l
الكبر..العجب..الغرور
خطره
من تعظّم في نفسه أو اختال في مشيته لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان " البخاري في الأدب المفرد . الصحيحة 543
-ثلاث مهلكات وثلاث منجيات .. فأما المهلكات : فشح مطاع ،وهوى متبع،وإعجاب المرء في نفسه "صحيح الجامع3045
- لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر "( مسلم ).
* والكبر يتسبب في هلاك الإنسان لأسباب منها :
أن الكبر يمنعه من قبول الحق من الآخرين والنصيحة لهم ، فلا يستفيد من الاستشارة والسؤال .
ب - الكبرياء رداء الله تعالى ن لا ينبغي لغيره سبحانه،ومن نازعه فيها ألقاه في النار " الكبرياء ردائي ، والعزة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار " الصحيحة 541
* دوافعه وأسبابه :
1- النسب 2-الجمال 3-قوة الجسد 4-الغنى وكثرة المال 4-العلم 6-الورع والعبادة .
هل أنت متكبر ؟
امتحن نفسك بخمسة امتحانات لتتعرّف على نفسك بنفسك :
الامتحان الأول : أن تناظر في مسألة مع أحد زملائك ، فإن ظهر شيء من الحق على لسان صاحبك فثقل عليك قبوله والتسليم له والشكر له على بيان الحق على يديه ، فذلك دليل على نوع من الكبر .. وكذلك لو ظهر الحق على يديك فحصل في نفسك إعجاب بنفسك واحتقار لزميلك فهذا أمارة على الخطر .
الامتحان الثاني : أن تجتمع مع أقرانك في المحافل وتقدمهم على نفسك وتمشي خلفهم وتجلس في آخر المجلس وتدخل آخرهم .. فإن ثقل ذلك عليك فاتهم نفسك ، وواظب على ذلك وتكلفه حتى يسقط عنك ثقله ويكون أمراً عادياً ، بل يكون ذلك من قبيل التواضع .
3-الامتحان الثالث: أن تجيب دعوة الفقير وتمشي معه في حاجته ، وإلا فراجع نفسك .
4-الامتحان الرابع :أن تذهب إلى السوق وتشتري حاجتك وأهلك واحملها من السوق إلى البيت ، فإن أبت نفسك ذلك فهو كبر أو رياء ؛ فإن كان يثقل ذلك عليك حتى لو لم يرك أحد في الطريق فهو كبر ، وإن كان لا يثقل عليك إلا مع مشاهدة الناس فهو رياء .(1/1)
5-الامتحان الخامس : أن تلبس ثياباً رثة ، فإن نفور النفس عن ذلك في الملأ أمام الناس رياء أو كبر ، ونفور الناس من ذلك حتى في الخلوة كبر ، وهذا لا يعني أن المسلم يستحسن له أن يلبس ثياباً رثة بالية دائماً مع استطاعته أن يلبس ثياباً حسنة ولكن هذا مجرد امتحان فألزم نفسك بذلك حتى تعتاده ويزول ما بها من كبر .
تواضعه –صلى الله عليه وسلم - : ... ... ... ... ... ...
" آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد : صحيح الجامع . "سئلت عائشة : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت يكون في مهنة أهله ، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة . وكان يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ، ويعتقل الشاة ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير ( الصحيحة 2125)
ويقول أنس : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير : يا أبا عمير ما فعل النغير ( مسلم )
آداب الصحبة والأخوة
1-الصفح عن العثرات والزلات وإن كانت عليك . 2-ستر العيوب وإصلاحها ، لا سيما في دينه .
3- عدم إخلاف الوعد ( بحجة الميانة ) ... 4- صحبة من تحتشمه وتستحي من فعل المعصية أمامه .
5- أن تحمل كلامه على أحسن الوجوه والمحامل .
ألا تمل من الصحبة ،و((ليس لملول صديق )) " ولذلك " لا تصاحب صديقاً إلا بعد تجربة ، وإذا صاحبته فلا تقاطعه " وبعض الأصدقاء إذا قاطعتهم فقد ينقلبون إلى أعداء ، و" مؤمن بلا صديق ، خير من مؤمن كثير الأعداء
إذا صاحبت أخاً فلا تفرط فيه ؛ فإن المعارف بين الناس كثير ، والأصدقاء من المعارف أقل ، والإخوان قلّما يوجدون من هؤلاء ، ومن الحماقة التفريط بهم .
حفظ المودة القديمة ".. وإن حسن العهد من الإيمان " .
كتمان الأسرار : " استعينوا على قضاء حوائجكم يالكتمان " أو ( إنجاح) " قلوب الأحرار قبور الأسرار".
" اسرّ أحدهم إلى أخيه سراً فقال: أكتمته ؟ قال : لا. بل نسيته "(1/2)
وكثير من الناس يصاحب شخصاً ثم تحصل بينهم فرقة أو مشكلات فينشر أسراره بين الناس ، فيقول الأول : ليتني ما أفشيت له سراً ، وربما تحصل الفرقة بسبب أن أحد الصديقين قد أفشى سراً عن الآخر .
10-المشاورة : وليست قضية مجاملة ؛ إنما قبول ما يشير به عليك إذا رأيت فيه وجه الصواب .
11-قلة المخالفة في أسباب الدنيا ، أما المخالفة في أمور الدين فواجبة ، أما الدنيا فهي أقل خطراً من أن يخالف فيها أخ من الإخوان ، فإذا كانت المسألة بين أن تخالف في أمور الدنيا وبين أن توافقه لتحفظ ودّ بينكما فقدم حفظ الأخوة .
ألا تجامله في أمر من الدين على حساب مصلحته أو حفظاً لمودته .
الحرص على خدمة الإخوان في كل مجال لا سيما عند الحاجة في السفر" سيّد القوم خادمهم " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخدم أصحابه " قال أحد التابعين : صحبت ابن عمر لأخدمه فكان يخدمني "
وكان بعض السلف يشترط للسفر مع إخوانه أن يخدمهم .
ألا يستكثر معروفاً قدّمه لإخوانه بل يعمله ويظهر التقصير فهو عندما يقدم مساعدة لأخيه يعتذر أنه قصر في حقه وهذا الذي فيه تلك الصفة ارْجُه وهو نعم الأخ ويندر وجوده .
ألا تقبل في أخيك واش ولا نمام ، ومن نمّ إليك نمّ عليك وأحسن طريقة إغلاق الباب .
قبول الأعذار فإذا جاءك أخوك يعتذر – وقد أخطأ عليك- فاقبل عذره ، ولو كان العذر ضعيفاً ؛ فإن من كريم الخصال ومن آداب الأخوة أن تقبل العذر ولو كان عذراً فيه ما فيه والذي لا يقبل عذر أخيه فإنه لا يكاد يصفو له أخ 17(1/3)
17- زيارتهم في الله وهذه لها أهميتها العظيمة إذا أحسن استغلالها ، ووجهت الوجهة الطيبة .. فالمشي لها فيه أجر والدخول عند أخيك والجلوس عنده كل ذلك فيه أجر وهي تقوية أواصر المحبة والعلاقة بين الأخوان ،وهي أيضاً : تفيد من ناحية إزالة ما في النفوس والخواطر من الشحناء أو التغير فزيارة واحدة تغير ما في النفس، وهي أيضاً تخبرك عن أخيك إن كان يحتاج حاجة فتقضيها له من تفريج كربة أو قضاء حاجة أو مساعدة . روي عن ابن مسعود أنه قال :"كنا إذا فقد الأخ زرناه فإن كان مريضاً كانت عيادة ، وإن كان مشغولاً كانت عوناً ، وإن كان غير ذلك كان زيارة " والزيارة أيضاً تفيدك بسماع فائدة أو إسداء نصيحة أو أخذ تجربة أو تعلم علم وكلما كانت الزيارة أبعد داراً كانت أعظم أجراً " إذا زار الأخ أخاه المسلم نادته الملائكة أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً .
الصبر على جفوة الإخوان كما لو جئت تعتذر إليه بخطئك فلم يقبل عذرك فاصبر ولا تقابل الجفوة بجفوة فتتسع الهوّة
مدحهم في غير معصية الله : كاجتناب المدح في الوجه فهذا قد يؤدي إلى العجب لكن المدح على أن صنع لك معروفاً
إقلال الملامة والعتاب ، والتغافل عن زلاته كأنها لم تحصل .
ردّ الجواب ، فإذا أرسل لك رسالة -مثلاً- فمن الأدب أن تردّ بجوابها . قال بعضهم " إني أرى لرد الجواب حقاً كما أرى لرد جواب السلام " وقال الشاعر :(1/4)
فهم نفوس الأصحاب، فليس كلّ من تصاحبهم سواء ، فهذا يحتاج إلى مراعاة في جانب معين ، وآخر في جانب . وهذا لا يعجبه المزاح بهذه الطريقة ، وآخر يعجبه بتلك الطريقة وربما أنت لم تتوقع ذلك مسبقاً ، ولكن فهمك لنفسيته مما يعينك على ذلك .. حتى في الطعام ، فإذا عرفت أنه لا يحب الأكلة الفلانية فإن ذلك يجعلك لا تضعها في مائدتك إذا دعوته ومعرفة ما يعجبه في طريقة الكلام أو في مناداته فيما يحب ، فبعض الناس مثلاً لا يحب أن تناديه باسمه الأخير ( اسم الشهرة ) أو يعجبه كنية معينة تناديه بها ، فافهم نفسية صاحبك لتكسب ودّه على مدى الأيام .
عدم التمادي في الخصام : فإذا حصل خصام فلا تغرق في الخصومة واقتصد ( أحبب حبيبك ...) وتجنب الجدل العقيم ... إما المؤدي إلى العداوة وإيغار النفوس أو الذي لا فائدة منه أو الجدل بعد وقوع الشيء وهكذا كلما رأيت الجدل في غير محله فدعه .
ومن الآداب أن الإنسان يوزع العلاقة بين أصحابه ، بحيث لا يوغر صدور بعضهم على بعض فلا يكون منغلقاً على واحد معين ، دائماً يزوره ودائماً يحادثه وإذا جلس في المجلس وجّه الكلام إليه دون أن يعدل معهم بل ويظهر اهتمامه به حتى يكون ذلك مشتهراً بينهم أن فلاناً يفضل فلاناً على غيره ويقولون لماذا يختص فلان بفلان ولماذا يحادثه أكثر منا ، إذاً من آداب الصحبة أن يعدل في المصاحبة ويوزع العلاقة والصحبة والمودة والحبة والبر والصلة والاحترام والزيارة وإظهار الود على الجميع ، نعم وإن كان بعضهم أقرب إلى قلبك من بعض فلا يعني أن تفرط في الصحبة مع واحد معين إلا في الأشياء العامة ، فلماذا تركتهم مع أنهم أصحاب دين وخير وصلاح
* فاحرص على أن تصاحب من اجتمع فيه أكبر قدر هذه الخصال .(1/5)
* وهذه الآداب ليس المراد منها أن الواحد منا يستعرضها على إخوانه فيقول مثلاً: هذه الصفة ليست موجودة في فلان وهذه ليست في فلان ، وهكذا أو يقول : من يوجد فيه هذه الخصال حتى أصاحبه ! ولكن نحن نتكلم عما يجب علينا لا على غيرنا . ولو أن كل واحد نظر هذه النظرة لتقاربت النفوس
الصبر على طاعة الله
* في كثير من العبادات يشعر الإنسان بتثاقل أحياناً عندما يؤديها .. كالصلاة لاسيما الفجر ..الزكاة..الالتزام .
والإنسان مع إخوانه في الله وهو يعيش معهم قد ينزغ الشيطان بينهم في أشياء وتعاملات عديدة . . فلا يعجبه تصرف من هذا ،أو كلمة من ذاك .. الخ ، مما يجعل الإنسان يفكر –أحياناً – في أنه يترك إخوانه في الله،فكونه يجلس معهم ويجاهد نفسه للبقاء معهم ,أمر عسير وشاق .
الصبر عن الأخلاق السيئة ...... مجالات الصبر :
الصبر على شهوة الفرج يسمى عفة وضده الفجور والزنا .
وعلى شهوة البطن من التسرع وتناول مالا يحسن تناوله يسمى شرف نفس وضده الشره والدناءة .
وعلى إظهار مالا يحسن من الكلام ويسمى كتمان سر . 4- وعلى فضول الدنيا ويسمى زهداً .
وعلى قدر يكفي من الدنيا فيسمى قناعة .6- وعلى الإجابة لداعي الغضب ويسمى حلماً .
وعلى إجابة داعي العجلة والتسرع فيسمى وقاراً .8- وعلى إجابة داعي الفرار والهرب ويسمى شجاعة .
9-وعلى إجابة داعي الانتقام ويسمى عفواً وصفحاً .10 وعلى طاعة الله وأقداره وعن معاصيه ويسمى عبادة وطاعة وإيمانًا
أنواع الصبر
1- بدني اختياري . 2-بدني اضطراري . 3-نفساني اختياري ... 4- نفساني اضطراري
والبدني و الاضطراري لا يكون إلا من صبر الحيوان ، وبعض الناس عندهم من صبر الحيوان في التحمل والجلد البدني . والبعض الآخر صبره اضطراري كالحيوان الذي يصبر على الألم والأذى اضطراراً .(1/6)
فهذه الأنواع من الصبر ليست هي التي ترفع الإنسان إلى المكانة العليا إلا إذا قصد بها وجه الله . أما التي تحتاج إلى مصابرة –فعلاً- هي : 1-المصابرة النفسية على أهواء النفس ، 2-المصابرة على الأشياء الاختيارية التي يمكن للإنسان أن يفعلها ،وهو مع ذلك يفعلها في الخير ...فالإنسان إذا صابر باعث الهوى صار مثل الملائكة في هذا الجانب ، وإذا غلبه باعث الهوى والشهوة صار مثل البهائم .
* ولكن ! أيهما أفضل : الصبر الاضطراري أم الاختياري ؟
يقول ابن تيميه : الصبر الاختياري أكمل من الاضطراري ، ولهذا كان صبر يوسف الصديق –عليه الصلاة والسلام –عن مطواعة امرأة العزيز أفضل وأكمل من الصبر على ما ناله من الحبس أو ما ناله من إلقاء إخوته له في الجب ، وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى – عليهم الصلاة والسلام –على ما أنالهم الله من الأوامر وأعطاهم من الشريعة أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلاء ، وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح وصبر أبيه إبراهيم على تنفيذ أوامر الله عز وجل أكمل من صبر يعقوب على فقد ابنه ؛ لأن صبر إبراهيم وإسماعيل صبر اختياري وصبر إيثار ومحبة لله عز وجل بخلاف صبر يعقوب فإنه صبر اضطراري ؛ لأنه فقد ابنه فماذا يمكنه أن يفعل .. " ثم يقول : " وهكذا إذا أوذي المسلم على إيمانه وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان وإن لم يفعل أوذي وعوقب فاختار الأذى والعقوبة على فراق دينه أو الحبس والخروج من بلده ، كما جرى للمهاجرين حيث اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين وكانوا يعذبون ويؤذون هذا كله من أنواع الصبر الاختياري العظيم الأجر جدا " اهـ .
ولذلك قال الله "فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " وما قال : فاصبر كما صبر أيوب ؛ لأن صبرهم كان قمة صبر الاختيار(1/7)
تصور خاطئ : في أن الصبر لا يكون إلا في البلاء .! ولكن اعلم أن الصبر على النعماء لا تقل شدة عن الصبر على البلاء ، ولهذا يقول بعض السلف :"ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر " فأحياناً يصبر الإنسان ويصمد في مواجهة التحدي والمصائب ولكن إذا فتح عليه من زهرة الدنيا وزينتها لا يصبر !
ويقول بعض السلف أيضاً :[ البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون ] فقد تجد كافراً لا يتسخط ولا يشتكي لكن العافية لا يصبر عليها إلا المخلصون والصديقون ولذا كان أجره عظيماً ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم [ إن للغني الشاكر ما للصائم الصابر] فإذا جاءك نعمة من الله فيكون صبرك عليها كما يلي:
1-أن لا تغتر بها وتنسى الذي أعطاكها . 2- أن لا تنهمك في نيلها وتبالغ في استقصائها كمن يبالغ في الأكل والشرب حتى يؤدي إلى ضد ما يتمناه . 3- الصبر على أداء حق الله في هذه النعم فلا يصرفها في معصيته .
فقه قوة النفس :
في النفس قوّتان : قوة إقدام وقوة إحجام ، فيجب على الإنسان بعملية الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة على الأشياء التي تنفعه ، وقوة الإحجام يجعلها بالصبر على ما يضره ، ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به أقوى من صبره على مايضره ، فلذلك تجد بعض الناس يصبرون على مشقة الطاعة ولكنهم لا يصبرون على المعصية ! فتجده فعلاً يصبر على قيام الليل والصيام في الحر ويصلي الفجر مع الجماعة ويواظب على كثير من السنن ولكنه لا يصبر عن النظر إلى امرأة كانت تعبر الطريق !وكثير من الناس على العكس من الأول فهو عنده صبر عن المعاصي ولكن ليس عنده صبر على الطاعات، فتجده يصبر عن الشهوات والنظر المحرم ولا ... ولا... الخ ولكنه لا يستطيع أن يصبّر نفسه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين !
السبب يرجع إلى أمرين:
قوّة الداعي إلى الفعل 2-سهولة فعله .(1/8)
فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق شيء على الصبر ولنسبر هذه المسألة بالأمثلة :
صبر الشاب عن الفاحشة مكانته عظيمة إذا توفرت له ، كما حصل ليوسف عليه السلام فالداعي إلى الفاحشة قوي وأيضاً سهولة فعله ولذلك صار من السبعة الذين يظلهم الله في ظله ، فإذا تخلف واحد من الأمرين كانت مرتبة الصابر أقل ، وإن تخلف الأمران جميعاً كان الصبر هنا أقل المراتب .
وههنا سؤال مهم ن ويتعلق بالكلام الآنف الذكر ، وهو : لماذا صار الصبر عن آفات اللسان صعباً ؟
لأن ذلك متوفر فيه أمران :1- سهولة حركة اللسان 2-قوة الداعي إلى ذلك من التشفي والتفكه وقضاء الوقت ومشاكلة الناس ، وإثبات الجرأة والقدرة على الكلام ، فهناك تناقضات في حياة الناس فهم يتورعون عن أمور يسيرة ولكنهم يقعون في عظائم المحرمات ، حتى وصل الحال ببعضهم ما ذكره ابن القيم – رحمه الله – وهي حال عجيبة حينما قال :[ إن رجلاً اختلى بامرأة أجنبية فلما أراد مواقعتها ، قال : يا هذه غطي وجهك ، فإن النظر إلى وجه ألأجنبية حرام ..! ] ومثل ما أخبر به ابن عمر عن أهل العراق الذين قتلوا الحسين وقد جاءوا يسألونه عن حكم قتل القمل حال الإحرام .
الصبر في الدعوة والعلم :
الصبر لا ينقطع في جميع مراحل الدعوة ، حتى لو وصلت إلى مرحلة التمكن والعلو في الأرض .
ومن الأمور التي تقابل الصبر في الدعوة وغيرها :
الاستعجال فأحياناً يتسرع الإنسان في الحكم على الناس بالخطأ ، أو يتسرع فلا يعذرهم ، ولو أنه صبر لكان خيراً له .
وأحياناً يتسرع الإنسان ويأخذ علماً من العلوم وهناك ما هو أهم منه .ومن الناس من يأتي ليقرأ فيمل فيترك القراءة فلا بد أن يصابر نفسه ، ولينظر كيف وصل العلماء الكبار إلى حالات عجيبة من الصبر على طلب العلم ، وإليك هذه النماذج: كان النووي رحمه الله له حوالي عشرة دروس متواصلة يبحث فيها ويقرأ بنفسه .(1/9)
والشيخ محمد بن إبراهيم وكذلك الشنقيطي وابن باز رحمهم الله كان لكل واحد منهم قرابة خمسة دروس متواصلة ، غير وقت الطلب الخاص بكل واحد منهم .
وهذا الشيخ الألباني رحمه الله يجلس في المكتبة الظاهرية ليبحث عن حديث فيجلس على السلم واقفاً قرابة ساعتين أحياناً وهو يقرأ في هذه المخطوطات المتآكلة بهذا الخط الدقيق المتشابك .
وبعد: فإن مجالات الصبر وحقائقه متعددة ومتنوعة وأفضل ما يمكن للإنسان أن يعرف به حقيقة الصبر : هو المعايشة اليومية للمشاكل التي تواجهه وهي كثيرة : مشاكل اجتماعية .. مشاكل مع نفسه .. مع الشهوات ..مع الناس في الدعوة إلى الله ، فأحسن ما يمكن أن يتعلم الإنسان فيه الصبر : قضية الممارسة والمعايشة اليومية لأحداث الحياة والمعاملة . ولا تكاد تتأمل حادثة من حوادث الحياة التي تمرّ بك إلا وتحس بأن الصبر هو المفتاح لما انغلق وجهك وهو الدواء لكل المشاكل المستعصية ، وهذا يعيدنا إلى الكلام عن مجالات الصبر التي ذكرناها في أول الحديث .
بحاجة إلى ثلاث عيون
كلّها تبدأ بحرف العين :
1- العلم ... ... ... 2- العبادة ... ... ... 3-العفة
والشباب عندهم نقص وضعف في هذه الثلاث وتفصيلها :
الضعف في العلم (القراءة – الدروس – الدراسة ).
ما مدى رغبتك في الدروس ؟في الدراسة ؟ في القراءة ؟
صور من حياة العلماء في الماضي والحاضر .
جـ -واجبك (العلم –الدعوة إليه وتعليمه –عدم التعالم –اختيار النافع في الآخرة )
الضعف في العبادة بسبب ( المعاصي – المباحات – الخلطة – الكسل )
أ- هجر القرآن ... ... ب- إهمال الأذكار ... ... جـ - التفريط بالنوافل
د –اعتياد فوات الطاعات هـ - قسوة القلب وظلمة الروح و – عدم الخشوع والطمأنينة .
الضعف في العفة ( اللسان الفرج )
قد يكون الإنسان متعلماً وعابداً وليس متعففاً
التساهل في شهوة اللسان ( الكذب – الغيبة – الثرثرة ) .
جـ -التساهل في شهوة الفرج :(1/10)
النظر إلى الأمرد عندهم أهون من المرأة 2- الكلام في النساء وما يستحى منه
3-الثقة بالنفس 4- حديث ثوبان [ لأعلمن أقواماً ...] 5- العادة السرية 6- العشق والتعلّق(1/11)
الوسواس أنواعه وأسبابه وعلاجه
منى السعيد الشريف
الوساوس من المشكلات العصيبة التي يتعرض لها عدد كبير من الناس، وهي متفاوتة في خطورتها، فقد تبدأ بأمور بسيطة عارضة حتى تصل بصاحبها إلى قضايا خطيرة، كالوساوس القهرية وما تسببه من شكوك قد تتصل بمسلمات دينية وثوابت عقدية مثل الشك في وجود الله تعالى، وفي عقيدة القضاء والقدر، وفي أداء العبادات كالطهارة والصلاة وغيرها من العبادات.
قال ابن منظور رحمه الله تعالى: "الوَسْوَسَة والوَسْواس: الصوت الخفي من ريح، والوَسْوسة والِوسْواس: حديث النفس، يقال: وَسْوَست إليه نفسه وَسْوَسَة وِوسْوَاساً، بكسر الواو المصدر، وبالفتح الاسم، مثل الزِّلزال والزَّلزال، والوَسْوَاس بالفتح هو الشيطان، وكل ما حدثك به ووَسْوَس إليك.. ورجل مُوَسوس إذا غلبت عليه الوَسْوَسة"(1).
وقد تناول قدماء الأطباء المسلمين موضوع الوساوس بشيء من التفصيل، ومنهم أبو زيد البلخي الذي ذكر أنَّ "المريض لا تزال تلمُّ به وساوس القلب التي قد تكون من جنس ما يحبُّ مثل عشقه شيئاً يهواه، فيعلق قلبه به ويصرف فكره في كل الأوقات إليه، ويخطر بباله كلَّ حين، ويجعله نصب وهمه دائماً، فيمنعه ذلك من التفكير فيما سواه، ويشغله عن أكثر أعماله، وعن قضاء أوطاره.. وقد تكون الوساوس من جنس ما يخافه المريض ويخشاه من أمرٍ لعله يحلُّ به عن قريب، وأشده ما يخشى أن يصيبه في أمر بدنه وحياته فإن هذا من أصعب المخاوف وأشدها تمكناً من القلب واستيلاءً عليه.. وهو أيضاً وسواس أصعب من الذي قبله، لأن انشغال الفكر بما يحبه الإنسان فيه حظ من اللذة، فأما انشغاله بمكروه يتوقعه فهو مؤذٍ للنفس.. وصاحب الوسواس في حال اليقظة شبيه بصاحب الأحلام المروعة في حال النوم"(2).(2/1)
ويقسم الأطباء أعراض الوساوس القهرية إلى قسمين: (الوساوس والشكوك الفكرية) و (العادات والسلوكيات) التي تترتب على هذه الوساوس. بمعنى آخر، أنه يمكن أن يوجد خلل فقط في الفكرة (الوسواس)، أو خلل فقط في العمل (القهر)، أو قد يكون المرض مركباً من الوسواس والقهر (الاثنين معاً) والأكثر شيوعاً هو الوسواس القهري.
الوساوس الفكرية:
هي أفكار أو صور ذهنية أو نزعات تتكرر وتتطفل على العقل بحيث يحس الشخص أنها خارجة عن سيطرته، وتكون هذه الأفكار بدرجة من الإزعاج بحيث يتمنى صاحبها مغادرتها من رأسه، وفي نفس الوقت يعرف صاحب الأفكار أن هذه الأفكار ليست إلا تفاهات أو خرافات. ويصاحب هذه الأفكار عدم الارتياح، والشعور بالخوف أو الكراهية، أو الشك أو النقصان. ومن أمثلة هذه
الوساوس:
1- الاجترار الوسواسي: وهو الوقوع في شراك مجموعة من الأفكار متعلقة بموضوع معين بحيثُ لا يستطيع المريضُ التوقف عنها وعادةً ما يكونُ الموضوعُ نفسه من المواضيع التي لا معنى للتفكير فيها، أو من المواضيع المحرم شرعًا بالنسبة للشخص أن يخوضَ فيها مثلَ: منْ خلقَ الله ؟ أو كيفَ يستطيعُ الله أن يراقبَ كل هذا الكم الهائل من البشر...إلى آخره
2- استحواذ فكرة الوسخ والتنجيس: وتشمل مخاوف بلا أساس من التقاط مرض خطير، أو الخوف المبالغ من الوسخ أو النجاسة أو الجراثيم (أو حتى الخوف من نقلها إلى الآخرين، أو البيئة أو المنزل)، أو كراهية شديدة للإخراجات الشخصية، أو الاهتمام الزائد عن الحد بطهارة ونظافة الجسم.
3- شكوك غير طبيعية: وتتمثل في شكوك لا أساس لها من أن الشخص لم يقوم بالشيء على وجهه الصحيح، مثل إغلاق أجهزة أو إتمام الوضوء أو الصلاة على وجهها الأكمل.(2/2)
4- أفكار دينية مستحوذة: مثل: الخوف المبالغ فيه من الموت، أو الاهتمام غير الطبيعي بالحلال والحرام، والخوف الزائد من ارتكاب الذنوب والمعاصي، وأفكار ووساوس مزعجة بانتهاك الحرمات والأعراض والوقوع في الكفر، ضغط عصبي شديد بسب الدين والله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم مع العجز عن وقف هذا السباب.
5- أفكار تطيرية أو خيالية: الاعتقاد أن بعض الأرقام أو الألوان أو ما أشبهها هي محظوظة أو غير محظوظة.
6- أفكار تسلطية: وغالباً ما تكون دون سلوك قهري، أي أنها أفكار فقط دون استجابة عملية. وهو نوع مزعج جداً من الأفكار، لأن صورها غالباً ما تكون صوراً أو أفكاراً جنسية أو غير أخلاقية مع الأقارب أو الأطفال أو مع الناس المقدسين كالأنبياء، أو تكون على شكل رغبة عدوانية لإيذاء الآخرين. وغالباً ما يشعر المريض معها بالذنب وتأنيب الضمير ويصاحبها الشعور بالدونية والكآبة، وبالذات لو أصابت رجال الدين أو المتدينين عموماً.
العادات والسلوكيات:
المصابون بالوساوس القهرية يحاولون التخلص من الأفكار المتكررة، عن طريق القيام بعادات اضطرارية، والقيام بهذه العادات لا يعني أن القائم بها مرتاح من قيامه بها، ولكن العمل بهذه العادات هي لمجرد الحصول على راحة مؤقتة من تكرار الوسواس، ومن هذه العادات والسلوكيات:(2/3)
1- التنظيف والتغسيل الكثير: التكرار الروتيني المبالغ فيه للغسيل أو دخول الحمام أو تغسيل الأسنان، أو الشعور الذي لا يمكن التخلص منه بأن الأواني المنزلية مثلاً نجسة، وأنه لابد من غسلها بما فيه الكفاية حتى تكون نظيفة بالفعل. ويعرف هذا السلوك عند الأطباء المختصين باسم: (البطء الوسواسي القهري) حيث يقضي أصحابه فترات مفرطة في الطول "ساعات" لقضاء أفعال يفعلها معظم الناس خلال دقائق، ومن الأمثلة المستمدة من تراثنا على (البطء الوسواسي) ما ذكرهُ عبد الوهاب الشعراني إذ يقول: وَشهدتُ أنا بعينيَّ موسوساً دخلَ ميضَأةً ليتوضأ قبل الفجر من ليلة الجمعة فلا زال يتوضأ للصبح حتى طلعت الشمسُ.... ثم جاءَ إلى باب المسجد فوقفَ ساعةً يتفكر.... ثم رجعَ إلى الميضأةِ... فلا زال يتوضأ ويكررُ غسلَ العضو إلى الغاية... وينسى الغسل الأول... ولم يزل حتى خطبَ الخطيبُ الخطبةَ الأولى... ثم جاءَ إلى باب المسجد فوقفَ ساعةً ورجعَ.. فلا زالَ يتوضأ حتى سلمَ الإمامُ من صلاة الجمعة... وأنا أنظرُ من شُبَّاكِ المسجد.. ففاته صلاةُ الصبح والجمعة !!!(3).
2-الشك في عدم طهارة الماء المتوضأ به ونجاسته، وعدم التيقن من نزول الماء على كل مكان في العضو بنفس قوة جريانه على باقي الأعضاء، والوسوسة الشديدة في انتقاض الوضوء سواء بخروج ريح أو نزول نقطة مَذْي أو بول أو لمس القدم للأرض أو رذاذ الماء، والشك المستمر في نجاسة الملابس والمياه المكشوفة، والشك في النية في العبادات كالوضوء والصلاة.
3- الوسوسة في مخارج الحروف وعدم نطق الكلمة بالصورة الصحيحة والتكلف فيها بكثرة تكرارها. الوسوسة في التكبير والفاتحة وغيرها من أركان الصلوات المنطوقة، والوسوسة في ضبط اتجاه القبلة، والوسوسة في الطعام هل تم ذبحه بالطريقة الشرعية ؟ وهل الذي ذبحه مسلم أم لا ؟(2/4)
4- الاضطرار لعمل شيء معين إلى أن يصبح صحيحاً: مثل تكرار العبادات خشية القيام بها بصورة خاطئة، وكذا تكرار الأذكار.
