجر إلى المدينة وبنى بها مسجدا يعرف به ولما رأت الجن أن الإنس تستعيذ بهم زاد طغيانهم وعتوهم وبهذا يجيبون المعزم والراقي بأسمائهم وأسماء ملوكهم فإنه يقسم عليهم بأسماء من يعظمونه فيحصل لهم ذلك من الرئاسة والشرف على الإنس ما يحملهم على أن يعطوهم بعض سؤلهم وهم يعلمون أن الإنس اشرف منهم وأعظم قدرا فإذا خضعت الإنس لهم واستعاذتهم كان بمنزلة أكابر الناس إذا خضع لأصاغرهم ليقضى لهم حاجته قلت قول النفر الذي استمعوا القرآن لقومهم ) يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ( صريح ظاهر في بعثته إليهم وانقيادهم للإيمان به وقول النفر ) ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ( صريح في أن من لم يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الجن فهو كافر وبالله العصمة والتوفيق
(1/44)
---(53/44)
الباب الثامن عشر فى بيان انصراف الجن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - واستماعهم القرآن قال ابن إسحاق لما إيس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبر ثقيف انصرف عن الطائف راجعا راجعا إلى مكة حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به النفر من الجن ذكر الله تعالى وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من أهل نصيبين فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا فقص الله تعالى خبرهم عليه فقال تعالى ) وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ( إلى قوله ) أليم ( ثم قال تعالى ) قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ( إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال ما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجن ولا رآهم أنطق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا الآية فأنزل الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ) قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن (
(1/45)
---(53/45)
قلت وهذا النفي من عبد الله بن عباس إنما هو حيث استمعوا التلاوة في صلاة الفجر ولم يرد به نفي الرؤية والتلاوة مطلقا ويدل عليه أن ابن عباس قال في قوله تعالى ) وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ( الأية قال كانوا سبعة من جن نصيبين فجعلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلا إلى قومهم فعلم أن ابن عباس لم ينف كلامه - صلى الله عليه وسلم - إلا حيث استمعوه في صلاة الفجر ولم يرد نفي الكلام بعد ذلك وقوله فجعلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلا إلى قومهم دل على أنه كلمهم بعد ذلك ولهذا قالوا ) يا قومنا أجيبوا داعي الله ( فدل على أنه دعاهم لما اجتمعوا به قبل عودهم إلى قومهم ولم يرد النفي أيضا اجتماع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليلة التي خط على عبد الله بن مسعود خطا وقال له لا تبرح حتى آتيك وقال البيهقي هذا الذي حكاه عبد الله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمت حاله وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ثم أتاهم داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود وقال وأراني آثارهم وآثار نيرانهم والله أعلم وعبد الله بن مسعود حفظ القصتين جميعا فرواهما ثم ساق البيهقي بسنده إلى أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا أحمد الزبيري حدثنا سفيان بن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال هبطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوا قالوا انصتوا قالوا صه وكانوا تسعة أحدهم زوبعة فأنزل الله ) وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ( إلى قوله ) مبين ( وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه - صلى الله عليه وسلم - آذنته شجرة ثم ساق القصة الأخرى عن علقمة قلت لابن مسعود هل صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن منكم أحد الحديث وسيأتي وقال القرطبي حديث ابن عباس هذا معناه لم يقصدهم بالقراءة وعلى هذا فلم يعلم رسول الله - صلى(53/46)
(1/46)
---
الله عليه وسلم - باستماعهم ولا كلمهم وإنما أعلمه الله تعالى بقوله ) قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن (
وقال الشيخ ابو العباس بن تيمية بن عباس كان قد علم ما دل عليه القرآن من ذلك ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وابو هريرة وغيرهما من إتيان الجن إليه ومخاطبته إياهم وأنه - صلى الله عليه وسلم - اخبره وبه بذلك وأمره أن يخبر به وكان ذلك في أول الأمر لما حرست السماء وحيل بينهم وبين خبر السماء وملئت حرسا شديدا وكان في ذلك من دلائل النبوة ما فيه عبرة وبعد هذا أتوه وقرأ عليهم وروى أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وصار كلما قال ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( قالوا ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب فلك الحمد قال عبد الله بن مسعود أعلم بقصة الجن من عبد الله بن عباس فإنه حضرها وحفظها وابن عباس كان إذ ذاك طفلا رضيعا فقد قيل إن قصة الجن كان قبل الهجرة بثلاث سنين وقال الواقدي كانت سنة إحدى عشرة من النبوة وابن عباس في حجة الوداع كان ناهز الاحتلام والله أعلم قال السهيلي وفي التفسير أنهم كانوا يهودا ولذلك قالوا ) من بعد موسى ( ولم يقولوا من بعد عيسى ذكره ابن سلام وكان صرف الله تعالى الجن قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين وقيل الإسراء وذكر الواقدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الطائف لثلاث بقين من شوال وأقام خمسا وعشرين ليلة وقدم مكة لثلاث وعشرين خلت من ذي القعدة يوم الثلاثاء وأقام بمكة ثلاثة أشهر وقدم عليه جن الحجون في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من النبوة
(1/47)
---(53/47)
فصل واختلف في عددهم فقال ابن إسحاق كانوا سبعة وحكى ابن أبي حاتم في تفسيره عن مجاهد قال كانوا سبعة ثلاثة من أهل حران واربعة من أهل نصيبن وحكى الثوري عن عاصم عن زر كانوا تسعة وعن عكرمة قال كانوا اثنى عشر ألفا قال السهيلي وقد ذكروا بأسمائهم في التفاسير والمسندات وهم شاصر وماصر ومنشى وماشي والأحقب وهؤلاء الخمسة ذكرهم ابن درير قال ووجدت في خبر حدثني به أبو بكر بن طاهر الأشبيلي القيسي عن أبي علي الغساني في فضائل عمر بن عبد العزيز قال بينما عمر بن عبد العزيز يمشي بأرض فلاة فإذا حية ميتة فكفنها من بفضله من ردائه ودفنها فإذا قائل يقول يا سرق أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ستموت بأرض فلاة فيكفنك ويدفنك رجل صالح فقال من أنت يرحمك الله فقال رجل من النفر الذين سمعوا القرآن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبق منهم إلا أنا وسرق وهذا سرق قد مات وروى أبو بكر بن أبي الدنيا فقال حدثنا محمد بن الحسين حدثنا يوسف بن الحكم الرقي حدثني فياض بن محمد الرقي أن عمر بن عبد العزيز بينا هو يسير على بغلة ومعه ناس من أصحابة إذا هو بحان ميت على قارعة الطريق فنزل عن بغلته فأمر به فعدل به عن الطريق ثم حفر له فدفنه وواراه ثم مضى فإذا بصوت عال يسمعونه ولا يرونه ليهنك البشارة من الله يا أمير المؤمنين أنا وصاحبي هذا الذي دفنته آنفا من النفر من الجن قال الله تعالى ) وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ( فلما أسلمنا وآمنا بالله وبرسوله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبي المدفون ستموت في أرض غربة يدفنك فيها يومئذ خير أهل الأرض وذكر ابن سلام من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم منه ثم
(1/48)
---(53/48)
انقشع فإذا حية قتيل فعمد رجل منا إلى ردائه فشقه وكفن الحية ببعضه ودفنها فلما جن الليل إذ امرأتان تسألان أيكم دفن عمرو بن جابر فقلنا ما ندري من عمرو بن جابر فقالت إن كنتم ابتغيتم الأجر فقد وجدتموه إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين فقتل عمرو وهو الحية التي رأيتم وهو من الذين استمعوا القرآن من محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم ولوا إلى قومهم منذرين وقال ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن عباد بن موسى العكلي حدثنا مطلب ابن زياد الثقفي حدثنا أبو اسحاق أن ناسا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا في سفر لهم وأن حيتين اقتتلتا فقتلت إحداهما الأخرى فعجبوا من طيب ريحها وحسنها فقام بعضهم فلفها في خرقة ثم دفنها فإذا قوم يقولون السلام عليكم السلام عليكم لا يرونهم إنكم دفنتم عمرا إن مسلمينا وكفارنا اقتتلوا فقتل المسلم الذي دفنتم وهو من الرهط الذين أسلموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثنا محمد بن عياد حدثني محمد بن زياد حدثني أبو مصبح الأسدي حدثني يحيى بن صالح عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم عن حذيفة بن غانم العدوي قال خرج حاطب بن أبي بلتعة من حائط يقال له قران يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالمسحاء التفت عليه عجاجتان ثم أنجلتا عن حية لين الحوران يعني الجلد فنزل ففحص له نسبة قوسه ثم واراه فلما كان الليل إذا هاتف يهتف به
يا أيها الراكب المزجى مطيته
أربع عليك سلام الواحد الصمد
واريت عمرا وقد ألقى كلا كله
دون العشيرة كالضرغامة الأسد
وأشجع حاذر في الركب منزله
وفي الحياء من العذراء في الخلد
فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال ذاك عمرو بن الجومانة وافد نصيبين الشامية لقيه محصن بن جوشن النصراني فقتله أما أني قد رأيتها يعني
(1/49)
---(53/49)
نصيبين فرفعها إلى جبريل عليه السلام فسألت الله تعالى أن يعذب نهرها ويطيب ثمرها ويكثر مطرها وقال ابن أبي الدنيا حدثنا الحسن بن جهور حدثني ابن أبي إلياس عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عمه عن معاذ بن عبد الله بن معمر قال كنت جالسا عند عثمان بن عفان فجاء رجل فقال ألا أخبرك يا أمير المؤمنين عجبا بينا أنا بفلاة كذا وكذا إذا إعصاران قد أقبلا أحدهما من ههنا والآخر من ههنا فالتقيا فتعاركا ثم تفرقا وإذا أحدهما أكبر من الآخر فجئت معتركهما فإذا من الحيات شيء ما رأت عيناي مثله قط كثرة وإذا ريح المسك من بعضها وإذا حية دقيقة صفراء ميتة فقمت فقبلت الحيات كيما أنظر من أيها هو فإذا ذلك من حية صفراء دقيقة فظننت أن ذلك الخير فيها فلففتها في عمامتي ودفنتها فبينا أنا أمشي فناداني مناد ولا أراه فقال يا عبد الله ما هذا الذي صنعت فأخبرته بالذي رأيت ووجدت فقال إنك قد هديت ذانك حيان من الجن بنو الشيطان وبنو قيس التقوا فاقتتلوا فكان بينهم من القتلى ما قد رأيت واستشهد الذي دفنت وكان أحد الذين سمعوا الوحي من النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه الحافظ أبو القاسم الطبري عن مطلب بن شعيب حدثنا عبد الله بن صالح حدثني عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن معاذ وساقه الحافظ أبو نعيم عن الليث بن سعد عن عبد العزيز عن عمه عن معاذ كما رواه ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن الحسين حدثني أبو الوليد الكندي حدثنا كثير بن عبد الله أبو هاشم التاحي قال دخلنا على أبي رجاء العطاردي فسألناه هل عندك علم من الجن ممن بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - فتبسم وقال أخبركم بالذي رأيت وبالذي سمعت كنا في سفر حتى إذا نزلنا على الماء وضربنا أخبيتنا وذهبت أقيل فإذا أنا بحية دخلت الخباء وهي
(1/50)
---(53/50)
تضطرب فعمدت إلى إداوتي فنضحت عليها من الماء فسكنت حتى أذن مؤذن بالرحيل فقلت لأصحابي انتظروني أعلم حال هذه الحية إلى ما تصير فلما صلينا العصر ماتت فعمدت إلى عيبتي فأخرجت منها خرقة بيضاء فلففتها وحفرت لها ودفنتها وسرنا بقية يومنا وليلتنا حتى إذا أصبحنا ونزلنا على الماء وضربنا أفنيتنا وذهبت أقيل واذا أنا بأصوات سلام عليكم مرتين لا واحد ولا عشرة ولا مائة ولا ألف أكثر من ذلك فقلت من أنتم قالوا نحن الجن بارك الله عليك فيما اصطنعت إلينا ما نستطيع أن نجازيك قلت ما اصطنعت إليكم قالوا إن الحية التي ماتت عندك كان ذلك آخر من باقي ممن بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجن قلت ورواه الحافظ أبو نعيم فقال حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر أنبأنا أحمد بن الحسين ابن عبد الجبار حدثنا بشر بن الوليد الكندي وقال فبه لا واحد ولا عشرة ولا مائة ولا ألفا أكثر من ذلك قلت وقد تقدم من أسمائهم ما ذكره ابن دريد شاصر وماصر ومنشنى وماشى والاحقب وساق الحافظ أبو نعيم بسنده عن أبن إسحاق قال وأسماؤهم فيما ذكر لي حسا ومساو شاصر وماصر وابن الأزب وأنين والأخصم واخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعمرو بن الحومانة الذي دفنه حاصب بن أبي بلتعة ومنهم سرق الذي دفنه عمر بن عبد العزيز ومنهم زوبعة وعمرو بن جابر المذكورون في حديث ابن مسعود فهؤلاء تسعة مذكورون بأسمائهم والله اعلم
الباب التاسع عشر في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن على الجن واجتماعه بهم بمكة والمدينة
(1/51)
---(53/51)
روى مسلم وأبو داود عن علقمة قال قلت لابن مسعود هل صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن أحد منكم قال ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول الله افتقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات به قوم قال أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم فسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم أ ه رواه الإمام احمد وسألوه الزاد بمكة وكانوا جن الجزيرة قلت هذه الليلة غير الليلة التي حضر أولهاابن مسعود مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن تلك أعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذهابه إلى الجن وذهب ابن مسعود معه وخط النبي - صلى الله عليه وسلم - له خطا وغاب عنه ثم عاد إليه فروى البيهقي في دلائل النبوة حدثنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو الحسن عبيد الله بن محمد البلخي ببغداد من أصل كتابه حدثنا أبو اسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح حدثني الليث بن سعد حدثني يونس ابن يزيد عن ابن شهاب أخبرني أبو عثمان بن سلمة الخزاعي وكان رجلا
(1/52)
---(53/52)
من أهل الشام أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه وهو بمكة من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فليفعل فلم يحضر أحد منهم غيري فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط برجله خطا ثم أمرني أن أجلس فيه ثم أنطلق حتى قام فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما سمع صوته ثم انطلقوا فطفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتى بقي منهم رهط وفرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الفجر وانطلق فبرز ثم أتاني فقال ما فعل الرهط فقلت هم أولئك يا رسول الله فأخذ عظما وروثا فأعطاهم زادا ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث ووقع في بعض الروايات قال ابن مسعود سمعت الجن تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - من يشهد أنك رسول الله وكان قريبا من ذلك شجرة فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أرأيتم إن شهدت هذه الشجرة أتؤمنون قالوا نعم فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقبلت قال ابن مسعود فلقد رأيتها تجر أغصانها فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - تشهدين أني رسول الله قالت أشهد أنك رسول الله أ ه قال البيهقي يحتمل قوله في الحديث الصحيح ما صحبه منا أحدا أراد به في حال ذهابه لقراءة القرآن عليهم إلا أن ما روى في هذا الحديث من إعلام أصحابه بخروجه اليهم يخالف ما روى في الحديث الصحيح من فقدهم إياه حتى قيل اغتيل أو استطير إلا أن يكون المراد بمن فقد غير الذي علم بخروجه والله أعلم
قلت ظاهر كلام ابن مسعود ففقدناه فالتمسناه وبتنا بشر ليلة يدل على أنه فقده والتمسه وبات بشر ليلة وفي هذا الحديث قد علم بخروجه وخرج معه ورأى الجن ولم يفارق الخط الذي خطه له النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى عاد إليه بعد الفجر فكيف يستقيم قول البيهقي أن يكون المراد بمن فقده
(1/53)
---(53/53)
غير الذي علم بخروجه وإذا قلنا إن ليلة الجن كانت متعددة صح معنى الحديثين وظاهر كلام السهيلي أن ليلة الجن واحدة وفيه نظر كما ترى والله أعلم
ولا شك أن الجن تعددت وفادتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة والمدينة بعد الهجرة وحضر ابن مسعود ذلك معه بالمدينة أيضا كما ساقه الحافظ أبو نعيم في دلائل النبوة فقال حدثنا سليمان بن احمد حدثنا محمد بن عبدة المصيصي حدثنا أبو ثوبة الربيع بن نافع حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن أسلم أنه سمع أبا سلام يقول حدثني من حدثه عمرو بن غيلان الثقفي قال أتيت عبد الله بن مسعود فقلت له حدثت أنك كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة وفد الجن فقال أجل فقلت حدثني كيف كان شأنه فقال إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجلا يعشيه وتركت فلم يأخذني أحد فمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال من هذا فقلت أنا ابن مسعود فقال ما أخذك أحد يعشيك فقلت لا قال فانطلق لعلى أجد لك شيئا قال فانطلقنا حتى أتى حجرة أم سلمة فتركني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائما ودخل إلى أهله ثم خرجت الجارية فقالت يا ابن مسعود إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجد لك عشاء فارجع مضجعك فرجعت إلى المسجد فجمعت حصا المسجد فتوسدته والتففت بثوبي فلم ألبث قليلا حتى جاءت الجارية فقالت عبد الله بن مسعود أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعتها وأنا أرجو العشاء حتى إذا بلغت مقامي خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده عسيب من نخل فرض به على صدري فقال انطلق معي حيث انطلقت قلت ما شاء الله فأعادها على ثلاث مرات كل ذلك أقول ما شاء الله فانطلق وانطلقت معه حتى أتينا بقيع الفرقد فخط بعصاه خطة ثم قال اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك فانطلق يمشي وأنا انظر إليه خلال النخل حتى إذا كان من حيث أراه ثارت
(1/54)
---(53/54)
مثل العجاجة السوداء ففرقت فقلت ألحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني أظن هؤلاء هوازن مكروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقتلوه فأسعى إلى البيوت فأستغيث الناس فذكرت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أبرح مكاني الذي أنا فيه فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفزعهم بعصاه ويقول اجلسوا فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح ثم ثاروا وذهبوا فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أنمت بعدي قلت لا والله ولقد فزعت الفزعة الأولى حتى رأيت أن آتي البيوت فأستغيث حتى سمعتك تقرعهم بعصاك وكنت أظن هوازن مكروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقتلوه قال لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما أمنت عليك أن يخطفك بعضهم فهل رأيت من شيء قلت رأيت رجالا سودا مستدفرين عليهم ثياب بيض فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك وفد جن نصيبين فسألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أبو بعرة قلت وما يغني عنهم ذلك قال إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه ويوم أكل ولا روثة إلا وجدوا عليها حبها الذي كان فيها يوم أكلت فلا يستنجي أحد منكم بعظم ولا روثة فهذه الليلة مع الجن كانت بالمدينة وحضرها ابن مسعود وجلس في الخطة ببقيع الفرقد
وروى الإمام احمد عن عبد الرازق عن أبيه عن عبد الله ابن مسعود قال كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة وفد الجن فتنفس فقلت ما لك يا رسول الله قال نعيت إلى نفسي يا ابن مسعود قلت استخلف قال من قلت أبو بكر قال فسكت ثم مضى ساعة ثم تنفس فقلت ما شأنك بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال نعيت إلى نفسي
(1/55)
---(53/55)
يا ابن مسعود قلت استخلف قال من قلت عمر فسكت ثم مضى ساعة ثم تنفس فقلت ما شأنك قال نعيت إلى نفسي يا ابن مسعود قلت فاستخلف قال من قلت علي قال أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه لتدخلن الجنة أكتعين أ ه وهذا الحديث لم يذكر فيه أنه كان بالمدينة والظاهر أنه كان بالمدينة لأن ليلة الجن بمكة لم يكن على إذ ذاك في رتبة الاستخلاف لأنه كان شابا حينئذ لأنه توفى في شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة عن ثمان وخمسين سنة وقيل عن خمس وقيل عن ثلاث وستين وقد قدمنا أن ليلة الجن كانت بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين فيكون عمره إذ ذاك خمس عشرة سنة أو أقل منها أو عشرين سنة
ونقل الحافظ أبو القاسم بن عساكر أن مولده سنة ثلاث وثلاثين من الفيل أو قبل ذلك فيكون عمره ليلة الجن دون العشرين سنة فكان حينئذ شابا بالنسبة إلى أبي بكر وعمر وأن يعد في جملة من يشار على النبي - صلى الله عليه وسلم - باستخلافه مع أبي بكر وعمر فلا قلنا الظاهر أن ذلك كان ليلة الجن بالمدينة والله أعلم فهذه ليلة بالمدينة ويؤكد ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - نعيت إلى نفسي وذلك لا يكون إلا عند قرب الوفاة ثم وجدت حديثا رواه أبو نعيم ذكر فيه الاستخلاف وأن القصة كانت بأعلى مكة وسيأتي ذكره وهو يشكل على ما قلناه وقد وفدوا عليه مرة أخرى بالمدينة أيضا حضرها الزبير بن العوام وخط له النبي - صلى الله عليه وسلم - بإبهام رجله خطا وقال اقعد في وسطه قال أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة حدثنا أبي حدثنا بقية بن الوليد حدثنا ابن العوام قال صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما انصرف قال أيكم يتبعني إلى وفد الجن
(1/56)
---(53/56)
الليلة فأسكت القوم فلم يتكلم منهم أحد قال ذلك ثلاثا فمر بي يمشي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى حبست عنا جبال المدينة كلها وأفضينا إلى أرض براز فإذا رجال طوال كأنهم الرماح مستدفرو ثيابهم من بين أرجلهم فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة حتى ما تمسكني رجلاي من الفرق فلما دنونا خط لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإبهام رجله في الأرض خطا وقال لي اقعد في وسطه فلما جلست ذهب عني كل شيء كنت أجده من ريبة ومضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينهم فتلا قرآنا وبقوا حتى طلع الفجر ثم أقبل حتى مر بي فقال لي الحق فجعلت أمشي معه فمضينا غير بعيد فقال لي التفت وانظر هل ترى حيث كان أولئك من أحد فقلت يا رسول الله أرى سوادا كثيرا فخفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه إلى الأرض فنظم عظما بروثه ثم رمى بها إليهم وقال رشد أولئك من وفد قوم هم وفد نصيبين سألوني الزاد فجعلت لهم كل عظم وروثة قال الزبير فلا يحل لأحد أن يستنجي بعظم وروثة ورواه يزيد بن عبد ربه وأحمد بن منصور بن يسار عن محمد بن وهب بن عطية الدمشقي عن بقية عن نمير عن قحافة عن أبيه عن الزبير فهذه الليلة غير ليلة ابن مسعود تلك كانت ببقيع الفرقد وهذه كانت نائية عن جبال المدينة فقد دلت الأحاديث على تعدد وفود الجن على النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة والمدينة والله أعلم
قال الحافظ أبو نعيم نقول والله الموفق إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اشتد عليه الأمر بما فقد من حياطة أبي طالب ابتغى النصر والحياطة من رؤساء قريش فلم يجد عندهم نصرا وخرج إلى أخواله بالطائف فكان ما لقي منهم أعظم وأوحش مما كان يلقى من أهل مكة فانصرف كئيبا محزونا فأرسل الله إليه ملك الجبال مع جبريل عليه السلام ليقوى متته فكان منه - صلى الله عليه وسلم - ما خص به من الرأفة والرحمة واستظهرهم واستبقاهم رجاء استنقاذهم وأن يخرج الله تعالى من أصلابهم من يوحد الله تعالى فصرف(53/57)
(1/57)
---
الله تعالى إليه النفر من الجن لاستماع القرآن وآذنت بمجيئهم شجرة تسخيرا له - صلى الله عليه وسلم - وتعريفا لصرف الجن إليه فآنسه الله تعالى بهذه الآيات من صرف الجن وإيذان الشجرة إن عاقبته مختومة بالنصر وإجابة الناس لدعوته ودخول الجن والإنس في ملته وأن امتناع من أبى عليه ولم يجبه إلى الإيمان به مرده امتحان من الله تعالى له وترفيعا لدرجته لاصطباره على ما يتأذى به من قومه وتكذيبهم له وهو - صلى الله عليه وسلم - ومن كان عالما بما سبق من موعود الله تعالى له بالنصر وان العاقبة له فطباع البشر غير خالية من الخواطر ففعل الله تعالى به ما فعل تثبيتا له وتأسيسا كما قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ) وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ( فانصرف الجن من نخلة راجعين إلى قومهم منذرين كالرسل إلى من وراءهم من قبيلتهم من الجن وقيل إنهم كانوا ثلاثمائة نفر فأنذروا ودعوا قومهم إلى الإسلام فانصرفوا بعد مدة ثلاثة أشهر فجاءوه بمكة مسلمين فواعدهم بالالتقاء معهم الليل وقرأ عليهم القرآن طوال ليلتهم وقطع خصومات ونزاعا كان بينهم بقضائه فيهم بالحق ائتلافا لكلمتهم وقطعا لخصومتهم وسألوه الزاد فزودهم العظم والروثة على أن يجعل الله لهم كل عظم حائل عرقا كاسيا وكل روثة حبا قائما فكان ذلك آية له - صلى الله عليه وسلم - أفادت الجن استبصارا في إسلامهم ويخبرون بها من وراءهم من الجن ليكون برهانا له على صدق نبوته ودعوته - صلى الله عليه وسلم - وكذلك الخط الذي خطه لعبد الله بن مسعود وللزبير آية ودلالة له - صلى الله عليه وسلم - فآمنا به من الروعة التي غشيتهما واحترزا به ليلتهما من اختطاف الجن لهما ووجه ما ذكره علقمة أن عبد الله بن مسعود لم يكن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن يعني أنه لم يكن معه وقت قراءته عليهم القرآن وقضائه فيما بينهم لقطع التنازع والخصومات لا أنه لم يحضر تلك(53/58)
الليلة قائما في
(1/58)
---
الخطة وأن ما رواه الزبير من قدومهم ووفودهم المدينة فجائز أن نفرا غيرهم حضروه بعد الهجرة بالمدينة فحصل لهم ما حصل لمن وفد عليه بمكة بالحجون وما رواه عمرو بن غيلان عن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - التقى مع الجن بالمدينة فمخرج على أن يكون ذلك في طائفة أخرى لأن إسلام الجن
ووفادتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - كوفادة الإنس فوجا بعد فوج وقبيلة بعد قبيلة حسبما جرت العادة في مثله فكان - صلى الله عليه وسلم - يعامل كل طائفة وفدت عليه من تقدمهم من قراءة القرآن عليهم وتزويدهم العظم والروث وقد بقى من الجن من ثبت على كفره فكانوا يعترضون للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين كاعتراض بقايا الكفار من الإنس ثم ساق عدة أحاديث منها حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن عفريتا من الجن تفلت إلى البارحة ليقطع على الصلاة فأمكنني الله تعالى منه فذعته وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم أجمعون قال فذكرت دعوة أخي سليمان ) رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ( قال فرددته خاسئا هذه رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن شبابة بن سوار وفي رواية الإمام احمد عن محمد بن جعفر فرده الله تعالى خاسئا وفي رواية النضر ابن شميل أن عفريتا من الجن جعل يخيل على البارحة ليقطع علي الصلاة فرده الله خاسئا وكلهم رواه عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة
(1/59)
---(53/59)
قلت وستأتي الأحاديث في تعرض الجن والشياطين للنبي - صلى الله عليه وسلم - في بابه إن شاء الله تعالى وقد وفد الجن مرة أخرى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير مكة والمدينة وذلك ما رواه الحافظ أبو نعيم فقال حدثنا سليمان حدثنا عبد الله بن كثير بن جعفر بن كثير الأنصاري ثم ا لزرقي حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده عن بلال ابن الحارث قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فخرج لحاجته وكان إذا خرج لحاجته يبعد فأتيته بأداوة من ماء فانطلق فسمعت عنده خصومة رجال ولغطا لم أسمع مثلها فجاء فقال بلال فقلت بلال قال أمعك ماء قلت نعم قال أصبت وأخذه منى فتوضأ فقلت
يا رسول الله سمعت عندك خصومة رجال ولغطا ما سمعت أحد من ألسنتهم قال اختصم عندي الجن المسلمون والجن المشركون سألوني أن أسكنهم فأسكنت المسلمين الجلس واسكنت المشركين الغور
(1/60)
---(53/60)
قلت قد تقدم هذا الحديث في الباب الثامن في بيان مساكن الجن وذكرنا طرقه هناك وقد ورد ما يدل على أنا ابن مسعود حضر ليلة اخرى بمكة غير ليلة الحجون فقال أبو نعيم حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا علي بن الحسين بن أبي بردة البجلي حدثنا يحيى بن يعلى الأسلمي عن حرب بن صبيح حدثنا سعيد بن مسلم عن ابي مرة الصنعاني عن ابي عبد الله الجدلي عن عبد الله بن مسعود قال استتبعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن فانطلقت معه حتى بلغنا أعلى مكة فخط على خطة وقال لا تبرح ثم انصاع في الجبال فرأيت الرجال يتحدرون عليه من رؤوس الجبال حتى حالوا بيني وبينه فاخترطت السيف وقلت لأضربن حتى استنقذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكرت قوله لا تبرح حتى آتيك قال فلم أزل كذلك حتى أضاء الفجر فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا قائم فقال ما زلت على حالك قال لو مكثت شهرا ما برحت حتى تأتيني ثم أخبرته بما أردت أن أصنع فقال لو خرجت ما التقيت أنا وأنت إلى يوم القيامة ثم شبك أصابعه في أصابعي وقال إني وعدت أن تؤمن بي الجن والإنس فأما الإنس فقد آمنت بي وأما الجن فقد رأيت وما أظن أجلي إلا قد اقترب قلت يا رسول الله ألا تستخلف أبا بكر فأعرض عني فرأيت أنه لم يوافقه قلت يا رسول الله ألا تستخلف عمر فاعرض عني فرأيت أنه لم يوافقه قلت يا رسول الله ألا تستخلف عليا قال ذاك والذي لا إله غيره لو بايعتموه وأطعمتموه أدخلكم الجنة أكتعين
(1/61)
---(53/61)
وقال البيهقي حدثنا ابو عبد الرحمن السلمي وأبو نصر بن قتادة قالا أنا محمد بن يحيى بن منصور القاضي حدثنا أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم البوشنجي حدثنا روح بن صلاح حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال استتبعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال إن نفرا من الجن خسمة عشر بني إخوة وبني عم يأتويني الليلة فاقرأ عليهم القرآن فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فخط لي خطا واجلسني فقال لا تخرج من هذا فبت فيه حتى أتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع السحر في يده عظم حائل وروثة وحممة فقال إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء قال فلما أصبحت قلت لأعلمن علم حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فذهبت فرأيت موضع مبرك ستين بعيرا أه
وروى البيهقي عن ابن مسعود أنه أبصر زظا في بعض الطريق فقال ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن وكانوا مستنفرين يتبع بعضهم بعضا وقال عباس الدوري حدثنا عثمان بن عمر عن مستمر بن الريان عن أبي الجوزاء عن عبد الله بن مسعود قال انطلقت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط على خطا ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه فقال سيد لهم يقال له وردان إني أنا أرحلهم عنك فقال إني لن يجيرني من الله أحد وروى البيهقي بسنده عن أبي المليح الهذلي أنه كتب إلى أبي عبيدة أن عبد الله بن مسعود يسأله أين قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجن فكتب إليه أنه قرأ عليهم بشعب يقال له الحجون فظاهر هذه الأحاديث التي ذكرناها يدل على أن وفادة الجن كانت ست مرات
الأولى قيل فها اغتيل أو استطير والتمس
الثانية كانت بالحجون
الثالثة كانت باعلى مكة وانصاع في الجبال
الرابعة كانت ببقيع الفرقد وفي هؤلاء الليالي الثلاث حضر ابن مسعود وخط عليه
الخامسة كانت خارج المدينة حضرها ابن الزبير بن العوام
السادسة كانت في بعض أسفاره حضرها بلال بن الحارث والله أعلم(53/62)
(1/62)
---
وقال هشام بن عمار الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد العنبري عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال ما لي أراكم سكوتا الجن كانوا أحسن منكم ردا ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( إلا قالوا ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد ورواه البيهقي من وجه آخر عن جابر والله اعلم
الباب العشرون في فرق الجن ونحلهم
وقد أخبرنا الله تعالى عن الجن أنهم قالوا ) وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ( أي مذاهب شتى مسلمون وكفار وأهل سنة وأهل بدعة وقالوا ) وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ( والقاسط الجائر يقال قسط إذا جار وأقسط إذا عدل وقد استعمل قسط بمعى عدل وهو قليل وقد قدمنا أن جن نصيبين كانوا يهودا ولذلك قال انزل من بعد موسى وقدمنا أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث حاطب بن أبي بلتعة ذاك عمرو بن الجومانة قتله محصن بن جوشن النصراني وقال الإمام احمد في كتاب الناسخ والمنسوخ حدثنا مطلب بن زياد عن السدي قال في الجن قدرية ومرجئة وشيعة وقال حدثنا يونس في تفسير شيبان عن قتادة قوله ) كنا طرائق قددا ( قال كان القوم على أهواء شتى حدثنا عبد الوهاب في تفسير سعيد عن قتادة ) وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ( قال كان القوم على أهواء شتى والله أعلم
الباب الحادي والعشرون في تعبد الجن مع الإنس جماعة وفرادى
قال ابن أبي الدنيا حدثني محمد بن الحسين حدثنا عبد الرحمن ابن عمر والباهلي سمعت السري بن اسماعيل يذكر عن يزيد الرقاشي أن صفوان بن محرز المازني كان إذا قام إلى تهجده من الليل قام معه سكان داره من الجن فصلوا بصلاته واستمعوا لقراءته
(1/63)
---(53/63)
قال السري فقلت ليزيد وأنى علم قاله كان إذا قام سمع لهم ضجة فاستوحش لذلك فنودي لا تفزع يا عبد الله فإنا نحن إخوانك نقوم بقيامك للتهجد فنصلي بصلاتك قال فكأنه أنس بعد ذلك إلى حركتهم
حدثني الحسين بن علي العجلي حدثنا أبو أسامة عن الأجلح عن أبي الزبير قال بينا عبد الله بن صفوان قريبا من البيت إذ أقبلت حية من باب العراق حتى طافت بالبيت سبعا ثم أتت الحجر فاستلمته فنظر إليها عبد الله بن صفوان فقال أيها الجان قد قضيت عمرتك وإنا نخاف عليك بعض صبياننا فانصرفي فخرجت راجعة من حيث جاءت
وروى سفيان الثورى عن عكرمة عن ابن عباس قال خرج رجل من خيبر فتبعه رجلان وأخر يتلوهما يقول ارجا حتى أدركهما فردهما ثم لحق الرجل فقال إن هذين شيطانان وشيطانان وإنى لم إزل بهما حتى رددتهما عنك فإذا اتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقرئه السلام وأخبره أنا في جمع صدقاتنا ولو كانت تصلح له لبعثنا بها إليه فلما قدم الرجل المدينة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره قال فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك عن الخلوة والله أعلم
الباب الثانى والعشرون فى ثواب الجن على أعمالهم
اختلف العلماء فى الجن هل لهم ثواب على قولين فقيل لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقول لهم كونوا ترابا مثل البهائم وهو قول أبي حنيفة حكاه ابن حزم وغيره عنه قال ابن ابي الدنيا حدثنا داود ابن عمر والضبي حدثنا عفيف بن سالم عن سفيان الثورى عن ليث ابن أبي سليم قال ثواب الجن أن يجاروا من النار ثم يقال لهم كونوا ترابا
(1/64)
---(53/64)
قال أبو حفص بن شاهين فى كتاب العجائب والغرائب حدثنا ابو القاسم البغوي حدثنا أبو الربيع الزهراني عن يعقوب العمى عن جعفر ابن ابي المغيرة عن أبي الزناد قال إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال الله تعالى لمؤمني الجن وسائر الأمم كونوا ترابا فحينئذ يقول الكافر ) يا ليتني كنت ترابا ( والقول الثاني إنهم يثابون على الطاعة ويعاقبون على المعصية وهو قول ابن أبي ليلى ومالك وذكر ذلك مذهبا للأوزاعي وأبي يوسف ومحمد ونقل على الشافعي وأحمد بن حنبل فقال نعم له ثواب وعليهم عقاب وهو قول اصحابهما وأصحاب مالك وسئل ابن عباس هل لهم ثواب وعليهم عقاب فقال نعم لهم ثواب وعليهم عقاب
وقال ابن شاهين في غرائب السنن حدثنا عبد الله بن سليمان حدثنا محمد بن صدقة الجيلاني حدثنا أبي حدثنا أبو حياة وهو شريح
(1/65)
---(53/65)
ابن يزيد بن أرطأة بن المنذر قال سألت ضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي هل للجن ثواب فقال نعم قال أرطأة ثم نزع ضمرة بهذا الآية ) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ( وقال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أبي حدثنا عيسى بن زياد ان يحيى بن الضريس قال سمعت يعقوب قال قال ابن أبي ليلى لهم ثواب يعني للجن فوجدنا تصديق قوله في كتاب الله تعالى ) ولكل درجات مما عملوا ( وقال ابن الصلاح في بعض تعاليقه حكى عن ابن عبد الحكم صاحبه محمد بن رمضان الزيات المالكي أنه سئل عن الجن هل لهم جزاء في الآخرة على أعمالهم فقال نعم والقرآن يدل على ذلك قال الله تعالى ) ولكل درجات مما عملوا ( وقال أبو الشيخ حدثنا ابو الوليد حدثنا هيثم عن حرملة قال سئل ابن وهب وانا اسمع هل للجن ثواب وعقاب قال ابن وهب قال الله تعالى ) حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس ( إلى قوله ) مما عملوا ( قال محمد بن رشد أبو الوليد القاضي في كتاب الجامعة للبيان والتحصيل قال اصبع وسمعت ابن القاسم يقول للجن الثواب والعقاب وتلا قول الله تعالى ) وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (
قال ابن رشد استدلال ابن القاسم على ما ذكر من أن للجن الثواب والعقاب بما تلاه من قول الله تعالى استدلال صحيح بين لا إشكال فيه بل هو نص على ذلك والقاسطون في هذه الآية الحائدون عن الهدى المشركون بدليل قوله تعالى ) وأنا منا المسلمون ( ففي الجن مسلمون ويهود ونصارى ومجوس وعبدة أوثان قال بعض أهل التفسير في تفسير قوله تعالى ) وأنا منا الصالحون ( قال يريد المؤمنين ومنا دون ذلك قال يريد غير
المؤمنين وقوله تعالى ) كنا طرائق قددا ( أي مختلفون في الكفر يهود ونصارى ومجوس وعبدة أوثان
(1/66)
---(53/66)
وقال أبو الشيخ حدثنا جعفر بن أحمد بن فارس حدثنا حميد حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي سفيان عن مغيث بن سمي قال ما خلق الله تعالى من شيء إلا وهو يسمع زفير جهنم غدوة وعشية إلا الثقلين الذين عليهم الحساب والعقاب والله أعلم
الباب الثالث والعشرون في دخول كفار الجن النار
اتفق العلماء على أن كافر الجن معذب في الآخرة كما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز كقوله تعالى ) فالنار مثوى لهم ( وقوله تعالى ) وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ( والله أعلم
الباب الرابع والعشرون في دخول مؤمنيهم الجنة
اختلف العلماء في مؤمني الجن هل يدخلون الجنة على أربعة أقوال
احدها أنهم يدخلون الجنة وعليه جمهور العلماء وحكاه ابن حزم في الملل عن أبن أبي ليلى وأبي يوسف وجمهور الناس قال وبه نقول ثم اختلف القائلون بهذا القول إذا دخلوا الجنة هل يأكلون فيها ويشربون وساقه منذر بن سعد في تفسيره فقال حدثنا علي بن الحسن حدثنا عبد الله ابن الوليد العدني عن جويبر عن الضحاك فذكره
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا أحمد بن بجير حدثنا عبد الله بن ضرار ابن عمر وحدثنا أبي عن مجاهد أنه سئل عن الجن المؤمنين أيدخلون الجنة قال يدخلونها ولكن لا يأكلون ولا يشربون يلهمون من التسبيح والتقديس ما يجده أهل الجنة من لذة الطعام والشراب وذهب الحارث المحاسبي إلى أن الجن الذين يدخلون الجنة يوم القيامة نراهم فيها ولا يروننا عكس ما كانوا عليه في الدنيا
القول الثاني أنهم لا يدخلونها بل يكونون في ربضها يراهم الإنس من حيث لا يرونهم وهذا القول مأثور عن مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد حكاه ابن تيمية في جواب ابن مرى وهو خلاف ما حكاه ابن حزم عن أبي يوسف
(1/67)
---(53/67)
وقال أبو الشيخ حدثنا الوليد بن الحسن بن أحمد بن الليث حدثنا اسماعيل بن مهرام حدثنا المطلب بن زياد أظنه قال عن ليث بن أبي سليم قال مسلمو الجن لا يدخلون الجنة ولا النار وذلك أن الله تعالى أخرج أباهم من الجنة فلا يعيده ولا يعيد بنيه
القول الثالث أنهم على الأعراف وفيه حديث مسند سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
القول الرابع الوقف واحتج أهل القول الأول بوجوه
أحدها العمومات كقوله تعالى ) وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد ( وقوله تعالى ) وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ( وقوله - صلى الله عليه وسلم - من شهد أن لا إله إلا الله خالصا دخل الجنة فكما أنهم يخاطبون بعمومات الوعيد بالإجماع فكذلك يكونون مخاطبين بعمومات الوعد بطريق الأولى ومن أظهر حجة في ذلك قوله تعالى ) ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ( إلى آخر السورة
والخطاب للجن والإنس فامتن عليهم سبحانه بجزاء الجنة ووصفها لهم وشوقهم إليها فدل ذلك على أنهم ينالون ما امتن عليهم به إذا آمنوا وقد جاء في حديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه لما تلا علهيم هذه السورة الجن كانوا أحسن ردا وجوابا منكم ما تلوت عليهم من آية إلا قالوا ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب رواه الترمذي
الوجه الثاني ما استدل به ابن حزم من قوله ) أعدت للمتقين ( وبقوله تعالى حاكيا عنهم ومصدقا لمن قال ذلك منهم ) وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ( وقوله تعالى ) قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ( وقوله تعالى ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ( إلى آخر السورة
(1/68)
---(53/68)
قال صفة تعم الجن والإنس عموما لا يجوز البتة أن يخص منها أحد النوعين ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يخبرنا بخبر عام وهو لا يريد إلا بعض ما أخبرنا به ثم لا يبين ذلك وهو ضد البيان الذي ضمنه الله تعالى لنا فكيف وقد نص على أنهم من جملة المؤمنين الذين يدخلون الجنة ولا بد
الوجه الثالث روى منذر وابن أبي حاتم في تفسيريهما عن مبشر ابن اسماعيل قال تذاكرنا عند ضمرة بن حبيب أيدخل الجن الجنة قال نعم وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى ) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ( للجنيات والإنس للإنسيات
قال الجمهور فدل على تأتي الطمث من الجن لأن طمث الحور العين إنما يكون في الجنة
الوجه الرابع قال أبو الشيخ حدثنا اسحاق بن أحمد حدثنا عبد الله بن عمران حدثنا معاوية حدثنا عبد الواحد بن عبيد عن الضحاك عن ابن عباس قال الخلق أربعة فخلق في الجنة كلهم وخلق في النار كلهم وخلقان في الجنة والنار فأما الذي في الجنة كلهم فالملائكة وأما الذي في النار كلهم فالشياطين وأما الذين في الجنة والنار فالإنس والجن لهم الثواب وعليهم العقاب
الوجه الخامس إن العقل يقوى ذلك وإن لم يوجبه وذلك أن الله تعالى قد أوعد من كفر منهم وعصى النار فكيف لا يدخل من أطاع منهم الجنة وهو سبحانه وتعالى الحكم العدل الحليم الكريم فإن قيل قد أوعد الله تعالى من قال من الملائكة إنه إله من دونه ومع هذا ليسوا في الجنة فالجواب من وجوه
أحدها أن المراد بذلك إبليس لعنه الله قال ابن جريج في قوله تعالى ) ومن يقل منهم إني إله من دونه ( فلم يقله إلا إبليس لعنه الله دعا إلى عبادة نفسه فنزلت هذه الآية فيه يعني إبليس لعنه الله وقال قتادة هي خاصة بعدو الله إبليس لعنه الله لما قال ما قال لعنه الله وحوله
شيطانا رجيما قال ) فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ( حكى ذلك عنهما الطبري
(1/69)
---(53/69)
الوجه الثاني أن ذلك وإن سلمنا إرادة العموم منه فهذا لا يقع من الملائكة عليهم السلام بل هو شرط والشرط لا يلزم وقوعه وهو نظير قوله تعالى ) لئن أشركت ليحبطن عملك ( والجن يوجد منهم الكافر ويدخل النار
الوجه الثالث أن الملائكة وإن كانوا لا يجازون بالجنة إلا أنهم يجازون بنعيم يناسبهم على أصح قولى العلماء واحتج أهل القول الثاني بقوله تعالى حكاية عن الجن أنهم قالوا لقومهم ) يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ( قالوا فلم يذكر دخول الجنة فدل على أنهم لا يدخلونها لأن المقام مقام تبجح والجواب عن هذا من وجوه
أحدها أنه لا يلزم من سكوتهم أو عدم علمهم بدخول الجنة نقيه
الوجه الثاني إن الله أخبر أنهم ولوا إلى قومهم منذرين فالمقام مقام إنذار لا مقام بشارة
الوجه الثالث أن هذه العبارة لا تقتضي نفي دخول الجنة بدليل ما أخبر الله تعالى عن الرسل المتقدمة أنهم كانوا ينذرون قومهم العذاب ولا يذكرون لهم دخول الجنة كما أخبر عن نوح عليه السلام في قوله تعالى ) إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ( وهود عليه الصلاة والسلام ) عذاب يوم عظيم ( وشعيب عليه الصلاة السلام ) عذاب يوم عظيم ( وكذلك غيرهم وقد أجمع المسلمون على أن مؤمنهم يدخل الجنة
الوجه الرابع إن ذلك يستلزم دخول الجنة لأن من غفر ذنبه وأجير من عذاب الله تعالى وهو مكلف بشرائع الرسل فإنه يدخل الجنة وقد ورد في القول الثالث حديث ساقه الحافظ أبو سعيد عن محمد
(1/70)
---(53/70)
ابن عبد الرحمن الكنجرودي في أماليه فقال حدثنا أبو الفضل نصر بن محمد العطار نا أحمد بن الحسين بن الأزهر بمصر حدثنا يوسف بن يزيد القراطيسي حدثنا الوليد بن موسى حدثنا منبه عن عثمان عن عروة بن رويم عن الحسن عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب فسألنا عن ثوابهم وعن مؤمنيهم فقال على الأعراف وليسوا في الجنة فقالوا ما الاعراف قال حائط الجنة تجري منه الأنهار وتنبت فيه الاشجار والثمار قال شيخنا الحافظ أبو عبدالله الذهبي تغمده الله تعالى برحمته هذا منكر جدا والله تعالى أعلم
الباب الخامس والعشرون في أن مؤمنيهم إذا دخلوا الجنة هل يرون الله تعالى أم لا
(1/71)
---(53/71)
قد وقع في كلام ابن عبد السلام في القواعد الصغرى ما يدل على أن مؤمني الجن إذا دخلوا الجنة لا يرون الله تعالى وأن الرؤية مخصوصة بمؤمني البشر فإنه صرح بأن الملائكة لا يرون الله تعالى في الجنة ومقتضى هذا أن الجن لا يرونه فإنه صرح قال وقد أحسن الله تعالى إلى النبيين والمرسلين وأفاضل المؤمنين بالمعارف والأحوال والطاعات والإذعان ونعيم الجنان ورضا الرحمن والنظر إلى الديان مع سماع تسليمه وكلامه وتبشيره بتأيد الرضوان ولم يثبت للملائكة مثل ذلك ولا شك أن أجساد الملائكة أفضل من أجساد البشر وأما أرواحهم فإن كانت أعرف بالله تعالى وأكمل أحوالا بأحوال البشر فهم أفضل من البشر وإن استوت الأرواح في ذلك فقد فضلت الملائكة البشر بالأجساد فإن اجسادهم من نور وأجساد البشر من لحم ودم وفضل البشر الملائكة بما ذكرناه من نعيم الجنان وقرب الديان ورضاه وتسليمه وتقريبه والنظر إلى وجهه الكريم وإن فضلهم البشر في المعارف والأحوال والطاعات كانوا بذلك أفضل منهم وبما ذكرناه مما وعدوا به في الجنان ولا شك أن للبشر طاعات لم يثبت مثلها للملائكة كالجهاد والصبر ومجاهدة الهوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ الرسالات والصبر على البلايا والمحن والرزايا ومشاق العبادات لأجل الله تعالى وقد ثبت أنهم
(1/72)
---(53/72)
يرون ربهم ويسلم عليهم ويبشرهم بإحلال رضوانه عليهم أبدا ولم يثبت مثل هذا للملائكة عليهم الصلاة والسلام وإن كان الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون فرب عمل يسير أفضل من تسبيح كثير وكم من نائم أفضل من قائم وقد قال تعالى ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ( أي خير الخليقة والملائكة من الخليقة لا يقال الملائكة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات لان هذا اللفظ مخصوص بمن آمن من البشر في عرف الشرع فلا تندرج فيه الملائكة لعرف الاستعمال فإن قيل الملائكة يرون ربهم كما تراه الأبرار قلت يمنع منه عموم عمومه في الملائكة الأبرار انتهى ما ذكره قلت والبشر اسم لبني آدم وكنية آدم عليه الصلاة والسلام أبو البشر كذا جاء مصرحا به في حديث الشفاعة في الصحيح قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو ا لبشر فإذا استثنى المؤمنون من عموم قوله تعالى ) لا تدركه الأبصار ( وبقي على عمومه في الملائكة على ما قرره ابن عبد السلام فحينئذ يبقى على عمومه في الجن والله أعلم
الباب السادس والعشرون في حكم الصلاة خلف الجني
نقل ابن أبي الصيرفي الحراني الحنبلي في فوائده عن شيخه أبي البقاء العكبري الحنبلي أنه سئل عن الجن هل تصح الصلاة خلفه فقال نعم لأنهم مكلفون والنبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل إليهم والله أعلم
الباب السابع والعشرون في بيان انعقاد الجماعة بهم
(1/73)
---(53/73)
قال الإمام أحمد حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن ابن اسحاق حدثني أبو عميس عتبة بن عبد الله بن عتبة عن أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث المخزومي عن عبد الله بن مسعود قال بينا نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة وهو في نفر من اصحابه اذ قال ليقم منكم معي رجلان ولا يقومن معي رجل في قلبه من الغش مثقال ذرة قال فقمت معه واخذت إداوة ولا أحسبها الا ماء فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بأعلى مكة رأيت أسودة مجتمعة قال فخط لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا ثم قال قم ههنا حتى آتيك قال فقمت ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فرأيتهم يثورون إليه قال فسمر معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلا طويلا حتى جاءني مع الفجر فقال ما زلت قائما يا ابن مسعود قال فقلت يا رسول الله أو لم تقل قم حتى آتيك قال ثم قال لي هل معك من وضوء قال فقلت نعم ففتحت الإداوة فإذا هو نبيذ فقال رسول الله ثمرة طيبة وماء طهور ثم قال توضأ منها فلما قام يصلي أدركه شخصان منهم فقالا له يا رسول الله إنا نحب أن تؤمنا في صلاتنا قال فصفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلفه ثم صلى بنا ثم انصرف قلت له من هؤلاء يا رسول الله قال هؤلاء جن نصيبين جاءوني يختصمون إلي في أمور كانت بينهم وقد سألوني الزاد فزودتهم قال فقلت وهل هناك يا رسول الله من شيء تزودهم إياه قال فزودتهم الرجعة وما وجدوا من روث وجدوه شعيرا وما وجدوا من عظم وجدوه كاسيا قال وعند ذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستطاب بالروث والعظم
(1/74)
---(53/74)
وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق أنبأنا سفيان عن أبي فزارة حدثنا أبو زيد عن ابن مسعود قال لما كان ليلة الجن تخلف منهم رجلان وقالا نشهد الفجر معك يا رسول الله فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - أمعك ماء قلت ليس معي ماء ولكن معي إداوة فيها نبيذ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمرة طيبة وماء طهور فتوضأ وفي رواية عبد الرزاق عن قيس بن الربيع عن أبي فزارة عن أبي زيد عن ابن مسعود فساق حديث الخط وقال في آخره ثمرة طيبة وماء طهور فتوضأ واقام الصلاة فلما قضى الصلاة قام إليه رجلان من الجن فسألاه المتاع فقال ألم آمر لكما ولقومكما بما يصلحكم قالوا بلى ولكن أحببنا ان يشهد بعضنا معك الصلاة فقال ممن أنتما قال لا من أهل نصيبين فقال أفلح هذان وأفلح قومهما وأمر لهما بالروث والعظام طعاما ولحما ونهى ان يستنجى بعظم أو روثة
ورواه الثوري وإسرائيل وشريك والجراح بن مليح وأبو عميس كلهم عن أبي فزارة وقال أبو الفتح اليعمري وغير طريق أبي فزارة عن أبي زيد لهذا الحديث أقوى منها للجهالة الواقعة في أبي زيد ولكن أصل الحديث مشهور عن ابن مسعود من طرق حسان متضافرة يشد بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض ولم تنفرد طريق أبي زيد إلا فيها من التوضوء بنبيذ التمر وليس ذلك مقصودا الآن
وروى سفيان الثوري في تفسيره عن إسماعيل البجلي عن سعيد ابن جبير قال تعالى ) وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ( قال قالت الجن للنبي - صلى الله عليه وسلم - كيف لنا بمسجدك أن نشهد الصلاة معك ونحن ناءون عنك فنزلت ) وأن المساجد لله ( وذكر ابن الصيرفي في نوادره انعقاد الجماعة بالجن والله تعالى أعلم
الباب الثامن والعشرون في حكم مرور شيطان الجن بين يدي المصلى
(1/75)
---(53/75)
اختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل فيما اذا مر جني بين يدي المصلى هل يقطع عليه صلاته ويستأنفها فروى عنه أنه يقطعها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه وسلم حكم بقطع الصلاة بمرور الكلب الأسود فقيل له ما بال الأحمر من الأبيض من الأسود فقال الكلب الأسود شيطان الكلاب والجن تتصور بصورته كما تقدم والرواية الثانية لا يقطعها وهاتان الروايتان حكاهما ابن حامد وغيره وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع على الصلاة يحتمل أن يكون قطعها بمروره بين يديه ويحتمل أن يكون قطعها بأن يصدر من العفريت أفعال يحتاج إلى دفعها بأفعال تكون منافية للصلاة فتقطعها تلك الأفعال
الباب التاسع والعشرون في بيان الحكم إذا قتل الإنسي جنيا
قال أبو الشيخ حدثنا أبو الطيب أحمد بن روح حدثنا محمد ابن عبد الله بن يزيد مولى قريش حدثنا عثمان بن عمر عن عبيد الله ابن أبي يزيد عن ابن أبي مليكة أن جانا كان لا يزال يطلع على عائشة رضي الله عنها فأمرت به فقتل فأتيت في المنام فقيل قتلت عبد الله المسلم فقالت لو كان مسلما لم يطلع على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل لها ما كان يطلع حتى تجمعي عليك ثيابك وما كان يجئ إلا ليستمع القرآن فلما أصبحت أمرت باثني عشر ألف درهم ففرقت في المساكين ورواه أبو بكر بن ابي شيبة في مصنفه فقال حدثنا عبد الله بن بكر السهمي عن جابر بن أبي مغيرة عن ابن أبي مليكة عن عائشة بنت صالحة عن عائشة رضي الله عنها نحوه وقال أبو بكر عبد الله بن محمد أخبرني أبي أنبأنا محمد بن جعفر حدثنا مسلم عن سعيد عن حبيب قال رأت عائشة رضي الله عنها حية في بيتها فأمرت بقتلها فقتلت فأتيت في تلك الليلة فقيل لها إنها من النفر الذين استمعوا الوحي من النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسلت إلى اليمن فابتيع لها أربعون رأسا فأعتقتهم
فصل
(1/76)
---(53/76)
روى الترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديث صيفي مولى ابي السائب عن أبي سعيد رفعه أن بالمدينة نفرا من الجن قد اسلموا فإذا رأيتم من هذه الهوام شيئا فآذنوه ثلاثا فإن بدا لكم فاقتلوه
وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي سعيد كان فتى منا حديث عهد بعرس فخرجنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى الخندق فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإنصاف النهار فيرجع إلى أهله فاستأذنه يوما فقال له خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح لكي يطعنها فأصابته غيرة فقالت له اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي اخرجني فدخل فإذا بحية عظيمة منصوبة على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه فما ندرى أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى
قال الشيخ أبو العباس قتل الجن بغير حق لا يجوز كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق والظلم محرم في كل حال فلا يحل لأحد أن يظلم أحدا ولو كافرا قال تعالى ) ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ( والجن يتصورون في صور شتى فإذا كانت حيات البيوت قد تكون جنيا فتؤذن ثلاثا فإن ذهبت فيها وإلا قتلت فإنها إن كانت حية أصلية فقد قتلت وإن كانت جنية فقد اصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك والعادي هو الصائل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلا فأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك فلا يجوز والله تعالى أعلم
الباب الموفى ثلاثين في مناكحة الجن
قد قدمنا مناكحة الجن فيما بينهم وهذا الباب في بيان المناكحة بين الإنس والجن والكلام هنا في مقامين
أحدهما في بيان إمكان ذلك ووقوعه
(1/77)
---(53/77)
والثاني في بيان مشروعيته أما الأول فنقول نكاح الإنسي الجنية وعكسه ممكن قال الثعالبي زعموا أن التناكح والتلاقح قد يقعان بين الإنس والجن قال الله تعالى ) وشاركهم في الأموال والأولاد ( وقال - صلى الله عليه وسلم - إذا جامع الرجل امرأته ولم يسم انطوى الشيطان إلى أحليله فجامع معه
وقال ابن عباس إذا أتى الرجل امرأته وهي حائض سبقه الشيطان إليها فحملت فجاءت بالمخنث فالمؤنثون أولاد الجن رواه الحافظ ابن جرير
ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح الجن وقول الفقهاء لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وكراهة من كرهه من التابعين دليل على إمكانه لأن غير الممكن لا يحكم عليه بجواز ولا بعدمه في الشرع
فإن قيل الجن من عنصر النار والإنسان من العناصر الأربعة وعليه فعنصر النار يمنع من أن تكون النطفة الإنسانية في رحم الجنية لما فيها من الرطوبة فتضمحل ثمة لشدة الحرارة النيرانية ولو كان ذلك ممكنا لكان ظهر
أثره في حل النكاح بينهم وهذا السؤال هو الذي أورد على المسألة الباعثة على تأليف هذا الكتاب والجواب من وجوه
(1/78)
---(53/78)
الأول أنهم وإن خلقوا من نار فليسوا بباقين على عنصرهم النارى بل قد استحالوا عنه بالأكل والشرب والتوالد والتناسل كما استحال بنو آدم عن عنصرهم الترابي بذلك على أنا نقول إن الذي خلق من نار هو أبو الجن كما خلق آدم ابو الإنس من تراب واما كل واحد من الجن غير أبيهم فليس مخلوقا من النار كما أن كل واحد من بني آدم ليس مخلوقا من تراب وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وجد برد لسان الشيطان الذي عرض له في صلاته على يده لما خنقه وفي رواية قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فما زلت أخنقه حتى برد لعابه فبرد لسان الشيطان ولعابه دليل على أنه انتقل عن العنصر الناري إذ لو كان باقيا على حاله فمن أين جاء البرد روقد بسطنا القول في انتقالهم من العنصر الناري في الباب الثالث الذي عقدناه في بيان ما خلقوا منه فلا حاجة بنا إلى إعادته وهذا المصروع يدخل بدنه الجني ويجري الشيطان من ابن آدم مجرى الدم فلو كان باقيا على حاله لأحرق المصروع ومن جرى منه مجرى الدم
وقد سئل مالك بن أنس رضي الله عنه فقيل إن ههنا رجلا من الجن يخطب إلينا جارية يزعم أنه يريد الحلال فقال ما أرى بذلك بأسا في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها من زوجك قالت من الجن فيكثر الفساد في الإسلام بذلك
وهذا الذي ذكرناه عن الإمام مالك رضي الله عنه أورده أبو عثمان سعيد بن العباس الرازي في كتاب الإلهام والوسوسة في باب نكاح الجن فقال حدثنا مقاتل حدثني سعد بن داود الزبيدي قال كتب قوم من إلى مالك بن أنس رضي الله عنه يسألونه عن نكاح الجن وقالوا إن ههنا رجلا من الجن إلى آخره
الوجه الثاني إنا لو سلمنا عدم إمكان العلوق فلا يلزم من عدم
(1/79)
---(53/79)
إمكان العلوق عدم إمكان الوطء في نفس الأمر ولا يلزم من عدم إمكان العلوق أيضا عدم إمكان النكاح شرعا فإن الصغيرة والآيسة والمرأة العقيم لا يتصور منهن علوق والرجل العقيم لا يتصور منه إعلاق ومع هذا فالنكاح لهن مشروع فإن حكمة النكاح وإن كانت لتكثير النسل ومباهاة الأمم بكثرة الأمة فقد يتخلف ذلك
الوجه الثالث قوله ولو كان ذلك ممكنا لكان ظهر أثره في حل النكاح هذا غير لازم فإن الشيء قد يكون ممكنا ويتخلف لمانع فإن المجوسيات والوثنيات العلوق فيهن ممكن ولا يحل نكاحهن وكذلك المحارم ومن يحرم من الرضاع والمانع في كل موضع بحسبه والمانع من جواز النكاح بين الإنس والجن عند من منعه إما اختلاف الجنس عند بعضهم أو عدم حصول المقصود على ما نبينه أو عدم حصول الإذن من الشرع في نكاحهم أما اختلاف الجنس فظاهر مع قطع النظر عن إمكان الوقاع وإمكان العلوق واما عدم حصول المقصود من النكاح فنقول إن الله امتن علينا بأن خلق لنا من أنفسنا أزواجا لنسكن إليها وجعل بيننا مودة ورحمة فقال تعالى ) يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ( وقال تعالى ) هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ( وقال تعالى ) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( وقال تعالى ) فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ( والجن ليسوا من أنفسنا فلم يجعل منهم أزواج لنا فلا يكونون لنا أزواجا لفوات المقصود من حل النكاح من بني آدم وهو سكون احد الزوجين إلى الآخر لأن الله تعالى أخبر أنه جعل لنا من أنفسنا أزواجا لنسكن إليها فالمانع الشرعي حينئذ من جواز النكاح
(1/80)
---(53/80)
بين الإنس والجن عدم سكون أحد الزوجين إلى الآخر إلا أن يكون عن عشق وهوى متبع من الإنس والجن فيكون إقدام الإنسي على نكاح الجنية للخوف على نفسه وكذلك العكس إذ لو لم يقدموا على ذلك لآذوهم وربما أتلفوهم البتة ومع هذا فلا يزال الإنسي في قلق وعدم طمأنينة وهذا يعود على مقصود النكاح بالنقض وأخبر الله تعالى أنه جعل بين الزوجين مودة ورحمة وهذا منتف بين الإنس والجن لأن العداوة بين الإنس والجن لا تزول بدليل قوله تعالى ) وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو (
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الطاعون وخز أعدائكم من الجن ولأن الجن خلقوا من نار السموم فهم تابعون لأصلهم
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى قال احترق بيت في المدينة على أهله بالليل فحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - بشأنهم فقال إن هذه النار إنما هي عدو لكم فإذا نمتم فاطفئوها عنكم فإذا كانت النار عدوا لنا فما خلق منها فهو تابع لها في العداوة لنا لأن الشيء يتبع أصله فإذا انتفى المقصود من النكاح وهو سكون أحد الزوجين إلى الآخر وحصول المودة والرحمة بينهما انتفى ما هو وسيلة اليه وهو جواز النكاح وأما عدم حصول الإذن من الشرع في نكاحهم فإن الله تعالى يقول ) فانكحوا ما طاب لكم من النساء ( والنساء اسم للإناث من بنات آدم خاصة والرجال إنما أطلق على الجن لأجل مقابلة اللفظ في قوله تعالى ) وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ( وقال تعالى ) قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ( وقال تعالى ) إلا على أزواجهم ( فأزواج بني آدم من الأزواج المخلوقات لهم من أنفسهم المأذون في نكاحهن وما عداهن فليسوا لنا بأزواج ولا مأذون لنا في نكاحهن والله أعلم هذا ما تيسر لي في الجواب وفتح الله علي به وبالله التوفيق
فصل
(1/81)
---(53/81)
وأما وقوع ذلك فقال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب اتباع السنن والأخبار حدثنا محمد بن حميد الرازي حدثنا أبو الأزهر حدثنا الأعمش حدثني شيخ من نجيل قال علق رجل من الجن جارية لنا ثم خطبها إلينا وقال إني أكره أن أنال منها محرما فزوجناها منه قال فظهر معنا يحدثنا فقلنا ما أنتم فقال أمم أمثالكم وفينا قبائل كقبائلكم قلنا فهل فيكم هذه الأهواء قال نعم فينا من كل الأهواء القدرية والشيعة والمرجئة قلنا من أيها أنت قال من المرجئة
وقال أحمد بن سليمان النجاد في أماليه حدثنا علي بن الحسن بن سليمان ابي الشعناء الحضرمي أحد شيوخ مسلم حدثنا أبو معاوية سمعت الاعمش يقول تزوج إلينا جني فقلت له ما أحب الطعام إليكم فقال الأرز قال فأتيناه به فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدا فقلت فيكم من هذه الأهواء التي فينا قال نعم قلت فما الرافضة فيكم قال شرنا قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي تغمده الله برحمته هذا إسناد صحيح إلى الأعمش وقال ابو بكر الخرائطي حدثنا ابو بكر أحمد بن منصور الرمادي حدثنا داود الصفدي حدثنا ابو معاوية الضرير عن الأعمش قال شهدت نكاحا للجن بكوني قال وتزوج رجل منهم إلى الجن فقيل لهم أي الطعام أحب إليكم قالوا الأرز قال الأعمش فجعلوا يأتون بالجفان فيها الأرز فيذهب ولا نرى الأيدي ورواه أيضا أبو بكر محمد بن أحمد ابن أبي شيبة في كتاب القلائد له فقال حدثنا أمية سمعت أبا سليمان الجوزجاني حدثنا أبو معاوية عن الأعمش بنحوه وقال بكر بن ابي الدنيا حدثني عبد الرحمن حدثنا عمر حدثنا ابو يوسف السروجي قال جاءت امرأة إلى رجل بالمدينة فقالت إنا نزلنا قريبا منكم فتزوجني قال فتزوجها
(1/82)
---(53/82)
ثم جاءت إليه فقالت قد حان رحلينا فطلقني فكانت تأتيه بالليل في هيئة امرأة قال فبينا هو في بعض طرق المدينة إذ رآها تلتقط حبا مما يسقط من أصحاب الحب قال أفتبتغينه فوضعت يدها على رأسها ثم رفعت عينها إليه فقالت له باي عين رأيتني قال بهذه فأومأت بأصبعها فسالت عينه وحدثنا القاضي جلال الدين أحمد بن القاضي حسام الدين الرازي الحنفي تغمده الله برحمته قال سفر والدي لإحضار أهله من الشرق فلا جزت البيرة ألجأنا المطر إلى أن نمنا في مغارة وكنت في جماعة فبينا أنا نائم إذا أنا بشيء يوقظني فانتبهت فإذا بامرأة وسط في النساء لها عين واحدة مشقوقة بالطول فارتعبت فقالت ما عليك من بأس إنما أتيتك لتتزوج ابنة لي كالقمر فقلت لخوفي منها على خيرة الله تعالى ثم نظرت فإذا برجال قد أقبلوا فنظرتهم فإذا هم كهيئة المرأة التي أتتني عيونهم كلها مشقوقة بالطول في هيئة قاض وشهود فخطب القاضي وعقد فقبلت ثم نهضوا وعادت المرأة ومعها جارية حسناء إلا أن عينها مثل عين أمها وتركتها عندي وانصرفت فزاد خوفي واستيحاشي وبقيت أرمى من كان عندي بالحجارة حتى يستيقظوا فما انتبه منهم أحد فاقبلت على الدعاء والتضرع ثم آن الرحيل فرحلنا وتلك الشابة لا تفارقني فدمت على هذا ثلاثة أيام فلما كان اليوم الرابع أتتني المرأة وقالت كأن هذه الشابة ما أعجبتك وكأنك تحب فراقها فقلت أي والله قالت فطلقها فطلقتها فانصرفت ثم لم أرهما بعد
(1/83)
---(53/83)
وهذه الحكاية كانت تذكر عن القاضي جلال الدين فحكيتها للقاضي الإمام العلامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن فضل الله العمري تغمده الله برحمته فقال أنت سمعتها من القاضي جلال الدين فقلت لا فقال أريد أن أسمعها منه فمضينا إليه وكنت أنا السائل له عنها فحكاها كما ذكرتها إلى آخرها فسألت القاضي شهاب الدين هل أفضى إليها فزعم أن لا وقد ألحق القاضي شهاب الدين هذه الحكاية في ترجمة القاضي جلال الدين في كتاب مسالك الأبصار بخطه على حاشية الكتاب
هل كان ابوا بلقيس من الجن وقد قيل إن أحد أبوي بلقيس كان جنيا قال الكلبي كان أبوها من عظماء الملوك وولده ملوك اليمن كلها وكان يقول ليس في ملوك الأطراف من يدانيني فتزوج امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن فولدت له بلقيس وتسمى بلقمة ويقال إن مؤخر قدميها كان مثل حافر الدابة ولذلك اتخذ سليمان عليه السلام الصرح الممرد من قوارير وكان بيتا من زجاج يخيل للرائي أنه يضطرب فلما رأته كشفت عن ساقيها فلم ير غير شعر خفيف ولذك أمر بإحضار عرشها ليختبر عقلها به ثم أسلمت وعزم سليمان على تزويجها فأمر الشياطين فاتخذوا الحمام والنورة وهو أول من اتخذ الحمام والنورة وطلوا بالنورة ساقيها فصار كالفضة فتزوجها وأرادت منه ردها إلى ملكها ففعل ذلك وأمر الشياطين فبنوا لها باليمن الحصون التى لم ير مثلها وهى غمدان ونينوى وغيرهما وأبقاها على ملكها وكان يزورها في كل شهر مرة على البساط والريح وبقى ملكها إلى أن مات فزال بموته قال أبو منصور الثعالبي في فقه اللغة ويقال للمتولد بين الإنسى والجنية الخس وللمتولد بين الآدمى والسعلاة العملوق
فصل
(1/84)
---(53/84)
وأما المقام الثانى أهو مشروع أم لا فقد روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - النهى عنه وروى عن جماعة من التابعين كراهته قال حرب الكرمانى في مسائله عن أحمد وإسحاق حدثنا محمد بن يحيى القطيعى حدثنا بشر بن عمر حدثنا ابن لهيعة عن يونس بن يزيد عن الزهرى قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح الجن وهو مرسل وفيه ابن لهيعة
حدثنا معاوية عن الحجاج عن الحكم أنه كره نكاح الجن حدثنا إبراهيم بن عروة حدثنى سليمان بن قتيبة حدثني عقبة الرومانى قال سألت قتادة عن تزويج الجن فكرهه وسألت الحسن عن تزويج الجن
(1/85)
---(53/85)
فكرهه وقال أبو بكر بن محمد القرشي حدثنا بشر بن يسار عن عبد الله حدثنا أبو الجنيد الضرير حدثنا عقبة بن عبد الله أن رجلا أتى الحسن ابن الحسن البصري فقال يا ابا سعيد أن رجلا من الجن يخطب فتاتنا فقال الحسن لا تزوجوه ولا تكرموه فاتى قتادة فقال يا ابا الخطاب إن رجلا من الجن يخطب فتاة لنا فقال لا تزوجوه ولكن إذا جاء فقولوا إنا نخرج عليك إن كنت مسلما لما انصرفت عنا ولم تؤذنا فلما كان من الليل جاء الجني حتى قام على الباب فقال أتيتم الحسن فسألتموه فقال لكم لا تزوجوه ولا تكرموه ثم أتيتم قتادة فسألتموه فقال لا تزوجوه ولكن قولوا له أنا نخرج عليك إن كنت رجلا مسلما لما انصرفت عنا ولم تؤذنا فقالوا له ذلك فانصرف عنهم ولم يؤذهم وقال ابو عثمان سعيد ابن العباس الرازي في كتاب الإلهام والوسوسة باب في نكاح الجن فساق ما ذكرناه عن مالك ثم قال حدثنا أبو بشر بكر بن خلف حدثنا أبو عاصم عن سفيان الثوري عن الحجاج بن أرطاة عن الحكم أنه كان يكره نكاح الجن ورواه أبو حماد الحنفي عن الحجاج بن أرطاة عن الحكم ابن عتيبة أنه كره نكاح الجن وقال حرب قلت لإسحاق رجل ركب البحر فكسر به فتزوج جنية قال مناكحة الجن مكروهة وقال ابن أبي الدنيا حدثنا الفضل بن اسحاق حدثنا ابو قتيبة عن عقبة الاصم وقتادة وسئلا عن تزويج الجن فكرهاه قال وقال الحسن خرجوا عليه نخرج عليك أن تسمعنا صوتك أو ترينا خلقك ففعلوا فذهب
وقال الشيخ جمال الدين السجستاني من أئمة الحنفية في كتاب منية المفتي عازيا له إلى الفتاوي السراحية لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء لاختلاف الجنس وذكر الشيخ نجم الدين الزاهدي في قنية المنية سئل الحسن البصري عن التزويج بجنية فقال يجوز بشهود رجلين حم وعك لا يجوز بغيرهما قال يصفع السائل لحماقته
(1/86)
---(53/86)
قلت حم رمز أبي حامد وعك رمز عين الأئمة الكرابيسي وهذا الذي ذكره الشيخ جمال الدين السجستاني من أنه لا يجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء دليل على إمكان ذلك
وقد روى أبو عبد الرحمن الهروي في كتاب العجائب ما يدل على إمكان ذلك ووقوعه فقال حدثنا أبو بشر عبد الرحمن بن كعب ابن البداح بن سهل بن محمد بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري حدثني ابن عمي عقبة بن الزبير بن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري عن بعض أشياخه ممن يثق به أنه رأى رجلا معه ابن له فنهره ذات يوم وذكر والدته فقال له الشيخ لا تفعل فإني أحدثك سبب هذا وسبب والدته فذكر أنه ركب البحر فكسر به وسلم على لوح فأقام بجزيرة حينا يأكل من ثمرها ويأوي إلى شجرة من اشجارها فبينا هو ذات ليلة إذ خرج من البحر حوار مع كل واحدة درة ترمى بها ثم تعدو في إثرها وضوئها حتى تأخذها ولهن غنغنة كأمثال الخطاطيف قال فتحرك منه ما يتحرك من الرجال وهش إليهن فتعرف أمورهن وآخرهن ليلة وثانية ثم نزل فقعد في أصل شجرة حيث لا يرونه فلما خرجن غدا في إثرهن فتعلق بشعر واحدة منهن وكان شعرها يجللها فجاء بها يقودها حتى شدها بأصل الشجرة ثم وطئها فحملت منه بهذا الغلام فلم يزل يعذبها حتى أرضعته سنة ثم هم بحلها فكره ذلك وقال حتى يبلغ الفطام ويأكل وهي في خلال ذلك تحمل الغلام فرحا به إلا أنها لا تتكلم فرحا أنها قد ألفته وأنها لا تبرح فحلها فاستغفلته وخرجت تعدو حتى القت نفسها في البحر وبقي الصبي في يديه فلم يكن باسرع من أن مر به مركب فلوح له ففر به وخرج إلى بلاده فهذه قصة هذا الغلام قال الشيخ جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعي المصري في جملة مسائله التي سأل عنها قاضي القضاة شرف الدين أبا القاسم هبة الله بن عبد الرحيم بن البارزي مسألة هل يجوز الزواج من الجن عند الإرادة أم يمنع بينه وبين ذلك إذا أراد أن يتزوج امرأة من الجن عند فرض إمكانه(53/87)
(1/87)
---
فهل يجوز ذلك أم يمتنع فإن الله تعالى قال ) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ( البارزي بأن جعل ذلك من جنس ما يؤلف فإن جوزنا ذلك وهو المذكور في شرح
الوجيز المعزي إلى ابن يونس فتتفرع منه أشياء منها أنه هل يجبرها على ملازمة المسكن أم لا وهل له منعها من التشكل في غير صورة الآدميين عند القدرة عليه لانه قد تحصل النفرة أم لا وهل يعتمد عليها فيما يتعلق بشروط صحة النكاح من أمر وليها وخلوها عن الموانع أم لا وهل يجوز قبول ذلك من قاضيهم أم لا وهل إذا رآها في صورة غير التي يألفها وادعت أنه هي هل يعتمد عليها ويجوز له وطؤها أم لا وهل يكلف الإتيان بما يألفونه من قوتهم كالعظم وغيره إذا أمكن الاقتيات بغيره أم لا
الجواب على السائل لا يجوز له أن يتزوج من الجن امرأة لعموم الآيتين الكريمتين قوله تعالى في سورة النحل ) والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ( وفي سورة الروم ) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ( قال المفسرون في معنى الآيتين ) جعل لكم من أنفسكم ( أي من جنسكم ونوعكم وعلى خلقكم كما قال تعالى ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم ( أي من الآدميين ولأن اللائي يحل نكاحهن بنات العمومة وبنات الخئولة فدخل في ذلك من هي في نهاية البعد كما هو المفهوم من آية الأحزاب في قوله ) وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك ( والمحرمات غيرهن وهن الأصول والفروع وفروع أول الاصول وأول فرع من باقي الأصول كما في آية التحريم في النساء فهذا كله في النسب وليس بين الآدميين والجن نسب وأما الجن فيجب الإيمان بوجودهم وقد صح أنهم يأكلون ويشربون ويتناكحون وقيل إن أم بلقيس كانت من الجن وقيل إنهم يشاركون الرجل في المجامعة إذا لم يذكر اسم الله تعالى وينزل في المرأة وهو المراد من قوله تعالى ) وشاركهم في الأموال والأولاد ( وهو المفهوم من قوله تعالى ) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (
(1/88)
---(53/88)
وفي الحديث من سنن ابي داود من حديث عبد الله بن مسعود أنه قدم وفد الجن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا محمد إنه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روث أو حممة فإن الله تعالى جاعل لنا فيها رزقا وفي صحيح مسلم فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن وفي البخاري من حديث أبي هريرة قال فقلت ما بال العظم والروث قال هما طعام الجن وأنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما
قلت والظاهر عن الأعمش جوازه لأنا قدمنا عنه أنه حصر نكاحا للجن بكوثى قال وتزوج رجل منهم إلى الجن وقوله فيما صح عنه تزوج إلينا جني فسألته إلى آخره دليل على أنه كان جائزا عنده إذ لو كان حراما لما حضره وقد روى عن زيد العمى أنه قال اللهم ارزقني جنية أتزوجها قيل له يا أبا الحواري وما تصنع بها قال تصحبني في اسفاري حيث كنت كانت معي رواه حرب عن اسحاق اخبرني محرز شيخ من اهل مروثقة قال سمعت زيد العمي يقول فذكره وقد قدمنا أن ظاهر قول مالك بن أنس رضي الله عنه ما أرى بذلك بأسا في الدين يدل على جوازه عنده وإنما كرهه لمعنى آخر هو منتف في العكس والله أعلم
الباب الحادي والثلاثون في بيان تعرض الجن لنساء الإنس
(1/89)
---(53/89)
قال عبد الله بن محمد القرشي حدثنا عبد العزيز بن معاوية القرشي حدثنا ابو عامر الضرير حدثنا حماد بن سلمة عن داود بن هند عن سماك ابن حرب عن جرير بن عبد الله قال إني لأسير بتستر في طريق من طرقها وقت الذي فتحت إذ قلت لا حول ولا قوة إلا بالله قال فسمعني هربذ من أولئك الهرابذة فقال ما سمعت هذا الكلام من أحد منذ سمعته من السماء قال قلت فكيف ذلك قال إني كنت رجلا أفد على الملوك أفد على كسرى وقيصر فوفدت عاما على كسرى فخلفني في أهلي شيطان يكون على صورتي فلما قدمت لم يهش أهلي كما يهش أهل الغائب إلى غائبهم فقلت ما شأنكم فقالوا إنك لم تغب قال قلت وكيف ذلك قال فظهر لي فقال اختر أن يكون لك منها يوم ولي يوم قال فأتاني يوما فقال إنه ممن يسترق السمع وإن استراق السمع بيننا نوب وأن نوبتي الليلة فهل لك أن تجئ معنا قلت نعم فلما أمسى أتاني فحملني على ظهره فإذا له معرفة كمعرفة الخنزير فقال لي استمسك فإنك ترى أمورا وأهوالا فلا تفارقني فتهلك قال ثم عرجوا حتى لحقوا بالسماء قال فسمعت قائلا يقول لا حول ولا قوة إلا بالله ما شاء الله كان وما شاء لم يكن قال فلحق بهم فوقعوا من وراء العمران في غياض وشجر قال فحفظت الكلمات فلما أصبحت أتيت أهلي وكان إذا جاء قلتهن فنضطرب حتى يخرج من كوة البيت فلم أزل أقولهن حتى
(1/90)
---(53/90)
انقطع عني حدثنا الحسن بن جهور حدثني ابن ابي إلياس حدثني أبي عباد بن اسحاق عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن سعد بن أبي وقاص قال بينا أنا بفناء داري إذ جاءني رسول زوجتي فقال أجب فلانة فاستنكرت ذلك فدخلت فقلت مه فقالت إن هذه الحية وأشارت إليها كنت أراها بالبادية إذا خلوت ثم مكثت لا أراها حتى رأيتها الآن وهي هي أعرفها بعينها قال فخطب سعد خطبة حمد الله وأثنى عليه ثم قال إنك قد آذيتني وإني أقسم لك بالله إن رأيتك بعد هذا لأقتلنك فخرجت الحية فانسابت من البيت ثم من باب الدار وأرسل سعد معها إنسانا فقال انظر أين تذهب فتبعها حتى جاءت المسجد ثم جاءت منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقت فيه مصعدة إلى السماء حتى غابت وفي الباب عدة أخبار مفرقة في الأبواب الآتية حسبما اقتضاه التبويب كزيادة في كل خبر وبالله التوفيق
الباب الثاني والثلاثون في منع بعض الجن بعضا من التعرض لنساء الإنس
قال القرشي في مكايد الشيطان حدثني ابو سعيد المديني حدثني اسماعيل بن أبي أويس حدثني محمد بن حسن حدثني ابراهيم بن هارون ابن موسى بن محمد بن إياس بن البكير الليثي حدثني أبي عن حسن بن حسن قال دخلت على الربيع بنت معوذ بن عفراء أسألها عن بعض الشيء فقالت بينا أنا في مجلسي إذ انشق سقفي فهبط على منه أسود مثل الجمل أو مثل الحمار لم أر مثل سواده وخلقه وفظاعته قالت فدنا مني يريدني وتبعته صحيفة صغيرة ففتحها فقرأها فإذا فيها من رب عكب إلى عكب أما بعد فلا سبيل لك إلى المرأة الصالحة بنت الصالحين قال فرجع من حيث جاء وأنا انظر إليه قال حسن بن حسن فأرتني الكتاب وكان عندهم
(1/91)
---(53/91)
حدثني أبو جعفر الكندي حدثنا إبراهيم بن صرمة الأنصاري عن يحيى بن سعيد قال لما حضرت عمرة بنت عبد الرحمن الوفاة اجتمع عندها أناس من التابعين فيهم عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو سلمة ابن عبد الرحمن فبينا هم عندها وقد أغمي عليها إذ سمعوا نفيضا من السقف إذ ثعبان أسود قد سقط كأنه جذع عظيم فاقبل يهوي نحوها إذ سقط رق أبيض مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم من رب عكب إلى عكب ليس لك على بنات الصالحين سبيل فلما نظر إلى الكتاب سما حتى خرج من حيث نزل حدثني محمد بن قدامة حدثنا عمر بن يونس اليمامي الحنفي قال حدثنا عكرمة بن عمار حدثني اسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال حدثني أنس بن مالك قال كانت ابنة عوف بن عفراء مستلقية على فراشها فما شعرت إلا بزنجي قد وثب على صدرها ووضع يده في حلقها فإذا صحيفة صفراء تهوي بين السماء والأرض حتى وقعت على صدري فأخذها فقرأها فإذا فيها
من رب لكين إلى لكين اجتنب ابنة العبد الصالح فإنه لا سبيل لك عليها فقام وأرسل بيده من حلقي وضرب بيده على ركبتي فاستورمت حتى صارت مثل راس الشاة قالت فأتيت عائشة رضي الله عنها فذكرت ذلك لها فقالت يا ابنة أخي إذا خفت فاجمعي عليك ثيابك فإنه لن يضرك إن شاء الله قال فحفظها الله بأبيها فإنه كان قتل يوم بدر شهيدا
الباب الثالث والثلاثون في بيان حكم وطء الجني الأنسية هل يوجب عليها الغسل أم لا
ذكر في الفتاوي الظهيرية قال وفي صلاة ابن عبدك امرأة قالت معي جني يأتيني في اليوم مرارا وأجد في نفسي ما أجد إذا جامعني زوجي لا غسل عليها وذكر أبو المعالى بن منجي الحنبلي في كتاب شرح الهداية لابن الخطاب الحنبلي في امرأة قالت إن جنيا يأتيني كما يأتي الرجل المرأة فهل يجب عليها غسل قال بعض الحنفية لا غسل عليها أو كذا قال ابو المعالي لو قالت امرأة معي جني كالرجل لا غسل عليها لانعدام سببه وهو الإيلاج والاحتلام فهو كالمنام بغير إنزال
(1/92)
---(53/92)
قلت وفيما قاله من التعليل نظر لأنها إذا كانت تعرف أنه يجامعها كالرجل فكيف تقول يجامعني ولا إيلاج ولا احتلام وإذا انعدم السبب وهو الإيلاج والاحتلام فكيف يوجد الجماع والله تعالى أعلم
الباب الرابع والثلاثون في أن المخنثين أولاد الجن
قال الطرطوسي في كتاب تحريم الفواحش باب من أي شيء يكون المخنث حدثنا أحمد بن محمد حدثنا أحمد بن محمد القاضي حدثنا ابن أخي ابن وهب حدثني عمي عن يحيى عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال المخنثون أولاد الجن قيل لابن عباس كيف ذلك قال ان الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - نهيا أن يأتي الرجل امرأته وهي حائض فإذا أتاها سبقه إليها الشيطان فحملت فجاءت بالمخنث والله أعلم
الباب الخامس والثلاثون في حكم المرأة إذا اختطف الجن زوجها
(1/93)
---(53/93)
قال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثني اسماعيل بن اسحاق حدثنا خالد ابن الحارث حدثنا سعيد بن ابي عروبة عن قتادة عن أبي نصرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن رجلا من قومه خرج ليصلي مع قومه صلاة العشاء ففقد فانطلقت امرأته إلى عمر بن الخطاب فحدثته بذلك فسأل عن ذلك قومها فصدقوها فأمرها أن تتربص أربع سنين فتربصت ثم أتت عمر فأخبرته بذلك فسأل عن ذلك قومها فصدقوها فأمرها أن تتزوج ثم أن زوجها الأول قدم فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب فقال عمر يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته قال كان لي عذر قال وما عذرك قال خرجت أصلي مع قومي صلاة العشاء فسبتني أو قال أصابتني الجن فكنت فيهم زمنا طويلا فغزاه جن مؤمنون فقاتلوهم فظهروا عليهم فأصابوا لهم سبايا فكنت فيمن أصابوا فقالوا ما دينك قلت مسلم قالوا أنت على ديننا لا يحل لنا سبيك فخيروني بين المقام وبين القفول فاخترت القفول فأقبلوا معي بالليل بشر يحدثونني وبالنهار أعصار ريح أتبعها فقال فما كان طعامك قال كل ما لم يذكر اسم الله عليه قال فما كان شرابك قال الجدف قال قتادة الجدف ما لم يخمر من الشراب قال فخيره عمر رضي الله عنه بين المرأة وبين الصداق قال أيضا وحدثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن يوسف حدثنا سفيان بن عيينة بن عمرو
ابن دينار عن يحيى بن جعدة قال انتسفت الجن رجلا على عهد عمر رضي الله عنه فلم يدروا أحيا هو أم ميتا فأتت امرأته عمر رضي الله عنه فأمرها أن تتربص أربع سنين ثم أمر وليه أن يطلق ثم أمرها أن تعتد وتتزوج فإن جاء زوجها خير بينها وبين الصداق والله تعالى أعلم
الباب السادس والثلاثون في النهي عن أكل ما ذبح للجن وعلى اسمهم
(1/94)
---(53/94)
قال يحيى بن يحيى قال لي وهب استنبط بعض الخلفاء عينا وأراد إجراءها وذبح للجن عليها لئلا يغوروا ماؤها فأطعم ذلك أناسا فبلغ ذلك ابن شهاب فقال إما إنه قد ذبح ما لم يحل له وأطعم الناس ما لا يحل لهم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل ما ذبح للجن
قال الطليطلي وأخبرني يحيى بن يحيى عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل ما ذبح للجن وعلى اسمهم ونقلت عن خط الشيخ العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الحنبلي قال وقد وقعت هذه الواقعة بعينها في مكة ستة إجراء العين بها فأخبرني إمام الحنابلة بمكة وهو الذي كان إجراؤها على يده وتولى مباشرتها بنفسه نجم الدين خليفة بن محمود الكيلاني قال لما وصل الحفر إلى موضع ذكره خرج أحد الحفارين من تحت الحفر مصروعا يتكلم فمكث كذلك طويلا فسمعناه يقول يا مسلمين لا يحل لكم أن تظلمونا قلت أنا له وبأي شيء ظلمناكم قال نحن سكان هذه الأرض ولا والله ما فيهم مسلم غيري وقد تركتهم ورائي مسلمين وإلا كنتم لقيتم منهم شرا وقد أرسلوني إليكم يقولون لا ندعكم تمرون بهذا الماء في ارضنا حتى تبذلوا لنا حقنا قلت وما حقكم قال تأخذون ثورا فتزينوه بأعظم زينة وتلبسونه وتزفونه من داخل مكة حتى تنتهوا به إلى هنا فاذبحوه ثم اطرحوا لنا دمه وأطرافه ورأسه في بئر عبد الصمد وشأنكم بباقيه وإلا فلا ندع الماء بجري في هذه الأرض أبدا قلت نعم أفعل ذلك قال وإذا بالرجل قد أفاق يمسح وجهه وعينيه ويقول لا إله إلا الله أين أنا قال وقام الرجل
(1/95)
---(53/95)
ليس به قلبة فذهبت إلى بيتي فلما اصبحت ونزلت أريد المسجد إذا برجل على الباب لا أعرفه فقال الحاج خليفة ههنا قلت وما تريد به قال حاجة أقولها له قلت له الحاجة وأنا أبلغه إياها فإنه مشغول قال لي قل له إني رأيت البارحة في النوم ثورا عظيما قد زينوه بأنواع الحلي واللباس وجلوا به يزفونه حتى مروا به على دار خليفة فوقفوه إلى أن خرج ورآه وقال نعم هو هذا ثم أقبل به يسوقه والناس خلفه يزفونه حتى خرج به من مكة فذبحوه وألقوا رأسه وأطرافه في بئر قال فعجبت من منامه وحكيت الواقعة والمنام لأهل مكة وكبرائهم فاشتروا ثورا وزينوه والبسوه وخرجنا به نزفه حتى انتهينا إلى موضع الحفر فذبحناه وألقينا رأسه وأطرافه ودمه في البئر التي سماها قال ولما كنا قد وصلنا إلى ذلك الموضع كان الماء يغور فلا ندري أين يذهب اصلا ولا ندري له عينا ولا أثرا قال فما هو إلا أن طرحنا ذلك في البئر قال وكأني بمن أخذ بيدي وأوقفني على مكان وقال احفروا ههنا قال فحفرنا وإذا بالماء يموج في ذلك الموضع وإذا طريق منقورة في الجبل يمر تحتها الفارس بفرسه فأصلحناها ونظفناها فجرى الماء فيها نسمع هديره فلم يكن إلا نحو أربعة أيام وإذا بالماء بمكة وأخبرنا من حول البئر أنهم لم يكونوا يعرفون في البئر ماء يردونه فما هو إلا أن امتلأت وصارت موردا قال العلامة شمس الدين وهذا نظير ما كان عادتهم قبل الإسلام من تزيين جارية حسناء وإلباسها أحسن ثيابها وإلقائها في النيل حتى يطلع ثم قطع الله تلك السنة الجاهلية على يدي من أخاف الجن وقمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهكذا هذه العين وأمثالها لو حفرها رجل عمري يفرق منه الشيطان لجرت على رغمهم ولم يذبح لهم عصفور فما فوقه ولكن لكل زمان رجال قال وهذا الرجل الذي أخبرني بهذه الحكاية كنت نزيله وجاره وخيرته فرأيته من أصدق الناس وأدينهم واعظمهم أمانة وأهل البلد كلمتهم واحدة على صدقة ودينه وشاهدوا هذه الواقعة بعيونهم(53/96)
(1/96)
---
والله الهادي للحق
الباب السابع والثلاثون في رواية الجن الحديث
قال أبو نعيم حدثنا الحسن بن إسحاق بن إبراهيم بن زيد حدثنا أحمد بن عمر بن جابر الرملي حدثنا أحمد بن محمد بن طريف حدثنا محمد بن كثير عن الأعمش حدثني وهب بن جابر عن أبي بن كعب قال خرج قوم يريدون مكة فأضلوا الطريق فلما عاينوا الموت أو كادوا يموتون لبسوا أكفانهم واضجعوا للموت فخرج عليهم جني يتخلل الشجر وقال أنا بقية النفر الذين استمعوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله لا يخذله هذا الماء وهذا الطريق ثم دلهم على الماء وأرشدهم إلى الطريق
وقال أبو بكر بن محمد حدثني أبي حدثنا عبد العزيز القرشي أنا اسرائيل عن السدي عن مولى عبد الرحمن بن بشر قال خرج قوم حجاجا في إمرة عثمان فأصابهم عطش فانتهوا إلى ماء ملح فقال بعضهم لو تقدمتم فإنا نخاف أن يهلكنا هذا الماء فإن أمامكم الماء فساروا حتى أمسوا فلم يصيبوا ماء فقال بعضهم لبعض لو رجعتم إلى الماء الملح فأدلجوا حتى انتهوا إلى شجرة سمر فخرج عليهم رجل أسود شديد سواد الجسم فقال يا معشر الركب إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحب للمسلمين ما يحب لنفسه ويكره للمسلمين ما يكره لنفسه فسيروا حتى تنتهوا إلى أكمة فخذوا عن يسارها فإن الماء ثم فقال بعضم والله إنا لنرى أنه شيطان وقال بعضهم ما كان الشيطان ليتكلم بمثل ما تكلم به يعني أنه مؤمن من الجن فصاروا حتى انتهوا إلى المكان الذي
وصف لهم فوجدوا الماء ثم وقد قدمنا في الباب الثامن عشر في خبر الذي دفنه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قول الجني أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ستموت بأرض فلاة فيكفنك ويدفنك رجل صالح وقول الآخر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبي المدفون ستموت في أرض غربة يدفنك فيها خير أهل الأرض والله تعالى أعلم(53/97)
(1/97)
---
الباب الثامن والثلاثون في تحمل الجن العلم عن الإنس وفتواهم للإنس
قال أبو بكر القرشي حدثني عيسى بن عبيد الله التميمي حدثنا أبو ادريس حدثني أبي عن وهب بن منبه قال كان يلتقي هو والحسن البصري في الموسم كل عام في مسجد الخيف إذا هدأت الرجل ونامت العين ومعهما جلاس لهما يتحدثون فبينا هما ذات ليلة يتحدثان مع جلسائهما إذ أقبل طائر له حفيف حتى وقع إلى جانب وهب في الحلقة فسلم فرد وهب عليه السلام وعلم أنه من الجن ثم أقبل عليه يحدثه فقال وهب من الرجل قال رجل من الجن من مسلميهم قال وهب فما حاجتك قال أو ينكر علينا أن نجالسكم ونحمل عنكم العلم إن لكم فينا رواة كثيرة وأنا لنحضركم في اشياء كثيرة من صلاة وجهاد وعيادة مريض وشهادة جنازة وحج وعمرة وغير ذلك ونحمل عنكم العلم ونسمع منكم القرآن قال له وهب فأي رواة الجن عندكم أفضل قال رواة هذا الشيخ واشار إلى الحسن فلما رأى الحسن وهبا وقد شغل عنه قال يا أبا عبد الله من تحدث قال بعض جلسائنا فلما قاما من مجلسهما سأل الحس وهبا فأخبره وهب خبر الجني وكيف فضل رواة الحسن على غيره قال الحسن يا وهب أقسمت عليك أن لا تذكر هذا الحديث لأحد فإني لا آمن أن ينزله الناس على غير ما جاء قال وهب فكنت ألقى ذلك الجني في المواسم في كل عام فيسألني فأخبره ولقد لقيته عاما في الطواف فلما قضينا طوافنا قعدت أنا وهو في ناحية المسجد فقلت له ناولني يدك فمد يده إلي فإذا هي مثل برثن الهر وإذا عليها وبر ثم مددت يدي حتى بلغت منكبه فإذا مرجع جناح قال فأغمز يده غمزة ثم تحدثنا ساعة ثم قال لي يا أبا عبد الله ناولني يدك كما
ناولتك يدي قال فأقسم بالله لقد غمز يدي غمزة حين ناولتها إياه حتى كاد يصيحني وضحك قال وهب وكنت ألقى ذلك الجني في كل عام في المواسم ثم فقدته فظننت أنه مات أو قتل قال وسأل وهب الجني أي جهادكم كما أفضل قال جهاد بعضنا بعضا
(1/98)
---(53/98)
وقال أبو عبد الرحمن بن شكر حدثنا محمد بن عيسى الجندي حدثنا صامت بن معاد عن عبد الرحمن بن يحيى عن أبيه يحيى بن ثابت قال كنت مع حفص الطائفي بمنى فإذا شيخ أبيض الرأس واللحية يفتى الناس فقال لي حفص يا أبا ايوب أترى هذا الشيخ الذي يفتى الناس هو عفريت قال فدنا منه حفص وأنا معه فلما نظرت إلى حفص وضع يده على نعليه ثم اشتد وتبعه القوم وجعل يقول يا أيها الناس إنه عفريت الباب التاسع والثلاثون في بيان وعظ الجن للإنس
قال ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن الحسين حدثنا داود بن المحبر حدثنا سوادة بن الأسود سمعت أبا خليفة العبدي قال مات ابن لي صغير فوجدت عليه وجدا شديدا وارتفع عني النوم فوالله إني ذات ليلة لفي بيتي على سريري وليس في البيت أحد وأنى لمفكر في أبني إذ ناداني مناد من ناحية البيت السلام عليكم ورحمة الله يا خليفة قلت وعليكم السلام ورحمة الله قال فرعبت رعبا شديدا ثم قرأ آيات من آخر سورة آل عمران حتى انتهى إلى قوله ) وما عند الله خير للأبرار ( ثم قال يا خليفة قلت لبيك قال ماذا تريد أن تخص بالحياة في ولدك دون الناس أفأنت أكرم على الله أم محمد - صلى الله عليه وسلم - قد مات أبنه إبراهيم فقال تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب أم تريد أن تدفع الموت عن ولدك وقد كتب على جميع الخلق أم تريد أن تسخط على الله وترد في تدبيره خلقه والله لولا الموت ما وسعتهم الأرض ولولا الأسى ما انتفع المخلوق بعيش ثم قال ألك حاجة قلت من أنت يرحمك الله قال امرؤ من جيرانك الجن والله أعلم
الباب الموفي أربعين في بيان تكلم الجن بالحكم والقائهم الشعر على ألسنة الشعراء
(1/99)
---(53/99)
قال ابن أبي الدنيا أخبرنا محمد بن أبي معشر حدثني أبي حدثني اسحاق بن عبيد الله بن ابي فروة قال إن نفرا من الجن تكونوا في صورة الإنس فأتوا رجلا فقالوا أي شيء أحب إليك أن يكون لك قال الإبل قالوا أحببت الشقاء والعناء وطول البلاء يلحقك بالغربة ويبعدك من الأحبة فارتحلوا من عنده فنزلوا بآخر فقالوا أي شيء أحب إليك أن يكون لك قال العبيد قالوا عز مستفاد وغيظ كالأوتاد ومال وبعاد فارتحلوا من عنده فنزلوا على آخر فقالوا أي شيء أحب إليك أن يكون لك قال احب الغنم قالوا أكلة آكل ورفلة سائل لا تحملك في الحرب ولا تلحقك في النهب ولا تنجيك من الكرب فارتحلوا من عنده فنزلوا على آخر فقالوا أي شيء أحب إليك أن يكون لك قال أحب الاصل قالوا ثلاثمائة وستون نخلة غناء الدهر ومال الضح قال فارتحلوا من عنده فنزلوا على آخر فقالوا أي شيء أحب إليك أن يكون لك قال أحب الحرث قالوا نصف العيش حين تحرث تجد وحين لا تحرث لا تجد قال فارتحلوا من عنده فنزلوا على آخر فقالوا أي شيء أحب إليك أن يكون لك قال كما أنتم حتى اضيفكم فجاءهم بخبز فقالوا قمح يصلح ثم جاءهم بلحم فقالوا روح تأكل روحا ما قل منه خير مما كثر قال فجاءهم بتمر ولبن فقالوا ثمر النخلات ولبن البكرات كلوا باسم الله قال فأكلوا قالوا أخبرنا ما أحد شيء وما أحسن شيء وما أطيب شيء رائحة قال أما أحد شيء فضرس جائع يقذف في معاء ضائع
وأما أحسن شيء فغادية في إثر سارية في أرض رابية وأما أطيب شيء رائحة فريح زهر في أثر مطر قالوا فأخبرنا أي شيء أحب إليك أن يكون
(1/100)
---(53/100)
لك قال أحب الموت قالوا لقد تمنيت شيئا ما تمناه أحد قبلك قال ولم فإن كنت محسنا ضمن لي إحساني وإن كنت مسيئا كفاني إساءتي وإن كنت غنيا فقبل فقرى وإن كنت فقيرا ضمن لي فقري قالوا أوصنا وزودنا فأخرج إليهم قربة من لبن وقال هذا زادكم قالوا أوصنا قال قولوا لا إله إلا الله يكفيكم ما بين أيديكم وما خلفكم فخرجوا من عنده وهم يحزمونه على الجن والإنس
قال محمد بن أبي معشر حدثني ابو النصر هاشم بن القاسم قال بلغني أن الرجل الذي عليه نزلوا بآخرة عويمر ابو الدرداء
فصل يقال للشعراء كلاب الجن قال عمرو بن كلثوم
وقد هرت كلاب الجن منا
وسدينا قتادة من يلينا
وذلك لزعمهم أن الشياطين تلقي الشعر على أفواههم وسموا الملقى تابعة وربا قال جرير
إني ليلقى على الشعر مكتهل
من الشياطين إبليس الأباليس
ووسموا توابعهم بأعلام قالوا كان للأعشى مسحل ولعمرو ابن قطن جهنام ولبشار سنقناق ويقال للخلفاء والجان جند إبليس
وكنت فتى من جند إبليس فارتقت
بي الحال حتى صار إبليس من جندي
ويقال للشعر رقي الشياطين قال جرير في عمر بن عبد العزيز
رأيت رقي الشيطان لا يستفزه
وقد كان شيطاني من الجن راقيا
وكذلك كل ما يتكلم به من كلمات الخلابة والتحميس قال
ماذا يظن بسلمى إذ يلم بها
مرجل الرأس ذو بردين وضاح
خز عمامته حلو فكاهته
في كفه من رقي الشيطان مفتاح
الباب الحادي والأربعون في تعليم الجن الطب للإنس
(1/101)
---(53/101)
قال صاحب كتاب الهواتف حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد ابن السكن حدثنا محمد بن زياد الكلبي حدثنا العلاء بن برد بن سنان عن الفضل بن حبيب السراج عن مجالد عن الشعبي عن النضر بن عمرو الحارثي قال إنا كنا في الجاهلية إلى جانبنا غدير فأرسلت ابنتي بإناء لتأتيني بماء فابطأت علينا وطلبناها فأعيتنا فأيأسونا منها قال والله إني ذات ليلة جالس بفناء مظلتي إذ طلع على شيخ فلما دنا مني إذا ابنتي قلت ابنتي قالت نعم ابنتك قلت أين كنت أي بنية قالت أرأيت ليلة بعثتني إلى الغدير أخذني جني فاستطار بي فلم أزل عنده حتى وقع بينه وبين فريقين من الجن حرب فإني أعاهد الله إن ظفر بهم أن يردني عليك فظفر بهم فردني عليك فإذا هي قد شحب لونها وتمرط شعرها وذهب لحمها وأقامت عندنا فصلحت فخطبها بنو عمها فزوجناها وقد كان الجني جعل بينه وبينها أمارة إذا رابها ريب أن تدخن له وأن ابن عمها ذاك عيب عليها وقال جنية شيطانة ما أنت بأنسية فدخنت فناداه مناد مالك ولهذه لو كنت تقدمت إليك لفقأت عينيك رعيتها في الجاهلية بحسبي وفي الإسلام بديني فقال له الرجل ألا تظهر بنا حتى نراك قال ليس ذاك لنا أن أبانا سأل لنا ثلاثا أن نرى ولا نرى وأن نكون بين أطباق الثرى وأن يعمر أحدنا حتى تبلغ ركبتاه حنكه ثم يعود فتى قال فقال يا هذا ألا تصف لي دواء حمى الربع قال بلى قال ما رأيت تلك الدويبة على الماء كأنها عنكبوت قال بلى قال خذها ثم اشدد على بعض قوائمها خيطا من عهن فشده على عضدك اليسرى ففعل قال
فكأنهما نشط من عقال قال فقال الرجل يا هذا ألا تصف لنا من رجل يريد ما تريد النساء قال هل ألمت به الرجال قال نعم قال لو لم يفعل وصفت لك
(1/102)
---(53/102)
وقال أيضا حدثنا محمد بن عمرو بن الحكم الهروي قال أنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الثقفي عن عبد الملك بن عمير عن الشعبي عن زياد بن النضر الحارثي قال كنا في غدير لنا في الجاهلية ومعنا رجل من الحي يقال له عمرو بن مالك ومعه ابنة له شابة رود فقال أي بنية خذي هذه الصفحة فأتى الغدير فأتينى من مائه فوفاها عليه جان فاختطفها فذهب بها فافتقدها أبوها فنادى في الحي فخرجنا على كل صعب وذلول وسلكنا كل شعب ونقب وطريق فلم نجد لها أثرا فلما كان في زمن عمر بن الخطاب إذا هي قد جاءت قد عفا شعرها وأظفارها فقام إليها أبوها يلثمها ويقول أي بنية أين كنت وأين نبت بك الأرض قالت أتذكر ليلة الغدير قال نعم قالت فإنه وافاني عليه جان فاختطفني فذهب بي فلم أزل فيهم والله ما نال مني محرما حتى إذا جاء الإسلام غزوا قوما مشركين منهم أو غزاهم قوم مشركون منهم فجعل الله عليه إن هو ظفر وأصحابه أن يردني على أهلي فظفر هو وأصحابه فحملني فاصبحت وأنا أنظر اليكم وجعل بيني وبينه أمارة إذا احتجت إليه أن أولول بصوتي قال فأخذوا بشعرها وأظفارها ثم زوجها أبوها شابا من الحي فوقع بينها وبينه ما يقع بين الرجل وزوجته فقال يا مجنونة إنما نشأت في الجن فولولت بصوتها فإذا هاتف يهتف بنا يا معشر بني الحارث اجتمعوا وكونوا أحياء كراما قلنا يا هذا نسمع صوتا ولا نرى شيئا قال أنا رب فلانة رعيتها في الجاهلية بحسبي وحفظتها في الإسلام بديني والله ما نلت منها محرما قط إني كنت في أرض فلان سمعت نبأة من صوتها فتركت ما كنت فيه ثم أقبلت فسألتها فقالت عيرني صاحبي أني كنت فيكم قال أما والله لو كنت تقدمت إليه لفقأت عينيه فتقدموا إليه فقلنا له أي قل اظهر لنا نكافئك فلك عندنا الجزاء والمكافأة فقال إن أبانا سأل أن نرى ولا نرى وان لا نخرج من تحت الثرى وأن يعود شيخنا فتى فقالت له عجوز من الحي أي قل بنية لي أصابتها حمى الربع فهل لنا عندك من دواء فقال على(53/103)
(1/103)
---
الخبير سقطت انظري
إلى ذباب الماء الطويل القوائم الذي يكون على أفواه الأنهار فخذي سبعة ألوان منهن من اصفره وأحمره وأخضره وأسوده فاجعليه في وسط ذلك ثم افتليه بين أصبعك ثم اعقديه على عضدها اليسرى ففعلت فكأنما نشطت من عقال وقال ابن ابي الدنيا حدثني إبراهيم بن عبد الله الهروي أنا هشيم أنا مجالد عن الشعبي قال عرض جان لإنسان مرة وكان الذي عرض له مسلم فعولج فتركه وتكلم فقال هل عندك من حمى الربع شيء قال نعم تعمدوا إلى ذباب الماء فتعقد فيه خيطا من عهن ثم تجعل في عضده فهذا من حمى الربع وقال عبد الله بن محمد القرشي حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا ابراهيم بن سليمان أبو اسماعيل المؤدب عن الأعمش عن زيد بن وهب قال غزونا فنزلنا في جزيرة وأوقدوا نارا وإذا حجرة كبيرة فقال رجل من القوم إني أرى حجرة كبيرة فلعلكم تؤذنون من فيها فحولوا نيرانهم فأتى من الليل فقيل له إنك دفعت عن دارنا وسنعلمك طبا نصيب به خيرا إذا ذكر لك المريض وجعه فما وقع في نفسك أنه دواء فهو دواء قال وكان يوما في مسجد الكوفة فأتاه رجل عظيم البطن فقال انعت لي دواء فإني كما ترى إن أكلت وإن لم آكل فقال ألا تعجبون إلى هذا الذي يسألني وهو يموت في هذا اليوم من ثمار فرجع ثم أتاه عند وفاء ذلك الوقت والناس عنده فقال إن هذا كذاب فقال سلوه ما فعل وجعه قال ذهب قال أنا خوفته بذلك وقال أبو بكر القرشي حدثنا يعقوب ابن عبيد حدثنا علي بن عاصم عن سوار بن عبد الله عن أبي ياسين قال كنا مع الحسن قعودا في المسجد فقام فانصرف إلى أهله وقعدنا بعده نتحدث في أصحابه قال ودخل بدوي من بعض أعراب بني سليم المسجد فجعل يسأل عن الحسن البصري فقلت له أقعد فقعد فقلت ما حاجتك قال إني رجل من أهل البادية وكان لي أخ من أشد قومه فعرض له بلاء فلما نزل به حتى شددناه في الحديد فبينا نحن نتحدث في نادينا إذا هاتف يقول السلام عليكم ولا نرى أحدا قال فرددنا عليهم فقالوا يا(53/104)
هؤلاء إنا
(1/104)
---
جاورناكم فلم نر بجواركم بأسا إن سفيها لنا تعرض لصاحبكم هذا فأردناه على تركه فأبى فلما رأينا ذلك أحببنا أن نعذر إليكم يا فلان لأخيه
إذا كان يوم كذا وكذا فاجمع قومك وشدوه واستوثقوا منه فإنه إن يغلبكم فلن تقدروا عليه أبدا ثم احمله على بعير فأت به وادي كذا ثم خذ من بقلة الوادي فرضه ثم أوجره إياه وإياك أن ينفلت منكم فإنه إن ينفلت لن تقدروا عليه أبدا فاستوثقوا منه فقلت رحمك الله من يدلني على الوادي وعلى هذا البقل قال إذا كان ذلك اليوم فإنك تسمع صوتا فاتبع الصوت فلما كان ذلك اليوم جمعت قومي فإذا آخى ليس بالذي كان شدة وقوة فلم نزل نعالجه حتى استوثقنا منه ثم حملته على بعير فإذا الصوت أمامي إلى فلم نزل نتبع الصوت وهو يقول إلى إلى فلان استوثقوا منه فإنه إن ينفلت منكم فلن تقدروا عليه أبدا ثم قال اهبط هذا الوادي وقالوا انخ واستوثقوا منه فإذا صاحبنا ليس بالذي كان شدة وقوة فاستوثقنا منه فقال يا فلان قم فخذ من هذا البقل فافعل كذا وكذا حتى فعلنا وهو يقول استوثقوا منه فإنه إن ينفلت فلن تقدروا عليه قال فإذا نحن لا نطيق صاحبنا فجعل ينادينا استوثقوا منه حتى استوثقنا فلما وقع في جوفه جلا عنا وعن نفسه وفتح عينيه فأقبل إلينا فقال يا أخي أخبرني ما الذي بلغ من أمري حتى صرت إلى ما أرى قال قلت يا أخي لا تسألنا قال خلوا سبيله فأطلقوه من الحديد الذي هو فيه قال فقلت له قد رأيت الذي لقينا منه واخاف أن يذهب على وجهه قال والله لا يعود إليه إلى يوم القيامة قال فأطلقناه فأقبل على بعد ما أطلقناه فقال يا أخي ما كان من أمري حتى بلغ بي ما أرى قلت لا تسألني قال خلوا عنه قال قلت رحمك الله أحسنت إلينا ولكن بقي شيء فأخبرنا به قال ما هو قلت إنك حين قلت لنا ما قلت نذرت لله تعالى إن عافى أخي أن أحج ماشيا مزموما قال والله إن هذا الشيء ما إن لنا به علم ولكن أدلك اهبط هذا الوادي فأت البصرة فاسأل عن(53/105)
الحسن بن أبي الحسن
(1/105)
---
فاسأله عن هذا فإنه رجل صالح قال أبو يس فجئنا إلى باب الحسن فاستأذنت فخرجت الجارية ثم رجعت إليه فقالت هذا أبو يس بالباب قال قولي له فليدخل فدخلت فإذا هو في غرفة أظنها من قصب وإذا في الغرفة سرير مرمول
بالشريط وإذا الحسن قاعد عليه فسلمت عليه فرد على السلام فقال يا أبا يس إنما عهدي بك منك منذ ساعة فما حاجتك قلت يا أبا سعيد معي غيري أتأذن له قال نعم فقال للخادم إئذن له فدخل إليه ثم سلم وقعد معه فقلت أعد حديثك كما حدثتني فأخذ في أوله والحسن مستقبله إلى قوله ائته أسأله فإنه رجل صالح فبكى الحسن وقال أما الزمام فمن طاعة الشيطان فلا تزم نفسك وكفر عن يمينك وأما المشي فامش إلى بيت الله تعالى وأوف بنذرك والله تعالى أعلم الباب الثاني والأربعون في اختصام الجن والإنس إلى الإنس
قال ابو سليمان محمد بن عبد الله بن دبرا الرابعي الحافظ في كتاب العجائب حدثنا أبي حدثنا أبو عبد الله احمد بن علي الدوري أخو سهل الدوري سمعت أبا ميسرة الحراني يقول اختصمت الجن والإنس إلى محمد بن علاثة القاضي في بئر بالمدائن فقال ابو عبد الله فسألت أبا ميسرة ظهرت الجن له قال لا ولكنه سمع كلامهم فحكم للإنس أن يستقوا منها من طلوع الشمس إلى غروب الشمس وحكم للجن أن يستقوا من غروب الشمس إلى طلوع الفجر قال فكان إذا استقى منها أحد بعد غروب الشمس رجم بالحجارة
الباب الثالث والأربعون في خوف الجن من الإنس
(1/106)
---(53/106)
قال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثنا داود بن عمر والضبي حدثنا عباد بن العوام أنبأنا حصين عن مجاهد قال بينا انا ذات ليلة أصلي إذ قام مثل الغلام بين يدي قال فشددت عليه لآخذه فقام فوثب فوقع خلف الحائط حتى سمعت وقعته فما عاد إلي بعد ذلك قال مجاهد إنهم يهابونكم كما تهابونهم حدثنا هارون بن عبد الله البزار حدثنا محمد بن بشر حدثني معسر بن كدام عن شيخ أرى كان يكنى أبا شراعة قال رآني يحيى ابن الجزار وأنا أهاب أن أدخل زقاقا بالليل فقال لي إن الذي تهاب هو اشد منك فرقا قال حدثنا اسحاق بن ابراهيم حدثنا محمد بن جابر عن حماد عن مجاهد قال الشيطان أشد فرقا من أحدكم منه فإن تعرض لكم فلا تفرقوا منه فيركبكم ولكن شدوا عليه فإنه يذهب والله أعلم الباب الرابع والأربعون في تسخير الجن للإنس وطاعتهم لهم
قال الله تعالى ) ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين ( وقال تعالى ) وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (
) ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا ( ) والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد ( وقال تعالى ) قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ( وفيما قص الله تعالى من أعمال الجن لسليمان عليه السلام كفاية قوله تعالى ) والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد ( روى ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عن قتادة يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وقال السدي ومن الشياطين كل بناء من البناء الذي يبنى
(1/107)
---(53/107)
قوله وغواص قال قتادة غواص يستخرجون الحلي من البحر وقال السدي الغواص الذي يقوم في الماء وآخرين مقرنين في الاصفاد قال قتادة من مردة وقال ابن عباس في وثاق وقال قتادة مقرنين في الأصفاد من السلاسل في أيديهم مصفودين مسخرين مع سليمان وقال السدي الأصفاد تجمع اليدين إلى عنقه قوله تعالى ) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ( قال السدي امنن على من شئت منهم فأعتقه وقال ابن عباس قوله ) هذا عطاؤنا فامنن ( يقول أعتق من الجن من شئت وأمسك منهم من شئت وقال قتادة هؤلاء الشياطين احبس منهم من شئت في وثاقك هذا أو سرح من شئت منهم فاتخذ عنده يدا اصنع ما شئت لا حساب عليك في ذلك قال السدي يمن على من يشاء منهم فيعتقه ويمسك من يشاء منهم فيستخدمه ليس عليه في ذلك حساب
وقال شاكر في كتاب العجائب حدثنا محمد بن عمير أبو عزيز حدثنا عمران بن موسى بمكة حدثنا علي بن مهران حدثنا جرير ابن عبد الحميد عن سفيان بن عبد الله ان عمر بن عبد العزيز سأل موسى
(1/108)
---(53/108)
ابن نصير أمير المغرب وكان يبعث في الجيوش حتى بلغ أو سمع وجوب الشمس عن أعجب شيء رآه في البحر فقال أنتهيت إلى جزيرة من جزائر البحر فإذا نحن ببيت مبني وإذا نحن فيها بسبع عشرة جرة خضراء مختومة بخاتم سليمان عليه السلام فأمرت بأربع منها فأخرجت وأمرت بواحدة منها فنقبت فإذا شيطان يقول والذي أكرمك بالنبوة لا أعود بعدها أفسد في الارض ثم نظر فقال والله ما أرى بها سليمان وملكه فانساخ في الأرض فذهب فأمرت بالبواقي فردت إلى مكانها وقال أيضا حدثنا عباس ابن الوليد بن مزيد البيروني حدثنا أبي عن موسى بن نصير وكان يهوديا من أهل الكتاب فأسلم فأمر على المغرب فخرج غازيا في البحر حتى أتى بحر الظلمة واطلق المراكب على وجوهها تسير قال فسمع شيئا يقرع المراكب فإذا بحرار خضر مختمة فهاب أن يكسر الخاتم فأمر فأخذ قلة منها ثم رجع فنظرنا فإذا هي مختمة فقال لبعض اصحابه اقدحوها من اسفلها قال فلما أخذ المقداح القلة صاح صائح لا والله يا نبي الله لا أعود قال فقال موسى هذا من الشياطين الذين سجنهم سليمان بن داود ونفذ المقداح في القلة فإذا شخص على رجل المركب فلما نظر إليهم قال أنتم هم والله لولا نعمتكم على لفرقتكم
قلت ولى موسى بن نصير غزو البحر لمعاوية وافتتح الأندلس وجرت له عجائب وقيل لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير وكثرتهم والله تعالى أعلم الباب الخامس والأربعون في دلالة الجن الإنس على ما يدفع كيدهم ويعصم منهم
قال أبو بكر عبد الله بن محمد حدثنا ابو عثمان سعيد بن عثمان الجرجاني حدثنا زيد بن الحباب العكلي حدثني عبد المؤمن بن خالد الحنفي من أهل مرو أنبأنا عبد الله بن بريدة الأسلمي عن أبي الأسود الدؤلي قال قلت لمعاذ بن جبل أخبرني عن قصة الشيطان حين أخذته فقال جعلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدقة المسلمين فجعلت الثمر في غرفة قال فوجدت فيه نقصانا فأخبرت رسول الله صلى الله
(1/109)
---(53/109)
عليه وسلم بذلك فقال هذا الشيطان يأخذه فدخلت الغرفة وأغلقت الباب فجاءت ظلمة عظيمة فغشيت الباب ثم تصور في صورة ثم تصور في صورة أخرى فدخل من شق الباب فشددت إزاري علي فجعل يأكل من الثمر فوثبت عليه فضبطته فالتفت يداي عليه فقلت يا عدو الله فقال خل عني فإني كبير ذو عيال وأنا فقير وأنا من جن نصيبين وكانت لنا هذه القرية قبل أن يبعث صاحبكم فلما بعث أخرجنا منها فخل عني فلن أعود عليك فخليته وجاء جبريل عليه السلام فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كان فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادى مناديه ما فعل أسيرك فأخبرته فقال أما إنه سيعود فعد قال فدخلت الغرفة وأغلقت على الباب فجاء فدخل من شق الباب فجعل يأكل من الثمر فصنعت به كما صنعت به في المرة الاولى فقال خل عني فإني لن أعود إليك فقلت يا عدو الله ألم تقل إنك لن تعود قال فإني لن أعود وآية ذلك أنه لايقرأ أحد منكم خاتمة البقرة فيدخل أحد منا في بيته تلك الليلة وساقه في كتاب مكايد الشيطان عن أبي سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن زيد ابن الحباب