5- الإحساسُ المتضخمُ بالمسؤولية، مثل استعادة الحديث الذي تم إجراؤه مع الناس للتأكد من عدم الكذب فيه أو مخالفة الحقيقة.
6- سلوكيات تعتمد على اعتقادات تطيرية، مثل النوم في وقت معين حتى يبعد الشر.
والمصاب بالوساوس القهرية يتمنى لو أنه تخلص من الأفكار الشنيعة أو الأفعال المتكررة، ولكنه لا يقدر، وربما يكون من الصعب جداً على المريض علاج نفسه، وخصوصاً أن العلاج السلوكي يحتاج إلى مواجهة المرض، وقد لا يعرف مدى شدة الألم الذي يصيب المريض بمرض الوساوس القهرية سوى الشخص المصاب به، ولكن هذا الألم لا يمكن الهروب منه، لذلك نقول للمريض إن المرض لن يختفي إن تُرك للوقت، فالعلاج الدوائي والسلوكي (وهو الأهم) وإن كان مؤلماً في البداية ولكنه بعد مدة من الزمن سيذهب، وهذه الأفكار التي تزعج وتقلق المريض ستزول وتضعف تدريجياً إن شاء الله تعالى، حتى تصبح بلا قيمة.
الوساوس من كيد الشيطان الرجيم:(2/5)
الشيطان له مداخل عدة، وطرق شتى على بني آدم، تختلف باختلافهم، ومن أخطر هذه المداخل وأعظمها ضرراً، وأقواها تأثيراً، وأعمها فساداً هي الوسوسة، التي هي طريقه لفريق من المسلمين الذين عجز عن إغوائهم بالطرق الأخرى، ولم تصدهم حبائله المختلفة، فعمد إليهم بهذه الوسيلة، وخدعهم بخدعة ظاهرها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب، لهذا أمر الله تعالى أن نستعيذ منه ومن وسوسته على وجه الخصوص، وأنزل سورة خاصة بذلك وهي سورة الناس، قال الشيخ أبو محمد الجويني في ذمه للموسوسين في كتابه "التبصرة في الوسوسة" كما نقل ذلك عنه النووي في المجموع: (وهذه طريقة الحرورية الخوارج، ابتُلوا بالغلو في غير موضعه، وفي التساهل في موضع الاحتياط، قال: ومن فعل ذلك فكأنه يعترض على أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وسائر المسلمين)(4).
إلقاء الشبهات على القلب:
على الرغم من أن العباد نُهوا أن يتفكروا في ذات الله، وفي حقيقة صفاته وكيفيتها، وأُمروا أن يتفكروا في مخلوقات الله الدالة على قدرته، إلا أننا نجد الشيطان يوسوس لبعضهم ويورد عليهم أسئلة تضيق منها صدورهم ويتحرجون منها، مصداقاً لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حدث ذلك لبعض أصحابه.(2/6)
فعن أبي هريرة } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته"(5) وعن أنس } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله ؟"(6) وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقك ؟ فيقول: الله، فيقول: فمن خلق الله ؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله، فإن ذلك يذهب عنه"(7) وعن أبي هريرة } قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال صلى الله عليه وسلم : "وقد وجدتموه" قالوا: نعم، قال صلى الله عليه وسلم "ذاك صريح الإيمان"(8) وعن ابن عباس (قال: جاء رجل إلى النبي "فقال: يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه يُعَرِض بالشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به فقال صلى الله عليه وسلم : "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة"(9) وعن أبي زُميل قال: "سألت ابن عباس، فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله ما أتكلم به؛ قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال: وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله عز وجل: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك( 94 ) صلى الله عليه وسلم يونس: 94}، قال لي: إذا وجدتَ في نفسك شيئاً فقل: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم 3 صلى الله عليه وسلم الحديد: 3}"(10).(2/7)
قال النووي: (أما معاني الأحاديث وفقهها فقوله صلى الله عليه وسلم "ذلك صريح الإيمان، ومحض الإيمان" معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً وانتفت عنه الريبة والشكوك. وقيل معناه: إن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد. فعلى هذا معنى الحديث: سبب الوسوسة محض الإيمان، أو الوسوسة علامة محض الإيمان. وهذا القول اختيار القاضي عياض. وأما قوله صلى الله عليه وسلم : "فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله" وفي الرواية الأخرى: "فليستعذ بالله ولينته" فمعناه: الإعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه.
قال الإمام المازري - رحمه الله -: ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها، والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، قال: والذي يقال في هذا المعنى أن الخواطر على قسمين: فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمراً طارئاً بغير أصل دفع بغير نظر في دليل، إذ لا أصل له ينظر فيه، وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فأنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم : "فليستعذ بالله، ولينته" فمعناه: إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه، وليعرض عن الفكر في ذلك، وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان، وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها والله أعلم"(11).(2/8)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولفظ "التسلسل" يراد به التسلسل في المؤثرات وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل: "آمنت بالله ورسوله"(12).
وسوسة الشيطان في العبادات، كالطهارة والصلاة وغيرهما:
قال ابن الجوزي: " اعلم أن الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا يدخل عليه إلا مُسارقة، وقد لبَّس إبليس على كثير من المتعبدين بقلة علمهم، لأن جمهورهم يشتغل بالتعبد ولم يحكم العلم، وقد قال الربيع بن خُثَيم: تفقه ثم اعتزل " ثم أخذ رحمه الله تعالى يمثل لذلك بقوله: " ومن ذلك أنه يأمرهم بطول المُكْث في الخلاء. ومنهم من يقوم فيمشي ويتنحنح ويرفع قدماً ويحط أخرى وعنده أنه يستنقي بهذا من البول وكلما زاد في هذا نزل البول. ومنهم من يلبس عليه في النية، فتراه يقول: أرفع الحدث؛ ثم يقول: أستبيح الصلاة ؛ ثم يعيد فيقول: أرفع الحدث؛ وسبب هذا التلبيس الجهل بالشرع لأن النية بالقلب لا باللفظ. ومنهم من يلبس عليه بالنظر في الماء المتوضأ به، فيقول: من أين لك أنه طاهر ويقدر له فيه كل احتمال بعيد؛ وفتوى الشرع يكفيه بأن أصل الماء الطهارة، فلا يترك الأصل بالاحتمال. ومنهم من يلبس عليه بكثرة استعمال الماء.. وربما أطال الوضوء ففات وقت الصلاة، أو فات أوله وهو فضيلة، أو فاتته الجماعة "(13).(2/9)
وقال أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله(14): أَجَلّ محصول عند العقلاء الوقت، وأقل متعبد به الماء، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من الماء"(15)، وقال في المني: "أمطه عنك بإذخرة"(16)، وقال في الحذاء: "طهوره بأن يدلك بالأرض"(17)، وفي ذيل المرأة "يطهره ما بعده"(18)، وقال: "يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام"(19)، وكان يحمل بنت أبي العاص بن الربيع في الصلاة(20)، ونهى الراعي عن إعلام السائل له عن الماء وما يرده، وقال: "ما أبقته لنا طهور"، وقال: "يا صاحب الماء لا تخبره"(21).
وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: إني لأستنجي من كوز الحُب "وعاء الماء كالجرة" وأتوضأ، وأََفضل منه لأهلي(22). وقال أحمد رحمه الله: من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء(23) وقال المروزي: وضأت أبا عبد الله بالعسكر، فسترته من الناس، لئلا يقولوا: إنه لا يحسن الوضوء، وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يَبُلُّ الثرى(24).
وقال البخاري: وكره أهل العلم الإسراف فيه - يعني الوضوء - وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم (25) وقال ابن عمر: "إسباغ الوضوء الإنقاء"(26) وقال أبي بن كعب }: "عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله عز وجل فاقشعرَّ جلده من خشية الله إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها، وإن اقتصاداً في سبيلٍ وسُنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل ولا سنة، فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصاداً أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم"(27).(2/10)
قال العلامة ابن القيم: "ومن أصناف الوساوس ما يفسد الصلاة، مثل: تكرير بعض الكلمة، كقوله في التحيات: آت آت، التحي التحي، وفي السلام: أسْ أسْ، وقوله في التكبير: أكككبر، ونحو ذلك، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به، وربما كان إماماً فأفسد صلاة المأمومين، وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعاداً له عن الله من الكبائر، وما لم تبطل به الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة، ورغبة عن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، وما كان عليه أصحابه، وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه، وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه، فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة، وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها، وتعذيب نفسه، وإضاعة الوقت، والاشتغال بما ينقص أجره، وفوات ما هو أنفع له.. وتغرير الجاهل بالاقتداء به.. كما قال أبوحامد الغزالي وغيره: الوسوسة سببها إما جهل بالشرع، وإما خَبَل في العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب"(28).
من أسباب العلاج لوساوس الشيطان المتعلقة بالطهارة والصلاة والتشاغل عنها بجانب ما سبق ما يأتي:(2/11)
1- التعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال القرطبي في تفسير قوله: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم 200 صلى الله عليه وسلم الأعراف: 200} أي: اطلب النجاة من ذلك بالله، فأمر تعالى أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه، والاستعاذة به، وقد حُكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سوَّل لك الخطايا؟ قال: أجاهده؛ قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده؛ قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده؛ قال: هذا يطول، أرأيتَ لو مررتَ بغنم فنبحكَ كلبُها ومنع من العبور، ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي؛ قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك"(29) ولما أتى عثمان بن أبي العاص النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يُلبِّسهُا عليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذاك شيطان يقال له خِنْزَب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً". قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني(30).
2- استصحاب القاعدة الفقهية العظيمة: "اليقين لا يزال بالشك"، فما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين. ودليل ذلك ما صحَّ عن أبي هريرة } قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا وجد أحدُكم في بطنه شيئاً فأشْكَل عليه أَخَرج منه شيء أم لا ؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً"(31) فمن كان متيقناً أنه توضأ، ثم شك هل أحدث أم لا؟ لم يلتفت إلى هذا الشك، وبنى على ما هو متيقن منه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا شك أحدكم في الصلاة فلم يَدْر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطَّرِح الشك وليبْنِ على ما استيقن ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان"(32).(2/12)
3- عدم البول في المستحم، والمراد به الماء الراكض، فقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: " لا يبولن أحدُكم في مستحمه ثم يغتسل فيه - قال أحمد: ثم يتوضأ فيه - فإن عامة الوسواس منه"(33).
4- الإقتداء والتأسي بمسلك السلف الصالح في هذا الجانب، حيث كانوا يتشددون ويحذرون مما يدخل في بطونهم، وما كانوا يغالون في مسائل الطهارة، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً: فروى أبو داود في سننه عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: " قلت يا رسول الله، إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا تطهرنا؟ قال: "أوليس بعدها طريق أطيب منها؟" قالت: قلت: بلى؛ قال: "فهذه بهذه".(34) وقال عبد الله بن مسعود }: "كنا لا نتوضأ من موطِئ"(35) أي موطوء، يعني إذا وطئ على المكان القذر الجاف لا يجب عليه غسل القدم. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الرجل يطأ العذرة ؟ قال: "إن كانت يابسة فليس بشيء، وإن كانت رطبة غسل ما أصابه"(36). وقال حفص: "أقبلتُ مع عبد الله بن عمر عامدين إلى المسجد، فلما انتهيتُ عدلتُ إلى المطهرة لأغسل قدمي من شيء أصابهما، فقال عبد الله: لا تفعل، فإنك تطأ الموطئ الرديء، ثم تطأ بعده الموطئ الطيب - أو قال: النظيف - فيكون ذلك طهوراً؛ فدخلنا المسجد فصلينا جميعاً"(37) وقال أبو الشعثاء: " كان ابن عمر يمشي بمنى في الفروث والدماء اليابسة حافياً، ثم يدخل المسجد فيصلي فيه، ولا يغسل قدميه"(38) وقال عمران بن حدير: "كنت أمشي مع أبي مِجْلز إلى الجمعة، وفي الطريق عذرات يابسة، فجعل يتخطاها ويقول: ما هذه إلا سودات، ثم جاء حافياً إلى المسجد فصلى، ولم يغسل قدميه"(39). وقال عاصم الأحول: " أتينا أبا العالية فدعونا بوضوء، فقال: مالكم، ألستم متوضئين؟ قلنا: بلى، ولكن هذه الأقذار التي مررنا بها؛ قال: وهل وطئتم على شيء رطب تعلق بأرجلكم؟ قلنا: لا؛ فقال: فكيف بأشد من هذه الأقذار يجف، فينسفها الريح في رؤوسكم ولحاكم؟"(40).(2/13)
*الهوامش والمصادر:
(1) لسان العرب لابن منظور ج6 254-255 مادة "وسس" بتصرف.
(2) المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي: أبحاث وأعمال المؤتمر العالمي الرابع عن الطب الإسلامي، الكويت 1981، مقالة د. محمد عبد الهادي أبو ريدة (الصحة البدنية والنفسية في الإسلام) ص 652 65 .
(3) عبد الوهاب الشعراني في المنن الكبرى ص 342 .
(4) المجموع للنووي ج 6 ص 345 .
(5) رواه الإمام البخاري رحمه الله في كتابه الجامع الصحيح كتاب بدء الخلق حديث رقم 2560، ورواه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها رقم 214 .
(6) رواه البخاري في كتاب الاعتصام حديث رقم 6007 .
(7) أخرجه الإمام أحمد في مسنده كتاب باقي مسند الأنصار رقم 25006، وقال الألباني حديث صحيح، أنظر صحيح الجامع 1542 .
(8) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها برقم 209 .
(9) صحيح أبو داود- الألباني رقم 5112 .
(10) رواه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب في رد الوسوسة حديث رقم 4446 .
(11) صحيح مسلم بشرح النووي باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها ج الأول ص 433-434 ط دار الحديث بالقاهرة بتصرف.
(12) درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول لابن تيمية ج1 ص 363 دار الكنوز الأدبية الرياض 1391ه بتحقيق محمد رشاد سالم .
(13) تلبيس إبليس ص 131-132 ط دار عمر بن الخطاب الإسكندرية تحت باب: "ذكر تلبيس إبليس على العباد في العبادات" بتصرف.
(14) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 86 الباب الثامن (ذكر تلبيس إبليس على العباد في العبادات) .
(15) الحديث رواه البخاري عن أبي هريرة في كتاب الوضوء باب ترك النبي والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد 1-65، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول 1-91 .(2/14)
(16) الحديث رواه الدار قطني عن ابن عباس كتاب الطهارة، باب ما ورد في طهارة المني وحكمه رطباً ويابساً 1-124 الحديث رقم 1 وفي مجمع الزوائد (279/1،280): رواه الطبراني في الكبير وفيه محمد بن عبيد الله العزرمي وهو مجمع على ضعفه، وعن ابن عباس قال: لقد كنا نستله بالإذخر والصوفة يعني المني رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات .
(17) رواه أبو داود عن أبي هريرة كتاب الطهارة، باب في الأذى يصيب النعل (267/1-268) والحديث برقم 385، ورواه البيهقي في السنن الكبرى كتاب الصلاة، باب طهارة الخف والنعل (430/2 وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم 833).
(18) الحديث رواه الترمذي عن أم ولد لعبد الرحمن بن عوف كتاب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ما جاء في الوضوء من الموطأ رقم 133 .
(19) ورواه أبو داود عن علي } كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب (262/1،263) والترمذي في أبواب الصلاة باب ما ذكر في نضح بول الغلام الرضيع (509/2،510) رقم610 .
(20) رواه مسلم عن أبي قتادة الأنصاري كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب جواز حمل الصبيان في الصلاة.
(21) الحديث رواه الدار قطني في كتاب الطهارة عن ابن عمر باب حكم الماء إذا لاقته النجاسة(26/1) رقم 30 والحديث ضعفه الألباني تمام المنة رقم 48 .
(22) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم ج1 ص 128 دار المعرفة بيروت 1975 .
(23) المصدر السابق .
(24) المصدر السابق.
(25) المصدر السابق ص 132 .
(26) المصدر السابق ص 132 .
(27) المصدر السابق ص 132 .
(28) إغاثة اللهفان ج1 ص 146 .
(29) تفسير القرطبي - سورة الأعراف ج 3 ص 2863 ط دار الغد العربي بمصر.
(30) رواه مسلم كتاب السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة رقم 4083 .
(31) رواه مسلم كتاب الحيض باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك حديث رقم 362 .(2/15)
(32) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب السهو في الصلاة والسجود له رقم 888 .
(33) رواه أبو داود عن عبد الله بن مغفل كتاب الطهارة باب في البول في المستحم حديث رقم 25 .
(34) أبو داود كتاب الطهارة باب في الأذى يصيب الذيل حديث رقم 327 .
(35) رواه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله باب ما جاء في الوضوء من الموطأ رقم 133 .
(36) أنظر إغاثة اللهفان لابن القيم ج1 ص 152 .
(37) المصدر السابق.
(38) المصدر السابق.
(39) المصدر السابق .
(40) المصدر السابق.(2/16)
جمعية المحافظة على القرآن الكريم
المؤتمر الأول:
نحو جيل قرآني
عمان(9-10/8/2006م)
بحث بعنوان:
21 إشراقة لتدريس مبدع
إعداد:
حمزة عبد الكريم حماد
المقدمة:
الحمد لله عدد مكاييل البحار، وعدد ما أظلم عليه ليل وأشرق عليه نهار،وعدد ورق الأشجار، والصلاة والسلام على رسوله إمام المرسلين الأخيار، ما اتصلت عين بنظر، وما هطل على الأرض من مطر،وعلى آله وصحبه الأطهار، وبعد:
إن تعليم القرآن الكريم منة يمنّ الله عز وجل بها على المعلم، وإن تعليم القران الكريم رسالة يؤديها الأول للآخر ، ومهمة تربوية يقوم بها معلم كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد قصدت في هذا البحث إبراز بعض الجوانب التي قد تكون مفعلة عند بعض السادة معلمي كتاب الله، وقد تكون كذلك غير مفعلة لدى البعض الآخر، غير أنني لا أدعى كمال هذا البحث وخلوه من أي نقص بل هو جهد بشري يعتريه الخطأ والسهو والزلل ، وقد حاولت أن أرسم في طيات هذا البحث بعض الجوانب الإشراقية لمعلم مبدع، وختاما أقول:
أسير خلف ركاب النجب ذا عرج
مؤملاً كشف ما لاقيت من عوج
فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا
فكم لرب الورى في ذاك من فرج
وإن بقيت بظهر الأرض منقطعاً
فما على عرج في ذاك من حرج
قبل أن نبدأ:
ما هو التدريس المبدع؟ ومن هو المعلم المبدع؟
التدريس المبدع: هو عبارة علاقة إنسانية يغلب عليها الحب ، والتسامح ، والحرية ، بل هو مسرح إنساني تلعب فيه العلاقات الشخصية بين المتعلم ، والمعلم دورًا مؤثرًا في معنوياتهم ، ودافعيتهم ، وتعلمهم .
يرتبط التدريس المبدع بطرائق ، وأساليب التدريس المثيرة للفكر ، وإدارة الديمقراطية للنقاش ، وإحداث التعلم ، وتحقيق دافعية التعلم الذاتي ، ويرتبط كذلك بالتدريس المنظم وفق خطط مرسومة ومدروسة ، تعتمد على مهارات التدريس الأساسية لتحقيق التدريس المتميز الفعال .
أما المعلم المبدع فهو:(3/1)
* الفنان ، والممثل الذي يمتلك أدوات التدريس المناسبة والفعالة ، يأسر بها خيال المتعلمين ، ويتحدى عقولهم بتشكيلاته الفكرية ، وحركاته الوجدانية ، والسلوكية .
* هو الذي يقيم علاقات بينيه ناجحة مع المتعلمين ، ويصل إلى مستوى رفيع من الاتصال الشخصي معهم .
* هو الذي يحول درسه من مجرد مثيرات ، واستجابات إلى موقف إنساني مشبع بالدفء ، وتميزه التقنية ، وفيه يستمر المتعلمون في حالة من النشاط العقلي ، والاستغراق في الدرس ، والتفاعل معه عبر علاقات وثيقة من الود ، والاحترام ، والتسامح ، تدعو إلى تعزيز التواصل ـ وإثارة التفكير بشكل مستمر( 1) .
لماذا التدريس المبدع؟؟
قالوا قديما: وبضدها تتميز الأشياء، وستحاول الدراسة أن تعقد مقارنة بين الطرق الإبداعية والطرق الاعتيادية في التدريس من خلال الجدول الآتي:
الرقم
وجه المقارنة
الطرق الإبداعية
الطرق الشائعة
1
أهداف التعليم :
ـ أن يصبح المتعلم مفكراً ومبدعاً، يتفاعل مع مجتمعه ويطوره.
ـ أن يساهم في حل مشكلات مجتمعه بطرق فعّالة مُبتكرة.
ـ تنمية قدرات المتعلم إلى أقصى ما تسمح به.
ـ اجتياز الاختبارات التي تُعقد للمتعلم.
ـ تحصيل المعلومات والمهارات الأساسية.
2
صفات المعلم :
ـ مرن التفكير، مُلم بمادته، مخطط لمواقف التدريس، يختار الاستراتيجية المناسبة وينفذها، قادر على مواجهة المتغيرات الصفية، مُبدع مُبتكر في حياته العامة.
ـ غالباً جامد في تفكيره، ميّال إلى الاتّباع لا الإبداع، مستجيب للأوامر، غير ميّال للمبادرة، خططه التدريسية غير مرنة، نمطي في حياته العامة.
3
المتعلم
ـ المتعلم هو محور العملية التعليمية.
ـ تراعي ميول المتعلم وقدراته.
ـ تهتم بالفروق الفردية بين المتعلمين وتوظفها.
ـ تهتم بتنمية قدرات المتعلم، وخاصة قدراته الإبداعية.
ـ تهتم بإكساب المتعلمين روح البحث والتنقيب والاكتشاف والإبداع
ـ تُنمي دوافع المتعلم خاصة الداخلية منها.(3/2)
ـ المعلومات وكسبها هو محور العملية التعليمية.
ـ لا تهتم كثيراً بميول المتعلم ولا اهتماماته.
ـ تعليم لا يهتم بالفروق بين المتعلمين فهو أقرب لقيادة القطيع.
ـ تركز على قدرات الحفظ والتسميع لدى المتعلم.
ـ تُقدم المعلومات للمتعلم جاهزة، لذا فهي مملة غالباً، والإيجابية فقط للمعلم.
ـ لا تهتم بدوافع المتعلم، فهي تنمو عرضاً ومعظمها خارجية.
4
الرغبة في التعلم
تزداد رغبة المتعلم في التعلم، ويحرص على المشاركة في المناقشات والنشاطات الإبداعية.
يمل المتعلم الجو المدرسي، ويضطر للغياب والهروب وربما التسرب من التعليم كلية.
5
مناخ التعليم والتعلم
ـ يمتاز بالحرية والتقبُّل والتعاون.
ـ تعدد الآراء والمناقشات الحرة، والتعبير عن الذات.
ـ يُعوّد المتعلم على البحث والتنقيب والاستقصاء.
ـ يسيطر على العمل روح النشاط والود والمشاركة.
ـ جو يسوده التقيُّد غالباً والخضوع والاستبداد.
ـ لا مانع من المناقشة التي يقودها المعلم ويوجهها، مع الاعتراض على مبادأة المتعلم بها غالباً.
ـ سيطرة روح السلبية والاعتماد على الآخر، وندرة المشاركة الفعلية
6
روح العصر
ـ تهتم بالاستفادة من خبرات الآخرين المتقدمين في جميع المجالات، وتركز على ضرورة استيعابها وتطويرها.
ـ تهتم بالمستقبل هدفاً، وتستعين بالحاضر في فهم الماضي وتمحيصه.
ـ تركز كثيراً على الماضي، وتتسم بالبطء في استيعاب الحاضر، ونادراً ما تهتم بالمستقبل.
7
استمرارية المعرفة
يؤدي موقف التعليم والتعلم الحالي إلى حل مشكلة مُلحّة، وبروز مشكلات أخرى، تُمثّل نقاط بدء لإبداعات جديدة من جانب المتعلم.
ـ استمرارية المعرفة لا تظهر إلا عرضاً بدون تخطيط مسبق، وتتمثل فقط في ربط الموضوعات ظاهرياً بين مقرر وآخر يليه.
8
علمية التفكير
ـ يمارس المتعلم مهارات التفكير العلمي بدءاً من الشعور بمشكلة مُلحّة، وانتهاءً بالتوصل للحل الذي يتصف بالإبداع والأصالة.(3/3)
ـ المعلومات تثقدم جاهزة، ولذا فالتفكير محصور في التذكّر والأنشطة التلقينية.
9
وقت التعلم
ـ الوقت غير مقيّد، والعبرة ببلوغ الأهداف، فالتعلم والإبداع يتم وفقاً للخطو الذاتي للمتعلم، لا للمعلّم.
ـ الوقت مُحدد سلفاً، وعلى الكل السير وفق مُعدّل واحد هو خطو المعلم غالباً، دون اعتبار للمتعلم.
10
مصادر التعلم
ـ تهتم كثيراً بتنوّع مصادر التعلم التقليدية، والتقنية، والخبرات المباشرة.
ـ المصدر الحقيقي للمعلومات هو الكتاب، وتأتي مصادر التعلم التقليدية الأخرى عرضاً.
11
التطبيق
ـ تهتم بالجوانب التطبيقية والدراسات المعملية، بجانب النواحي النظرية.
ـ يتركز الاهتمام بالجوانب النظرية، وتأتي الجوانب الأخرى عرضاً، ودون تخطيط غالباً.
12
التعزيز
ـ يحتل التعزيز مكان القلب، ويمثّل تقدير المتعلم وإثابته وتقبله جوهر الطرائق الإبداعية.
ـ يحصل المتعلم على تعزيز لفظي نمطي غالباً على تحصيله وحفظه، لا على إبداعه، فالأخير ربما يُعاقب عليه، ويُسخر منه نتيجته.
13
التقويم
ـ تهتم بجوانب وقدرات التفكير الإبداعي.
ـ الاختبارات مفتوحة وإجاباتها غير مُحددة سلفاً.
ـ تهتم بالاختبارات الموقفية، والعملية.
ـ تهتم بجوانب الاستظهار والحفظ.
ـ الاختبارات نمطية وحلولها محددة لا تسمح بالتفكير، والإبداع يُمثّل خروجاً عن الإجابة عنها.
ـ تعتمد على الاختبارات التحصيلية المُعدة بدون علمية تُذكر.
14
وقت الفراغ
ـ هناك أوقات فراغ يُنمّي المتعلم فيها هواياته، وتتفتح فيها قدراته، ويمارس فيها ما يتناسب مع ميوله
ـ زحام المقررات لا يتيح أي وقت فراغ، لذا فممارسة الهوايات وتلبية الميول تأتي عرضاً.
15
النتائج على المتعلم
ـ تزيد ثقة المتعلم بنفسه وبقدراته.
ـ نمو دوافعه الداخلية للتعلم والإنجاز.
ـ الشعور بالبهجة والرضا والنجاح
ـ تنمو ثقة المتعلم بنفسه بقدر حصوله على درجات عليا في الاختبارات التحصيلية.(3/4)
ـ مشاعر القلق والخوف والتوتر خاصة أنها لا تهتم بقدرات المتعلم وهواياته وميوله( 2).
إشراقات نحو معلم مبدع:
بعد أن قدمت الدراسة المقارنة السابقة بين الطرق الإبداعية والطرق الاعتيادية، ستتناول مجموعة من الاشراقات التي توصي بها نحو معلم مبدع، ومنها:,
1 - التوعية بأهمية الإبداع لدى الطلاب وأولياء الأمور، وتدريب المعلمين على طرق تدريس تثري الإبداع عند الطلبة، وستأتي أمثلة عليها.
2- تحويل طريقة التدريس إلى تعلم نشط بالمشاركة والممارسة، واستثارة الأسئلة والتساؤلات وطلب التعليق على الأفكار، والتعبير عن وجهة النظر، وتعليل الظواهر، وتوليد اكبر عدد من الأفكار حولها، وتعزيز البدائل الأصلية في الإجابات ومكافأة التساؤلات المبدعة.
3- التركيز على إثراء محتوى عملية التعليم بحث تشتمل على رصيد علمي وثقافي واسع ومتكامل في آن معا فالمعرفة الغنية المتنوعة والمتكاملة هي وحدها التي تشكل خزان المادة الخام التي يتزود منها الإبداع ويعمل عليها, عليه فلابد من إعطاء عناية خاصة لمنهج تحليل المشكلات وحلها، وتدريب الأساتذة والطلاب عليه جميعا لتنمية مهارات التفكير العلمي.
4- التعليم النشط يقوم على ممارسات عملية مثل ورش العمل والمشاريع، وحلقات البحث وأسلوب حل المشكلات والنشاطات اللامنهجية، والمناسبات والمعارض والرحلات العلمية الاستطلاعية، وهو يرتكز على طريقة العمل في الفريق وتنمية روح الجماعة المنتجة( 3).
5-استخدام وسائل وتقنيات تربوية:
إن استخدام الوسائل السمعية والبصرية له أثر فاعل في تدريس القرآن الكريم، لما فيه من عوامل تسويق وتغيير للنمط التقليدي في التدريس، ومنها:
* الأشرطة السمعية:
وتمتاز بسهولة استخدامها، وقلة تكلفتها.
* أشرطة الفيديو + CD:
وتمتاز بظهور الصوت وأقرانه بالصورة، وهذه الميزات تكسب الطلبة مهارات الإستماع وتساعدهم على المحاكاه وتمتاز الأقراص الممغنطة (CD) بسهولة تكرار النص المراد قراءته.(3/5)
* الشفافيات:
وتعد من أبسط الوسائل في العملية التدريسية لسهولة استخدامها ولسهولة عرض المادة العملية عليها سواء أكانت مكتوبة، أو مرسومة، أو ملونة( 4).
6-استخدام مداخل حديثة في التدريس:
* التعليم التعاوني:
* تعريفه : أسلوب للتعليم والتعلم يتم فيه تقسم التلاميذ إلى مجموعات صغيرة تضم كل منها مختلف المستويات التحصيلية ويتعاون تلاميذ المجموعة الواحدة في تحقيق هدف أو أهداف مشتركة .
يعمل التعليم التعاوني على ربط التعلم بالعمل والمشاركة الإيجابية منجانب التلاميذ، مع التوجيه والإرشاد من جانب المعلم. ويمر هذا التعلم بمراحل هي:
* مرحلة الإعداد والتخطيط:
ويتم في هذه المرحلة:
تحديد أهداف الدرس.
توزيع التلاميذ على المجموعات ويراعي فيه التفاوت في قدرات التلاميذ، أي عدم التجانس في مستويات الطلبة.
تحديد الفترة الزمنية للعمل.
ترتيب الفرقة الصفية على شكل دوائره بحيث تجلس كل مجموعة في دائرة.
* مرحلة التنظيم:
وتتكون هذه المرحلة من:
شرح المهام، بحيث يقوم المعلم بتحديد مهام كل مجموعة.
الاعتماد المتبادل والتعاون لتحقيق الهدف، بحيث يطلب المعلم من كل مجموعة تقديم تقرير وشرح موحد لعمل المجموعة.
* تحديد المسؤوليات الفردية:
بحيث تتضمن كل مجموعة مراقباً للوقت، وقائداً، ومقرراً، وكاتباً، ففي ظل تحديد المسؤوليات يقل التكاسل.