وقال ابو القاسم الطبراني حدثنا اسماعيل بن الفضل الاسفاطي حدثنا موسى بن اسماعيل حدثنا ابان بن يزيد عن يحيى بن ابي كثير عن الحضرمي ابن لاحق عن محمد بن عمرو بن أبي بن كعب عن جده أبي بن كعب أن أباه أخبره أنه كان له جرن فيه ثمر فكان يتعهده فوجده ينقص فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبه الغلام المحتلم قال فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت ما أنت جني أم إنسي قال جني قال قلت ناولني يدك فناولني يده فإذا يد كلب وشعر كلب قال فقلت هكذا خلقه الجن قال لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني قلت ما حملك على ما صنعت قال بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك قال فقال له أبي فما الذي يجيرنا منكم قال هذه الآية التي في سورة البقرة ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( من قالها حين يصبح أجير منا حتى يمسي(53/110)
(1/110)
---
ومن قالها حين يمسي أجير منا حتى يصبح فلما أصبح أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - صدق الخبيث وهكذا رواية الحاكم في مستدركه من حديث أبي داود الطيالسي عن حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن الحضرمي بن لاحق عن محمد بن عمرو بن أبي ابن كعب عن جده به وفي الصحيح حديث ابي هريرة قال وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أعلمك كلمات ينفعك الله بهن قلت ما هي قال إذا أويت إلى فراشك فاقرا هذه الآية ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( حتى ختم الآية فإنه لن يزال عليك حافظ من الله تعالى ولا يقربك شيطان حتى تصبح فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعل أسيرك الليلة قلت يا رسول الله علمني شيئا زعم أن الله تعالى ينفعني به قال وما هو قال أمرني أن أقرأ اية الكرسي إذا أويت إلى فراشي زعم أنه لا يقربني حتى أصبح ولا يزال على من الله تعالى حافظ قال أما أنه قد صدقك وهو كذوب وقال أبو بكر القرشي في مكايد الشيطان والهواتف حدثنا اسحاق بن اسماعيل حدثنا اسامة عن اسماعيل بن أبي خالد حدثنا اسحاق قال خرج زيد ابن ثابت إلى حائط له فسمع فيه جلبة فقال ما هذا قال رجل من الجن أصابتنا السنة فأردنا أن نصيب من ثماركم أفتطيبونه قال نعم ثم خرج الليلة الثانية فسمع فيه أيضا جلبة فقال ما هذا قال رجل من الجن أصابتنا السنة فأردنا أن نصيب من ثماركم أفتطيبونه قال نعم فقال له زيد بن ثابت ألا تخبرني ما الذي يعيذنا منكم قال آية الكرسي وقال أيضا حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثني علي بن عثمان اللاحقي حدثني عبيدة بنت الوليد بن مسلم عن الوليد ابيها أن رجلا أتى شجرة أو نخلة فسمع فيها حركة فتكلم فلم يجب فقرأ آية الكرسي فنزل إليه شيطان فقال إن لنا مريضا فبم تداويه قال بالذي(53/111)
أنزلتني به من
(1/111)
---
الشجرة وقال أبو عبد الرحمن بن المنذر في كتاب العجائب حدثنا محمد بن عمران ابن حبيب البزار حدثنا القاسم بن الحكم حدثنا حمزة بن حبيب الزيات قال بينا أنا يحلوان في خان وحدي إذا أنا بشيطانين قد أقبلا فقال أحدهما
لصاحبه هذا الذي يقرئ الناس القرآن تعال نفعل به كذا وكذا قال ويلك مر قال فلما دنوا مني قرأت هذه الآية ) شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ( فقال أحدهما لصاحبه لا أرغم الله إلا بأنفك أما انا فلا أزال أحرسه إلى الصباح
(1/112)
---(53/112)
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الهواتف حدثني إبراهيم بن محمد حدثني الحسن بن عروة حدثني ابي عروة بن زيد عن ابي الاشم العبدي ولقيته بالموصل قال خرج رجل في جوف الليل إلى ظهر الكوفة فإذا هو بشيء كهيئة العريش وإذا حوله جمع قد أحدقوا به قال فكمن الرجل ينظر اليهم إذ جاء شيء حتى جلس على ذلك العريش فقال والرجل يسمع كيف لي بعروة بن المغيرة فقام شخص من ذلك الجمع فقال انا لك به فقال على به الساعة قال فتوجه نحو المدينة قال فمكث مليا ثم جاء حتى وقف بين يديه فقال ليس إلى عروة سبيل فقال الذي على العريش ولمه قال لأنه يقول كلاما حين يصبح وحين يمسي فليس إليه سبيل فتفرق ذلك الجمع وانصرف الرجل إلى منزله فلما اصبح غدا إلى الكناس واشترى جملا ثم مضى حتى أتى المدينة فلقي عروة بن المغيرة فسأله عن الكلام الذي يقوله حين يصبح وحين يمسى وقص عليه القصة فقال إني أقول حين أصبح وحين أمسي آمنت بالله وحده وكفرت بالجبت والطاغوت واستمسكت بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ثلاث مرات وقال في مكايد الشيطان حدثني الحسن بن عبد العزيز الجروي حدثنا الحارث بن مسكين حدثنا ابن وهب حدثنا عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم قال قدم رجلان من اشجع إلى عروس لهما حتى إذا كانا من ناحية بموضع ذكره إذا بامرأة قالت ما تريدان قالا عروسا لنا نجهزها قالت إن لي بأمرها كله علما فإذا فرغتما فمرا علي فلما فرغا مرا عليها قالت فإني متعتكا فحملاها على أحد بعير بعيريهما وجعلا يتعقبان الآخر
(1/113)
---(53/113)
حتى أتوا كثيبا من الرمل فقالت إن لي حاجة فأناخا بها فانتظراها ساعة فابطأت فذهب احدهما في اثرها فأبطأ قال فخرجت أطلب فإذا أنا بها على بطنه تأكل كبده فلما رأيت ذلك رجعت فركبت وأخذت طريقا واسرعت فاعترضت لي فقالت لقد اسرعت قلت رأيتك أبطأت فاركبي فرأتني ازفر فقالت مالك قلت إن بين ايدينا سلطانا ظالما جائرا قالت أفلا أخبرك بدعاء إن دعوت به عليه أهلكته وآخذ لك حقك منه قلت ما هو قال قل اللهم رب السموات وما أظلت ورب الارضين وما أقلت ورب الرياح وما أذرت ورب الشياطين وما أضلت أنت المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام تأخذ للمظلوم من الظالم حقه فخذ لي حقي من فلان فإنه ظلمني قلت فرديها على فجعلت تردها على حتى إذا أحصاها دعا بها عليها قال اللهم إنها ظلمتني وأكلت أخي قال فنزلت نار من السماء في سوأتها فشقتها باثنتين فوقعت شقة ههنا وشقة ههنا قال وهي السعلى تأكل الناس وأما الغول فمن الجن تبطل وتلعب بالناس وتضرط وتلعب بالناس لا تزيد على ذلك
وقال في مكايد الشيطان حدثنا عبد الملك بن إبراهيم البارودي حدثنا معاوية بن هشام القصار حدثنا سفيان عن ابن ابي ليلى عن أبي ايوب الانصاري قال قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن الغول تدخل على من سهوة لي قال إذا رأيتها فقل أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال فرأيتها فأخذتها فخدعتني وقالت لا أعود فخليتها فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ما فعل أسيرك فقلت أختها حلفت لي أن لا تعود فقال كذبت ستعود فعد قال فأخذتها فحلفت أن لا تعود فخليتها فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ما فعل أسيرك فقلت أخذتها فحلفت أن لا تعود فخليتها قال كذبت ستعود فعادت فأخذتها فقالت خل عني وأخبرك بشيء إذا قلته لم يقربك شيطان فخليتها فقالت اقرأ آية الكرسي قال فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ما فعل أسيرك
(1/114)
---(53/114)
فأخبرته فقال صدقت وهي كذوب ورواه الإمام أحمد عن أبي احمد الزبيري عن سفيان نحوه ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن أبي أحمد الزبيري به وقال حسن غريب والغول في لغة العرب هو الجان إذا تبدى في الليل حدثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي قال حدثنا عبد الله بن عثمان ابن اسحاق قال سمعت من أب أمي مالك بن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه عن جده أبي أسيد الساعدي الخزرجي أنه قطع ثمرة حائطه فجعله في غرفة فكانت الغول تخالفه إلى مشربته فتسرق ثمره وتفسد عليه فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال تلك الغول فاستمع منها فإذا سمعت اقتحامها قال يعني وجبها فقل باسم الله أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعل فقالت يا أبا أسيد اعفني ان تكلفني اذهب إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطيك موثقا من الله تعالى لا أخالفك إلى بيتك ولااسرق ثمرك وأدلك على آية تقرؤها على بيتك فلا تخالف أهلك وتقرؤها على إناثك فلا يكشف غطاؤه قال فأعطته الموثق الذي رضي به منها وقال الآية التي قالت أدلك عليها آية الكرسي ثم حلت استها تضرط فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقص عليه قصتها حين ولت ولها ضريط قال صدقت وهي كذوب وسيأتي إن شاء الله تعالى في الباب الرابع والثلاثين بعد المائة في بيان فرار الشيطان من عمر حديث الذي صرعه عمر وفيه قول الشيطان للمصروع اقرا سورة البقرة لأنه ليس منها أية تقرأ في وسط شياطين الا تفرقوا ولا تقرأ في بيت فيدخل ذلك البيت قال ابن أبي الدنيا حدثت عن اسحاق بن ابراهيم حدثني محمد بن منيب عن السري بن يحيى عن أبي المنذر قال حججنا فنزلنا في أصل جبل عظيم فزعم الناس أن الجن تسكنه فإذا شيخ قد أقبل من الماء فقلت يا ابا شمير ما تذكرون من جبلكم هذا هل رأيت من ذلك شيئا قط قال نعم أخذت يوما قوسا لي وأسهما فصعدت الجبل على وجل فابتنيت بيتا من شجرة عند عين من ماء فمكثت فيه فإذا
(1/115)
---(53/115)
الأروى قد أقبلت نزيل لا تخاف شيئا فشربت من تلك العين وربضت حولها فرميت كبشا منها فما أخطأت قلبه فصاح صائح فما بقي في الجبل شيء إلا ذهب يعدو على خياله قد أخيف ذعيرا أو ردها حبس الطير على أبي شمير فوق له سهما مثل السير أبيض براق العين فقتل فداء عد بن الاصبغ فقال له قائل ويلك الا تقتله قال ويلك لا استطيع قال ويلك لمه قال لأنه تعوذ بالله حين أسند إلى الجبل فلما سمعت بذلك اطمأننت والله تعالى أعلم الباب السادس والأربعون فيما يعصم به من الجن ويستدفع به شرهم
وذلك في عشر حروز
أحدها الاستعاذة بالله منه قال الله تعالى ) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ( وفي موضع آخر ) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ( وفي الصحيح أن رجلين استبا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أحمر وجه أحدهما فقال - صلى الله عليه وسلم - إني لأعلم كلم لو قالها لذهب عنه ما يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
الثاني قراءة المعوذتين روى الترمذي من حديث الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلت أخذ بهما وترك ما سواهما قال الترمذي هو حديث حسن غريب
الثالث قراءة آية الكرسي ففي الصحيح من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان فآتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث فقال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقك وهو كذوب ذاك
الشيطان
(1/116)
---(53/116)
الرابع قراءة سورة البقرة ففي الصحيح من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تجعلوا بيوتكم قبورا وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يقربه الشيطان
الخامس خاتمة سورة البقرة فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه وروى الترمذي من حديث النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقر بها شيطان
السادس أول سورة حم المؤمن إلى قوله ) إليه المصير ( مع آية الكرسي ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب عن سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قرأ حم المؤمن إلى قوله ) إليه المصير ( وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرآهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح وعبد الرحمن المليكي وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي
السابع لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة ففي الصحيح من حديث سمرة مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك
(1/117)
---(53/117)
الثامن كثرة ذكر الله عز وجل ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله تعالى أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل ان يعملوا بها وأنه كاد ان يبطئ بها قال عيسى إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني اسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم فقال يحيى عليه السلام أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ فقعدوا على الشرف فقال إن الله أمرني بخمس كلمات ان أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن مثل من اشرك بالله كمثل رجل أشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلى فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك وإن الله آمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله تعالى ينصب وجهه بوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت وآمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك وكلهم يعجب أو يعجبه ريحها فإن ريح الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك وآمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أمسكوه فأوثقوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال أنا أفديه منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم وأمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى أتى على حصن حصين فأحرس نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا آمركم بخمس الله تعالى أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا دعوى الجاهلية فإنه من جثا جهنم
(1/118)
---(53/118)
فقال رجل يا رسول الله وإن صام وصلى قال وإن صام وصلى فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقال البخاري الحارث الأشعري له صحبة وله غير هذا الحديث
التاسع الوضوء والصلاة وهما من أعظم ما يتحرز به لا سيما عند ثوران قوة الغضب والشهوة فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم كما روى الترمذي وغيره من حديث ابي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق في الأرض وفي أثر آخر أن الشيطان خلق من نار وانما تطفئ النار بالماء وفي السنن قال - صلى الله عليه وسلم - إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار وإنما تطفئ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ
العاشر إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم من هذه الأبواب الأربعة ففي مسند الإمام أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره لله عز وجل أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه والله تعالى أعلم أ ه الباب السابع والأربعون في تأثير القرآن والذكر في أبدان الجن وفرارهم من ذلك
قال ابن أبي الدنيا حدثني محمد بن الحسين حدثني يحيى ابن اسحاق البجلي وحاتم بن أبي حوثرة عن ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج قال قال شيطاني دخلت فيك وأنا مثل الجزور وأنا فيك اليوم مثل العصفور قال قلت ولم ذاك قال تذيبني بكتاب الله عز وجل حدثني محمد بن الحسين حدثني خلف بن تميم حدثنا أبو الأحوص عن أبي اسحاق عن أبي الأخوص عن عبد الله قال شيطان المؤمن مهزول
(1/119)
---(53/119)
حدثني محمد بن الحسين حدثني مجاعة بن ثابت ويحيى بن اسحاق قالا حدثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن المؤمن يضنى شيطانه كما يضني أحدكم بعيره في السفر حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن أبي خالد الوالبي قال خرجت وافدا إلى عمر رحمه الله ومعي أهلي فنزلنا منزلا وأهلي خلفي فسمعت أصوات الغلمان وجلبتهم فرفعت صوتي بالقرآن فسمعت وجبة شيء طرح فسألتهم فقالوا أخذتنا الشياطين فلعبت بنا فلما رفعت صوتك بالقرآن ألقونا وذهبوا
حكى ابن عقيل في الفنون قال كان عندنا بالظفرية يعني من بغداد دار كلما سكنها ناس أصبحوا مولى فجاء مرة رجل مقرئ فاكتراها وارتقبناها فبات بها واصبح سالما فتعجب الجيران فأقام مدة ثم انتقل فسئل فقال لما بت بها صليت بها العشاء وقرأت شيئا من القرآن وإذا شاب قد صعد من البئر فسلم على فبهت فقال لا بأس عليك علمني شيئا من القرآن فشرعت أعلمه ثم قلت هذه الدار كيف حديثها قال نحن جن مسلمون نقرأ ونصلي وهذه الدار ما يكثر بها إلا الفساق فيجتمعون على الخمر فنخنقهم قلت ففي الليل أخافك فتجئ نهارا قال نعم قال وكان يصعد من البئر بالنهار وألفته فبينما هو يقرأ إذا بمعزم في الدرب يقول المرقى من الدبيب ومن العين ومن الجن فقال أي شيء هذا قلت معزم قال أطلبه فقمت وأدخلته فإذا أنا بالجني قد صار ثعبانا في السقف فعزم الرجل فما زال الثعبان يتدلى حتى سقط في وسط المندل فقام ليأخذه ويضعه في الذنبيل فمنعته فقال أتمنعني من صيدي فأعطيته دينارا وراح فانتفض الثعبان وخرج الجني وقد ضعف ونحل واصفر وذاب فقلت مالك قال قتلني هذا بهذه الإسلامي وما أظني أقلح فاجعل بالك متى سمعت في البئر صراخا فانهزم قال فسمعت في الليل النعي فانهزمت قال ابن عقيل وامتنع أحد أن يسكن تلك الدار بعدها والله أعلم
(1/120)
---(53/120)
الباب الثامن والأربعون في السبب الذي من أجله تنقاد الجن والشياطين للعزائم والطلاسم
كفار الجن وشياطينهم يختارون الكفر والشرك ومعاصي الرب وإبليس وجنوده من الشياطين يشتهون الشر ويكيدون به ويطلبونه ويحرصون عليه يقتضى خبث أنفسهم وإن كان موجبا لعذابهم وعذاب من يغوونه كما قال إبليس ) فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ( وقال ) أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ( وقال تعالى ) ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين (
والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاحه يشتهى ما يضره ويلتذ به بل يعشق ذلك عشقا يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله والشيطان هو نفسه خبيث فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام وكتب الروحانيات السحرية وأمثال ذلك إليهم بما يحبونه من الكفر والشرك صار ذلك كالرشوة والبرطيل لهم فيقضون بعض أغراضه كمن يعطى غيره مالا ليقتل له من يريد قتله أو يعينه على فاحشة أو ينال معه فاحشة ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله تعالى بالنجاسة وقد يقلبون حروف ) قل هو الله أحد ( أو غيرها بنجاسة إما دم وإما غيره وإما بغير نجاسة ويكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان أو يتكلمون بذلك فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم إما تغوير ماء من المياه وإما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس كما
(1/121)
---(53/121)
تسرقه الشياطين من أموال الخائنين ومن لم يذكر اسم الله عليه ويأتى به وإما غير ذلك ولو سقنا في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة ومن وقعت له ممن عرفناه ومن لم نعرفه لطال ذلك جدا قال محمد بن اسحاق النديم في كتاب الفهرست في أخبار العلماء وأسماء ما صنفوه من الكتب في الفن الثاني من المقالة الثامنة زعم المعزمون والسحرة أن الشياطين والجن والارواح تطيعهم وتخدمهم وتتصرف بين أمرهم ونهيهم فأما المعزمون ممن ينتحل الشرائع فزعم أن ذلك يكون بطاعة الله جل اسمه والابتهال اليه والإقسام على الأرواح والشياطين به وترك الشهوات ولزوم العبادات وأن الجن والشياطين يطيعونهم إما طاعة لله جل اسمه لأجل الإقسام به وإما مخافة منه تبارك وتعالى ولأن في خاصية اسمائه وذكره قمعهم وإذلالهم فأما السحرة فإنها زعمت أنها تستعبد الشياطين بالقرابين والمعاصي وارتكاب المحضورات مما لله عز وجل في تركها رضا وللشياطين في استعمالها رضا مثل ترك الصلاة والصوم وإباحات الدماء ونكاح ذوات المحارم وغير ذلك من الأفعال البشرية قال محمد بن اسحاق فأما الطريقة المذمومة وهي طريقة السحرة فزعم من يجيز ذلك أن مدخ بنت إبليس وقيل هي بنت ابن إبليس لها عرش على الماء وأن المريد لهذا الأمر متى فعل لها ما تريد وصل إليها وأخدمته من يريد وقضت حوائجه ولم يحتجب عنها والذي يفعل لها القرابين من حيوان ناطق وغير ناطق وان يدع المفترضات ويستعمل كل ما يقبح في العقل استعماله وقد قيل أيضا مدح هو إبليس نفسه وقال آخر إن مدخ تجلس على عرشها فيحمل إليها المريد لطاعتها فيسجد لها قال محمد بن اسحاق النديم قال لي إنسان منهم إنه رآها في النوم جالسة على هيئتها في اليقظة وأنه رأى حولها قوما يشبهون الزط سوادية حفاة مشققي الأعقاب وقال رأيت من جملتهم ابن منذريني وهذا رجل من أكابر السحرة قريب العهد واسمه أحمد بن جعفر غلام ابن زريق وكان يناطق من تحت الطست وقال الشيخ ابو(53/122)
(1/122)
---
العباس احمد بن تيمية بعد ما حكى قريبا من هذا والذين يستخدمون الجن بهذه الأمور يزعم كثير منهم أن سليمان كان يستخدم الجن بهذه الأمور فإنه قد ذكر غير واحد من علماء السلف أن سليمان عليه الصلاة والسلام لما مات كتبت الشياطين كتب سحر وكفر
وجعلتها تحت كرسيه وقالوا كان سليمان عليه الصلاة والسلام يعمل ليستخدم الجن بهذه فطعن طائفة من أهل الكتاب في سليمان عليه الصلاة والسلام بهذا السبب وآخرون قالوا لولا أن هذا حق جائز لما فعله سليمان عليه الصلاة والسلام فضل الفريقان هؤلاء بقدحهم في سليمان عليه الصلاة والسلام وهؤلاء باتباعهم السحر فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى ) ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب ( إلى قوله ) لو كانوا يعلمون ( فبين الله تعالى أن هذا يضر ولا ينفع إذ كان النفع هو الخير الخالص أو الراجح والضرر هو الشر الخالص أو الراجح وشر هذا إما خالص أو راجح
فصل قال محمد بن اسحاق يقال والله اعلم إن سليمان بن داود أول من استعبد الجن والشياطين واستخدمها وقيل أول من استعبدها على مذاهب الفرس حمشيد بن أويخهان قال وكان يكتب لسليمان بن داود عليه الصلاة والسلام وممن استعبدهم آصف بن برخيان ويوسف بن عيصو والهرمزان بن الكردول والذي فتح هذا الأمر في الإسلام أبو نصر أحمد بن هلال البكيل وهلال بن وصيف وكان مخدوما ومناطقا له وله أفعال عجيبة وأعمال حسنة وخواتيم مجربة وله من الكتب كتاب الروح المتلاشية وكتاب المفاخرة في الأعمال وكتاب تفسير ما قالته الشياطين لسليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام وما أخذ عليهم من العهود ومن المعزمين الذين يعملون بأسماء الله تعالى رجل يعرف بابن الإمام وكان في أيام المعتضد وطريقته محمودة غير مذمومة ومنهم عبد الله بن هلال وصالح المدري وعقبة الأدرعي وأبو خالد الخراساني هؤلاء بالطريقة المحمودة ولهم أفعال جليلة وأعمال نبيلة(53/123)
(1/123)
---
قلت هذا الذي قاله النديم من أن عبد الله بن هلال كان يعمل بالطريقة المحمودة غير صحيح فقد كان عبد الله بن هلال رجلا فاجرا زنديقا يترك الصلاة تقربا إلى إبليس لعنهما الله تعالى ويأمر الشياطين فتلعب ببني آدم ويجمع بين الرجال والنساء في الحرام ويدل على ذلك ما ذكره
أبو عبد الرحمن الهروي في كتاب العجائب فقال حدثنا يحيى بن علي ابن حسن بن حمدان بن مزيد بن معاوية السعدي قال حدثني أحمد بن عبد الملك قال جاء رجل إلى عبد الله بن هلال الكوفي وكان صديقا لإبليس وكان يترك له صلاة العصر وكانت حوائجه عنده مقضية قال فجاء رجل فقال إن لي جارا غنيا ومن أحسن الناس صنيعا لي وله ابنة حسناء فأنا أحسده فأحب أن تكتب لي إلى إبليس حتى يبعث شيطانا فيخطبها قال فكتب إلى إبليس إن أحببت أن تنظر إلى من هو شر مني ومنك فانظر إلى حامل كتابي هذا واقض حاجته ثم قال سر إلى موضع كذا وكذا إن خط حولك خطة فإذا جاءك صاحبك فأره الكتاب من بعيد قال ففعل وجعل الشياطين يمرون به حتى جاء شيخ على سرير وأربعة يحملونه قال فلما نظر إليه من بعيد رفع الكتاب فأمر إبليس بالكتاب فأخذ فلما نظر إلى عنوانه قبله ووضعه على رأسه فلما قرأ الكتاب صرخ صرخة رجع إليه من كان قبله ولحقه من كان خلفه فقالوا مالك يا سيدنا قال هذا كتاب صديقي يقول فيه إن أحببت أن تنظر إلى من هو شر مني ومنك فانظر إلى حامل كتابي هذا واقض حاجته هاتوا شيطانا أصم أعمى أبكم ووجهوه إلى بيت ذلك الرجل ليخطبها ففعلوا فإن كانت هذه الطريقة هي المحمودة عند النديم فليت شعري ماذا عنده الذميم قال الحجاج يوما لعمرو بن سعيد ابن العاص اخبرني عبد الله بن هلال صديق إبليس أنك تشبه إبليس قال وما ينكر الأمير أن يكون سيد الإنس يشبه سيد الجن فعجب من قوة جوابه
(1/124)
---(53/124)
فصل قال الشيخ أبو العباس أهل العزائم والإقسام يقسمون على بعض الجن ليعينهم على بعض فتارة يبرون قسمه وكثيرا لا يفعلون ذلك بان يكون ذلك الجن معظما عندهم وليس للمعزم وعزيمته من الجبرية ما يقتضي إعانتهم على ذلك إذ كان المعزم قد يكون بمنزلة الذي يحلف غيره ويقسم عليه بمن يعظمه وهذا تختلف أحواله فمن أقسم على الناس ليؤذوا من هو عظيم عندهم لم يلتفتوا إليه وقد يكون ذلك منيعا فأحوالهم شبيهة بأحوال الإنس ولكن الإنس أعقل وأصدق وأعدل وأوفى بالعهد والجن أجهل وأكذب وأظلم وأغدر فالمقصود أن أرباب العزائم مع عون عزائمهم
(1/125)
---(53/125)
تشتمل على شرك وكفر لا تجوز العزيمة به والقسم فهم كثيرا يعجزون عن دفع الجني وكثيرا ما تسخر منهم الجن إذا طلبوا منهم قتل الجني الصارع للإنسي أو حبسه فيخيلون إليهم أنهم قتلوه أو حبسوه ويكون ذلك تخييلا وكذبا هذا إذا كان يرى ما يخيلونه صادقا الرؤية فإن عامة ما يعرفونه لمن يريدون تعريفه إما بالمكاشفة والمخاطبة إن كان من جنس عباد المشركين وأهل الكتاب ومبتدعة المسلمين الذين تصلهم الجن والشياطين وإما بما يظهرونه لأهل العزائم والإقسام أنهم يمثلون ما يريدون تعزيمه فإذا أراه المثال أخبر عن ذلك وقد يعرف أنه مثال وقد يوهمونه أنه نفس المرئي وإذا أرادوا سماع كلام من يناديه من مكان بعيد مثل من يستغيث ببعض العباد الصالحين من المشركين وأهل الكتاب وأهل الجهل من عباد المسلمين إذا استغاث به بعض محبيه فقال يا سيدي فلان فإن الجني يخاطبه بمثل صوت ذلك الإنسي فإن رد الشيخ عليه الخطاب أجاب ذلك الإنسي بمثل ذلك الصوت قال الشيخ أبو العباس وهذا وقع لعدد كثير أعرف منهم طائفة وكثيرا ما يتصور الشيطان بصورة المدعو المنادي المستغاث به إذا كان ميتا وكذلك قد يكون حيا ولا يشعر بالذي ناداه بل يتصور الشيطان بصورته فيظن المشرك الضال المستغيث بذلك الشخص أن الشخص نفسه أجابه وإنما هو الشيطان وهذا يقع للكفار المستغيثين بمن يحسنون به الظن من الأموات والأحياء كالنصارى المستغيثين بجرجس وغيره من قداديسهم ويقع لأهل الشرك والضلال الذين يستغيثون بالموتى والغائبين يتصور لهم الشيطان في صورة ذلك المستغاث به وهو لا يشعر قال أبو العباس وأعرف عددا كثيرا وقع لهم في عدة أشخاص يقول لي كل من الأشخاص إني لم أعرف أن هذا المستغاث به والمستغيث قد رأى ذلك الذي هو على صورة هذا وما اعتقد أنه إلا هذا وذكر لي غير واحد أنهم استغاثوا بي كل يذكر قصة غير قصة صاحبه فأخبرت كلا منهم أني لم أجب أحدا منهم ولا علمت باستغاثته فقيل فيكون ملكا فقلت الملك لا(53/126)
(1/126)
---
يغيث مشركا إنما هو شيطان اراد ان يضله وكذلك يتصور بصورته ويقف بعرفات ليظن من يحسن به الظن أنه وقف بعرفات وكثير منهم يحمله الشيطان إلى
عرفات أو غيرها من الحرم فيتجاوز الميقات بلا إحرام ولا تلبية ولا يطوف بالبيت ولا بالصفا والمروة وفيهم من لا يعبر مكة وفيهم من يقف بعرفات ويرجع ولا يرمي الجمار إلى أمثال ذلك من الأمور التي يضرهم بها الشيطان حيث فعلوا ما هو منهي عنه في الشرع إما محرم أو مكروه ليس بواجب ولا مستحب وقد زين لهم الشيطان أن هذا من كرامات الصالحين وهو من تلبيس الشيطان فإن الله لا يعبد إلا بما هو واجب ومستحب وكل من عبد عبادة ليست واجبة ولا مستحبة وظنها واجبة أو مستحبة فإنما زين له الشيطان ذلك والله اعلم
فصل يجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيء من كتاب الله عز وجل وذكره بالمداد المباح ويغسل ويسقي كما نص ذلك الإمام أحمد وغيره واحتج بما رواه بإسناده عن ابن عباس أنه كان يكتب لمن أصابها الطلق كلمات الكرب وآيتين من كتاب الله عز وجل تناسب الحال يكتب لا إله إلا الله العظيم الحليم ) سبحان الله ( ) رب العرش العظيم ( ) الحمد لله رب العالمين ( ) كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ( ) كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون (
(1/127)
---(53/127)
قلت قدمنا في الباب الأول استطرادا أن عامة ما بأيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقي لا تفقه بالعربية معناها ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقي غير المفهومة المعنى لأنها مظنة الشرك وإن لم يعرف الراقي أنها شرك ومن رتع حول الحمى أو شك أن يقع فيه وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص في الرقي ما لم يكن شركا وقال من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل وفي التطبب والاستشفاء بكتاب الله عز وجل غنى تام ومقنع عام وهو النور والشفاء لما في الصدور والوقاء الدافع لكل محذور والرحمة للمؤمنين من الأحياء وأهل القبور وفقنا الله لإدراك معانيه وأوقفنا عند أوامره ونواهيه ومن تدبر من آيات الكتاب من ذوي الألباب وقف على الدواء الشافي كل داء مواف سوى الموت الذي هو
غاية كل حي فإن الله تعالى يقول ) ما فرطنا في الكتاب من شيء ( وخواص الآيات والأذكار لا ينكرها إلا من عقيدته واهية ولكن لا يعقلها إلا العالمون لأنه تذكرة وتعيها اذن واعية والله الهادي للحق الباب التاسع والأربعون في حكايات مكافأة الجن والإنس على الخير والشر
قال عبد الله بن محمد بن عبيد حدثني عبيد الله بن جرير العتكي حدثنا الوليد بن هشام الحذمي قال كان عبيد بن الأبرص وأصحاب له في سفر فمروا بحية وهي تتقلب في الرمضاء وتلهث عطشا فهم بعضهم بقتلها فقال عبيد هي إلى من يصب عليها نقطة من ماء أحوج قال فنزل فصبه عليها قال فمضوا فأصابهم ضلال شديد حتى ذهبت عنهم الطريق فبيناهم كذلك فإذا هاتف يهتف
يا أيها الركب المضل مذهبه
دونك هذا اليكن منا فاركبه
حتى إذا الليل تولى مغربه
وسطع الفجر ولاح كوكبه
فخل عنه رحله وسبسبه
قال فسار به من الليل حتى طلع الفجر مسيرة عشرة بلياليهن فقال عبيد بن الأبرص يا أيها البكر قد أنجبت من غمر
ومن فيافي تضل الراكب الهادي
هلا تخبرنا بالحق نعرفه
من الذي جاد بالنعماء في الوادي
فقال مجيبا له أنا الشجاع الذي أبصرته رمضا
(1/128)
---(53/128)
في ضحضح نازح يسرى به صادي
فجدت بالماء لما ضن شاربه
رويت منه ولم تبخل بإنجاد
الخير يبقى وإن طال الزمان به
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
ويدخل في هذا عدة آثار متفرقة في مواضعها من هذا الكتاب منها قصة مالك بن خريم وهي مذكورة في الباب الموفي ستين أن الظباء ماشية الجن قال ابن أبي الدنيا حدثني اسماعيل بن إبراهيم الهاشمي حدثني المريمي قال كنت أقنص الحمر فخرجت ذات يوم فبنيت كوخا في
الموضع الذي ترده للشرب فلما وردت شددت سهما فإذا انا بهاتف يقول يا منهلة حمرك فنفرت الحمر كلها فانصرفت ومعي جارية لي يقال لها مرجانة وحماران فشددتهما من وراء الحبل وفوقت سهمي وجلست أرقبهما فلما طلعت الحمر لم أجنح إلى تلبث فرميتها فصرعت حمارا منها ثم قلت
قد فقدت حمارها منهلة
أتبعتها سيحلة منسلة
كذنب النحلة يعلو الجلة
قال فأجابني مجيب قد فقدت حمارها مرجانة أتبعتها سيحلة خسانة
في قبضة عسراء في سريانة
فقالت الجارية يا مولاي قد مات والله أحد الحمارين ويدخل هنا قصة جمل اليتامى وهي مذكورة في الظباء والله أعلم الباب الموفي خمسين في بيان صرع الجن للإنس
قال الشيخ أبو العباس رحمه الله صرع الجن للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق كما يتفق للإنس مع الجن وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد وهذا كثير معروف وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه وقد يكون وهو كثير والأكثر عن بغض ومجازاه مثل أن يؤذيهم بعض الإنس أو يظنوا أنهم يتعمدون آذاهم إما ببول على بعضهم وإما بصب ماء حار وإما بقتل بعضهم وان كان الإنس لا تعرف ذلك وفي الجن ظلم وجهل فيعاقبونه بأكثر مما يستحقه وقد يكون عن عبث منهم وشر ميل سفهاء الإنس وحينئذ فما كان من الباب الأول فهو من الفواحش التي حرمها الله تعالى كما حرم ذلك على الإنس وان كان برضا الآخر فكيف
(1/129)
---(53/129)
إذا كان مع كراهته فإنه فاحشة وظلم يخاطب الجن بذلك ويعرفون أن هذا فاحشة محرمة لتقوم عليهم الحجة بذلك يعلموا بأنه يحكم فيهم بحكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن وما كان من القسم الثاني فإن كان الإنسي لم يعلم فيخاطبون بأن هذا لم يعلم ومن لم يتعمد الأذى ولم يستحق العقوبة وإن كان قد فعل ذلك في داره وملكه عرفوا بأن الدار ملكه فله أن يتصرف فيها بما يجوز وأنتم ليس لكم أن تمكثوا في ملك الإنس بغير إذنهم بل لكم ما ليس من مساكن الإنس كالخراب والفلوات ولهذا يوجدون كثيرا في الخراب والفلوات ويوجدون في مواضع النجاسات كالحمامات والحشوش والمزابل والقمامين والمقابر والمقصود أن الجن إذا اعتدوا على الإنس اخبروا بحكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأقيمت عليهم الحجة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كما يفعل بالإنس لأن الله تعالى يقول ) وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( وقال تعالى ) يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ( صدق الله العظيم الباب الحادي والخمسون في دخول الجن في بدن المصروع
أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائى وأبى بكر الرازى محمد بن زكريا الطبيب وغيرهما دخول الجن فى بدن المصروع وأحالوا وجود روحين فى جسد مع إقرارهم بوجود الجن إذ لم يكن ظهور هذا فى المنقول عن النبى - صلى الله عليه وسلم - كظهور هذا وهذا الذى قالوه خطأ وذكر ابو الحسن الأشعرى فى مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون إن الجن تدخل فى بدن المصروع كما قال الله تعالى ) الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ( قال عبدالله بن أحمد بن حنبل قلت لأبى إن قوما يقولون إن الجن لا تدخل فى بدن الإنس قال
(1/130)
---(53/130)
يا بنى يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه قلت ذكر الدارقطنى فى الجزء الذى انتقاه من حديث أبى سهل بن زياد لفرقد السنحى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن امرأة جاءت بابن لها إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إن ابنى به جنون وأنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا فمسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره ودعا له فتفتفه فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود فسعى رواه أبو محمد عبدالله بن عبدالرحمن الدارمى فى أوائل مسنده فتفتفه اى قيأه وسيأتى إن شاء الله تعالى عن قريب حديث أم أبان الذى رواه أبو داود وغيره وفيه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرج عدو الله وهكذا حديث أسامة بن زيد وفيه اخرج يا عدو الله فإنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وقال القاضى عبدالجبار إذا صح ما دللنا عليه من رقة أجسامهم وأنها كالهواء لم يمتنع دخولهم فى أبداننا كما يدخل الريح والنفس المتردد الذى هو الروح فى أبداننا من التخرق والتخلخل ولا يؤدى ذلك إلى اجتماع الجواهر فى حيز واحد لأنها لا تجتمع إلا على طريق المجاورة لا على سبيل الحال وإنما تدخل فى أجسامنا كما يدخل الجسم الرقيق فى الظروف
(1/131)
---(53/131)
فإن قيل إن دخول الجن فى أجسامنا إلى هذه المواضع يوجب تقطيعها أو تقطيع الشياطين لأن المواضع الضيقة لا يدخلها الجسم إلا ويتقطع الجسم الداخل فيها قيل له إنما يكون ما ذكرته إذا كانت الأجسام التى تدخل فى الأجسام كثيفة كالحديد والخشب فأما إذا كانت كالهواء فالأمر بخلاف ما ذكرته وكذلك القول فى الشياطين إنهم لا يتقطعون بدخولهم فى الأجسام لأنهم إما أن يدخلوا بكليتهم فبعضهم متصل ببعض فلا يتقطعون وإما أن يدخلوا بعض أجسامهم إلا أن بعضهم متصل ببعض فلا يتقطع أيضا وهذا مثل أن تدخل الحية فى جحرها كلها أو يدخل بعضها وبعضها يبقى خارج الجحر لأن ذلك لا يوجب تقطعها وليس لأحد أن يقول ما أنكرتم إذا حصل الجنى فى المعدة أن يكون قد أكلناه كما إذا حصل الطعام فيها كنا آكلين له وذلك لأن الأكل هو معالجة ما يوصل بالمضغ والبلع وليس
(1/132)
---(53/132)
كلما يحصل فى المعدة نكون له آكلين ولا يكون الماء بحصوله فى المعدة مأكولا فإن قيل يجوز أن يدخلوا فى الأحجار قيل نعم إذا كانت مخلخلة كما يجوز دخول الهواء فيها فإن قيل فيجب على ما ذكرتم دخول الشيطان وزوجته فى جوف الآدمى فينكحها فتحبل وتلد فيكون لهم في جوف الواحد منا أولاد قيل قد أجاب أبو هاشم عن هذا السؤال بأن ذلك لا يمتنع فى الأجسام الرقاق كما لا يمتنع ذلك فى الأجسام اللطاف ألا ترى أنه ربما يجتمع فى الجوف من الدود ونحوها شئ عظيم كثير وكذلك الرقيق من الأجسام غير ممتنع هذا منه قال إلا أنه لا يقطع الولادة عليهم لأنهم مختارون فربما لم يختاروا أن يتوالدوا فى أجواف الإنس كما لا نختار نحن أن نتوالد فى الأسواق والمساجد بل نختار فعل ذلك فى مواضع مخصوصة فلا يمتنع أن تكون هذه حالهم وإذا صح ما ذكرناه سقط هذا الاعتراض قال القاضى عبدالجبار بعد ما قدم حديث الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم هذا لا يصح إلا أن تكون أجسامهم رقيقة على مقتضاه ونظائرذلك من الأخبار المروية فى هذا الباب من أنهم يدخلون فى أبدان الإنس وهذا لا يجوز على الأجسام الكثيفة قال ولشهرة هذه الأخبار وظهورها عند العلماء قال أبو عثمان عمرو بن عبيدان المنكر لدخول الجن فى أبدان الإنس دهرى أو يجئ منه دهرى
(1/133)
---(53/133)
قال عبدالجبار وإنما قال ذلك لأنها قد صارت فى الشهرة والظهور كشهرة الأخبار فى الصلاة والصيام والحج والزكاة ومن أنكر هذه الأخبار التى ذكرناها كان رادا والراد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما لا سبيل إلى علمه إلا من جهته كافر ومن لا يعلم أن المعجزات لا يقدر عليها إلا الله عز وجل وحده لم يصح له أن يعلم أن الأجسام لا يفعلها إلا الله عز وجل ومن لم يعلم ذلك لم يمكنه إثبات قادر لنفسه ولا عالم لنفسه ولا وحى لنفسه ومن لم يمكنه إثبات هذا لم يكنه إثبات فاعل الأجسام وإذا لم يمكنه ذلك وهى موجودة لم يمكنه أن يثبتها محدثة وإذا لم يمكنه أن يثبتها محدثة وهى مع ذلك موجودة فلا بد من أن تكون قديمة ومن كان هذا حاله كان دهريا أو جاء منه دهرى على ما قال وفساد قوله على ما ذكرناه من
هذا الترتيب فهذا معنى قوله دهرى أو يجئ منه دهرى وقال أبو القاسم الأنصارى ولو كانوا كثافا يصح ذلك أيضا منهم كما يصح دخول الطعام والشراب فى الفراغ من جسمه فيجب تصحيح ذلك وتأويله المس منه عليه وقال قائلون إن معنى سلوكهم فى الإنس إنما هو بإلقاء الظل عليهم وذلك هو المس ومنه الصرع والفزع وذلك أيضا مما يدفعه العقل غير أنه ورد السمع بسلوكهم فى الإنس ووضع الشيطان رأسه على القلب والله تعالى أعلم الباب الثانى والخمسون فى أن حركات المصروع هل هى من فعله أو فعل الجن
(1/134)
---(53/134)
قد تقرر أن المحدث يستحيل أن يفعل فى غيره فعلا ملكا كان أو شيطانا أو إنسيا بل ذلك من فعل المصروع بجري العادة فإن كان المصروع قادرا على ذلك الاضطراب كان ذلك كسبا له وخلقا لله عز وجل وإن لم يكن قادرا عليه لم يكن مكتسبا له بل هو مضطر إليه ولا يمنع أن يكون الله تعالى قد أجرى العادة بأنه لا يفعل ذلك الصرع والاضطراب إلا عند سلوك الجنى فيه أو عند مسه كما فى الأسباب المستعقبة للمسببات وكذلك القول فيما يسمع من المصروع من الكلام فى تجويز كونه كسبا له أو مضطرا إليه وإن كان هو المتكلم دون خالقه وتجويز كونه من كلام شيطان قد سلكه أو مسه وأن يكون قائما بذات الشيطان دون ذات من هو سالك فيه أو مماس له وأكثر الناس يعتقدون أنه كلام الجنى ويضيفونه إليه ولا دليل نقطع به على أن ما سمع منه كلام له أو للشيطان وإن كان كلاما له فإنه من كسبه أو ضرورة فيه وإنما يصار إلى أحدهما بتوقيف مقطوع به ومتى كان كلاما للمصروع كانت إضافته إلى الشيطان مجازا ومعنى الكلام أنه كان منه وسلوكه وعلى الجملة أن المتكلم من قام به الكلام لا من فعل
الكلام ثم الكلام الذى يقوم بالبشر قد يكون من فعله وكسبه وقد يكون مضطرا إليه وقد تقدم قول الإمام أحمد هو ذا يتكلم على لسانه يعنى لسان المصروع فقد جعل المتكلم هو الجنى فكذلك الحركة والله سبحانه وتعالى أعلم الباب الثالث والخمسون فى حكم معالجة المصروع
(1/135)
---(53/135)
سئل أبو العباس بن تيمية رحمة الله عليه عن رجل ابتلى بمعالجة الجن مدة طويلة لكون بعض من عنده ناله سحر عظيم قليل الوقوع في الوجود وتكرر السحر أكثر من مائة مرة وكاد يتلف المسحور ويقتله بالكلية مرات لا تحصى فقابلهم الرجل المذكور بالتوجه والصد البليغ ودوام الدعاء والالتجاء وتحقيق التوحيد وأحسن بالنصر عليهم وكان المصاب يراهم في اليقظة وفي المنام ويسمع كلامهم في اليقظة أيضا فرآهم في أوائل الحال وهم يقولون مات البارحة منا البعض ومرض جماعة لأجل دعاء الداعي وسموه باسمه وكان بالقاهرة رجل هائل يقل وجود مثله في الوجود يجتمع بهم ويطلع على حقيقة حالهم وله عليهم سلطان باهر مشهور مشهود لغيره فسئل عن حقيقة منام المصاب وعن خبر الدعاء فأخبر بهلك ستة ومرض كثير من الجن وتكرر هذا نحوا من مائة مرة وتبين للرجل الداعي المذكور أن الله تعالى قهرهم له فإنه كان يجد ذلك ويشهده ويعاضده منامات المصاب وسماعه في اليقظة ايضا وأخبار صاحبهم المذكور وبعد ذلك أذعنوا وذلوا وطلبوا المسألة فهل يجوز للرجل الداعي مواظبة الذب عن صاحبه المصاب المظلوم مع تحققه هلاك طائفة بعد طائفة والحالة هذه أم لا وهل عليه من إثمهم شيء فإنه قد يكون بعضهم مع صياله مسلما أم لا وهل يجوز له إسلام صاحبه والتخلي عنه مع ما يشاهده من أذاه وقرب هلاكه أم لا وهل هذا الغزو مشروع وعليه شاهد من السنة النبوية والطريقة السائغة أم لا وهل تشهد الشريعة بصحة وقوع مثل ذلك كما قد تحققه السائل وغيره من المباشرين والمصدقين أم ذلك ممتنع كما تقوله الفلاسفة وبعض أهل البدع وهل تجوز الاستعانة عليه بشيء من صنع أهل التنجيم
(1/136)
---(53/136)
ونحوهم فيما يعانونه من الحجب والكتابة والبخور والأوراق وغير ذلك لأنهم يتحملون كبر ذلك والمصاب واهله يطلبون الشفاء وإن كان في ذلك كفر فيكون في عنق صاحبه الذي باع دينه بالدنيا وهذا من باب مقابلة الفاسد بمثله أم لا يجوز ذلك لأجل تقوية طريقهم والدخول في أمر غير مشروع وذكر السائل أسئلة أخرى أضربت عن ذكرها والجواب في نحو كراسين وفيه بسط خارج عن مقصود الجواب اقتضاه طرد الكلام وتشبث بعضه بأذيال بعض وقد أثبت منه ملخصه المطابق للسؤال
تلخيص الجواب
(1/137)
---(53/137)
يستحب وقد يجب أن يذب عن المظلوم وأن ينصر فإن نصر المظلوم مأمور به بحسب الامكان وإذا برئ المصاب بالدعاء والذكر وأمر الجن ونهيهم وانتهارهم وسبهم ولعنهم ونحو ذلك من الكلام حصل المقصود وإن كان ذلك يتضمن مرض طائفة من الجن أو موتهم فهم الظالمون لأنفسهم إذا كان الراقي الداعي المعالج لم يتعد عليهم كما يتعدى عليهم كثير من أهل العزائم فيأمرون بقتل من لا يجوز قتله وقد يحبسون من لا يحتاج إلى حبسه ولهذا قد يقابلهم الجن على ذلك ففيهم من تقتله الجن أو تمرضه وفيهم من يفعل ذلك بأهله وأولاده أو دوابه وأمامن سلك في دفع عدوانهم مسلك العدل الذي أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يظلمهم بل هو مطيع لله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في نصر المظلوم وإغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب بالطريق الشرعي التي ليس فيها شرك بالخالق ولا ظلم للمخلوق ومثل هذا لا تؤذيه الجن إما لمعرفتهم بأنه عادل وإما لعجزهم عنه وإن كان الجن من العفاريت وهو ضعيف فقد تؤذيه فينبغي لمثل هذا ان يحترز بقراءة المعوذات والصلاة والسلام والدعاء ونحو ذلك مما يقوي الإيمان يجتنب الذنوب التي بها يستطيلون عليه فإنه يجاهد في سبيل الله وهذا من أعظم الجهاد فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه وإن كان الأمر فوق قدرته فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها ومن أعظم ما ينتصر به عليهم آية الكرسي فقد جرب المجربون الذين لا يحصون
(1/138)
---(53/138)
كثرة ان لها من التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته فإن لها تأثيرا عظيما في طرد الشياطين عن نفس الإنسان وعن المصروع وعمن تعينه الشياطين من أهل الظلم والغضب وأهل الشهوة والطرب وأرباب سماع المكاء والتصدية إذا قرأت عليهم بصدق والصائل المتعدي يستحق دفعه سواء كان مسلما أو كافرا فقد قال - صلى الله عليه وسلم - من قتل دون ماله فهو شهيد وورد دون دمه ودون حرمته ودون دينه فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن ماله ولو بقتل الصائل العادي فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته فإن الشيطان يفسد عقله ويعاقبه في بدنه وقد يفعل معه فاحشة ولو فعل إنسي هذا بإنسي ولم يندفع إلا بالقتل جاز قتله وأما إسلام صاحبه والتخلي عنه فهو مثل إسلام أمثاله من المظلومين وهذا فرض على الكفاية مع القدرة فإن كان عاجزا وهو مشغول بما هو أوجب منه أو قام غيره به لم يجب وإن كان قادرا وقد تعين عليه ولا يشغله عما هو أوجب منه وجب عليه وقول السائل هل هذا مشروع فهذا من أفضل الأعمال وهو من أعمال الأنبياء والصالحين فما زال الأنبياء والصالحون يدفعون الشياطين عن بني آدم بما أمر الله تعالى به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما كان المسيح عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك وكما كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك ولو قدر أنه لم ينقل ذلك لكون مثله لم يقع عند الأنبياء لكون الشياطين لم تكن تقدر أن تفعل ذلك عند الأنبياء وفعلت ذلك عندنا فقد أمرنا الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بنصر المظلوم وإغاثة الملهوف ونفع المسلم بما يتناول ذلك وفي الصحيح قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفاتحة وما أدراك أنها رقية وأذن له في أخذ الجعل وهذا كدفع ظالم الإنس من الكفار والفجار وقد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجن عنهم إلى الضرب فيضرب ضربا كثيرا جدا والضرب إنما يقع الجني ولا يحس به المصروع ويخبر بأنه
(1/139)
---(53/139)
لم يحس بشيء من ذلك ولا يؤثر في بدنه ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاثمائة أو أربعمائة ضربة وأكثر وأقل بحيث لو كان على الإنسي تقتله وإنما هو على الجني والجني يصيح ويصرخ ويحدث الحاضرين بأمور متعددة قال المجيب وقد فعلنا نحن هذا وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثير
الاستعانة عليهم
قال وأما الاستعانة عليهم بما يقال ويكتب مما لا يعرف معناه فلا يشرع استعماله إن كان فيه شرك فإن ذلك محرم وعامة ما يقول أهل العزائم فيه شرك وقد يقرءون مع ذلك شيئا من القرآن ويظهرونه ويكتمون ما يقولونه من الشرك وفي الاستشفاء بما شرعه الله تعالى ورسوله ما يغني عن الشرك وأهله والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات فلا يتنازعون في أن الشرك والكفر لا يجوز التداوي به بحال لأن ذلك محرم في كل حال وليس هذا كالمتكلم به عند الإكراه فإن ذلك إنما يجوز إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان والتكلم بما لا يفهم بالعربية إنما يؤثر إذا كان بقلب صاحبه ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه بالإيمان لم يؤثر والشيطان إذا عرف أن صاحبه يستخف بالعزائم لم يساعده أيضا فإن المكره مضطر إلى التكلم به ولا ضرورة إلى إبراء المصاب به لوجهين أحدهما أنه قد لا يؤثر فما أكثر من يعالج بالعزائم فلا يؤثر بل يزيده شرا والثاني أن في الحق ما يغني عن الباطل والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف قوم يكذبون بدخول الجن في الإنس وقوم يدفعون ذلك بالعزائم المذمومة فهؤلاء يكذبون بالموجود وهؤلاء يكفرون بالرب المعبود والأمة الوسطى تصدق بالحق الموجود وتؤمن بالإله الواحد المعبود وبعبادته ودعائه وذكره وأسمائه وكلامه تدفع شياطين الإنس والجن انتهى تلخيص الجواب قلت قوله وقد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجن عنهم إلى الضرب فيضرب ضربا كثيرا وقد ورد له أصل في الشرع وهو ما رواه الإمام أحمد وأبو داود وأبو القاسم الطبراني من حديث أم أبان بنت الوازع عن أبيها أن جدها(53/140)
(1/140)
---
انطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابن له مجنون أو ابن أخت له فقال يا رسول الله إن معي ابنا لي أو ابن أخت لي مجنونا
أتيتك به لتدعو الله تعالى له قال ائتني به قال فانطلقت به إليه وهو في الركاب فأطلقت عنه وألقيت عليه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أدنه مني واجعل ظهره مما يليني قال فأخذ بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله فجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض إبطيه ويقول اخرج عدو الله فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظر الأول ثم أقعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين يديه فدعا له بماء فمسح وجهه ودعا له فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفضل عليه وهذا الحديث فيه ضرب الجني وإن لم تدع الحاجة إلى الضرب فلا يضرب فقد روى ابن عساكر في الثاني من كتاب الأربعين الطوال حديث اسامة بن زيد قال حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته التي حج فيها فلما هبطنا بطن الروحاء عارضت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة تحمل صبيا لها فسلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسير على راحلته ثم قالت يا رسول الله هذا ابني فلان والذي بعثك بالحق ما أبقى من خفق واحد من لدن أني ولدته إلى ساعته هذه فحبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراحلة فوقف ثم أكسع اليها فبسط إليها يده وقال هاته فوضعته على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضمه إليه فجعله بينه وبين واسطة الرحل ثم تفل في فيه وقال اخرج يا عدو الله فإني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ناولها إياه فقال خذيه فلن ترى منه شيئا تكرهينه بعد هذا إن شاء الله الحديث
(1/141)
---(53/141)
وفي أوائل مسند أبي محمد الدارمي من حديث أبي الزبير عن جابر معناه وقال فيه اخسأ عدو الله أنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحاصل ذلك أنه متى حصل المقصود بالأهون لا يصار إلى ما فوقه ومتى احتيج إلى الضرب وما هو أشد منه صير إليه
ومن قتل الصائل من الجن قتل عائشة رضي الله عنها الجني الذي كان لا يزال يطلع في بيتها وحديث مجاهد كان الشيطان لا يزال يتزيا لي بابن عباس إذا قمت إلى الصلاة قال فذكرت قول ابن عباس فحصلت عندي سكينا فتز يالي فحملت عليه فطعنته فوقع وله وجبة فلم أره بعد ذلك
(1/142)
---(53/142)
وقد ذكرناه بسنده في الباب السادس ومن ذلك أحاديث تعرض الشيطان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومد يده إليه ولفته وذعته وذلك مذكور في موضعه من هذا الكتاب وقال القاضي أبو الحسن بن القاضي أبي يعلى ابن الفراء الحنبلي في كتاب طبقات اصحاب الإمام أحمد سمعت أحمد ابن عبيد الله قال سمعت أبا الحسن عبي بن أحمد بن علي العكبري قدم علينا من عكبرا في ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة قال حدثني أبي عن جدي قال كنت في مسجد أبي عبد الله أحمد بن حنبل فأنفذ اليه المتوكل صاحبا له يعلمه أن له جارية بها صرع وسأله أن يدعو الله لها بالعافية فأخرج له أحمد نعلي خشب بشراك من خوص للوضوء فدفعه إلى صاحب له وقال له امض إلى دار أمير المؤمنين وتجلس عند رأس هذه الجارية وتقول له يعني الجني قال لك أحمد أيما أحب إليك تخرج من هذه الجارية أو تصفع بهذه النعل سبعين فمضى إليه وقال له مثل ما قال الإمام أحمد فقال له المارد على لسان الجارية السمع والطاعة لو أمرنا أحمد أن لا نقيم بالعراق ما أقمنا به إنه أطاع الله ومن أطاع الله أطاعه كل شيء وخرج من الجارية وهدأت ورزقت أولادا فلما مات أحمد عاودها المارد فأنفذ المتوكل إلى صاحبه أبي بكر المروزي وعرفه الحال فأخذ المروزي النعل ومضى إلى الجارية فكلمه العفريت على لسانها لا أخرج من هذه الجارية ولا أطيعك ولا أقبل منك احمد بن حنبل اطاع الله فأمرنا بطاعته الباب الرابع والخمسون في بيان سخرية الجن من الإنس
قال ابو بكر محمد بن عبيد حدثني عبد الرحمن بن عبد الله حدثنا عمي عن عمرو بن الهيثم عن ابيه عن جده قال خرجت أريد مرقوعا حتى إذا كنت على اربعة فراسخ إذا أنا بصحاب يلعبون عند عين قرية قمت أنظر إليهم فقام أحدهم فاستقبل صاحبه ثم وثب الآخر على عنقه ثم وثب آخر على عنق آخر فلما رأيت ذلك حملت الفرس عليهم فوقعوا يقهقهون مستلقين فخرجت أضرب فرسي فما مررت بشجرة إلا سمعت
(1/143)
---(53/143)
تحتها ضحكا وبه إلى الهيتم عن أبيه قال خرجت أنا وصاحب لي فإذا بامراة على ظهر الطريق فسألت أن نحملها فقلت لصاحبي أحملها قال فحملها خلفه قال فنظرت إليها ففتحت فاها فإذا يخرج من فيها مثل لهب الأتون فحملت عليها فقالت مالي ولك وصاحت فقال صاحبي ما تريد من البائسة قال ثم سار ساعة ثم التفت اليها ففتحت فاها فإذا يخرج مثل لهب الأتون قال فحملت عليها ففعلت ذلك حتى فعلت ثلاث مرات قال فلما رأيت ذلك صممت فطفرت فإذا هي بالأرض فقالت قاتلك الله ما أشد فؤادك ما رآه أحد قط إلا أنخلع فؤاده
حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي قال حدثني عمي قال خرج رجل بحضرموت ففر من الغول وهي ساحرة الجن فلما خاف أن ترهقه دخل في بئر فبالت عليه فخرج من البئر فتمعط شعره ولم يبق عليه شيء والله أعلم الباب الخامس والخمسون في ان الطاعون من وخز الجن روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي موسى قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فناء أمتي بالطعن والطاعون قالوا يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون قال وخز إخوانكم من الجن وفي كل شهادة ورواه ابن ابي الدنيا في كتاب الطواعين وقال فيه وخز أعدائكم من الجن ولا تنافي بين اللفظين لأن الأخوة في الدين لا تنافي العداوة لأن عداوة الجن والإنس بالطبع وإن كانوا مؤمنين فالعداوة موجودة قال ابن الأثير الوخز طعن ليس بنافذ والشيطان له ركض وهمز ونفث ونفخ ووخز قال الجوهري الركض تحريك الرجل ومنه قوله تعالى ) اركض برجلك ( وفي حديث المستحاضة هي ركضة من الشيطان يريد الدفعة والهمز شبيهة بالنفخ وهو أقل من التقل وقد نفث الراقي ينفث وينفك والنفخ معروف والوخز الطعن بالرمح وغيره
لا يكون نافذا قال الزمخشري يسمون الطاعون رماح الجن قال الازدي للحارث الملك الغساني
لعمرك ما خشيت على أبي
رماح مقيدة بني الحمار
ولكني خشيت على أبي
رماح الجن أو إياك حار
(1/144)
---(53/144)
الباب السادس والخمسون في أن الاستحاضة ركضة من ركضات الشيطان