* مرحلة المراقبة والتدخل والتقويم:
ويقوم المعلم في هذه المرحلة تقديم المساعدة لأداء المهمة عن طريق إجابة الاستفسارات والتعليق وتقويم عمل كل مجموعة( 5).
* مزايا التعلم التعاوني :
* ينمي المهارات الاجتماعية : التعاون ـ التنظيم ـ تحمل المسئولية ـ المشاركة .
* ينمي ويعزز التفاعل الإيجابي بين التلاميذ، مما يساهم في نمو القدرات الإبداعية لديهم.
* قد يتعلم التلميذ من زميله أفضل من أي مصدر تعلم آخر .
* يقلل من القلق والتوتر عند بعض التلاميذ وبخاصة الصغار .(3/6)
* يخفف من انطوائية التلاميذ "خاصة في نهاية المرحلة الإعدادية أو بداية المرحلة الثانوية (مرحلة المراهقة)" .
* أسلوب المفاهيم:
يقوم هذا الأسلوب على أن المعرفة في شتى المجالات هي معرفة تراكمية، تقوم كل جزئية منها على جزئية آخرى، ومن ثم ينبغي التركيز على المفاهيم الأساسية بوصفها تدور حولها المعرفة العلمية، وتشكل المفاهيم من حيث البناء والتكوين صورة هرمية أ, صورة ابنية تراكمية تتوافر فيها عمليتا التتابع والإستمرار.
خطواتها:
o تحديد أهداف الدرس.
o تحديد المفاهيم الأساسية، واعتبارها بمثابة محاور تتمركز حولها المادة التعليمية، ويشترط فيها الترابط بين المفاهيم الفرعية( 6).
مثال تطبيقي
7-علم الطلاب الرجوع إلى مصادر المعلومات:
علم الطلاب طرية الحصول على المعلومات من مصادرها المتعددة، بحيث يفتح له ذلك قنوات إمداد علمية مستمرة التدفق، ولا تظهر بمظهر كنز المعلومات الذي يجيب على كل سؤال للطلبة، بل علم الطالب البحث عن الجواب.
8- علم الطالب كيف يتعلم:
في بداية الفصل الدراسي الأجدر بالمعلم تدريبهم وتعليمهم على أساليب المذاكرة الصحيحة، وأساليب المراجعة السليمة، وكيف يقرأ؟ وما الذي يساعد على المذاكرة الصحيحة؟ .
9- أدر فصلك بفاعلية:
حاول دائماً أن لا تكون أنشطة التعليم متمركزة حولك، بل اجعل الطلاب يستفيدون من بعضهم البعض، بحيث ينحصر دورك في الإشراف وتسهيل عمليات التعليم.
10- كن عادلاً.
كثير من المعلمين يجد نفسه منحصراً في أنشطته في عدد قليل من الطلبة، ولكن الصواب أن الحصة للجميع وليس لهذه الفئة.
11- راع الفروق الفردية.
إن الطلاب يختلفون في قدراتهم العقلية، فالطالب الذي يحتاج إلى نشاطات تتحدى قدراته حتى يستمر في تفوقه. والطالب بطيء التعلم يحتاج تأن ورفق في التعليم ومراعاة هذه القدرات تجعل الدرس اكثر حيوية بتنويع أساليب الشرح والتعامل مع الطلاب.
12- خطط وتشاور الطلاب في التخطيط.(3/7)
إن التخطيط من أسس النجاح في كل عمل، فيجدر بالمعلم أن يخطط لما سيقوم به سواء على مستوى حصة أو مستوى فصل دراسي، ثم شاور التلاميذ فيما تنوي القيام به، لأن ذلك يعودهم على مبدأ الشورى وإبداء الرأي، ويجعلهم يتحمسون للدراسة.
13- السبورة، الصديقة القديمة الجديدة:
حاول أن تستخدم السبورة بشكل منظم ولأهداف محددة بحيث:
o تقسم السبورة لقسمين أو ثلاثة ولكل قسم جزء من المادة التعليمية.
o استخدم الطباشير الملونة بطريقة منظمة بحيث تساعد الطلبة على الربط والتصنيف.
o تأكد أن الخط واضح ومقروء ويمكن رؤيته لجميع طلاب الصف.
14- كن قدوة في علو الهمة والأمانة والجد:
إذ لم يظهر ما تقول عن الأخلاق والسلوك على نفسك فكيف سيطبقه الطلاب؟؟
كن قدوة لطلابك في علو الهمة فلا ترض من الأمور بأدناها.
15- حافظ على نموك العلمي والتربوي والمهني:
لا تتجمد عند سنة تخرجك، بحيث ينتهي بك المطاف عند تقديم الامتحان النهائي لأخر مادة، بل استمر في القراءات الموجهة لموضوع التجديد، وأساليب تدريسه، واستمر في حضور اللقاءات التربوية والدورات التدريبية.
16- اجعل درسك ممتعاً:
اسمح بشيء من الدعاية، واستخدم الأسلوب القصصي فالنفوس بالقصص.
17- اعرف تلاميذك/ مستواهم، خصائصهم العمرية:
إن معرفتك بمستوى التلميذ وخصائصهم العمرية يفيدك في وضع أساليب لتدريسهم( 7).
18 - ابتعد عن عوامل التثبيط:
إن من أهم عوامل التنشيط، البعد عن عوامل التثبيط، منها:
o التسليط وكثرة الزجر.
o ظلم الطالب وهضم حقه وعدم إنصافه.
19- استخدم أسئلة تثير التفكير، مثل:
أسئلة المقارنة والمقابلة:
ما أوجه الاتفاق بين الإخفاء الشفوي والإقلاب؟
ما أوجه الاختلاف بين النون الساكنة و التنوين؟
أسئلة علامات الاختلاف:
مثل: ما الغريب في الكلمات/أو الفقرات الآتية( 8).:
(الإدغام، الإقلاب، الإخفاء الشفوي، الإظهار)
20- الابتعاد عن الممارسات التي تعيق التفكير وتعطله:
في مجال الأسئلة:(3/8)
التركيز على الأسئلة من مستوى التذكر.
طرح السؤال والإسراع في الإجابة في الإجابة عليه.
في أساليب التفاعل الصفي:
الاعتماد على الإلقاء.
الاكتفاء بإجابة واحدة من أحد الطلبة.
في مجال المناخ الصفي:
التركيز على عدد من الطلاب إثناء الحصة.
السخرية من إجابات بعض الطلبة.
إهمال إجابات بعض الطلبة وعدم معالجتها.
في طرق التدريس:
التنويع في طرق التدريس:
الطريقة الاستنتاجية، أي الانتقال من الكل إلى الجزء، ومن القاعدة إلى المثال.
الطريقة الاستقرائية، أي: الانتقال من الجزء إلى الكل، ومن المثال إلى القاعدة( 9).
21- إن حسن الانتهاء من حسن الابتداء، لذا فهذه أمور ينبغي التنبه إليها في مقدمة حصة التلاوة والتجويد حيث يجدر أن تتصف المقدمة بمجموعة معايير، حتى تؤدي الفرض ومنها:
- ارتباطها مع موضوع الآيات، أو السورة المقررة.
- تميزها بالقصر، بحيث لا تستغرق زمناً زائداً ليكون على حساب الأهداف الأخرى.
- صياغتها بلغة تتناسب وخصائص المرحلة الثمانية للطلاب، وتتلائم مع قاموسهم اللغوي، ولا خير من إدراج مفردات جديدة لإثراء مفرداتهم.
- أن تكون مجملة عامة غير مفرقة في التفاصيل.
- حسن الانتقال من المقدمة إلى موضوع الدرس( 10)
في الختام أقول:
لقد عرجت هذه الدراسة المتواضعة على بعض الجوانب في طبيعة العملية التدريسية وفي بعض جوانب شخصية المعلم، وتأمل أن تكون قد نالت الاستحسان، والذي بدوره سيتدرج إلى أرض الميدان، إلى الواقع التدريسي في مراكز جمعية المحافظة على القرآن الكريم، سعيا إلى الأهداف المنشودة،وأسأل الله عز وجل التوفيق والسداد لذلك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حمزة عبد الكريم حماد.
المصادر والمراجع:
* ثلاثة وثلاثون خطوة لتدريس ناجح، مقال منشور على الإنترنت تحت عنوان: الحقيبة الإلكترونية لمعلمي التربية الإسلامية،إعداد وتنفيذ قسم التربية الإسلامية بالإدارة العامة للتربية والتعليم ، السعودية،(3/9)
http://www.edueast.gov.sa/islam/boo1.htm
* الجامعة العربية المفتوحة، المناهج وطرق تدريس التربية الإسلامية،ط1، 2004م.
* جامعة القدس المفتوحة، أساليب تدريس التربية الإسلامية،ط1، 1996م.
* ريان، محمد هاشم، التربية الإسلامية، منهاجها، التخطيط لدروسها، أساليب التدريس والتقويم فيها، دار الرازي، عمان، ط1، 1423هـ، 2002م.
* زياد ، مسعد محمد، استراتيجية الإبداع التعليمي على ضوء الإدارة الصفية ، منشور في موقع: http://www.drmosad.com/index92.htm
* السيد، يسري مصطفى، استراتيجيات تعليمية تساهم في تنمّية التفكير الإبداعي، منشور في موقع:
http://www.khayma.com/yousry/Cretivity%20Workshop1.htm
* الشامي، محمد عمر، أساليب تدريس القرآن الكريم، دورة أساليب تدريس مناهج المراكز الصيفية، جمعية المحافظة على القرآن الكريم، لجنة التخطيط والتدريب المركزية، عمان بتاريخ 28/4/2001م، ص 1.
* قطامي، يوسف، تنمية الإبداع والتفكير العلمي في المدرسة والصف ضمن كتاب: التفكير الإبداعي، منشورات القدس المفتوحة، ط1، 1995م.
* مقال بعنوان: أيها المعلم: هل أنت مبدع في عملك، منشور في موقع الجزيرة،http://www.suhuf.net.sa/2000jaz/oct/6/fe10.htm
1) ) زياد ، استراتيجية الإبداع التعليمي، مقال منشور على شبكة الانترنت.
2) ) السيد، استراتيجيات تعليمية تساهم في تنمّية التفكير الإبداعي، مقال منشور على شبكة الإنترنت.
3) ) مقال بعنوان: أيها المعلم: هل أنت مبدع في عملك، منشور في موقع الجزيرة،
4) ) جامعة القدس المفتوحة، أساليب تدريس التربية الإسلامية، ص 184-186.
5) ) الجامعة العربية المفتوحة، المناهج وطرق تدريس التربية الإسلامية، ص 86 وما بعدها
6) ) المرجع السابق، ص 97 وما بعدها
- 7)) ثلاثة وثلاثون خطوة لتدريس ناجح، مقال منشور على الإنترنت.
- 8)) قطامي، تنمية الإبداع ، ص 388، و ص 401
- 9)) ريان، التربية الإسلامية، ص 438 وما بعدها(3/10)
- 10)) الشامي، أساليب تدريس القرآن الكريم، ص 1.
??
??
??
??
9(3/11)
46 طريقة لنشر الخير في المدارس
إعداد
إبراهيم الحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله وآله وصحبه ومن والاه ...
وبعد :
فمما لا شك فيه ، ومما لا يجادل فيه عاقل أنه بتربية النشء تتقدم الأمة ، وبتعليم الشباب تتحصن بل وتهاجم أعداءها . ومن المعلوم أن نظام التعليم في هذه البلاد - بفضل الله - قد أتاح الكثير من الفرص لنشر الخير داخل المنشآت التعليمية التي يقضي فيها شباب الأمة وقتاً ليس باليسير ، ومن المؤسف أن البعض ينظر إلى التعليم على أنه مجرد معلومات ، ناسين أو متناسين الدور الحقيقي للتربية والتعليم ، وإسهاماً مني في نشر الخير ، وإحياءً للدور الحقيقي للتعليم كتبت هذه الطرق التي استفدتها من خلال التجربة ومن إخواني الأفاضل .
فإلى كل من أراد إصلاح مدرسته وأداء أمانته أهدي هذا الكتاب .
بين يدي الكتاب
أخي الفاضل إليك هذه التنبيهات :
1- لا يمكن أن نعمل على الإصلاح ما دمنا لم نشعر ولم نعِ أهمية نشر الخير في مدارسنا وبين النشء .
نعم غيرنا يهدم والهدم أسهل من البناء ، لكن قد يكون البناء صامداً لا يسهل هدمه ، ثم كوننا نبني وغيرنا يهدم أقل ضرراً من أن نظل متفرجين صامتين لهدم شبابنا بل أمتنا .
2- سأذكر في هذا الكتاب الأنشطة الخيرية - فقط - وهذا لا يعني عدم الاهتمام بالأمور التنظيمية والترفيهية التي تساعد على نجاح الطرق الخيرية ،كما أني لم أذكر واجب المعلم المنهجي في الفصل، فهناك كتب متخصصة في ذلك .
3- لا ينبغي أن نكون في دعوتنا وحلولنا بعيدين عن واقع الطلاب وما يواجهون .
4- قد تتداخل هذه الطرق فيما بينها ، وقد يُستطاع فعل بعضها دون الآخر ، لذا يُؤخذ منها ما يُستطاع ويناسب .
5- ينتبه عند تطبيق بعض البرامج إلى أخذ الإذن فيها قبل العمل بها .(4/1)
6- أقترح تشكيل لجنة أو مجموعة في المدرسة تهتم بتنفيذ مثل هذه الأمور ، وتخطط لها في بداية الفصل الدراسي التخطيط السليم المتابع .
7- وجود طابع التدين في المدرسة وذلك بتعاملها وكثرة برامجها - بشكل عام - يحل كثيراً من الإشكالات الطلابية ويقللها .
8- ينبغي على المسئولين في المدارس التعاون والتشجيع المادي والمعنوي لنشر الخير .
9- هذه الطرق الخيرية يقوم بها المعلمون وكذلك الطلاب أو على الأقل يتم توصيلها إلى المعلمين الأفاضل ، وأقول : ما كان عندك قديماً كان عند غيرك جديداً ، وأرجو ألا تعدم الفائدة من هذا الكتاب .
10- لا مانع من استخدام هذه الطرق في مدارس البنين وكذلك مدارس البنات حسب المناسب .
11- أذكرك - أخي الفاضل - باستصحاب الإخلاص فيما تقوم به من دعوة وإصلاح .
12- لا بد أن نعلم أن الدعاء والقدوة الحسنة والتعامل الطيب هو بداية القبول بإذن الله .
11 طريقة لنشر الخير بين المعلمين
الطريقة الأولى :
التعاون على إبعاد أي بادرة شحناء بين المعلمين ، والعمل على إيجاد روح التآلف بين المعلمين حسب الإمكان والمصلحة ، ومما يعين على ذلك :
أ - لقاء أسبوعي أو شهري خارج الجو التعليمي 0
ب- التحذير من النميمة والغيبة في الحال وإقناع الزملاء بالبعد عنها .
جـ - إحياء خُلُق التسامح عن الزلات ، والتنازل عن بعض الرغبات في سبيل الأخوة في الله .
الطريقة الثانية :
النصح الودي بين المعلمين بالأسلوب المناسب ، وذلك عند وجود أي خطأ سواء في المظهر أو الملبس أو الكلام أو غير ذلك ، ووجود النصح يضفي على المدرسة طابع التدين مما يجعل كثيراً من المعلمين يعمل ويتعاون على ذلك .
وقد يتحرج البعض من النصح المباشرة ، فأقترح وضع صندوق للمراسلة بين المعلمين .
الطريقة الثالثة :
الاهتمام بغرفة المعلمين ، وذلك بالطرق التالية :
أ - وضع مكتبة مسموعة ومقروءة فيها بعض المجلات النافعة والكتيبات المناسبة .(4/2)
ب- وضع فيديو تُعرض فيه الأشياء المفيدة .
ج - وضع لوحات إرشادية مثل : ( ركن الفتوى الأسبوعية ) ، و ( حديث الأسبوع ) ، و ( ركن الإعلانات الخيرية ) .
الطريقة الرابعة :
عرض المشاريع الخيرية على المعلمين مثل ( كفالة الأيتام - بناء المساجد - الاشتراك في المجلات الإسلامية - تفطير الصائمين - دعم المشاريع الخيرية بشكل عام ) وغيرها .
ويفضل ما يلي :
أ - استضافة أحد مندوبي بعض المؤسسات ليطرح الفكرة ( المشروع الخيري ) على المعلمين .
ب- الاستفادة من لوحات الإعلانات في الإعلان عن بعض المشاريع .
ج- أن يعرض كل فكرة لوحدها .
الطريقة الخامسة :
الارتقاء بفكر وثقافة المعلم وتطلعاته وذلك :
أ - بتعريف المعلم ببعض أحوال إخوانه المسلمين في العالم الإسلامي في الأحاديث والجلسات بين المعلمين أو اللوحات الحائطية أو النشرات المدرسية .
ب- طرح دورات تعليمية وتدريبية للمعلمين داخل المدرسة أو المشاركة في الدورات المقامة خارج المدرسة .
الطريقة السادسة :
طرح مسابقة خاصة بالمعلمين تناسب مستوى المعلم .
الطريقة السابعة :
رسالة إلى المعلم ، وذلك بأن يجهز للمعلم ظرف فيه بعض المطويات الخيرية وكتيب أو مجلة أو غير ذلك من الأشياء المناسبة والمفيدة للمعلم ، تكون هذه الرسالة كل شهر مثلاً .
الطريقة الثامنة :
استضافة أحد المشايخ - أحياناً - عند لقاء المعلمين خارج المدرسة ، وإن لم يكن لقاء خارج المدرسة فيستضاف في بعض الاجتماعات المدرسية .
الطريقة التاسعة :
إقامة بعض المحاضرات في المدرسة خاصة بالمعلمين مع استضافة معلمي المدارس الأخرى ، وذلك خارج وقت الدوام الرسمي . وأتمنى أن تتبنى هذه الطريقة والتي قبلها الجهة المختصة في إدارة التعليم .
الطريقة العاشرة :
عرض فكرة الاشتراك في الشريط الخيري . حيث يوفر للمدرس المشترك شريط كل أسبوعين أو كل شهر ، وذلك بعد إعطاء سعر رمزي في بداية السنة .
الطريقة الحادية عشرة :(4/3)
استغلال مجلس الآباء كأن تُلقى كلمة توجيهية أو تُوزع بعض النشرات التوجيهية 0
تنبيه : ينبغي أن يكون للمربين والدعاة في المدرسة وجود سواءً في الجلسات الداخلية والخارجية أو في تنظيم المدرسة أو غير ذلك بحيث يكون لهم قبول أكثر عند الآخرين 0
35 طريقة لنشر الخير بين الطلاب
من المعلوم أن هناك أوقاتً مخصصة للناط في المدارس كحصة النشاط والريادة والجماعات ، وسأذكر بعض الطرق الخيرية التي تناسب هذه الأوقات وغيرها - بشكل عام - عسى الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها :
الطريقة الأولى :
المحاضرات التربوية :
ومن المفضل :
أ - أن يستضاف لها أحد المحاضرين المناسبين ، وأن تكون ذات موضوع مناسب .
ب- الإعلان عنها وتحريض الطلاب على الاستفادة منها .
ج- تنبيه الطلاب بإجراء مسابقة على المحاضرة في الغد .
د - ليس باللازم أن تكون إلقاء ، فبالإمكان إجراء مقابلة - مثلا - مع أحد المسئولين في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو مكاتب دعوة الجاليات ، أو إحدى المؤسسات الخيرية أو مع أحد العائدين إلى الله .... إلخ .
الطريقة الثانية :
كلمات ما بعد الصلاة :
ومن المفضل :
أ - أن يلقيها المعلمون المناسبون بالتناوب ، أو أحد الطلاب ، ثم يعقب أحد المعلمين عليها أو بدون تعقيب .
ب- أن تكون كلمة واحدة فقط أو كلمتين كل أسبوع لا يُطال فيها ، وأن تكون العناوين مرتبة وهادفة .
ج- إما أن تكون تنبيهاً عاماً أو تكون مسلسلة مثل ( قصة كل أسبوع ) حيث تذكر القصة مع التعليق اليسير عليها ، أو حديث ( الأسبوع ) بالتعليق أو بدونه ، أو ( كتاب الأسبوع ) حيث يتم التعريف بكتاب يُحَثُّ الطلاب على اقتنائه ، أو ( مشكلة وحل ) ، أو ( فتوى الأسبوع ) وجميع الكلمات تحقق الهدف المرجو بإذن الله .
الطريقة الثالثة :
تطوير طريقة الإذاعة المدرسية ( وخاصة وقت الطابور الصباحي ) ، ومن تطويرها ما يلي :
أ - الاستفادة من الطريقة رقم ( 2 ) فقرة ( جـ ) .(4/4)
ب- تعويد الطلاب على الإلقاء الارتجالي .
ج- إيجاد بعض البرامج المفيدة مثل ( استماع إلى شريط قرآن أو محاضرة ثم تعريف به - ذكر بعض جراحات العالم الإسلامي وتبصير الطلاب بواقعهم - مقابلة مع أحد المسلمين الجدد - مقابلة مع أحد الدعاة المسلمين من بعض الدول النائية ) وغيرها .
الطريقة الرابعة :
حلقة القرآن الصباحية :
وتكون في وقت الطابور بحيث من يرغب المشاركة فيها يُعفى من حضور الطابور ، ومدتها تقريباً 20 دقيقة يحفظ فيها الطلاب كل يوم بعض الآيات من كتاب الله ، مع وجود سجل للحضور والغياب والحفظ .
الطريقة الخامسة :
حلقة القرآن المسائية :
فينشأ حلقة في المساء داخل المدرسة مع وضع الحوافز المشجعة لها ، بإشراف أحد المعلمين أو غيره يعطى مكافأة من ميزانية المدرسة ، فإن لم يتم إنشاء الحلقة داخل المدرسة فينشأ حلقة في الحي القريب من المدرسة في أحد المساجد .
الطريقة السادسة :
النشرات الخيرية 1 :
بحيث يتم توزيع النشرات الخيرية على الطلاب وهي على قسمين :
أ - نشرات توجيهية مرتبة ومسلسلة يعدُّها المعلم - وقد تكون جاهزة - يعالج فيها بعض الأخطاء أو يُذكِّر بموضوع مُهمٍّ ( كالصلاة - بر الوالدين - حفظ اللسان - صلاة الوتر - حكم الإسبال ..... إلخ ) . وتكون عليها أسئلة مدرجة كمسابقة مدرجة في آخرها يكون عليها جوائز .
ب- نشرات توجيهية أوقات المواسم ( رمضان - عاشوراء - عشر ذي الحجة ... إلخ ) وهي - ولله الحمد - متوفرة .
الطريقة السابعة :
إعداد المسابقات :
أ - مسابقة القرآن الكريم .
ب- مسابقة حفظ الأحاديث .
ج- مسابقة حفظ الأذكار .
د - مسابقة على نشرة أو كتيب بعد توزيعه .
ذ - مسابقة عامة ( منوعة أو بحوث ) .
ر - مسابقة الأسرة ( يجيب عنها الطالب مع مشاركة أفراد أسرته ) وتكون إما عامة أو على شكل كتيب موزع مثلاً .
ز - مسابقة الإلقاء .
الطريقة الثامنة :(4/5)
الجمعيات المدرسية : التي تحوي نخبة من الطلاب جديرة بالاعتناء أكثر ، ومن برامجها :
أ - البرامج المنوعة داخل الفسح ( لقاء - مشاهدة جهاز (( الفيديو )) - مسابقة - شريط ... إلخ ) .
ب- إعداد بعض الأعمال الخيرية في المدرسة ( الإعلانات - توزيع الأشياء الخيرية - وضع اللافتات الخيرية ... إلخ ) .
ج - الزيارات والرحلات الممتعة المفيدة ، واكتشاف وتنمية مواهب الطلاب .
وينبغي :
أ - الإعلان عنها بصورة قوية .
ب- حث المعلمين والطلاب على المشاركة فيها ، وعند كثرة عدد الطلاب المناسبين يفتح أكثر من جماعة أو أكثر من غرفة باسم جماعة واحدة .
الطريقة التاسعة :
إقامة الرحلات والزيارات لطلاب المدرسة بشكل عام ، مثل : زيارة العلماء - زيارة معارض الكتاب - زيارة معرض أضرار التدخين والمخدرات ..... إلخ ) .
الطريقة العاشرة :
الاهتمام بالطلاب الكبار في المدرسة وإعطاؤهم قدراً أكبر من التقدير والعناية مع وجود الجلسات الخاصة بهم ، ومحاولة جعلهم قدوات في المدرسة .
الطريقة الحادية عشرة :
إنشاء ( غرفة انتظار ) التي تستخدم عند غياب المعلم .
حيث تُهيأ غرفة فيها ( جهاز فيديو - مجلات مفيدة - مسجل مع بعض الأشرطة - كتيبات ) .
الطريقة الثانية عشرة :
إعداد حقائب الانتظار ( الحقائب الدعوية ) :
وهي عبارة عن حقيبة داخلها مثلاً : ( مجلات مفيدة - كتيبات قصصية وغيرها - مسجل وأشرطة - مسابقات ) يستخدمها من هو مكلف بحصة الانتظار ، ومن المستحسن أن يكون لكل مستوى دراسي حقيبة خاصة قد تختلف عن المستوى الذي بعده ، وهي مجربة ومفيدة جداً .
الطريقة الثالثة عشر :
وجود مكتبة صغيرة في كل فصل للاستعارة ، يكون المسئول عنها رائد الفصل أو غيره وإن لم يتيسر في كل فصل فيوجد غرفة في المدرسة ( كالإذاعة 9 تقوم بهذا الأمر ، ولكن المهم أن يكون لها تنظيم ، ويشجع الطلاب على الاستفادة منها .
الطريقة الرابعة عشر :(4/6)
تعليق أذكار الصباح في كل فصل على لوحه جيدة ، حيث يسهل على الطلاب ذكرها ، أو تغليف كارت الأذكار وإعطاؤه للطلاب وحثهم عليه .
الطريقة الخامسة عشر :
وضع لوحة في كل فصل ويكون فيها نصائح أو توجيهات أو إعلانات أو فتاوى أو غيرها يتولاها مجموعة من المعلمين أو الطلاب أو إحدى الجمعيات المدرسية .
الطريقة السادسة عشر :
إقامة بعض المعارض المفيدة في المدرسة مثل : ( معرض للكتاب - معرض للشريط الإسلامي - معرض جراحات العالم الإسلامي - معرض أضرار المخدرات والتدخين )
الطريقة السابعة عشر :
مشاركة الطلاب في بعض الأعمال الخيرية في المدرسة وفي الأحياء ( كالاشتراك في المجلات الخيرية مع قسيمة الاشتراك - التبرعات - توزيع بعض النشرات في المساجد وعند المناسبات العائلية - الاهتمام بهداية الخدم والسائقين .... إلخ ) ومن المناسب أن يقوم أحد المعلمين بتوفير هذه الأمور ليسهل على الطالب ذلك .
الطريقة الثامنة عشر :
النصح الفردي : ويقصد بذلك محاولة انتشار النصح بين المعلم والطالب ، وكذلك بين الطلاب مع بعضهم كإهداء شريط أو كتيب أو كلمة توجيهية ، وينبغي ألا يكون ذلك منقطعاً ، وقليل دائم خير من كثير منقطع .
الطريقة التاسعة عشر :
وضع شاشة أو شاشات تُعرض فيها الأشياء المفيدة في فناء المدرسة أو في بعض الغرف ، وتستخدم إما في الفسح أو حصة النشاط .
الطريقة العشرون :
الدورات التعليمية : حيث تقام في المدرسة بعض الدورات المفيدة مثل : ( دورة في التجويد - دورة في الحاسب الآلي - دورة في الفقة - دورة في الإنجليزي - دورة في علوم القرآن - دورة غي الخطابة والإلقاء - دورة تربوية - دورة في إحدى القضايا التي يحتاجها الطالب ... إلخ ) ، وأقترح أن تكون داخل وقت الدوام الرسمي ( في الفسح أو في حصة النشاط ) ويعطى القائم عليها مكافأة من ميزانية المدرسة ، وأتمنى أن يتبنى ذلك المعلمون والجهات المختصة في إدارة التعليم .(4/7)
الطريقة الحادية والعشرون :
تهيئة الجو لأداء بعض السنن في المدرسة كصلاة الضحى والسنة الراتبة للظهر ، وذلك بعد حث الطلاب على ذلك .
الطريقة الثانية والعشرون :
توجيه الطلاب على كيفية الاستفادة من أوقاتهم وخاصة في العطل الصيفية وغيرها ، ومن ذلك :
أ - إقامة المراكز والبرامج الصيفية في المدرسة وحث الطلاب على المشاركة فيها .
ب- تحديد يوم يلتقي فيه بعض المعلمين والطلاب لممارسة بعض الأنشطة التربوية والترفيهية وخاصة القصيرة .
ج - طرح مسابقة في أوقات العطل .
الطريقة الثالثة والعشرون :
الاهتمام بهداية عمال المدرسة ومتابعتهم ، وكذلك إعداد بعض الهدايا المفيدة للضيوف من أولياء الأمور وغيرهم .
الطريقة الرابعة والعشرون :
رسائل لأولياء الأمور : وذلك بأن يوضع ظرف فيه رسالة ونحوها تذكر ولي الأمر بأمور مهمة ينبغي التنبه لها مثل : ( الصلاة - الأطباق الفضائية - أهمية الصحبة الطيبة - أهمية حلقات التحفيظ - حفظ اللسان .... إلخ ) مما يساعد في تربية الطالب تعاوناً بين المنزل والمدرسة ، وقد تكون هذه الرسائل لجميع أولياء الأمور أو بعضهم .
الطريقة الخامسة والعشرون :
الرسائل الأسرية : وهي ظرف موجه إلى أسرة الطالب بشكل عام باسم المدرسة ، فيه أشياء خيرية تناسب المستوى الأسري ، أو فيها حث على التبرع لمشروع خيري أو غير ذلك .
الطريقة السادسة والعشرون :
وضع استبانة حول قضية من القضايا كسماع الغناء - مثلاً - وإخراج النسبة المئوية ثم ذكر الحلول لها في نشرة المدرسة أو نشرة خاصة أو في كلمة تلقى في المدرسة .
الطريقة السابعة والعشرون :
تشكيل لجنة (( متابعة السلوك )) : ( وذلك بالتعاون مع المرشد الطلابي ) وأقترح أن :
أ - تقوم بمتابعة سلوكيات الطلاب وحلها جماعياً أو فردياً .(4/8)
ب- إعداد رسائل خاصة لعلاج بعض الأخطاء مثل : ( رسالة لمن يحب سماع الأغاني والفنانين ) ، ( رسالة لمن يكثر من الحلف الكاذب ) ، ( رسالة لمن هو مبتلى بالتدخين وما شابهه ) ، ( رسالة لمن هو مغرم بمتابعة الأطباق الفضائية ) ، ( رسالة لمن لا يهتم بالصلاة ) ، يُوضع معها ما يعالج هذه الأخطاء من ( أشرطة وكتيبات ) مع عدم الاكتفاء بأسلوب الرسائل في التوجيه .
الطريقة الثامنة والعشرون :
إخراج عمل خيري تستفيد منه بقية المدارس - عن طريق إدارة التعليم - ( كإخراج مطوية - كتاب مسابقات - شريط - مسابقة في الحفظ - مسابقة بحوث ) وتكون باسم المدرسة .
الطريقة التاسعة والعشرون :
استغلال المقررات الدراسية والواجبات والمشاركة في التوجيه والإصلاح .
الطريقة الثلاثون :
صحيفة أحاديث الفضائل : حيث تكتب أحاديث في فضائل منوعة في عدة لوحات على عدد الفصول ، وكل أسبوع يغيَّر مكانها من فصل إلى آخر ، ويكون مكان تعليقها في الفصل مناسباً .
الطريقة الحادية والثلاثون :
كروت الفوائد : وهي أن يعد المعلم كروت صغيرة في كل كارت فائدة أو حديث توزع في بداية الحصة فقط أو في حصة الانتظار ، ثم ت}خذ من الطلاب ، وبإمكانه استخدامها في باقي الفصول .
الطريقة الثانية والثلاثون :
طرح فكرة استبدال الأشرطة الضارة بأشرطة مفيدة وذلك بالتعاون مع إحدى التسجيلات ولو بسعر رمزي .
الطريقة الثالثة والثلاثون :
إيجاد سلة لباقي المأكولات وأخرى للأوراق المحترمة بدلاً من رميها .
الطريقة الرابعة والثلاثون :
العناية بالطلاب الموهوبين ومتابعة عطائهم وتربيتهم فردياً .
الطريقة الخامسة والثلاثون :
استغلال مصلى المدرسة - وخاصة أوقات الفسح - في البرامج المفيدة .
وفي الختام(4/9)
هذا الكتاب مشاركة يسيرة ، وأتمنى من المدارس والمدرسين والطلاب التعاون فيما بينهم لنشر الخير والدعوة إليه ، كما أتمنى من إدارة التعليم المزيد من تبني بعض الطرق الخيرية في المدارس كما أنبه على أن طرق الخير غير محصورة في هذه الطرق وغير قاصرة على المدارس فقط .
وأسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بما نقول ونعمل ، ونستغفر الله من الخطأ والزلل ، وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليماً كثيراً .
قال صلى الله عليه وسلم (( كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته )) .
1 - تنبيه : لا ينبغي الإكثار منها ، ولكن عند طرحها تطرح بقوة للوصول إلى الهدف المرجو منها . ويحبذ أن يحث الطلاب على إيجاد ملف في المنزل تحفظ فيه الأوراق التي توزع في المدرسة ، ويطلع على هذا الملف آخر العام رائد النشاط .
??
??
??
??(4/10)
توطئة :
أحمد الله تبارك وتعالى ، وأصلي وأسلم على رسوله وخيرته من خلقه ، ومصطفاه من رسله سيدنا محمد رسول الله ، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً ، فبلغ الرسالة ، وأَدّى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجعلنا على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
أيها الأخوة :
هذه كلمات في أدب الحوار مُشتمِلَةٌ العناصر التالية : تعريف الحوار وغايته ، ثم تمهيد في وقوع الخلاف في الرأي بين الناس ، ثم بيان لمُجمل أصول الحوار ومبادئه ، ثم بسط لآدابه وأخلاقياته .
سائلاً المولى العلي القدير التسديد والقبول ..
تعريف :
الحوار : من المُحاورة ؛ وهي المُراجعة في الكلام .
الجدال : من جَدَلَ الحبل إذا فَتَلَه ؛ وهو مستعمل في الأصل لمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ، ثم استعمل في مُقابَلَة الأدلة لظهور أرجحها .
والحوار والجدال ذو دلالة واحدة ، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (المجادلة:1)
ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس : مناقشة بين طرفين أو أطراف ، يُقصد بها تصحيح كلامٍ ، وإظهار حجَّةٍ ، وإثبات حقٍ ، ودفع شبهةٍ ، وردُّ الفاسد من القول والرأي .
وقد يكون من الوسائل في ذلك : الطرق المنطقية والقياسات الجدليَّة من المقدّمات والمُسلَّمات ، مما هو مبسوط في كتب المنطق وعلم الكلام وآداب البحث والمناظرة وأصول الفقة ( 1 ) .
غاية الحوار :(5/1)
الغاية من الحوار إقامةُ الحجة ، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي . فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها ، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها ، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق . يقول الحافظ الذهبي : ( إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه ، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ ) ( 2 ) .
هذه هي الغاية الأصلية ، وهي جليَّة بيِّنة ، وثَمَّت غايات وأهداف فرعية أو مُمهِّدة لهذا الغاية منها :
- إيجاد حلٍّ وسط يُرضي الأطراف .
- التعرُّف على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى ، وهو هدف تمهيدي هام .
- البحث والتنقيب ، من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرُّؤى والتصورات المتاحة ، من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمْكَنَ ، ولو في حوارات تالية .
وقوع الخلاف بين الناس :
الخلاف واقع بين الناس في مختلف الأعصار والأمصار ، وهو سنَّة الله في خلقه ، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم ومُدركاتهم ومعارفهم وعقولهم ، وكل ذلك آية من آيات الله ، نبَّه عليه القرآن الكريم في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ } (الروم:22)
وهذا الاختلاف الظاهريّ دالُّ على الاختلاف في الآراء والاتجاهات والأعراض . وكتاب الله العزيز يقرر هذا في غير ما آية ؛ مثل قوله سبحانه : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) .
يقول الفخر الرازي : ( والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال ) .(5/2)
ومن معنى الآية : لو شاء الله جعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة .. لا رأي لهم فيه ولا اختيار .. وإِذَنْ لما كانوا هذا النوع من الخلق المُسمّى البشر ؛ بل كانوا في حيلتهم الاجتماعية كالنحل أو كالنمل ، ولكانوا في الرّوح كالملائكة ؛ مفطورين على اعتقاد الحقِّ والطاعة ؛ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، لا يقع بينهم اختلاف ولا تنازع . ولكنّ الله خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا مُلْهَمين . عاملين بالاختيار ، وترجيح بعض المُمْكنات المتعارضات على بعض ؛ لا مجبورين ولا مضطرين . وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار .
أما قوله تعالى : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) .
فلتعلموا أن اللام ليست للغاية ؛ فليس المُراد أنه سبحانه خلقهم ليختلفوا ، إذ من المعلوم أنه خلقهم لعبادته وطاعته . وإنما اللام للعاقبة والصَّيْرورة ؛ أي لثمرة الاختلاف خلقهم ، وثمرته أن يكونوا فريقين : فريقاً في الجنة ، وفريقاً في السعير .
وقدّ تُحْملُ على التعليل من وجه آخر ، أي خلقهم ليستعدَّ كلٌ منهم لشأنٍ وعمل ، ويختار بطبعه أمراً وصنعة ، مما يَسْتَتِبُّ به نظام العالم ويستقيم به أمر المعاش ، فالناس محامل لأمر الله ، ويتخذ بعضهم يعضاً سخرياً ( 3 ) .
خلقوا مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم ومشاعرهم ، وما يتبع ذلك من إراداتهم واختيارهم في أعمالهم ، ومن ذلك الإيمان ، والطاعة والمعصية ( 4 ) .
وضوح الحق وجلاؤه :
وعلى الرغم من حقيقة وجود هذا التَّبايُن بين الناس ؛ في عقولهم ومُدركاتهم وقابليتهم للاختلاف ، إلا أن الله وضع على الحقِّ معالمَ ، وجعل على الصراط المستقيم منائرَ .. وعليه حُمِلَ الاستثناء في الآية في قوله : { إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } (هود:119) .(5/3)
وهو المنصوص عليه في الآية الأخرى في قوله : { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } (البقرة:213) .
وذلك أن النفوس إذا تجرَّدت من أهوائها ، وجدَّت في تَلَمُّس الحقِّ فإنها مَهْديَّةٌ إليه ؛ بل إنّ في فطرتها ما يهديها ، وتأمَّل ذلك في قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (الروم:30) .
ومنه الحديث النبوي : (( ما من مولود إلا يُولدُ على الفِطْرة ، فأبواه يُهوّدانه ، ويُنَصِّرانه ، ويُمجِّسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تُحِسّون فيها من جَدْعاء حتى أنتم تجدعونها ؟ )) .
ويُوضح ذلك ، أن أصول الدين ، وأمَّهات الفضائل ، وأمَّهات الرذائل ، مما يتفق العالم الرشيد العاقل على حُسْن محموده وحمده ، والاعتراف بعظيم نفعه ، وتقبيح سيِّئه وذمِّه . كل ذلك في عبارات جليَّة واضحة ، ونصوصِ بينِّة لا تقبل صرفاً ولا تأويلاً ولا جدلاً ولا مراءاً . وجعلها أمّ الكتاب التي يدور عليها وحولها كل ما جاء فيه من أحكام ، ولم يُعذَرْ أحد في الخروج عليها ، وحَذَّر من التلاعب بها ، وتطويعها للأهواء والشهوات والشبهات بتعسف التأويلات والمُسوِّغات ، مما سنذكره كأصل من أصول الحوار ، ورفع الحرج عنهم ، بل جعل للمخطيء أجراً وللمصيب أجرين تشجيعاً للنظر والتأمل ، وتَلَمُّس الحقّ واستجلاء المصالح الراجحة للأفراد والجماعات . ولربك في ذلك الحكمة البالغة والمشيئة النافذة .
مواطن الاتفاق :
إنّ بِدْءَ الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريق إلى كسب الثقة وفُشُوِّ روح التفاهم . ويصير به الحوار هادئاً وهادفاً .(5/4)
الحديث عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقاً من التلاقي والقبول والإقبال ، مما يقلّل الجفوة ويردم الهُوَّة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب ، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد .
والحال ينعكس لو استفتح المُتحاورون بنقاط الخلاف وموارد النزاع ، فلذلك يجعل ميدان الحوار ضيقاً وأمده قصيراً ، ومن ثم يقود إلى تغير القلوب وتشويش الخواطر ، ويحمل كل طرف على التحفُّز في الرد على صاحبه مُتتبِّعاً لثغراته وزَلاته ، ومن ثم ينبري لإبرازها وتضخيمها ، ومن ثم يتنافسون في الغلبة أكثر مما يتنافسون في تحقيق الهدف .
ومما قاله بعض المُتمرّسين في هذا الشأن :
دَعْ صاحبك في الطرف الآخر يوافق ويجيب بـ ( نعم ) ، وحِلْ ما استطعت بينه وبين ( لا ) ؛ لأن كلمة ( لا ) عقبة كؤود يصعب اقتحامها وتجاوزها ، فمتى قال صاحبك : ( لا ) ؛ أوجَبَتْ عليه كبرياؤه أن يظلّ مناصراً لنفسه .
إن التلفظ بـ ( لا ) ليس تفوُّها مجرداً بهذين الحرفين ، ولكنه تَحفُّز لكيان الإنسان بأعصابه وعضلاته وغدده ، إنه اندفاع بقوة نحو الرفض ، أما حروف ( نعم ) فكلمة سهلة رقيقة رفيقة لا تكلف أي نشاط جسماني ( 5 ) .
ويُعين على هذا المسلك ويقود إليه ؛ إشعارك مُحدثَّك بمشاركتك له في بعض قناعاته ؛ والتصريح بالإعجاب بأفكاره الصحيحة وأدلته الجيدة ومعلوماته المفيدة ، وإعلان الرضا والتسليم بها . وهذا كما سبق يفتح القلوب ويُقارب الآراء ، وتسود معه روح الموضوعية والتجرد .
وقد قال علماؤنا : إن أكثر الجهل إنما يقع في النفي ؛ الذي هو الجحود والتكذيب ؛ لا في الإثبات ، لأن إحاطة الإنسان بما يُثْبتُه أيسر من إحاطته بما ينفيه ؛ لذا فإن أكثر الخلاف الذي يُورث الهوى نابع ؛ من أن كل واحد من المختلفين مصيب فيما يُثْبته أو في بعضه ، مخطيء في نفي ما عليه الآخر ( 6 ) .
أصول الحوار :
الأصل الأول :
سلوك الطرق العلمية والتزامها ، ومن هذه الطرق :(5/5)
1- تقديم الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى .
2- صحة تقديم النقل في الأمور المنقولة .
وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة : ( إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل ) .
وفي التنزيل جاء قوله سبحانه : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وفي أكثر من سورة :البقرة :111 ، والنمل 64 . { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } (الانبياء:24) . { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (آل عمران:93) .
الأصل الثاني :
…سلامة كلامِ المناظر ودليله من التناقض ؛ فالمتناقض ساقط بداهة .
ومن أمثلة ذلك ما ذكره بعض أهل التفسير من :
1- وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله : { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } (الذريات:39) .
وهو وصف قاله الكفار - لكثير من الأنبياء بما فيهم كفار الجاهلية - لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان ، لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء ، أما المجنون فلا عقل معه البته ، وهذا منهم تهافت وتناقض بيّن .
2- نعت كفار قريش لآيات محمد صلى الله عليه وسلم بأنها سحر مستمر ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً
يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } (القمر:2) .
وهو تناقض ؛ فالسحر لا يكون مستمراً ، والمستمر لا يكون سحراً .
الأصل الثالث :
…ألا يكون الدليل هو عين الدعوى ، لأنه إذا كان كذلك لم يكن دليلاً ، ولكنه اعادة للدعوى بألفاظ وصيغ أخرى . وعند بعض المُحاورين من البراعة في تزويق الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليلاً . وواقع الحال أنه إعادة للدعوى بلفظ مُغاير ، وهذا تحايل في أصول لإطالة النقاش من غير فائدة .
الأصل الرابع :(5/6)
الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة . وهذه المُسَلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها ؛ أنها عقلية بحتة لا تقبل النقاش عند العقلاء المتجردين ؛ كحُسْنِ الصدق ، وقُبحِ الكذب ، وشُكر المُحسن ، ومعاقبة المُذنب .
أو تكون مُسَلَّمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك .
وبالوقوف عند الثوابت والمُسَلَّمات ، والانطلاق منها يتحدد مُريد الحق ممن لا يريد إلا المراء والجدل والسفسطة .
ففي الإسلام الإيمان بربوبية الله وعبوديَّته ، واتَّصافه بصفات الكمال ، وتنزيهه عن صفات النقص ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الكريم كلام الله ، والحكم بما أنزل الله ، وحجاب المرأة ، وتعدد الزوجات ، وحرمة الربا ، والخمر ، والزنا ؛ كل هذه قضايا مقطوع بها لدى المسلمين ، وإثباتها شرعاً أمر مفروغ منه .
إذا كان الأمر كذلك ؛ فلا يجوز أن تكون هذه محل حوار أو نقاش مع مؤمن بالإسلام لأنها محسومة .
فقضية الحكم بما أنزل الله منصوص عليها بمثل : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... } (النساء:65) . { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (المائدة:45) .
وحجاب المرأة محسوم بجملة نصوص :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } (الأحزاب:59) .
…وقد يسوغ النقاش في فرعيات من الحجاب ؛ كمسألة كشف الوجه ، فهي محل اجتهاد ؛ أما أصل الحجاب فليس كذلك .
الربا محسوم ؛ وقد يجري النقاش والحوار في بعض صوره وتفريعاته .(5/7)
ومن هنا فلا يمكن لمسلم أن يقف على مائدة حوار مع شيوعي أو ملحد في مثل هذه القضايا ؛ لأن النقاش معه لا يبتدئ من هنا ، لأن هذه القضايا ليست عنده مُسَلَّمة ، ولكن يكون النقاش معه في أصل الديانة ؛ في ربوبيَّة الله ، وعبوديَّة ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وصِدْق القرآن الكريم وإعجازه .
ولهذا فإننا نقول إن من الخطأ - غير المقصود - عند بعض المثقفين والكاتبين إثارة هذه القضايا ، أعني : تطبيق الشريعة - الحجاب - تعدد الزوجات - وأمثالها في وسائل الإعلام ، من صحافة وإذاعة على شكل مقالات أو ندوات بقصد إثباتها أو صلاحيتها . أما إذا كان المقصود : النظر في حِكَمِها وأسرارها وليس في صلاحيتها وملاءمتها فهذا لا حرج فيه ، إذْ :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }(الأحزاب:36)
وأخيراً فينبني على هذا الأصل ؛ أن الإصرار على إنكار المُسلَّمات والثوابت مكابرة قبيحة ، ومجاراة منحرفة عن أصول الحوار والمناظرة ، وليس ذلك شأن طالبي الحق .
الأصل الخامس :
التجرُّد ، وقصد الحق ، والبعد عن التعصب ، والالتزام بآداب الحوار :
إن إتباع الحق ، والسعي للوصول إليه ، والحرص على الالتزام ؛ وهو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء ، أو هوى الجمهور ، أو الأتْباع .. والعاقل - فضلاً عن المسلم - الصادق طالبٌ حقٍّ ، باحثٌ عن الحقيقة ، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ .
يقول الغزاليّ أبو حامد : ( التعاون على طلب الحق من الدّين ، ولكن له شروط وعلامات ؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة ، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه . ويرى رفيقه معيناً لا خصماً . ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له ) .. الإحياء ج1 .(5/8)
ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة : ( ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه .
وما ناظرني فبالَيْتُ ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني ) .
وفي ذمّ التعصب ولو كان للحق ، يقول الغزالي :
( إن التعصّب من آفات علماء السوء ، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار ، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة ، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل ، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه . ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة ، لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه ، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع ، ولا يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم ، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم ) ( 7 ) .
والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئاً من التعصّب خالصاً لطلب الحق ، خالياً من العنف والانفعال ، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانيّة ، مما يفسد القلوب ، ويهيج النفوس ، ويُولد النَّفرة ، ويُوغر الصدور ، وينتهي إلى القطيعة .
وهذا الموضوع سوف يزداد بسطاً حين الحديث عن آداب الحوار إن شاء الله .
الأصل السادس :
أهلية المحاور :
إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه ، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه ، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً ، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يجيد الدفاع عن الحق .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل .
إذن ، فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة .(5/9)
والذي يجمع لك كل ذلك : ( العلم ) ؛ فلا بد من التأهيل العلمي للمُحاور ، ويقصد بذلك التأهيل العلمي المختص .
إن الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به ، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم ، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال :{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}(مريم:43).
وإن من البلاء ؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص ؛ فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه .
وإن حق من لا يعلم أن يسأل ويتفهم ، لا أن يعترض ويجادل بغير علم ، وقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح :
{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } (الكهف:66) .
فالمستحسن من غير المختص ؛ أن يسأل ويستفسر ، ويفكر ويتعلم ويتتلمذ ويقف موقف موسى مع العبد الصالح .
وكثير من الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ، ولقد قال الشافعي رحمه الله : ( ما جادلت عالماً إلا وغلبته ، وما جادلني جاهل إلا غلبني ! ) . وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم ؛ الذي يجري بين غير المتكافئين .
الأصل السابع :
قطعية النتائج ونسبيَّتها :
من المهم في هذا الأصل إدراك أن الرأي الفكري نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى . وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب ) .(5/10)
وبناء عليه ؛ فليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر . فإن تحقق هذا واتفقنا على رأي واحد فنعم المقصود ، وهو منتهى الغاية . وإن لم يكن فالحوار ناجح . إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كلٍ من منهجيهما ؛ يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ . وما تقدم من حديث عن غاية الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً .
وفي تقرير ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله : ( وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في مسائل الاجتهادية ، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه ) ا هـ . من المغني .
ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة ، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئة .
الأصل الثامن :
الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون ، والالتزام الجادّ بها ، وبما يترتب عليها .
وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء .
يقول ابن عقيل : ( وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة ؛ فإنه أنبل لقدره ، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق .
قال الشافعي رضي الله عنه : ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني ، ولا ردَّها إلا سقط في عيني ) ( 8 ) .
آداب الحوار :
1- التزام القول الحسن ، وتجنب منهج التحدي والإفحام :
إن من أهم ما يتوجه إليه المُحاور في حوار ، التزام الحُسنى في القول والمجادلة ، ففي محكم التنزيل : { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن }(الاسراء :53) . { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن } (النحل: 125) .
{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }(البقرة :83) .
فحق العاقل اللبيب طالب الحق ، أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية ، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز .(5/11)
ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، الانصراف عن التعنيف في الردّ على أهل الباطل ، حيث قال الله لنبيه : { وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (الحج : 68-69 ) .
وقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }(سبأ:24) . مع أن بطلانهم ظاهر ، وحجتهم داحضة .
ويلحق بهذا الأصل : تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث ، ويعتمد إيقاع الخصم في الإحراج ، ولو كانت الحجة بينه والدليل دامغاً .. فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف . وقد تُفْحِم الخصم ولكنك لا تقنعه ، وقد تُسْكِته بحجة ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه ، وأسلوب التحدي يمنع التسليم ، ولو وُجِدَت القناعة العقلية . والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار الأعداء واستكفاء الإناء . وإنك لتعلم أن إغلاظ القول ، ورفع الصوت ، وانتفاخ الأوداج ، لا يولِّد إلا غيظاً وحقداً وحَنَقاً . ومن أجل هذا فليحرص المحاور ؛ ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة فهذا رعونة وإيذاء للنفس وللغير ، ورفع الصوت لا يقوّي حجة ولا يجلب دليلاً ولا يقيم برهاناً ؛ بل إن صاحب الصوت العالي لم يَعْلُ صوته - في الغالب - إلا لضعف حجته وقلة بضاعته ، فيستر عجزه بالصراخ ويواري ضعفه بالعويل . وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان ، والفكر المنظم والنقد الموضوعي ، والثقة الواثقة .
على أن الإنسان قد يحتاج إلى التغيير من نبرات صوته حسب استدعاء المقام ونوع الأسلوب ، لينسجم الصوت مع المقام والأسلوب ، استفهامياً كان ، أو تقريرياً أو إنكارياً أو تعجبياً ، أو غير ذلك . مما يدفع الملل والسآمة ، ويُعين على إيصال الفكرة ، ويجدد التنبيه لدى المشاركين والمتابعين .(5/12)
على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر ؛ وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد ، وطغى وظلم وعادى الحق ، وكابر مكابرة بيِّنة ، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة :
{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (العنكبوت: 46) .
{ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم } (النساء: من الآية148)
ففي حالات الظلم والبغي والتجاوز ، قد يُسمح بالهجوم الحادّ المركز على الخصم وإحراجه ، وتسفيه رأيه ؛ لأنه يمثل الباطل ، وحَسَنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً .
وقبل مغادرة هذه الفقرة من الأدب ، لا بد من الاشارة إلى ما ينبغي من العبد من استخدام ضمير المتكلم أفراداً أو جمعاً ؛ فلا يقول : فعلتُ وقلتُ ، وفي رأيي ، ودَرَسْنا ، وفي تجربتنا ؛ فهذا ثقيل في نفوس المتابعين ، وهو عنوان على الإعجاب بالنفس ، وقد يؤثر على الإخلاص وحسن القصد ، والناس تشمئز من المتعالم المتعالي ، ومن اللائق أن يبدلها بضمير الغيبة فيقول : يبدوا للدارس ، وتدل تجارب العاملين ، ويقول المختصون ، وفي رأي أهل الشأن ، ونحو ذلك .
وأخيرا فمن غاية الأدب واللباقة في القول وإدارة الحوار ألا يَفْتَرِضَ في صاحبه الذكاء المفرط ، فيكلمه بعبارات مختزلة ، وإشارات بعيدة ، ومن ثم فلا يفهم . كما لا يفترض فيه الغباء والسذاجة ، أو الجهل المطبق ؛ فيبالغ في شرح مالا يحتاج إلى شرح وتبسيط مالا يحتاج إلى بسط .(5/13)
ولا شك أن الناس بين ذلك درجات في عقولهم وفهومهم ، فهذا عقله متسع بنفس رَحْبة ، وهذا ضيق العَطَنْ ، وآخر يميل إلى الأحوط في جانب التضييق ، وآخر يميل إلى التوسيع ، وهذه العقليات والمدارك تؤثر في فهم ما يقال . فذو العقل اللمّاح يستوعب ويفهم حرفية النص وفحواه ومراد المتكلم وما بين السطور ، وآخر دون ذلك بمسافات .
ولله الحكمة البالغة في اختلاف الناس في مخاطباتهم وفهومهم .
2- الالتزام بوقت محدد في الكلام :
ينبغي أن يستقر في ذهن المُحاور ألا يستأثر بالكلام ، ويستطيل في الحديث ، ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع .
يقول ابن عقيل في كتابه فن الجدل : ( وليتناوبا الكلام مناوبة لا مناهبة ، بحيث ينصت المعترض للمُستَدِلّ حتى يفرغ من تقريره للدليل ، ثم المُستدِلُّ للمعترض حتى يُقرر اعتراضه ، ولا يقطع أحد منها على الآخر كلامه وإن فهم مقصوده من بعضه ) .
وقال : ( وبعض الناس يفعل هذا تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه وليس في ذلك فضيلة إذ المعاني بعضها مرتبط ببعض وبعضها دليل على بعض ، وليس ذلك علم غيب ، أو زجراً صادقاً ، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به ) ( 9 ) .
والطول والاعتدال في الحديث يختلف من ظرف إلى ظرف ومن حال إلى حال ، فالندوات والمؤتمرات تُحدَّد فيها فرص الكلام من قبل رئيس الجلسة ومدير الندوة ، فينبغي الإلتزام بذلك .
والندوات واللقاءات في المعسكرات والمنتزهات قد تقبل الإطالة أكثر من غيرها ، لتهيؤ المستمعين . وقد يختلف ظرف المسجد عن الجامعة أو دور التعليم الأخرى .
ومن المفيد أن تعلم ؛ أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام ومقاطعة أحاديث الرجال يرجع إلى ما يلي :
1- إعجاب المرء بنفسه .
2- حبّ الشهرة والثناء .
3- ظنّ المتحدث أن ما يأتي به جديد على الناس .
4- قِلَّة المبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم .(5/14)
والذي يبدوا أن واحداً منها إذا استقر في نفوس السامعين كافٍ في صرفهم ،وصدودهم ، مللهم ، واستثقالهم لمحدِّثهم .
وأنت خبير بأن للسامع حدّاً من القدرة على التركيز والمتابعة إذا تجاوزها أصابه الملل ، وانتابه الشُّرود الذّهني . ويذكر بعضهم أن هذا الحد لا يتجاوز خمس عشرة دقيقة .
ومن الخير للمتحدث أن يُنهي حديثه والناس متشوفة للمتابعة ، مستمتعة بالفائدة . هذا خير له من أن تنتظر الناس انتهاءه وقفل حديثه ، فالله المستعان .
3- حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة :
كما يطلب الالتزام بوقت محدد في الكلام ، وتجنب الاطالة قدر الإمكان ، فيطلب حُسن الاستماع ، واللباقة في الإصغاء ، وعدم قطع حديث المُحاور . وإنّ من الخطأ أن تحصر همَّك في التفكير فيما ستقوله ، ولا تُلقي بالاً لمُحدثك ومُحاورك ، وقد قال الحسن بن علي لابنه ، رضي الله عنهم أجمعين :
( يا بنيّ إذا جالست العلماء ؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ، وتعلًم حُسْنَ الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ، ولا تقطع على أحد حديثاً - وإن طال - حتى يُمسك ) .
ويقول ابن المقفع :
( تَعلَّمْ حُسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ؛ ومن حسن الاستماع : إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه . وقلة التلفت إلى الجواب . والإقبال بالوجه . والنظر إلى المتكلم . والوعي لما يقول ) .
لا بدّ في الحوار الجيِّد من سماع جيِّد ؛ والحوار بلا حُسْن استماع هو ( حوار طُرْشان ) كما تقول العامة ، كل من طرفيه منعزل عن الآخر .
إن السماع الجيِّد يتيح القاعدة الأساسية لالتقاء الآراء ، وتحديد نقاط الخلاف وأسبابه . حسن الاستماع يقود إلى فتح القلوب ، واحترام الرجال وراحة النفوس ، تسلم فيه الأعصاب من التوتر والتشنج ، كما يُشْعِرُ بجدّية المُحاور ، وتقدير المُخالف ، وأهمية الحوار . ومن ثم يتوجه الجميع إلى تحصيل الفائدة والوصول إلى النتيجة
4- تقدير الخصم واحترامه :(5/15)
ينبغي في مجلس الحوار التأكد على الاحترام المتبادل من الأطراف ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، والاعتراف بمنزلته ومقامه ، فيخاطب بالعبارات اللائقة ، والألقاب المستحقة ، والأساليب المهذبة .
إن تبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق ، والبعد عن الهوى ، والانتصار للنفس . أما انتقاص الرجال وتجهيلها فأمر مَعيب مُحرّم .
وما قيل من ضرورة التقدير والاحترام ، لا ينافي النصح ، وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة وطرقه الوقورة . فالتقدير والاحترام غير المَلَقِ الرخيص ، والنفاق المرذول ، والمدح الكاذب ، والإقرار على الباطل .
ومما يتعلق بهذه الخصلة الأدبية أن يتوجه النظر وينصرف الفكر إلى القضية المطروحة ليتم تناولها بالبحث والتحليل والنقد والإثبات والنَّقص بعيداً عن صاحبها أو قائلها ، كل ذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية ؛ طابعها الطعن والتجريح والعدول عن مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشات التصرفات ، والأشخاص ، والشهادات ، والمؤهلات والسير الذاتية .
5- حصر المناظرات في مكان محدود :
يذكر أهل العلم أن المُحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور ؛ قالوا : وذلك أجمع للفكر والفهم ، وأقرب لصفاء الذهن ، وأسلم لحسن القصد ، وإن في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء ، والحرص على الغلبة بالحق أو بالباطل .
ومما استدل به على ذلك قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } (سبأ:46) .
قالوا : لأن الأجواء الجماهيرية والمجتمعات المتكاثرة تُغطي الحق ، وتُشوِّش الفكر ، والجماهير في الغالب فئات غير مختصة ؛ فهي أقرب إلى الغوغائية والتقليد الأعمى ، فَيَلْتَبسُ الحق .(5/16)
أما حينما يكون الحديث مثنى وفرادى وأعداداً متقاربة يكون أدعى إلى استجماع الفكر والرأي ، كما أنه أقرب إلى أن يرجع المخطيء إلى الحق ، ويتنازل عما هو فيه من الباطل أو المشتبه .
بخلاف الحال أمام الناس ؛ فقد يعزّ عليه التسليم والاعتراف بالخطأ أما مُؤيِّديه أو مُخالفيه .
ولهذا وُجِّه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يخاطب قومه بهذا ؛ لأن اتهامهم له كانت اتهامات غوغائية ، كما هي حال الملأ المستكبرين مع الأنبياء السابقين .
ومما يوضح ذلك ما ذكرته كتب السير أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي بالليل في بيته ، فأخذ كل واحد منهم مجلساً يستمع فيه ، وكلٌ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا ؛وقال بعضهم لبعض لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ،ثم انصرفوا .(5/17)
حتى إذا كانت الليلة الثانية ، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ، ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود . فتعاهدوا على ذلك . ثم تفرقوا . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج ، حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : يا أبا ثعلبه ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يُراد بها . قال ألخنس : وأنا والذي حَلَفْتَ به ! . قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ! تنازعنا نحن وبنو عبدمناف الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الرُّكَب وكنّا كفرسيّ رهان ، قالوا منّا نبي يأتيه الوحي من السماء ! فمتى نُدرك هذا ؟! والله لا نؤمن به ولا نصدقه . قال : فقام عنه الأخنس وتركه .
6 - الإخلاص :
هذه الخصلة من الأدب متمِّمة لما ذكر من أصل التجرد في طلب الحق ، فعلى المُحاور ان يوطِّن نفسه ، ويُروِّضها على الإخلاص لله في كل ما يأتي وما يذر في ميدان الحوار وحلبته .