روى أبو داود وأحمد والترمذي وصححه من حديث حمنة بنت جحش قالت كنت استحاض حيضة شديدة كثيرة فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه فقلت يا رسول الله إني أستحيض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصيام فقال انعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم قالت هو أكثر من ذلك قال فاتخذي ثوبا قالت هو أكثر من ذلك قال فتلجمي قالت إنما أثج ثجأ فقال لها سآمرك بأمرين أيهما فعلت فقد أجزأ عنك من الآخر فإن قويت عليهما فأنت أعلم فقال لها إنما هذه ركضة من ركضات الشياطين فتحيضين ستة أيام أو سبعة في علم الله الحديث بطوله وهذا لا ينافي ما رواه البخاري في صحيحه من حديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ذلك عرق وفي رواية دم عرق انفجر وذلك لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - فإذا ركض ذلك العرق وهو جار سال منه الدم وللشيطان في هذا العرق الخاص تصرف وله به اختصاص زائد على عروق البدن جميعها ولهذا تتصرف السحرة فيه باستنجاد الشيطان في نزيف المرأة وسيلان الدم من فرجها حتى يكاد يهلكها ويسمون ذلك باب النزيف وإنما يستعينون فيه بركض الشيطان هنالك وإسالة الدم فكلامه - صلى الله عليه وسلم - يصدق بعضه بعضا وهو الشفاء والعصمة
تعليق وبيان قلت وكذلك القول في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الطاعون إنه وخز أعدائكم من الجن مع قوله - صلى الله عليه وسلم - غدة كغدة البعير يخرج من مراق البطن وذلك أن الجني إذا وخز العرق من مراق البطن خرج من وخزه الغدة فيكون وخز الجني سببا للغدة الخارجية الباب السابع والخمسون في نظرة الجن وإصابتها بني آدم بالعين
(1/145)
---(53/145)
العين عينان عين إنسية وعين جنية وقد صح عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال استرقوا لها فإن بها النظرة قال الحسين بن مسعود الفراء وقوله سفعة أي نظرة يعني من الجن يقول بها عين أصابتها من نظر الجن أنفذ من أسنة الرماح وقال الصولي يقال أزلقه إذا عانه وعانه ولفعه بعينه حدثنا الفضل بن الحباب حدثنا أبو عثمان المازني سمعت أبا عبيدة يقول يقال رجل معين للذي أصابته عين ورجل معيون للذي به منظر ولا مخبر له حدثنا أحمد بن محمد الأسدي سمعت الرياشي يقول يقال رجل معين ومعيون للذي أصابته العين ولبعضهم
وقد عالجوه بالتمائم والرقى
وصبوا عليه الماء من ألم النكس
وقالوا أصابته من الجن أعين
ولو علموا داووه من أعين الإنس
وقال أحمد في مسنده حدثنا ابن نمير حدثنا ثور بن يزيد عن مكحول عن أبي هريرة يرفعه العين ويحضرها الشيطان والله اعلم
الباب الثامن والخمسون
في قتال عمار بن ياسر الجن
(1/146)
---(53/146)
قال أبو بكر بن عبيد حدثنا اسحاق بن اسماعيل حدثنا وهب ابن جرير حدثنا ابي عن الحسن عن عمار بن ياسر قال قاتلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجن والإنس قيل وكيف قاتلت الجن والإنس قال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فنزلنا منزلا فأخذت قربتي ودلوي لأستقي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إنه سيأتيك على الماء آت يمنعك منه فلما كنت على رأس البئر إذا رجل أسود كأنه مرس فقال والله لا تستقي منها اليوم ذنوبا واحدا فأخذني وأخذته فصرعته ثم أخذت حجرا فكسرت به وجهه وأنفه ثم ملأت قربتي فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال هل أتاك على الماء من أحد فقلت نعم فقصصت عليه القصة فقال أتدري من هو قلت لا قال ذاك الشيطان وقال أبو نعيم حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الكريم حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الحسين عن حميد بن هلال عن الأحنف بن قيس قال قال علي بن أبي طالب والله لقد قاتل عمار بن ياسر الجن والإنس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا هذا الإنس قد قاتل فكيف الجن فقال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال لعمار انطلق فاستق لنا من الماء فانطلق فعرض له الشيطان في صورة عبد أسود فحال بينه وبين الماء فأخذه فصرعه عمار فقال له دعني وأخلي بينك وبين الماء ففعل ثم أتى فأخذه عمار الثانية فصرعه فقال دعني وأخلي بينك وبين الماء فتركه فأتى فصرعه فقال له مثل ذلك فتركه فوفى له فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الشيطان قد حال بين عمار وبين الماء في صورة عبد أسود وإن الله أظفر عمارا به قال علي فلقينا عمارا فقلت ظفرت يداك يا أبا اليقظان فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كذا وكذا أما والله لو شعرت أنه شيطان لقتلته ولكن هممت أن أعض بأنفه لولا نتن ريحه والله أعلم
الباب التاسع والخمسون في تصفيد مردة الجن في شهر رمضان(53/147)
(1/147)
---
روى الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك عند كل ليلة وروى مسلم من حديث أبي هريرة يرفعه إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين وفي رواية إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين قال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن حديث إذا جاء رمضان صفدت الشياطين قال نعم قلت الرجل يوسوس في رمضان ويصرع قال هكذا جاء الحديث في قوله صفدت أي شدت وأوثقت يقال صفده يصفده صفدا والصفد الوثاق والصفد ما يوثق به الأسير من قد وقيد وغل والأصفاد القيود والله سبحانه وتعالى أعلم الباب الموفي ستين في أن الظباء ماشية الجن
قال عبد الله بن محمد حدثني هشام بن محمد عن أيوب بن خوط عن حميد بن هلال أو غيره قال كنا نتحدث أن الظباء ماشية الجن فأقبل غلام ومعه قوس ونبل فاستتر بارطأة وبين يديه قطيع من ظبي وهو يريد أن يرمي بعضه فهتف به هاتف لا يرى
إن غلام عسر اليدين
يسعى بلبد أو بلهزمين
متخذ الأرطاة جنتين
ليقتل التيس مع العنزين
فسمعت الظباء فتفرقت حدثني محمد بن صدران الأزدي حدثنا نوح ابن قيس حدثنا قيس حدثنا نعمان بن سهل الحراني قال بعث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه رجلا إلى البادية فرأى ظبية مصرورة فطاردها
حتى إذا أخذها فإذا رجل من الجن يقول
يا صاحب الكنانة المكسورة
خل سبيل الظبية المصرورة
فإنها لضبية مضرورة
غاب أبوهم غيبة مذكورة
في كورة لا بوركت من كورة
(1/148)
---(53/148)
حدثني أبي عن هشام عن محمد أن مالك بن نصر الدالاني من همدان قال سمعت شيخا لنا يذكر قال خرج مالك بن حريم الدلاني في نفر من قومه في الجاهلية يريدون عكاظ فاصطادوا ظبيا وأصابهم عطش شديد فانتهوا إلى موضع يقال له أجيرة فقصدوا ظبيا وجعلوا يشربون من دمه من العطش فلما ذهب دمه ذبحوه وخرجوا في طلب الحطب وكمن مالك في خبائه فأثار بعضهم شجاعا فأقبل منسابا حتى دخل رجل مالك فلاذ به وأقبل الرجل في أثره فقال يا مالك استيقظ فإن الشجاع عندك فاستيقظ مالك فنظر إليه وهو يلوذ فقال مالك للرجل عزمت عليك إلا تركته فكف عنه وانساب الشجاع إلى مأمنه وأنشأ مالك يقول وأوصاني الحريم بعز جاري وأمنعه وليس به امتناع
وأدفع ضيمة وأذب عنه
وأمنعه إذا منع المتاع
فذلكم أبي عنه ينحو
لسيء ما استجار به الشجاع
ولا تتحملوا دم مستجير
تضمنه أجيرة فالتلاع
فإن لما ترون على أمرا
له من دون أعينكم قناع
فارتحلوا واشتد بهم العطش فإذا هاتف يهتف بهم أيها القوم لا ماء أمامكم حتى تسوموا المطايا يومها التعبا
ثم اعدلوا شامة فالماء عن كثب
عين رواء وماء يذهب اللغبا
حتى إذا ما أصبتم منه ريكم
فاسقوا المطايا منه فاملئوا القربا
فنزلوا شامة فإذا هم في عين خرارة في أصل جبل فشربوا وسقوا هم إبلهم وحملوا ريهم حتى أتوا عكاظ ثم أقبئوا حتى انتهوا إلى ذلك الموضع فلم يروا شيئا وإذا هاتف يقول يا مال عني جزاك الله صالحة هذا وداع لكم مني وتنسيم
لا تزهدن في اصطناع الخير مع أحد
إن الذي يحرم المعروف محروم
من يفعل الخير لا يعدم مغبته
ما عاش والكفر بعد الغب مذموم
أنا الشجاع الذي أنجبت من رهق
شكرت ذلك أن الشكر مقسوم
(1/149)
---(53/149)
فطلبوا العين فلم يجدوها والله اعلم حدثنا أبو بكر التيمي رجل من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه سمعت رجلا من بني عقيل قال صدت يوما تيسا من الظباء فجئت به إلى منزلي فأوثقته هناك فلما كان من الليل سمعت هاتفا يقول أنا فلان هل رأيت جمل اليتامى أخبرني صبي أن الإنسي أخذه قال أما ورب البيت لئن كان أحدث فيه شيئا لأخذن مثله فلما سمعت ذلك جئت إلى التيس فأطلقته فسمعته يدعوه فأقبل نحو الصوت وله حنين وإرزام كلحنين الجمل وإرزامه قال أبو بكر التيمي وأصاب رجل قنفذا فكفأ عليه برمة فبينا هو على الماء إذ نظر إلى رجلين عريانين أحدهما يقول واكبداه إن كان عفارا ذبح فقال الآخر ثكلت بعل عمتي إن لم أنح فلما سمعت ذلك جئت إلى البرمة وله جلبة تحتها فكشفت عنه فمر يخطر حدثني أبو الحسن الباهلي حدثني حسان بن غزوان الأسدي حدثني رقاد بن زياد قال حملت ظبيا جنح الليل فبات عندي فسمعت هاتفا يهتف من الليل يقول
أيا طلحة الوادي ألا إن شاتنا
أصيبت بليل وهي منك قريب
أحسي لنا من بات يختل فرقنا
له بهليع الواديين دبيب
قال فبشكتها أي أطلقتها قال وسألته عن هليع الوادي قال أسفله والفرق من الظباء مثل القطيع من الغنم والله أعلم
الباب الحادي والستون في عبادة الإنس الجن
قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر قال قال عبد الله بن مسعود كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجن فأسلم النفر من الجن واستمسك هؤلاء بعبادتهم فأنزل الله تعالى ) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب (
ورواه شعيب عن الاعمش ورواه البيهقي بسنده عن سفيان عن الأعمش ومن طريق آخر عن عبد الله بن عتبة ابن مسعود قال نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والإنس كانوا يعبدونهم لا يشعرون فنزلت ) أولئك الذين يدعون ( الآية والله تعالى أعلم الباب الثاني والستون في جواز المذاكرة بحديث الجن
(1/150)(53/150)
---
قال عبد الله بن محمد القرشي حدثنا الحسن بن علي حدثني إسحاق بن إبراهيم بن زريق حدثني عمرو بن الحارث حدثنا عبد الله بن سالم عن الزبيدي قال أخبرني محمد بن مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوما لمن حضر من جلسائه اذكروا شيئا من حديث الجن فقال رجل يا أمير المؤمنين خرجت أنا وصاحبان لي نريد الشام فأصبنا ظبية عضباء وأدركنا راكب من خلفنا وكنا أربعة فقال خل سبيلها فقلت لا لعمرك لا أخلي سبيلها فقال لربما رأيتنا في هذه الطريق ونحن أكثر من عشرة فيخطف بعضنا بعضا فأذهلني ما كان يا أمير المؤمنين حتى نزلنا ديرا يقال له دير العنيف فارتحلنا وهي معنا فإذا هاتف يهتف وهو يقول
يا أيها الركب السراع الأربعة
خلوا سبيل النافر المروعة
مهلا عن العضبا ففي الأرض سعة
ولا أقل قول كذوب إمعة
قال فخليت سبيلها يا أمير المؤمنين فعرض لازمة ركابنا فأميل بنا إلى
حي عظيم فأتى علينا طعام وشراب ثم مضينا حتى أتينا الشام وقضينا حوائجنا ثم رجعنا حتى إذا كنا في المكان الذي ميل بنا إليه إذا أرض قفر ليس بها سفر فأيقنت يا أمير المؤمنين أنهم حي من الجن فأقبلت سائرا إلى الدير فإذا هاتف يهتف
إياك لا تعجل وخذها من ثقة
إني أسير الحد يوم الحجفقة
قد لاح نجم واستوى بمشرقه
ذو ذنب كالشعلة المحرقة
يخرج من ظلماء عسر موبقه
إني امرؤ أنباؤه مصدقة
فأقبلت يا أمير المؤمنين فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ظهر ودعا إلى الإسلام فأسلمت قال رجل وأنا يا أمير المؤمنين خرجت وصاحب لي نريد حاجة لنا فإذا شخص راكب حتى إذا كان منا مزجر الكلب هتف بأعلى صوته أحمد يا أحمد الله أعلى وأمجد محمد أتانا بإله يوحد يدعو إلى الخير وإليه فاعمد فراعنا ذلك فأجابه صوت عن يساره يقول
أنجز ما أوعد من شق القمر
حان له والله إذ دين ظهر
(1/151)
---(53/151)
فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الإسلام فأسلمت قال عمر وأنا كنت عند دريح لنا إذ هتف هاتف من جوفه يا لدريح يا لدريح صائح يصيح بأمر فليح ورشد نجيح يقول لا إله إلا الله فأقبلت فإذا النبي صلى قد ظهر ودعا إلى الله فأسلمت قال خريم ابن فاتك وأنا أضللت إبلا لي فخرجت في طلبها حتى إذا كنت ببارق العراق فأنخت راحلتي ثم علقتها ثم أنشأت أقول أعوذ بسيد هذا الوادي أعوذ بعظيم هذا الوادي ثم وضعت رأسي على جمل فإذا بهاتف من الليل يهتف ويقول
الا فعذ بالله ذي الجلال
ثم اقرأ آيات من الأنفال
ووحد الله ولا تبال
ما هول الجن من الأهوال
فانتبهت فزعا فقلت
يا أيها الهاتف ما تقول
ارشد عندك أم تضليل
فأجابني
هذا رسول الله ذو الخيرات
أرسله يدعو إلى النجاة
وينزع الناس عن الهنات
يأمر بالصوم وبالصلاة
وفي الخبر زيادة من غير هذا الطريق الهاتف ظهر له وضمن عود إبله إلى أهله وأمره بالمضي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مضى فدخل المدينة وجاء المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بحال الهاتف وانه ممن آمن بن من الجن وهذه القصة تدخل في مواضع من الكتاب منها أن الظباء ماشية الجن ومنها إخبار الجن بظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنها دعاء الإنس إلى الإسلام ومنها دلالة الجن على ما يدفع كيدهم وبالله التوفيق الباب الثالث والستون في إخبار الجن بمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وحراسة السماء منهم بالنجوم
ذكر الزبير بن أبي بكر وغيره أن إبليس كان يخترق السموات قبل عيسى عليه السلام فلما ولد وبعث عليه السلام حجب عن ثلاث سموات فلما ولد محمد - صلى الله عليه وسلم - حجب عنها كلها وقذفت الشياطين بالنجوم
(1/152)
---(53/152)
وقالت قريش حين كثر القذف بالنجوم قامت الساعة فقال عتبة ابن ربيعة انظروا إلى العيوق فإن كان قد رمي به فقد آن قيام الساعة وإلا فلا وذكر ابن اسحاق ما رميت به الشياطين حين ظهر القذف بالنجوم لئلا يلتبس بالوحي وليكون ذلك أظهر للحجة وأقطع للشبهة قال السهيلي والذي قاله صحيح ولكن القذف بالنجوم كان قديما وذلك موجود في أشعار القدماء من الجاهلية منهم عوف بن الخرع وأوس بن حجر وبشر بن أبي خازم وكلهم جاهلي وقد وصفوا الرمي بالنجوم وأبياتهم في ذلك مذكورة في مشكل ابن قتيبة في تفسير سورة الجن وذكر عبد الرازق في تفسيره عن معمر عن ابن شهاب انه سئل عن هذا الرمي بالنجوم أكان في الجاهلية قال نعم ولكنه لما جاء الإسلام غلظ وشدد وفي قوله سبحانه ) وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ( ولم يقل
حرست دليل على أنه قد كان منه شيء فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ملئت حرسا شديدا وشهبا وذلك لينحسم أمر الشياطين وتخليطهم ولتكون الآية أبين والحجة أقطع وإن وجد اليوم كاهن فلا يدفع ذلك بما أخبر الله من طرد الشيطان عن استراق السمع فإن ذلك التغليظ والتشديد كان زمن النبوة ثم بقيت منه أعني من استراق السمع بقايا يسيرة بدليل وجودهم على الندور وفي بعض الأزمنة في بعض البلاد وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان فقال ليسوا بشيء فقيل إنهم يتكلمون بالكلمة فتكون كما قالوا فقال تلك الكلمة من الحق يحفظها الجني فيقرها في أذن وليه قر الزجاجة فيخلط فيها أكثر من مائة كذبة ويروى قر الدجاجة بالدال وعلى هذه الرواية تكلم قاسم بن ثابت في الدلائل قال السهيلي والزجاجة بالزاي اولى لما ثبت في الصحيح فيقرها في أذن وليه كما تقر القارورة ومعنى يقرها يصبها ويفرغها قال الراجز
لا تفرغن في أذني بعدها
ما يستقر فأريك فقدها
(1/153)
---(53/153)
وقال ابن دريد يقال قر عليه دلوا من ماء إذا صبها عليه وفي تفسير ابن سلام عن ابن عباس قال إذا رمى الشهاب الجني لم يخطئه ويحرق ما أصاب ولا يقتله وعن الحسن قال يقتله في أسرع من طرفة العين وفي تفسير ابن سلام أيضا عن أبي قتادة أنه كان مع قوم فرمى بنجم فقال لا تتبعوه أبصاركم وفيه أيضا عن حفص أنه سأل الحسن أيتبع بصره الكوكب فقال قال الله تعالى ) وجعلناها رجوما للشياطين ( وقال تعالى ) أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ( قال كيف نعلم إذا لم ننظر إليه لأتبعنه بصرى وذكر ابن اسحاق حديث ابن عباس وفيه كنا إذا رأيناه نقول يموت عظيم أو يولد عظيم والحديث في صحيح مسلم ولفظه أن عبد الله بن عباس قال أخبرني رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار أنهم بينا هم جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ رمى بنجم فاستنار فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كنتم تقولون في الجاهلية
(1/154)
---(53/154)
إذا رمى بمثل هذا قالوا الله ورسوله أعلم كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم أو مات رجل عظيم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السموات الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا ثم يقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ماذا قال فيستخبر بعض أهل السماء بعضا حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا فيخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم ويرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يقذفون فيه ويزيدون وفي هذا دليل على ما قدمناه من أن القذف بالنجوم قد كان قديما ولكنه إذ بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلظ وشدد كما قال الزهري ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا وقوله في آخر الحديث من رواية ابن اسحاق وقد انقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة يدل قوله اليوم على تخصيص ذلك الزمان كما قدمناه والذي انقطع اليوم وإلى يوم القيامة أن تدرك الشياطين ما كانت تدركه في الجاهلية الجهلاء عند تمكنها من سماع أخبار السماء وما يوجد اليوم من كلام الجن على ألسنة المجانين إنما هو خبر منهم عما يرونه في الأرض مما لا نراه نحن كسرقة سارق وخبية في مكان خفي أو نحو ذلك وأن أخبروا بما سيكون كان تخرصا وتظننا فيصيبون قليلا ويخطئون كثيرا وذلك القليل الذي يصيبون فيه هو ما تتكلم به الملائكة في العنان كما في حديث البخاري فيطردون بالنجوم فيضيفون إلى الكلمة الواحدة أكثر من مائة كذبة كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم
(1/155)
---(53/155)
وذكر ان أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمى بها للقذف ثقيف وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن امية أحد بني علاج وكان أدهى العرب وأكثرها رأيا فقالوا له يا عمرو ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم قال بلى فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما تصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها وان كانت نجوما غيرها وهي ثابتة فهذا الأمر أراد الله تعالى
بهذا الخلق وروى ابن عبد البر من طريق أبي داود بسنده إلى الشعبي قال لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها قبل فأتوا عبد ياليل بن عمرو الثقفي فقالوا إن الناس قد فزعوا وأعتقوا رقبتهم وسيبوا أنعامهم لما رأوا في النجوم فقال لهم وكان رجلا أعمى لا تعجلوا وانظروا فإن كانت النجوم التي تعرف فهي عند فناء الناس وإن كانت لا تعرف فهي من حدث فنظروا فإذا هي نجوم لا تعرف فقالوا هذا من حدث فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -
فصل
روى أبو جعفر العقيلي في كتاب الصحابة عن رجل من بني لهب يقال له لهب أو أبو لهب قال حضرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت عنده الكهانة فقلت بأبي أنت وأمي نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم وذلك أننا أجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتان وثمانون سنة وكان من أعلم كهاننا فقلنا يا خطر هل عندك علم من هذه النحوم التي يرمى بها فإنا قد فزعنا لها وخشينا سوء عاقبتها فقال
عودوا إلى السحر
أخبركم الخبر
ألخير أم ضرر
أو لأمن أو حذر
(1/156)
---(53/156)
قال فانصرفنا عنه يومنا فلما كان من غد وجه السحر أتيناه فإذا هو قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه فناديناه يا خطر يا خطر فأومأ إلينا أمسكوا فأمسكنا فانقض نجم عليه من السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته
أصابه أصابة
خامره عقابه
عاجله عذابه
احرقه شهابه
يا ويله ما حاله
بلبله بلباله
عاوده خباله
تفصمت حباله
وغيرت أحواله
ثم أمسك طويلا وقال يا معشر بني قحطان أخبركم بالحق والبيان
أقسمت بالكعبة والاركان
والبلد المؤتمن السدان
قد منع السمع عناة الجان
بثاقب بكف ذي سلطان
من أجل مبعوث عظيم الشأن
يبعث بالتنزيل والقرآن
وبالهدى وفاضل القرآن
يبطل به عبادة الأوثان
فقلنا له ويحك يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما فماذا ترى لقومك فقال
أرى لقومي ما أرى لنفسي
إن يتبعوا خير نبي الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس
يبعث في مكة دار الخمس
بمحكم التنزيل غير اللبس
(1/157)
---(53/157)
فقلنا له يا خطر وممن هو فقال والحياة والعيش إنه لمن قريش ما في حكمه طيش ولا في خلقه هيش يكون في جيش وأي جيش من آل قحطان وآل إيش فقلنا له بين لنا من أي قريش هو فقال والبيت ذي الدعائم والركن والأحائم إنه لمن نجل هاشم من معشر أكارم يبعث بالملاحم وقتل كل ظالم ثم قال هذا هو البيان أخبرني به رئيس الجان ثم قال الله أكبر جاء الحق وظهر وانقطع عن الجن الخبر ثم سكت وأغمي عليه فما أفاق إلا بعد ثلاثة فقال لا إله إلا الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد نطق عن مثل نبوة وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده قوله اصابه إصابة الثاني بكسر الهمزة وهي بدل من واو مكسورة والمعنى أصابه وصابه جمع وصب وقوله من آل قحطان هم الأنصار لأنهم من قحطان وآل إيش قال السهيلي يحتمل أن يكون قبيلة من الجن المؤمنين ينسبون إلى إيش قلت ذكر ابن دريد أن بني الشيطان وبني إيش قبيلتان من الجن ثم قال السهيلي وأحسبه أراد بآل إيش بني إقيش وهم حلفاء الأنصار من الجن فحذف من الاسم حرفا وقد تفعل العرب مثل هذا وقد وقع ذكر بني أقيش في السيرة في حديث البيعة قلت وقد وقع ذكر بين الشيطان وبني أقيش في قصة وأنهما حيان من الجن وقد ذكرتها في أمر الجن الذين سمعوا القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقوله والأحائم يجوز أن يكون أراد الأحاوم بالواو فهمز الواو لانكسارها والأحاوم جمع أحوام وأحوام جمع حوم وهو الماء في البئر فكأنه أراد ماء زمزم والحوم أيضا إبل كثيرة ترد الماء فكأنه أراد ماء
(1/158)
---(53/158)
زمزم ويجوز أن يريد بها الطير التي تحوم على الماء فيكون بمعنى الحوائم وقلب اللفظ فصار بعد فواعل افاعل والله أعلم وروى ابن اسحاق حديث عمر ابن الخطاب وقصته مع سواد بن قارب وروى غير ابن اسحاق هذا الخبر عن عمر وأن عمر مازح سوادا فقال ما فعلت كهانتك يا سواد فغضب سواد فقال قد كنت أنا وأنت على شر من هذا من عبادة الأصنام وأكل الميتات أفتعيرني بأمر قد تبت منه فقال عمر حينئذ الهم غفرانك والحديث في صحيح البخاري أخصر وفي الألفاظ اختلاف وقد روى في الحديث زيادة حسنة وهي أن سوادا حدث عمر أن رئيه جاءه ثلاث ليال متواليات هو فيها كلها بين النائم واليقظان فقال له قم يا سواد اسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل قد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لؤي من غالب يدعو إلى الله وعبادته وأنشده في كل ليلة من الثلاث ليال ثلاثة أبيات معناها واحد وقافيتها مختلفة
في الأولى
عجبت للجن وتطلابها
وشدها العيس بأقتابها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى
ما صادق الجن ككذابها
فأرحل إلى الصفوة من هاشم
ليس قداماها كأذنابها
وفي الثانية
عجبت للجن وإبلاسها
وشدها العيس بأحلاسها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى
ما طاهر الجن كأنجاسها
فارحل على الصفوة من هاشم
ليس ذنابا الطير من رأسها
وفي الثالثة
عجبت للجن وتنفارها
وشدها العيس بأكوارها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى
ما مؤمن الجن ككفارها
فارحل إلى الأتقين من هاشم
ليس ذوو الشر كأخيارها
وذكر تمام الخبر فقال له عمر هل يأتيك رئيك الآن فقال منذ القرآن لم يأتني ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن وفي آخره شعر
سواد إذ قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنشده ما كان من الجن رئيه إليه ثلاث ليال متواليات وذكر قوله
أتاني نجيي بعد هدء ورقدة
ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة
أتاك نبي من لؤي بن غالب
فرفعت أذيال الإزار وشمرت
بي العرمس الوجنا هجول السباسب
فأشهد أن الله لا شيء غيره
(1/159)
---(53/159)
وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة
من الله بابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك من وحي ربنا
وإن كان مما جئت شيب الذوائب
وكن لي شفيعا يوم لاذو شفاعة
بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه وقال لي أفلحت يا سواد وقال أبو بكر بن محمد القرشي حدثنا أبو الأحوص محمد ابن الهيثم حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا ابو عثمان بن سعيد بن كثير ابن دينار حدثنا عبد الله بن عبد العزيز الزهري حدثني أخي محمد ابن عبد العزيز عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن أنس السلمي عن عباس ابن مرداس قال كان إسلام عباس بن مرداس أنه كان في لقاح نصف النهار إذ طلعت نعامة بيضاء عليها راكب عليه ثياب مثل اللبن قال فقال لي يا عباس ألم تر أن السماء بثت احراسها وأن الجن جرعت أنفاسها وأن الخيل وضعت أحلاسها وان الذي نزل بالبر والتقوى يوم الأثنين ليلة الثلاثاء صاحب الناقة القصوى قالت فخرجت مرعوبا قد راعني ما رأيت وسمعت حتى جئت وثنا لنا يدعى الضمار كنا نعبده ونكلم من جوفه فدخلت عليه فكنست ما حوله وقمت ثم تمسحت به وقبلته فإذا صائح يصيح من جوفه يا عباس
قل للقبائل من سليم كلها
هلك الضمار وفاز أهل المسجد
هلك الضمار وكان يعبد مرة
قبل الصلاة إلى النبي محمد
ذاك الذي جا بالنبوة والهدى
بعد ابن مريم من قريش مهتدى
قال فخرجت مرعوبا حتى جئت قومي فقصصت عليهم القصة وأخبرتهم الخبر قال فخرجت في ثلاثمائة من قومي من بني حارثة إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فتبسم ثم قال يا عباس كيف كان إسلامك فقصصت عليه القصة فسر بذلك وأسلمت أنا وقومي وقال أبو بكر القرشي حدثنا حاتم بن الليث الجوهري حدثني سليم بن عبد العزيز الزهري حدثني أبي عبد العزيز بن عمران عن عمه محمد بن عد العزيز عن ابيه عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال لما ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هتفت الجن على أبي قبيس وعلى الجبل الذي بالحجون(53/160)
(1/160)
---
فأقسم لا أنثى من الناس أنجبت
ولا ولدت أنثى من الناس واحده
كما ولدت زهرية ذات مفخر
مجنبة لوم القبائل ماجده
فقد ولدت خير القبائل أحمدا
فأكرم بمولود وأكرم بوالده
وقال الذي على أبي قبيس
يا ساكني البطحاء لا تغلطوا
وميزوا الأمر بعقل مضى
إن بني زهرة من سركم
في غابر الدهر وعند البدي
واحدة منكم فهاتوا لنا
فيمن مضى في الناس أو من بقي
واحدة من غيركم ومثلها
جنينها مثل النبي التقى
وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال ما سمعت عمر يقول لشيء قط إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن بينا عمر جالس إذ مر به رجل جميل فقال لقد أخطأ ظني أو أن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم على بالرجل فدعى له فقال له عمر لقد أخطأ ظني أو أنك على دينك في الجاهلية أو لقد كنت كاهنهم فقال ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم قال فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني قال كنت كاهنهم في الجاهلية قال فما أعجب ما جاءتك به جنيتك قال بينا انا في سوق يوما جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت
ألم تر إلى الجن وإبلاسها
ويأسها بعد إبلاسها
ولحوقها بالقلاص وأحلامها
قال عمر صدق بينا أنا قائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم اسمع قط صارخا أشد صوتا منه يقول يا جليح أمر
نجيح رجل يصيح يقول لا إله إلا الله فوثب القوم فقلت لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ثم نادى يا جليح أمر نجيح رجل يصيح يقول لا إله إلا الله قلت لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ثم نادى يا جليح أمر نجيح رجل يصيح يقول لا إله إلا الله فما نشبت أن قيل هذا نبي قال البيهقي ظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر نفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح وكذلك هو صريح في رواية عن عمر في إسلامه وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه والله أعلم
(1/161)
---(53/161)
وقد روى الإمام أحمد عن مجاهد قال حدثنا شيخ أدرك الجاهلية ونحن في غزوة رودس يقال له ابن عيسى قال كنت اسوق لآل لنا بقرة فسمعت من جوفها يال ذريح يا قول فصيح رجل يصيح أن لا إله إلا الله قال فقدمنا مكة فوجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج بمكة قال عبد الله بن احمد حديث غريب بإسناد جيد وروى البيهقي بسنده قصة مازن الطائي وأنه كان بأرض عمان بقرية تدعى شمائل وكان يسدن الأصنام لأهله وكان له صنم يقال له ناجر فقال مازن فعترت ذات يوم عتيرة وهي الذبيحة فسمعت صوتا من الصنم يقول يا مازن يا مازن أقبل إلي أقبل إلي تسمع ما لا تجهل هذا نبي مرسل جاء بحق منزل فآمن به كي تعدل عن حر نار تشعل وقودها بالجندل قال مازن فقلت والله إن هذا لعجب ثم عترت بعد أيام عتيرة أخرى فسمعت صوتا أشد من الأول وهو يقول يا مازن اسمع تسر ظهر خير وبطن شر بعث نبي مضر بدين الله الأكبر فدع نحيتا من حجر تسلم من حر سقر قال مازن فقلت والله إن هذا لعجب وأنه لخير يراد بي وقد مر علينا رجل من أهل الحجاز فقلنا ما الخبر وراءك قال خرج رجل من تهامة يقول لمن أتاه أجيبوا داعي الله يقال له احمد قال فقلت هذا والله نبأ ما سمعت فسرت إلى الصنم فكسرته جذاذا وشددت راحلتي ورحلت حتى أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشرح الله صدري إلى الإسلام فأسلمت وأنشأت أقول
كسرت ناجر أجذاذا وكان لنا
ربا نطيف به ضلا بتضلال
بالهاشمي هدانا من ضلالتنا
ولم يكن دينه مني على بال
يا راكبا بلغني عمرا وإخوته
إني لمن قال ربي ناجر قالى
(1/162)
---(53/162)
يعني بعمرو وإخوته بن خطامة قال مازن فقلت يا رسول الله إني امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر وبالهلوك من النساء فألحت علينا السنون فاذهبن الأموال وأهزلهن الذراري والرجال وليس لي ولد فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحياة ويهب لي ولدا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الهم أبد له بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال وبالخمر ريا لا إثم فيه وبالعهر عفة الفرج وأته بالحيا وهب له ولدا قال مازن فأذهب الله عني كل ما كنت أجد وأخصب عمان وتزوجت أربع حرائر ووهب لي حيان بن مازن وأنشأت أقول
إليك رسول الله حنت مطيتي
تجوب الفيافي من عمان إلى العرج
لتشفع لي يا خير من وطئ الحصى
فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج
إلى معشر خالفت في الله دينهم
فلا رأيهم رأيي ولا سرجهم سرجي
وكنت امرأ بالعزف والخمر مولعا
حياتي حتى آذن الجسم بالنهج
فبدلني بالخمر خوفا وخشية
وبالعهر أحصانا وحصن لي فرجي
فأصبحت همي في جهاد ونيتي
فلله ما صومي ولله ما حجي
قال مازن فلما رجعت إلى قومي أنبوني وشتموني وأمروا شاعرهم فهجاني فقلت إن هجوتهم فإنما أهجو نفسي فتركتهم وأنشأت أقول
شتمكم عندنا مر مذاقته
وشتمنا عندكم يا قومنا حسن
لا ينشب الدهر إن بثت معائبكم
وكلكم أبدا في عينا فطن
شاعرنا مفحم عنكم وشاعركم
في حربنا مبلغ في شتمنا لسن
ما في الصدور عليكم من منغصة
وفي صدوركم البغضاء والأحن
وروى أن مازنا لما تنحى عن قومه أتى موضعا فابتنى مسجدا يتعبد فيه فهو لا يأتيه مظلوم يتعبد فيه ثلاثا ثم يدعو محقا على من ظلمه يعني إلا استجيب له فيكاد يعافى من البرص والمسجد يدعى مبرصا إلى اليوم قال مازن ثم إن القوم ندموا وكنت القيم بأمورهم فقالوا ما عسينا ان نصنع به فجاءني طائفة عظيمة فقالوا يا ابن عم عبنا عليك أمرا فنهيناك عنه فإذا تبت فنحن تاركوك ارجع معنا فرجعت معهم فأسلموا بعد كلهم
(1/163)
---(53/163)
وقد روى في معني حديث مازن أخبار كثيرة منها حديث عمرو بن جبلة فيما سمع من جوف الصنم يا عصام يا عصام جاء الإسلام وذهبت الأصنام ومنها حديث طارق من بني هند بن حرام يا طارق ابن يا طارق بعث النبي الصادق ومنها حديث وقشة فيما أخبر به رئيه فنظر إلى ذباب بن الحارث فقال يا ذباب يا ذباب اسمع العجب العجاب بعث محمد بالكتاب يدعو بمكة لا يجاب وغير ذلك مما يطول استقصاؤه وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أخبرني علي بن الحسين قال إن أول خبر قدم المدينة أن امرأة من أهل يثرب تدعى فطيمة كان لها تابع من الجن فجاءها يوما فوقع على جدارها فقالت مالك لا تدخل فقال إنه بعث نبي حرم الزنا فحدثت تلك المرأة عن تابعها من الجن فكان أول خبر حدث بالمدينة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى البيهقي بسنده عن جابر قال أول خبر قدم المدينة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع فجاء فى صورة طائر حتى وقع على حائط دارها فقالت له المرأة انزل نخبرك وتخبرنا قال لا إنه بعث بمكة نبى منع منا القرار وحرم علينا الزنا والله الموفق
الباب الرابع والستون فى إخبار الجن بنزول النبى - صلى الله عليه وسلم - خيمة أم معبد حين الهجرة
قال ابن إسحاق حدثت عن أسماء بنت أبى بكر أنها قالت لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل فوقفوا على باب أبى بكر فخرجت إليهم فقالوا أين أبوك يا بنت أبى بكر قلت لا أدرى والله أين أبى قالت فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدى لطمة طرح منها قرطى قالت ثم انصرفوا فمكثنا ثلاث ليال لا ندرى أين وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أسفل مكة وهو يقول
جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين حلا خيمتي أم معبد
(1/164)
---(53/164)
هما نزلا بالبر ثم ترحلا
فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت أسماء فلما سمعنا قوله علمنا حيث وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن وجهه إلى المدينة لم يزد ابن هشام في روايته عن ابن اسحاق على هذا وروى ابن قتيبة القصة بألفاظ مختلفة يقصر شرح ألفاظها وفيها زيادة منها قوله
فيال قصي ما زوى الله عنكم
به من فعال لا تجارى وسؤدد
سلوا اختكم عن شاتها وإناثها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت
عليه صريحا صرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب
يرددها في مصدر ثم مورد
ويروى أن حسان بن ثابت لما بلغه شعر الجني وما هتف به بمكة قال يجيبه
لقد خاب قوم غاب عنهم نبيهم
وقدس من يسرى إليهم ويغتدى
ترحل عن قوم فضلت عقولهم
وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم
وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا
عمايتهم هاد به كل مهتدي
لقد نزلت منه على أهل يثرب
ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى مالا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جده
بصحبته من يسعد الله يسعد
وزاد يونس في روايته أن قريشا لما سمعت الهاتف من الجن أرسلوا إلى أم معبد وهي بخيمتها فقالوا هل مر بك محمد الذي من حليته كذا فقالت لا أدري ما تقولون وإنما صادفني حالب الشاة الحائل وكانوا أربعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر ومولاه عامر بن فهيرة وعبد الله بن أريقط الليثي دليلهم ولم يكن إذ ذاك مسلما ولا صح أنه أسلم بعد ذلك وأم معبد اسمها عاتكة بنت خالد الاشعري ووهم ابن هشام
فقال أم معبد بنت كعب امرأة من بني كعب وزوجها ابو معبد لا يعرف اسمه توفي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقال إن له رواية وكان منزل أم معبد بقديد
(1/165)
---(53/165)
وذكر ابن قتيبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأم معبد وكان القوم مرملين مسنتين فطلبوا لبنا أو لحما يشترونه فلم يجدوا عندها شيئا فنظر إلى شاة في كسر الخيمة خلفها الجهد عن الغنم فسألها هل بها من لبن فقالت هي أجهد من ذلك فقال أتأذنين لي أن أحلبها فقالت بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها فدعا بالشاة فاعتقلها ومسح ضرعها فتفاجت ودرت واجترت ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيه حتى ملأه لبنا وسقى القوم حتى رووا ثم شرب آخرهم ثم حلب فيه مرة أخرى فشربوا نهلا بعد نهل ثم غادره والشاة عندها وذهبوا وجاء أو معبد وكان غائبا فلما رأى اللبن قال ما هذا يا أم معبد أني لك هذا والشاة عازب حيال ولا حلوب بالبيت فقالت لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك فقال صفيه يا أم معبد فوصفته بما ذكره القتيبي وورد في حديث آخر أن آل أم معبد كانوا يؤرخون بذلك اليوم ويسمونه يوم الرجل المبارك يقولون فعلنا كيت وكيت قبل أن يأتينا الرجل المبارك أو بعد ما جاءنا الرجل المبارك ثم أن أم معبد أتت المدينة بعد ذلك بما شاء الله ومعها ابن لها صغير قد بلغ السعي فمر في المدينة على مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يكلم الناس على المنبر فانطلق إلى أمه يشتد وقال يا أماه إني رأيت اليوم الرجل المبارك فقالت له ويحك يا بني هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى هشام بن حبيش الكعبي قال أنا رأيت تلك الشاة يعني التي حلبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنها لتأدم أم معبد وجميع صرمها أي أهل ذلك الماء والله أعلم
الباب الخامس والستون في إخبار الجن بإسلام السعدين
قال أبو بكر عبد الله بن محمد حدثني أبي عن هشام بن محمد أنبأنا عبد المجيد بن أبي عيسى بن محمد بن أبي عيسى بن جبير عن أبيه عن جده قال سمعت قريش صائحا يصيح على أبي قبيس
فإن يسلم السعدان يصبح محمد
بمكة لا يخشى خلاف مخالف
(1/166)
---(53/166)
فقال أبو سفيان وأشراف قريش من السعود سعد بن بكر وسعد ابن زيد مناة وسعد بن قضاعة فلما كان في الليلة الثانية سمعوا صوته على أبي قبيص
أيا سعد سعد الأوس كن انت ناصرا
ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا دعا داعي الهدى وتمنيا
على الله في الفردوس ذات رفائف
قال فقالوا هذا سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وذكره أبو عمر ابن عبد البر وقال أبو بكر حدثنا العباس بن هشام حدثني هشام بن محمد ابن عبد المجيد بن أبي عيسى قال سمع بالمدينة في بعض الليل هاتف يقول
خير كهلين في بني الخزرج الغر
يسيروا سعد بن عبادة
المحيبان إذ دعا أحمد الخير
فنالتهما هناك السعادة
ثم عاشا مهذبين جميعا
ثم لقاهما المليك شهادة
الباب السادس والستون في إخبار الجن بقصة بدر
ذكر قاسم بن ثابت في الدلائل أن قريشا حين توجهت إلى بدر مر هاتف من الجن على مكة في اليوم الذي أوقع به المسلمون وهو ينشد بأبعد صوت ولا يرى شخصه
أزار الحنيفيون بدرا وقيعة
سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أبادت رجالا من لؤي وأبرزت
حرائر يضربن الترائب حسرا
فيا ويح من أمسى عدو محمد
لقد حاد عن قصد الهدى وتحيرا
فقال قائلهم من الحنيفيون فقالوا هو محمد وأصحابه يزعمون أنهم على دين إبراهيم الحنيف ثم لم يلبثوا أن جاءهم الخبر اليقين والله أعلم الباب السابع والستون في إخبار الجن بقتلهم سعد بن عبادة
ذكر ابن عبد البر وغيره أن سعد بن عبادة كان تخلف عن بيعة أبي بكر وخرج عن المدينة ولم ينصرف إليها إلى ان مات بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف مصتا من خلافة عمر وذلك سنة خمس عشرة وقيل سنة أربع عشرة وقيل بل مات سعد بن عبادة في خلافة أبي بكر وقيل سنة إحدى عشرة ولم يختلفوا أنه وجد ميتا في مغتسله وقد أخضر جسده ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرون أحدا
قد قتلنا سيد الخزرج
سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين
فلم نخط فؤاده
(1/167)
---(53/167)
ويقال إن الجن قتلته وروى ابن جريج عن عطاء أنه قال سمعت أن الجن قالت في سعد بن عبادة فذكر البيتين وقال الزمخشري يزعمون أن علقمة بن صفوان وحرب بن أمية من قتلى الجن قالوا وقالت الجن
وقبر حرب بمكان قفر
وليس قرب قبر حرب قبر
قالوا ومن الدليل على أن هذا من شعر الجن أن أحدا لا يقدر أن ينشده ثلاث مرات متصلة من غير تتعتع ويقدر على تكرار اشق بيت من أبيات غير الجن عشر مرات من غير تتعتع والله أعلم الباب الثامن والستون في جواز سؤال الجن عن الأحوال الماضية دون الأمور المستقبلة
قال ابو بكر القرشي حدثنا عبد الله بن بدر حدثنا يحيى بن يمان عن سفيان عن عمر بن محمد عن سالم بن عبيد الله قال أبطأ خبر عمر على أبي موسى فأتى امرأة في بطنها شيطان فجاء فسألها عنه فقالت حتى يجئ إلى شيطاني فجاء فسألته عنه قال تركته مؤتزرا بكساء يهنأ إبل الصدقة وذاك لا يراه شيطان إلا خر لمنخره الملك بين يديه وروح القدس ينطق بلسانه وقال عبد الله بن احمد بن حنبل في فضائل الصحابة حدثنا داود ابن رشيد حدثنا الوليد يعني ابن مسلم عن عمر بن محمد حدثنا سالم ابن عبدالله قال راث على أبي موسى الأشعري خبر عمر وهو أمير البصرة وكان بها امرأة في جنبها شيطان يتكلم فأرسل اليها رسولا فقال لها مري صاحبك فليذهب فليخبرني عن أمير المؤمنين قالت هو باليمن يوشك أن يأتي فمكثوا غير طويل قالوا اذهب فأخبرنا عن أمير المؤمنين فإنه قد راث علينا فقال إن ذلك الرجل ما نستطيع أن ندنو منه بين عينيه روح القدس وما خلق الله شيطانا يسمع صوته إلا خر لوجهه وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشا فقدم شخص إلى المدينة فأخبر أنهم انتصروا على عدوهم وشاع الخبر فسأل عمر عن ذلك فذكر له فقال هذا ابو الهيثم يريد المسلمين من الجن وسيأتي يريد الإنس فجاء بعد ذلك بعدة أيام
فصل
(1/168)
---(53/168)
قال أبو العباس أحمد بن تيمية أما سؤال الجن وسؤال من يسألهم فهذا إن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به والتعظيم للسؤال فهو حرام كما ثبت في الصحيح عن معاوية بن الحكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له إن قوما منا يأتون الكهان قال فلا تأتوهم وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام انه قال من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما وأما إن كان يسأل المسئول ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز كما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل ابن صياد فقال ما يأتيك قال يأتيني صادق وكاذب قال ما ترى قال ارى عرشا على الماء قال فإني قد خبأت لك خبيئا قال هو الدخ قال اخسأ فلن تعدو قدرك فإنما أنت من إخوان الكهان وكذلك إذا كان يسمع ما يقولون ويخبرون به عن الجن كما يسمع المسلمون ما يقوله الكفار والفجار ليعرفوا ما عندهم فكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت فلا يجزم بصدقه ولا بكذبه إلا ببينة كما قال الله تعالى ) إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ( وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن اهل الكتاب كانوا يقرءون التوراة ويفسرونها بالعربية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون فقد جاز للمسلمين سماع ما يقولونه وإن لم يصدقوه ولم يكذبوه ثم ساق حديث يريد الجن الذي قدمناه وحديث أبي موسى الأشعري المتقدم
رأي المؤلف وتعليقه
قلت لا شك أن الله تعالى أقدر الجن على قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير بدليل قوله تعالى ) قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ( فإذا سأل سائل عن حادثة وقعت أو شخص في بلد بعيد فمن الجائز أن يكون الجني عنده علم من تلك الحادثة وحال ذلك الشخص(53/169)
(1/169)
---
فيخبر ومن الجائز أن لا يكون عنده علم فيذهب ويكشف ثم يعود فيخبر ومعه هذا فهو خبر واحد لا يفيد غير الظن ولا يترتب عليه حكم غير الاستئناس وسيأتي في الأبواب الآتية أنواع مما أخبروا به عقيب وقوعه ثم تبين بعد ذلك وقوعه بإخبار الإنس وأما سؤالهم عما لم يقع وتصديقهم فيه بناء على أنهم يعلمون الغيب فكفر وعليه يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تأتوهم وقوله من أتى عرافا الحديث والله أعلم الباب التاسع والستون في شهادة الجن للمؤذنين يوم القيامة
في صحيح البخاري والموطأ وغيرهما من حديث ابن أبي صعصعة أن أبا سعيد قال له أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في باديتك أو غنمك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له يوم القيامة قال أبو سعيد سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الباب الموفي سبعين في نعي الجن عبد الله بن جدعان وفيه قصة إصابته الكنز
قال عبد الله بن محمد بن عبيد حدثني أبي حدثنا هشام بن محمد قال أخبرني معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عامر بن وائلة قال أخبرني شيخ من أهل مكة عن الأعشى بن إلياس بن زرارة التميمي حليف بني عبد الدار قال خرجت مع نفر من قريش نريد الشام فنزلنا بواد يقال له وادي عوف فعرسنا به فاستيقظت في بعض الليل فإذا أنا بقائل يقول
ألا هلك النساك غيث بني فهر
وذو الباع والمجد التليد وذو الفخر
فقلت في نفسي والله لأجيبنه فقلت
ألا أيها الناعي أخا الجود والفخر
من المرء تنعاه لنا من بني فهر
فقال
نعيت ابن جدعان بن عمرو أخا الندى
وذا الحسب القدموس والمنصب القهر
فقلت
لعمري لقد نوهت بالسيد الذي
له الفضل معروفا على ولد النضر
فقال
مررت بنسوان يخمشن أوجبها
صياحا عليه بين زمزم والحجر
فقلت
متى إن عهدي فيه منذ عروبة
وتسعة أيام لغرة ذا الشهر
فقال
ثوى منذ أيام ثلاث أيام كوامل
مع الليل أو في الليل أو وضح الفجر
(1/170)
---(53/170)
فاستيقظت الرفقة فقالوا من تخاطب فقلت هذا هاتف ينعى ابن جدعان فقالوا والله لو بقي احد بشرف أو عز أو كثرة مال لبقي عبد الله بن جدعان فقال ذلك الهاتف
أرى الأيام لا تبقى عزيزا
لعزته ولا تبقي ذليلا
فقلت
ولا تبقى من الثقلين شغرا
ولا تبقي الحزون ولا السهولا
قال فنظرنا في تلك الليلة فرجعنا إلى مكة فوجدناه قد مات كما قال
قلت عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم يكنى أبا زهير هو ابن عم عائشة الصديقة كان في ابتداء أمره صعلوكا وكان مع ذلك شريرا لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته ونفاه أبوه وحلف أن لا يؤويه أبدا لما أثقله من الغرم وحمله من الديات فخرج في شعاب مكة حائرا يتمنى نزول الموت به فدخل في شق جبل يرجو أن يكون فيه ما يقتله ليستريح فإذا ثعبان عظيم له عينان تقدان كالسراجين فحمل عليه الثعبان فأفرج له فانساب عنه مستديرا بدارة عندها بيت فخطا خطوة أخرى فصعد به الثعبان وأقبل اليه كالسهم فأفرج له
فانساب فوقع في نفسه أنه مصنوع فأمسكه فإذا هو مصنوع من ذهب وعيناه ياقوتتان فكسره وأخذ عينيه ودخل البيت فإذا جثث طوال على سرر لم ير مثلهم طولا وعظما وعند رؤوسهم لوح من فضة فيه تاريخهم فإذا هم رجال من ملوك جرهم وآخرهم موتا الحارث بن مضاض صاحب القرية الطويلة وإذا عليهم ثياب لا يمس منها شيء إلى أنتثر كالهباء من طول الزمن قال ابن هشام كان اللوح من رخام وكان فيه أبو نفيلة بن عبد المدان ابن خشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود نبي الله عشت خمسمائة عام وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والمجد والملك فلم يكن ذلك ينجيني من الموت وتحته مكتوب
قد قطعت البلاد في طلب الثروة
والمجد قالص الأثواب
وسريت البلاد قفرا لقفر
بقناتي وقوتي واكتسابي
فأصاب الردى سواد فؤادي
بسهام من المنايا صعاب
فانقضت شرتي واقصر جهلي
واستراحت عواذلي من عتابي
ودفعت السفاه بالحلم لما
(1/171)(53/171)
---
نزل الشيب في محل الشباب
صاح هل رأيت أو سمعت براع
رد في الضرع ما قرى في الحلاب
وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة و الزبرجد فأخذ منه ما أخذ ثم علم على الشق بعلامة وأغلق بابه بالحجارة وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به يسترضيه ويستعطفه ووصل عشيرته كلهم وسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف فلما كبر وهرم أراد بنو تميم أن يمنعوه من تبذير ماله ولاموه في العطاء فكان يدعو الرجل فإذا دنا منه لطمه لطمة خفيفة ثم يقول قم فأنشد لطمتك واطلب ديتها فإذا فعل أعطته بنو تميم من مال ابن جدعان حتى يرضى وذكر ابن قتيبة في غريب الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمى يعني بالهاجرة قال ابن قتيبة كانت جفنته يأكل منها الراكب على البعير وسقط فيها صبي فغرق أي مات وكان أمية بن أبي الصلت قبل أن يمدحه اتى بني الديان من بني الحارث بن كعب فراى طعام بني عبد المدان منهم لباب البر والشهد
والسمن وكان ابن جدعان يطعم التمر والسويق ويسقي اللبن فقال أمية
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم
فرأيت أكرمهم بني الديان
البر يلبك بالشهاد طعامهم
لا ما تعللنا بنو جدعان
فبلغ شعره عبد الله بن جدعان فأرسل ألفي بعير إلى الشام تحمل إليه البر والشهد والسمن وجعل مناديا ينادي على الكعبة إلا هلموا إلى جفنة عبد الله ابن جدعان فقال أمية عند ذلك
له داع بمكة مشمعل
وآخر فوق كعبتها ينادي
إلى ردح من الشيزا عليها
لباب البر يلبك بالشهاد
(1/172)
---(53/172)
وفي صحيح مسلم أن عائشة رضي الله عنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن ابن جدعان كان يطعم الطعام ويقري الضيف فهل ينفعه ذلك يوم القيامة فقال لا لأنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين وروى ابن اسحاق ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت المراد به حلف الفضول وكان في ذي القعدة قيل المبعث بعشرين سنة والله أعلم الباب الحادي والسبعون في بيان نوح الجن على أبي عبيدة وأصحابه
قال أبو بكر بن محمد حدثني العباس بن هشام بن محمد عن أبيه عن محمد بن سعيد بن راشد مولى النخع عن رجل من اهل الطائف قال لما أبطأ علي عمر بن الخطاب خبر أبي عبيدة بن مسعود وأصحابه وكانوا بقبس الناطف اشتد همه وجعل يسأل عن خبرهم فقدم رجل من أهل الطائف فحدث في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا بواد من أودية الطائف يقال له سهر أسمار فسمعوا نائحة يحسبون أنها بالقرب منهم فسمعوا نساء ينحن ويقلن
مت على الخيرات ميتة خالد
إذا ما صبرت يوم اللقاء
قدس الله معركا شهدوه
والملا الأبرار خير ملاء
معركا فيه ظلت الجن تبكي
مبسمات الأبكار بيض الدماء
كم كريم مجدل غادروه
مؤمن القلب مستجاب الدعاء
يقطع الليل لا ينام صلاة
وجؤارا يمده ببكاء
ثم يقلن يا أبا عبيداه يا سليطاه قال الطائفي فجعلنا نتبع الصوت فنسمع الأبيات وما يقلن بعدها ونحن منه في البعد على حال واحدة فقدم الطائفي على عمر فأخبره فكتب عمر الذي سمع منه فوجدوا أبا عبيدة وأصحابه قتلوا ذلك اليوم سليطاه المذكور في الندبة هو سليط بن قيس الأنصاري كان على الناس هو وأبو عبيدة بن مسعود والله تعالى أعلم الباب الثاني والسبعون في نوحهم على النخع لما أصيبوا يوم القادسية
(1/173)
---(53/173)
قال ابن ابي الدنيا حدثني العباس بن هشام بن محمد عن أبيه عن جده قال سمعت أشياخ النخع يذكرون قالوا أصيب النخع بالقادسية فسمعوا نوح الجن في واد من أودية اليمن وهم يقولون ألا فاسلمي يا عكرم ابنة خالد
وما خير زاد بالقليل المصرد
فحيتك عني الشمس عند طلوعها
وحيال عني كل ركب مفرد
وحيتك عني عصبة نخعية
حسان الوجوه آمنوا بمحمد
أقاموا لكسرى يضربون جنوده
بكل رقيق الشفرتين مهند
إذا ثوب الداعي أقاموا بكلكل
من الموت مغبر العياطيل أسود
قال فجاءهم ما أصاب النخع يوم القادسية من القتل والله تعالى أعلم
الباب الثالث والسبعون في رثاء الجن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال القرشي حدثني محمد بن عباد بن موسى حدثني محمد ابن ثابت البناني عن ابيه قال قالت عائشة رضي الله عنها إذا سركم أن يحسن المجلس فأكثروا وذكر عمر بن الخطاب ثم قالت والله إنا لوقوف بالمحصب إذ أقبل راكب حتى إذا كان قدر ما يسمع صوته قال
أبعد قتيل بالمدينة اشرقت
له الأرض واهتز الفضاء بأسوق
جزى الله خيرا من إمام وباركت
يد الله في ذاك الأديم الممزق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها
بوائح في أكمامها لم تفتق
وكنت نشرت العدل بالبر والتقى
وحلم صليب الدين غير مروق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة
ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
أمين النبي حبه وصفيه
كساه المليك جبة لم تمزق
ترى الفقراء حوله في مفازة
شباعا رواء ليلهم لم يروق
قالت ثم انصرفنا فلم نر شيئا قال الناس هذا مزرد ثم أقبلنا حتى انتهينا على المدينة فوثب إليه أبو لؤلؤة الخبيث فقتله فوالله إنه لمسجى بيننا إذ سمعنا صوتا في جانب البيت لا ندري من أين يجيء ليبك على الإسلام من كان باكيا
فقد أوشكوا هلكي وما قرب العهد
وأدبرت الدنيا وأدبر خيرها
وقد ملها من كان يوقن بالوعد
(1/174)
---(53/174)
فلما ولي عثمان لقي مزردا فقال انت صاحب الأبيات قال والله يا أمير المؤمنين ما قلتهن قال فيرون أن بعض الجن رثاه وقال أبو بكر بن محمد حدثنا يجيى الساجي حدثنا عبدة بن عبد الله حدثنا محمد بن بشر حدثنا مسعر عن عبد الملك بن عمير عن الصقر بن عبد الله عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت بكت الجن على عمر بن الخطاب قبل أن يقتل بثلاث فقالت
جزى الله خيرا من أمير وباركت
يد الله في ذاك الأديم الممزق
وليت أمورا ثم غادرت بعدها
بوائح في أكمامها لم تفتق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة
ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته
بكفي سليف أزرق العين مطرق
فيالقتيل بالمدينة أظلمت
له الأرض واهتز الفضاء بأسوق
فلقاك ربي في الجنان تحية
ومن كسوة الفردوس لا تنخرق
ورواه عباس الدوري عن محمد بن بشر فذكره الباب الرابع والسبعون
في نوحهم على عثمان بن عفان رضي الله عنه
قال ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن عتاب ابو بكر الأعين حدثنا أبو عاصم النبيل عن عثمان بن مرة عن أمه قالت لما قتل عثمان بن عفان ناحت الجن عليه فقالوا
ليلة للجن إذ
يرمون بالصخر الصلاب
ثم قاموا بكرة
ينعون صقرا كالشهاب
زينهم في الحي والمجلس فكاك الرقاب
الباب الخامس والسبعون في نوحهم على بعض من أصيب بصفين
قال القرشي حدثني العباس بن هشام حدثني ابن مسعر بن كدام عن ابيه قال قتل رجل من بني عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم صفين فسمعوا نائحة من الجن وهي تقول
ألا فاسألوا العمرين عن صاحب الجمل
في غير مسهام ولا طائش وكل
يكر الركائب في المكاره كلها
ويعلم أن الأمر منقطع الأمل
رأى المؤلف وتعليقه
قلت كانت وقعة صفين في سن سبع وثلاثين من الهجرة ولا حاجة بنا إلى ذكر ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
الباب السادس والسبعون في إعلامهم بوفاة علي بن أبي طالب
(1/175)
---(53/175)