ومن أجلى المظاهر في ذلك : أن يدفع عن نفسه حب الظهور والتميُّز على الأقران ، وإظهار البراعة وعمق الثقافة ، والتعالي على النظراء والأنداد . إن قَصْدَ انتزاع الإعجاب والثناء واستجلاب المديح ، مُفسد للأمر صارف عن الغاية .
وسوف يكون فحص النفس دقيقاً وناجحاً لو أن المُحاور توجه لنفسه بهذه الأسئلة :
- هل ثمَّت مصلحة ظاهرة تُرجى من هذا النقاش وهذه المشاركة . ؟(5/18)
- هل يقصد تحقيق الشهوة أو اشباع الشهوة في الحديث والمشاركة . ؟
- وهل يتوخَّى أن يتمخض هذا الحوار والجدل عن نزاع وفتنة ، وفتح أبواب من هذه الألوان حقهَّا أن تسدّ .؟
ومن التحسس الدقيق والنصح الصادق للنفس أن يحذر بعض التلبيسات النفسية والشيطانية فقد تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق ، وواقع دخيلتها أنها تقف مواقف إنتصارِ ذاتٍ وهوى . ويدخل في باب الاخلاص والتجرد توطين النفس على الرضا والارتياح إذا ظهر الحق على لسان الآخر ورأيه ، ويعينه على ذلك أن يستيقن أن الآراء والأفكار ومسالك الحق ليست ملكاً لواحد أو طائفة ، والصواب ليس حكراً على واحد بعينه . فهمُّ المخلص ومهمته أن ينتشر الحق في كل مكان ، ومن أيّ مكان ، ومن أيّ وعاء ، وعلى أيّ فم .
إن من الخطأ البيِّن في هذا الباب أن تظن أنّ الحق لا يغار عليه إلا أنت ، ولا يحبه إلا أنت ، ولا يدافع عنه إلا أنت ، ولا يتبناه إلا أنت ، ولا يخلص له إلا أنت .
ومن الجميل ، وغاية النبل ، والصدق الصادق مع النفس ، وقوة الإرادة ، وعمق الإخلاص ؛ أن تُوقِفَ الحوار إذا وجدْت نفسك قد تغير مسارها ودخلتْ في مسارب اللجج والخصام ، ومدخولات النوايا .
وهذا ما تيسر تدوينه والله وليُّ التوفيق ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
صالح بن عبدالله بن حميد
مكة المكرمة
( 1 ) - جع في التعريف : تعريفات الجرجاني : مادة ( جدل ) . والمصباح المنير مادتي : حور وجدل .
( 2 ) - راجع شرح المواهب للزرقاني 5 / 390 .
( 3 ) - راجع روح المعاني مجلد 4 جزء 12 ص 164 . تفسير القاسمي جزء 9 ص 182 .
( 4 ) - تفسير المنار جزء 12 ص 194 .
( 5 ) - أصول الحوار ص 46 .
( 6 ) - تنبيه أولى الأبصار د. صالح السحيمي ص 28 بتصرف .
( 7 ) - الاحياء ج 1 .
( 8 ) - علم الجدل ص 14
( 9 ) - علم الجدل ص 13 .
??
??
??
??
أصول الحوار وآدابه في الإسلام .. بقلم فضيلة الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد………(5/19)
شبابُنا ..
إلى أين؟!
كتبه
سالم العجمي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده؛ أما بعد..
شبابنا إلى أين؟000
شباب كانوا أملاً وثروة لهذه الأمة ومستقبلاً مشرقاً وربيعاً زاهراً وقلباً نابضاً وسياجاً واقياً لأمتهم من الرياح العاتية والسيول الجارفة فانحرفوا عن الجادة فسقطوا في أوحال المخدرات فأهدرت تلك الثروة الثمينة وأصبح ذلك المستقبل حاضراً بئيساً وذبلت تلك الأزهار المتفتحة وتساقطت وتوقف القلب عن الخفقان وانهار السياج فاندفعت الرياح والسيول وجرفت معها الأفكار الهدامة التي أودت بهم إلى الهاوية.
قال أحدهم:
".. سقطت في هوة المخدرات منذ أعوام أنا ورفاق لي بحجة التسلية وهرباً من الواقع الذي نعيشه ، قتلت فينا المخدرات كل شيء.. الدين.. الحياء.. الطموح.. وأصبحنا على هامش الحياة بعد أن كانت تعقد علينا الآمال وكان يتوقع أن يكون لنا مستقبل مشرق.. فأصبحنا بعد ذلك في قمة الضياع ،فمنّا من فقد وظيفته، ومنا من ترك دراسته بل ووصل الحال في بعضنا أنه كان يتسوّل من اجل أن يشتري تلك المخدرات.."
فكم من الشباب وقع في شرب المسكرات حتى صارت بالنسبة له روحاً لا تفارق جسده فخسر بعد وقوعه فيها كل شيء.. الرجولة الحمية والسّمت الحسن، وخسر مكانته بين الناس وأصبح قلبه أسود مرباداً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً،حتى صار في أثناء شربه لذلك المسكر لا يفرّق بين أمه وأخته وبغيّ من البغايا ... وهكذا لعبت بهم المخدرات حتى وصلوا إلى تلك النتيجة المحزنة فكم خسرت الأمة بخسارة هؤلاء الشباب ...
شاب سافر إلى بلاد الفجور وعاشر البغايا والمومسات وعاد إلى موطنه حاملا معه الفيروس الخبيث - الإيدز - ثم عاشر زوجته العفيفة فانتقلت إليها العدوى وأصيبت بذلك الداء الخطير وبقيت تنتظر ساعة الرحيل بسبب ذنب لم ترتكبه وبسبب فساد ذلك الزوج الذي زهد في الحلال وراح يبحث عن الشهوة المحرمة.(6/1)
وشباب عادوا إلى الله بعد أن سئموا من حياة الملل والنكد والشقاء وبعد أن خاضوا بحور المعاصي فنظروا في أنفسهم فوجدوا أن تلك الشهوة ولّت وبقيت عاقبتها السيئة رفيقاً لهم في سفرهم الطويل فما زادتهم إلا هماً وشقاءً وقد كانوا يأملون أن هذه المعصية ستحقق لهم السعادة فما زادتهم إلا بعداً عن الله فوقفوا مع أنفسهم وقفة صدق وقرّروا الخلاص من الحياة البئيسة التي لم يجنوا منها إلا الشقاء الدائم والعناء المستمر فأقبلوا على ربهم منيبين إليه مقرّين بذنوبهم يستغفرون الله على كل لحظة قضوها في البعد عنه؛ وعلى كل لحظة فارقوا فيها هذه الحياة الطيبة ولم يذوقوا فيها لذة العبادة والإنابة إليه سبحانه؛ فتراهم يطيلون السجود ، ألسنتهم ذاكرة وأعينهم دامعة وقلوبهم خاشعة تفيض محبة ورقة وتزداد شوقاً إلى لقاء الله .
وتراهم يسارعون في الخيرات ويتحرّون الأعمال الصالحة التي تقربهم من ربهم الرحيم الذي طالما أبعدتهم المعاصي عن الطريق الذي يوصل إلى رضوانه.
وشباب تاهوا في دوامة الحياة تراهم حيارى يريدون أن يتخلصوا من الكآبة التي أحاطت بهم ويسلكوا طريق السعادة ولكن كبلتهم الذنوب والخطايا وأصبحت الشهوات عائقاً في طريقهم عن الوصول إلى الهداية فتراهم يقدّمون رجلاً ويؤخرون أخرى وكلما ساروا قليلاً رجعوا إلى الوراء .
يملأ حياتهم الأرق والهم والمخاوف وتتعالى في نفوسهم صرخات الألم من الواقع الذي يعيشون فيه ويتحرك في قلوبهم داعي الخير إلى الحياة السعيدة والمستقبل المنير ولكنهم ضلوا الطريق وعاشوا صراعاً مريراً مع أنفسهم فكيف الخلاص من
ذلك الواقع المظلم الذي ملأ قلوبهم ألماً وحسرات وكيف النجاة من تلك الحياة المريرة وأين الطريق الموصل إلى الهداية ؟!!
شبابنا هم الأمل المشرق00
عندما تجلس مع بعض الشباب وتبحر في أعماقهم تجد فيهم من الخير والصفات الطيبة ما يجعلك تتحسّر وتشعر بالحرقة على وجودهم في مكان لا يليق بهم ..(6/2)
فكثير من الشباب رغم غوصه في بحور المعصية إلا أنه يتحرك في قلبه الخوف من الله والندم والإحساس بالذنب الذي ارتكبه وبعضهم عندما تتحدث معه تجد قلبه يمتلئ بالحميّة لهذا الدين ولا يرضى أن يتعدى أحد على حدود الله أو يتعدى على دين الله العظيم الذي اختاره لعباده فتجده يبغض الذين يسخرون من دين الله ويشن عليهم الحملات المضادة بكل ما أوتي من قوة .
وبعضهم قد امتلأ قلبه محبةً وإجلالاً لله فهو يحب ربه وخالقه الذي أنعم عليه بنعم لا تعد ولا تحصى وكان أرحم به من أمه التي ولدته، ويحب نبيّه محمداً ( الرحمة المهداة ويحب صحابته الأطهار الأبرار وما إن تذكّره بسيرتهم حتى ترى دمعة قد انحدرت من عينيه ويدعو الله أن يجمعه بهم في الجنة والنعيم والمقيم ، وشباب تجدهم يتمتعون بأعظم صفات الرجولة من النخوة والغيرة على المحارم والكرم والشجاعة وهؤلاء إن اهتدوا فسيكونون من أفضل الناس ؛ كما قال (:" فعن معادن العرب تسألوني ؟ خيارهم في الجاهلية؛ خيارهم في الإسلام إذا فقهوا "(1)؛ فهؤلاء الشباب الطيبون الذين يحملون هذه الصفات الطيبة وغيرها الكثير لا يستغرب منهم القرب من الطاعة لأنهم أصلاً أبناء هذه الأمة وهم أحفاد الصحابة وسلف هذه الأمة الصالح وكثير منهم يريد الهداية ولكنه متذبذب يعرف أن هذا هو الطريق ولو سألته لماذا لا تلتزم يا فلان لقال :
" والله إني لأتمنى الهداية ... ولكن ... ؟!!" ولكن ماذا ... ؟!! ...
أُخيّ.. إذا كنت قد سئمت من حياة البؤس والشقاء وأردت أن تودع تلك الحياة البئيسة وتقبل على الله فهذا هو السبيل .
إن السبيل الذي يوصلك إلى ما تطمح إليه من النجاة مما أنت فيه والإقبال على حياة السعادة هو باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه ...(6/3)
" ... ولا تحسب أن قوله تعالى: ( إنِّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وإنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) ؛ مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط ... بل في دورهم الثلاثة هم كذلك -أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار- فهؤلاء في نعيم وهؤلاء في جحيم وهل النعيم إلا نعيم القلب وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر وإعراضه عن الله والدار الآخرة وتعلقه بغير الله وانقطاعه عن الله بكل واد منه شعبة وكل من تعلق به وأحبه من دون الله يسومه سوء العذاب 0
فكل من أحب شيء غير الله عذب به ثلاث مرات في هذه الدار؛ فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل ، فإذا حصل عذب به حال حصوله بالخوف من سلبه وفواته والتنغيص والتنكيد عليه وأنواع من العذاب في هذه المعارضات ، فإذا سلبه اشتد عليه عذابه فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار .
وأما في البرزخ -القبر - فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجو عوده وألم فوات ما فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده، وألم الحجاب عن الله وألم الحسرة التي تقطع الأكباد فالهمّ والغم والحسرة والحزن تعمل في نفوسهم نظير ما يعمل الهوام والديدان بأبدانهم بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمرّ؛ فأين هذا من نعيم من يرقص قلبه طرباً وفرحاً وأنساً بربه واشتياقا إليه وارتياحاً بحبه وطمأنينة بذكره ، حتى يقول بعضهم حال نزعه : واطرباه .
ويقول الآخر : إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحال إنهم لفي عيش طيب .
ويقول الآخر : مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها ، وما ذاقوا أطيب ما فيها .
ويقول الآخر : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف .
ويقول الآخر : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة (2)0
تذكر الرحيل00(6/4)
أخي ... تذكر تلك اللحظة الحاسمة التي لا مفر منها تذكر الرحلة الأخيرة عن هذه الدنيا والإقبال على الآخرة ... تذكر " الموت " وسكراته ونزعه وانظر في نفسك ماذا أعددت لذلك الموقف الرهيب ؟
هل تذكرت حالك إذا يبس لسانك وتوقف قلبك وارتخت يداك وشخصت عيناك وبلغت الروح الحلقوم :
( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ . إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ ) هل أخذت معك من الزاد ما يكفي ؟ هل تذكرت ظلمة القبر وضمّته ؟ هل تذكرت حالك عندما يهال عليك التراب وتبقى وحيداً في ذلك القبر الموحش ...
في ظلمة القبر لا أم هناك ولا
أبٌ شفيق ولا أخ يؤانسني
هل قدمت بين يديك ما يكون سبباً في نجاتك من عذاب الله ..
" ... مرّ عليّ ( بالمقبرة مع أصحاب له فقال :" السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقترة أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع وإنا بكم عما قليل لاحقون، يا أهل القبور : أما الأزواج فقد نكحت وأما الديار فقد سكنت وأما الأموال فقد قسمت هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم ؟ مالي أراكم لا تجيبون ؟!
ثم التفت إلى أصحابه وقال : أما إنهم لو تكلموا لقالوا وجدنا أن خير الزاد التقوى " .
وتذكر ذلك اليوم الرهيب حين يبلغ الخوف بالعباد منتهاه تذكر يوم القامة وما يصير الناس إليه من رحمة أو من عذاب وهم ما بين فرح مسرور وحزين مهموم؛ ذلك اليوم الذي حذر الله سبحانه عباده منه وخوفهم من هول مطلعه؛حيث قال جل وعلا :(( وَأَنذِرهُم يَومَ الآزِفَةِ إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَالِمِينَ مِن حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ))..(6/5)
قال أحد السلف تعليقاً على هذه الآية :" .. كيف يكون لظالم حميم أو شفيع والمطالب له رب العالمين ؟ إنك والله لو رأيت الظالمين وأهل المعاصي يساقون في السلاسل والأنكال إلى الجحيم حفاة عراة مسودة وجوههم، مزرقّة عيونهم ، ذائبة أجسادهم ينادون يا ويلنا يا ثبورنا ماذا نزل بنا ؟ ماذا حل بنا أين يذهب بنا ؟ ماذا يراد منا ؟والملائكة تسوقهم بمقامع النيران فمرّة يجرّون على وجوههم ويسحبون عليها منكبين ومرة يقادون إليها مقرّنين من بين باكٍ دماً بعد انقطاع الدموع ، ومن بين صارخٍ طائر القلب مبهوت؛ إنك والله لو رأيتهم على ذلك لرأيت منظراً لا يقوم له بصرك ولا يثبت له قلبك ولا تستقر لفظاعة هوله على قدمك ... "
وإذا الجنين بأمه متعلق
خوف الحساب وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله
كيف المقيم على الذنوب دهور
وتذكر ذلك المفرق الصعب حين ينقسم الناس إلى فريقين ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، فأين سيكون المصير إلى جنات الخلود التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ؟
تلك الجنة التي تنسي أبأس أهل الدنيا ما مرّ عليه من البؤس والشقاء كما قال النبي ( :" يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له : يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط"(3)0
غمسة واحدة في الجنة جعلته يقسم بالله أنه لم يرَ بؤساً قط ولا شدة قط ، وقد كان أبأس أهل الدنيا ؛فكيف بمن كانت الجنة له مقاماً ؟0
وأعظم من ذلك أن يرى المؤمن وجه ربه الكريم الذي طالما خضعت له جوارحه ولهج لسانه بذكره وتحرك قلبه بمناجاته ، قال ( :" إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى : تريدون شيئاً أزيدكم فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجّنا من النار ، فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم " (4)0(6/6)
فهذه هي قمة السعادة وأعظم الجزاء وهذه هي الزيادة التي ذكرها ربنا جلّ وعلا في كتابه العزيز حيث قال :(( لِّلِّذينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَزْهَقُ وُجُهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَةٌ أُولَئِكَ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ ))
أم سيكون المصير إلى نار جهنم التي وقودها الناس والحجارة ،تلك النار التي قال عنها النبي ( :"ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من حرّ جهنم قالوا : والله إنها لكافيه يا رسول الله ؛ قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها "(5)0
تلك النار التي ما إن ترى أصحابها حتى تتغيظ وتزفر تريد الانقضاض عليهم جزاء لما اقترفوا من السيئات وابتعادهم عن الطريق القويم والصراط المستقيم ، فلو ترى على وجوههم الذلة والانكسار والخوف وهم يقادون إلى جهنم يريدون الخلاص ويتمنون الرجوع حتى يعملوا صالحا ولكن هيهات ... ( وَالذِينَ كَسَبُوا السّيِئاتِ
جَزَاءُ سَيِئَةٍ بِمِثْلِهَا وتَرهَقُهُم ذِلَّةٌ مالَهُم منَ اللهِ مِن عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغشِيَت وُجُوهُهُم قِطَعاً مِن الليلِ مُظلِماً أُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ ))
فمن يخلصهم من عذاب الله؟.. ومن يعصمهم من بطشه وهو الجبار الذي لا عاصم من أمره إلا من رحم ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه .
سئل أبو حازم التابعي رحمه الله : كيف القدوم على الآخرة ؟ ؛قال :" أما المحسن فإنه يقدم على الآخرة كالغائب الذي يقدم على أهله من سفر بعيد وأما قدوم المسيء فكالعبد الآبق يؤخذ فيشد كتافه فيؤتى به إلى سيد فظّ غليظ فإن شاء عفا عنه وإن شاء عذب"(6/7)
فاعمل يا أخي لذلك اليوم وتذكر الرحيل والقدوم على الله؛ وانظر في نفسك هل أخذت معك من الزاد ما يبلغك الغاية المنشودة والخلاص من عذاب الله في ذلك اليوم العصيب؟.. أم تريد أن تكون من الذين قال الله جل وعلا عنهم : (إنَّ الذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُنيَا واطمَأنُّوا بِهَا والذِينَ هُم عَن آَيَاتِنَا غَافِلُون . أُولَئِكَ مَأوَاهمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ )0
احذر أن تكون من هؤلاء واقدم على طاعة ربك ولا تكن من الذين عمروا دنياهم بخراب آخرتهم ثم رحلوا عن الدنيا وملذاتها ولم يأخذوا منها شيئاً فخسروا دينهم ودنياهم ..
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع
فهاهم قدموا على ربهم الذي لا يظلم أحدا؛ فاحذر أن تكون عاقبتك مثلهم فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل0
اختر صديق السفر..
أخيّ.. تعلم أن السفر إذا كان طويلاً فإنه من الواجب أن يختار الإنسان له صديقاً ورفيقاً يعينه بعد الله عز وجل على قطع الطريق فلعلّ هذا الإنسان يصيبه مرض أو يتكاسل في أثناء سيره من طول الطريق وهنا يجد أن الرفيق الذي اختاره عوناً له يأخذ بيده ويمدّ له يد المساعدة حتى يصلوا إلى المكان الذي سافروا إليه.
ونحن في هذه الدنيا مسافرون ولا شك أن السفر شاق ومتعب لذلك فإن من الواجب على المرء أن يختار الرفيق الذي يكون له عوناً على طاعة الله.
الرفيق الذي إذ سقط حمله، وإذا جزع صبّره، وإذا تعب أسنده حتى يصل وإياه إلى المرحلة الأخيرة.
حتى إذا مات أحدهما دفنه الآخر وصلى عليه ودعا له بالرحمة واستبشر له خيراً بما مات عليه من الطاعة.(6/8)
ولذلك إذا أردت أن تكون من أهل الصلاح فصاحب أهل التقى والخير الذين لا تسمع منهم ما يؤذي مشاعرك ولا ترى منهم ما يكون سبباً في موت حيائك ولا تجني من وراء صحبتهم إلا ثناء الناس ومحبتهم لك وثقتهم بك خصوصاً عندما يرون فيك الأخ النصوح والقلب الكبير الذي يريد لهم الخير ويسعى جاهداً لتوصيله لهم، وهذا من ثمرات الصحبة الطيبة الذين يتواصون بالخير فيما بينهم ويصبرون على ما ينالهم من الأذى حتى يبلغوا دعوة ربهم.
وإياك وصحبة السوء الذين لا تجني بسبب صحبتك إياهم إلا استهجان الناس واحتقارهم وبغضهم لك.
رفقاء السوء الذين لا يزالون بصاحبهم حتى إذا أوقعوه بمصيبة تقصم ظهره تركوه وحيداً يكابد العناء ويعض أصابع الندم وولّوا مدبرين عنه0
فكم من شاب وقع في المخدرات.. وآخر وقع في جريمة أخلاقية.. وآخر انعدمت غيرته وغير ذلك من قواصم الظهر.. كل ذلك بسبب صديق السوء الذي تفنن في إضلاله حتى صار مثلاً في الانحراف بعد أن كان أملا مشرقاً يرجى منه أن يكون عنصراً نافعاً لأمته0
هذا في الدنيا وأما في الآخرة، فإنه يتخلى عنه ويتبرأ منه، وتظهر العداوة بينهما بعد أن كانا رفيقين، فكل صحبة تقوم على المعاصي والمنكرات تكون هذه عاقبتها، قال تعالى: ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً. يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً . لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا )0
فهو يتألم ويتحسّر على تلك الصحبة التي لم يكن لها رباط وثيق ولم تكن على طاعة الله، ويلقي باللوم على صديقه الذي أغواه ويعض أصابع الندم،ولكن حين لا ينفع الندم.
فإذا عرفت أنّك في سفر وتيقنت من طول الطريق فاختر من يعينك حتى تصل إلى آخر المشوار.
سئل الحسن البصري:يا أبا سعيد كيف نصنع بمجالسة أقوام ها هنا يحدثوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟(6/9)
فقال: إنك والله لأن تصحب أقواماً يخوفونك حتى تدرك أمناً خير من أن تصحب أقواماً يؤمنونك ، حتى تلحقك المخاوف"(6)0
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم
ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
لا يغرنك طول الأمل..
كم من أناس اغتروا بشبابهم، وظنّوا انهم سيعيشون طويلاً فأسرفوا على أنفسهم بالمعاصي وزين لهم الشيطان أعمالهم وصدهم عن السبيل حتى جاءهم الموت بغتة فرحلوا عن هذه الدنيا ولم يأخذوا معهم من ملذاتها شيئاً يتزودون به ويكون عوناً لهم في سفرهم الطويل.
وقد كان عليّ رضي الله عنه يحذر أصحابه من طول الأمل ويقول: " إن أخوف ما أخاف عليكم طول الأمل واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة ، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق.."
ولذا فإن الإنسان إذا أطلق لنفسه العنان فلن تنقاد له بسهولة ويسر، لان النفس بطبيعتها تميل إلى الراحة والدعة وتحب اللهو والعبث ويعينها على ذلك الشيطان الذي يغرر بهذا الإنسان ويزين له زخارف الحياة ويصور له أنه لن يغادر هذه الحياة ويخدعه ويمنيه ويقول له : إنك ما زلت صغيراً والعمر أمامك طويل فلا تستعجل، تمتّع بشبابك وذق طعم الدنيا ولا يزال الوقت مبكراً على التوبة فإذا تقدم بك العمر وذقت ملذّات الدنيا وشبعت منها؛ فعند ذلك تب إلى الله، والله غفور رحيم؛ وهكذا يغرر به ولا يدري هل سيعيش حتى يتوب أو انه سيرحل قبل أن يصل هذه المرحلة.
والنفس كالطفل إن لم تهمله شبّ على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فجاهد النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محّضاك النصح فاتّهم
ولا تطع فيهما خصماً ولا حكماً
فأنت تعلم كيد الخصم والحكم
فعليك يا أخي أن تتجّنب طريق المعاصي ولا تطع الشيطان ولا تتبع خطواته، فإن الشيطان لم يزل بأناس يمنيهم ويزين لهم حتى أرداهم في نار جهنم والعياذ بالله..
التوبة... التوبة(6/10)
بادر بالتوبة والرجوع إلى الله فإن في ذلك النجاة والخلاص وتأمل سيرة سلفك الصالح وانظر إلى أي مدى وصلت بهم الخشية من الله فكن مقتدياً بهم واسلك طريقهم فإن في ذلك الخير كله.. وإياك أن تستهين بالذنب مهما كان صغيراً ولا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظم من عصيت، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إياكم ومحقّرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)(7)0
فلا تقل هذه صغيرة وهذا ذنب هين فإنك لا تدري لعل هذا العمل الذي تستصغره يكون سبباً في هلاكك لذلك كان السلف على كثرة أعمالهم وتقواهم كانوا يخشون الله جل وعلا حق خشيته ويخافون منه خوف الذنب وكأنهم أكثر الناس ذنوباً وذلك لرقة قلوبهم وقربهم من الله.
كان الإمام الحسن البصري يبكي في الليل حتى يبكي جيرانه فيأتي أحدهم إليه في الغداة ويقول: لقد أبكيت أهلنا؛ فيقول له: إني قلت يا حسن لعل الله نظر إليك على بعض هناتك ، فقال:اعمل ما شئت لست أقبل منك شيئاً(8)0
وكان ذات يوم صائماً فأتى له بكوب من ماء ليفطر عليه فلمّا أدناه من فيه بكى؛فقيل له مالك؟ فقال : تذكرت أمنية أهل النار وقولهم لأهل الجنة: " أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله" وتذكرت ما أجيبوا به: " إن الله حرمهما على الكافرين".
وقام منصور بن زاذان ذات يوم فتوضأ فلما فرغ دمعت عيناه ثم جعل يبكي حتى انقطع صوته فقيل له: رحمك الله ما شأنك ؟ قال: وأي شأن أعظم من شأني؟ إني أريد أن أقوم بين يدي من لا تأخذه سنة ولا نوم فلعله يعرض عنيّ "(9)0
أخيّ:
انظر إلى أحوال كثير من الشباب الذين تاهوا وضاعوا وانحرفوا عن الصراط المستقيم ماذا جنوا من طول الطريق واقتراف المعاصي؟!
هل كانت المعاصي سبباً في سعادتهم؟..أم كانت سبباً في شقائهم وضيق صدورهم؟
فإلى متى هذه الحيرة؟!(6/11)
دع الحيرة وأقبل على الله؛ وأجب داعي الله سبحانه وتعالى وإياك والتسويف بالتوبة فإنك لا تدري متى ساعة الرحيل ، واعلم أن غاية السعادة وانشراح الصدور إنما هو في طاعة الله واتباع أوامره والإنابة إليه سبحانه.
( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعّد في السماء)0
هذا ونسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين0
كتبه
سالم العجمي
Salem-alajmi@maktoob.com
الكويت- الجهراء ص ب 1476
(1) رواه البخاري (3175) ومسلم (2638 )0
(2) الجواب الكافي لابن القيم ص 146
(3) مسلم ( 2807 )
(4) مسلم ( 181 )
(5) البخاري (3091) مسلم ( 2843 )0
(6)الزهد لابن لمبارك (303)
(7)رواه احمد ؛ وهو في صحيح الجامع الصغير 2687.
(8) الزهد لأحمد 280.
(9)صفة الصفوة 3/12.
??
??
??
??
1
13(6/12)
همسة في أذن من أحب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
همسة من محب
أخي الحبيب :
سلام من الله عليك ..
وأحمد الله تعالى إليك ..
وأصلي وأسلم على خير معلم, محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وعلى اله ومن سار على
نهجه واهتدى بهداه.
أما بعد: أيها الحبيب :
لك وحدك .. من بين هذا الوجود..
أبعث هذه الرسالة , ممزوجة بالحب مقرونة بالود مكللة بالصدق مجللة بالوفاء .
فافتح لي مغاليق قلبك.. وأرعني سمعك ..
حتى أهمس في أذنك ..
نصيحة محب صادق .. يحبك على قدر حبك لله وطاعتك له.. ويخشى عليك ـــــ كخشيته على نفسه ــ من التقحم في معاصي الله والتفريط في جنبه .
حبيبك من يغار إذا زللتا
ويغلط في الكلام متى أسأتا
يسر إذا اتصفت بكل فضل
ويحزن إن نقصت أو انتقصتا
ومن لايكثرث بك لا يبالي
أحدت عن الصواب أ ماعتدلتا (1)
اخترتك من بين الناس .. كل الناس ..!!
واصطفيتك من بين فئام البشر !!
لأنك ملء القلب ..
ملء السمع وملء البصر ..!!
فأنت تحمل بين ضلوعك إيمانا راسخا ويقينا صادقا , بالرغم من تقصيرك ..
وتحتوي جوانحك قلبا من الله مشفقا وبحبه خافقا وبتوحيد ناطقا , على الرغم من تفريطك ..
فها أنا ذا أمد يدي إليك ..
وأفتح قلبي بين يديك ..
وأضح كفى بكفك لنمشي سويا على صراط مستقيم . في سبيل الله رضاء الله عنا وحبه لنا وإقباله علينا , تحقيقا للوعد الصادق , ومن أصدق من الله قيلا ." من عمل حسنة , فله عشر أ مثالها وأزيد , ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أوأغفر , ومن عمل قراب الأرض خطيئة , ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة, ومن اقترب إلي شبرا , اقتربت إليه ذراعا , ومن اقترب إلي ذراعا , اقتربت إليه باعا , ومن أتاني يمشي , أتيته هرولة " . (2)
……… جزيرة الهلاك
أخي الحبيب :
__________
(1) ابو عثمان بن لئون التجيبي .
(2) الهرولة في حق الله سبحانه معلومة والكيفية مجهولة والإيمان بها واجب والسؤال(7/1)
مثلي ومثلك في هذه الحياة الدنيا كمثل قوم كانوا في سفر .. قد كلوا وملوا من طول هذا السفر , فأراداوا أن يستوطنوا , فوجدوا لهم جزيرة بعد طول عناء وترادف شقاء.
فظلوا فيها ما شاء الله أن يظلوا , أنزلوا عن ظهورهم رواحل التعب , وخلعوا عن أجسادهم ظواهر النصب , ولكن كثرت بينهم الفتن ودبت فيما بينهم المحن ونشبت بينهم الإحن , وذلك لأنه ليس لهم أمير يأتمرون بأمر وينتهوم مذعنين عند نهيه , فيكون للخير دليلا وللسعادة سبيلا .
لايصلح الناس فوضى لاسراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا (1)
فاجتمع أمرهم على أن يتعين منهم أمير يتولى أمرهم , ويحكم بينهم , ويرعى مصالحهم , ويقوم على شؤونهم . من أهم الشروط التي يلزم العمل بها أن يظل في الأمارة خمس سنوات , ثم لابد له من أن ينقل في قارب صغير إلى جزيرة ثانية مشهورة معلومة بكثرة الهوام والسباع والضباع .
فالداخل فيها مفقود والخارج منها مولود... وأني له ذلك ؟!
أي أن الهلاك فيها خطر لابد منه ولا مهرب عنه ..!!
فتولى أمرهم أمير ظل فيهم وعليهم خمس سنوات أكل اخرهم أولها , فتلاشت من بين يديه وانطوت من تحت قدميه . وانتهت هذه السنوات ..