قال أبو بكر بن محمد حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير حدثنا الحارث بن مرة حدثنا عمر بن عامر السلمي قال عاتب صاحب شرطة معاوية ابنا له حتى أخرجه من البيت ثم قام حتى أغلق الباب بينه وبينه وابنه في الصفة فأرق الفتى من سخط أبيه فبينما هو كذلك إذا مناد ينادي على الباب يا سويد فقال الفتى والله ما في دارنا سويد حر ولا عبد قال فانخرط لنا سنور أسود من شرجع لنا في الصفة قال فأتى الباب قال من هذا قال أنا فلان قال من أين جئت قال من العراق قال فما حدث فيها قال قتل على بن أبي طالب رضي الله عنه قال فهل عندك شيء تطعمنيه فإني جوعان فقال والله لقد خمروا آنيتهم وسموا عليها غير أن ههنا سفودا شووا عليه شواية لهم وعليه وضر فهل لك فيه قال نعم قال فجاء سويد بالسفود قال والسفود مسند في زاوية البيت قال فغمض الفتى عينيه فأخذ سويد السفود فأخرجه إليه من ذلك الباب قال فعرقه حتى سمعت عرقه إياه قال ثم جاء به فأسنده على زاوية الصفة قال فقام الفتى فضرب على أبيه الباب حتى أيقظه فقال من هذا قال فلان قال أخرج إلى قال لا قال إنه حدث امر عظيم قال ففتح له قال فحدثه الحديث قال اسرج لي فأسرج له فأتى باب معاوية فطلب الإذن حتى وصل إليه فحدثه الحديث قال من سمع هذا قال يا أمير المؤمنين سمعه ابن أخيك قال وهو معك قال نعم قال فأدخله فأدخله عليه فحدثه الحديث قال فكتب تلك الساعة وتلك الليلة فكان كذلك والله سبحانه وتعالى أعلم
الباب السابع والسبعون في نوحهم على الحسين بن علي رضي الله عنهما
قال ابن أبي الدنيا حدثنا منذر بن عمار الكاهلي أنبأنا عمرو ابن المقدام أنبأنا الجصاصون أنهم كانوا يسمعون نوح الجن على الحسين
مسح النبي جبينه
فله بريق في الخدود
أبواه من عليا قري
ش وجده خير الجدود
(1/176)
---(53/176)
وقال عباس الدوري حدثنا يونس بن محمد حدثنا حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ام سلمة قالت ناحت الجن على الحسين بن علي رضي الله عنهما قال ابن أبي الدنيا حدثني سويد بن سعيد حدثنا عمرو ابن ثابت عن حبيب بن أبي ثابت عن ام سلمة قالت ما سمعت نوح الجن على احد منذ قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قتل الحسين فسمعت جنية تنوح
ألا يا عين فاحتفلي بجهد
ومن يبكي على الشهداء بعدي
على رهط تقودهم المنايا
إلى متجبر في الملك عند
حدثني محمد بن عباد بن موسى حدثنا هشام بن محمد حدثني ابن حيزوم الكلبي عن أمه قالت لما قتل الحسين سمعت مناديا ينادي في الجبال
أيها القوم القاتلون حسينا
أبشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عليكم
من نبي ومالك وقبيل
قد لعنتم على لسان ابن داو
د وموسى وحامل الإنجيل
الباب الثامن والسبعون
في نوحهم على الشهداء بالحرة
قال عبد الله بن محمد حدثنا أبو زيد النميري حدثني أبو غسان محمد بن يحيى الكناني حدثني بعض آل الزبير قال لما قتل أهل الحرة هتف هاتف بمكة على أبي قبيس
قتل الخيار بنو الخيار
ذوو المهابة والسماح
الصائمون القائمون
القانتون أولو الصلاح
المهتدون المتقون
السابقون إلى الفلاح
ماذا بواقم والبقي
مع من الجحا جحة والصباح
وبقاع يثرب ويحهن
من النوائح والصياح
فقال ابن الزبير لأصحابه يا هؤلاء قد قتل أصحابكم فإنا لله وإنا إليه راجعون
رأي المؤلف وتعليقه
(1/177)
---(53/177)
قلت كانت وقعة الحرة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين على باب طيبة واستشهد فيها خلق كثير وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم قال خليفة فجميع من أصيب من قريش والأنصار ثلاثمائة وستون وروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف على الحرة وقال ليقتلن بهذا بهذا المكان رجال هم خيار أمتي بعد أصحابي وكان سببها أن اهل المدينة خلعوا يزيد بن معاوية وأخرجوا مروان بن الحكم وبني أمية وأمروا عليهم عبد الله بن حنظلة الغسيل ولم يوافق أهل المدينة أحد من أكابر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا فيهم فجهز إليهم يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة فأوقع بهم
قال السهيلي وقتل في ذلك اليوم من وجوه المهاجرين والأنصار ألف وسبعمائة وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي هذا خسف ومجازفة والحرة التي يعرف بها هذا
اليوم يقال لها حرة زهرة وعرفت حرة زهرة بقرية كانت لبنى زهرة قوم من اليهود قال الزبير في فضائل المدينة كانت قرية كبيرة في الزمن القديم وكان فيها ثلاثمائة صانع وكان يزيد قد أعذر إلى أهل المدينة وبذل لهم من العطاء أضعاف ما يعطي الناس واجتهد في استمالتهم إلى الطاعة والتحذير من الخلاف ولكن أبي الله إلا ما أراد ) فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( الباب التاسع والسبعون في إخبار الجن بوفاة عمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد
قال شكر الهروي حدثنا محمد بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله ابن عاصم بن عمر بن عبد العزيز حدثني مؤمل بن إياب حدثنا اسماعيل ابن داود المخراق حدثنا الماجشون قال خرجت بمكة في ليلة وإذا أنا بكلب يعدو حتى دخل في وسط كلاب فقال أتضحكن وتلعبن وقد مات الليلة عمر بن عبد العزيز قال فانجفلت ومررت فحسبنا تلك الليلة فوجدنا عمر بن عبد العزيز قد مات
(1/178)
---(53/178)
قال الحاكم أبو عبد الله في تاريخ نيسابور في ترجمة هارون الرشيد قال سمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول سمعت ابراهيم بن عبد الله السعدي يقول صعدت المئذنة لأؤذن فوقفت انتظر الصبح فإذا شبه كلب في ناحية الري مستقبله مثله من الناحية الأخرى فقال أحدهما لصاحبه سويق فقال بليق فقال إيش الخبر قال توفي أمير المؤمنين فنزلت وكتبت فإذا هارون مات في تلك الليلة
قلت توفي هارون بطوس ليلة السبت لثلاث خلون من جمادي الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة ومكث خليفة ثلاثا وعشرين سنة وشهرا وعمره سبع واربعون سنة والله أعلم
الباب الموفي ثمانين في بكاء الجن أبا حنيفة رحمه الله
قال أبو القاسم عبد الله بن أبي العوام السعدي أخبرنا أسامة بن أحمد ابن اسامة أبو سلمة حدثنا الحسن بن منصور النيسابوري حدثنا محمد ابن منصور الملائي حدثنا أبو عاصم الرقي حدثنا الخليجي أن الجن بكت أبا حنيفة ليلة مات وكانوا يسمعون الصوت ولا يرون الشخص
ذهب الفقه فلا فقه لكم
فاتقوا الله وكونوا خلفا
مات نعمان فمن هذا الذي
يحيى الليل إذا ما سدفا
وكانت وفاة أبي حنيفة سنة خمسين ومائة ببغداد الباب الحادي والثمانون في نوحهم على وكيع بن الجراح
قال عباس الدوري في تاريخه حدثنا أصحابنا عن وكيع أنه خرج إلى مكة وكانوا إذ ذاك يخرجون في الصيف فجعل أهله يسمعون النوح في دارهم وكانت دارهم قوراء كبيرة فجعلوا لا يشكون أن النوح من دارهم فاستيقظ عياله فجعلوا يسمعون النوح فلما قضى الناس الحج وقدموا سألهم الناس عن وكيع متى مات فقالوا في ليلة كذا وكذا فإذا هي الليلة التي سمعوا النوح فيها
قلت كان وكيع إماما حافظا واعيا للعلم يصوم الدهر ويختم القرآن كل ليلة مع خشوع وورع وكان يفتي بقول أبي حنيفة وسمع منه كثيرا وتوفي سنة سبع وتسعين ومائة عن ثمان وستين سنة وله أخبار رحمه الله وترجمته كبيرة
(1/179)
---(53/179)
حكى الزمخشري أنه حج أربعين حجة ورابط في عبادان أربعين ليلة وختم بها القرآن أربعين ختمة وروى اربعة آلاف حديث وتصدق بأربعين ألفا وما روى واضعا جنيه والله تعالى اعلم
الباب الثاني والثمانون في نوحهم على الخليفة المتوكل
قال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثنا عبد الله بن عمرو حدثني المؤمل ابن حماد الكلبي حدثني عمرو بن شيبان قال كنت ليلة قتل المتوكل في منزلي بالشام ولم أعلم أنها الليلة التي قتل فيها جعفر فلم اشعر إلا وهاتف يهتف في زوايا الدار يقول
يا نائم الليل في جثمان يقظان
أفض دموعك يا عمرو بن شيبان
ففزعت لذلك ثم إني نمت فأعاد الصوت فما زال على هذا ثلاث مرار كأنه يفهمني فقلت للجارية اعطيني دواة وقرطاسا فوضعته بجنبي فاندفع يقول يا نائم الليل البيت
أما ترى العصبة الأنجاس ما فعلوا
بالهاشمي وبالفتح بن خاقان
وافى إلى الله مظلوما فعج له
أهل السموات من مثنى ووحدان
فالطير ساهمة والغيث منحبس
والنيت منتقص في كل أبان
والسعر ينقض والأنهار يابسة
والأرض هامدة في كل أوطان
وسوف تأتيكم أخرى مسومة
توقعوها لها شأن من الشان
فابكوا على جعفر وارثوا خليفتكم
فقد بكاه جميع الإنس والجان
قال عبد الله بن محمد حدثني ميسرة بن حسان حدثني جعفر ابن مسعدة قال كنت بسامرا بعد قتل المتوكل فأريت في النوم كأن قائلا يقول
لقد خلوك وانصدعوا
فما ألووا وما ربعوا
ولم يوفوا بعهدهم
فتبا للذي صنعوا
ألا يا معشر الموتى
إلى من كنتم تقعوا
لنطلبها فإن القلب
قد أودى به وجع
ولم نعرف لكم خبرا
فقلبي حشوه الجزع
قال فبكيت في نومي أشد البكاء فانتبهت وقد حفظت الأبيات
فقال لي صاحب لي كان معي ما قصتك ما زلت سائر ليلتك تبكي في نومك
(1/180)
---(53/180)
قلت المتوكل على الله هو جعفر أبو الفضل بن المعتصم بالله ابي اسحاق محمد بن هارون الرشيد بن موسى الهادي بن محمد المهدي ابن أبي جعفر المنصور قتل في شوال سنة سبع وأربعين ومائتين وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام وسنه اربعون سنة أباؤه كلهم خليفة وكذلك أخواه المعتز بالله والمعتمد على الله رضي الله تعالى عنهم الباب الثالث والثمانون في بيان هل الجن كلهم منظرون
قال ابو الشيخ في النوادر حدثنا عبد الرحمن بن داود حدثنا أحمد بن عبد الوهاب حدثنا أبو المغيرة حدثنا أبو معشر حدثنا عيسى ابن أبي عيسى قال بلغ الحجاج بن يوسف أن بأرض الصين مكانا إذا اخطأوا فيه الأرض سمعوا صوتا يقول هلم الطريق ولا يرون أحدا فبعث ناسا وأمرهم أن يتخاطوا الطريق عمدا فإذا قالوا لكم هلموا الطريق فاحملوا عليهم فانظروا ما هم ففعلوا ذلك قال فدعوهم فقالوا هلموا الطريق فحملوا عليهم فقالوا إنكم لن ترونا فقالوا منذ كم أنتم ههنا قالوا ما نحصي السنين غير أن الصين خربت ثماني مرار وعمرت ثماني مرار ونحن ههنا
ورواه أبو عبد الرحمن محمد بن المنذر الهروي المعروف بشكر في كتاب العجائب فقال حدثنا عباس الدوري حدثنا محمد بن بكار حدثنا ابو معشر فذكره وقال ابن ابي الدنيا حدثنا زكريا بن الحارث بن ميمون
العبدي حدثنا معاذ بن هشام عن ابيه عن قتادة قال قال الحسن الجن لا يموتون قال قلت قال الله تعالى ) أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس (
(1/181)
---(53/181)
قلت ومعنى قول الحسن أن الجن لا يموتون أنهم منظرون مع إبليس فإذا مات ماتوا معه وظاهر القرآن يدل على أن إبليس غير مخصوص بالإنظار إلى يوم القيامة وأما ولده وقبيله فلم يقم دليل على أنهم منظرون معه وظاهر قوله تعالى ) فإنك من المنظرين ( يدل على أن ثم منظرين غير إبليس وليس في القرآن ما يدل على أن المنظرين يهم الجن كلهم فيتحمل أن يكون بعض الجن منظرين وأما كلهم فلا دليل عليه وقد قدمنا في أمر الجن الوافدين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبارا تدل على موتهم وكذلك في غضون الأبواب المتقدمة وقد صرح ابن عباس بذلك وأن إبليس مخصوص بالإنظار
قال أبو الشيخ في كتاب العظمة حدثنا الوليد حدثنا العباس بن حمدان حدثنا مؤمل حدثنا اسماعيل عن الجريري عن حبان عن زرعة ابن ضمرة قال قال رجل لابن عباس أتموت الجن قال نعم غير إبليس قال فما هذه الحية التي تدعى الحان قال هي صغار الجن وقال ابن شاهين في غرائب السنن حدثنا عثمان بن احمد حدثنا حنبل ابن اسحاق حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا شعيب بن هارون حدثنا فضيل بن كثير بن دينار حدثنا عكرمة عن ابن عباس قال إن الدهر يمر بإبليس فيهرم ثم يعود ابن ثلاثين وقال ابن أبي الدنيا حدثنا إبراهيم ابن راشد حدثنا داود بن مهران حدثنا حماد بن شعيب عن عاصم الأحول قال سألت الربيع بن أنس فقلت أرأيت هذا الشيطان الذي مع الإنسان لا يموت قال وشيطان واحد هو أنه ليتبع الرجل المسلم في الفتنة مثل ربيعة ومضر قال ابن أبي الدنيا حدثنا زكرياء بن الحارث بن ميمون العبدي
حدثنا معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن عبد الله بن الحارث قال الجن يموتون ولكن الشيطان بكر البكرين لا يموت قال قتادة أبوه بكر وأمه بكر وهو بكرهما وأورده أبو الشيخ في كتاب العظمة فقال حدثنا محمد بن يحيى حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ فذكره والله أعلم حشر الجن
(1/182)
---(53/182)
فصل في حشر الجن قال الله تعالى ) ويوم نحشرهم جميعا ( الآية روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال يحشر الله تعالى الجن والإنس في الأرض التي قد مدت مد الأديم العكاظي ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي وينزل سبط من الملائكة فيطوفون بالإنس والجن ثم ينزل سبط ثان فيطوفون بالملائكة ثم ثالث ثم ذكر السادس ذكره إمام الحرمين في الشامل
قال ومن صحيح الأخبار أن الأرض إذا زلزلت وسير جبالها فتحاول الجن النفوذ من أقطار السموات فيلقون ثمانية عشرة صفا من الملائكة حراسا فيضربون وجوههم ويقولون إليكم ) لا تنفذون إلا بسلطان ( قال وهذا الحديث أورده الضحاك في تفسيره وغيره والله سبحانه وتعالى أعلم الباب الرابع والثمانون في أن إبليس هل كان من الملائكة
قال أبو الوفا على بن عقيل في كتاب الإرشاد إن قيل لك إبليس كان من الملائكة أم لا فقل من الملائكة خلافا لبعض أصحابنا وبهذا قال أبو بكر عبد العزيز لأن الباري سبحانه وقال ) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ( والاستثناء لا يكون من غير الجنس هذا هو المشهور في لغة العرب بدلالة أنه لا يحسن قول القائل فتح الخبازون إلا فلانا ويريدون فلانا الحداد ولا يحسن أن يقول رأيت الناس إلا حمارا وان استدل مستدل على جوازه بقول القائل
وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
(1/183)
---(53/183)
فقل اليعافير والعيس من جنس ما يؤنس به وإنما استثناهما من الإيناس لا من غير ذلك لأنه لم يجز لغير الأنيس ذكر لا آدمي ولا جني ولا غير ذلك قال والذي يدل على صحة هذا وانه من الملائكة أنه لو لم يكن منهم لما حسن لومه وسبه بامتناعه لأن له أن يقول أمرت وقد كان مناظرا على ما هو أقل من هذا فلما عدل إلى قوله ) أنا خير منه ( علم أنه انصرف الأمر إليه ولهذا لو نادى السلطان لا يفتح البزازون ففتح الخبازون لم يحسن لومهم لأنهم لم يدخلوا تحت النهي فإن قالوا فقد خصه باسم فقال إلا إبليس كان من الجن قيل الجن نوع من الملائكة يقال لهم الجن كما يقال الكروبيون والروحانيون والخزنة والزبانية وهم كلهم جنس واحد يشتمل على أنواع كالآدميين زنج وعرب وعجم فلو قال قائل أمرت عبيدي كلهم بالطاعة فأطاعوا إلا فلانا فإنه كان من الزنج فعصاني لم يدل على ان عبده الزنجي لا يشارك عبيده في الجنسية وإن فارقهم في النوعية أنتهى وقال أبو يعلى رأيت في تعليقات أبي اسحاق بن شاقلا يقول سمعت الشيخ يعني أبا بكر وقد سئل عن إبليس أمن الملائكة فقال أمر بالسجود فلولا أن إبليس منهم ما كان مأمورا قال أبو اسحاق فقلت أجمعنا أن الملائكة لا تتناكح ولا لها ذرية وقد كان لإبليس ذرية دل على أنه من غيرها وظاهر كلام أبي بكر عبد العزيز أنه من جملة الملائكة وقد صرح أبو بكر في كتاب التفسير أنه من الملائكة وحكى الاختلاف فيه وانه لو لم يكن من الملائكة خرج عن أن يكون مأمورا بالسجود لأن السجود انصرف إلى الملائكة وقد أجمعنا على أنه كان مأمورا به وهو قول الأكثر من المفسرين ابن عباس وغيره وقول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وسعيد بن المسيب وآخرين وبه قال جماعة من المتكلمين قال أبو القاسم الأنصاري وهو مذهب شيخنا أبي الحسن وظاهر كلام ابي اسحاق انه ليس من الملائكة وأنه من الجن لأنه اعترض
(1/184)
---(53/184)
على أبي بكر بالدليل وهو قول ابي الحسن البصري قال الحسن البصري لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين قال أبو يعلى فإن قيل فقد قال تعالى ) إلا إبليس كان من الجن ( قال قبل هذا إخبار عما كان مستترا فيه من معصية الله عز وجل ومخالفة أمره لأن اشتقاق الجن من الاستتار ومنه قوله في الجنين جنين لاستتاره في بطن أمه ومنه سمي المجنون مجنونا لأنه قد ستر بالخبال عقله وجواب آخر وهو أن أبا بكر قد ذكره في كتاب التفسير في كتابه عن ابن عباس وابن مسعود جعل إبليس على ملك سماء الدنيا وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازنا وأما ما احتج به أبو اسحاق من أن إبليس له الشهوة فقد حدثت له الشهوة بعد أن محي من ديوانهم كما حدثت الشهوة في هاروت وماروت بعد أن هبطا إلى الأرض وقيل إنهما هويا امرأة وقد كانا ملكين وإذا ثبت أنه من الملائكة وأنه محى من ديوانهم لما كان منه من العصيان وكذلك هاروت وماروت انتهى
رأي المؤلف
قلت وقد ذكر الطبري في تاريخه قول ابن عباس فقال حدثنا القاسم بن الحسن حدثنا الحسين بن داود حدثني حجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان سماء الدنيا وكان له سلطان الأرض وبه عن ابن جريج عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس قال إن من الملائكة قبيلة من الجن كان إبليس منها وكان يسوس ما بين السماء والأرض حدثني موسى بن هارون الهمدني حدثنا عمرو بن حماد حدثنا أسباط بن نصر عن السدي في خبر ذكره عن ابي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل إبليس ملك سماء الدنيا وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازنا وقال أبو بكر(53/185)
(1/185)
---
القرشي حدثنا إبراهيم بن سعيد حدثنا نصر بن علي حدثنا نوح بن قيس عن أبي يسر بن جزور عن قتادة قال كان إبليس عاشر عشرة من الملائكة على الريح
قال الطبري حدثنا أبو كريب عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمار عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة قال وكان اسمه الحارث يعني بالعربية قال وكان خازنا من خزان الجنة قال وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي قال وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت قال وخلق الإنسان من طين فأول من سكن الأرض بنو الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا فبعث الله إليهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزاير البحور وأطراف الجبال فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه وقال قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد قال فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم يطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه
قلت ويدل على قول ابن شاقلا ما رواه ابن أبي الدنيا عن علي ابن محمد بن إبراهيم حدثنا أبو صالح حدثني معاوية بن صالح أن العلاء بن الحارث حدثه عن ابن شهاب أنه سئل عن إبليس قال إبليس من الجن وهو أبو الجن كما أن آدم من الناس وهو أبو الناس والله سبحانه وتعالى أعلم
الباب الخامس والثمانون في أن إبليس هل كلمة الله تعالى أم لا
(1/186)
---(53/186)
قال ابن عقيل ان قال لك قائل هل كلم الله تعالى إبليس من غير واسطه فقد اختلف العلماء في ذلك أعني الاصوليين فقال المحققون منهم لم يكلمه قال وقال بعضهم بل كلمه والصحيح أنه لا يجوز أن يكون كلمة كفاحا وإنما يكون على لسان ملك لأن كلام الباري لمن كلمه رحمة ورضى وتكرم وإجلال ألا ترى أن نبيا من الأنبياء فضل بذلك على سائر الأنبياء ما عدا الخليل محمدا - صلى الله عليه وسلم - وجميع الآى الواردة محمولة على أنه أرسل إليه بملك يقول فإن قيل أليس رسالته تشريفا وقد كانت لإبليس على غير وجه التشريف كذلك يكون كلامه تشريفا لغير إبليس ولا يكون تشريفا لإبليس قيل مجرد الإرسال ليس بتشريف وإنما يكون لإقامة الحجة بدلالة أن موسى عليه السلام أرسله إلى فرعون وهامان ولا شرف لهما ولا قصد إكرامهما وإعظامهما لعلمه بأنهما عدوان له وكلامه إياه تشريفا له قالوا لما قال للملائكة اسجدوا هل كان مخاطبا معهم أم لا قيل يجوز أن يدخل في عموم النطق ولا يخص بذلك بدلالة أنه سبحانه شرف نبيه بتخصيصه على سائر الأمم فلم يبلغوا بخطاب العموم خطابه الخاص ويجوز أيضا حمل خطابه وأمره بالسجود الخاصة من الملائكة كفاحا ولإبليس بالارسال ويكون اللفظ عاما مطلقا والمعنى مفصلا كما يقال أمر السلطان رعيته بالخدمة لزيد وإن كانوا مختلفين في مراتب أمره بعضهم شافهه وبعضهم أرسل إليه قالوا كيف يجعل غضبه عليه وكونه عاصيا حجة في عدم كلامه وقد أخبر سبحانه بأنه يكلم من هذا حاله فقال ) ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ( ) قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون ( ولأن الكلام بالغضب والعذاب لا يكون تشريفا بل انتقاما كالملك إذا شتم خادمه وضربه وأمر بقتله لا يقال قد أكرمه قيل كلام العالي تشريف لمن يكلمه وإن كان وعيدا فلهذا لا يكلم السلطان لمن غضب عليه ولعنه بنفسه فأما السقاط والحارس فإنه بكل ذلك إلى خدمه
(1/187)
---(53/187)
ورعيته وقد نبه سبحانه على ذلك وأن كلامه يشرف به المخاطب فقال سبحانه ) ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ( وقال تعالى ) وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ( وهذا يدل على ما ذكرت وأما قولهم ويوم يناديهم فالمراد يناديهم على لسان بعض ملائكته إرسالا بدلالة الآية الثانية وهي قوله سبحانه ) ولا يكلمهم الله يوم القيامة ( ولو كان النداء هناك الكلام لكان القرآن متناقضا ونحن نجمع بين الآيتين فنقول يناديهم ببعض ملائكته ولا يكلمهم بنفسه ولهذا يقال قد نادى السلطان في البلد بمعنى أمر مناديا فنادى لا أنه نادى بنفسه والله تعالى أعلم الباب السادس والثمانون في خطأ إبليس في دعواه أنه خير من آدم عليه السلام وتعليله بأنه خلق من نار
اعلم أن هذه الشبهة التي ذكرها إبليس إنما ذكرها على سبيل التعنت وإلا فامتناعه من السجود لآدم إنما كان عن كبر وكفر ومجرد إباء وحسد ومع ذلك فما أبداه من الشبهة فهو داحض لأنه رتب على ذلك أنه خير من آدم لكونه خلق من نار وآدم خلق من طين ورتب على هذا أنه لا يحسن منه الخضوع لمن دونه ومن هو خير منه وهذا باطل من وجوه
الأول أن النار طبعها الفساد وإتلاف ما تعلقت به بخلاف التراب
الثاني أن النار طبعها الخفة والطيش والجدة والتراب طبعه الرزانة والسكون والثبات
الثالث أن التراب يتكون فيه ومنه أرزاق الحيوان وأقواتهم ولباس العباد وزينتهم وآلات معايشهم ومساكنهم والنار لا يكون فيها شيء من ذلك
الرابع أن التراب ضروري للحيوان لا يستغنى عنه البتة ولا عما يتكون فيه ومنه والنار يستغنى عنها الحيوان البهيم مطلقا وقد يستغني عنها الإنسان الأيام والشهور فلا يدعوه إليها ضرورة
الخامس أن التراب إذا وضع فيه القوت أخرجه أضعاف أضعاف ما وضع فيه فمن بركته يؤدي ما استودعته فيه إليك مضاعفا ولو استودعته النار لخانتك وأكلته ولم تبق ولم تذر
(1/188)
---(53/188)
السادس أن النار لا تقوم بنفسها بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به يكون حاملا لها والتراب لا يفتقر إلى حامل فالتراب أكمل منها لغناه وافتقارها
السابع أن النار مفتقرة إلى التراب وليس التراب مفتقرا إليها فإن المحل الذي تقوم به النار لا يكون إلا متكونا أو فيه من التراب فهي الفقيرة إلى التراب وهو الغنى عنها
الثامن أن المادة الإبليسية هي المارج من النار وهو ضعيف تتلاعب به الأهوية فيميل معها كيفما مالت ولهذا غلب الهوى على المخلوق منه فأسره وقهره ولما كانت المادة الآدمية هي التراب وهو قوي لا يذهب مع الهواء أيما ذهب قهر هواه وأسره ورجع إلى ربه فاجتباه واصطفاه وكان الهواء الذي مع المادة الآدمية عارضا سريع الزوال فزال وكان الثبات والرزانة اصليا له فعاد إليه وكان إبليس بالعكس من ذلك فعاد كل منهما إلى أصله وعنصره آدم إلى أصله الطيب الشريف واللعين إلى أصله الردي
التاسع أن النار وإن حصل منها بعض المنفعة والمتاع فالشر كامن فيها لا يصدها عنه إلا قسرها وحبسها ولولا القاسر والحابس لها لأفسدت الحرث والنسل التراب فالخير والبركة كامن فيه كلما أثير وقلب ظهرت بركته وخيره وثمرته فأين أحدهما من الآخر
العاشر أن الله تعالى أكثر ذكرها في كتابه وأخبر عن منافعها وخلقها وأنه جعلها مهادا وفراشا وبساطا وقرارا أو كفات للأحياء والأموات ودعا عباده إلى التفكر فيها والنظر في آياتها وعجائبها وما أودع فيها ولم
يذكر النار إلا في معرض العقوبة والتخويف والعذاب إلا في موضع أو موضعين ذكرها فيه بأنها تذكرة ومتاع للمقوين تذكرة بنار الآخرة ومتاع لبعض أفراد الناس وهم المقوون النازلون بالقرى وهي الأرض الخالية إذا نزلها المسافر يمتع بالنار في منزله فأين هذا من أوصاف الأرض في القرآن
(1/189)
---(53/189)
الحادي عشر أن الله تعالى وصف الأرض بالبركة في غير موضع من كتابه خصوصا وأخبر أنه بارك فيها عموما فقال تعالى ) أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ( إلى أن قال ) وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ( فهذه بركة عامة وأما البركة الخاصة ببعضها فكقوله تعالى ) ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها ( وأما النار فلم يخبر انه جعل فيها بركة أصلا بل المشهود أنها مذهبة للبركات ماحقة لها فأين المبارك في نفسه المبارك فيما وضع فيه إلى مزيل البركة وما حقها
الثاني عشر أن الله تعالى جعل الأرض محل بيوته التي يذكر فيها اسمه ويسبح له فيها بالغدو والآصال عموما وبيته الحرام الذي جعله قياما للناس مباركا وهدى للعاملين خصوصا فلو لم يكن في الأرض إلا بيته الحرام لكفاها ذلك شرفا وفخرا على النار
الثالث عشر أن الله تعالى أودع الأرض من المعادن والأنهار والعيون والثمرات والحبوب والأقوات وأصناف الحيوانات وامتعتها والجبال والرياض والمراكب البهية والصور البهيجة ما لم يودع في النار شيئا منه فأي روضة وجدت في النار أو جنة أو معدن أو صورة أو عين خرارة أو نهر مطرد أو ثمرة لذيذة
الرابع عشر إن غاية النار أنها وضعت خادمة لما في الأرض فالنار إنما محلها محل الخادم لهذه الأشياء فهي تابعة لها خادمة فقط إذا استغنت عنها طردتها وأبعدتها عن قربها وإذا احتاجت إليها استدعتها استدعاء المخدوم لخادمه
الخامس عشر أن اللعين لقصور نظره وضعف بصيرته رأى صورة الطين ترابا ممتزجا بماء فاحتقره ولم يعلم أن الطين مركب من أصلين
(1/190)
---(53/190)
الماء الذي جعل الله تعالى منه كل شيء حيا والتراب الذي جعله خزانة المنافع والنعم هذا ولم يجئ من الطين من المنافع وأنواع الأمتعة فلو تجاوز نظره صورة الطين إلى مادته ونهايته لرأى أنه خير من النار وأفضل ثم لو سلم بطريق الفرض الباطل إن النار خير من الطين لم يلزم من ذلك أن يكون المخلوق منها خيرا من الطين فإن القادر على كل شيء يخلق من المادة المفضولة من هو خير ممن خلقه من المادة الفاضلة فالاعتبار بكمال النهاية لا بنقص المادة فاللعين لم يتجاوز نظره محل المادة ولم يعبر منها إلى كمال الصورة ونهاية الخلقة والله أعلم الباب السابع والثمانون في كيفية الوسوسة وما ورد في الوسواس
(1/191)
---(53/191)
قال الله تعالى ) قل أعوذ برب الناس ملك الناس ( السورة بكمالها هذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها وهو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد وهو شر من خارج وسورة الناس تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه فهو شر من داخل فالشر الأول لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه لأنه ليس من كسبه والشر الثاني يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي والوسواس فعلال من وسوس وأصل الوسوسة الحركة والصوت الخفي الذي لا يحس فيحترز منه فالوسواس الإلقاء الخفي في النفس ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس ويؤكده عند من يلقيه إليه كرر لفظها بازاء تكرير معناها واختلف النحاة في لفظ الوسواس هل هو وصف أو مصدر على قولين وأما الخناس ففعال من خنس يخنس إذا توارى واختفى ومنه قول أبي هريرة فانخنست منه وحقيقة اللفظ اختفاء بعد ظهور فليست لمجرد الاختفاء ولهذا وصف بها الكواكب وقوله ) يوسوس في صدور الناس ( صفة ثالثة للشيطان فذكر وسوسته أولا ثم ذكر محلها ثانيا في صدور الناس وتأمل حكم القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه ) الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس (
(1/192)
---(53/192)
ولم يقل من شر وسوسته لنعم الاستعاذة شره جميعه فإن قوله ) من شر الوسواس ( نعم كل شره ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا وتأمل السر في قوله ) يوسوس في صدور الناس ( ولم يقل في قلوبهم والصدور هي ساحة القلب وبيته فمنه تدخل الواردات عليه فتجتمع في الصدر ثم تلج في القلب فهو بمنزلة الدهليز ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر ثم تتفرق على الجنود ومن فهم هذا فهم قوله تعالى ) وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم ( فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته فيلقى ما يريد إلقاءه إلى القلب فهو يوسوس في الصدر وسوسته واصلة إلى القلب ولهذا قال تعالى ) فوسوس إليه الشيطان ( ولم يقل فيه والله أعلم وقال القاضي أبو يعلى ) الوسواس ( يحتمل أن يفعل كلاما خفيا يدركه القلب ويمكن أن يكون هو الذي يقع عند الفكر ويكون منه مس وسلوك وذهول في أجزاء الإنسان ويتحفظه وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية بكر بن محمد هو يتكلم على لسانه خلافا لبعض المتكلمين في إنكارهم سلوك الشيطان في أجسام الإنس وزعموا انه لا يجوز وجود روحين في جسد فإن قيل كيف يصح سلوكه في الإنسان وتحفظه له وهو من نار ومعلوم أن النار تحرق الآدمي قيل النار لا تحرق بطبعها وإنما يحدث الله تعالى فيها الإحراق حالا فحالا فيجوز أن لا يحدث فيها الإحراق في حال سلوكه فإن قيل يحمل قوله عليه الصلاة والسلام يجري من ابن آدم مجرى الدم يعني وساوسه تجري منه هذا المجرى كما قال تعالى ) وأشربوا في قلوبهم العجل ( معناه حبه قيل لو لم يدخل في جوف الإنسان لم يحس بوسوسة لأنه لا يجوز أن يحس بكلام أو وسوسة خارجة من جسمه إلا بصوت يسمعه بإذنه وليس للشيطان صوت يسمع فهو بمثابة حديث النفس
فإن قيل فيقولون للشيطان سبيل إلى تخبيط الإنسي كما له سبيل إلى
(1/193)
---(53/193)
سلوكه ووسوسته وإنما يراه من الصرع والتخبط والاضطراب من فعل الشيطان قيل لا نقول ذلك لما بينا من قبل استحالة فعل الفاعل في غير محل قدرته بل ذلك من فعل الله تعالى معه يجري العادة فإن كان المجنون قادرا على ذلك كان كسبا له وإن لم يكن قادرا كان مضطرا
فصل
قال ابن عقيل فإن قال لك قائل كيف الوسوسة من إبليس وكيف وصوله إلى القلب قل هو كلام على ما قيل تميل إليه النفوس والطبع وقد قيل يدخل في جسد ابن آدم لأنه جسم لطيف ويوسوس وهو أنه يحدث النفس بالأفكار الردية قال تعالى ) يوسوس في صدور الناس ( فإن قالوا فهذا لا يصح لأن القسمين باطلان أما حديثه فلو كان موجودا لسمع بالآذان وأما دخوله في الأجسام فالأجسام لا تتداخل ولأنه نار فكان يجب أن يحترق الإنسان قيل أما حديثه فيجوز أن يكون شيئا تميل إليه النفس كالساحر الذي يتوخى النفث إلى المسحور وإن لم يكن صوتا وأما قوله لو أنه دخل فيه لتداخلت الأجسام ولاحترق الإنسان فغلط لأن الجن ليسوا بنار محرقة وإنما هم خلقوا من نار في الأصل وأما قولك إن الأجسام لا تتداخل فالجسم اللطيف يجوز أن يدخل إلى مخارق الجسم الكثيف كالروح عندكم أو الهواء الداخل في سائر الأجسام والجن جسم لطيف
فصل وقوله ) من الجنة والناس ( اختلف الناس في هذا الجار والمجرور بماذا يتعلق فقال الفراء وجماعة هو بيان للناس الموسوس في صدورهم والمعنى ) يوسوس في صدور الناس ( الذين هم من الجن والإنس أي الموسوس في صدورهم قسمان إنس وجن فالوسواس يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي وهذا ضعيف جدا لوجوه
أحدها أنه لم يقم دليل على أن الجن يوسوس في صدر الجني ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي ويجري منه مجراه من الإنسي فأي دليل يدل على هذا حتى يصح حمل الآية عليه
(1/194)
---(53/194)
الثاني أنه فاسد من جهة اللفظ أيضا فإنه قال الذي يوسوس في صدور الناس فكيف يبين الناس بالناس أفيجوز أن يقال في صدور الناس الذين هم من الناس وغيرهم هذا مالا يجوز ولا هو استعمال فصيح
الثالث أن يكون قد قسم الناس إلى قسمين جنة وناس وهذا غير صحيح فإن الشيء لا يكون قسيم نفسه
الرابع أن الجنة لا يطلق عليهم اسم ناس بوجه لا أصلا ولا اشتقاقا ولا استعمالا ولفظهما يأبى ذلك فإن قيل لا محذور في ذلك فقد أطلق على الجن اسم الرجال كما في قوله تعالى ) وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ( فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم الناس
قلت هذا هو الذي غر من قال إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية وجواب ذلك ان اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس ولا يلزم من هذه أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا وأنت إذا قلت إنسان من حجارة أو رجل من خشب ونحو ذلك لم يلزم من ذلك وقوع الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس والآيات أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ الناس لأنه قابل بين الجنة والناس فعلم أن احدهما لا يدخل في الآخر والصواب والله أعلم أن قوله ) من الجنة والناس ( بيان للذي يوسوس وأنهم نوعان إنس وجن فالجني يوسوس في صدر الإنسي والإنسي أيضا يوسوس إلى الإنسي فالموسوس نوعان إنس وجن والموسوس إليه نوع واحد وهو الإنس وقد قدمنا أن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب وهذا يشترك بين الجن والإنس وعلى هذا فتزول تلك الإشكالات وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشيطان شياطين الإنس والجن وعلى القول الأول يكون الاستعاذة من شر شيطان الجن فقط وقد دل القرآن على أن من الإنس شياطين كشياطين الجن كقوله تعالى ) وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن (
فصل
(1/195)
---(53/195)
قال أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان السجستاني حدثنا اسحاق بن إبراهيم بن زيد حدثنا أبو داود حدثنا فرج عن معاوية ابن أبي طلحة قال كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - اللهم أعمر قلبي من وساوس ذكرك واطرد عني وساوس الشيطان حدثنا محمد ابن عبد الملك حدثنا يزيد أنا روح بن المسيب حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قوله تعالى ) الوسواس الخناس ( قال مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب يوسوس إليه فإذا ذكر الله خنس وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخناس
حدثنا اسحاق بن إبراهيم حدثنا داود حدثنا فرج عن عروة ابن رويم أن عيسى ابن مريم دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم قال فخلاله فإذا برأسه مثل الحية واضع رأسه على ثمرة القلب فإذا ذكر العبد الله خنس برأسه وإذا ترك الذكر مناه وحدثه قال الله تعالى ) من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس (
وحكى أبو القاسم السهيلي عن ميمون بن مهران عن عمر بن عبد العزيز أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان منه فأرى جسدا ممهى يرى داخله من خارجه والشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه حذاء قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة وقد أدخله إلى قلبه يوسوس فإذا ذكر الله العبد خنس قال الزمخشري قوله ممهى قلب مموه مجعول ماء في ر قته وشفيفه وقيل مصفى أشبه المها وهو البلور قال السهيلي وضع خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نغض كتفه لأنه معصوم من وسوسة الشيطان وذلك الموضع منه يوسوس الشيطان لابن آدم
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن الحارث المقري حدثنا سيار ابن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا عمرو بن مالك البكري سمعت أبا الجوزاء يقول والذي نفسي بيده أن الشيطان لازم بالقلب ما يستطيع صاحبه يذكر الله تعالى أما ترونهم في مجالسهم وأسواقهم يأتى على أحدهم
(1/196)
---(53/196)
عامة يومه لا يذكر الله تعالى إلا حالفا ماله من القلب طرد إلا قوله لا إله إلا الله ثم قرأ ) وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم ( قال الزمخشري كانت الصحابة رضي الله عنهم تقول إن الشياطين ليجتمعون على القلب كما يجتمع الذباب فإن لم يذب وقع الفساد
قال ابن أبي الدنيا وحدثني الحسين بن السكن حدثنا معلى بن أسد حدثنا عدي بن أبي عمارة حدثنا زياد النميري عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسي الله التقم قلبه حدثنا أبو بكر بن منصور حدثنا ابن عفير حدثني ابن لهيعة عن أبي قبيل أنه سمع حيوة بن شراحيل من بني سريع يقول سمعت عبد الله بن عمرو يقول إن إبليس موثوق فإذا تحرك فكل شر يكون بين اثنين فصاعدا على وجه الأرض فمن تحريكه ورواه أحمد بن عبد الله الحافظ عن إبراهيم بن عبد الله حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة قال موثق بالأرض السفلى وقال ابن أبي الدنيا حدثنا أبو سلمة المخزومي حدثنا ابن أبي فديك عن الضحاك ابن عثمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلقك فيقول الله تبارك وتعالى فيقول من خلق الله فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسوله فإن ذلك يذهب عنه
وقال أبو بكر عبد الله بن أبي الدنيا السجستاني حدثنا سهل بن محمد ابو حاتم السجستاني حدثنا الأصمعي حدثني جرير بن عبد الله عن أبيه قال كنت أجد من الوسواس شيئا فسألت العلاء بن زياد فقال يا ابن أخي إنما مثل ذلك مثل اللصوص يمرون بالبيت فإن كان فيه خير نالوه وإن لم يكن فيه خير طووا عنه حدثنا عبد الله بن محمد بن خلاد حدثنا يزيد ابن هارون أنبأنا محمد بن الفضل عن أبيه عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعوذوا بالله من وسوسة الوضوء
(1/197)
---(53/197)
وروى الترمذي من حديث أبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء وروى ابن أبي الدنيا بسنده إلى الحسن قال شيطان الوضوء يدعى الولهان يضحك بالناس في الوضوء وكان طاووس يقول هو أشد الشياطين
وروى ابو داود والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يبولن أحدكم في مستحمه فإن عامة الوسواس منه وقال ابن أبي داود حدثنا أحمد بن يحيى بن مالك حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن ابي الحسن قال كنا نحدث ان الوسواس يعتري منه أو قال يهيج منه قال سعيد ولا أرى بأسا أن يبول عن متعبة وروى مسلم من حديث عثمان بن أبي العاص قال قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي فلبسها على فقال - صلى الله عليه وسلم - ذاك الشيطان يقال له خنزب فإذا احسست به فتعوذ بالله منه وأتفل عن يسارك ثلاثا قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني وروى مسلم من حديث قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن إبليس قد يئس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم وفي لفظ قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ورواه أحمد في مسنده من طريق ماعز التميمي وأبي الزبير عن جابر وقال احمد حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن خيثمة عن الحارث بن قيس قال إذا أتاك الشيطان وأنت تصلي فقال أنت ترائي فزدها طولا وقال سعيد بن داود حدثنا مخلد بن الحسين قال ما ندب الله تعالى العباد إلى شيء إلا اعترض إبليس بأمرين ما يبالي بأيهما ظفر إما غلو فيه وإما تقصير عنه وقال ابن أبي داود حدثنا عمر بن شبة حدثني هارون بن عبد الله حدثني ابن أبي حازم عن أبيه قال أتاه رجل فقال يا أبا حازم إن الشيطان يأتيني فيوسوس إلى وأشده عندي أنه يأتيني فيقول إنك طلقت امرأتك فقال له أبو حازم أو لم تأتني فتطلقها عندي قال والله ما طلقتها عندك قط قال فاحلف للشيطان كما حلفت لي(53/198)
(1/198)
---
والله تعالى أعلم
الباب الثامن والثمانون في إخبار الوسواس بما وقع في قلب ابن آدم
قال ابن أبي داود حدثنا هارون بن سليمان حدثنا أبو عامر حدثنا كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنظب أن عمر بن الخطاب ذكر امرأة في نفسه ولم يبح بها لأحد فأتاه رجل فقال ذكرت فلانة إنها لحسنة شريفة في بيت صدق قال من حدثك بهذا قال الناس يتحدثون به قال فوالله ما بحت به لأحد فمن أين ثم قال بلى قد عرفت خرج به الخناس حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا المستمر ابن الريان عن ابي الجوزاء قال طلقت امرأتي يوم الجمعة وحدثت نفسي أن اراجعها يوم الجمعة الأخرى ولم أخبر بذلك أحدا فقالت امرأتي أنت تريد أن تراجعني فقلت إن هذا لشيء ما حدثت به أحدا حتى ذكرت قول ابن عباس إن وسواس الرجل يخبر وسواس الرجل فمن ثم يفشو الحديث حدثني أبي بإسناد ذكره أن الحجاج بن يوسف أتى برجل رمي بالسحر فقال أساحر أنت قال لا فأخذ الحجاج كفا من حصا فعده ثم قال له في يدي كم من الحصا قال كذا وكذا فطرح الحجاج الحصا ثم أخذ كفا آخر ولم يعده ثم قال كم في يدي قال لا أدري قال الحجاج كيف دريت الأول ولم تدر الثاني قال إن ذلك عرفته أنت فعرفه وسواسك فأخبر وسواسك وسواسي وهذا لم تعرفه فلم يعرفه وسواسك فلم يخبر وسواسي فلم أعرفه
حدثنا محمد بن مصطفى حدثنا عثمان بن عبد الرحمن حدثنا ثابت ابن رمادة اللخمي عن جده عن معاوية بن أبي سفيان أنه أمر كاتبه أن يكتب كتابا في السر فبينما هو يكتب إذ وقع ذباب على حرف من الكتاب فضربه الكاتب بالقلم فانقطع بعض قوائمه فخرج الكاتب فاستقبله الناس على باب القصر فقالوا كتب أمير المؤمنين بكذا وكذا قال وما علمكم قالوا حبشي أقطع خرج علينا فأخبرنا فرجع الكاتب إلى معاوية فقال
(1/199)
---(53/199)
يا أمير المؤمنين الذي أمرتني ان أكتبه سرا استقبلني به الناس قال وما علمهم قال ذكروا لي حبشيا أقطع خرج عليهم فأخبرهم قال هو والذي نفسي بيده الشيطان هو الذباب الذي ضربت بالقلم الباب التاسع والثمانون فيما يدعو الشيطان اليه ابن آدم وينحصر في ست مراتب
قال أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيل عبد الله السقفي حدثنا موسى بن المسيب عن سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي فاكهة قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال أتسلم وتذر ذريتك ودين آبائك قال فعصاه وأسلم قال وقعد له بطريق الهجرة فقال أتهاجر وتذر أرضك وسماك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول فهاجر وعصاه ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهد النفس والمال فقال تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال قال فعصاه فجاهد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن فعل ذلك منكم كان حقا على الله أن يدخله الجنة وإن قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقا على الله ان يدخله الجنة وإن رقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة وأما المراتب الست
فالأولى مرتبة الكفر والشرك ومعادات الله تعالى ورسوله فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه واستراح من تعبه معه هذا أول ما يريده من العبد
المرتبة الثانية مرتبة البدعة وهي أحب اليه من الفسوق والمعاصي لأن ضررها في الدين قال سفيان النوري البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى
المرتبة الثالثه وهي الكبائر على اختلاف أنواعها فإذا عجز عن ذلك
المرتبة الرابعة وهي الصغائر التي إذا اجتمعت ربما أهلكت صاحبها كما قال - صلى الله عليه وسلم - إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الارض فجاء كل واحد بعود حطب حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا واشتووا فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى
(1/200)
---(53/200)
المرتبة الخامسة وهي اشتغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب بل عقابها فوات الثواب الذي فات عليه باشتغاله بها فإن عجز عن ذلك نقله إلى
المرتبة السادسة وهو أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليستريح عليه الفضلة ويفوته ثواب العمل الفاضل فنعوذ بالله من الشيطان وحزبه الباب الموفي تسعين في بيان أي أعمال الشر أحب إلى إبليس
قال أبو بكر بن عبيد حدثنا احمد بن جميل المروزي حدثنا عبد الله بن المبارك أنبأنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى الأشعري قال إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول من أضل مسلما ألبسته التاج قال فيقول له القائل لم أزل بفلان حتى طلق امرأته قال يوشك أن يتزوج ويقول الآخر لم أزل بفلان حتى عق قال يوشك أن يبر قال فيقول القائل لم أزل بفلان حتى شرب قال أنت قال ويقول الآخر لم أزل بفلان حتى زنى فيقول انت ويقول الآخر لم يزل بفلان حتى قتل فيقول انت أنت
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إن عرش إبليس على البحر فيبعث سراياه فيفتنون بين الناس فأعظم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا ثم يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته فيدنيه منه ويقول نعم أنت ورواه أحمد في مسنده بنحوه قولهم نعم أنت يروي بفتح النون بمعنى نعم أنت ذاك الذي
تستحق الأكرام وبكسرها أي نعم منك وقد استدل به بعض النحاة على جواز كون فاعل فعل نعم مضمرا وهو قليل
(1/201)
---(53/201)
واختار شيخنا أبو الحجاج الحافظ المزي الأول ورجحه ووجهه بما ذكرنا وقال الطرطوشي في كتاب تحريم الفواحش حدثنا يزيد ابن عبد الله الأصبهاني حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا عبد الرحمن بن واقد حدثنا شجاع بن أبي نصر عن رجل من عليلة أهل الشام قال قال سليمان ابن داود لعفريت من الجن ويلك أين إبليس قال يا نبي الله هل أمرت فيه بشي قال لا أين هو قال انطلق يا نبي الله حتى أريكه فسعى العفريت بين يديه ومعه سليمان حتى هجم به على البحر فإذا إبليس على بساط على الماء فلما رأى سليمان عليه السلام ذعر منه وفرق فقام فتلقاه فقال يا نبي الله هل أمرت في بشيء قال لا ولكن جئت لأسألك عن أحب الأشياء إليك وأبغضها إلى الله عز وجل فقال أما والله لولا ممشاك إلى ما أخبرتك به ليس شيء أبغض إلى الله تعالى من أن يأتي الرجل الرجل والمرأة المرأة والله تعالى أعلم الباب الحادي والستون في بيان ما يستعين به الشيطان من فتنة ابن آدم
قال أبو بكر بن عبيد حدثنا سويد بن سعيد حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه قال حدثنا قتادة عن أبي الأخوص عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرأة عورة وإنها إذا خرجت استشرفها الشيطان فلا يكون أبدا أقرب إلى الله تعالى منها إذا كانت في قعر بيتها ورواه عن الحسين بن بحر إلاهوازي حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام حدثنا قتادة عن مورق العجلي عن أبي الأخوص عن عبد الله بن مسعود نحوه
حدثنا محمد بن إدريس حدثنا أحمد بن يونس حدثنا حسين بن صالح قال سمعت أن الشيطان قال للمرأة أنت نصف جندي وأنت سهمي الذي أرمي به فلا أخطى وأنت موضع سري وأنت رسولي في حاجتي حدثنا عبيدالله بن جرير العتكى حدثنا هزيم بن عثمان حدثنا سلام
ابن مسكين عن مالك بن دينار قال حب الدنيا رأس الخطيئة والنساء حبالة الشيطان
(1/202)
---(53/202)
حدثنى عباس بن جعفر حدثنى منتجع بن مصعب حدثنى عبيد ابن جريج عن عمرو سمعت مالك بن دينار يقول ليس شئ أوثق فى نفس إبليس من الدنيا حدثنى أبو حفص الصفار حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا شعبة عن على بن زيد عن سعيد بن المسيب قال ما بعث الله تعالى نبيا إلا لم ييأس إبليس أن يهلكه بالنساء وقال أبو بكر محمد بن أحمد بن أبى بكر فى كتاب القلائد حدثنا ابن بكير حدثنا أبو زيد حدثنا سهل ابن يوسف عن أبان بن صمعة عن عكرمة عن ابن عباس قال إن الشيطان من الرجل فى ثلاثة منازل فى عينيه وفى قلبه وفى ذكره وهو من المرأة فى ثلاثة منازل فى عينيها وفي قلبها وفى عجزها وقال عبدالله بن محمد القرشى حدثنا الحسن بن بحر العبدى حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن قتادة قال لما هبط إبليس قال يا رب قد لعنته فما عمله قال السحر قال فما قراءته قال الشعر قال فما كتابته قال الوشم قال فما طعامه قال كل ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه قال فما شرابه قال كل مسكر قال فأين مسكنه قال الحمام قال فأين مجلسه قال الأسواق قال فما مؤذنه قال المزمار قال فما مصائده قال النساء حدثنا أبو عبدالله محمد بن الحسين بن صبيح المروزى حدثنا الحسن بن بشر بن سلم حدثنا الحكم بن عبدالملك عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن للشيطان كحلا ولعوقا فإذا كحل الإنسان من كحله ثقلت عيناه وإذا ألعقه من لعوقه درب لسانه بالشر حدثنى أبى أنبأنا أحمد بن إسحاق الحضرمى أنبأنا عبدالواحد بن زياد حدثنا عاصم الأحول عن الحسن قال إن للشيطان ملعقة ومكحلة فملعقته الكذب ومكحلته النوم عن الذكر حدثنى أحمد ابن الحارث عن شيخ من قريش قال قال خالد بن صفوان إن الشيطان باحتياله ونصب أحباله يختل بالشبهة ويكابر بالشهوة فإذا أعيا مختالا كر مكابرا حدثنا عبدالله بن رومى حدثنا إسماعيل بن عبدالكريم حدثنى
(1/203)
---(53/203)
عبد الصمد بن معقل قال سمعت وهب بن منبه قال كان عابد من السياحين فأراده الشيطان فلم يستطع منه شيئا فقال له الشيطان ألا تسألني عما أضل به بني آدم قال بلى قال فأخبرني ما أوثق شيء في نفسك أن تضلهم قال الشح والحدة والسكر فإن الرجل إذا كان شحيحا قللنا ماله في عينيه ورغبناه في أموال الناس وإذا كان حديدا أدرناه بيننا كما يتداور الصببان الأكرة فلو كان يحيى الموتى بدعوته لم نيئس منه وإذا هو سكر اقتدناه إلى كل شهوة كما تقاد العنز بأذنها وقال أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن عمرو ابن ميمون عن ابن مسعود قال إن الشيطان أطاف بأهل مجلس ذكر ليفتنهم فلم يستطع أن يفرق بينهم فأتى حلقة يذكرون الدنيا فأغرى بينهم حتى اقتتلوا فقام أهل الذكر فحجزوا بينهم فتفرقوا
قال القرشي حدثنا سعد بن سليمان الواسطي عن سليمان بن المغيرة عن ثابت البناني قال لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل إبليس يرسل شياطينه إلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجيئوا بصحفهم ليس فيها شيء فقال ما لكم لا تصيبون منهم شيئا فقالوا ما صحبنا قوما قط مثل هؤلاء قال رويدا بهم عسى أن تفتح لهم الدنيا هناك تصيبون حاجتكم منهم وحدثنا يعقوب بن اسماعيل أنا حسان أنا عبد الله يعني ابن المبارك قال أنا عبيد الله بن موهب قال سأل بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إبليس وأبداله بأي شيء تغلب ابن آدم قال آخذه عند الغضب وعند الهوى حدثنا اسحاق بن إبراهيم حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن خيثمة قال كانوا يقولون إن الشيطان يقول وكيف يغلبني ابن آدم إذا رضى جئت حتى أكون في قلبه وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه
تعليق وبيان
قلت يشهد لصحة ذلك ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوصني قال لا تغضب فردد مرارا قال لا تغضب وفي الصحيح أن رجلين استبا عند النبي
(1/204)
---(53/204)
- صلى الله عليه وسلم - حتى احمر وجه أحدهما فقال - صلى الله عليه وسلم - إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وفي السنن قال إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإن غضب أحدكم فليتوضأ ذكر المحاملي في الباب استحباب الوضوء عند الغضب قال بعض الشافعية لا نعلم أحدا قال به غيره وقد قال تعالى ) خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ( فالشيطان يحمل الغضبان على أن يقول ما هو كاره لقوله وغير محب لقوله لكن يقوله ليستريح بذلك ويبرد غضبه فيدفع عنه حرارة الغضب كما يقصد المكرة أن يستريح من ألم الإكراه وضرره بفعل ما أكره عليه والله الموفق الباب الثاني والتسعون في أن الشيطان مع من يخالف الجماعة
روى الإمام أحمد من حديث ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خطب الناس بالجابية فقال قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال من أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ثم رواه الإمام احمد من حديث جابر بن سمرة قال خطب عمر رضي الله عنه الناس بالجابية فذكر نحوه ورواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
وقال ابن صاعد حدثنا إبراهيم بن سعد الجوهري حدثنا أبو معاوية عن يزيد بن مردانية عن يزيد بن علاقة عن عرفجة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يد الله على الجماعة والشيطان مع من يخالف الجماعة
(1/205)
---(53/205)
وقال الدارقطني حدثنا أبو جعفر أحمد بن اسحاق بن البهلول حدثني ابي حدثنا محمد بن يعلى حدثنا سليمان العامري عن الشيباني عن زياد ابن علاقة عن أسامة عن شريك قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يد الله على الجماعة فإذا شذ الشاذ منهم اختطفته الشياطين كما يختطف الذئب الشاة من الغنم وروى الإمام أحمد من حديث أبي وائل عن عبد الله وهو ابن مسعود قال خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا بيده ثم قال هذا سبيل الله مستقيما قال ثم عن يمينه وشماله ثم قال هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ ) وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ( وروى الإمام أحمد أيضا من حديث معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والمسجد نسأل الله التوفيق الباب الثالث والتسعون في بيان شدة العالم على الشيطان
روى الترمذي من حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد وقال ابن عبيد حدثني أبو عبد الله احمد بن بجير حدثنا علي بن عاصم عن بعض البصريين قال كان عالم وعابد متواخيين في الله فقالت الشياطين لإبليس إنا لا نقدر على أن نفرق بينهما فقال إبليس لعنه الله أنا لهما فجلس بطريق العابد إذ أقبل العابد حتى إذا دنا من إبليس قام إليه في مثال شيخ كبير بين عينيه أثر السجود فقال للعابد إنه قد حاك في صدري شيء أحببت أن أسألك عنه فقال له العابد سل فإن يكن عندي علم أخبرتك عنه فقال له إبليس هل يستطيع الله عز وجل أن يجعل السموات والأرض والجبال الشجر والماء في بيضة من غير أن يزيد في البيضة شيئا ومن غير أن ينقص من هذا شيئا
(1/206)
---(53/206)
فقال له العابد من غير أن ينقص من هذا شيئا ومن غير أن يزيد في هذا شيئا كالمتعجب فوقف العابد فقال له إبليس امضه ثم التفت إلى اصحابه فقال اما هذا فقد أهلكته جعلته شاكا في الله تعالى ثم جلس على طريق العالم فإذا هو مقبل حتى إذا دنا من إبليس قام إليه إبليس فقال يا هذا إنه قد حاك في صدري شيء أحببت أن أسألك عنه فقال له العالم سل فإن يكن عندي علم أخبرتك فقال له إبليس هل يستطيع الله عز وجل أن يجعل السموات والأرض والجبال والشجر والماء في بيضة من غير أن يزيد في البيضة شيئا ومن غير أن ينقص من هذا شيئا فقال له العالم نعم قال فرد عليه إبليس كالمنكر من غير أن يزيد في هذا شيئا ومن غير أن ينقص من هذا شيئا فقال له العالم نعم بانتهار وقال ) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( فقال إبليس لأصحابه من قبل هذا أتيتم نسأل الله العصمة
الباب الرابع والتسعون في بكاء الشيطان على المؤمن لفوات فتنته عند الموت
قال القرشي حدثنا القاسم بن هاشم حدثنا ابو اليمان حدثنا صفوان عن بعض الأشياح قال الشيطان أشد بكاء على المؤمن إذا مات من بعض أهله لما فاته من افتانه إياه في الدنيا وقال صالح بن أحمد بن حنبل رأيت أبي عند الموت يلهج بقوله لا بعد لا بعد فقلت يا أبت رأيتك تقول لا بعد لا بعد فما هذا قال الشيطان واقف عند رأسي يقول فتنى يا أحمد وأنا أقول لا بعد لا بعد وروى أبو داود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يقول في دعائه وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت نسأل الله التثبيت بمنه وكرمه الباب الخامس والتسعون في تعجب الملائكة عند خروج روح المؤمن ونجاته من الشيطان
(1/207)
---(53/207)
قال عبد الله بن احمد بن حنبل حدثني شريح بن النعمان حدثني عنبسة بن عبد الواحد عن مالك بن مغول عن عبد العزيز بن رفيع قال إذا عرج بروح المؤمن إلى السماء قالت الملائكة سبحان الذي نجى هذا العبد من الشيطان يا ويحه كيف نجا قال أبو الفرج بن الجوزي ولكثرة فتن الشيطان وتشبثها بالقلوب عزت السلامة فإنه يدعو إلى ما يحث عليه الطبع فهو كمداد لسفينة منحدرة فيا سرعة انحدارها ولما ركب الهوى في هاروت وماروت لم يستمسكا فإذا رأت الملائكة مؤمنا قد مات على الإيمان تعجبت من سلامته وبالله التوفيق
الباب السادس والتسعون في أفعال لم يسبق إبليس إليها
روى ابن أبي شيبة وأبو عروبة في أوائلهما قال ابن سيرين أول من قاس إبليس وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وقال الحسن البصري قاس إبليس وهو أول من قاس رواهما ابن جرير ومعنى هذا أنه نظر نفسه بطريق المقايسة بينه وبين آدم فراى نفسه أشرف من أدم فامتنع من السجود مع وجود الأمر له ولسائر الملائكة والقياس إذا كان مقابلا للنص كان فاسد الاعتبار ثم هو فاسد في نفسه لما قدمناه في الباب السادس والثمانين من خمسة عشر وجها وروى ابن أبي شيبة بسنده قال ميمون بن مهران سألت ابن عمر من أول من سمي العشاء العتمة قال الشيطان وذكر البغوي أنه أول من ناح وروى جابر مرفوعا أنه أول من تغنى والله أعلم الباب السابع والتسعون في رنات إبليس لعنه الله
ذكر بقي بن مخلد في تفسيره أن إبليس رن أربع رنات رنة حين لعن ورنة حين أهبط ورنة حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب قال والرنين والنخار من عمل الشيطان وقال ابن دريد رن وأرن من الرنين وهو شبيه بالحنين قال الشاعر
أرن على حقب حيال طروقة
كذود الأجير الاربع الأشرات
وقالوا في بيت رووه
نبهت ميمون لها فأنا
وقام يشكو عصبا قدرنا
(1/208)
---(53/208)
وقال الأصمعي إنما هو زن أي تقبض ويبس وقال ابن أبي الدنيا في كتاب مكايد الشيطان حدثنا إبراهيم بن راشد حدثنا داود بن مهران حدثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير قال لما لعن الله تعالى إبليس تغيرت صورته عن صورة الملائكة فخرج فرن رنة كل رنة إلى يوم
القيامة منها قال سعيد ولما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قائما يصلي بمكة رن رنة أخرى قال سعيد ولما افتتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة رن رنة أخرى اجتمعت إليه ذريته فقال إيأسوا أن تردوا أمة محمد إلى الشرك ولكن افتنوهم في دينهم وأفشوا بينهم النوح والشعر وقال ابن أبي الدنيا حدثنا علي بن أبي الجعد حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت شيخنا يقول سمعت ابن عباس يقول لما خلق الله تعالى إبليس نخر لعنه الله تعالى الباب الثامن والتسعون في أن عرش إبليس على البحر
(1/209)
---(53/209)
روى مسلم من حديث جابر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إن عرش إبليس على البحر فيبعث سراياه فيفتنون الناس فأعظمهم عنده منزلة أعظمهم فتنة يجئ أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا ثم يجيء أحدهما فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته فيدنيه منه ويقول نعم أنت أنت ورواه أحمد في مسنده بنحوه من عدة طرق فقال حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثنا ماعز التميمي عن جابر ورواه أيضا عن روح عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر وساقه أيضا من حديث أبي سعيد الخدري فقال حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لابن صائد ما ترى قال ارى عرشا على الماء أو قال على البحر حوله حيات قال ذاك عرش إبليس وقال سنيد في تفسيره حدثنا أبو بكر بن عياش وحميد الكندي عن عبادة بن نسي عن أبي ريحانه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن إبليس اتخذ عرشا على الماء ووكل بكل رجل شيطانين وأجلهما سنة فإن فتناه وإلا قطع ايديهما وأرجلهما وصلبهما ثم بعث له شيطانين آخرين قال الحافظ ابن منبه هذا حديث تفرد به أبو بكر بن عياش وقال الحافظ الذهبي هذا حديث غريب منكر لا يعرف إلا بهذا الإسناد
الباب التاسع والتسعون في مكان ركز الشيطان رايته
روى مسلم من حديث سلمان قال - صلى الله عليه وسلم - لا تكونن إن استطعت أول داخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها تركز رايته ورواه عباس الدوري عن سعيد بن عامر الضبعي عن عوف عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي موقوفا عليه ولفظه فإنها مبيض الشيطان وبها يقرب لواؤه الباب الموفي مائة في جعل إبليس كل واحد من ولده عن شيء من أمره
(1/210)
---(53/210)
قال عبد الله بن محمد بن عبيد حدثنا بشر بن الوليد الكندي حدثنا محمد بن طلحة عن زيد عن مجاهد قال لإبليس خمسة من ولده قد جعل كل واحد منهم على شيء من أمره ثم سماهم فذكر ثبر والأعور ومسؤط وداسم وزلبنور فأما ثبر فهو صاحب المصيبات الذي يأمر بالثبور وشق الجيوب ولطم الخدود ودعوى الجاهلية وأما الأعور فهو صاحب الزنا الذي يامر به ويزينه وأما مسوط فهو صاحب الكذب الذي يسمع فيلقى الرجل فيخبره بالخبر فيذهب الرجل إلى القوم فيقول لهم قد رأيت رجلا أعرف وجهه وما أدري ما اسمه حدثني بكذا وكذا وأما داسم فهو الذي يدخل مع الرجل إلى أهله يريه العيب فيهم ويغضبه عليهم وأما زلنبور فهو صاحب السوق الذي تركز رايته في السوق والله أعلم
الباب الأول بعد المائة في حضور الشيطان كل شيء من شئون الإنس
روى مسلم والترمذي من حديث جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة الباب الثاني بعد المائة في حضور الشيطان جماع الرجل أهله
(1/211)
---(53/211)
عن أنس بن مالك قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا أخرجاه في الصحيحين قال القاضي عياض لم يحمله أحد على العموم في جميع الضرر والإغواء والوسوسة وقال بعض العلماء ما ها هنا نكره لا يجوز أن تكون بمعنى الذي لأنها لا تكون لمن يعقل إذا كانت بمعنى الذي فيكون معناها شيء وقال ابن جرير في تهذيب الآثار حدثنا محمد بن عمارة الأسدي حدثني سهل بن عامر البجلي حدثنا يحيى بن يعلى الاسلمي عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه فذلك قوله تعالى ) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ( وقد قدمنا في الباب الرابع والثلاثين قول ابن عباس أن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - نهيا أن يأتي الرجل امرأته وهي حائض فإذا أتاها سبقه إليها الشيطان فحملت فجاءت بالمخنث ذكره الطرطوشي في كتاب تحريم الفواحش
الباب الثالث بعد المائة حضور الشيطان المولود حين يولد
(1/212)
---(53/212)
في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من بني آدم من مولود إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسه إياه الا مريم وابنها وفي رواية عند مسلم إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان وفيها قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم ) وإني أعيذها بك وذريتها ( الآية وفي لفظ عند البخاري كل بني آدم يطعن الشيطان في عينيه بأصبعه حين يولد إلا عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب وعن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صياح المولود حيث يقع نزغة من الشيطان أخرجه أبو حاتم قال السهيلي ولأن عيسى عليه السلام لم يخلق من مني الرجال فأعيذ من مغمزه وإنما خلق من نفخة روح القدس قال ولا يدل هذا على فضل عيسى عليه السلام على محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد نزع منه ذلك المغمز وملئ قلبه حكمة وإيمانا بعد أن غسله روح القدس بالثلج والبرد وإنما كان ذلك المغمز فيه لموضع الشهوة المحركة للمني والشهوات يحضرها الشيطان لا سيما شهوة من ليس بمؤمن فكان ذلك المغمز فيه راجعا إلى الأب لا إلى الابن المطهر - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال شق صدره فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فنبين أن الذي التمس فيه هو الذي يغمزه الشيطان من كل مولود والله أعلم
الباب الرابع بعد المائة في أن للشيطان لمة بابن آدم
روى الترمذي من حديث بن مسعود قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فوعد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله تعالى فبحمد الله تعالى ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ ) الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ( والله تعالى أعلم الباب الخامس بعد المائة في انه يجري من ابن آدم مجرى الدم
(1/213)
---(53/213)
ثبت في الصحيحين من حديث صفية بنت حيي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ورواه أبو داود من حديث أنس ورواه غير واحد من أهل السنن منهم الحافظ أبو جعفر الطحاوي أوردهما بأسانيده من حديث صفية وحديث أنس وقال ابن أبي الدنيا حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله المديني حدثنا حسان بن إبراهيم عن سعيد يعني ابن مرزوق عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال كيف ننجو من الشيطان وهو يجري منا مجرى الدم وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب الوسوسة حدثنا الحسين بن منصور حدثنا يزيد أنبأنا سفيان عن المغيرة عن إبراهيم قال ان الشيطان ليجري في الأحليل ويبيض في الدبر وقد قدمنا في باب دخول الجن في بدن المصروع وفي باب الوسوسة القول في ذلك وإمكان جريه وتداخل الأجسام فلينظر هناك
الباب السادس بعد المائة في انتشار الشيطان جنح الليل وتعرضه للصبيان
في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنح الليل وأمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشيطان ينتشر حينئذ إذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله تعالى وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله عز وجل ولو ان تعرضوا عليها شيئا واطفئوا مصابحكم وفي رواية فإن الشيطان لا يفتح غلقا الباب السابع بعد المائة في ما يلهي الشيطان عن الصبيان
قال حرب الكرماني حدثنا الحسن بن مهدي بن مالك حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا أبو عبيدة البلخي عن الحسن قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذوا الحمامات المقصوصات في البيوت فإنها تلهي الشيطان عن صبيانكم وقال حرب سمعت أحمد يقول لا بأس أن يتخذ الرجل في منزله الطيور والحمامات المقصوصة يستأنس اليها فإن تلهى بها فإني أكرهه
الباب الثامن بعد المائة في نوم الشيطان على الفراش الذي لا ينام عليه أحد
(1/214)
---(53/214)
قال القرشي حدثنا أبي حدثنا هشيم عن اسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال ما من فراش يكون في بيت مفروشا لا ينام عليه أحد إلا نام عليه الشيطان
قلت ليس هذا على إطلاقه بل إذا فرش ولم يسم عليه وليس مخصوصا بالفراش بل كل ما لم يسم عليه من طعام أو شراب أو لباس أو غير ذلك مما ينتفع به فللشيطان فيه تصرف واستعمال إما بإتلاف عينه كالطعام والشراب وإما مع بقاء عينه مما ينتفع به مع بقاء العين وقد قدمنا في الأحاديث ما يدل على ذلك والله أعلم الباب التاسع بعد المائة في عدم قيلولة الشياطين
قال عبد الله بن احمد كان أبي ينام نصف النهار شتاء كان أو صيفا ويأخذني بذلك ويقول قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيلوا فإن الشياطين لا تقيل وقال جعفر بن محمد نومة نصف النهار تزيد في العقل وذكر قتادة عن أنس بن مالك قال يلزم من ضبطهن ضبط الصوم من قال وتسحر وأكل قبل أن يشرب الباب العاشر بعد المائة في عقد الشيطان على رأس النائم
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله عز وجل انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقيل ما زال نائما حتى أصبح ما قام إلى الصلاة فقال ذاك رجل بال الشيطان في أذنه أو قال في أذنيه قلت هذا لمن لم يقرأ آية الكرسي أو خواتيم سورة البقرة أو ما يتحرز به من الشياطين من القرآن وأما من قرأ ذلك فلا سبيل للشيطان عليه بدليل ما قدمناه من الأحاديث الدالة على أن من قرأها لا يقربه شيطان حتى يصبح والقافية القفا قاله الجوهري والله تعالى أعلم الباب الحادي عشر بعد المائة في أن الحكم المكروه من الشيطان
(1/215)
---(53/215)
روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي قتادة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الرؤيا من الله والحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم الحلم يكرهه فليبصق عن يساره وليستعذ بالله منه فلن يضره وفي البخاري من حديث أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله عز وجل فيحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لاحد فإنها لن تضره قال السهيلي الرؤيا عند أهل العلم ما يراه الإنسان في منامه والرؤية ما يراه بعينه في اليقظة فرؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن إلا لمن رآه في حياته وأما رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فرؤيا ولا تكون رؤيا حق لقوله عليه الصلاة والسلام من رآني فقد رأى الحق وهو مشترك بين الرؤية والرؤيا وأما قوله عليه الصلاة والسلام من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أول الكلام من الرؤيا وآخره من الرؤية قال المازري كثر كلام الناس
(1/216)
---(53/216)
في حقيقة الرؤيا فقال فيها غير الإسلامين أقاويل كثيرة منكرة لما حاولوا الوقوف على حقائق لا تعلم بالعقل ولا يقوم عليها برهان وهم لا يصدقون بالسمع فاضطربت لذلك مقالاتهم فمن ينتمي إلى الطب ينسب جميع الرؤيا إلى الأخلاط ويقول من غلب عليه البلغم رأى السباحة في الماء أو ما شابهه لمناسبة الماء في طبيعته طبيعة البلغم ومن غلب عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو وشبهه لمناسبة النار طبيعة الصفراء ولأن خفتها وإنفاذها تخيل إليه الطيران في الجو والصعود في العلو وهكذا يصنعون في بقية الأخلاط وهذا مذهب و إن جوزه العقل وامكن عندنا أن يجري البادي جلت قدرته العادة بأن يخلق مثل ما قالوا عند غلبة هذه الأخلاط فإنه لم يقم عليه دليل ولا اطردت به عادة والقطع في موضع التجويز غلط وجهالة هذا لو نسبوا ذلك إلى الأخلاط على جهة الاعتبار واما إن أضافوا الفعل إليها فإنا نقطع بخطئهم ولا نجوز ما قالوه إذ لا فاعل إلا الله تعالى ولبعض أئمة الفلاسفة تخليط طويل في هذا وكأنه يرى أن صور ما يجري في العالم العلوي كالمنقوش وكأنه يدور بدوران الأكر فما حاذى بعض النفوس منه انتقش فيها وهذا أوضح فسادا من الأول مع كونه تحكما بما لم يقم عليه برهان والانتقاش من صفات الأجسام وكثيرا ما تجري في العالم والأعراض لا تنتقش ولا ينتقش فيها والمذهب الصحيح ما عليه أهل السنة وهو أن الله سبحانه وتعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو تبارك وتعالى يفعل ما يشاء ولا يمنع من فعله نوم ولا يقظة فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه سبحانه جعلها علما على أمور أخر يخلقها في ثاني حال أو كان خلقها فإذا خلق في قلب النائم اعتقاد الطيران وليس بطائر فقصارى ما فيه أنه اعتقد امرا على خلاف ما هو عليه علما وكم في اليقظة ممن يعتقد أمرا على خلاف ما هو عليه فيكون ذلك الاعتقاد علما على غيره كما يكون خلق الله تعالى الغيم علما على المطر(53/217)
(1/217)
---
والجميع خلق الله ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها علما على ما يسر بحضرة الملك أو بغير حضرة الشيطان ويخلق ضدها مما هو علم على ما يضره بحضرة الشيطان فينسب إليه مجازا واتساعا هذا المعنى بقوله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا من الله عز وجل والحلم من الشيطان لا على أن الشيطان يفعل شيئا في غيره وتكون الرؤيا
اسما لما يحب والحلم اسم لما يكره أنتهى قول المازري وحكى السهيلي في حقيقة الرؤيا قول الأسفرائي أبو إسحاق فيما بلغه عنه أن الرؤيا إدراك بجزء من القلب كما أن الرؤية إدراك بجزء من العين وإذا غشى القلب كله النوم لم ير شيئا فإذا ذهب عنه النوم أو عن أكثر القلب كانت الرؤيا أصفى وأجلى كرؤيا السحر قال وقال القاضي الرؤيا اعتقادات يعتقدها الرائي في النوم وليست بإدراك كإدراك الحاسة وقال الأستاذ أبو بكر ابن فورك الرؤيا أوهام يتوهمها المرء في حال النوم ثم قال أما قول الأسفرائيني فقد يجوز أن يكون في بعض الأحوال لا في جميع أحوال الرؤيا فإن الرائي قد يرى في المنام ما هو معدوم في تلك الحال والمعدوم لا تتعلق به الإدراكات وأما قول القاضي اعتقادات فحق لأنه قد يعتقد الشيء على ما هو عليه وقد يعتقده على خلاف ما هو عليه كالذي يرى اللبن في النوم فيعتقده لبنا وهو عبارة عن العلم وقد يحضر في حال النوم أنه عبارة عن العلم وليس بلبن وأما قول أبي بكر هي أوهام فصحيح وليس بمناقض لقول القاضي لأن النائم يتوهمه الشيء في تصوره في خلده ثم يعتقد مع ذلك التوهم أن الشيء كما يوهمه لعزوب عقله في النوم فإذا ثاب إليه عقله في اليقظة انحل عنه الاعتقاد وعلم أن الذي توهمه ليس على الصورة التي توهمها كالذي يتوهم في اليقظة وهو في السفينة ماشية أن البحر يمشي معه وعقله يدفع ما فاجأه به الوهم ولولا ذلك لاعتقد صحة ما توهم فإذا عزب العقل تحكم الوهم اعتقدت النفس صحة ما يتوهم فثم إذا وهم إما صادق وإما كاذب وتم في تلك(53/218)
الحالة اعتقاد
(1/218)
---
تصديق الوهم انتهى ما ذكره في حقيقة الرؤيا قال المازري وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - فإنها لن تضره فقيل معناه أن الروع يذهب بهذا النفث المذكور وفي الحديث إذا كان فاعله مصدقا به متكلا على الله جلت قدرته في دفع المكروه وقيل يحتمل ان يريد أن هذا الفعل منه يمنع من نفوذ ما دل عليه المنام من المكروه ويكون ذلك سببا فيه كما تكون الصدقة تدفع البلاء إلى غير ذلك من النظائر المذكورة عند أهل الشريعة والله تعالى أعلم
الباب الثاني عشر بعد المائة
في أن الشيطان لا يتمثل بالنبي عليه السلام
(1/219)
---(53/219)
في الصحيحين من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا هريرة قال سمعت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو كما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي قال وقال أبو سلمة قال أبو قتادة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رآني فقد رأى الحق وفي رواية من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي ذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - من رآني في المنام فقد رآني أنه رأى الحق وأن رؤياه لا تكون أضغاثا ولا من التشبيهات في الشيطان ويعضد ما قاله بقوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الطرق من رآني فقد رأى الحق إن كان المراد به ما أريد بالحديث الأول من المنام وقوله - صلى الله عليه وسلم - فإن الشيطان لا يتمثل بي إشارة إلى أن رؤياه لا تكون أضغاثا وإنما تكون حقا وقد يراه الرائي على غير صفته المنقولة إلينا كما لو رآه شيخا ابيض اللحية أو على خلاف لونه أو يراه رائيان في زمان واحد أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب ويراه وكل منهما معه في مكانه وقال السهيلي رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام رؤيا ولا تكون إلا رؤية حق لقوله - صلى الله عليه وسلم - من رآني فقد رأى الحق وهو مشترك بين الرؤية والرؤيا وأما قوله من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أول الكلام من الرؤيا والثاني من الرؤية وقال آخرون بل الحديث محمول على ظاهره والمراد أن من رآه فقد أدركه - صلى الله عليه وسلم - ولا مانع يمنع من ذلك ولا عقل يحيله حتى يضطر إلى صرف الكلام عن ظاهره وأما الاعتلال أنه قد يرى على خلاف صفته المعروفة وفي مكانين مختلفين معا فإن ذلك غلط في صفاته وتخيل لها على غير ما هي عليه وقد يظن بعض الخيالات مرئيات لكون ما يتخيل مرتبطا لما يرى في العادة فتكون ذاته - صلى الله عليه وسلم - مرئية
(1/220)
---(53/220)
وصفاته متخيلة غير مرئية والإدراك لا يشترط فيه تحديق الأبصار ولا قرب المسافات ولا كون المرئي مدفونا في الأرض ولا ظاهرا عليها وإنما يشترط كونه موجودا وقد ثبت وجوده وتكون الصفات المتخيلة ثمرتها اختلاف الدلالات وقد ذكر الكرماني في باب رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وقد جاء في الحديث انه إذا رئى في المنام شيخا فهو عام سلم وإذا رئى شابا فهو عام حرب وكذلك أحد جوابهم عنه - صلى الله عليه وسلم - لو رآه امرؤ يأمره بقتل من لا يحل قتله فإن ذلك من الصفات المتخيلة لا المرئية وجوابهم الثاني منع وقوع مثل هذا قال المازري لا وجه عندي لمنعهم إياه مع قولهم في تخيل الصفات فهذا انفصال هؤلاء عما احتج به القاضي وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - من رآني في المنام فسيراني في اليقظة او كأنما رآني في اليقظة فتأويله مأخوذ مما تقدم قال المازري إن كان المحفوظ فسيراني في اليقظة فيحتمل أن يريد أهل عصره ممن لم يهاجر اليه - صلى الله عليه وسلم - فإنه إذا رآه في المنام فسيراه في اليقظة ويكون الباري جلت قدرته جعل رؤيا المنام علما على رؤية اليقظة وأوحى إليه بذلك - صلى الله عليه وسلم -
(1/221)
---(53/221)
وقال السهيلي في ضمن أسئلة في الرؤيا كيف تكون الرؤيا حقا وهي كلها قد يرى على صور مختلفة منها ما هي صورة له ومنها ما ليس بصورة له وأجاب بعد تقرير الكلام في حقيقة الرؤيا وقال إذا رأى في حال النوم محمدا - صلى الله عليه وسلم - مثلا على غير صورته التي كان عليها فقد رآه حقا ولكن من الرؤيا لا من الرؤية فتوهم الصورة أنها صورته وأنها صفة له واعتقد في تلك الحال لعزوب العقل تصديق الوهم ولم يقدح ذلك التوهم في صحة الرؤيا كما لم يقدح من اليقظان الراكب البحر توهمه لمشي البحر في صحة رؤية البحر وكذلك من رأى رجلا من مكان بعيد جدا فتوهمه صبيا أو طائرا فقد رآه بعينه ولم يقدح في صحة رؤيته توهم الصورة على غير ما هي لكنه في اليقظة يكذب الوهم في ذلك التوهم لحصول العقل ولا يكذب العقل الوهم في حال النوم بل يعتقد صدقه لعزوب العقل عن النظر في الدليل فيعتقد الصورة الداخلة في الخيال لا وجود لها من خارج فإذا استيقظ انحل الانعقاد بتجديد النظر وبقي النظر في تلك الصورة المتوهمة فإن الله تعالى لم
يخلقها داخل الخيال إلا ليتعلق بها تأويل الرؤيا فيختلف التأويل على حسب الصورة المتوهمة التي لا وجود لها من خارج
تعليق
فصل
(1/222)
---(53/222)
لا شك أنه لم يجز للشيطان أن يتمثل على صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحرى أن لا يتمثل بالله عز وجل وأجدر بأن تكون رؤيا الله تعالى في المنام حقا وأن لا يكون تخليطا من الشيطان هذا على قول طائفة منهم أبو بكر بن العربي وأما على قول طائفة أخرى من العلماء فإنهم ذهبوا إلى أن العصمة من تصور الشيطان وتمثله إنما هي في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه بشر تجوز عليه الصور فصرف الله عز وجل الشيطان أن يتمثل به لئلا تختلط رؤياه بالرؤيا الكاذبة وهذا الكلام له تتمة ذكرها ابن بطال في شرح البخاري اختصرتها ومن تأمل الفصل من أوله عرف القول وضده ودله ذلك على معنى ما تركته وبالله التوفيق ) ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (
بيان صغر الشيطان يوم عرفة
فصل
في بيان صغر الشيطان ودحره وحقارته وغيظه يوم عرفة روى مالك في الموطأ من حديث طلحة بن عبد الله بن كريز أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لم ير الشيطان يوما ما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب الكبار إلا ما رأى يوم بدر فإنه رأى جبريل يزع الملائكة الباب الثالث عشر بعد المائة في بيان طلوع قرن الشيطان من نجد
روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو على المنبر ألا إن الفتنة هنا يشير إلى المشرق من حيث يطلع قرن الشيطان وفي رواية قال وهو مستقبل
المشرق إن الفتنة ههنا ثلاثا وذكر نحوه وفي أخرى أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبل المشرق يقول ألا الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان وزاد البخاري في رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال اللهم بارك لنا في شامنا اللهم بارك لنا في يمننا قالوا يا رسول الله وفي نجدنا فأظنه قال في الثالثة هنالك الزلازل والفتن ومنها يطلع قرن الشيطان
فصل
(1/223)
---(53/223)
ذكر أهل السير أن قريشا لما بنت الكعبة اختلفت فيمن يضع الركن وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وضعه بيده وأن إبليس تمثل في صورة شيخ نجدي حين حكموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر الركن فصاح إبليس بأعلى صوته يا معشر قريش أقد رضيتم أن يضع هذا الركن وهو شرفكم غلام يتيم دون ذوى أسنتكم فكاد يثير شرا فيما بينهم ثم سكنوا ذلك وكذلك لما اجتمعت قريش للتشاور في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - تمثل لهم إبليس أيضا في صورة شيخ جليل وانتسب إلى نجد فأما في الكعبة فتمثل نجديا لأن نجدا يطلع منها قرن الشيطان كما تقدم وأما في وقت التشاور فذكر بعض أهل السير أن قريشا لما اجتمعت قالت لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من تهامة لأن هواهم مع محمد - صلى الله عليه وسلم - فانضم انتسابه إلى نجد لينتفي من تهامة إلى كون قرنه يطلع من نجد فتناسب المعنيان وقد ورد في حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال هذا الكلام وقف عند باب عائشة رضي الله عنها ونظر إلى المشرق يحذر من الفتنة قال السهيلي وفي وقوفه عند باب عائشة رضي الله عنها ناظرا إلى المشرق يحذر من الفتنة عبرة وفكر في خروجها إلى المشرق عند وقوع الفتنة تفهم الإشارة إن شاء الله تعالى واضمم إلى هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر نزول الفتن أيقظوا صواحب الحجر والله أعلم
الباب الرابع عشر بعد المائة في بيان طلوع الشمس بين قرني الشيطان
(1/224)
---(53/224)
روى أبو داود والنسائي من حديث عمرو بن عبسة قال قلت يا رسول الله أي الليل أسمع قال جوف الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح ثم أقصر حتى تطلع الشمس فترتفع قيد رمح أو رمحين فإنها تطلع بين قرني شيطان فيصلي لها الكفار ثم صل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى يعدل الرمح ظله ثم أقصر فإن جهنم تسجر وتفتح أبوابها فإذا زاغت الشمس فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي العصر ثم أقصر حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان ويصلي لها الكفار
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها ثم إذا استوت قارنها فإذا دنت للغروب قارنها ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في تلك الأوقات
قال ابن عبد البر تابع يحيى على قوله في هذا الحديث عن عبد الله الصنابحي جمهور الرواة منهم العقبي وغيره وقال مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي عبد الله الصنابحي وتابعه إسحاق بن عيسى الطباع وهو الصواب وهو أبو عبد الله الصنابحي واسمه عبد الرحمن بن غسيلة وهو من كبار التابعين ولا صحبة له توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل قدومه المدينة بخمس ليال وللعلماء في معنى الحديث قولان
أحدهما أن ذلك اللفظ على حقيقته وأنها تغرب وتطلع على قرن شيطان وعلى رأس شيطان وبين قرني شيطان على ظاهر الحديث حقيقة لا مجازا
من غير تكييف لأنه لا يكيف ما لا يرى وحجة من قال هذا القول حديث عكرمة عن ابن عباس أنه قال له أرايت ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمية بن أبي الصلت آمن شعره وكفر قلبه قال هو حق فما أنكرتم من شعره قالوا أنكرنا قوله
والشمس تطلع كل آخر ليلة
حمراء يصبح لونها يتورد
ليست بطالعة لهم في رسلها
إلا معذبة وإلا تجلد
(1/225)
---(53/225)
فما بال الشمس تجلد فقال والذي نفسي بيده ما طلعت الشمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك ويقولون لها اطلعي اطلعي فتقول لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله فيأتيها ملك من الله عز وجل يأمرها بالطلوع فيستقبل الضياء بني آدم فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع بين قرنيه فيحرقه الله تعالى تحتها وما غربت الشمس قط إلا خرت لله تعالى ساجدة فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن السجود فتغرب بين قرنيه فيحرقه الله تعالى تحتها فذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما طلعت إلا بين قرني شيطان ولا غربت إلا بين قرني شيطان
وقال آخرون معنى هذا الحديث عندنا على المجاز واتساع الكلام وأنه أريد بقرن الشيطان هنا أمة تعبد الشمس وتسجد لها وتصلي في حين غروبها وطلوعها تقصد بذلك الشمس من دون الله وكان - صلى الله عليه وسلم - يكره التشبه بالكفار ويجب مخالفتهم فنهى عن الصلاة في هذه الأوقات لذلك وهذا التأويل جائز في لغة العرب معروف في لسانها لأن الأمة تسمى عنده قرنا والأمم قرونا وقال عز وجل ) وكم أهلكنا قبلهم من قرن ( وقال تعالى ) وقرونا بين ذلك كثيرا ( وقال تعالى ) فما بال القرون الأولى ( وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير الناس قرني وجائز أن يضاف القرن إلى الشيطان لطاعتهم له وقد سمى الله تعالى الكفار حزب الشيطان ومن حجة من تأول هذا التأويل من طريق الآثار حديث
عمرو بن عبسة السلمي الذي قدمناه وحديث أبي أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم الباب الخامس عشر بعد المائة في بيان مقعد الشيطان
(1/226)
---(53/226)
قال أبو بكر الخلال في كتاب الأدب أخبرنا أحمد بن محمد ابن عبد الله بن صدقة حدثنا أبو القاسم الزهري حدثنا عمي حدثنا شعبة عن مغيرة العبسي الأعمى عن الشعبي عن عبد الله بن عمرو قال قعود الرجل بعضه في الشمس وبعضه في الظل مقعد الشيطان أخبرنا أحمد حدثنا أبو القاسم حدثنا عمي حدثنا شعبة عن أبيه عن أبي هريرة قال بمثل ذلك أخبرنا يحيى بن جعدة حدثنا عبد الوهاب حدثنا قرة بن خالد عن نفيع عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول مقيل الشيطان بين الظل والشمس أخبرنا يحيى أنبأنا عبد الوهاب أنبأنا سعيد عن قتادة كان يقال مقعد الشيطان بين الظل والشمس ويكره القعود فيه أخبرني أحمد بن محمد بن حازم أن إسحاق بن منصور حدثهم أنه قال لابن عبد الله يكره أن يجلس بين الظل والشمس قال هذا مكروه أليس قد نهى عن ذلك قال إسحاق ابن منصور قال إسحاق بن راهويه قد صح النهي فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن لو ابتدأ فجلس فيه كان أهون
الباب السادس عشر بعد المائة في لزوم الشيطان القاضي الجائر
روى الترمذي من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان الباب السابع عشر بعد المائة في ادباره إذا نودي للصلاة
(1/227)
---(53/227)
في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع المنادين حتى إذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا واذكر كذا ما لم يكن يذكر قبل حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى وفي رواية أن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال له حتى لا يسمع صوته فإذا أنتهى رجع فوسوس وفي أخرى إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله حصاص قال الجوهري الضراط الردام ضرط يضرط ضرطا مثل خبق يخبق خبقا ورأيت في الجمهرة ضبط ابن خالويه خبقا بسكون الباء والحصاص بالضم شدة العدو وسرعته عن الأصمعي وقد حص يحص حصا قال حماد بن سلمة قلت لعاصم بن أبي النجود ما الحصاص قال ما رأيت الحمار إذا صر بأذنيه ومصغ بذنبه وعدا فذلك حصاصه قال أبو عبيد يقال هو الضراط في قول بعضهم قال وقول عاصم أحب إلى وهو قول الأصمعي أو نحوه والله أعلم
الباب الثامن عشر بعد المائة في مشية الشيطان في نعل واحدة
قال حرب حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يمشي أحدكم في نعل واحدة فإن الشيطان يمشي في نعل واحدة قال حرب وسمعت أحمد يكره أن يمشي الرجل في نعل واحدة كراهية واحدة قال حرب حدثنا يحيى ابن عبد الحميد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي رزين عن أبي هريرة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها الباب التاسع عشر بعد المائة في اعتزاله ابن آدم إذا تلا السجدة
(1/228)
---(53/228)
إذا تلا ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار قال ابن أبي الدنيا حدثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس حدثنا حاتم بن إسماعيل عن محمد بن عجلان عن عبيد الله بن مقسم قال إذا لعنت الشيطان قال لعنت ملعنا فإذا استعذت منه يقول قطعت ظهري وإذا سجدت يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فأطاع وأمر الشيطان فعصى فلابن آدم الجنة وللشيطان النار
الباب الموفي عشرين بعد المائة في أن التثاؤب والنعاس والعطاس في الصلاة من الشيطان
في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني قال شكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة قال لا ينصرف أحدكم حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا قال أو بكر قال أبو بكر ابن محمد حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن جرير عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن قيس بن سكن قال قال عبد الله إن الشيطان يطيف بأحدكم في الصلاة فإذا أعياه أن ينصرف نفخ في دبره ليريه أنه قد أحدث فلا ينصرفن حتى يجد ريحا أو يسمع صوتا
وقال إسحاق حدثنا محمد بن جابر عن حماد عن إبراهيم قال قال عبد الله إن الشيطان يجري من ابن آدم في العروق مجرى الدم حتى أنه يأتي أحدكم وهو في الصلاة فينفخ في دبره ويبل إحليله ثم يقول أحدثت فلا ينصرفن أحدكم حتى يجدن ريحا أو يسمع صوتا أو يجد بللا وقال الطبراني في المعجم الكبير حدثنا محمد بن النضر حدثنا أبو غسان النهدي حدثنا قيس بن الربيع عن زر عن عبد الله قال النعاس عند القتال امنة من الله تعالى والنعاس في الصلاة من الشيطان ثم ساقه عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن الثوري عن أبي زريرة عن عبد الله حدثنا محمد بن النضر الأزدي حدثنا معاوية بن عمرو أنبأنا زائدة عن يزيد بن أبي ظبيان عن عبد الله بن مسعود قال التثاؤب والعطاس في الصلاة من الشيطان
(1/229)
---(53/229)
الباب الحادي والعشرون بعد المائة في أن العجلة من الشيطان
قال ابن السني في كتاب الإيجاز حدثنا أحمد بن داود ابن عبد الغفار حدثنا أبو مصعب الزهري حدثنا عبد المهيمن بن العباس ابن سهل عن أبيه عن جده ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الأناة من الله عز وجل والعجلة من الشيطان الباب الثاني والعشرون بعد المائة في أن نهيق الحمار عند رؤية الشيطان
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانا الباب الثالث والعشرون بعد المائة في تعرض الشيطان لأهل المسجد
قال أحمد في مسنده حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا الضحاك ابن عثمان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أحدكم إذا كان في المسجد جاء الشيطان فأنس به كما يأنس الرجل بدابته فإذا سكن له رنقه وألجمه قال أبو هريرة وانتم ترون ذلك أما المرفق فتراه مائلا كذا لا يذكر الله وأما الملجم ففاتح فاه لا يذكر الله تعالى وقال أحمد حدثنا ابان حدثنا قتادة عن أنس أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول راصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بين الاعناق فوالذي نفس محمد بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنه الحذف وروى ابن السني في كتاب عمل اليوم والليلة بسنده عن أبي امامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن أحدكم إذا أراد أن يخرج من المسجد تداعت جنود إبليس واجتلبت كما يجتمع النحل على
(1/230)
---(53/230)
بعسوبها فإذا قام أحدكم على باب المسجد فليقل اللهم إني أعوذ بك من إبليس وجنوده فإنها لن تضره اليعسوب ذكر النحل وقيل أميرها والحذف بالتحريك غنم سود صغار من غنم الحجاز الواحدة حذفة وفي حديث كأنها بنات حذف الباب الرابع والعشرون بعد المائة في تكبر إبليس عن السجود لآدم ووسوسته له حتى أكل من الشجرة
قال ابن جرير اختلف السلف من الصحابة والتابعين في السبب الذي سولت له نفسه من أجله الاستكبار فروى عن ابن عباس في ذلك أقوال
أحدها ما رواه الضحاك أن إبليس لما قتل الجن الذين عصوا الله وأفسدوا في الأرض وشردهم أعجبته نفسه ورأى في نفسه أن له من الفضيلة ما ليس لغيره
والقول الثاني من الأقوال المروية عن ابن عباس أنه كان ملك السماء وسائسها وسائس ما بينها وبين الأرض وخازن الجنة مع اجتهاده في العبادة فأعجب بنفسه ورأى أن له بذلك فضلا فاستكبر على ربه حدثنا موسى بن هارون حدثنا عمر بن حماد حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمذاني عن ابن مسعود عن أناس من اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا وكان من قبيلة يقال لها الجن وإنما سموا الجن لانهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازنا فوقع في صدره كبر وقال ما أعطاني الله تعالى على هذا الأمر إلا لمزية هكذا حدثني موسى بن هارون وحد ثني به أحمد عن خيثمة عن عمرو بن حماد وقال لمزية لي على الملائكة فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه فقال الله للملائكة ) إني جاعل في الأرض خليفة (
(1/231)
---(53/231)
والقول الثالث من الأقوال عن ابن عباس أنه كان يقول السبب في ذلك أنه كان من بقايا خلق خلقهم الله فأمرهم الله بأمر فأبوا طاعته حدثني محمد بن سنان حدثنا أبو عاصم عن شريك عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال إن الله تعالى خلق خلقا فقال ) اسجدوا لآدم ( فقالوا لا نفعل فبعث الله عليهم نارا تحرقهم ثم خلق خلقا آخر فقال ) إني خالق بشرا من طين ( فاسجدوا لآدم قال فأبوا فبعث الله تعالى عليهم نارا فأحرقتهم قال ثم خلق هؤلاء فقال ) اسجدوا لآدم ( قالوا نعم وكان إبليس من أولئك الذين أوا أن يسجدوا لآدم قال أبو الفداء اسماعيل ابن كثير هذا غريب ولا يكاد يصح إسناده فإن فيه رجلا متهما ومثله لا يحتج به والله أعلم
(1/232)
---(53/232)
وقال آخرون بل السبب أنه كان من بقايا الجن الذين كانوا في الأرض فسفكوا الدماء فيها وأفسدوا وعصوا ربهم فقاتلتهم الملائكة حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا أبو سعيد اليحمدي إسماعيل ابن إبراهيم حدثنا سوار بن أبي الجعد عن شهر بن حوشب قوله كان من الجن قال كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء حدثني علي بن الحسين حدثنا أبو نصر أحمد ابن محمد الخلال حدثنا سهيل بن داود حدثنا هشيم أنبأنا عبد الرحمن ابن يحيى عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد عن سعد بن مسعود قال كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا وكان مع الملائكة فتعبد معها فلما أمروا أن يسجدوا لآدم سجدوا وأبى إبليس فلذلك قال الله تعالى ) إلا إبليس كان من الجن ( قال أبو جعفر وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله تعالى ) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ( ففسق عن أمر ربه وجائز أن يكون فسوقه عن أمر ربه كان من أجل أنه كان من الجن وجائز أن يكون من أجل إعجابه بنفسه لشدة اجتهاده في عبادة ربه وكثرة علمه وما كان أوتي من ملك سماء الدنيا والأرض وخزن الجنان وجائز أن يكون كان ذلك لأمر من الأمور ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر تقوم به الحجة ولا خبر بذلك عندنا والاختلاف في أمره ما حكيناه ورويناه
(1/233)
---(53/233)
وقد قيل إن سبب هلاكه كان من أجل أن الأرض كان فيها من قبل آدم الجن فبعث الله تعالى إبليس قاضيا يقضي بينهم فلم يزل يقضي بينهم بالحق ألف سنة حتى سمي حكما وسماه الله به وأوحى إليه اسمه فعند ذلك دخله الكبر فتعظم وتكبر وألقى بين الذين كان الله بعثه اليهم حكما البأس والعداوة والبغضاء فاقتتلوا عند ذلك في الأرض ألفي سنة فيما زعموا حتى أن خيولهم تخوض في دمائهم قالوا فذلك قول الله ) أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ( وقول الملائكة ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( فبعث الله تعالى عند ذلك نارا فأحرقتهم قالوا فلما رأى إبليس ما نزل بقومه من العذاب عرج إلى السماء فأقام عند الملائكة يعبد الله تعالى في السماء مجتهدا لم يعبده شيء من خلقه مثل عبادته فلم يزل مجتهدا في العبادة حتى خلق الله تعالى آدم فكان من أمره ومعصيته ربه ما كان فلما أراد الله تعالى إطلاع الملائكة على ما قد علم من انطواء إبليس على الكبر وإظهار أمره لهم حين دنا أمره للبوار وملكه وسلطانه للزوال قال ) إني جاعل في الأرض خليفة ( فأجابوه ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء (
روى عن ابن عباس أن الملائكة قالت ذلك لما كانوا عهدوا من أمر إبليس وأمر الجن الذين كانوا فيها فكانوا يسفكون الدماء فيها ويفسدون في الأرض ويعصونك ) ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ( فقال ) إني أعلم ما لا تعلمون ( من انطواء إبليس على التكبر وعزمه على خلاف أمري وتسويل نفسه له بالباطل واعتزازه وأنا مبد ذلك لكم لتروا ذلك منه عيانا
(1/234)
---(53/234)
حدثنا موسى بن هارون بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قالت الملائكة ما قالت وقال الله تعالى ) إني أعلم ما لا تعلمون ( يعني من شأن إبليس فبعث الله جبريل عليه الصلاة والسلام إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض إني أعوذ بالله منك أن تقبض مني أو تشينني فرجع فلم يأخذ منها شيئا وقال يا رب إنها عاذت فأعذتها فبعث الله تعالى ميكائيل فعاذت منه فأعاذها فرجع فقال كما قال جبريل عليه الصلاة والسلام فبعث اليها ملك الموت فعاذت منه فقال وأعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره فأخذ من وجه الأرض
وخلط فلم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء ولذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به قبل التراب حتى عاد طينا لازبا واللازب الذي يلتزق بعضه ببعض ثم ترك حتى تغير وأنتن وذلك حين يقول حمأ مسنون قال منتن
حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب العمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال بعث رب العزة إبليس فأخذ من آديم الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم ومن ثم سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض ومن ثم قال إبليس ) أأسجد لمن خلقت طينا ( أي هذه الطينة أنا جئت بها حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال أمر الله تعالى بتربة آدم فرفعت فخلق آدم من طين لازب من حمأ مسنون قال وإنما كان مسنونا بعد التراب قال فخلق منه آدم بيده فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل أي يصوت قال فهو قوله تعالى ) من صلصال كالفخار ( يقول كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت قال ثم يدخل من فيه ويخرج من دبره ويدخل من دبره ويخرج من فيه ثم يقول لست شيئا للصلصلة ولشيء ما خلقت ولئن سلطت عليك لأهلكتك ولئن سلطت على لأعصينك
(1/235)
---(53/235)
حدثنا موسى بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى للملائكة ) إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( فخلقه تعالى بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه ليقول أتتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه فخلقته بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه وكان أشدهم منه فزعا إبليس فكان يمر به فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة فذلك حين يقول ) من صلصال كالفخار ( ويقول لأمر ما خلقت ودخل فيه وخرج
من دبره فقال للملائكة لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف ولئن سلطت عليه لأهلكنه
حدثنا موسى بن هارون بسنده قالوا فلما بلغ آدم الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله فقال الحمد لله فقال الله يرحمك ربك يا آدم فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل إلى جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول ) خلق الإنسان من عجل ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين قال الله تعالى ) ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ( قال ) أنا خير منه ( لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين قال الله عز وجل له ) اخرج منها ( فما يكون لك أن تتكبر فيها يعني فما ينبغي لك أن تتكبر فيها ) فاخرج إنك من الصاغرين (
(1/236)
---(53/236)
ولبعض هذا السياق وما قبله من حديث السدي شاهد من الأحاديث وإن كان كثير منه متلقى من الإسرائيليات وقوله تعالى لإبليس اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها وقوله ) اخرج منها ( دليل على أنه كان في السماء فأمر بالهبوط منها والخروج من المنزلة والمكانة التي كان نالها بعبادته وتشبهه بالملائكة ثم سلب ذلك فاهبط إلى الأرض مذموما مدحورا
قال ابن جرير حدثنا كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر ابن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال فلما نفخ الله تعالى فيه يعني في آدم من روحه أتت النفخة من قبل رأسه فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحما فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من حسنه فذهب لينهض فلم يقدر فهو قول الله تعالى ) خلق الإنسان من عجل ( وقوله تعالى ) وكان الإنسان عجولا ( قال ضجرا لا صبر له على سراء ولا ضراء قال فلما نمت النفخة في جسده عطس
فقال الحمد لله رب العالمين بإلهام الله له فقال الله تعالى له يرحمك الله تعالى يا آدم قال ثم قال للملائكة الذين كانوا من إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات ) اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر ( لما كان حدث به نفسه من كبره واغتراره فقال لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا ) خلقتني من نار وخلقته من طين ( يقول إن النار أقوى من الطين قال فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله أي أيأسه من الخير كله وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته وهذا الذي ذكره ابن جرير فيه انقطاع وفي السياق نكارة وقد رجحه بعض المتأخرين والجمهور على أن المراد بالملائكة المأمورين بالسجود جميع الملائكة لا الملائكة الذين كانوا في الأرض مع إبليس وهو الذي دل عليه عموم الآيات وهو الذي يظهر من السياقات ويدل عليه الحديث وقوله وأسجد لك ملائكته وهذا عموم أيضا
(1/237)
---(53/237)
قال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن محمد بن اسحاق قال فيقال والله اعلم أنه لما انتهى الروح إلى رأسه عطس فقال الحمد لله فقال له ربه يرحمك ربك ووقع الملائكة حين استوى سجودا له حفظا لعهد الله الذي عهد اليهم وطاعة لأمره الذي أمرهم به وقام عدو الله إبليس فلم يسجد متكبرا متعظما بغيا وحسدا فقال له يا إبليس ) ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ( إلى قوله ) لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ( قال فلما فرغ الله تعالى من إبليس ومعاتبته وأبى إلا المعصية أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة قال الله تعالى ) فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ( استحق هذا من الله تعالى لأنه استلزم تنقصة لآدم وازدراءه به وترفعه عليه مخالفة الأمر الإلهي ومعاندة الحق في النص على آدم على التعيين وشرع في الاعتذار بما لا يجدي عنه شيئا فكان اعتذاره أشد من ذنبه كما قال تعالى في سورة الإسراء ) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ( إلى قوله ) وكفى بربك وكيلا ( قال ابن جرير حدثنا موسى بن هارون بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لما خرج إبليس من الجنة حين لعن
وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وحشيا ليس له زوج يسكن إليها فنام نومة فاستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله تعالى من ضلعه فسألها ما انت فقالت امرأة قال ولم خلقت قالت لتسكن إليى قالت له الملائكة ينظرون ما مبلغ علمه ما اسمها قال حواء قالوا لم سميت حواء قال لأنها خلقت من شيء حي قال الله عز وجل ) يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما (
(1/238)
---(53/238)
وهذا الذي ساقه ابن جرير من حديث موسى بن هارون منتزع من نص التوراة التي بأيدي أهل الكتاب وسياق الآيات وظاهرها يقتضى أن خلق حواء كان قبل دخول آدم عليه السلام إلى الجنة كقوله ) يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ( وهذا قد صرح به ابن اسحاق وذكر ابن اسحاق عن ابن عباس ان حواء خلقت من ضلعه الأقصر وهو نائم ولثم مكانه لحم ومصداق هذا في قوله تعالى ) يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ( وقوله تعالى ) هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ( قال ابن جرير لما أسكن الله تعالى آدم وزوجه جنته أطلق الله لهما تبارك اسمه أن يأكلا كل ما شاء أكله من كل ما فيها من ثمارها غير ثمرة شجرة واحدة ابتلاء منه لهما بذلك وليمضي قضاء الله فيهما وفي ذريتهما كما قال تعالى ) ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما ( أكل ما نهاهما ربها عن أكله من ثمر تلك الشجرة وحسن لهما حتى أكلا منها فبدا لهما من سوآتهما ما كان توارى عنهما منها وكان وصول عدو الله إبليس إلى تزيين ذلك ما ذكر في الخبر الذي حدثني موسى بن هارون حدثنا عمرو بن حماد حدثنا اسباط عن السدي في خبر ذكره عن ابي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن اناس من اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لما قال الله تعالى لآدم ) اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (
(1/239)
---(53/239)
أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة فمنعته الخزنة فأتى الحية هي دابة لها أربع قوائم كأنها البعير وهي كأحسن الدواب فكلمها أن تدخله في فمها حتى يدخل إلى آدم فأدخلته في فمها فمرت الحية على الخزنة فدخلت وهم لا يعلمون ما أراد الله تعالى من الامر فكلمه من فمها فلم ينل كلامه فخرج إليه فقال ) يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ( يقول هل أدلك على شجرة إذا أكلت منها كنت ملكا وتكون من الخالدين فلا تموت أبدا وحلف لهما بالله ) إني لكما لمن الناصحين ( وإنما أراد بذلك ليبدي لهما ما توارى عنهما من سوآتهما يهتك لباسهما وكان قد علم أن لهما سوآت لما كان يقرأ من كتاب الملائكة ولم يكن آدم يعلم ذلك وكان لباسهما الظفر فأبى آدم أن يأكل منها فتقدمت حواء فأكلت منها ثم قالت يا آدم كل فإني قد أكلت فلم يضرني فلما أكل آدم بدت لهما سوآتهما فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة طفقا أقبلا أي جعلا يلصقان عليهما من ورق التين حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن اسحاق عن ليث بن أبي سليم عن طاوس اليماني عن ابن عباس قال إن عدو الله إبليس عرضه نفسه على دواب الارض أيها يحمله حتى يدخل به معه حتى يكلم آدم وزوجته فكل الدواب أبى ذلك عليه حتى كلم الحية فقال لها امنعك من بني آدم فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتني الجنة فجعلته بين نابين من أنيابها ثم دخلت به فكلمهما من فيها وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم فأعراها الله تعالى وجعلها تمشي على بطنها قال يقول ابن عباس اقتلوها حيث وجدتموها اخفروا ذمة عدو الله تعالى فيها قال ابن جرير حدثت عن عمار بن الحسن حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قال حدثني محدث أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم فكان يرى أنه البعير قال فلعن فسقطت قوائمه فصار حية قال الربيع وحدثني أبو العالية أن من الإبل ما كان ولها من الجن
(1/240)
---(53/240)
حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة حدثنا محمد بن اسحاق عن بعض أهل العلم أن آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة وما اعطاه الله منها قال لو أن لي خلدا فيها فاغتنم منه إبليس لما سمعها منه فأتاه من قبل الخلد
قال ابن اسحاق حدثت أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما أنه ناح عليهما نياحة حزنتهما حين سمعاها فقالا له ما يبكيك قال أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة فوقع ذلك في أنفسهما ثم أتاهما فوسوس إليهما فقال ) يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ( ) وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ( أي تكونا ملكين أو تخلدان إن لم تكونا ملكين في نعمة الجنة فلا تموتان قال الله تعالى ) فدلاهما بغرور ( قا ل ابن جرير حدثني يونس أنبأنا ابن وهب قال قال أبو زيد وسوس الشيطان إلى حواء في شجرة حتى أتى بها إليها ثم حسنها في عينها ثم حسنها في عين آدم قال فدعاها آدم لحاجة قالت لا إلا أن تأتي ههنا فلما أتى قالت لا إلا أن تأكل من هذه الشجرة فأكل منها فبدت لهما سوآتهما قال وذهب آدم هاربا في الجنة فناداه ربه يا آدم مني تفر قال لا يا رب ولكن حياء منك قال يا آدم أني أتيت قال من قبل حواء يا رب فقال تعالى فإن لها على أن أدميها في كل شهر مرة وأن أجعلها سفيهة فقد كنت خلقتها حليمة وأن أجعلها تحمل كرها وتضع كرها فقد كنت جعلتها تحمل يسرا وتضع يسرا قال أبو زيد ولولا البلية التي أصابت حواء لكان نساء الدنيا لا يحضن وكن حليمات وكن يحملن يسرا ويضعن يسرا فلما أكل آدم وحواء من الشجرة أخرجهما الله من الجنة وسلبهما كل ماكانا فيه من النعمة والكرامة وأهبطهما وعدويهما إبليس والحية فقال تعالى ) اهبطوا بعضكم لبعض عدو ( وهذا قول ابن عباس وابن مسعود في آخرين من الصحابة وغيرهم من التابعين في قوله تعالى ) اهبطوا بعضكم لبعض عدو ( لآدم وحواء(53/241)
(1/241)
---
وإبليس والحية قال ابن مسعود وابن عباس وأناس من اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلعن الحية وقطع قوائمها وتركها تمشي على بطنها وجعل رزقها في التراب
الاختلاف على جنة آدم