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثوان (2)
وحسب الاتفاق الذي أبرموه فيما بينهم لابد أن ينقل إلى تلك الجزيرة ( جزيرة المهالك)
وكذلك فعلوا ...
وجاء أمير ثان .... وثالث ...
وهاب الناس هذا الأمر وارتاعوا منه.. ثم أحجموا عنه.. ولم يقدم عليه أحد . يقول أحدهم لنفسه: أجزاء تمتعي بالولاية خمس سنوات ما أسرع ما تنقضي. وأعجل ما تنتهي ..
أنقل إلى تلك الجزيرة المسكونة بالمهالك بعيدا عن أهلي ومالي وكل مكتسباتي ومدخراتي .. لايعلم فيها حالي ولامالي ..؟!
فتركت الولاية .. وعادت الغواية..
ورجع الناس يعنون من فقد الأمير , لما يرون من ظلم واقع ليس له من دافع , وجرم
نازل ماله من منازل , وفوضى عارمة وبلوى جاثمة .
__________
(1) الأفوه الأودي .
(2) أحمد شوقي .(7/2)
ومر بهم رجل عليه سيماء الخير وملامح الصلاح , فد دل مظهره على مخبره . فعرضوا عليه أمرهم وأخبروه بحالهم , فقال: أنا لها بإذن الله ..!!
فتولى الولاية عليهم خمس سنوات ما رأى الناس مثلها ولا عاشوا كصفوها في خيرها
وعدلها ..
إذا شئت أن تقتاس أمر قبيلة
وأحلامها فانظر إلى من يقودها (1)
وانتهت هذه السنوات كعقد انحل وثاقه فانفرطت حباته , وأزف التحويل .. فلم يبق سوى الرحيل ..!!
وجاء اليوم الموعود .. بكل الامه وأحزانه كعاصفة هوجاء قطعت كل أمل ورجاء في الخلود والبقاء ..
وأتت اللحظة الحاسمة لتشعل في القلب أحزان الفراق وتطوي صحائف اللقيا ونعيم التلاق ..
ودنت ساعة الصفر .. التي تتغير فيها الموازين .. وتنخلع من هولها القلوب .. وتذرف من حرقتها العيون , وينعصر من رهبتها الوجدان ..
وجيىء بهذا الأمير ليركب القارب الذي سينقله إلى جزيرة المهالك , ليواجه الأهوال وحده , ويقارع الخطوب بفرده , حيث لا معين ولا جليس ولا مغيث ولا أنيس .
طريق سلكه من قبل وسيعبره من بعده , فكم سار مثل هذا القارب بمثله من قبل .!!
وبينما كان الناس اسفين محزونين .. دموعهم تهراق حزنا على فراقه , وقلوبهم تتقطع ألما لفقده وبعاده , إذا به في بهجة وسرور وفرحة وحبور ..!!
فقالوا ـــ والعجب يأخذهم منهم كل مأخذ ـــ : عجبنا منك ومن حالك ..!!
نحن قلوبنا ألم بها الألم , ومسها السقم , وأمضها المرض , حزنا عليك وحبا فيك وألما
لفراقك ..
وانت في سعادة غامرة وفرحة ظاهرة ..!!
فما الذي دهاك ؟! وأي خطب اعتراك ؟!
قال : اسمعوا مني الخبر .. وافهموا مني الحكاية ..
أما إني علمت أني راحل عن هذه الجزيرة مفارق لها ومسافر عنها , مهما طال بي فيها المقام فأعددت العدة لهذا الرحيل وجهزت الزاد لهذا السفر الطويل ..!
في السنة الأولى أرسلت جزءا من عبيدي وغلمانا من غلماني إلى تلك الجزيرة فقتلوا
ما فيها من سباع وضباع ..
__________
(1) عمر بن الحارث الطائي .(7/3)
وفي السنة الثانية بعثت جمعا من عبيدي وغلمانا من غلماني إلى تلك الجزيرة فأهلكوا ما فيها من مهلكات وأفنوا ما يكتنفها من افات وأزالوا ما فيها من هوام وحشرات ..
وفي السنة الثالثة أرسلت حشدا من عبيدي وغلمانا من غلماني فأعدوا لي فيها القصور والدور ..
وفي السنة الرابعة وجهت فرقة من عبيدي وغلمانا من غلماني فأعدوا لي فيها المطايب والمشارب والمركب ..
وها أنا أنتقل في السنة الخامسة لا كمن سبقني .. ينتقلون من العمار إلى الخراب .. أنا أنتقل من العمار ... إلى العمار ..!!(1)
هذا مثلي ومثلك ـــ أيها الحبيب ـــ في هذه الحياة الدنيا ..
ولدتك أمك يا بن ادم باكيا
والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا
في يوم موتك ضاحكا مسرورا
عقبات كؤود
أخي الحبيب :
نعيش أياما قلائل .. لحظات معدودات .. ثم لابد لنا من الرجوع إلى الله والوقوف بين يديه { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } (2)
فنحن نهدم في أعمارنا ــ على قصرها ــ منذ استهل أحدنا صارخا من بطن أمه , وندنوا لحظة بعد ونفسا بعد نفس من صندوق العمل{ إن إليناإيابهم ثم إن علينا حسابهم }(3)
يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى : يا ابن ادم إنما أنت أيام فإذا ذهب يومك ذهب بعضك .
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي
( وفي رواية بمنكبي ) فقال : " يا عبدالله ! كن في الدنيا كأنك غريب , أو كأنك عابر سبيل , وعد نفسك من أهل القبور ".(4)
__________
(1) فإن كان هذا حال الأمير مع علوا مكانته وسمو منزلته ما أغنى عنه ماله وهلك عنه سلطانه فما بالك بمن هو دونه؟ والعبرة بطيب العمل والبعد عن الخطأ والزلل والزاد الذي يحتمل !!
(2) سورة الأنعام آية( 62 )
(3) سورة الغاشية آية ( 26 )
(4) صحيح سنن ابن ماجه للألباني رقم ( 3322 ) ( 2/ 395 ) بسند صحيح(7/4)
وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء , وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك .(1)
حتى متى لا ترعوي يا صاحبي ؟
حتى متى؟ حتى متى؟ وإلى متى ؟
والليل يذهب والنهار , وفيهما
عبر تمر وفكرة لأولي النهى (2)
وأمامنا ــ أيها الحبيب ـــ في هذا السفر المكدود عقاب كؤود , ومصاعب عظيمة , ودواه جسيمة لايعلم مداها ولا منهتهاها إلا خالقها ومولاها ..!!
أمامنا الموت وسكرته , والقبر وظلمته, والصراط وحدته , والميزان ودقته , والحشر ورهبته , والصور وصعقته , والوقوف أمام الله وعظمته .
فواخجلتاه .. يوم العرض الأكبر على الله ..
ووا أسفاه .. على أعمار انقضت في غير طاعة الله .
وواحزناه .. على لحظات مرت .. كرت ففرت .. لم تملأ بما يقرب من الله ..
وواسوأتاه .. فبأي جواب وخطاب نعتذر من الله ..؟!
وواكربتاه .. لأهوال عظام وكربات جسام بين أيدينا في سفرنا ألى الله ...!!
فماذا أعددنا لهذه العقبات ؟!
وما الزاد الذي جهزناه لهذه المهلكات ؟!
يقول النبي صلى الله عليه وسلم " والله لو تعلمون ماأعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ,
وما تلذذتم بالنساء على الفرش , ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون " (3)
تزود للذي لابد منه
فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم
لهم زاد وأنت بغير زاد ؟!
حيل بينهم وبين ما يشتهون
أيها الأخ الحبيب :
أصحاب القبور مرتهنون بأعمالهم مجزيون بأفعالهم , قد أفضوا إلى ما قدموا , أمنية
__________
(1) صحيح البخاري رقم ( 6416 ) ( فتح 11/ 237 ) .
(2) أبو العتاهية .
(3) صحيح الجامع ( 1722 ) عن أبي ذر بسند صحيح(7/5)
أحدهم أن يعود إلى الدنيا ليفسح له في الأجل فيستأنف العمل , فيملأ كل لحظة بطاعة وكل ساعة بقربة وكل دقيقة بزلفى , تقربه من الله وترفع قدره عند خالقه ومولاه , وتبيض وجهه يوم لقاء الله , يوم تيبض وجوه المؤمنين بطاعة الله وتسود وجوه المجرمين بمعصية الله , ولكن { حيل بينهم وبين ما يشتهون } (1)
ضاعت الأيام في جمع الحطام , وجاء الموت ليخترم العمر ويلقي الدنيا بما فيها وعليها
خلف الظهر,
كمثل نملة صغيرة تجمع الحب في الصيف لتأكله في زمن الشتاء عندما يشتد البرد ويفتقد الغذاء , وفي يوم من الأيام أخذت النملة حبة في فمها لتكنزها في مخدعها , فجاء عصفور من السماء فأخذها والحبة معها , فلا ما جمعت أكلت ولا بكنزها تمتعت .
فما دمت ـــ أيها الحبيب ـــ في زمن العمل فدع التواني والكسل . وما زلت في إمكان البذر , فتنبه من هذا الرقاد فقد حصحص زمن الحصاد .
وما برحت الفرصة أمامك وميدان السباق بين يديك , ومضمار التنافس تحت قدميك ..
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " ارتحلت الدنيا مدبرة , وارتحلت الآخرة مقبلة , ولمل واحد منهما بنون , فكونوا ما أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا , فإن
اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل " . (2)
فالبدار ... البدار ...
والمسارعة ... المسارعة ...
قبل أن ينتهي زمن المهله ويحين وقت النقلة , فتنقل من القصور إلى القبور, ومن الدنيا الى الآخرة.. ومن فوق الأرض إلى تحتها .. ومن المشي عليها والسعي فيها إلى الحشر بين أطباقها . فأي عيش يطيب .. وليس للموت طبيب ؟!
وأي حياة ترجى .. وليس دون ارحيل منجى ؟!
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم على
__________
(1) سورة سبأ آية ( 54 ) .
(2) صحيح البخاري ( فتح 239 / 11 ) كتاب الرقائق ــ باب الأمل وطوله .(7/6)
الحصير , فأثر في جلده فقلت : بأبي وأمي يارسول الله ! لو كنت آذنتنا ففرشنا لك عليه شيئا يقيك منه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما أنا والدنيا ! إنما أنا والدنيا
كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ".(1)
فاهتبل فرص العمل قبل أن يحيق بك التلف فتطوى الصحف وتعاين غطاءك الذي انكشف , فترجوا الرجوع ولا رجوع !!
{ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها
كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } . (2)
لمثل هذا فأعدوا
أيها الأخ الحبيب :
كان بعض السلف الصالح قد حفر لنفسه قبرا , فإذا فتر عن العمل نزل في قبره , فتمدد في لحده , ثم قال لنفسه : يا نفس قدري أني قد مت وصرت في لحدي : أي شيء كنت تتمنين ؟
قالت : أرد إلى الدنيا , فأعمل فيها صالحا .
فيقول لنفسه : قد بلغت أمنيتك , فقومي فاعملي صالحا . فيعود وقد زاد إيمانه فباشر قلبه وجنانه فانقاد للعمل جسمه وأركانه .
وإنما هي لحظة محاسبة للنفس ومعاتبة للحس فأخذ للعظة والدرس !!
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم (3)
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال :" بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة فقال : علام اجتمع عليه هؤلاء ؟ قيل : على قبر يحفرنونه , قال : ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فبدر بين يدي أصحابه مسرعا حتى انتهى إللا القبر فجثا عليه , قال : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع , فبكى حتى بل الثرى من دموعه , ثم أقبل علينا , قال : أي إخواني ! لمثل اليوم فاعدوا ".(4)
يقول المرء فائدتي ومالي
وتقوى الله أفضل ما استفادا
فلا تك ياابن آدم في غرور
فقد قام المنادي صاح نادى
بأن الموت طالبكم فهبوا
__________
(1) صحيح سنن ابن ماجه ( 3317 ) بسند صحيح .
(2) سورة المؤمنين آية ( 99 ــ 100 ) .
(3) محمد بن سعيد الصنهاجي .
(4) صحيح الجامع ( 1751 ) عن البراء بن عازب بسند حسن .(7/7)
لهذا الموت راحلة وزادا (1)
فماذا أعدت ـــ أيها الحبيب ـــ لذلك اليوم العصيب ؟ّ!
يوم تغمض عينك عن الدنيا لتفتحها بين يدي منكر ونكير ..؟!
يوم يتخلى عنك أقرب الناس منك , فيدبر عن قبرك الأهل والأصحاب , وتوضع لوحدك بين الجنادل والتراب ؟!
قال صلى الله عليه وسلم :" يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد , يتبعه أهله وماله وعمله , فيرجع أهله وماله , ويبقى عمله ". (2)
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا
غداة غدا يالهف نفسي على غد
إذا أدلجوا عني وأصبحت ثاويا (3)
فما دام أن العمل الصالح هو الرفيق الذي لا يخون فاكتنز منه واستكثر قبل نزول الموت وانقطاع الصوت , وفوت الفوت { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون }(4)
ولمثل تلك اللحظات المهلكات { فليعمل العاملون } (5)
عن ابن عمر رضي الله عنهما :" كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل من الأنصار , فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : يارسول الله ! أي المؤمنين
أفضل ؟ قال : " أحسنهم خلقا . قال : فأي المؤمنين أكيس (6) ؟ قال : أكثرهم للموت ذكرا , وأحسنهم لما بعده استعدادا . أولئك الأكياس ".(7)
قال إبراهيم التيمي رحمه الله تعالى : مثلت نفسي في الجنة مع حورها , وألبس من سندسها وإستبرقها وآكل من ثمارها , وأعانق أبكارها , وأتمتع بنعيمها , فقلت لنفسي : يا نفس أي شيء تتمنين ؟ فقالت : أرد إلى الدنيا , فأزداد من العمل الذي نلت به هذا .
__________
(1) تنسب لأبي الدرداء الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه .
(2) مختصر صحيح مسلم ( 2086 ) عن انس بن مالك .
(3) مالك بن الريب .
(4) سورة المطففين آية ( 26 ) .
(5) سورة الصافات آية ( 61 ) .
(6) الكيس : الفطن المتبصر في عاقبة أمره .
(7) صحيح سنن ابن ماجه ( 3435 ) بسند حسن .(7/8)
ثم مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسعيرها , وأحرق بجحيمها , وأجرع من حميمها , وأطعم من زقومها , فقلت لنفسي : أي شيء تتمنين ؟ فقالت : أرد إلى الدنيا
فأعمل عملا اتخلص به من هذا العذاب . فقلت لها : يا نفس فأنت في المنية فاعملي .
ونحن ما زلنا في المنية , فهل من يقظة واعتبار ؟
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وانك لم ترصد لما كان أرصدا (1)
مزرعة الآخرة
أخي الحبيب :
فلتجعل الدنيا مطية للآخرة , ولتكن دنياك مزرعة لأخراك وانزع حبها من قلبك فإنها
ملهية مقسية غاوية غرارة !!
زواها الله عن أحب خلقه إليه وأكرمهم عليه محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم , ولو كانت خيرا لساقها إليه ولأسلمها ذليلة بين يديه , ولكن لكرامته عليه ولهوانها عنده حجبها عنه ونزعها منه, وهو صلى الله عليه وسلم القائل :" والله يا عائشه ! لو شئت لأجرى اللع معي جبال الذهب والفضة "(2) وبالرغم من ذلك كان يدعوا فيقول :" اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا " وفي رواية " كفافا " . (3)
ولذا كان يعتصره الجوع فلا يجد من القوت ما يسد جوعته وينهي مسغبته .
عن عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ــ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتلوى من الجوع . ما يجد من الّدقل (4) ما يملأ به بطنه . (5)
وقال خالد بن عمير , قال : خطبنا عتبة بن غزوان ـــ رضي الله عنه ـــ على المنبر فقال : لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــ ما لنا طعام نأكله إلا
ورق الشجر . حتى قرحت اشداقنا . (6)
__________
(1) العشى ميمون .
(2) صحيح الجامع ( 2484 ) عن عائشه وهو صحيح .
(3) مختصر صحيح مسلم ( 2069 ) عن أبي هريرة .
(4) أردأ أنواع التمر .
(5) صحيح سنن ابن ماجه ( 3345 ) وهو صحيح .
(6) صحيح سنن ابن ماجه ( 3352 ) وهو صحيح .(7/9)
وكان يؤم الضيف شطر بيته المبارك لتقصى حاجته وتغني فاقته فلا يملك بين جدران بيوته التسع ألا الماء !! وهل يسمن الماء أو يغني من جوع ؟!
عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم , فبعث إلى نسائه ؟ فقلن : ما معنا إلا الماء ( أقول : سبحان الله ! رسول الله ولا يجد من الغذاء هو وخير النساء في بيوته إلا الماء ؟! اللهم لا تبتلينا فتفضحنا فإنا ضعفاء ) , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يضم ( أو يضيف ) هذا ؟
فقال رجل من الأنصار (1) : أنا , فانطلق به إلى امرأته فقال : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالت : ما عندنا إلا قوت للصبيان , فقال : هييء طعامك , وأصلحي سراجك ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء .
فهيأت طعامها , وأصلحت سراجها , ونومت صبيانها , ثم قامت كانها تصلح سراجها فأطفأته وجعلا يريانه أنهما يأكلان , وباتا طاويين , فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : لقد ضحك الله ( أو عجب ) من فعالكما ؟ وأنزل الله :
{ ويؤثرو على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}(2) (3)
ومع أنه أحب خلق الله إلى الله إلاأن الجوع والفاقة تبلغ به مبلغا عظيما تضطره للخروج من بيته في وقت لايخرج فيه أحد, ولا يخرجه إلا بطنه الخاوي وكبه العطشي .
__________
(1) هو أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه كما صرح مسلم بذلك في صحيجه ( 6/ 128 ) .
(2) سورة الحشر آية ( 9 ) .
(3) ذكر البخاري في كتاب التفسير ( 65 ) باب ( 59 ) الحشر .(7/10)
"خرجرسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة لايخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد , فأتاه أبو بكر فقال : ما جاء بك يا أبا بكر ؟ قال : خرجت ألقى رسول الله وأنظر في وجهه , والتسليم عليه . فلم يلبث أن جاء عمر , فقال : ما جاء بك يا عمر ؟ قال : الجوع يارسول الله ! قال صلى الله عليه وسلم : وانا قد وجدت بعض ذلك , فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم التيهان النصاري وكان رجلا كثير النخل والشاء . ولم يكن له خدم فلم يجدوه , فقالوا لامرأته : أين صاحبك ؟ فقالت : انطلق يستعذب لنا الماء . فلم يلبث أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها فوضعها و ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه , ثم
انطلق بهم إلى حديقته , فبسط لهم بساطا , ثم انطلق إلى نخلة , فجاء بقنو فوضعه , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفلا تنقيت لنا من رطبه ؟ فقال : يارسول الله . إني أردت أن تختاروا أو تخيروا من رطبه وبسره .
فأكلوا وشربوا من ذلك الماء , فقال صلى الله عليه وسلم : هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسالون عنه يوم القيامه , ظل بارد ,ورطب طيب وماء بارد ".(1)
وقد سمع أنس بن مالك رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يردد مرارا :" والذي نفس محمد بيده , ما أصبح عند آل محمد صاع حب أو صاع تمر "(2) وإن له يومئذ لتسع نسوه (3) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا , وأهله لا يجدون عشاء , وكان أكثر خبزهم خبز الشعير (4) .
__________
(1) مختصر الشمائل المحمدية للترمذي بتحقيق الألباني رقم _( 113 ) وأصله في مسلم ( 2038 ) وللحديث بقية فلتنظر فإن فيها عمر .
(2) صحيح الجامع ( 2404 ) عن أنس وهو صحيح .
(3) صحيح سنن ابن ماجه ( 3346 ) عن انس بسند صحيح .
(4) صحيح سنن الترمذي ( 1923 ) بسن حسن .(7/11)
وليته عليه الصلاة والسلام قد شبع من خبز الشعير , تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين
حتى قبض (1) .
وتقول من قاست معه ألم الفقر والحاجة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لعروة رضي الله عنه : والله يا ابن أختي ! إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال , ثلاثة أهلة في شهرين , وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار قال : قلت : يا خالة فما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان التمر والماء (2) . وما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحدهما تمر .(3)
وكان بالرغم من منزلته العلية ومكانته السامية يربط الحجر على بطنه من الغرث (4) (5)
دار الغرور
أخي الحبيب :
أقبلت علينا الدنيا بزخارفها , وانظر حت كبغي بين أيدينا بزينتها , فأقبلنا نتهارش عليها ونتنافس على حطامها , وما أرانا أوتينا إلامن قبلها , فقد أشربت بحبها قلوبنا , وتعلقت بها جوارحنا , وامتزجت بمتعها أرواحنا , فأشغلت الكثير منا , فصدف عن التزود للآخرة منها , والتاع يلهث منها لها , ومن شهواتها ليتمتع بها , وينعم بما فيها , فهي تتزين بشهواتها , وتتحلى بملذاتها لكي تخدعه بفتنها وتضله بمغرياتها , فينسى بها لقاء الله , ويغفل بالاستكثار منها عن التزود لأخراه , وينشغل بها عن ما أعدهله بتركها خالقه ومولاه. فالله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لايحب ولا يهب الدين إلالمن يحب .
والعليم بها يحذرنا منها فيقول { فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور }(6)
احذر من الدنيا ولا تغتر بالعمر القصير
وانظر إلى آثارمن صرعته منا بالغرور
__________
(1) صحيح سنن الترمذي ( 1920 ) بسن صحيح .
(2) مختصر صحيح مسلم ( 2070 ) عن عروة
(3) صحيح البخاري ( 6455 ) ( فتح 11/ 287 ) عن عائشة .
(4) أي الجوع .
(5) الصحيحة : ( 1615 ) عن أبي هريرة بسند حسن .
(6) سورة لقمان آية ( 33 ) .(7/12)
عمروا وشادوا ما تراه من المنازل والقصور
وتحولوا من بعد سكناها إلى سكنى القبور (1)
فواعجبا .. وليس ينتهي العجب ...!!
من إقبالنا نحوها , وتنافسنا عليها , بالرغم من مكرها بنا وتغريرها لنا !! مع أنه زهدنا
فيها من خلقها وسواها , فكيف ترغب بها قلوبنا ؟!
وحذرنا منها من هو أعلم منا بها , فكيف نأمن جانبها ونركن لها ونسلم قلوبنا إليها ؟!
وبين لنا ربنا بجلاء ليس فيه خفاء معايبها ومثالبها , فكيف تعمى أبصارنا عن مساويها وننسى دواهيها ؟!
تنبهوا يارقود إلى متى ذا الجمود ؟
فهذه الدار جمع يفني , ومال يبيد
الخير فيها قليل والشر فيها عتيد
والعمر ينقص فيها وسيئاتي تزيد
فاستكثروا الزاد فيها إن الطريق بعيد(2)
ولست لفرط تحذيري منها وتزهيدي لك فيها , أحرم عليك حلالها وأمنعك من المشي في مناكبها .
أمنية أهل الآخرة
أخي الحبيب :
الدنيا أمنية أهل الآخرة جميعا . فكل يرجو الرجوع إليها , لا ليستزيد من متاعها ويستكثر من زخارفها وحطامها , وإنما ليصحح الملة ويتوب من زلة ويتنافس في الخير كله .
أرأيت أهل الجنة في نعيمهم المقيم , وخيرهم العميم ,فيما لاعين رأت , ولاأذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر في النعيم الذي لا يكدره سخط , والراحة التي لايشوبها عناء , والسعادة التي لا يخالطها شقاء , فيما تشتهيه النفس , وتلذ الأعين , وهم ـــ على الرغم من ذلك ـــ يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا فيعملونا بالصالحات ليرتفعوا في المنازل والدرجات , قال صلى الله عليه وسلم :" إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكواكب الدري الغابر في الفق من المشرق أو المغرب , لتفاضل ما بينهم "(3) .
__________
(1) أسامة بن منقذ .
(2) عبدالرحمن البرعي .
(3) مختصر صحيح مسلم (1961 ) عن أبي سعيد الخدري .(7/13)
وتأمل ــ إن شئت ــ حال الشهداء الذين قدموا أرواحهم ودماءهم رخيصة لله رب الأرض والسماء , وأرواحهم في جوف طير خضر , لها قناديل معلقة بالعرش , تسرح من الجنة حيث شاءت , ثم تأوي إلى تلك القناديل وهم ـــ والحال ما علمت ـــ يتمنون لو
أن لهم كرة ثانية إلى الحياة الفانية فيعملون للحياة الباقية :" يارب نريد أن ترد ارواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ".(1)
فإن كانت هذه أمنية أهل الجنة , فما بالك بأماني أهل النار ؟! وهم الذين في جهنم يجشرون وعلى وجوههم يسحبون وفي الأغلال يصفدون , في الشقاء الذي لا سعادة معه والكدر الذي لا أنس فيه , ولا أمل في الخروج منه , وهم يصطرخون فيها :
{ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون}(2)
ربنا : أشقينا أنفسنا بالذنوب والخطايا والمعاصي والرزايا , فأرجعنا إلى الدنيا { نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل } (3) .
فيأتيهم الجواب الذي تتقطع لهوله القلوب ولحسرته الأفئدة :{ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير } (4) .
فيا أيها الحبيب :
ما زلنا في الأمنية .. وما زالت الفرصة أمامنا , والطريق بين أيدينا , فلنجد المسير إلى
السميع البصير , ولنفق من هذا السبات قبل أن يخترمنا الممات ..
فقد دنا الرحيل .. والزاد قليل .. والسفر طويل .. والخطب جليل .. والله المستعان .
ملاك الأمر تقوى الله فاجعل
تقاه عدة لصلاح أمرك
وبادر نحو طاعته بعزم
فما تدري متى يمضي بعمرك (5)
الخاتمة نسأل الله حسنها
وفي الختام .... وليس بيني وبينك ــــ أيها الحبيب ـــ ختام :
هذا ما جادت به القريحة وطاش به القلم وفاض به المداد .. أنشره ــ في حب ــ بين يديك
__________
(1) مختصر صحيح مسلم ( 1068 ) عن ابن مسعود .
(2) سورة المؤمنون آية ( 106 ) .
(3) سورة فاطر آية ( 37 )
(4) سورة فاطر آية ( 37 ) .
(5) ابن خاتمة الأندلسي .(7/14)
وابسطه ـــ في ود ـــ بين راحتيك ... لترمقه مقلتيك ..
دليل حبي لك .. وخوفي عليك ..
الرجا كل الرجا : ان أنال بها من الله الأجر وغفران الذنب والوزر , ثم أحضى منك بدعوة طيبة كطيب قلبك وصفاء نفسك ليجمعني بك الله إخوانا على سرر متقابلين في مقعد صدق عند مليك مقتدر !!!
وكتبه أفقر الخلق إلى الخالق :
عبداللطيف بن هاجس الغامدي
جدة ( 21468 ) ص ب ( 34416 )
غفرالله له ولمن دعا له(7/15)
تقريرميداني
حين يبلغ الداعية أشده ، ويبلغ أربعين سنة : يبدأ بفهم الحياة حقا ، وليس قبل ، ويرى قسمه الله تعالى العقول والهمم والقلوب والنفوس والأخلاق على الناس والدعاة كقسمته الأرزاق ، ويبدأ وعي بعض سر الحكمة الربانية وجرياتها وأسترسالها، ورؤية قرائن الخبر والشر في الأقدار ، وتكون له عين نافذه تمنحه موازين بصائر وفكرا حرائر.
…إنه طول الأيام . وتوسع المراقبة ، وتكرر الأشخاص ، وتنوع التجريب ، ينقل الداعية إلى نظر جديد ليس بملكه الشاب المبتدئ ، بل ولا الذي توغل المنتصف ويقتنع حينذاك بوجوب ترك الحديات الجازمة، والعاطفيات الحالة، والفا تونيات الجامدة، ليستبدلهن بقلب كبير رحب الأرجاء يستوعب كل من هنالك ، فيمد كف المصافحة ، ليس أصبع الإتهام ، ويتبع سد الذريعة ، لا السن بالسن ، ويعرف نيل سبق الرحمة الغضب.
…أهلها : شجاع ومنسحب ، وكريم ومحاسب ، وذكي وبطئ ، ومبتكر ومقلد ، وطموح ومشتد ، وصبور وجزع فهم: متعب وسعيد ، ولا هث ونائل، فهم ثانية : معين ومستعين.
…وواجب قبل العين أن يسمع كل هؤلاء ، وأن يعين أهل الإعانة على إتمام احساتهم ، وأن يرفق بالمحضر المحدود ، والمهموم الحائر، بينهما على اجتياز الحدود والأسرة ، والاقتباس ممن فضله الله بالعلم والمكارم تفضيلا.
…الصواب يقال له: صواب : والخطأ : خطأ..
…يقالان تربية وتعليما وإرشادا ، ليكون الموفق اللاحق، إذا يصل- قرة عين للأعيان ، وسبب سرور للسابقين ، به يانسون ، وبوصله يبرهنون على أن سنة السير ماضية ، ولئن أ؛جم فاتر فتوقف فن لغيره الوثبات. …
…ميزهم عبد القادر الكيلاني رحمه الله ، ورأي كيف:
…( يصفطون على أهاليهم ، وأهل زمانهم، تتميز معانيهم، وتتنور مبانيهم ، ولهذا فارقوا الخلق، وزهدوا في المألوفات. ساروا إلى قدام)-
…وهم الذين يحبهم الله تعالى ، ويأمر ملائكته أن ينادوا في الناس أني أحببتهم فأحبوهم.
* نبض ومض ... يحددان هويتنا(8/1)
…وعلى طرف أر: ثم نقيض لا يتمس له المقابل ، لأن شخصية الداعية إنما هي هبة من الله تعالى، يهب من يشاء الشخصية المحبوبة، ويجعل الناس والدعاة في فتور وصدود عن آخرين، ورب داعية نعاشره فنجد أبعاد تصرفاته وأخلاقه وأذواقه دقيقه حتى السنتيمتر ، بل حتى الملي سنتيمتر، لكنه ثقيل الظل لا تألفه النفوس، وكأن النية هي التي تميز عمل هذا عن هذا في روع المقابل النظائر المعامل، بعد إذ استويا في الظاهر ، ثم يزداد التمييز دقة ، فيشهد قلبك أن شخصا ينتصب أمامك فجأة هو من الدعاة ، ولربما تكلم بكلمة واحدة أو لم يتكلم ، ,أخر يحفظ رسائل الإمام وتجزم بأنه غرب دخيل.
…وطلب قاصد لإحدى المدن مرة عنوان عين من أهلها يأنس به، فلم يعط، حذرا ، فوصلها بسيارته مساء يتلفت ، ووقف عند شاب ينتظر سيارة، يسأله عن مركز المدينة ، فقال الشاب : أركب معك أدل وأصل إلى بغيتي، فكر فقال : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، فقال له القادم: يسلم عليك أو فلان ، فقال ، وعليك السلام وعليه ، فتفرسا، فالتفت الومضتان ، فكانتا أقوى من ليزر.. !