فصل اختلف المفسرون في الجنة التي ادخلها آدم هل هي في السماء أو في الأرض وإذا كانت في السماء هل هي جنة الخلد أو جنة أخرى فالجمهور على أنها هي التي في السماء وهي جنة المأوى لظاهر الآيات والأحاديث كقوله تعالى ) وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ( والألف واللام ليست للعموم ولا لمعهود لفظي وإنما تعود على معهود ذهني وهو المستقر شرعا من جنة المأوى وكقول موسى لآدم عليهما الصلاة والسلام اخرجتنا ونفسك من الجنة وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشجعي واسمه سعد بن طارق عن أبي حازم سلمة بن دينار عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل اخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم ورواه مسلم أيضا من حديث أبي مالك عن ربعي عن حذيفة وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة في الدلالة على أنها جنة المأوى وقال آخرون بل الجنة التي أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد لأنه كلف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة ولأنه نام فيها وأخرج منها ودخل عليه إبليس فيها وهذا مما ينافي أن تكون جنة المأوى وهذا القول محكي عن أبي بن كعب وعبد الله بن عباس ووهب ابن منبه وسفيان بن عيينة واختاره ابن قتيبة في المعارف والقاضي منذر ابن سعيد البلوطي في تفسيره وحكاه عن أبي حنيفة الإمام وأصحابه ونقله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي عن أبي القاسم وأبي مسلم الأصبهاني ونقله القرطبي في تفسيره عن المعتزلة والقدرية وحكى الخلاف في هذه المسألة أبو محمد بن حزم في الملل والنحل وأبو محمد بن عطية في تفسيره وأبو عيسى الرماني في تفسيره وحكى عن الجمهور الأول وأبو القاسم(53/242)
الراغب والقاضي
(1/242)
---
الماوردي في تفسيره فقال واختلف في الجنة التي أسكنها يعني آدم وحواء على قولين أحدهما إنها جنة الخلد والثاني أنها جنة أعدها الله تعالى لهما وجعلها دار ابتلاء وليست جنة الخلد التي جعلها
دار جزاء ومن قال بهذا القول اختلفوا على قولين أحدهما إنها في السماء لأنه أهبطهما منها وهذا قول الحسن والثاني أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار وهذا قول ابن يحيى وكان ذلك بعد أمر إبليس بالسجود لآدم والله أعلم بصواب ذلك هذا كلامه فقد تضمن كلامه حكاية ثلاثة أقوال وكلامه مشعر بالوقوف ولهذا حكى الرازي في تفسيره أربعة أقوال وجعل الوقف هو الرابع وحكى القول بأنها في السماء وليست جنة المأوى عن أبي علي الجبائي وقد أورد أصحاب القول الثاني سؤالا يحتاج مثله إلى جواب فقالوا لا شك أن الله تعالى طرد إبليس حين امتنع من السجود عن الحضرة الإلهية وأمره بالخروج عنها والهبوط منها وهذا الأمر ليس من الأوامر الشرعية بحيث يمكنه مخالفته وإنما هو أمر قدري لا يخالف ولا يمانع ولهذا قال ) فاخرج منها فإنك رجيم ( والضمير عائد إلى الجنة أو السماء أو المنزلة وأيا ما كان فمعلوم أنه ليس له الكون قدرا في المكان الذي طرد عنه وأبعد منه لا على سبيل الاستقرار ولا على المرور والاجتياز قالوا ومعلوم من سياقات القرآن أنه وسوس لآدم وخاطبه بقوله ) هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ( وبقوله ) ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة ( إلى قوله ) بغرور ( وهذا ظاهر في اجتماعه معهما في جنتهما وأجيبوا عن هذا بأنه لا يمتنع أن يجتمع بهما في الجنة على سبيل المرور لا على سبيل الاستقرار بها أو أنه وسوس لهما وهو على باب الجنة أو من تحت السماء وفي الثالثة نظر والله أعلم ومما احتج به أصحاب هذه المقالة ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في الزيادات عن هدبة ابن خالد عن حماد بن سلمة عن حميد(53/243)
عن الحسن البصري عن يحيى بن
(1/243)
---
ضمرة عن أبي بن كعب قال إن آدم لما احتضر اشتهى قطفا من عنب الجنة فانطلق بنوه ليطلبوه فلقيتهم الملائكة فقالوا أين تريدون يا بني آدم فقالوا إنا أبانا اشتهى قطفا من عنب الجنة فقالوا لهم ارجعوا فقد كفيتموه فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلى عليه جبريل عليه الصلاة والسلام والملائكة وبنوه خلف الملائكة ودفنوه وقالوا هذه سنتكم في موتاكم قالوا فلولا أن الوصول إلى الجنة التي كان فيها آدم التي
(1/244)
---(53/244)
اشتهى منها القطف ممكنا لما ذهبوا يتطلبون ذلك فدل على أنها في الأرض لا في السماء والله أعلم قالوا والاحتجاج بأن الألف واللام في قوله ) اسكن أنت وزوجك الجنة ( لم يتقدم معهود يعود عليه فهو المعهود الذهني مسلم ولكن هو ما دل عليه سياق الكلام فإن آدم عليه الصلاة والسلام خلق من الأرض ولم ينقل أنه رفع إلى السماء وخلق ليكون في الأرض وبها أعلم الرب سبحانه الملائكة حيث قال تعالى ) إني جاعل في الأرض خليفة ( قالوا وهذا كقوله تعالى ) إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ( فالألف واللام ليست للعموم ولم يتقدم معهود لفظي وانما هو المعهود الذهني الذي دل عليه الساق وهو البستان قالوا وذكر الهبوط لا يدل على النزول من السماء قال الله تعالى ) قيل يا نوح اهبط بسلام منا ( وإنما كان في السفينة حتى استقرت على الجودى ونضب الماء عن وجه الأرض أمر أن اهبط اليها هو ومن كان مباركا عليه وقال ) اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ( وقال تعالى ) وإن منها لما يهبط من خشية الله ( وهذا كثير في الأحاديث واللغة قالوا ولا مانع بل هو الواقع إن الجنة التي أسكنها الله آدم كانت مرتفعة على سائر بقاع الأرض ذات أشجار وثمار وظلال ونعيم ونضرة وسرور كما قال تعالى ) إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ( أي لا يذل باطنك بالجوع ولا ظاهرك بالعرى ) وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ( أي لا يمس باطنك حر الظمأ ولا ظاهرك حر الشمس ولهذا قرن بين هذا وهذا لما بينهما من المقابلة فلما كان منه ما كان من أكله من الشجرة التي نهى عنها أهبط إلى أرض الشقاء والتعب والسعي والنصب والكدوالنكد والابتلاء والاختبار والامتحان واختلاف السكان دينا وأخلاقا وأعمالا وتعودا وإرادات كما قال تعالى ) ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ( ولا يلزم من هذا أنهم كانوا في السماء كما قال تعالى ) وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ( ومعلوم أنهم كانوا(53/245)
(1/245)
---
في الأرض لم يكونوا في السماء
الاختلاف على شجرة ادم
فصل
واختلف المفسرون في الشجرة التي نهى آدم وحواء
عنها فقيل هي الكرم روى عن ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس والسدي ورواه عن ابن عباس وابن وابن مسعود وأناس من الأصحاب كذا قال السدي وتزعم يهود أنها الحنطة وهذا مروي عن ابن عباس والحسن البصري ووهب بن منبه وعطية الصوفي وأبي مالك ومحارب بن دثار وعبد الرحمن بن أبي ليلى قال وهب الحبة منها في الجنة ككلى البقر والخبز منه ألين من الزبد وأحلى من العسل وقال الثوري عن حصين عن أبي مالك هي النخلة وقال ابن جريج عن مجعد هي التينة وبه قال قتادة وابن جريج وقال أبو العالية كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي في الجنة حدث وقال أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن أبي الضحاك عن أبي هريرة سمعته يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها شجرة الخلد وكذا رواه أيضا عن غندر وحجاج عن شعبة رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة أيضا به قال غندر قلت لشعبة هي شجرة الخلد قال ليس فيها شك تفرد به احمد وهذا الخلاف قريب وقد أبهم الله تعالى ذكرها وتعيينها ولو كان في ذكرها مصلحة تعود إلينا لعينها لنا كما في غيرها
تعليق
فصل
بقي مما ينبه عليه في هذه القصة على سبيل الطرد وإن يكن من شرط كتابنا قوله تعالى ) وعلم آدم الأسماء كلها ( قال ابن عباس هي هذه الأسماء التي يتعارف الناس بها إنسان ودابة وأرض وسهل وجبل وبحر وجمل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها وقال مجاهد علمه اسم الصحفة والفدر حتى الفسوة والفسية وقال مجاهد علمه اسم
(1/246)
---(53/246)
كل دابة وكل طير وكل شيء وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة وغير واحد وقال الربيع علمه أسماء الملائكة وقال عبد الرحمن بن زيد علمه أسماء ذريته والصحيح أنه علمه أسماء الدواب وأفعالها مكبرها ومصغرها كما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنهما وذكر البخاري ههنا ما رواه هو ومسلم من طريق سعيد وهشام عن قتادة عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أب البشر خلقه الله بيد واسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فتعليمه أسماء كل شيء أحد التشريفات الأربع والثاني خلقه له بيده الكريمة والثالث نفخه فيه من روحه والرابع امر ملائكته له بالسجود وكذا قال له موسى لما تناظرا وكذا يقول له أهل المحشر والله أعلم الباب الخامس والعشرون بعد المائة في بيان تعرض الشيطان لحواء
قال الإمام احمد حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن ابراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره فهكذا رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم وأخرجه الحاكم في مستدركه كلهم من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث به قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الترمذي حسن غريب لانعرفه إلا من حديث عمر بن ابراهيم ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه فهذه علة قادحة في الحديث أنه روى موقوفا على الصحابي وهذا أشبه والظاهر أن هذا من الإسرائيليات وهكذا روى موقوفا على ابن عباس والظاهر أنه متلقى عن كعب وذويه وقد فسر الحسن قوله تعالى ) يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء (
(1/247)
---(53/247)
بخلاف هذا فلو كان عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه إلى غيره والله أعلم وأيضا فالله تعالى إنما خلق آدم وحواء ليكونا أصل البشر وليبث منهما رجالا كثيرا ونساء فكيف كانت حواء لا يعيش لها ولد كما ذكر في هذا الحديث إن كان مظنونا والمظنون بل المقطوع به رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خطأ والصواب وقفه والله أعلم وقد ذكر الإمام أبو جعفر محمد بن جرير في تاريخه إن حواء ولدت لآدم أربعين ولدا في عشرين بطنا قاله ابن اسحاق والله أعلم وقيل مائة وعشرين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى أو لهم قابيل واخته قليما وآخرهم عبد المغيث وأخته ام المغيث ثم انتشر الناس بعد ذلك وكثروا وامتدوا في الأرض ونموا وذكر أهل التاريخ أن آدم لم يمت حتى رأى من ذريته أولاده وأولاد أولاده أربعين ألف نسمة والله أعلم وقال تعالى ) هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ( إلى قوله ) فتعالى الله عما يشركون ( فهذا تنبيه بذكر آدم أولا ثم استطراد إلى الجنس وليس المراد بهذا ذكر آدم وحواء بل لما جرى ذكر الشخص استطرد إلى الجنس كما في قوله تعالى ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ( وقال تعالى ) ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين ( ومعلوم أن رجوم الشياطين ليست هي أعيان مصابيح السماء وإنما استطرد من شخصها إلى جنسها والله أعلم الباب السادس والعشرون بعد المائة في تعرضه لنوح عليه السلام في السفينة
قال أبو بكر بن عبيد حدثنا أبو عبد الله محمد بن موسى حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير حدثنا سالم ابن عبد الله عن أبيه قال لما ركب نوح السفينة رأى فيها شيخا لم يعرفه
(1/248)
---(53/248)
قال له نوح ما أدخلك قال دخلت لأصيب قلوب أصحابك فتكون قلوبهم معي وأبدانهم معك قال نوح اخرج يا عدو الله فقال خمس أهلك بهن الناس وسأحدثك منهن بثلاث ولا أحدثك باثنتين فأوحى إلى نوح لا حاجة بك إلى الثلاث مره يحدثك بالثنتين فإن بهما أهلك الناس وقال هما الحسد وبالحسد لعنت وجعلت شيطانا رجيما والحرص أباح لآدم الجنة كلها فأصبت حاجتي منه بالحرص قال ولقي إبليس موسى فقال يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وكلمك تكليما وأنا من خلق الله أذنيت فأنا أريد أن أتوب فاشفع لي عند ربك عز وجل أن يتوب على فدعا موسى ربه فقيل يا موسى قد قضيت حاجتك فلقي موسى إبليس فقال قد أمرت أن تسجد لقبر آدم ويتاب عليك فاستكبر وغضب وقال لم أسجد له حيا أأسجد له ميتا ثم قال إبليس يا موسى إن لك حقا بما شفعت لي ربك فاذكرني عند ثلاث ولأهلك إلا فيهن اذكرني حين تغضب فإن وحيي في قلبك وعيني في عينيك وأجرى منك مجرى الدم اذكرني حين تلقى الزحف فإني أتي ابن آدم حين يلقى الزحف فأذكره ولده وزوجته وأهله حتى يولي وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم فإنى رسولها إليك ورسولك إليها وقال ابن عبيد حدثني اسحاق بن اسماعيل حدثنا جرير عن الاعمش عن زياد بن الحصين عن أبي العالية قال لما رست السفينة سفينة نوح إذا هو بإبليس على كوثل السفينة فقال له نوح ويلك قد غرق اهل الأرض من أجلك قد أهلكتهم قال له إبليس فما أصنع قال له تتوب قال فسل ربك عز وجل هل لي من توبة فدعا نوح ربه فأوحى الله إليه أن توبته أن يسجد لقبر آدم فقال له نوح قد جعلت لك توبة قال وما هي قال أن تسجد لقبر آدم قال تركته حيا وأسجد له ميتا
(1/249)
---(53/249)
وحدثنا القاسم بن هاشم حدثنا أحمد بن يونس البزاز الحمصي حدثنا عبد الله بن وهب عن الليث قال بلغني لأن إبليس لقي نوحا عليه السلام فقال له إبليس يا نوح اتقي الحسد والشح فإني حسدت فخرجت من الجنة وشح آدم على شجرة واحدة منعها حتى خرج من الجنة وذكر بعضهم ويروى عن ابن عباس أن أول ما دخل السفينة من الطيور الدرة وآخر ما دخل من الحيوانات الحمار ودخل إبليس متعلقا بذنب الحمار والله تعالى أعلم
الباب السابع والعشرون بعد المائة في تعرضه لإبراهيم عليه السلام لما أراد ذبح ولده وفيه تعين الذبيح
(1/250)
---(53/250)
قال عبد الرازق أخبرني معمر عن الزهري في قوله تعالى ) إني أرى في المنام أني أذبحك ( قال أخبرني القاسم بن محمد أنه اجتمع أبو هريرة وكعب فجعل أبو هريرة يحدث كعبا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل كعب يحدث أبا هريرة عن الكتب فقال أبو هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فقال كعب أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال نعم قال فقال كعب فداء له أبي وأمي أفلا أخبرك عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لما رأى ذبح ولده اسحاق - صلى الله عليه وسلم - قال الشيطان إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا قال فخرج إبراهيم بابنه ليذبحه فذهب الشيطان فدخل على سارة فقال أين يذهب إبراهيم بابنك قالت ذهب به لحاجته قال فإنه لم يغد به لحاجة إنما ذهب به ليذبحه قالت ولم يذبحه قال يزعم أن ربه أمره بذلك قالت قد أحسن إن أطاع ربه فخرج الشيطان فقال لإسحاق أين يذهب بك أبوك قال لبعض حاجته قال إنه لم يذهب بك لحاجته ولكنه يذهب بك ليذبحك قال ولم يذبحني قال يزعم أن الله أمره بذلك قال فوالله إن كان الله أمره بذلك ليفعلن فتركه وذهب إلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فقال أين غدوت بابنك قال إلى حاجة قال فإنك لم تغد به لحاجة إنما غدوت به لتذبحه قال ولم أذبحه قال تزعم أن الله أمرك بذلك قال فوالله لئن أمرني بذلك لأفعلن فتركه ويئس أن يطاع فلما أسلما قال قتادة سلما الأمر لله وتله للجبين قال قتادة أضجعه للجبين وناداه ) أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم (
قال الزهري فأوحى الله إلى اسحاق أن ادع فلك دعوة مستجابة قال
معمر قال الزهري في غير حديث كعب قال رب أدعوك أن تستجيب لي أيما عبد من الأولين والآخرين لقيك لا يشرك بك شيئا أن تدخله الجنة
تعليق وبيان
فصل
(1/251)
---(53/251)
قول كعب لما رأى ابراهيم ذبح ولده اسحاق وقوله ذهب إلى سارة فقال أين يذهب إبراهيم بابنك يدل على أن الذبيح هو اسحاق وهو المروي عن عمر بن الخطاب والعباس بن عبد المطلب وعبد الله ابن مسعود وأنس بن مالك وابي هريرة واختلفت الرواية فيه عن علي ابن أبي طالب وقال به من التابعين غير كعب سعيد بن جبير ومجاهد والقاسم ابن بره ومسروق وقتادة وعكرمة ووهب بن منبه وعبيد بن عمير وعبد الرحمن بن زيد وأبو الهذيل والزهري والسدي وهو اختيار ابن احمد ابن حنبل وقال السهيلي لا شك هو اسحاق وقالت طائفة اخرى هو اسماعيل وهو المروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن المسيب والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وروى أيضا عن عمر بن عبد العزيز وأبي عمرو بن العلاء وقد بسطت الأدلة من الجانبين والأجوبة في كتابي المرسوم بقلادة النحر ضمنته تفسير سورة الكوثر الباب الثامن والعشرون بعد المائة في تعرضه لموسى عليه السلام
قال عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن عبد الاعلى الشيباني حدثنا فرج بن فضالة عن عبد الرحمن بن زياد بن انعم قال بينما موسى جالس في بعض مجالسه إذ أقبل إبليس وعليه برنس له يتلون فيه ألوانا فلما دنا منه خلع البرنس فوضعه ثم أتاه فقال له السلام عليك يا موسى قال له موسى من أنت قال إبليس قال فلا حياك الله ما جاء بك قال جئت لأسلم عليك لمنزلتك من الله ومكانتك منه قال ماذا الذي رأيت عليك قال به اختطف قلوب بني آدم قال فماذا إذا صنعه الإنسان استحوذت
(1/252)
---(53/252)
عليه قال إذا أعجبته نفسه واستكبر عمله ونسي ذنوبه وأحذرك ثلاثا لا تخل بامرأة لا تحل لك فإنه ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أفتنه بها ولا تعاهد الله عهداإلا وفيت به فإنه ما عاهد الله احد عهدا إلا وكنت صاحبه حتى أحول بينه وبين الوفاء به ولا تخرجن صدقة إلا أمضيتها فإنه ما أخرج رجل صدقة فلم يمضها إلا كنت دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء بها ثم ولى وهو يقول يا ويله ثلاثا علم موسى ما يحذر به بني ادم
حدثني القاسم بن هاشم عن إبراهيم بن الأشعث عن فضيل بن عياض قال حدثني بعض أشياخنا أن إبليس جاء إلى موسى وهو يناجي ربه عز وجل فقال له الملك ويلك ما ترجو منه وهو على ذلك الحال يناجي ربه قال أرجو منه ما رجوت من أبيه آدم وهو في الجنة وقد قدمنا في تعرض الشيطان لنوح عليه السلام قصة لإبليس مع موسى عليه السلام وأنه سأله الدعاء له بالتوبة وأن موسى دعا ربه فقيل يا موسى قد قضيت حاجتك وإن إبليس حذر موسى ثلاثا كما حذره هنا ثلاثا الباب التاسع والعشرون بعد المائة في تعرضه لذي الكفل عليه السلام
قال ابن أبي الدنيا حدثنا اسحاق بن اسماعيل حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث في ذي الكفل قال قال نبي من الأنبياء لمن معه هل منكم من يكفل لي لا يغضب ويكون معي في درجتي ويكون بعدي في قومي فقال شاب من القوم أنا ثم أعاد عليه فقال الشاب انا فلما مات قام الشاب بعده في مقامه فأتاء إبليس ليغضبه فقال الرجل اذهب معه فجاء فأخبره أنه لم ير شيئا ثم أتاه فأرسل معه آخر فجاء فقال لم أر شيئا ثم أتاه فأخذه بيده فانفلت منه فسمى ذا الكفل لأنه كفل ان لا يغضب
الباب الموفي ثلاثين بعد المائة في تعرضه لأيوب عليه السلام
(1/253)
---(53/253)
قال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أبي حدثنا موسى ابن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن الشيطان قال يا رب سلطني على أيوب قال الله تعالى قد سلطتك على ماله وولده ولم أسلطك على جسده فنزل وجمع جنوده فقال لهم قد سلطت على أيوب فأروني سلطانكم فصاروا نيرانا ثم صاروا ماء فبينما هم بالمشرق إذا هم بالمغرب وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق فأرسل طائفة منهم إلى زرعه وطائفة إلى إبله وطائفة إلى بقره وطائفة إلى غنمه وقال إنه لا يعتصم منكم إلا بالصبر فأتوه بالمصائب بعضها على بعض فجاء صاحب الزرع فقال يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على زرعك نارا فأحرقته ثم جاء صاحب الإبل فقال له يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل إلى إبلك عدوا فذهب بها ثم جاء صاحب الغنم فقال له يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على غنمك عدوا فذهب بها وتفرد هو لبنيه فجمعهم في بيت أكبرهم فبينما هم يأكلون ويشربون إذ هبت الريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم فجاء الشيطان إلى أيوب بصورة غلام في أذنيه قرطان قال يا أيوب ألم تر إلى ربك جمع بنيك في بيت أكبرهم فبينما هم يأكلون ويشربون إذ هبت ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم بطعامهم وشرابهم فقال أيوب له فأين كنت أنت قال كنت معهم قال وكيف انفلت قال انفلت قال ايوب أنت الشيطان ثم قال أيوب أنا اليوم كهيئتي يوم ولدتني أمي فقام فحلق رأسه ثم قام يصلي فرن إبليس رنة سمعها أهل السماء وأهل الأرض ثم قرح إلى السماء فقال أي رب إنه قد اعتصم فسلطني عليه فإني لا استطيعه إلا بسلطانك قال قد سلطتك على جسده ولم أسلطك على قلبه قال فنزل فنفخ تحت قدميه نفخة فرج ما بين قدميه إلى قرنه فصار قرحة واحدة وألقى على الرماد حتى بدا بطنه فكانت امرأته تسعى عليه حتى قالت له أما ترى يا أيوب
(1/254)
---(53/254)
قد والله نزل بي من الجهد والفافة ما إن بعت قروني برغيف فأطعمك أدع الله أن يشفيك قال ويحك كنا في النعماء سبعين عاما فاصبري حتى نكون في الضراء سبعين عاما فكان في البلاء سبع سنين وقال أبو بكر بن محمد حدثنا سوار بن عبد الله العنبري حدثنا معتمر بن سلمان عن ليث عن طلحة بن مصيرف قال قال إبليس ما أصبت من أيوب شيئا أفرح به إلا إني كنت إذا سمعت أنينه علمت أني قد أوجعته حدثنا فضيل ابن عبد الوهاب حدثنا أبو بكر بن عياش عن ابن وهب بن منبه عن أبيه قال قال إبليس لامرأة أيوب - صلى الله عليه وسلم - بم أصابكم ما أصابكم قالت بقدر الله تعالى قال فاتبعيني فأتبعته فأراها جميع ما ذهب منهم في واد فقال اسجدي لي وأرده عليكم فقالت إن لي زوجا أستأمره فاخبرت أيوب فقال أما آن لك أن تعلمي ذاك الشيطان لئن برئت لأضربنك مائة جلدة الباب الحادي والثلاثون بعد المائة في تعرضة ليحيى بن زكريا عليهما السلام
قال عبد الله بن محمد بن عبيد أخبرنا أحمد بن إبراهيم العنبري حدثنا محمد بن يزيد بن حنيش عن وهب بن الورد قال بلغنا أن الخبيث إبليس تبدى ليحيى بن زكريا فقال إني أريد أن أنصحك قال كذبت أنت لا تنصحني ولكن أخبرني عن بني آدم قال هم عندنا على ثلاثة أصناف أما صنف منهم فهم أشد الأصناف علينا نقبل عليه حتى نفتنه ونستكن منه ثم يتفرغ للاستغفار والتوبة فيفسد علينا كل شيء أدركنا منه ثم نعود له فيعود فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك منه حاجتنا فنحن من ذلك في عناء وأما الصنف الآخر فهم في أيدينا بمنزلة الكرة في أيدي صبيانكم نتلقفهم كيف شئنا قد كفونا أنفسهم وأما الصنف الآخر فهم مثلك معصومون لا نقدر منهم على شيء قال يحيى على ذلك هل قدرت مني على شيء قال لا إلا مرة واحدة فإنك قدمت طعاما تأكل فلم أزل أشهيه إليك حتى أكلت منه أكثر مما تريد فنمت تلك الليلة فلم تقم إلى الصلاة كما
(1/255)
---(53/255)
كنت تقوم إليها فقال له يحيى لا جرم لا شبعت من طعام أبدا قال له الحديث لاجرم لا نصحت نبيا بعدك وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني علي بن مسلم حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا ثابت البنائي قال بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا فرأى عليه معاليق من كل شيء فقال يحيى يا إبليس ما هذه المعاليق التي أرى عليك قال هذه الشهوات التي أصبت بهن ابن آدم قال فهل لي فيها من شيء قال ربما شبعت فنقلناك عن الصلاة ونقلناك عن الذكر قال فهل غير ذلك قال لا وقال لله على أن لا أملأ بطني من طعام أبدا قال إبليس ولله على أن لا أنصح مسلما أبدا لعنة الله عليه وقال ابن أبي الدنيا حدثنا محمد ابن يحيى المروزي حدثنا عبد الله بن خيبق قال لقي يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام إبليس في صورته فقال له يا إبليس أخبرني ما أحب الناس إليك وأبغض الناس إليك قال أحب الناس إلي المؤمن البخيل وأبغضهم إلي الفاسق السخي قال يحيى وكيف ذلك قال لأن البخيل قد كفاني بخله والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخاه فيقبله ثم ولى وهو يقول لولا أنك يحيى لم أخبرك والله أعلم الباب الثاني والثلاثون بعد المائة في لقيه عيسى ابن مريم عليهما السلام
قال أبو بكر محمد حدثنا الفضل بن موسى البصري حدثنا إبراهيم بن بشار قال سمعت سفيان بن عيينة يقول لقي عيسى ابن مريم إبليس فقال له إبليس أنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تكلمت في المهد صبيا ولم يتكلم فيه أحد قبلك قال بل الربوبية والعظمة للإله الذي أنطقني ثم يميتني ثم يحييني قال فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تحيي الموتى قال بل الربوبية لله الذي يميتني ويميت من أحييت ثم يحييني قال والله إنك لإله في السماء وإله في الأرض قال فصكه جبريل عليه الصلاة السلام بجناحه صكة فما تناهى دون قرن الشمس ثم صكه أخرى فما تناهى دون العين الحامية ثم صكه صكة فأدخله بحار
(1/256)
---(53/256)
السابعة فأساحه فيها حتى وجد طعم الحمأة فخرج منها وهو يقول ما لقي أحد من أحد ما لقيت منك يا ابن مريم
حدثنا اسحاق بن اسماعيل وعمرو بن محمد قالا حدثنا سفيان عن عمرو ابن دينار عن طاوس قال لقي الشيطان عيسى ابن مريم فقال يا ابن مريم إن كنت صادقا فارق على هذه الشاهقة فألق نفسك منها فقال ويلك ألم يقل الله يا ابن آدم لا تختبرني بهلاكك فإني أفعل ما أشاء
حدثني شريح بن يونس حدثنا علي بن ثابت عن خطاب بن القاسم عن أبي عثمان قال كان عيسى عليه الصلاة والسلام يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر قال نعم قال ألق نفسك من الجبل وقل قدر علي قال يا لعين الله يختبر العباد ليس للعباد أن يختبروا الله عز وجل حدثني الحسن بن عبد العزيز الجروي حدثنا ابن مسهر حدثنا سعيد بن عبد العزيز أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام نظر إلى إبليس فقال هذا ركون الدنيا إليها خرج وإياها سأل لا أشركه في شيء منها ولا حجر أضعه تحت رأسي ولا أكون فيها ضاحكا حتى أخرج منها حدثنا الحسن حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن أبي سلمة عن سعيد بن عبد العزيز عن ابن حليس قال قال عيسى عليه الصلاة والسلام إن الشيطان مع الدنيا ومكره مع المال وتزيينه عند الهوى واستمكانه عند الشهوات ورواه أيضا عن محمد بن إدريس عن حيوة بن شريح عن بقية بن الوليد عن سعيد بن عبد العزيز عن ابن حليس من قوله وتزيينه عند اللهو الباب الثالث والثلاثون بعد المائة في تعرضه للنبي - صلى الله عليه وسلم -
ثبت في صحيح مسلم عن أبي الدرداء قال قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فسمعناه يقول أعوذ بالله منك ثم قال ألعنك بلعنة الله وبسط يده ثلاثا كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا يا رسول الله
(1/257)
---(53/257)
قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أن آخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا فلعب به ولدان أهل المدينة وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الشيطان عرض لي فشد علي ليقطع الصلاة علي فأمكنني الله منه فذعته ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه فذكرت قول سليمان ) وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ( فرده الله خاسئا وقد روى النسائي على شرط البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وجدت برد لسانه على يدي ولولا دعوة سليمان لأصبح موثقا حتى يراه الناس ورواه أحمد وأبو داود من حديث ابي سعيد وفيه فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى برد لعابه أصبعي هاتين الإبهام والتي تليها
(1/258)
---(53/258)
قال الحسن بن شادان أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق حدثنا يحيى ابن جعفر أنبأنا ثابت حدثنا اسحاق بن منصور أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بي الشيطان فأخذته فخنقته حتى أنى لأجد برد لسانه على يدي فقال أوجعتني أوجعتني فتركته وقال أحمد بن الحسن بن الجعد حدثنا محمد ابن بكار حدثنا خديج حدثنا أبو اسحاق عن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقد مر علي الخبيث فأخذته فخنقته خنقا شديدا حتى قال أوجعتني وقال ابن أبي الدنيا حدثنا بشر بن الوليد حدثنا عثمان بن مطر عن ثابت عن أنس قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجدا بمكة فجاء إبليس فأراد أن يطأ عنقه فلفحه جبريل عليه الصلاة والسلام بجناحه لفحة فما استقرت قدماه حتى بلغ الأردن
(1/259)
---(53/259)
وروى مالك في الموطأ من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رأيت ليلة أسرى بي عفريتا من الجن يطلبني بشعلة نار كلما التفت رأيته فقال جبريل ألا أعلمك كلمات تقولهن فتطفئ شعلته ويخر لفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلى فقال جبريل قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارق يطرق بخير يا رحمن بين في الحديث الأول الاستعاذة من الشيطان ولعنه بلعنة الله ولم يستأخر بذلك فمد يده إليه وبين في الحديث الثاني أن مد اليد كان لخنقه لقوله عليه الصلاة والسلام دفعته وهذا دفع لعداوته بالفعل وفيه الخنق وبه اندفعت عداوته فرده الله خاسئا وأما الزيادة وهو ربطه إلى السارية وهو من باب التصرف الملكي الذي تركه لسليمان فإن نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان يتصرف في الجن كتصرفه في الإنس التصرف عبد رسول الله يأمرهم بعبادة الله تعالى وطاعته لا يتصرف لأمر يرجع إليه وهو التصرف الملكي فإنه كان عبدا رسولا وسليمان نبي ملك والعبد الرسول أفضل من النبي الملك كما أن السابقين المقربين أفضل من عموم الأبرار أصحاب اليمين والدليل على أن العبد الرسول أفضل من النبي الملك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض عليه أن يكون نبيا ملكا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا ولا يختار لنفسه إلا ما هو الأفضل في نفس الأمر وقوله فما زلت اخنقه حتى برد لعابه وقوله حتى وجدت برد لسانه على يدي فهذا فعله في الصلاة وهو مما احتج به العلماء على جواز مثل هذا في الصلاة وهو كدفع المار وقتل الأسودين والصلاة حالة المسابقة وقد تنازع العلماء في شيطان الجن إذا مر بين يدي المصلي هل يقطع الصلاة على قولين هما قولان في مذهب أحمد وقد تقدم هذا في الباب الذي عقدناه(53/260)
(1/260)
---
لهذه المسألة وبالله التوفيق
الباب الرابع والثلاثون بعد المائة في فرار الشيطان من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصرعه إياه
روى البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص قال استأذن عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده نسوة من قريش يكلمنه وفي رواية يسألنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته فلما نزل على رسول الله آية الحجاب أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر فدخل عمر مستأذنا والنبي يضحك فقال عمر أضحك الله سنك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يضحكك قال عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب قال عمر فأنت يا رسول الله أحق أن يهبن ثم قال عمر أي عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلن نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك
(1/261)
---(53/261)
وروى الترمذي والنسائي من حديث بريدة قال خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جويرية سودا فقالت إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال لها إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا فقالت نذرت فجلست تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها وقعدت عليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الشيطان ليخاف منك يا عمر أني كنت جالسا وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلت أنت يا عمر القت الدف وجلست عليه وروى الترمذي والنسائي أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا فسمعنا لغطا وصوت صبيان فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا حبشية تدفن والصبيان حولها فقال يا عائشة تعالي فانظري فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه
(1/262)
---(53/262)
فقال لي أما شبعت قالت فجعلت أقول لا لأنظر منزلتي عنده إذ طلع عمر قالت فانفض الناس عنها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر قالت فرجعت وقال ابن أبي الدنيا حدثنا علي بن الجعد قال أخبرني عكرمة بن عمار عن عاصم قال حدثني زر قالت سمعت عبد الله يقول خرج رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقي الشيطان فاشتجرا فاصطرعا فصرعه الذي من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال الشيطان أرسلني أحدثك حديثا عجيبا يعجبك قال فأرسله قال فحدثني قال لا قال فاتخذا الثانية فاصطرعا فصرعه الذي من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قال أرسلني فلأحدثك حديثا يعجبك فأرسله فأرسله فقال حدثني فقال لا قال فاتخذا الثالثة فصرعه الذي من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم جلس على صدره وأخذ بإبهامه يلوكها فقال أرسلني قال لا أرسلك حتى تحدثني قال سورة البقرة فإنه ليس منها آية تقرأ في وسط شياطين إلا تفرقوا ولا تقرأ في بيت فيدخل ذلك البيت شيطان قالوا يا أبا عبد الرحمن فمن ذلك الرجل قال فمن ترونه إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورواه أبو نعيم فقال حدثنا جعفر الصائغ حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بنحوه والله أعلم الباب الخامس والثلاثون بعد المائة في بيان لقي الشيطان حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة
قال ابن عبيد حدثني محمد بن الحسين حدثني قدامة بن محمد الخشرمي حدثني محمد بن حفص وكان من خيار أهل المدينة عن صفوان ابن سليم قال يتحدث أهل المدينة أن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل لقيه الشيطان وهو خارج من المسجد فقال تعرفني يا ابن حنظلة فقال نعم فقال من أنا قال أنت الشيطان قال فكيف علمت ذاك قال خرجت وأنا أذكر الله فلما بدأت أنظر إليك فشغلني النظر إليك عن
(1/263)
---(53/263)
ذكر الله فعلمت أنك الشيطان قال صدقت يا ابن حنظلة فاحفظ عني شيئا أعلمكه قال لا حاجة لي به قال تنظر فإن كان خيرا قبلت وإن كان شرا رددت يا ابن حنظلة لا تسأل أحدا غير الله سؤال رغبة وانظر كيف تكون إذا غضبت قلت غسيل الملائكة هو حنظلة بن أبي عامر واسم أبي عامر عمرو وقيل عبد عمرو بن صيفي استشهد يوم احد فروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال رأيت الملائكة تغسله في صحاف الفضة بماء المزن بين السماء والأرض قال ابن اسحاق فسألت امرأته فقالت كان جنبا فسمع الهاتف فخرج وامرأته هي جميلة بنت أبي بن سلول أخت عبد الله وكان ابتنى بها في تلك الليلة وكانت عروسا عنده فرأت في النوم تلك الليلة أن بابا في السماء قد فتح له فدخله ثم أغلق دونه قالت فعلمت أنه ميت من هذه فدعت رجالا حين أصبحت من قومها فأشهدتهم على الدخول بها خشية أن يكون في ذلك نزاع ذكره الواقدي وذكره غيره أنه التمس في القتلى فوجدوه يقطر رأسه ماء وليس بقربه ماء تصديقا لما قاله الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا دليل لما ذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إليه أن الشهيد إذا كان جنبا يغسل الباب السادس والثلاثون بعد المائة في بيان إغواء الشيطان قارون
قال أبو بكر القرشي حدثنا محمد بن إدريس حدثنا أحمد ابن أبي الحواري قال سمعت أبا سليمان وغيره قال تبدى إبليس لقارون قال وقد كان قارون أقام في جبل أربعين سنة يتعبد فيه قد فاق بني اسرائيل في العبادة قال فبعث إليه بشياطين له فلم يقدروا عليه فتبدى له فجعل يتعبد معه وجعل قارون يفطر وهو لا يفطر وجعل هو يظهر من العبادة ما لا يقوى عليها قارون قال فتواضع له قارون قال له إبليس قد رضيت بهذا يا قارون لا تشهد لبني إسرائيل جنازة ولا جماعة قال فأحذره من الجبل حتى أدخله البيعة قال فجعلوا يحملون إليهما الطعام قال فقال له قد رضينا بهذا صرنا كلا على بني إسرائيل قال فأي شيء الرأي
(1/264)
---(53/264)
قال نكسب يوما ونتعبد بقية الجمعة قال نعم ثم قال له بعد قد رضينا بد أن لا نتصدق ولا نفعل قال فأي شيء الرأي قال نكسب يوما ونتعبد يوما فلما فعل ذلك حبس عنه وتركه وفتحت على قارون الدنيا نعوذ بالله من الشيطان وشره الباب السابع والثلاثون بعد المائة في بيان حضور الشيطان مجمع قريش بدار الندوة للتشاور في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقبيحه آراءهم وتصويبه رأي أبي جهل
قال ابن اسحاق لما رأت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا سعة فحذروا خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا له في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خافوه فحدثني من لا أتهم من أصحابنا عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج وغيره ممن لا أتهم عن ابن عباس قال لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غدوا في اليوم الذي اتعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل عليه بت له فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا من الشيخ فقال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا أجل فادخل فدخل وقد اجتمع فيها أشراف قريش من بني عبد شمس عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب ومن بني نوفل بن عبد مناف طعيمة بن عدي وجبير بن مطعم والحارث ابن عمرو بن نوفل ومن بني عبد الدار بن قصي النضر بن الحارث بن كلدة ومن بني أسد بن عبد العزى أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم ابن حزام ومن بني مخزوم أبو جهل بن هشام ومن بني(53/265)
(1/265)
---
سهم نبيه ومنبه
ابنا الحجاج ومن بني جمح أمية بن خلف ومن كان منهم ومن غيرهم ممن لا يعد من قريش فقال بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم وأنا والله لا نأمن من الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا فاجمعوا به رأيا قال فتشاوروا ثم قال قائل منهم احبسوه في الحديد واغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما اصاب اشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهير والنابغة من مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم فقال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلا يوشك أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره فتشاوروا ثم قال قائل منهم نخرجه من بين ظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه أصلحنا أمرنا وآلهتنا كما كانت فقال الشيخ النجدي والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب فيغلب بذلك عليهم من قوله وحديثه حتى يبايعوه عليه ثم يسير بهم اليكم حتى يطأكم بهم فيخرج أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد فأروا فيه رأيا غير هذا قال فقال أبو جهل بن هشام والله إن لي لرأيا ما أراكم وقفتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا الحكم قال أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا نسيبا وسطا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلا تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم قال يقول الشيخ النجدي القول ما قال الرجل هذا الرأي لا أرى غيره فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له فأتى جبريل رسول الله - صلى الله(53/266)
عليه وسلم -
(1/266)
---
فقال لا تبيت الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه قال فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكانهم قال لعلي بن أبي طالب نم على فراشي وتوشح ببردي هذا
الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام في برده ذلك إذا نام فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب قال لما أجمعوا له وفيهم أبو جهل بن هشام فقال وهم على بابه إن محمدا يزعم أنكم إن بايعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم إن بعثتم من بعد موتكم جعلت لكم جنان كجنان الأردن وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم نارا تحرقون فيها قال وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال نعم أنا أقول ذلك أنت أحدهم وأخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات ) يس ( إلى ) فهم لا يبصرون ( ولم يبق رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا وانصرف إلى حيث أراد أن يذهب فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال وما تنتظرون ههنا قالوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - قال قد خيبكم الله قد والله خرج عليكم محمد - صلى الله عليه وسلم - وما ترك أحدا منكم إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته فما ترون ما بكم قال فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متشحا ببرد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقولون والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده فلم يزالوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا فكان مما أنزل الله تعالى من القرآن في ذلك ) وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ( وقول الله تعالى ) أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني(53/267)
معكم من المتربصين ( تعليق
(1/267)
---
وبيان
فصل
قد قدمنا في بيان طلوع قرن الشيطان من نجد المعنى الذي تمثل من اجله الشيطان في صورة شيخ نجدي وهو أن قريشا قالوا لا يدخل معهم في المشاورة أحد من أهل تهامة لأن هواهم مع محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يسم ابن اسحاق من المشيرون الذين أشاروا غير أبي جهل فقال ابن سلام الذي أشار بحبسه هو أبو البختري بن هشام والذي أشار بإخراجه ونفيه
هو أبو الأسود ربيعة بن عمير احد بني عامر بن لؤي وأما وقوفهم على بابه يتطلعون فيرون عليا وعليه برد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيظنونه إياه فلم يزالوا كذلك قياما حتى اصبحوا فذكر بعض أهل السير السبب المانع لهم من التقحم عليه في الدار مع قصر الجدار وأنهم إنما جاءوا لقتله فذكر في الخبر أنهم هموا بالولوج عليه فصاحت امرأة من الدار فقال بعضهم لبعض والله إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا إنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمنا فهذا الذي أقامهم في الباب حتى أصبحوا ينتظرون خروجه ثم طمست ابصارهم عنه حين خرج وفي قراءة الآيات من سورة يس من الفقه التذكرة بقراءة الخائفين لها اقتداء به - صلى الله عليه وسلم - وقد روى الحارث بن اسامة في مسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر في فضل يس أنها إن قرأها خائف أمن أو جائع شبع أو عار كسى أو عاطش سقى أو سقيم شفى حتى ذكر خلالا كثيرة والله أعلم الباب الثامن والثلاثون بعد المائة في بيان صراخ الشيطان من رأس العقبة وقت البيعة بيعة الرضوان
(1/268)
---(53/268)
قال ابن اسحاق بن عاصم حدثنا عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل قالوا نعم قال إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس فإن كنتم ترون إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا كذا استلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له مما دعوتموه إليه على نهب الأموال وقتل الاشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة قالوا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال الجنة قالوا ابسط يدك فبسط يده فبايعوه قال ابن اسحاق فبنوا النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد ابن زرارة كان أول من ضرب على يده وبنو عبد الاشهل تقول بل الهيثم
ابن النيهان قال ابن اسحاق وحدثني معبد بن كعب في حديثه عن أخيه عبد الله بن كعب عن أبيه كعب بن كعب بن مالك قال كان أول من ضرب على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البراء بن معرور
تعليق وبيان
(1/269)
---(53/269)
قلت وقد ذكرت ذلك في كتابي الموسوم بمحاسن الوسائل إلى معرفة الأوائل قال كعب فلما بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمعته قط يا أهل الحباحب هل لكم في مذمم والصبا معه قد اجتمعوا على حربكم قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا أزب العقبة هذا ابن أزنب قال ابن هشام ويقال ابن أزيب أتسمع أي عدو الله لأفرغن لك قال ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارفضوا إلى رحالكم قال فقال له العباس بن عبادة ابن نضلة والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم فإن رجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت عليه جلة من قريش حتى جاءونا في منازلنا فقالوا يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم قال فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه قال وصدقوا لم يعلموا قال وبعضنا ينظر إلى بعض قال ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان له جديدان قال فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا يا ابا جابر أما نستطيع أن نتخذ وأنت سيد من ساداتنا ثم نعلي هذا الفتى من قريش قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلى وقال والله لينتعلهما قال يقول جابر مه أحفظت والله الفتى فأردد إليه نعليه قال قلت والله لا أردهما فأل والله صالح والله لئن صدق الفأل لأسلبنه
قال ابن اسحاق وحدثني عبد الله بن أبي بكر انهم اتوا عبد الله
(1/270)
---(53/270)
ابن أبي بن ساول فقالوا له مثل ما ذكر كعب من القول فقال لهم والله ان هذا الأمر جسيم ما كان قومي ليفتاتوا على بمثل هذا وما علمته كان فانصرفوا عنه قال وتفرق الناس مني فتصنت القوم الخبر فوجدوه قد كان وخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بإذاخر والمنذر بن عمر وأخا بني ساعدة وكلاهما قد كانا تغيبا فأما المنذر فأعجز القوم وأما سعد فأخذوه وربطوا يديه إلى عنقه بشسع رحله ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بحمته ولم يزل يعذب في الله حتى نما الخبر على يد ابي البختري بن هشام إلى جبر ابن مطعم والحارث بن حرب بن أمية وكان بينه وبينهما جوار وكان يجير لهما تجارتهما ويمنعهما أن يظلما ببلده قال فجاء فخلصا سعدا من أيديهم فانطلق وروى أبو الأشهب عن الحسن قال لما بويع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى صرخ الشيطان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا أبو لبينى قد أنذر بكم فتفرقوا
تعليق وبيان
فصل
(1/271)
---(53/271)
قوله بأنفذ صوت هذا هو الصحيح وقيده أبو بحر عن أبي الوليد بأبعد صوت والجباجب يعني منازل منى قال السهيلي وأصله أن الأوعية من الأدم كالزنبيل ونحوه يسمى جبجبة فجعل الخيام والمنازل لأهلها كالأوعية وأزب العقبة كذا تقيد في هذا الموضع وقال ابن ماكولا أم كرز بنت الأزب بن عمرو بن بكيل من همدان جدة أم العباس أمه عقيلة وقال لا يعرف الأزب في الأسماء إلا هذا وإزب العقبة وهو اسم شيطان قال السهيلي ووقع في غزوة أحد إزب العقبة بكسر الهمزة وسكون الزاي وفي حديث ابن الزبير ما يشهد له حين رأى رجلا على برذعة رحله طوله شبر فقال ما أنت قال إزب قال وما إزب قال رجل فضربه على رأسه بعود السوط حتى باض أي هرب وقال يعقوب في الألفاظ الإزب القصير وحديث ابن الزبير ذكره القتبي في الغريب فالله أعلم أي الضبطين أصح وقال السهيلي في يوم احد الله أعلم هل الأزب أو الإزب شيطان واحد أو اثنان وابن أزيب في رواية ابن هشام يجوز أن يكون فعيلا من الإزب والأزيب والبخيل وأزيب
اسم ريح من الرياح الأربع والأزيب الفزع أيضا والأزيب الرجل المتقارب المشي وهو على وزن أفعل قاله صاحب العين ويحتمل أن يكون ابن أزيب من هذا أيضا وأما البخيل فأزيب على وزن فعيل لأن يعقوب حكى في الألفاظ أمرأ أزيبة ولو كان على وزن أفعل في المذكر لكان في المؤنث على وزن زيباء إلا أن فعيلا في أبنية الأسماء عزيز وقد قالوا في ضهياء وهي التي لا تحيض من النساء فعلى وجعلوا الهمزة زائدة
(1/272)
---(53/272)
قال السهيلي وهي عندي فعيل لأن الهمزة في قراءة عاصم لام الفعل في قوله عز وجل ) يضاهئون ( والضهيا من هذا لأنها تضاهي الرجل أي تشبهه ويقال فيه ضهياء بالمد فلا إشكال أنها للتأنيث على لغة من قال ضاهيت بالياء وقد يجوز أن تكون أزيب وأزيبة مثل أرمل وأرملة فلا يكون فعيلا وقوله وكان عليه نعلان جديدان النعل مؤنثة ولا يقال جديدة في الفصيح من الكلام وإنما يقال ملحفة جديد لأنها في معنى مجدودة أي مقطوعة فهي من باب كف خضيب وامرأة قتيل قال سيبويه ومن قال جديدة فإنما أراد معنى حديثة أي بمعنى حادثة وكل فعيل بمعنى فاعل تدخله التاء في المؤنث والله أعلم الباب التاسع والثلاثون بعد المائة في بيان حضور الشيطان وقعة بدر
قال الله تعالى ) وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ( قال ابن اسحاق حدثني محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله ابن أبي بكر ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا عن ابن عباس كل قد حدثني بعض الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر قال لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين اليهم وقال هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا
(1/273)
---(53/273)
إليها لعل الله ينفلكموها فانتدب المسلمون فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقي حربا وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من يلقى من الركبان حتى قيل له إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد استنفر أصحابه لك وأميرك فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشا ويستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد عرض لها في أصحابه فخرج ضمضم سريعا إلى مكة فصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره وقد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه يقول يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث فتجهز الناس سراعا فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا وأوعيت قريس فلم يتخلف من أشرافها أحد الا أبو لهب بن عبد المطلب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه أفلس بها فاستأجره على أن يجري عنه بعثه وتخلف أبو لهب قال ابن اسحاق وحدثني عبد الله بن أبي نجيح بن أمية بن خلف وقد أجمع على القعود وكان شيخا جليلا ثقيلا فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد في قومه بمجمرة يحملها فيها نار وهجم حتى وضعها بين يديه ثم قال له يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء فقال قبحك الله وقبح ما جئت به قال ابن اسحاق ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا السير ذكروا ماكان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة بن الحارث فقالوا إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جشم الكناني المدلجي وكان من أشراف بني كنانة فقال أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا وذكر ابن عقبة وابن عائذ في هذا الخبر وأقبل المشركون ومعهم إبليس في صورة سراقة فحدثهم أن بني كنانة(53/274)
(1/274)
---
وراءهم قد أقبلوا لنصرهم وأنه لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم قال ابن اسحاق وعمير بن وهب والحارث بن هشام هو الذي راى إبليس حين نكص على عقبيه عند نزول الملائكة وقال ) إني أرى ما لا ترون ( فلم يزل حتى أوردهم ثم أسلمهم ففي ذلك يقول حسان
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم
لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
دلاهما بغرور ثم أسلمهم
إن الخبيث لمن والاه غرار
وذكر غير ابن اسحاق أن الحارث بن هشام تشبث بإبليس وهو يرى أنه سراقة بن مالك فقال إلى أين يا سراق أين تفر فلكمه لكمة طرحه على قفاه ثم قال ) إني أخاف الله رب العالمين ( قال السهيلي ويروى أنهم رأوا سراقة بمكة بعد ذلك فقالوا له يا سراقة أخرمت الصف وأوقعت فينا الهزيمة فقال والله ماعلمت بشيء من أمركم حتى كانت هزيمتكم وما شهدت وما علمت فما صدقوه حتى أسلموا وسمعوا ما أنزل الله فيه فعلموا أنه كان إبليس تمثل لهم وقول اللعين ) إني أخاف الله ( لأن الكافر لا يخاف الله إلا أنه لما رأى جنود الله تنزل من السماء فخاف أن يكون اليوم الموعد الذي قال الله سبحانه فيه ) يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ( وقبل أيضا إنما خاف أن تدركه الملائكة لما رأى من فعلها بحزبه الكافرين وذكر قاسم بن ثابت في الدلائل أن قريشا حين توجهت إلى بدر مر هاتف من الجن على مكة في اليوم الذي أوقع بهم المسلمون وهو ينشد بأنفذ صوت ولا يرى شخصه
أزار الحنيفيون بدرا وقيعة
سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أبادت رجالا من لؤي وأبرزت
خرائد يضربن الترائب حسرا
فياويح من أمسى عدو محمد
لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا
(1/275)
---(53/275)
فقال قائلهم من الحنيفيون فقالوا هو محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يزعمون أنهم على دين إبراهيم الحنيف ثم لم يلبثوا أن جاءهم الخبر اليقين وقد بوبنا على هذه الأبيات فيما تقدم لمناسبة ذلك الموضع بالأخبار واعدناها في هذا الباب لتعلقها بقصة بدر وليس الغرض ها هنا إلا ذكر إبليس وتبديه لقريش دون سياق الغزوة بكمالها إذ ليس موضوع هذا الكتاب إلا ذكر الجن والشياطين بقي مما يتعرض إلى ذكره قوله تعالى ) وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان (
قال السهيلي كان العدو قد أحرزوا الماء دون المسلمين وحفروا القلب لأنفسهم وكان المسلمون قد أحدثوا واجنب بعضهم وهم لا يصلون
إلى الماء فوسوس الشيطان لهم أو لبعضهم وقال تزعمون أنكم على الحق وقد سبقكم أعداؤكم إلى الماء وأنتم عطاش وتصلون بلا وضوء وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم وتذهب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاءوا فأرسل الله السماء فحلت عزاليها فتطهروا ورووا وتلبدت الأرض لأقدامهم وكانت رمالا وسبخات فتثبتت فيها أقدامهم وذهب عنهم رجز الشيطان ثم نهضوا إلى أعدائهم وحازوا القلب التي كانت للعدو فعطش الكفار وجاء النصر من عند الله وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من البطحاء ورماهم بها فملأ عيون جميع العسكر فذلك قوله تعالى ) وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ( والله الهادي للحق الباب الموفي اربعين بعد المائة في بيان صراخ الشيطان يوم أحد
(1/276)
---(53/276)
قال محمد بن سعد لما رجع من حضر بدرا من المشركين إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان بن حرب موقوفة في دار الندوة فمشت اشراف قريش إلى أبي سفيان وقالوا نحن طيبو الأنفس أن تجهزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو سفيان فأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف فباعوها فصارت ذهبا وكانت الف بعير وخمسين ألف دينار فسلم إلى أهل العير رؤوس أموالهم وأخرجوا أرباحهم وكانوا يربحون في تجارتهم لكل دينار دينارا قال ابن اسحاق ففيهم كما ذكر لي أنزل الله تعالى ) إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ( إلى قوله ) يحشرون ( فاجتمعت قريش لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحابيشها ومن اطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة
(1/277)
---(53/277)
قال ابن سعد وكتب العباس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبرهم كله فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن الربيع بكتاب العباس قال ابن اسحاق وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ألف من أصحابه حتى إذا كانوا بالسوط بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس وتعبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقتال وهو في سبعمائة رجل وتعبأت قريش وهي في ثلاثة آلاف رجل ومعهم مائتا فرس قال ابن عقبة وليس في المسلمين فرس واحد وقال الواقدي لم يكن مع المسلمين يوم أحد من الخيل إلا فرس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفرس لأبي بردة قال ابن اسحاق وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يأخذ هذا السيف بحقه فقام إليه رجال فأمسكه عنهم ثم قام أبو دجانة سماك بن حرب فقال وما حقه يا رسول الله قال أن تضرب به حتى ينحني قال أنا آخذه بحقه فأعطاه إياه وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب إذا كانت وحين رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبختر قال إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا اليوم وقال ابن هشام حدثني غير واحد أن الزبير بن العوام قال وجدت في نفسي حين سألت السيف فمنعته واعطاه أبا دجانة فقلت والله لأنظرن ما يصنع فاتبعته فأخذ عصابة له حمراء فعصب رأسه فقالت الأنصار أخرج أبو دجانة عصابة الموت وهكذا كان يقول إذا عصب بها فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله قال ابن اسحاق وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قتل وكان الذي قتله ابن قميئة الليثي وهو يظنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع إلى قريش فقال قتلت محمدا - صلى الله عليه وسلم - فلما قتل مصعب أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراية عليا وقال ابن سعد قتل مصعب فأخذ اللواء ملك في صورة مصعب وحضرت الملائكة الهزيمة لا شك فيها قال وصرخ صارخ يعني لما قتل مصعب بن عمير ألا إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد(53/278)
(1/278)
---
قتل قال الراوي فانكفأنا وانكفأ القوم علينا بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنوا منه أحد من القوم قال ابن سعد فلما قتل أصحاب اللواء انكشف المشركون منهزمين لا يلوون ونساؤهم يدعون بالويل وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث ساروا وثبت أمير الرماة عبد الله بن جبير في نفر يسير
دون العشرة مكانه وانطلق باقي الرماة يتبعون العسكر وحمل خالد بن الوليد وتبعة عكرمة بن أبي جهل وحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم وقتلوا أميرهم عبد الله بن جبير وانتفضت صفوف المسلمين ونادى إبليس أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد قتل واختلط المسلمون فصاروا يقتلون على غير شعار وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمي عن قوسه حتى صار شظايا ويرمي بالحجر وثبت معه عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلا سبعة من المهاجرين فيهم أبو بكر الصديق وسبعة من الأنصار حتى تحاجزوا وروى البخاري لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اثني عشر رجلا قال أبو طلحة وكان يوم بلاء وتمحيص أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة من المسلمين حتى خلص العدو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن اسحاق فحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال كسرت رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وشج وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه فجعل يمسح الدم ويقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم فأنزل الله تعالى ) ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ( وذكر ابن اسحاق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع الصارخ يصرخ بقتله هو إزب العقبة هكذا قيد في هذا الموضوع بكسر الهمزة وإسكان الزاي وقد تقدم الكلام عليه
(1/279)
---(53/279)
قال السهيلي ويقال للموضع الذي صرخ منه الشيطان جبل عينين ولذلك قيل لعثمان أفررت يوم عينين وعينان أيضا بلد عند الجيزة وبه عرف خليد بن عينين الشاعر قال ابن هشام ووقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أصيب في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر فأخذ علي ابن أبي طالب بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما ومص مالك بن سنان الخدري والد أبي سعيد الدم من وجهه ثم أزدرد دمه - صلى الله عليه وسلم - وعن عيسى بن صلحة عن عائشة رضي الله عنها عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن أبا عبيدة بن الجراح نزع إحدى الحلقتين من وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسقطت ثنيته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى فكان ساقط الثنيتين قال ابن اسحاق وكان أول من عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الهزيمة وقول
الناس قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر ابن شهاب الزهري كعب بن مالك قال عرفت عينيه يزهران من تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار إليه - صلى الله عليه وسلم - أن اسكت فلما عرف المسلمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب ومعه أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث بن الصمة فلما انتهوا إلى فم الشعب خرج علي حتى ملأ درقته من المهراس فجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشرب مه فوجد له ريحا فعافه ولم يشرب منه وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه وهو يقول اشتد غضب الله على من أدمى على وجه نبيه وذكر عمر مولى غفرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التي أصابته وصلى المسلمون خلفه قعودا ولما أنصرف أبو سفيان وأصحابه نادى أن موعدكم بدر للعام القابل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل من أصحابه نعم هو بيننا وبينكم موعد
تعليق وبيان
(1/280)(53/280)
---
قلت غزوة أحد في شوال في السنة الثالثة من الهجرة النبوية وأما غزوة بدر الموعد ففي ذي القعدة في السنة الرابعة وهي الغزوة الصغرى من غزوات بدر وهي ثلاث
الأولى في ربيع الأول في السنة الثانية وتعرف بغزوة طلب كرز ابن جابر وكان أغار على سرح النبي - صلى الله عليه وسلم -
والثانية وهي العظمى في شهر رمضان في السنة الثانية أيضا
والثالثة هي الصغرى المذكورة نقل ذلك شيخنا العلامة أبو الحسن المارديني الحنفي في مختصر السيرة رضي الله عنه
خاتمة في التحذر من فتن الشيطان ومكائده
(1/281)
---(53/281)
قال ابو الفرج بن الجوزي رحمه الله أعلم أن الآدمي لما خلق ركب فيه الهوى والشهوة ليجتلب بذلك ما ينفعه ووضع فيه الغضب لتدفع به ما يؤذيه واعطى العقل كالمؤدب يأمره بالعدل فيما يجتلب ويجتنب وخلق الشيطان محرضا له على الإسراف في اجتلابه واجتنابه فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم وقد بذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم وقد أمر الله بالحذر منه فقال تعالى ) ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء ( الآية وقال تعالى ) الشيطان يعدكم الفقر ( الآية وقال تعالى ) ويريد الشيطان أن يضلهم ( الآية وقال تعالى ) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء ( الآية وقال تعالى ) إنه عدو مضل مبين ( وقال تعالى ) إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ( وروى الإمام أحمد من حديث عياض بن حماد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب ذات يوم فقال في خطبته إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا كل مال نحلته عبادي حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ثم إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال عبد الله بن احمد حدثني علي بن مسلم حدثنا سيارة حدثنا حيان الجريري حدثنا سويد القتادي عن قتادة قال إن لإبليس شيطانا يقال له قبقب يجمه أربعين سنة فإذا دخل الغلام في هذا الطريق قال له دونك إنما كنت أجمك لمثل هذا أجلب عليه وأفتنه وقال أبو بكر بن محمد سمعت سعيد ابن سليمان يحدث عن المبارك بن فضالة عن الحسن قال كانت شجرة تعبد من دون الله فجاء إنسان إليها فقال لأقطعن هذه الشحرة فجاء ليقطعها غضبا لله فلقيه الشيطان في صورة إنسان فقال ما تريد قال أريد أن أقطع هذه التي تعبد من دون الله قال إذا أنت لم(53/282)
(1/282)
---
تعبدها فما يضرك من عبدها قال لأقطعنها فقال له الشيطان هل لك فيما هو خير لك لا تقطعها
ولك ديناران كل يوم إذا أصبحت عند وسادتك قال فمن لي بذلك قال أنا لك فرجع فأصبح فوجد دينارين عند وسادته ثم أصبح فلم يجد شيئا فقام غضبا ليقطعها فتمثل له الشيطان في صورته فقال ما تريد قال أريد قطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله قال كذبت ما لك إلى ذلك سبيل فذهب ليقطعها فضرب به الأرض وخنقه حتى كاد يقتله قال أتدري من أنا أنا الشيطان جئت أول مرة غضبا لله فلم يكن لي سبيل فخدعتك بالدينارين فتركتها فلما جئت غضبا للدينارين سلطت عليك
خاتمة صالحة
وهي خاتمة الكتاب
وإذا انتهى الكلام بنا إلى هنا فلنعوذ أنفسنا بما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ به الحسن والحسين وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين فيقول أعيذكما بكلمة الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ثم يقول هكذا كان إبراهيم يعوذ اسماعيل واسحاق
قال أبو بكر الأنباري الهامة واحد الهوام ويقال هي كل نسمة تهتم لسوء واللامة الملمة وإنما قال لامة ليوافق لفظ هامة فتكون بذلك أخف على اللسان فنعوذ بالله من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلما تسليما كثيرا وحسبنا الله ونعم الوكيل
(1/283)
---(53/283)
هواتف الجنان لابن أبي الدنيا بسم الله الرحمن الرحيم(54/1)
1 - قال أبو بكر بن أبي الدنيا رحمه الله تعالى : حدثنا أبو خيثمة بن حرب ، حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني ، حدثنا معمر ، عن ، الزهري ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث قال : « بينا أنا أمشي ، إذ سمعت صوتا في السماء ، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعبا ، فرجعت فقلت : زملوني (1) زملوني فدثروني (2) فأنزل الله تعالى ( يا أيها المدثر (3) ) إلى قوله ( والرجز فاهجر » (4) ) «
__________
(1) زملوني : غطوني ولفوني
(2) دثَّره : غطاه
(3) سورة : المدثر آية رقم : 1
(4) سورة : المدثر آية رقم : 5(54/2)
2 - حدثنا خالد بن خداش ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرنا يونس عن ابن شهاب ، حدثني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، ما أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟ قال : « لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل فلم يجبني فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلما كنت بموضع كذا رفعت رأسي فإذا أنا قد أظلتني سحابة فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال : إن الله عز وجل قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال : يا محمد إن الله عز وجل قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت إن شئت أطبق عليهم الأخشبين (1) » فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا شريك له »
__________
(1) الأخشبان : الجبلان المُطِيفان بمكة ، وهما أبو قُبَيْس والأحمر ، سُمِّيا بذلك لصلابتهما وغلظ حجارتهما(54/3)
3 - حدثنا بندار بن بشار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا جعفر بن عبد الله القرشي ، أخبرني عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة بن الزبير ، عن أبي ذر الغفاري قال : قلت : يا رسول الله ، كيف علمت أنك نبي ؟ وبما علمت حتى استيقنت ؟ فقال : « يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببطحاء مكة فوقع أحدهما بالأرض وكان الآخر بين السماء والأرض فقال أحدهما لصاحبه : أهو هو ؟ قال : هو هو قال : فزنه برجل قال : فوزنني برجل فرجحته ثم قال : زنه بعشرة فوزنني بعشرة فرجحتهم ثم قال : زنه بمائة ، فوزنني بمائة فرجحتهم حتى جعلوا ينتثرون علي من كفة الميزان فقال أحدهما لصاحبه : شق بطنه فشق بطني فأخرج قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما فقال أحدهما لصاحبه : اغسل بطنه غسل الإناء واغسل قلبه غسل الملاء ثم قال أحدهما لصاحبه : خط بطنه فخاط بطني وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن ووليا عني فكأني أعاين الأمر معاينة »(54/4)
4 - حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، أنه حدث عن ابن عباس قال : حدثني رجل من بني غفار قال : أقبلت وابن عم لي حتى صعدنا على جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان لننظر للوفود على من تكون الدائرة فننتهب مع من ينتهب فبينا نحن في الجبل إذ دانت مثل السحابة فسمعنا فيها مثل حمحمة (1) الخيل ، سمعت قائلا يقول : أقدم حيزوم ، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت
__________
(1) الحمحمة : صوت الفرس دون الصهيل(54/5)
5 - حدثني أبي ، أخبرنا عمار أبو اليقظان عن سعد بن طريف ، عن أبي جعفر ، قال : نادى مناد يوم بدر يقال له رضوان ، « لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي »(54/6)
6 - حدثنا محمد بن بكار ، ثنا الوليد بن أبي ثور الهمداني ، ثنا السدي ، عن عباد بن أبي يزيد ، عن علي بن أبي طالب قال : « كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها خارجا من مكة بين الجبال والشجر فلم نمر بشجر ولا جبل إلا قال : السلام عليك يا رسول الله »(54/7)
7 - حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : « لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه فقالت : والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه أو نغسله وعليه ثيابه فلما اختلفوا ألقى الله عز وجل عليهم النوم حتى ما فيهم رجل إلا وذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه بصنبور الماء فوق القميص ويدلكونه والقميص دون أيديهم وكانت عائشة تقول : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه »(54/8)
8 - حدثني محمد بن صالح القرشي حدثني محمد بن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن حسين ، عن علي بن أبي طالب قال : « لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء آت يسمع حسه ولا يرى شخصه فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، إن في الله عز وجل عوضا عن كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل ما فات فبالله تعالى فثقوا وإياه فارجوا فإن المحروم من حرم الثواب والسلام عليكم »(54/9)
9 - حدثني الحسين بن يحيى الدعاء جار أبي همام ، حدثنا حازم بن جبلة ، عن أبي نضرة العبدي ، عن خارجة بن مصعب ، عن زيد بن أسلم ، عن سويد بن غفلة ، عن علي بن أبي طالب قال : « لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوتا ولا يرون شخصا : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته والسلام عليكم أهل البيت فردوا عليه فقال ( كل نفس ذائقة الموت (1) ) الآية إن في الله عز وجل خلفا من كل هالك وعزاء من كل مصيبة ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب »
__________
(1) سورة : آل عمران آية رقم : 185(54/10)
10 - حدثني إسماعيل بن أبي محمد بن بسام ، حدثني صالح المري ، عن أبي حازم المديني ، قال : « لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المهاجرون فوجا فوجا يصلون ويخرجون ثم دخلت الأنصار فوجا فوجا فيصلون ويخرجون ثم دخل أهل بيته حتى إذا فرغت الرجال دخلت النساء فكان فيهن صوت وجزع (1) كبعض ما يكون منهن فسمعن هدة في البيت فسكتن فسمعن قائلا يقول ولا يرين شيئا : في الله عز وجل عزاء من كل هالك وعوض من كل مصيبة وخلف من كل ما فات فالمحبور من حبره الثواب والمصاب من لم يحبره الثواب »
__________
(1) الجزع : الخوف والفزع وعدم الصبر والحزن(54/11)
11 - حدثنا خالد بن خداش ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عبد الله بن المختار ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مر بي جعفر الليلة يطير مع الملائكة له جناحان ، أبيض القوادم مضرج بالدماء » حدثنا خالد بن خداش ، حدثنا إسحاق بن الفرات ، بإسناد له نحوه وزاد فيه : « يبشرون أهل بيته بالمطر »(54/12)
12 - حدثنا خالد بن خداش ، حدثنا مهدي بن ميمون ، عن واصل ، مولى أبي عيينة ، عن لقيط ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى قال : « خرجنا غازين في البحر فبينما نحن والريح لنا طيبة والشراع لنا مرفوع إذ سمعنا مناديا ينادي يا أهل السفينة قفوا أخبركم حتى والى بين سبعة أصوات قال : فقام أبو موسى على صدر السفينة فقال : من أنت ؟ وإلى أين أنت ؟ ألا ترى أين نحن ؟ وهل تستطيع وقوفا ؟ فأجابه الصوت فقال : ألا أخبركم بقضاء قضاه الله عز وجل على نفسه ؟ فقال : بلى ، قال : إن الله عز وجل قضى على نفسه أنه من عطش نفسه لله عز وجل في يوم حار كان حقا على الله عز وجل أن يرويه يوم القيامة » قال : فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر الذي يكاد الإنسان فيه أن ينسلخ حرا فيصومه(54/13)
13 - حدثنا عيسى بن عبد الله التميمي ، أخبرني فهير بن زياد الأسدي ، عن موسى بن وردان ، عن الكلبي ، وليس بصاحب التفسير ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك ، قال : « كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكنى أبا معلق ، وكان تاجرا يتجر بماله ولغيره يضرب به في الآفاق وكان يزن بسداد وورع فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح فقال له : ضع ما معك فإني قاتلك قال : ما تريد إلى دمي ؟ شأنك بالمال فقال : أما المال فلي ولست أريد إلا دمك قال : أما إذا أبيت (1) فذرني أصلي أربع ركعات قال : صل ما بدا لك قال : فتوضأ ثم صلى أربع ركعات فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال : يا ودود ، يا ذا العرش المجيد ، يا فعال لما يريد ، أسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص ، يا مغيث ، أغثني ، يا مغيث ، أغثني ، ثلاث مرار قال : دعا بها ثلاث مرات فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة (2) واضعها بين أذني فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله ثم أقبل إليه فقال : قم قال : من أنت بأبي أنت وأمي ؟ فقد أغاثني الله بك اليوم قال : أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي : دعاء مكروب فسألت الله تعالى أن يوليني قتله » قال أنس : فاعلم أنه من توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروبا كان أو غير مكروب
__________
(1) أبى : رفض وامتنع
(2) الحربة : أداة قتال أصغر من الرمح ولها نصل عريض(54/14)
14 - حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله : « بينا رجل ممن كان قبلكم في أرض يشقها إذ مرت به عثانة (1) فسمع فيها صوتا : اذهبي إلى أرض فلان فاسقيه فخرج الرجل يمشي في ظلها حتى انتهى إلى أرض الرجل وقد تفقأت في نواحيها وهو قائم يسيل الماء فيها فقال له : أي شيء تصنع في أرضك ؟ قال : إذا أدرك الزرع قسمته ثلاثة أثلاث فرددت في الأرض ثلثا وتصدقت بثلث وحبست لعيالي ثلثا » ، قال مسروق : فكان عبد الله يرسلني على أرضه كل عام براذان فأصنع فيها مثل هذا
__________
(1) العثان : الدخان من غير نار أو الغبار أو أثره(54/15)
15 - حدثنا عبد الله بن عفان ، حدثني عطاء بن مسلم الحلبي ، عن العمري ، قال خوات بن جبير : أصاب الناس قحط (1) شديد على عهد عمر بن الخطاب فخرج عمر بالناس يصلي بهم ركعتين وخالف بين طرفي ردائه (2) جعل اليمين على اليسار واليسار على اليمين ثم بسط يده فقال : « اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك » قال : فما برح من مكانه حتى مطروا فبينا هم كذلك إذا أعراب قدموا المدينة فأتوا عمر بن الخطاب فقالوا : يا أمير المؤمنين بينا نحن بوادينا يوم كذا وكذا ، إذ أظلنا غمام وسمعنا بها صوتا ينادي أتاك الغوث أبا حفص أتاك الغوث (3) أبا حفص
__________
(1) القحط : الجدب والجفاف واحتباس المطر وعدم نزوله
(2) الرداء : ما يوضع على أعالي البدن من الثياب
(3) الغوث : الإعانة والنصرة(54/16)
16 - حدثني محمد بن عثمان العجلي ، حدثني سليمان بن أحمد ، حدثني محمد بن حبيب الرملي ، عن ابن لهيعة ، عن مالك بن الأزهر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن عمر بعث سعد بن أبي وقاص على العراق فسار حتى إذا كان بحلوان أدركته صلاة العصر وهو في سفح جبلها فأمر مؤذنه نضلة فنادى بالأذان فقال : الله أكبر الله أكبر ، فأجابه مجيب من الجبل كبرت يا نضلة كبيرا . فقال : أشهد أن لا إله إلا الله قال : كلمة الإخلاص قال : أشهد أن محمدا رسول الله قال : بعث النبي قال : حي على الصلاة قال : البقاء ؛ لأنه محمد قال : حي على الفلاح قال : كلمة مقولة قال : الله أكبر الله أكبر قال : كبرت كبيرا قال : لا إله إلا الله ، فانفلق الجبل فإذا شيخ أبيض الرأس واللحية هامته مثل الرحى فقال له : من أنت ؟ قال : أنا زريب بن ثرملا وصي العبد الصالح عيسى ابن مريم ، دعا ربه عز وجل لي بطول البقاء وأسكنني هذا الجبل على نزوله من السماء فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويتبرأ مما فعله النصارى ، ما فعل النبي ؟ قلنا : قبض فبكى بكاء شديدا حتى خضب لحيته بالدموع قال : من قام فيكم بعده قلنا أبو بكر قال : ما فعل ؟ قلنا : قبض قال : فمن قام فيكم بعده ؟ قلنا عمر قال : فأقرئوه مني السلام وقولوا له : يا عمر سدد وقارب فإن الأمر قد تقارب ، خصال إذا رأيتها في أمة محمد فالهرب الهرب ، إذا استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء وكان الولد غيظا والمطر قيظا وزخرفت المساجد وزوقت المساجد وتعلم عالمهم ليأكل به دنياهم ، وخرج الغبي فقام له من هو خير منه ، وكان أكل الربا فيهم شرفا ، والقتل فيهم عزا فالهرب الهرب ، قال : فكتب بها سعد إلى عمر فكتب عمر ، صدقت ؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « في بيت الجبل وصي عيسى ابن مريم فأقرئه مني السلام » فأقام سعد بنفس المكان أربعين صباحا ينادي يا ثرملا ، فلا يجاب(54/17)
17 - حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عبيد الله بن طلحة ، عن أبي جعفر محمد بن علي قال : « لما ظهر سعد على حلوان العراق بعث جعونة بن نضلة في الطلب قال : فأتينا على غار أو نقب فحضرت الصلاة قال : فأذنت فقلت : الله أكبر الله أكبر فأجابني مجيب من الجبل كبرت كبيرا قال : فاختبأت جزعا (1) قال : فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله قال : أخلصت فالتفت يمينا وشمالا فلم أر أحدا قال : قلت : أشهد أن محمدا رسول الله قال : نبي بعث ، قلت : حي على الصلاة قال : فريضة وضعت قلت : حي على الفلاح قال : قد أفلح من أجابها استجاب لها كل ملك يقول ، فالتفت فلم أر أحدا قال : قلت : جني أنت أم إنسي ؟ ائت ، فأشرف علي شيخ أبيض الرأس واللحية فقال : أنا زريب بن ثرملا من حواريي عيسى ابن مريم وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنه الحق وأنه جاء بالحق من عند الحق وقد علمت مكانه فأردته فحال بيني وبينه كفار فارس فأقرئ صاحبك السلام فكتب سعد إلى عمر فكتب عمر : ابغونيه الرجل فطلب فلم يوجد »
__________
(1) الجزع : الخوف والفزع وعدم الصبر والحزن(54/18)
18 - حدثني عبد الرحمن بن صالح الأزدي ، حدثنا حسين بن علي الجعفي ، عن ابن جريج ، عن عطاء « أن رجلا أهل هلالا بفلاة (1) من الأرض فسمع قائلا يقول : اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلام والإسلام والهدى والمغفرة والتوفيق لما ترضى والحفظ لما تسخط ، ربي وربك الله ، فلم يزل يلقنهن حتى حفظتهن ولم أر أحدا »
__________
(1) الفلاة : الصحراء والمفازة ، والقفر من الأرض ، وقيل : التي لا ماء بها ولا أنيس(54/19)
19 - حدثني القاسم بن هاشم ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا معان بن رفاعة السلامي ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن ، قال : « مر يحيى بن زكريا عليهما السلام على قبر دانيال فسمع صوتا ، والقبر يقول : سبحان من تعزز بالعزة وقهر العباد بالموت ، ثم مضى يحيى فإذا هو بصوت من السماء يقول : أنا الذي تعززت بالعزة وقهرت العباد بالموت ، من قالهن استغفرت له السماوات والأرضون ومن فيهن »(54/20)
20 - حدثني محمد بن الحسين ، وعلي بن إبراهيم السهمي ، وغيرهما قالوا : حدثنا داود بن المحبر ، عن عبد الواحد بن الخطاب ، قال : « أقبلنا قافلين (1) من بلاد الروم نريد البصرة حتى إذا كنا بين الرصافة وحمص سمعنا صائحا يصيح من تلك الرمال سمعته الآذان ولم تره الأعين يقول : يا مستور يا محفوظ اعقل في ستر من أنت ، فإذا كنت لا تعقل في ستر من أنت فاتق الدنيا فإنها جمر الله عز وجل فإن كنت لا تتقيها فاجعلها شركا ثم انظر أين تضع قدميك منها »
__________
(1) قفل : عاد ورجع(54/21)
21 - حدثنا سعيد بن سليمان ، وهارون بن عبد الله ، قالا : حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس ، قال وهيب بن الورد ، قال رجل : « بينا أسير في أرض الروم ذات يوم سمعت هاتفا فوق رأس الجبل وهو يقول : يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو أحدا غيرك ؟ ثم دعا الثانية فقال : يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يستعين على أمره غيرك ؟ ثم دعا الثالثة فقال : يا رب ، عجبت لمن يعرفك كيف يتعرض لشيء من غضبك برضا غيرك ؟ قال : فناديته فقلت : أجني أنت أم إنسي ؟ قال : بل إنسي اشغل نفسك بما يعنيك عما لا يعنيك »(54/22)
22 - حدثني محمد بن عبد المجيد التميمي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن وهيب بن الورد ، قال : « بينما أنا في السوق ، إذ أخذ أحد بقفاي فقال : يا وهيب خف الله على قدرته عليك واستحي من الله في قربه منك فالتفت فلم أر أحدا »(54/23)
23 - حدثني محمد بن العباس ، وإسماعيل بن أبي الحارث ، قالا : حدثنا داود بن المحبر ، حدثنا المبارك بن فضالة ، عن ثابت البناني ، قال : « إنا لوقوف بجبل عرفات وإذا شابان عليهما العباء (1) القطواني ينادي أحدهما صاحبه يا حبيب ، فيقول الآخر : أينك أيها المحب ، قال : ترى الذي تحاببنا فيه وتواددنا له معذبنا غدا في القبر ؟ قال : فسمعنا مناديا سمعته الآذان ولم تره الأعين يقول : لا ليس بفاعل » وهذا لفظ محمد بن العباس
__________
(1) العباء : كساء مشقوق واسع بلا كمين يُلبس فوق الثياب(54/24)
24 - حدثني مشرف بن أبان أبو ثابت ، حدثني عبد العزيز بن أبان ، وليس بالقرشي قال : « كنت أصلي ذات ليلة أو كنت نائما فهتف بي هاتف : يا عبد العزيز كم منظف الثوب حسن الصورة يتقلب بين الجب وجهنم غدا »(54/25)
25 - حدثني أبو ثابت الخطاب ، حدثني رجاء بن عيسى ، قال : قال لي عمرو بن جرير : « تدري أي شيء كان سبب توبتي ؟ خرجت مع أحداث بالكوفة فلما أردت أن آتي المعصية هتف بي هاتف : ( كل نفس بما كسبت رهينة (1) ) »
__________
(1) سورة : المدثر آية رقم : 38(54/26)
26 - حدثني علي بن الحسن بن أبي مريم ، عن إسحاق بن منصور بن حيان ، حدثني محمد بن الفضل ، عن أبي أسماء ، « أن رجلا دخل غيضة فقال : لو خلوت هاهنا بمعصية من كان يراني فسمع صوتا يملأ ما بين حافتي الغيضة (1) ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (2) ) »
__________
(1) الغيضة : الأجمة وهي الشجر الملتف
(2) سورة : الملك آية رقم : 14(54/27)
27 - حدثني علي بن الجعد ، عن علي بن عاصم ، حدثنا المستلم بن سعيد ، قال : « كان رجل بأرض طبرستان قال : وصل أرضا أشبة كثيرة الشجر ، قال : فبينما هو يسير إذ نظر إلى ورق الشجر قد جف فتساقط وتراكم بعضه على بعض فجعل يفكر في نفسه وهو يسير أترى الله عز وجل يحصي هذا كله ؟ فسمع مناديا ينادي ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (1) ) »
__________
(1) سورة : الملك آية رقم : 14(54/28)
28 - حدثنا أبو نصر التمار ، حدثنا مسكين أبو فاطمة ، عن مزرع بن موسى ، عن عمرو بن قيس الملائي ، قال : « بينما أنا أطوف بالكعبة إذا برجل نأى (1) عن الناس ، وهو يقول : من أتى الجمعة وصلى قبل الإمام وصلى مع الإمام وصلى بعد الإمام كتب من القانتين (2) ، ومن أتى الجمعة فلم يصل قبل الإمام ولا مع الإمام ولا بعد الإمام كتب من الفائزين ثم غاب فلم أره فلما كان في الجمعة الثانية رأيته نائيا من الناس وهو يقول مثل مقالته ثم غاب فلم أره فدخلت من باب الصفا فطلبته بأبطح مكة فلم أجده فسألت عليه أصحابي قال : فأخبرتهم فقالوا : الخضر قلت : الخضر ؟ »
__________
(1) نأى : ابتعد
(2) القانت : المطيع العابد الذاكر لله تعالى القائم بأمره(54/29)
29 - حدثنا أحمد بن إبراهيم العبدي ، حدثني محرز بن أبي خديج ، عن سفيان بن عيينة ، قال : « رأيت رجلا في الطواف حسن الوجه حسن الثياب منيفا على الناس قال : فقلت في نفسي : ينبغي أن يكون عند هذا علم قال : فأتيته فقلت له : تعلمنا شيئا فقل شيئا ، فلم يكلمني حتى فرغ من طوافه ثم أتى المقام فصلى خلفه ركعتين خفف فيهما ثم أقبل علينا فقال : أتدرون ماذا قال ربكم ؟ قلنا : وماذا قال ربنا ؟ قال الهاتف أسمعه قال : أنا الله الملك الذي لا يزول فهلموا إلي أجعلكم ملوكا لا تزولون ثم قال : أتدرون ماذا قال ربكم ؟ قلنا : وماذا قال ربنا ؟ قال : أنا الله الحي الذي لا يموت فهلموا إلي أجعلكم أحياء لا تموتون ثم قال : أتدرون ماذا قال ربكم ؟ قلنا : ماذا قال ربنا ؟ قال : أنا الله الملك الذي إذا أردت أمرا أقول له كن فيكون فهلموا إلي أجعلكم إذا أردتم أن تقولوا للشيء كن فيكون » ، قال ابن عيينة : فذكرته لسفيان الثوري فقال : كان ذلك الخضر ولكن لم تعقل(54/30)
30 - حدثنا عبيد الله بن عمر الجشمي ، حدثنا جعفر بن سليمان ، عن مالك بن دينار ، قال : سمع صوت يوم أصيب عمر بتبالة ليلا ليبك على الإسلام من كان باكيا فقد أوشكوا هلكى وما قدم العهد فأدبرت الدنيا وأدبر خيرها وقد ملها من كان يوقن بالوعد(54/31)
31 - حدثني محمد بن نصر بن الوليد ، عن أبي عبد الرحمن الطائي ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن رجل ، قال : « بينما أنا في جبال مكة إذ وجدت قرطاسا فيه كتاب » بسم الله الرحمن الرحيم براءة لعمر بن عبد العزيز من النار « وسمعت قائلا يقول : دان الزمان وذل السلطان وخسر الشيطان لعمر بن عبد العزيز » قال : فوالله ما لبثنا (1) إلا أياما حتى أنبئنا بوفاته فلما مات أتيت هذا الموضع الذي وجدت فيه القرطاس فإذا أنا بصوت أسمع ولا أرى الوجه يقول : عنا فداك مليك الناس صالحة في جنة الخلد والفردوس يا عمر أنت الذي لا نرى عدلا يسر به من بعده ما جرت شمس ولا قمر
__________
(1) لبث : مكث وانتظر وأقام(54/32)
32 - حدثني محمد بن الحسين ، حدثني سليمان بن أيوب ، سمعت عباد بن عباد المهلبي يذكر « أن رجلا من أهل البصرة تنسك ثم مال إلى الدنيا والسلطان فبنى دارا وشيدها وأمر بها ففرشت له وجهزت فاتخذ مأدبة (1) وصنع طعاما ودعا الناس فجعلوا يدخلون عليه فيأكلون ويشربون وينظرون إلى بنائه ويتعجبون منه ويدعون ويتفرقون قال : فمكث بذلك أياما حتى فرغ من أمر الناس ثم جلس ونفر من خاصة إخوانه فقال : قد تزايد سروري بداري هذه وقد حدثت نفسي أن أتخذ لكل واحد من ولدي مثلها فأقيموا عندي أياما استمتع بحديثكم وأشاوركم فيما أريد من هذا البناء لولدي ، فأقاموا عنده أياما يلهون ويشاورهم كيف يبني لولده وكيف يريد أن يصنع ، فبينا هم ذات يوم في لهوهم حدث إذ سمعوا قائلا يقول من أقاصي الدار : يا أيها الباني الناسي منيته (2) لا تنس موتك إن الموت مكتوب على الخلائق إن سروا وإن فرحوا فالموت حتم لذي الآمال منصوب لا تبنين ديارا لست تسكنها وراجع النسك كيما يغفر الحوب قال : ففزع لهذا أصحابه فزعا شديدا وراعهم ما سمعوا من هذا فقال لأصحابه : هل سمعتم ما سمعت ؟ قالوا : نعم قال : فهل تجدون ما أجد ؟ قالوا : وما تجده ؟ قال : أجد والله مسكة على بدني ما أراها إلا علة الموت قالوا : كلا بل البقاء والعافية قال : فبكى ثم أقبل عليهم فقال : أنتم أخلائي وإخواني فما لي عندكم ؟ قالوا : مرنا بما أحببت من أمرك قال : فأمر بالشراب فأهريق (3) ثم أمر بالملاهي فأخرجت ثم قال : اللهم إني أشهدك ومن حضر من عبادك أني تائب إليك من جميع ذنوبي نادم على ما فرطت أيام مهلتي وإياك أسأل إذا هديتني أن تتم علي نعمتك باقي أيامي في طاعتك وإن أنت قبضتني إليك أن تغفر لي ذنوبي تفضلا منك علي واشتد به الأمر فلم يزل يقول : الموت والله الموت والله حتى خرجت نفسه فكان الفقهاء يرون أنه مات على توبة »
__________
(1) المأدبة : الطعام يصنعه الرجل يدعو إليه الناس
(2) المنية : الموت
(3) هراق : سكب وصب(54/33)
33 - حدثني محمد بن الحسين ، حدثني يوسف بن الحكم الرقي ، حدثني فياض بن محمد الرقي ، أن عمر بن عبد العزيز ، بينما هو يسير على بغلة (1) ومعه ناس من أصحابه إذا هو بجان ميت على قارعة (2) الطريق فنزل عمر فأمر به فعدل به عن الطريق ثم حفر له فدفنه وواراه (3) ثم مضى فإذا هو بصوت عال يسمعونه ولا يرون أحدا وهو يقول : ليهنك البشارة من الله يا أمير المؤمنين ، أنا وصاحبي هذا الذي دفنته آنفا من النفر من الجن الذي قال الله عز وجل ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن (4) ) وإنا لما أسلمنا وآمنا بالله وبرسوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبي هذا : « أما إنك ستموت في أرض غربة يدفنك فيها يومئذ خير أهل الأرض »
__________
(1) البغلة : المتولدة من بين الحمار والفرس ، وهي عقيمة
(2) قارعة الطريق : هي وسطه وقيل أعلاه
(3) وارى : ستر وأخفى وغيب وغطى
(4) سورة : الأحقاف آية رقم : 29(54/34)
34 - حدثني محمد بن الحسين ، حدثني أبو الوليد الكندي ، حدثنا كثير بن عبد الله أبو هاشم الناجي ، قال : قال الحسن : دخلنا على أبي الرجاء العطاردي ، فسألناه هل عندك علم بالجن ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فتبسم وقال : « أخبركم بالذي رأيت وبالذي سمعت كنا في سفر حتى إذا نزلنا على الماء وضربنا أخبيتنا (1) وذهبت أقيل إذا بحية دخلت الخباء وهي تضطرب فعمدت إلى إداوتي (2) فنضحت (3) عليها من الماء فلما نضحت (4) عليها سكنت وكلما حبست عنها الماء اضطربت حتى أذن المؤذن بالرحيل فقلت لأصحابي : انتظروني حتى أعلم علم هذه الحية إلى ما يصير فلما مكثنا للعصر ماتت فعدت إلى عيبتي فأخرجت منها خرقة (5) بيضاء فلففتها وحفرت لها فدفنتها وسرنا بقية يومنا هذا وليلتنا حتى إذا أصبحنا ونزلنا على الماء وضربنا أخبيتنا وذهبت أقيل فإذا أنا بأصوات : سلام عليك لا واحد ولا عشرة ولا مائة ولا ألف أكثر من ذلك فقلت : من أنتم ؟ قالوا : نحن الجن بارك الله عليك قد اصطنعت إلينا ما لا نستطيع أن نجازيك ، قلت : وما اصطنعت إليكم ؟ قالوا : إن الحية التي ماتت عندك كان ذلك آخر من بقي ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم من الجن »
__________
(1) الأخبية : مفردها خباء وهي الخيمة
(2) الإداوة : إناء صغير من جلد يحمل فيه الماء وغيره
(3) النضح : الرش بالماء
(4) النضح : الرشّ
(5) الخرقة : القطعة من الثوب الممزق(54/35)
35 - حدثني محمد بن عباد بن موسى العكلي ، حدثنا مطلب بن زياد الثقفي ، حدثنا أبو إسحاق « أن ناسا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا في مسير لهم وأن حيتين اقتتلتا فقتلت إحداهما الأخرى فعجبوا لطيب ريحها وحسنها فقام بعضهم فلفها في خرقة ثم دفنها فإذا قوم يقولون : السلام عليكم - لا يرونهم - أيكم دفن عمرا ، إن مسلمينا وكفارنا اقتتلوا فقتل مسلمنا وكان من الرهط (1) الذين أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم»
__________
(1) الرهط : الجماعة من الرجال دون العشرة(54/36)
36 - حدثنا خالد بن خداش ، حدثني معلى الوراق ، عن مالك بن دينار ، قال : « دخلت على جار لنا مريض أعوده فقلت له : عاهد الله عز وجل أن تتوب لعله أن يشفيك قال : هيهات يا أبا يحيى ، أنا ميت ذهبت أعاهد كما كنت أعاهد فإذا هاتف من ناحية البيت يقول : عاهدناك مرارا قد وجدناك كذابا قال : فما خرج مالك من الدار حتى سمع النائحة (1) عليه »
__________
(1) النائحة : الباكية على الميت بجزع وعويل لها أو لغيرها(54/37)
37 - حدثني محمد بن الحسين ، حدثني يحيى بن السكن ، حدثنا الهيثم بن جماز ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : « دخلت على رجل أعوده (1) فوجدته جزعا (2) من الذنوب نادما على ما سلف من عمله قلت : استعتبت ؟ قال : هيهات هيهات قد سألته مرة بعد مرة واستقلته مرة من بعد أخرى فأقالني فلما كانت مرضتي هذه قلت : أقلني فلن أعود أبدا فسمعت صوتا من ناحية بيتي يا هذا قد أقلناك فوجدناك كذابا »
__________
(1) العيادة : زيارة الغير
(2) الجزع : الخوف والفزع وعدم الصبر والحزن(54/38)
38 - حدثني عبيد الله بن عمرو ، حدثنا يحيى ، عن الحسن بن عطية ، حدثني موسى بن أبي حبيب ، عن عبد المجيد صاحب مصر الذي مدحه أبو نواس قال : قال لي أبو نواس ، « خرجت إلى الكوفة فلما صرت بطيزناباذ حضرني عنب ، فقلت : » بطيزناباذ كرم ؟ ما مررت به إلا تعجبت مما يشرب الماء ؟ فجاءني هاتف من تحت الشجرة وفي جهنم ماء ما تجرعه خلق فأبقى له في البطن أمعاء «(54/39)
39 - حدثني محمد بن الحسين ، حدثني داود بن المحبر ، حدثني سوادة بن أبي الأسود ، قال : إن أبا خليفة العبدي ، قال : « مات ابن لي صغير فوجدت (1) عليه وجدا شديدا فارتفع عني النوم فوالله إني ذات ليلة في بيتي على سريري وليس في البيت أحد وإني مفكر في ابني إذ نادى مناد من ناحية البيت : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، يا أبا خليفة قلت : وعليك السلام ورحمة الله قال : ورعبت رعبا شديدا قال : فتعوذ ثم قرأ آيات من آخر سورة آل عمران حتى انتهى إلى هذه الآية ( وما عند الله خير للأبرار (2) ) ثم قال : يا أبا خليفة قلت : لبيك (3) قال : ماذا تريد ؟ تريد أن تخص بالحياة في ولدك دون الناس ؟ أنت أكرم على الله أم محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قد مات ابنه إبراهيم فقال : » تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط (4) الرب « أم تريد أن يرفع الموت عن ولدك ؟ وقد كتبه الله على جميع الخلق ، أم ماذا تريد ؟ تريد أن تسخط على الله في تدبير خلقه ؟ والله لولا الموت ما وسعتهم الأرض ولولا الأسى ما انتفع المخلوقون بعيش ثم قال : ألك حاجة ؟ قلت : من أنت يرحمك الله ؟ قال : امرؤ من جيرانك من الجن »
__________
(1) الوجد : الغضب ، والحزن والمساءة وأيضا : وَجَدْتُ بِفُلانَة وَجْداً، إذا أحْبَبْتها حُبّا شَديدا.
(2) سورة : آل عمران آية رقم : 198
(3) التلبية : أصل التلبية الإقامة بالمكان ، وإجابة المنادي ، ولبيك أي إجابة لك بعد إجابة
(4) السخط : الغضب أو كراهية الشيء وعدم الرضا به(54/40)
40 - حدثني أبو محمد الحسن بن علي ، حدثنا أبو بكر بن زبريق ، حدثنا أيوب بن سويد ، حدثني يحيى بن زيد الباهلي ، عن عمر بن عبد الله الليثي ، عن واثلة بن الأسقع ، قال : « كان إسلام الحجاج بن علاط البهزي ثم السلمي أنه خرج في ركب من قومه يريد مكة فلما جن عليهم الليل في واد مخوف موحش فقال له أصحابه : يا أبا كلاب قم فخذ لنفسك وأصحابك أمانا فقام الحجاج فجعل يطوف حولهم ويكلؤهم ويقول : أعيذ نفسي وأعيذ صحبي من كل جني بهذا النقب حتى أءوب سالما وركبي قال : فسمعت صوتا يقول : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (1) ) قال : فلما قدموا المدينة خبر به في نادي قريش فقالوا : صبأت (2) والله يا أبا كلاب ، إن هذا مما يزعم محمد أنه أنزل عليه قال : قد والله سمعته وسمعه هؤلاء معي فبينا هم كذلك إذ جاء العاص بن وائل فقالوا له : يا أبا هشام ، ما تسمع ما يقول أبو كلاب ؟ قال : وما يقول ؟ فأخبر بذلك فقال : وما يعجبكم من ذلك إن الذي سمع هناك هو الذي ألقي على لسان محمد فنهاني القوم عنه ولم يزدني في الأمر إلا بصيرة فقال ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم : فأخبرت أنه خرج من مكة إلى المدينة فركبت راحلتي (3) وانطلقت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأخبرته بما سمعت فقال : » سمعت والله الحق هو والله من كلام ربي الذي أنزل علي ولقد سمعت حقا يا أبا كلاب « فقلت : يا رسول الله ، علمني الإسلام فشهدني كلمة الإخلاص وقال : » سر إلى قومك فادعهم إلى مثل ما أدعوك إليه فإنه الحق «
__________
(1) سورة : الرحمن آية رقم : 33
(2) صبأ الرجل وصبا : ترك دين قومه ودان بآخر
(3) الراحلة : البَعيرُ القويّ على الأسفار والأحمال، ويَقَعُ على الذكر والأنثى(54/41)
باب هواتف القبور(54/42)
41 - حدثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير العبدي ، حدثني محمد بن عيسى أبو عبد الله الوابشي ، قال : سمعت شيخا من الكوفيين اسمه محمد بن عبد الله ، قال : خرج عمر بن عبد العزيز في جنازة فلما دفنها قال لأصحابه : دعوني حتى آتي قبر الأحبة قال : « فأتاهم فجعل يدعو ويبكي إذ هتف به التراب فقال : يا عمر ، ألا تسألني ما فعلت بالأحبة ؟ قال : فما فعلت بهم ؟ قال : مزقت الأكفان وأكلت اللحم وشدخت المقلتين وأكلت الحدقتين (1) ونزعت الكفين من الساعدين والساعدين (2) من العضدين والعضدين من المنكبين والمنكبين من الصلب والقدمين من الساقين والساقين من الفخذين والفخذين من الورك والورك من الصلب (3) قال : وعمر يبكي فلما أراد أن ينهض قال له التراب : ألا أدلك على أكفان لا تبلى ؟ قال : وما هي ؟ قال : تقوى الله عز وجل والعمل الصالح »
__________
(1) الحدقة : سواد مستدير وسط العين
(2) الساعد : ما بين المرفق والكتف
(3) الصلب : الظهر(54/43)
42 - حدثني أبو عبد الرحمن القرشي ، حدثني العلاء بن أبي الصهباء التيمي ، عن سوار بن مصعب الهمداني ، عن أبيه ، « أن أخوين كانا جارين وكان كل واحد منهما يجد بصاحبه وجدا (1) لم ير مثله فخرج الأكبر إلى أصفهان فقدم وقد مات الأصغر فاختلف إلى قبره سبعة أشهر فلما حضر أجله إذا هاتف هتف من خلفه : يا أيها الباكي على غيره نفسك أصلحها ولا تبكه إن الذي تبكي على إثره يوشك أن تسلك في سلكه فالتفت فلم ير خلفه أحدا فاقشعر وحم فهرع إلى أهله فلم يلبث (2) إلا ثلاثا حتى مات فدفن إلى جنبه فكانت كل واحدة من قوله يوشك يوما »
__________
(1) الوجد : الغضب ، والحزن والمساءة وأيضا : وَجَدْتُ بِفُلانَة وَجْداً، إذا أحْبَبْتها حُبّا شَديدا.
(2) اللبث : الإبطاء والتأخير والانتظار والإقامة(54/44)
43 - حدثني سعيد بن يحيى القرشي ، قال : سمعت أبي يذكر عن شرقي بن قطامي ، قال : كان رجلان بينهما إخاء ومودة فتصارما فمات أحدهما في الصرم فدفن بالدوم فمر الباقي بقبر الميت فلم يعرج عليه ولم يسلم فهتف به هاتف من القبر أجدك تطوي الدوم ليلا ولا ترى عليك لأهل الدوم أن تتكلما وبالدوم ثاو لو ثويت مكانه فمر بأهل الدوم عاج فسلما تجدد صرما (1) أنت كنت بدأته ولا أنا فيه كنت أسوا وأظلما
__________
(1) الصرم : الهجر(54/45)
44 - حدثني الحسن بن سليمان ، حدثنا روح بن عبد المؤمن المقرئ ، حدثني إبراهيم بن عبد الله النميري ، عن بقية الزهراني ، قال : سمعت ثابتا البناني قال : « بينا أنا أمشي في المقابر إذا بهاتف يهتف من ورائي يقول : يا ثابت لا يغرنك (1) سكونها فكم من مغموم فيها ، قال : فالتفت فلم أر أحدا »
__________
(1) غره : خدعه(54/46)
45 - حدثني سلمة بن شبيب ، حدثنا سهل بن عاصم ، حدثنا وداع بن مرجى بن وداع ، قال : سمعت بشر بن منصور يقول : قال لي عطاء الأزرق : « إذا حضرت المقابر فليكن قلبك فيما أنت بين ظهرانيه (1) ، فإني بينما أنا نائم ذات ليلة في المقابر إذ تفكرت في شيء ، فإذا أنا بصوت يقول : إليك يا غافل إنما أنت بين ناعم في نعيمه مدلل ، أو معذب في سكراته يتقلب »
__________
(1) بين ظهرانيه : بينهم(54/47)
46 - حدثني محمد بن الحسين ، حدثنا حكيم بن جعفر ، قال : سمعت صالحا المري ، يقول : « دخلت المقابر يوما في شدة الحر فنظرت إلى القبور خامدة كأنهم قوم صموت فقلت : سبحان من يجمع بين أرواحكم وأجسادكم بعد افتراقها ثم يحييكم وينشركم من بعد طول البلى قال : فناداني مناد من بين تلك الحفر : يا صالح ( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون (1) ) قال : فسقطت والله لوجهي جزعا (2) من ذلك الصوت »
__________
(1) سورة : الروم آية رقم : 25
(2) الجزع : الخوف والفزع وعدم الصبر والحزن(54/48)
47 - حدثني محمد بن الحسين ، حدثنا داود بن المحبر ، حدثنا ليث بن سعيد بن هاشم ، عن أبيه ، قال : « أعرس رجل من الحي لابنه فاتخذ لذلك لهوا وكانت منازلهم إلى جانب المقابر قال : فوالله إنهم لفي لهوهم ذلك إذ سمعوا صوتا منكرا أفزعهم قال : فأصغوا مطرقين فإذا هاتف من بين القبور يقول : يا أهل لذات لهو لا تدوم لهم إن المنايا تبيد اللهو واللعبا كم قد رأيناه مسرورا بلذته أمسى فريدا من الأهلين مغتربا قال : فوالله إن لبثت بعد ذلك إلا أياما حتى مات الفتى المتزوج »(54/49)
48 - حدثنا أبو الحسن البصري ، حدثني رباح شيخ كان ينزل بالعدوية ، عن جار له قال : « مررت بالمقابر فترحمت عليهم فهتف هاتف : نعم فترحم عليهم ؛ فإن فيهم المهموم والمحزون »(54/50)
49 - حدثني أبو الحسن البصري ، حدثني سعيد بن حسان ، قال : بينا ركب في فلاة (1) من الأرض في ليلة ظلماء ووراءهم تحيط المقابر إذا هاتف يقول لهم : أيها الركب المخبون وعلى الأرض مجدون فكما أنتم كنا وكما نحن تكونون
__________
(1) الفلاة : الصحراء والأرض الواسعة التي لا ماء فيها(54/51)
50 - حدثني محمد بن يحيى المروزي ، عن محمد بن إسماعيل الجعفري ، عن عمه موسى بن جعفر بن إبراهيم ، قال : « سمع ليلة مات علي بن عبد الله بن جعفر في جانب بيته شهيق كشهيق المرأة الحسنة الصوت وهو يقول : لقد فارق الدنيا علي فأعولي بني هاشم إن كان ينفعك الحزن لقد مات خير الناس إلا محمدا ربيع اليتامى والصحيح من الإبن »(54/52)
51 - حدثني القاسم بن الهاشم بن سعيد ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا صفوان بن عمرو ، عن سليمان بن يسار الحضرمي ، قال : كان ناس يسيرون ليلا عند باب الشرق مما يلي المقابر فسمعوا صوتا من قبر يقول : يا أيها الركب سيروا من قبل أن لا تسيروا فكما كنتم كنا فغيرنا ريب المنون وسوف كما كنا تكونون(54/53)
52 - حدثني عمار بن نصر أبو ياسر المروزي ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا صفوان ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن يزيد بن شريح ، أنه سمع صوت من قبل المقابر « إن ترون اليوم أمثالنا بعدها أمثالكم وكنا أقرانا في الحياة كشكلكم فتلك البيداء تسفي رياحها ونحن في مقصورة لا ننالكم فمن يك منا فليس براجع فتلك ديارنا وهي مصيركم »(54/54)
53 - حدثني الحسن بن عبد العزيز الجروي ، حدثني سحيم بن ميمون ، وكان من جلساء الليث بن سعد قال : « كان رجل نائما في مقبرة فسمع هاتفا يقول أنعم الله بالخليلين عينا وبمسراك يا أميم إلينا فأجابه مجيب فقال : وما ينفعها وأبوها ساخط عليها فلما أصبح الرجل إذا بقبر يحفر ورجل هناك فسأل عن القبر وأخبره بما سمع فقال : هذان قبرا ابني وهذه الميتة أمهما وقد كنت ساخطا (1) عليها أما لأقرن أعينهما بالرضا عنها قال : فرضي عنها وولي أمرها حتى واراها (2) »
__________
(1) السخط : الغضب أو كراهية الشيء وعدم الرضا به
(2) وارى : ستر وأخفى وغيب وغطى(54/55)
54 - حدثني سعيد بن يحيى الأموي ، قال : سمعت أبي يذكر عن أبي بكر بن عياش ، عن حفار ، كان في بني أسد قال : فمررت بالحفار فحدثني كما حدثني أبو بكر ، عنه قال : « كنت أنا وشريك نتحارس مقبوري أسد ليلا في المقابر إذ سمعت قائلا يقول : قبر من يا عبد الله ؟ قال : ما لك يا جابر ؟ قال : غدا تأتينا أمنا قال : وما تنفعنا لا تصل إلينا إن أبي قد غضب عليها وحلف أن لا يصلي عليها قال : فجعلا يكرران ذلك مرارا فجئت لشريكي فجعل يسمع الصوت ولا يفهم الكلام فلقنته إياه ثم يفهم بفهمه فلما كان من غد جاءني رجل فقال : احفر لي هاهنا قبرا بين القبرين اللذين سمعت منهما الكلام فقلت : اسم هذا جابر واسم هذا عبد الله ؟ فقال : نعم فأخبرته بما سمعت فقال : نعم قد كنت حلفت أن لا أصلي عليها ولا جرم لأكفرن عن يميني ولأصلين عليها ولأترحمن عليها قال : ثم مر بي بعد ذلك على عكاز ومعه إداوة فقال : إني أريد الحفر لمكان عيني تلك »(54/56)
55 - حدثني محمد بن المثنى العنزي ، قال : وجدت في كتاب جدي علي بن طارق بن زيد الجعفي ، حدثنا الثمالي « أن رجلا خرج يتنزه فإذا هو بصوت من قبر ينادي هذا أبونا قد أتانا زائرا أحبب به زورا إلينا باكرا وخير ميت ضمن المقابرا جد إلينا عتبة مثابرا قد وحد الله زمانا صابرا عوض من توحيده أساورا في جنة الفردوس نزلا فاخرا قال : فقلت : لا أبرح (1) اليوم حتى أعلم ما هذا الصوت الذي سمعت وعن الميت فجيء بجنازة رجل فسألتهم عنه فقيل : هذا رجل من الأنصار من بني سلمة وهذا ابنه عتبة وهذه ابنته عبيدة فدفنوه بينهما ثم انصرفوا »
__________
(1) برح المكان : زال عنه وغادره(54/57)
56 - وحدثني محمد بن المثنى ، قال : ومن كتاب جدي ، حدثنا الكلبي ، « أن رجلا مات بالمدينة فوله أبوه ولها شديدا ، وأن أباه أري في منامه أن ائت قبر ابنك فودعه فخرج يمشي حتى أتى قبره وهو رجل يقول الشعر فألقي على لسانه أن قال : يا صاحب القبر الذي قد استوى هيجت لي حزنا على طول البلى حزنا طويلا يتأتى ما انقضى من غصص الموت وغم قد برى وضغطة القبر التي فيها الأذى ثم إن الرجل انصرف فنودي من خلفه : اسمع أحدثك بأمر قد أتى بخبر أوضح من ضوء الضحى عن غصص الموت وهم قد جلا وفرج أتاه من بعد الرضا للقول بالتوحيد فيما قد خلا أثبت من ذاك جزيلا ووعى جنان فردوس رضي للفتى يدعو بها يانعها بما اشتهى ثم إن الصوت خمد وانصرف الرجل فما خطر له ابنه على باله حتى مات »(54/58)
57 - حدثني إبراهيم بن عبد الله ، عن سعيد بن محمد الجرمي ، حدثنا أبو تميلة ، حدثنا زيد بن عمر التيمي ، حدثنا مجالد بن سعيد ، عن الشعبي ، قال : كان صفوان بن أمية ، في بعض المقابر فإذا أنوار قد أقبلت ومعها جنازة فلما دنوا من المقبرة قال : انظروا قبر كذا وكذا قال : فسمع رجل صوتا من القبر حزينا موجعا يقول : أنعم الله بالظعينة عينا وبمسراك يا أمين إلينا جزعا ما جزعت من ظلمة القبـ ـر ومن مسك التراب أمينا قال : فأخبر القوم بما سمع فبكوا حتى أخضلوا (1) لحاهم ثم قال : هل تدري من أمينة ؟ قلت : لا ، قال : صاحبة السرير وهذه أختها ماتت عام أول فقال صفوان : قد علمنا أن الميت لا يتكلم فمن أين هذا الصوت ؟
__________
(1) أخضل : بلَّلَ بالدمع(54/59)
58 - حدثني محمد بن الحسين ، حدثنا عبيد بن إسحاق الضبي حدثنا عاصم بن محمد العمري ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال : « بينا عمر بن الخطاب يعرض للناس إذ مر به رجل معه ابن له على عاتقه (1) فقال عمر » ما رأيت غرابا أشبه بغراب من هذا بهذا فقال الرجل : أما والله يا أمير المؤمنين لقد ولدته أمه وهي ميتة قال : ويحك وكيف ذلك ؟ قال : خرجت في بعث كذا وكذا وتركتها حاملا به فقلت : أستودع الله ما في بطنك فلما قدمت من سفري أخبرت أنها قد ماتت فبينما ، أنا ذات ليلة قاعد في البقيع مع بني عم لي إذ نظرت فإذا ضوء شبه السراج في المقابر فقلت لبني عمي : ما هذا ؟ فقالوا : ما ندري غير أنا نرى هذا الضوء كل ليلة عند قبر فلانة فأخذت معي فأسا ثم انطلقت نحو القبر فإذا القبر مفتوح وإذا هو بحجر أمه فدنوت فناداني مناد أيها المستودع ربه خذ وديعتك أما لو استودعته أمه لوجدتها ، قال : فأخذت الصبي وانضم القبر « قال : محمد بن الحسين : فسألت عثمان بن زفر عن هذا الحديث فقال : سمعته من عاصم بن محمد
__________
(1) العاتق : ما بين المنكب والعنق(54/60)
باب هواتف الدعاء(54/61)
59 - حدثني عبيد الله بن جرير العتكي ، حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل ، حدثنا همام ، عن الحجاج بن فرافصة ، قال : ، حدثني رجل من أهل فدك ، عن حذيفة ، قال : « بينما أنا أصلي إذ سمعت متكلما يقول : اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره أهل الحمد أنت وعلى كل شيء قدير ، اللهم اغفر لي جميع ما مضى من ذنوبي واعصمني (1) فيما بقي من عمري وارزقني عملا يرضيك عني إنك على كل شيء قدير ، فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم : بينما أنا أصلي إذ سمعت متكلما يقول كذا وكذا فنظرت فلم أر أحدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » ذاك ملك أتاك يعلمك تحميد ربك «
__________
(1) عصم : حمى ومنع وحفظ(54/62)
60 - حدثنا عبيد الله بن جرير ، حدثنا عمرو بن كنيز أبو حفص ، حدثني يحيى بن حماد الهباري ، عن رجل ، عن الرجل الذي « أخذ وكان الحجاج بن يوسف قد طلبه فأتي به الحجاج عشية (1) فأمر به فقيد بقيود كثيرة وأمر الحرس فأدخل في ثلاثة أبيات وأقفلت عليه وقال : إذا كان غدوة (2) فأتوني به قال : فبينا أنا مكب على وجهي إذ سمعت مناديا ينادي في الزاوية : يا فلان ، قلت : من هذا ؟ قال : ادع بهذا الدعاء قلت : بأي شيء أدعو ؟ قال : قل : يا من لا يعلم كيف هو إلا هو ، يا من لا يعلم قدرته إلا هو فرج عني ما أنا فيه ، قال : فوالله ما فرغت منها حتى تساقطت القيود من رجلي ونظرت إلى الأبواب مفتحة فخرجت إلى صحن الدار فإذا الباب الكبير مفتوح وإذا الحرس نيام ، عن يميني وعن شمالي فخرجت حتى كنت بأقصى واسط فلبثت (3) في مسجدها حتى أصبحت »
__________
(1) العشي : ما بين زوال الشمس إلى وقت غروبها
(2) الغُدْوة : البُكْرة وهي أول النهار
(3) اللبث : الإبطاء والتأخير والانتظار والإقامة(54/63)
61 - حدثنا أبو إسحاق يعقوب بن يوسف ، مولى بني أسد ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا صالح بن أبي الأسود ، عن محفوظ بن عبد الله ، عن شيخ من حضرموت ، عن محمد بن يحيى ، قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه « بينا أنا أطوف بالبيت إذ برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول : يا من لا يشغله سمع عن سمع يا من لا يغلطه السائلون يا من لا يتبرم بإلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك ، قال : قلت : دعاؤك هذا عافاك الله ؟ قال لي : وقد سمعته ؟ قلت : نعم قال : فادع به في دبر كل صلاة فوالذي نفس الخضر بيده لو أن عليك من الذنوب عدد نجوم السماء وحصى الأرض لغفر الله عز وجل لك أسرع من طرفة عين »(54/64)
62 - حدثني أبو ثابت مشرف بن أبان ، حدثنا محمد بن الحسن الهمداني ، عن عبيد الله الجزري ، قال : « ألح رجل ذات ليلة على الدعاء فهتف به هاتف : يا هذا قل : يا سامع كل صوت ، يا بارئ النفوس بعد الموت ، ويا من لا تغشاه الظلمات ، ويا من لا تشتت عليه الأصوات ، ويا من لا يشغله صوت عن صوت ، قال : فما دعوت الله عز وجل بهذا الدعاء إلا استجاب لي »(54/65)