…هو كذلك أمرنا: طابع لا يقلد ، ونمط لا يحاكي ، وهو أشبه بظاهرة المروءة لما سأل عنها سائل ، فقيل ،له تؤخذ معاملة ولا تؤخذ نطقا.(8/2)
…فمعنى " الدعاة" لا يوصف ولا تفصح عنه الكتب، مع أن ألفاظ المعرفين قاربت، وإنما حقيقتهم الدقيقة أنهم ( روح يسرى في هذه الأمة) كما وصفهم الإمام، وللروح نبضات، أو : هم سمت ونفس، وذوق ونسب، وترعف هذه الروح من التجارب والمخالطة وقصص الأعيان الأعيان أكثر مما تعرفها من المدونات والأسطر، ( ولذلك كانت كتب الأستاذ عباس السيسي أصدق كتب في وصف الدعوة ومعناها، وأقربها إلى الدقة ، وأعلاها عاطفة ، لأنها تتحدث عن يوميات وأمور صغيرة من سيرة الدعاة تكشف عن الحقيقة الكبيرة والهوية الفذة المستقلة ، وتجدها هي هي بمصر أو العراق ، وبالخليج أو الجزائر). ولذلك فإن إندساس الغريب داخل الجماعة صعب غاية الصعوبة، وتشكل مسحة الدعاة الخاصة أصارير وجهوهم ، ونبرات أصواتهم: علامة مسجلة هي في الحقيقة أهم صمام أمني واحتياط وقائي ، وصدقهم الفريد هو كلمة سرهم، وومضة عيونهم هي جواز مرورهم). حتى لو أن شأبا أخاهم أول شبابه شهوراً، ثم غلبته شهوته فانغمس ، فإن بقية من طهرهم تبقى تحكم حركاته ولو بعد عشرين سنة من بعده عنهم، رغم فجوره ، ويكون الفاجر التقي ، ولرما رده الحليب الحر ، فيعقله الحياء عن إعلان العودة، فيبعث أولاده يستعيد تاريخه بهم، ويتذكر الأنفاس.
الأرزاق الصافية ... لقلوب عالية ...
…والله يجزي كلأ بنيته ، وجزءا الإحسان عنده، الإحسان ، والرزق ، والتيسير ، وراحة البال، وسكينة النفس ، وما بذل أحد بذلا إلا عوضه الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة، ولقد رأينا دعاة نكلفهم ، ونطلب منهم التفرغ للغة ، أو القناعة بوظيفة دون أخرى أقرب لساحة العمل، أو يصبرون أنفسهم ، وهم من تلقاء أنفسهم- على ثغرة يربطون عليها، فيعلم الله منهم التجرد، فيعوضهم خيرا مما لو كانوا استجابوا للحساب الدنيوي الظاهر.(8/3)
…منهم دالية نال الدكتورة في الهندسة في جامعة أمريكية راقية، وأمامه منفذ لتدريس جامعي في الخليج براتب ضخم، فيرشح للتفرغ لنشر الدعوة فيهم ، فيلبي ، فيعوضه الله بوظيفة في ساحة عمله لا تشغله غير يومين ، ويضعف ما رضي به أولاً.
…وآخر تحجز له وظيفة في المنامة، وهو من حملة الماجستير، ويشجعه أصحاب له، وينتظرونه ، فنقول له: المنامة تنيم القلوب. وبيشاور توقظها. وهي تهبط بالهمم ، وبيشاور تعليها ، فيزيد إلى خطوته خطوة أخرى فقط، فإذا هو بأجواء الجهاد يسرح ، ويقرب المجاهدين يمرح، وراتبه النقي ليس أقل من الراتب المكدر.
… ومتجردان على حدود خراسان، يبيعان الأمشاط على منضدة في مدخل سوق ، ليس غير فيكون رزق كل منهما ثلاثة أمثال راتب الموظف الجامعي هنا: ، فمن الله نعمه ، وممن خلفهم دعاء ، ومن الرافعي تحليل لمثل حالهم، حيث اكتشف.
إن الأشياء الكثيرة لا تكثر في النفس المطمئنة. وبذلك تعيش النفس هادئة مستريحة كأن ليس في الدنيا إلا أشياؤها الميسرة، أما النفوس المضطربة بأطماعها وشهواتها فهي التي تبتلى بهموم الكثرة الخيالية. ومثلها في الهم مثل طفيلي مغفل، يحزن لأنه لا يأكل في بطنين)(1) .
…إن هذه القصص تنهض برهانا وافيا على خطا ما يعتقده البعض من أن أرضا ما هي مكان المال والشرف من دون أرض الله الواسعة، ولم يفطن هؤلاء إلى تبدل المعادلة ، لهبوط أسعار النفط، أو البورصات، أو الاحتيال على البنوك ،كما لم يعلموا خير تب من يسكن أرض الأموال ، وأنها معسكر عمل ضخم فحسب يستهلك العواطف ، ويمتص رطوبة القلوب حتى يتركها أليافا ذابلة ، حتى ليكاد المرء يذهل عن أصله ، وينسى الحنين إلى فصله..
…ثم هي برهان على وهم من يظن الغرب بديلا، حيث جيرانك النصارى ، وحيث لا تلتذ الأذن بأذان، ولا يتقن أولادك العربية ، وتخاف عليهم الانحراف.(8/4)
…أما أن بعض الدعاة سكن الغرب أو أرض الأموال فتلك توزيعات المقدر لا تمنعها ، إنما تعيب الحرص على سكانهما، والاستقتال في ذلك وجعلهما منتهى الأماني ، فوق أن من سكنهما بين مرتبط بعلاقات إسلامية نافعة ليس من مصلحة الدعوة إنفكاكه عنها، أو تشابكت حياته بقضايا قانونية واجتماعية ليس من السهل الإنسلال منها ، ثم هي مصدر تمويل خيري ، ومن التكلف المصطنع أن تفتعل نقل داعية مسترسل في حياته ووظيفته ورزقه بحجة قسوة المحيط ، ولكن نصيحة غير المتورط بعد: أمر آخر.
…وما نظن نصيحتنا هذه بدعة ، بل الوقاية من آثار المال النفسية هي سبيل قديم للمؤمنين ، وسنة من سننهم نحاول أن تحببها وكان الحسن البصري، رحمه الله ، يقسم ويقول:
…( والله لقد أدركت أقواما لو شاء أحدهم أن يأخذ هذا المال من حله: أخذه فيقال لهم : إلا تأتون نصيبكم من هذا المال فتأخذونه حلالاً ؟ فيقولون لا ، إنا نخشى أن يكون أخذه فساداً لقلوبنا) (2).
…وجعل ابن الجوزي ذلك رأس القواعد الإيمانية ، فقال:
القناعة بما يكفي ، وترك التشوف إلى الفضول : أصل الأصول).
ثم قال:
( والعز ألذ من كل لذه ، والخروج عن ريقه المنن ولو يسف التراب أفضل) (3) .
* أساتذة الزهد الجديد
…ومن المصطفين الذين رآهم الكيلاني يمشون إلى قدام: نفر من رهطنا نبلاء أمنا ، يكاد الأمير يخلي مكانه لهم لو لا الشروط ، وبهم نفخر.
…منهم داعية من بين جاه ومال ، ورباه الدلال ، وكان يحصل كل شهر على ألف دينار من الحلال، ثم هاجر ، وتشرد وافتقر،ووجد نفسه فجأة ولي أمر عدد من المهاجرين ، يرعاهم ويقتسم معهم رغيفه ويشرب من بعدهم وشلهم ، فيقلق حاله الضلاء ، فيشفعون له لدى رجال الأعمال، ثم يدعونه إلى رحيل حيث تنتظره وظيفة جيدة ، فيأبى ، ويختار المرابطة مع إخوانه، يربيهم، صابراً على الابتلاء ، والنجيبة معه محتسبه.(8/5)
…فكذلك الإيثار يكون ، وهو طريق الآخرة صفاء كله ، وإنما يذوق حلاوته حر مثل هذا جعل دنياه وراء ظهره.
…* ( سعي الأحرار في الدنيا يكون لإخوانهم لا لأنفسهم ).
…ولله در شهم آخر ، يخرج من الموصل، فيقطع جبالا ثلاثين، وقفارا سبعة، ونصف طريقة خطو على قدميه ، حتى يستقر مع المجاهدين في الميدان وراء كابل ، ويتزوج فيهم، ويلقنهم مبادئ ، الدعوة وفكرها ، ويرسل يطلب من إخوانه كتبا دعوية مع السلاح والذخيرة ، ليتقن تربية من معه ، وليكون الجهاد محروساً بوعي، وتبلغ مشاركته أن يغزو الروس داخل الحدود الحمراء ويقفل ظافراً.
…إن هذين الأستاذين في الزهد الشرعي يعلمان الدعاة أن الرهبانية المبتدعة إن كانت موتا ، فإن ما هم عليه من القناعة هي الحياة النابضة التي تعين على الحركة والجهاد، والإنكار على أهل النكر، وما كان إخلاء المسلمين إلى الأرض وذهاب عزهم وعز دولتهم إلا حيث توقفوا عن ضرب مثل هذه الأمثلة في العصامية والتجرد ، التي ميزها إقبال - رحمة الله - حين رأى أن:
…شتان بين خلوة راهبٍ
…………وشراع فقر في عباب يمخر
…لما أضاع المسلمون على المدى
…………ذا الفقر ، لما ضاع هذا الجوهر
…لم يبق فيهم من سليمان ولا
…………سلمان دولة عزة لا تقهر(4) .
…فزهد الداعية وهو شراعة الواسع المتين الذي يشق به بحار العمل والجهاد حقا، وترهق جامع المال حراسته ، فهو عن درب الهجرة قصي، وعن نسمات كابل أقصى.
…صور من تنافس النبلاء
…وكما يكون إبداع الشاعر معنى لم يسبق إليه ، أو اجتهاد الفقيه فتوى بتجاوز فيها التقليد ، يكون نبل النبلاء أحياناً بدعة في جيل متمرد على خصال الإحسان ، لا يتجاوز عن حق ، ولا يغض الطرف عن خطأ.
…* منهم شاب عراقي في أزهى سنوات شبابه، يتمرد على الأعراف، ويتجرد فيتزوج أرملة من شهدا الجهاد السوري ، وضم تحت جناحه أربع بنات لها، يربيهن ويحيي مذهب المروءة.(8/6)
* ومتورط بوجه فيها طبيعة ينكرها عرف الأحرار ، وآخر تعجل واستحبى فورطوه بامرأة لا تناسبه ، فيصبران ويستران.
* ورئيس جميعة في مؤتمرها السنوي، يركض بين يدي الضيوف ، يحمل متاعهم، ويوصلهم إلى غرفهم ، ويسألهم عن طلباتهم ، ويركض معه إخوان آخرون، حتى ينكهم التعب ،وينكهوا الشياطان بالتواضع، وتذكر وقفتهم بقصص رجل صالح: ينفق عشرات الملايين في وجوه الخير، لكنه ما زال في بيته القديم، وذا أتاه ضيف : نحى الخدم، وحمل الصينية فيها الطعام على رأسه ، إكراما للضيف.
* وداعية جهل عليه ، فكان أعقل ، وكظم وصفح.
فهؤلاء ، مظهر قدر الله تعالى في استمرار سند المكارم، ووقفاتهم برهان على نزعة الأصالة.
…* لكن بالمقابل .. نفر يجزعون..!
…ولو اطردت هذه المناقب لجميع السالكين لوصلوا منذ وقت بعيد ، ولكن شاء الله وحكم أن يكون مع الراكض قصير الخطوه ، ومع حديد النظر من يقرك عينه.
* منهم قوم يجزعون ، وليس يليق للدعاة أن تستولي عليهم الحساسية التي تتركهم في تبرم لو فحصت سببه لما ألقيت ثم غير صغار.
* فالجزع عند المعاتبة - مثلاً - ينحت نحتا ضاراً من قابلية استدراك الخطأ ومعالجة العيب، وكل داعية لا بد خطأ، ولا فر من طبيعته الإنسانية، وليس يصح لأحد أن يألم لكلمتين خفيفتين تقالان له، بل حتى ولا لثقبيلتين.(8/7)
* والحياة المعايشة اليوم يسودها تنافس شديد ، وكل مدير دائرة أو متمكن نزاع إلى بني جلدته ومعارفه يقدمهم ويدخر الفرص لهم، وخير لكل يتخرج أو يهاجر أن يطيل صبره وأن يدع التأفف، فإن الأرزاق مكتوبة، والوسطاء من إخوانه يأخذون بالأسباب ما أستطاعوا ، وليحسن بهم الظن، فإن لم ينل الوظيفة وزهدت الجامعات في طاقات فكرة فليس إلى المتخرجين والباحثين عن عمل أجمل من أن يتواضع ، وينزل إلى ميدان المهن وأعمال الخدمات المدنية ويأكل من عمل يده ، وليتحمل الشمس والبرد ، وله أن يفخر بقطرات عرق ترى على جبينه، أو رعشة في يده من إرهاق، فإن العمل شرف ، ومن التعسف أن يشترط لوظيفته أو مهنته أن تجلسه خلف مكتب وتحت مكيف هواء، وسيأتي الوقت الذي يدلف فيه إلى وظيفة مريحة أو تجارة رابحة).
* وهجرة من هارج إنما هي لله تعالى ، ولذلك لا يعيب المهاجر أن يفهم وضعه كما هو ، وأن يتكيف لحقائق الحياة الصعبة في دارة الهجرة ، ويعرف أنه محروم من كثير مما يتمتع به الناس ، بل مما يتمتع به بعض أصحابه المهاجرين وبخاصة في كماليات الحياة وزينتها، وليس له أن يرهق إخوانه بطلب جواز سفر مثلا للحج أو العمرة أو الاصطياف إذا كان أمنا في سرية ولا تشير السلطات في محل إقامته قضية الجواز ، وليتذكر خروجه يوم هجرته خائفا يترقب وليس بينه وبين الموت غير إصبع إذا الملأ يأتمرون به ليقتلوه ، فأمنه الله وتجاه وتربع في أرض المرابع.
* وأيما رجل منا شارك إخوانا له في تجارة فليعلم أنها تجارة كاسمها، فيها احتمال الخسارة وضياع المال، والتوفيق من الله تعالى، وليس كون ماله ( تحويشة العمر) بمعط له ميزة في رفع الصوت على أخيه الذي تولى الصفقة فوكس، ولا له حق التذمر الصاخب، وفي الشكوى الهادئة شيء من البأس كذلك وإن كانت أخف غلطاً.(8/8)
* وتركه لداعية وجد في أمر لة تقصا أن يجزع ، في صويحبات أصحابه ربما هن كذلك أيضا ولسن بصحابيات ، واقرب للمروءة أن يصبر ، بلا إذاعة للشكوى، وليعمل عملا صالحاً يدخله الجنة ، فهنالك الحور العين يتخير منهن ما يشاء.
*حتى في الأمر التعاوني نجد للجزع روادا ، فمنهم من يستسلم للهموم المعاشية أو العائلية ويترك العمل والمشاركة في وجوه النشاط ، ومن يضرب عن حضور اجتماع أجله المدير وأكثر من مرة، احتاجا على التأجيل ، ولا يدرك الضرورات أو المصالح التي تنهض عذرا ، وآخر له نفس صافية، يتولى قطاعا أو منطقة أو لجنة وتحت إمراته فضولي ملحاح ، فيقل تدخلاته ، وينزل عند إلحاحه، ضجرا فحسب، ولا يكون حازما ، أو آخر مثله، لكنه لا يصبر على أذى إخوانه له أو يكظم، بل يكيل لهم الصاع بصاعين، وتكون الدقة بدقتين لا يعرف التربية بطول الإنارة واستيعاب الجافي.
…إن مثل هذه الأحوال ،ومثل ذلك الانهيار أمام شدائد المعيشة، هي شواهد على أن حاجيات الناس في الحياة:
…( لا تتعقد بطبيعتها ، ولكن بطبائعهم فيها، ولا تستمر بقوتها، ولكن بإمداد قواهم لها ، ولا تغلب بصولتها ، ولكن يجزعهم منها ، ولا تعضل من ذات أنفسها ، ولكن من سوء أثرهم عليها ، وسوء نظرهم لأنفسهم ولها) (5) .
…وهؤلاء إخواننا يأخذون حرفية المجاز الذي في قول عمر - رضي الله عنه - وترتيب المسؤولية على نفسه لو عشرت بغله بأرض العراق، وينزلون ذلك تنزيل الحقيقة، ويحسبون أن كل تعثر بغلته اليوم بأرض بيشاور، أو جبال الأناضول ، أو أرصفة شيكاغو ، فإن الإمارة مسؤولة عنها مسؤولية تكليف قانوني تام بحق جازم ، وليست هي مسؤولية أخلاقية بحدود التكافل الأخوي الذي يحرص عليه الأمير ما استطاع ويحاسب عليه بالحسنى.(8/9)
…إن مصارحتنا هذه إنما هي محاولات لفهم أسرار النفس الإنسانية ، ومن باب طلب إتقان التعامل معها، وتبرأ من تعيير لأحد أو قصد سوء أو تشهير ، والمحرك لنا هو طلب الكمال والمراتب السامية، ونحن ندرك أن أضعف داعية هو أرقى مضاعفة في أخلاقه من أقوى السائبين.
* ولأسواق المرجوحات زبائنها .. !
…ومن الدعاة قوم يختارون ا لخطأ اختيارا ، ولا يجفلون منه إذا وهمهم ، ولا ينفضون أذيال أثوابهم ليبرأوا من العوالق.
* لا يليق لداعية لم يجرب التجارة من قبل بخالص ماله أن يغري الآخرين بالصفق بأموالهم ، فإنها تحتاج الخبرة واليقظة ، وإذا كتب الله الخسارة فسيكون أول ضحية وتخسره الدعوة وأن يقي شبحه معها، بما يكون من التلاوم وتكدر النف وأفكار الوساوس.
* وأعقد عقد الحياة: الزواج، لما فيه من رابطة دائمة تجعل الصبر عن عدم الرضا مشحونا بمضض، أو ما فيه من احتمال الطلاب وسوء السمعة التي تعقبه واللفظ والتجني على أحد الطفين، ولذلك يجب على كل منا أن لا يستسهل أمر التزويج والتوسط فيه ، ولا المبالغة في الحماسة للجمع بين اثنين وإنما يكون هذا الأمر وفق دارسة متأنية وتشاور سري لا ضجيج ، فيحرص على التكافؤ العائلي والثقافي والبيئي، ويسأل عن الطباع والعادات، وليست الصلاة وحدها والعفاف والحجاب دلائل الصلاح والتوافق ، ولرب بخيل يقلب حياة كريمة إلى جحيم، أو فوضوي ربيب بيئة عامية يحيل أيام معتدة على ذوقيات رفيعة إلى حرج متواصل ، أو لجوج تستفزه الصغائر يتكد على حرة ساعاتها ، وما ثم إلا مؤمن.
* ومتحمس لخدمة إخوانه، يزكيهم مهنيا لدى التجار وأصحاب الأعمال من المصلين ، ويرشحهم لأعمال تقتضي الإتقان والإجادة، وهو أول من يعلم ضعف خبرتهم واحتمال تضييعهم لمصالح من سيأتمنهم على مصنعه أو مقاولاته.(8/10)
* ومن له تفريض في أمر أولاده ، فلا يربيهم على النظافة والهدوء، وخفض الصوت واحترام الكبير والحياء من الضيف، ولا يعلمهم السلاح على إخوانه وجواب التحية، ولا تستفزه الألفاظ المعيبة التي ترد على لسانهم تقليدا لابن جار أو زميل مدرسة ، حتى لكانهم أولاد رجل عمي وليسو أولاد مؤمن ، وربما يتطيش أياديهم في صحو المائدة أذ هم ضيوف ولا ينهاهم ، أو يخربون الأثاث فيبتسم ويقولك هو حرك ما شاء الله ، ولو أراد التأديب لوقف له ، ولكن تليفت عنده بؤرة الذوقيات، أو عند زوجته التي وكلها إذا هو في مصالح الإسلام والمسلمين منشغل.
* وعلى عكسه صاحب جد لا يعرف حال من يريد أن يخرج أبنائه ملتزمين طريق الموازنة، فيخرج إلى إفراط ويشدد على أولاده الصغار في العبادات والاستيقاظ للفجر وقراءة القرآن، وربما جعل الضرب عادة ، ويلزم بالحجاب وما زلن صغيرات ، فيؤسس كراهية الصلاة والحجاب لدى ذريته ، ويكون التمرد عند المراهقة ، ويحسب أنه قد أحسن صنعا.
* والله ستار يحب أذن السامع تغري لسان الفاضح ، ويحب من عبادة إن إذا أطلع أحد منهم على سر أخيه وعيبه وهفوته أن يستره ويغطيه، ويتأكد هذا الخلق بين الدعاة لأنهم هم الذين يلقنون المروءة للناس وإلى دارهم أرزت بقية النبل الذي يتوالى إنقراضه في المجتمع. وليعلم الداعية أن الشيطان قد أوهم أخاه فزل، ليس يتعمد ، وتقوم سوايقه الفاضلة شوافع له، فليشفعها ، إذ ليس شوقه لنشر خبر العشرات والتلذة بالإيماء لها في حديثة أقل شذوذا منها عن خلق الكرام ، ولو أن هاتك ، الأسرار حيث ينثرها من جعبته أمامنا يقابل منا بصدود وإعراض عنه لثاب وتاب، ولكن أذن السامع تغري لسان الفاضح أحيانا.(8/11)
* وكل أمري فقيه نفسه، والمفروض أن لا يأذن لطموحه في أن يلغي معرفته ما هم لها أهل استعداد وإن كانوا أذكياء ، ويورطون معهم عيالهم، ويتأخرون ماهم لها أهل استعداد وإن كانوا أذكياء ، ويورطون معهم عيالهم، ويتأخرون عن الأعمال الإسلامية الكبيرة دهرا بسبب ذلك ، ولو أرادوا معرفة الإيجاب والسلب في خطواتهم لا تبغي لهم ذلك قبل الخطو . لكن الفرصة دهمتهم فأنستهم الحساب ، وهيهات الجبر، إذ تشعر النفس عند وجوب التراجع بمعنى الهزيمة ، فتكون المغالبة ، والمعاندة ، وتكون الدائرة المفرغة وتضيع ساعات عمر شبوبيته وطاقات عنفوان عقله بين حتى الظهر على المراجع وانتظار أستاذه المشرف.
* ونعم العنوان للداعية التجارة، والرزق عين تتفجر تحت أقدام رجال بلسبيات الوظائف الحكومية، ما لم تكن وظيفة لها أثر تربوي دون التقيد بسلبيات الوظائف الحكومية، ما لم تكن وظيفة لها أثر تربوي أو سياسي أو إصلاحي ، وقد وعى الإمام لك في وقت مبكر، رحمه الله ، ولكن الداعية مدعو إلى الرفق في الإيغال في هذا الدرب، ولا لا ينسى نفسه فيغرق ويتلف أوقاته بين كتبه والتلفون والتلكس وإعلانات الصحف والسوق والبنوك والمعارض التجاربة إلى الدرجة التي تضعف مشاركته الإسلامية واجتماعاته ومطالعاته وعلاقته الاجتماعية ، فإن أصل توجة أن يتخذ من المال وسيلة ، ولطالما ذكر لأصحابه أنه قد نوى هبة بعض أرباحه للدعو'، لكنه يغفل فبلهبه التكاثر، ولو أنه أنصف نفسه لا تعظ بقصص من غفل قبله من جيرانه في السوق قبل أن يتعظ بحروف الزهاد، لكنه يفتأ - رحمه الله يزداد - وماذا عليه لو جعل له وكيلا يذهب ويرتاد ، ولا يكلفه شيئا غير راتب يسير أو نسبة أو سرقة قليلة في أقصى الأحوال يمكن له أن يتحملها وغض النظر عنها طالما أن هذا الوكيل يجمع له بين دينه ودنياه!! وعلى الوكيل وزر السرقة وله أصل رأس المال ، ومعظم الربح والنشاط الإسلامي الفعال ، خوالص صوافي كزلال!!(8/12)
* ووصى - النبي صلى الله عليه وسلم - نفرا من أصحابه أن إذا سقط سوط أحدهم وهو على فرسه أن ينزل ليلتقطة ولا يكلف راجلا بالتقاطه له ، وهي عزيمة لا تبلغها ولا نكلف أنفسنا أو أحدا بمثلها ، ولكن ترخصنا لا ينبغي له أن يتوسع حتى نستعمل حقوق الأخوة في غير محلها ، فنثقل على إخوان لنا من أهل الحمية والنجدة وحب خدمة الكبار والأقران فنجعلهم ضحية مروءتهم وتتلف أوقاتهم بين التسوق لإخوانهم والإشراف على بنيانهم وإنجاز العاملات الحكومية لهم ، إن الإنصاف خير ، ولا هلهم حقوق ولأنفسهم مصالح ، وللدعوة تكاليف ، ومن العدل أن تعطيهم فرصة تنفس، ولعضلاتهم ساعة راحة.
* وطريقة فيها بأس أن يتم استنفار عدد من الوسطاء للسعي في الشفاعة في قضية ما حرصاً على زخم التأثير من دون أن يقال لكم منهم أن غيره قد كلف بذلك أيضاً، ويأبي الزوق ذلك، وقد يتوافد الوسطاء على صاحب القرار في ساعة واحدة فيتكلمون بكلام واحد من دون أن يشعروا فيتولد إحباط وإرباك ، وليس لملهوف أن يحرج أصحابه وأشراف الناس في سبيل مصلحته.
وهمام يتصل برجال رؤساء وأعيان من وزراء ، ومدراء وتجار ، ثم يرى من خلال صحبتهم استفادة الناس منهم ومن كرمهم ، فيغفل لحظة عن معني العزيمة، فيطلب مثل الذي يطلب الناس ، فيصغر في أعينهم بعد إذا كان كبيرا ، وتنهار صلته وإن بي شبحها ورسمها.(8/13)
* وقضايا الإسلام أوفر جدا وأثقل هموما من أن تدع عصبة من الدعاة تطيل الضحك ، وتستجيز المزاح وتتخذ لها من صاحب خير فيها محور تندر وتروي قصصه وغرائبه ، والابتسامة علامة المؤمن ولسنا ننكرها، والنكتة في ساعتها سائغه ، والأربحية أصل في سلوكنا ، والألفة ، والبشاشة ، ليس العبوسة ، والقهقهة الأولى لك ، والثانية نهبها لك ايضأ، فإن كرماء، ولكن الثالثة عليك ، وتشفع حسناتك لها عندنا ، وأما الرابعة فيلزمها حد لا شفاعة فيه ، وشعار: الضحك للضحك، باطل ، والهزل الهزيل مرفوض في أوساط العمل الإسلامي ، وإنما الداعية مفوض بالجد والتجديد.
* ووقاف عند صغائر إخوائه، يدقق فيها ، ويحصي ويعاتب ويستشهد ، حتى يضجر المعامل له، وكأنه شرطي ، إذ الأمر أهون ويجري مجرى المروءة والتجاوز ومراعاة الحقائق البشرية وإطراح المقاييس الملائكية .
* وشجاع على النقيض من هذا، إسناد في المرءة ، وقد ذابت نفسه في معاني الأخوة ، ويكاد يتلف بدنه في خدمه إخوانه، حتى ليركب المخاطر في ذلك ، ويرحل بعيدا لتحقيق مصالحهم، وله لذه مع كل خطوة في سبيل الله، لكنه فوضوي في ذلك لا ينضبط، ولا ينصت لإشارة أمير أو خبير ، ولا يعرف الأولويات ، ولا مقادير استحقاق أهل الحاجات ، ولا الكتمان، ولا الآثار التربوية لطريقة سعيه ، وقد يفسد أخاه بتعويده الإتكالية إذ هو يريد له الإحسان.
* حيث تكون النظرية الجماعية مشجبا لتعليق الأهواء(8/14)
…وشعار الدعوة: أن الطاعة بالمعروف ، وأنها باب من العبادة وطلب الأجر، وما هي بتبعية ولا إلغاء لأدوار أهل الفضل من الدعاة، ولذلك فإنه ليس من الأخلاق الدعوية ولا من منهجية التربية القيادية أن تبالغ في الطاعة إلى الحد الذي تعطل فيه تفكيرنا ثقة بتفكير الرائد ، ونشيد بوعيه الفريد وعلمه المزيد ، حتى لكانة المعصوم ووارث الخاتم السحري، أو تقول: لو لم يكن قوله صوابا لما قاله، أو نقول: من ا لمستبعد أن يفوته رأي . بل من فقه الدعوة أن نحاور بالحسنى، وأن نعتقد عجزه عن العصمة، وأن نعرض ما عندنا من رأي بأدب، ثم تكون بعد ذلك طاعتنا الواعية المعتمدة على القرار الشوري.
…وهذا القدر من الفهم الدعوي الصحيح لحدود الطاعة ومعنى الإمارة أصبح من العلم الشائع الذي لا يجهله الدعاة ، ولكن تجاهله يكون حيث يستقر في القلب شيء يحمل صاحبه على التماس تمير معنى من المعاني وإنفاذه ، فيتوسل لذلك بوسيلة المبالغة هذه ، يظن أنها ثمن وأجب لتوفير غطاء لإشاعة ما يذهب إليه، وهيهات ، إذا كان مقلدا في الوقت الذي يريد له قائدة الاجتهاد ، والأمير التقي يحزن إذا رأي سيطرة البداوة الإمعية العاتية اللاغبة لآثار المناهج التربوية ، ويبرأ من ذلك ، وكل أمير يفهم أن المقلد أعجز من أن يشارك في استئناف النهضة الحضارية الإسلامية، وأن أقدار المقلدين المفوضين لن تعدو تأسيس مشيخه صحراوية ، وفي أحسن نتائج التأول لهم أنهم في مثل حالة هيام الصوفية بشيخهم حين ينسبون له الكرامات.(8/15)
* ومن البدائل في إنقاذ المعاني: أن يقوم صاحبها باستنطاق أقرانه وأخذ رأيهم فيها، لإضفاء صفة شبه جماعية عليها إذا وافقوه ، فإن وجد سكوتا أو مغيارة: كان منه إلحاح ربما يضجر منه المقابل فيوافقه للتخلص من حصار الإلحاح. ومن ثم غيره الإكراه أو شبهه . فإذا كان نطقهم: نسب الرأي لهم وعزاه ، والسوي بريا بنفسه عن هذا الإختبار، ويبارز وجاها، فإنها أخلاق الفروسية وطباع الفرسان حيث يثبتون في مواقعهم في قلب المعارك ، ولكن قد ترى في أقاصي ساحتها من يحمل على حمار إعراج، ربما، ولكل مسلم حظه رزقه من الفكر والمنطق والوضوح ، أو ترى أخر يعرق الحقيقة الفيزياوية في وجود فراغ المندفع المسرع تتضاءل فيه مقاومة الهواء، فيرتضي لنفسه أن يحتل ذاك الفراغ ، لضعف طاقته ، وليعينه التيار المنتقل إلى فراغ الإندافع، فيظل راضيا بالمنزلة الخلقية ، والجهات التبعية.
* وداعية صالح من الذاكرين ، رقت نفسه وصفت ملأته عاطفة، ونقلته إلى حالة من الرحمة والشفقة على جميع إخوانه ، بحيث أصبح لا يستسيغ أن نعظ المخطئ ، بلسان صارم، ولا يرى جواز توجيه عقوبة لمسئ ، ويفهم حل كل الأمور على مبدأ : تصافحا تعانقا ، غير ناظر إلى عواقب الفتن، وضرورة الحزم ن وقبح خلع الطاعة ، وعدم تساوي منزلتي الكفين، ولو جرت الأمور على قياسه لكنا في زفة عرس لا موكب دعوة تريد أن تهدم الطواغيت.
* وعلى عكسه صالح آخر، إداري في تعامله مع إخوانه، وليس في قاموسه لفظ العاطفة ، يابس ناشف ، يدير قطاعه بأعراف الشركات، فهو ثابت عند قناعته لا يتزحزح، مطرق لا يبتسم ، حرفي لا يتأول، نصي لا يجتهد ، لا يقبل عذرا، ولا استثناء ، ولا وصفا مقاربا، أو حلا بديلا، وإنما ديدنه الجداول والاصطلاحات والإلزامات والنسبة المئوية، بل الألفية.(8/16)
* وأخر لا يعجبه العجب، ولا يرضي عن صحبه ، إذ هم في هجرة أو وضع صعب ، وفي تقسيم نعرف نقصانه عن الحدود النموذجية بتأثير الضرورات، وصاحبنا يقيس بموازين أيام العافية والاستقرار ، ويشتهي على رسله، وينتمي مربيا رفع الصفات ، وأصحابا أشكالا ، وهيهات ، ولو قنع بالقسمة وعاون لكن خيرا وأبرد لقلبه ، ولو وزر لمربيه لتكامل الأمر واستقر.
* أنماط دون مستوى الاستنباط
ومن إخواننا أصحاب أنماط نفسية فيها غرابة ، بعضهم يحوم حول أهداف صغيرة مفضولة ، لهم ببلوغها شبع ، وبعضهم يعجز عن استخراج فوائد قريبه منه ، وبعضهم يسلك مضايق جانبية تؤخره إذ القافلة مسرعة في طريقها الواسع المستقيم.
* منهم المتردد ، الذي لا يعزم عزمه واحدة على فعل شيء ، ويتأخر في اتخاذ قرار في شأنه الحياتي المعاشي ، فيتلف أوقاته بكثرة التفكير، ويبدد أوقات إخوانه بتكرار والاستشارة ، فلا هو بالمقتحم الفاعل، ولا هو بالتارك الناسي، وله مع كل مجالسة لإخوانه بحث لما هو مقبل عليه ، كأنه يريد منهم أن يتحملوا مسؤولية قراره.
* وداعية يعلن حرصه على نيل العلم وأن تروي له التجارب ، ونرى في ذكائه قريبه على صدقه ، فتمكنه ، فيلبث طول المدة صامتاً، يسمع الدرس ولا يتكلم ونود أن نعرف مدى استيعابه فلا نستطيع ، ونحن أن نعلم رأيه فيما يقال إن كان مؤيدا أو معارضا فتعجز ، ونحاول تحريكه بسؤال نطرحه عليه، فجيبب بحروف قليلة.
* ومع ذلك فهو أحسن من أخر يبالغ في كل كلامه ، فيتحدث عن وجود ظاهرة يدعي أنها أقر أن كون من علامات الساعة: فتفحص الأمر فنجدها حادثة فردية، ويؤذن في الساحات أنه هو النذير العريان فتفزع، ثم تكتشف أن ليس ثم غير وهم بلا برهان ، ووسوسة أشبه بالعدوان.(8/17)
* وآخر يكثر النقد ، ولا يكاد يرضية شيء وينظر إلى الركب السائر نظرة تضعيف، لما يرى من نقصان الأصحاب عن بلوغ أوصاف النموذج العالي، وكأنه لا يدرك مغاذي لغه الرمز والمجاز والوعظ والحث، وينزل حروفها منزلة متون القانون وحرفية الدلالة.
* وقريب منه: الكثير التشكي ، المتأفف، الضجر، الذي يدعي مع كل شمس تطلع على العباد تبشرهم بزرق واستئناف عمل أنه غير محظوظ ولا موفق، وأن الرياح عكست شراعه، وأنه ممتحن بمحن، ومريض بأمراض، وقد يكون ذلك صحيحا ، إما لذنوب يرتبكها هو أعرف بها، تليق لها التوبه، ليتوسع رزقه وأمره، أو لتمحيض يليق له الصبر لا التوجع.
* وأخر أعطل، لا تهمه الموعظة التي في مثل هذه المصارحات ، بقدر ما يهمه أن يعرف من هو المقصود بكل ملاحظة ، ولربما استدرج إخوانا له غلى شبه مؤتمر ليعينوه في التعرف على الهماس والحساس والمتردد والصامت، وهذا انحراف بمقصد الرسائل ، واهتمام هابط.
* الفكر والأخلاق .... والذوق الحسن
…وكل هذه الملاحظات إنما وردت في محاولة التوصل إلى الصياغة النفسية السوية للداعية ، أو لضبط السلوك الإداري والتربوي، وهي أمور تضاف إلى ما يوجبه الشرع من التزام أحكام الحلال والحرام، وإلى ما تفرضه الأخلاق الإيمانية الأساسية.
…ولكن قصة صياغة الشخصية الدعوية لا تنتهي عند مثل هذه الحدود، وإنما تلزمها أيضا أداب يمليها الذوق الرفيع الحسن لا بد منها لتجميل مشاركة الداعية في حياة الناس اليومية وللارتفاع بمستوى تعامله الا جتماعي، ولا بد أن يتميز بأفعاله وعاداته وكلامه وحركاته ومخالطاته عن أعراف العامة وما يعكرها من خشونه وسماجة وعنف وهدر لمقاييس الجمال. وهذا الحاسة الذوقية ميراث نرثه عن النبي صلى الله عليه وسلم .. وعن أئمة الدين رحمهم الله .(8/18)
…( فقبيح بالعاقل إهمال نفسه ، وقد نبه الشرع على الكل بالبعض، فأمر بقص الأظفار... ونهى عن أكل الثوم والبصل النئ لأجل الرائحة، وينبغي له أن يقبس على ذلك ويطلب غاية النظافة ونهاية الزينة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يعرف مجيؤه بريح الطيب، فكأن الغاية في النظافة والنزاهة) (6) .
وقال الشافعي لابنه وهو يعظه:
…( يا بني : والله لو عملت أن الماء البارد من مروءتي ما شربت إلا حاراً ). (7) .
…وتجب على الداعية المسلم في هذا السياق سلسلة طويلة من الذوقيات ينبغي أن يضعها في حسابه ، وأن يكون بالغ الحساسية إذ هو يتصرف ويخالط ويشافه ويأكل ويشرب ويزور ويستعمل الآلات ، فيحرص على أن يظهر الرقة والنظام والنظافة والحفاظ على حقوق الآخرين.
* ففي نظافة البدن والملبس: نحب للدعاية ، أن يكون كثير الاغتسال وخاصة أيام الحر حيث يعرق البدن، بحيث لانشم منه رائحه العرق ولا من قميصه ولا من جوربه حين ينزع حذاء من المساجد والمجالس.
* وأن ينظف أسنانه بالسواك أو الفرشاة أو بهما معا عدة مرات في اليوم ، وخاصة عند التوجه إلى المسجد إلى النوم، وأن يقص شعره عند الحلاق ولا يتركه ليكون جمه، وأن يحجر أسفل كعب قدمه كل أسبوع.
* وفي مجالسة الآخرين والحضور الاجتماعي: نكره الداعية أن يقص أظافره في مجلس، أو يضع رجلا على رجل أمام من هو أكبر منه سنا أو مقاماً ، إلا أن يكون بين أقران، وهذا العادة ما زالت تعتبر عند الأتراك أشبه بالكبائر ،ولو فعلها داعية لترك مجلسه الناس ، وأنكر من ذلك أن يرفع قدمه ويضعها على ركبته الأخرى بحيث تكون أفقيه ويتوجه أسفل كعب حذائه إلى وجه أحد الجلساء.(8/19)
…وفرقعة الأصابع أو عظام الرقبة في المساجد والمجالس قبيحة، وكذا كثرة التنخم والنحنحة ، أو التمخط بصوت عال، ولو استطاع أن يقوم ليتمخط في بيت الخلاء ، أو الحمام لكان أجمل ، وليكن المنديل معه دائماً ، ومناديل الورق، وليكتم التجشؤ قدر استطاعته ، فإن تساهله فيه إنما هو من العيب الشديد.
* وفي آداب الضيافة والأكل وإعداد الطعام، نكره للداعية أن يفرش قطعة من المشمع أو النايلون ليضع عليها الطعام والخبز ثم يدوسها بقدمه، فإن باطن القدم لا يخلو من جراثيم، وقد يلامس الطعام موطن القدم. ونكره أن يصنع لضيفه طعاما بالثوم، خاصة إذ كان الضيف زائراً من بلده أخرى، فإن الآخرين سيعانقونه ربما عند التحية، فيكون في حرج ، ومن الخطأ الظن بأن أكل شيء بعد الثوم يذهب برائحته ، لأن الرائحة لا تنبعث من المعدة بل من خلال تصفية الدم في الرئة أثناء التنفس ، وتظل تسع ساعات بعد الأكل.
…ونكره أن يقدم للضيف لحما غريبا ولا يخبره ، كالأرنب ، أو يقصر مائدته على نوع واحد فقط غير مألوف في ديار الضيف.
…وليحذر الداعية أن يشفط الحساء أو غيره بصوت عال، فإنه عيب ، أو أن يصدر صوتاً من شفتيه بعد بلغ اللقمة ، أو أن يبالغ في مص أصابعه.
…ونكره للداعية زيادة إكرام الضيف يتنويع الطعان، حتى يتعب زوجه في خدمة الضيوف، ويصطادهم ويلح عليهم بأدني في مناسبة ، والمسكينة هي الضحية، وقد تكون مرضعا ، والتكلف للضيف قد يجعله محرجا ولا يكرر الزيارة ويلح في الاعتذار إذا دعي مرة أخرى، ولو جرت الأمور على البساطة لكأنت خيراً . ومن التكلف أيضا : جعل العشاء المتخلل للاجتماعات عشاء تاماً ، فإنه يرهق ويتلف الوقت، والإكتفاء بالطعام الخفيف أولى وأبرك.(8/20)
…وإذا كان الداعية فليأكل أكله الاعتيادي الذي يأكله في بيته أو أكثر ، لتطيب نفس من دعاه ، ومن العيب أن يأكل بضع لقيمات فقط، حياء أو لسبب آخر، فإن ذلك يؤذي الكريم، ويؤذي نساء البيت اللواتي أعددن الطعام، وسرورهن يكون بمقدار أكل الضيف.
* وفي الزيارة: نكره للداعية صاح الأولاد الكثيرين زيارة بيوت خواتنه والبيات بعائلته عندهم الليالي ذوات العدد إلا لضرورة ، وقد تتحول المودة التي قصد تأسيسها إلى خصام بين النساء تبعا لخصام الأولاد ، ونكره للداعية أن ياتي إلى لفاء ومعه امرأته وأولاده ، فيكون لبثهم في بيت أخيه إلى منتصف الليل ، وإنما الزيارة ساعة ، ولا يزر وقت القليلولة والراحة، ولا أول الصباح وعند منتصف الليل ، وليستأذن بالهاتف ما استطاع ما لم تمنع الظروف من ذلك.
…وليكن طرق الباب يرفق ، ولمسه الجرس قصيرة ، ليست متصلة مجفلة ويكون الوقوف يعد الطرق جانبا لا أمام الباب، إذ فتحته امرأة، أو وقع النظر إلى الداخل.
…ومن الظلم أن يستهين زائر بأوقات الناس فيتأخر كثيراً عن الموعد ولا بأبه ، وأظلم منه من يتشبه بالغريبين فيحاسب على تأخر دقائق قليلة.
…وبيوت الدعاة مساجد ، ولذلك نكره أن يدخل الزائر بحذائه إلى الغرف، بل يخلعه عند الباب وليعلم امرأته أولاده ذلك أيضا.
* وفي السلام والتحية : نكره أن يصافح بيد مرتخيه ، ولا بد مضاعفة حديدية ، والسلام الجاف بكلمة واحدة بدعه وجفاء ، وأشد ابتداعا منه تكرار السلام حتى يضجر المقابل، ونكره القبلة بين الرجال ، مع أنها عرف قوي، ونتمنى أن يسود عرف بديل عنها فيه مجرد التعانق أو الاكتفاء ، بوضع اليد اليسرى على كتف المقابل كما يفعل أهل السودان.
…ونكره أن يقبل الداعية يد أميره أو العالم : إلا أن يكونا من كبار السن وليس في رأسهما شعرة سوداء .. !(8/21)
* وفي الخطبة والترويج : نكره أن يأخذ الداعية بظاهرة الحديث : ( إذ جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ) ، فيتزوج بنته أو أخته ممن لا يناسبها ثقافة أو ذوقا وطباعا أو سنا ، والحياة المدنية الحاضرة معقدة، وتأثيراتها نافذة، ولا بد من مراعاة الإنسجام وعوامل المكافأة ، إلا أن تكون أرملة أو مطلقة يصعب تزويجها.
…ومن المروءة أن يخبر أحدنا بعين بنته أو أخته أو ابنة ، ثم يكون المقابل بالخيار ، وكذلك العيب الذي في العائلة مما يمكن أن يورث ، كالجنون أو أمراض الدم المستعصية.
…ومن الظلم أن يسرع الخاطب إلى إعلان خطبته لفلانه قبل أن يراها ، ثم يراها ولا تعجبه فينسحب ، ولتكن التمهيدات سرية.
…وليس من المرءة أن يستشير الخاطب ، فيخبرونه بشيء من طباع المخطوبة من ذلك أن يجعل ما أؤتمن عليه من سر العائلة أو حال البنت خيرا مشاعاً يبثه ويقول : رفضت لكذا ، ووجدتها قبيحه ، وأمثال ذلك.
ومن المعدل أن من فشل زواجه وطلق وأراد ثانية: أن يخبرها وأهلها بما سلف منه، فإنه أبرك وأبعد عن التلاوم..
ونكره للداعية أن يكون حجاب أهل بيته على نمط غريب ، كأنه التاج فوق الرأس بما فيه من تطرير وتقنن ، فإنه يثير الفضول ويجلب النظر ويؤدي إلى عكس مقصد الحجاب.
وليس من المروءة أن يكثر الداعية تهديد زوجة بالزواج من أخرى ، ولا المزاح معها بحديث مثل هذا، فإنه ثقيل عندها، وإذا كرهها فليصبر أو يطلق ، ولا يشعرها بأنه يكرهها، وليتجنب الألفاظ القاسية في الرد عليها .
وليس من المروءة أن يستسهل الداعية أغاظة زوجه لأسباب تافهة وهي صاحبته وخادمة ضيوفه دهرا ، ونحب له أن يحترمها ويحسن إليها ويقول لها حسنا..
ونره أن يغفر الداعلية في أسماء أولاده بحيث تكون ثقيلة المعنى والجرس ، لا لشيء إلا ليكون الاسم لا ثاني له.(8/22)
* وفي استعمال السيارة: نلتزم نحن دعاة الإسلام بقواعد المرور ، فإنها من الطاعة الشرعية لأولي الأمر ولو لم يحكموا بالإسلام ، ونحب أن تكون سيارة الداعية نظيفة مثل داره وثويه.
ولا يليق أن تقف أمام بيت صاحبك وتنادي عليه بمزمار السيارة في وقت ظهيرة أو نصف ليل، لئلا تزعج جيرانه ، وإنما ذلك فعل الشباب الطائش.
…وإذا سقت سيارتك في طريق ترابي وقاربت أحا يمشي فاخفض السرعة إلى أدنى ما تستطيع ، لئلا تؤذيه بالغبار ، ولربما يكون قد لبس قميصه لتوه، وهذا من أبشع الظلم واللا أبالية التي يقلد فيها بعض الدعاة عامة الناس.
…وإذا سبقك سائق يجهل منه وأخذ دورك في المرور أو في احتلال موقف فلا تسابقه ، بل أصبر وكن أرفع منه.
…ولا تحرص على إيقاف سيارتك في ظل بيتك أو بيت جارك بحيث تمنع مرور السابلة قرب الحائط ، فترتضي لسيارتك الظل، وللناس الحر.
…وقم في السيارة الحافلة للمرأة وأعطها مكانك ، ولو كانت سافرة ، ولا تزاحم عند الركون ، ولا تضايق قارئ الجريدة الجالس إلى جنبك بالنظر في جريدته.
* وفي استعمال الهاتف : لا تظل الكلام ولا ترفع صوتك تظن أن المكالمة يقتضيها ذلك، ما لم يكن الجهاز رديئا، ودع صاحبك ينام إذا انتصف الليل أو قارب ، لا تزعه بمكالمة ، ولا بعد الفجر.
…ونربا فأنفسنا أن نستعمل هاتفا عاما تشغله النوقد بإدخال سلك مثلا بدلا منها ، فإن ذلك من سماجة العامة .
…وأذكر أسمك لمن تكلمه أن لم يعرفك ، لا تتشبه بمن يطلب من المجيب أن يعرف من هو .
وإذا اتصلت ببيت أخ لك ولم تجده وأردت إخبار أهله باسمك فلا تذكر كنيتك فقط إذا شاركك أخرون بها ، فيلتبس الأمر عليه .
…ونكره إذا نمت للقيلولة أو في الليل أن ترفع سماعة الهاتف لساعات عديدة، تريد أن لا يتصل بك أحد ، إذ ربما كان الأمر جادا ومهما ، وخير من ذلك أن لا تفتعل الحياء.. وأن ترجو إخوانك أن لا يتصلوا بك في وقت الراحة.(8/23)
* وفي المساجد : نكره للداعية أن يصحب الصغار جدا من أولاده، وأن يلبس قميصا قصيراً يكشف عن أسفل ظهره إذا ركع.
…وإذا خرجت من الصلاة بيدك نعلك فلا ترمه على الأرض وأنت واقف، لأنه سيحدث ضوضاء، ويثير وسخا في وجه من أنحني للبس حذائه، ولكن اقترب بيدك من الأرض بالإنحناء ، وضعه برفق.
* وفي المشي والتنقل: نكره أن لا يدخل الماشي جميع قدمه في النعال، فتصفق بالأرض من كل خطوة ، أو أن يضيف قطع حديد إلى أسفل الحذاء كما يفعل الفقراء الذين يمنعون سرعة استهلاكه بذلك، فإن الحديد يصدر صوتا مزعجا ، وبخاصة في الممرات الطويلة في أبنية المستشفيات والجامعات والدوائر.
…وإذا سرت عند جدار وقاربت نهايته عند زاوية يتعطف فيها الطريق فابتعد عن الجدار، إذ ربما فاجأتك عند الانعطاف امرأة ، بل أي سائر ، وقد يكون ما تكره ، من وسخ أو غيره.
…والدعاة أجل من أن يبصقوا في الشارع ، إلا في ناحية فيها تراب عند الضرورة واستعمال المناديل واجب ، ولا نلقي زجاجة فارغة في الشارع أو عليه أو منديلا مستعملا.
…ونعبر من عند الأماكن المخططة ما استطعنا..
…ولا نضغط أزرار جميع مصاعد العمارة استعجالا ، فإن ذلك يؤدي المستعلمين الآخرين ، بل لنا صبر وتؤده.
…ولا تشارك أمرأة في مصعد عمارة سكنية وبخاصة من نساء الجيران، فإنها تستحي.
* وفي اللغة والتعبير وعموم الكلام ، لسنا نكثر أن نقول : يعني ، يعني . أو نقول: ها ، ها . بل نجزم ونعود ألستنا الاسترسال والطلاقة.
…ولسنا مثل رجال يقلدون نساءهم فيقولون: بيت أم فلان ،بل نقول بين أبي فلان.
…وليتكلم أحدنا أمام أبناء غير بلده بالفصحى، ليفهموه ، لا بلغاتنا الامية .. ونكره أن يأتي المتكلم باصطلاحات أجنبية ضمن كلامه لغير ما ضرورة أو توضيح زايد ، فإن العربية جزء من شخصية المسلم.
…ونكره أن يحرص الرجل على لقب عائلته إذا كان قبيحا.(8/24)
…ولنحذر أن نستعمل في كلماتنا لفظه لا ريب فيها في بلدنا، وهي في بلاد أخرى شتيمة أو عيب أو تدل على قلة احترام، كقول السوري للمخاطب، ولك أو : لك وهي عند العراقي وغيره أقرب إلى الشتم الذي يلزمه الحد.
…وقوم من الدعاة أخطاؤهم النحوية لا تغتفر، ولا يعرف حتى رفع الفاعل أو المبتدأ ، وفي مقدورهم أن يتعلموا ويخففوا لحن لسانهم ، لكنهم لا يفعلون وهذا من أقبح الكسل.
…ولا يجري على شفاهنا لفظ مكروه مستقيح أو تشبيه قبه لمزء وتبتعد عن تعابير العامة، والبعض يظن أن ورود هذه الألفاظ في الأمثال الدارجة التي يستعملها الناس يرفع عنها الكراهة ، وليس كذلك الأمر ، أمثالنا عفيفه أيضا مثل سائر كلامنا.
…وإذا شرحت واقعة فلا تنطب في ذكر التفاصيل التي لا تقع فيها ، فإن روح المقابل قد تزهق قبل وصولك إلى روابة جوهر المسألة.
…وتجنب كثرة التعليق على الحوادث اليومية الصغيرة التي تراها ويراها أهل مجلسك ، مما يحدث في الدوائر الحكومية والمقاهي والأسواق ، كشجار بين موظف ومراجع ، واختلاف رواد المسجد مع المؤذن في دخول الوقت، وأمال ذلك ، فإن التعليق على هذه الحوادث شغل الفارغين ، وعليك ا، تمر بهذه المناظر مرورا سريعا حتى كأن عينك لم تر، وأذنك لم تسمع ، وأشغل أهل مجلسك بعلم نافع وكلام مفيد.
* وفي المعطم والسوق : نحب للداعية أن يمنح شيئا من المال لفتيان المطعم والمقهى إذا انتهى وأراد القيام ، وأن يجزل أجرة الحمال والسائق.
…ونحب أن لا يكون الداعية ملحاحا في مساومة الباعة، ولا أن يضع نفسه في زحمة العامة من الناس إذا تقاتلوا في البلاد الفقيرة على طعام يباع بتخفيض، وليصبر ، وليحمل أولاده على القناعة بأكل الميسور ، فإنه أحفظ لمكانة الداعية.(8/25)
* وفي استعمال الكتب : لا تضع خطوطا تحت الجمل المهمة إذا كان الكتاب ليس لك، ولا تجعله بين يدي أولادك ليمزقوا غلافه ويشوهوا صفحاته، وأرجع ما استعرت في وقت مناسب، فإنها حسرة دائمة يتحدث بها أصحاب المكتبات الشخصية الجيدة: أن إخوانهم أضاعوا كتابا نادرا لهم ، أو أتلفوا بعض أجزاء الكتاب متعدد الأجزاء.
* وفي سلوكنا في بلاد الغرب: نكره أن يتوضأ المسلم في بريطانيا مثلا فيغسل رجله في مغسله مكان عام، كمستشفى أو قسم داخل ، لأنهم يحبسون الماء بها ويغسلون وجوههم ، ويستقذرون أن تغسل القدم بها.
… ونكره لمن شارك في مؤتمر إسلامي في أوربا وأمريكا أن يحضر المحاضرات ويتجول بالملابس العربية والطاقية أو عصاية الرأس ، فإنها في عرف أهل تلك البلاد ملابس نوم، ولكن ليلبس البدلة مثلا ، ليلبس الملابس العربية الرسمية أي بعباءة وعقال أو بعمامة.
…ونرى أن تأشيرة الدخول إلى بلاد النصارى تعني عقد أمان يوجب على المسلم الزائر لها احترام قوانينها، وبها تكون أموالهم عليه حراما، ويجب يصون ولا يؤذي الممتلكات العامة ، من محطات ووسائل نقل وهواتف وحدائق ، وأن يعاملهم بالصدق والحسنى ، ويعامل موظفيهم وشرطتهم احترام ، وكان بعض من لافقه لا يتوهم جواز إلحاق الأذى بهم والتحايل على حقوقهم ، وذلك منكر لا يجوز ، واتباع هوى ، وجهل وضلال.
…ونكره للداعية أن يتكلف في العفاف ويصل إلى حد الوسوسة فيه ، بأن يشيح بوجهه عن الموظفات المتبرجات إذا حادثنه، أو أن يسكت لا يجيب اسنلتهن ترفعا، فإن حالهن هو مقدار مبلغهن من العلم ، وليكن رفيقا، فإنهن في بلادهن أو شركات أهل بلادهن وهو الزائر، وليجلس من أراد مثل هذا التعفف الصارم في بيته ولا يكلف أنفس أهل الملل الأخرى ما ليس في وسعها.
* وهناك مفترقات ذوقية أخرى يحسن بالداعية مراعاتها ، وقد تكون متعلقة بحقوق دقيقة يفغل عنها أول وهلة.(8/26)
…فنحن نرى وجوب التزام الداعية بالتسلسل ومراعاة الدور في الأماكن الزدحمة ، الأسبق أولا، مثلا شراء التذاكر ومراجعة الدوائر والمستشفيات والشراء من الأسواق وركوب الحافلات والقطارات وما أشبه ، وإذا كان مستعجلا فليرجو الذي قبله أن يعطوه دورهم.
…وفي البلاد التي يسكن فيها الناس الشقق المجموعة في عمارة واحدة: نرى أن يحرص الداعية على شقه أمامها بحر أو حديقة أو أرض فضاء، بحث لا توازيه عمارة قريبة ، لأن احتياطات أهل بيته قد لا تمنع النظر مهما بالغواء ، وقد برى من تساهل من يسكن الشقق الموازية مناظر مكروهة لا يحسن أن يراها أهل بيته وولده.
…ولا نرى الذهاب إلى مكان فيه فرح أو أنس بعد زيادة تعزية لآخرين في ساعة واحدة ، فإن الحزين الذي عزيته يسشعر بأن زيارتك له إنما هي محض دبلوماسية لا مشاركة لقلبك فيها.
…ولا تبادر إلى تعزية من كان مسافرا بموت قريب أو بمصيبه ، فقد يكون على غير علم بما أصابه ، فتأخذه المفاجأة.
…ونكره لمن يستمع درسا أو ينصت لحدث أن يسبق المتكلم بالذكر نهاية قصة يسودها، أو تسمية كتب بذكرها ، كأنه يبرهن على أن يعرف مثل معرفة المتكلم. ونكره أن يقلد الدعاة بعضهم بعضا في انتقاد أخ لهم من أصحاب الشهامة والخلق النبيل إذا أخطأ ، وبخاصة الأخطاء التي سببها قلة خبرته الحياتية، والستر على الساذج خير من التلذه بتوجيه الكلام المر البعيد عن الرحمة إليه...
* فهذه وأمثالها من القضايا الذوقية تعتبر من مكملات الشخصية الإسلامية ، ومن زينة الدعاة، ويجب أن يحافظ الداعية على سمر منزلته التي وفقه الله تعالى لها، وعلى احترام عقلاء الناس له ، وأن يتصف كنبيل وسيد وعين ومفكر وفقيه وزاهد ومرجع، وأن يحمد الله على أن ميزه عن أهل السوء والغوغاء.
وكان السلف ينكرون الذوق النابي ، كعطاء بن أبي رباح التابعي - رحمه الله فقد :(8/27)
…( حدث رجل بحديث فاعترضه رجل، فغضب عطاء ، فقال: ما هذه الأخلاق ، ما هذه الطباع ؟ والله إن الرجل ليحدث بالحديث لأنا أعلم به منه ، ولعسى أن يكون سمعه مني ، فأنصت إليه وأريه كأني لم أسمعه قبل ذلك ) (8) .
بل كانوا يعاقبون تلامذتهم على ذلك ، مثل محدث:
…( أعنقوا عليه في دق الباب فلم يحدثهم ) (9) ..
* عطاء الغدو ووسائل السمو
فيا ترى : نحصل على هذا النموذج الكامل الفريد ؟
هي يسع الداعية بعد حصاره بدوائر الحلال والحرام ، والمكروهات والمندوبات ، والفكر والأخلاق، والانضباط والالتزام ، أن يكون على تسعين صفة أخرى من المروة يفعلها ، وتاركا لألف صفة من خوارمها ، تعففا وسموا إذ الناس ، أكثر الناس لها يفعلون ؟
…قد يستصعب البعض ذلك ، وتأخذهم رافة بالدعاة ، واشقاق ورحمه ، لما في المثالية من عناء ورهق، ولكننا نظل نصر على هذا النمط من التحليق العالي، وهي صفات وأنماط لا بد أن تظهر فينا ، ولا بد أن نحييها.
…ويستعين الداعية بعد التوكل على الله بوسائل ثلاث لترويض نفسه:
* بالمطالعة في كتب الأخلاق الإيمانية والطرق الإحسانية ، مثل: مدارج السالكين : وتهذيب إحياء علوم الدين ، إذ أن الكثير من هذه الأذواق تشهد لها السنة وسيرة الأجيال الراشدة المهدية الأولى.
* وبالمطالعة الأدبية والنظر في دواوين الشعر، فإن أكثر الشعراء لهم أحاسس رقيقه مكنتهم من اكتشاف الأذواق الرفيعة .
* بالمخالطة الاجتماعية لاهل الفضل وأبناء العوائل الأصلية والعلماء والكتاب وأبطال الحروب وقدما المعلمين ، والخروج من مجتمع الدعاة إلى المجتمع الواسع، فإن في أشراف الناس بقية خير وأفر وإن قصروا عن إدراك معنى الدعوة ووجوب الإنضمام إلى رهط الدعاة.(8/28)
…ولكن مع كل ذلك، ومع إمكان هذه الإقتباسات الخيرية ، فإن الدعوة تبقى ذات ميزة فريدة ، إذا أنها تأبى أن يذوب في معانيها كل الذوبان وأتمه من لفظ ينخرط في سلوكها أو شبابها فتطبعه بطابعها الخاص الذي لا يمكن أن يحوز مثله من يأتيها بعد تجاوز سن الشباب الأول، من التواضع والبساطة والسماحة ، وكمال العفاف وعمق التأخي، ووفرة البذل ، والمبالغة في صدق اللهجة، وتبقى في المتأخر بقية مهما حاول ومهما بلغ في العلم، وهذه الظاهرة يصعب وصفها والتدليل عليها ، وإنما تحس بالمعاملة والتجريب ، ومن ذاق : عرف.
* نحن صناع الحياة ....
…إن معترضا قد يعترض على هذا التشدد ، وعلى طلب هذه المنزلة العالية من الأخلاق والأذواق والبراءة من العيوب ، ويقول : يصح أن نطلبها من الأعيان ، لكن ما شأن عامة الدعاة؟
…وليس ذلك بصواب ، فإن الضرورة إن جعلت الدعاة طبقات ، فإن واجب الدعوة جعل كل داعية قائدا لجموع من الناس في مدينته أو من أهل مهنته أو من قبيلته وقرابته وجيرانه.
** نحن دعاة الإسلام قادة الحياة ، ونريد أن نبدل التيار ونعاكس الهدم ببناء ، ولن يكون ذكل إلا بمقارعة فكرية ، وإصلاح اجتماعي وتهذيب أخلاقي ومصادمة سياسية ومسابقة اقتصادية ، ولن يقوم بذلك غير نفر على هذا النمط من النبل والتعفف، وعلى هذا الطراز من الذوق الرفيع، وهذا التنزه عن المكدرات والمكروهات، ومهمة بناء الحياة لا تنتظر إذنا ولا تحتكرها طبقة ولا تلزمها صفة زعامة ، بل هي مهمة كل من أمن ووعى وأنتمى ... أن يعمل صالحاً.
1 - وحي القلم 1/33.
2 - الزهد ، للإمام أحمد /37.
3 - وحي القلم 1/33.
4 - وحي القلم 1/33.
5 - وحي القلم 2/57.
6 - صيد الخاطر / 159.
7 - طبقات الشافية 2/72.
8 - طبقات ابن سعد 5/469.
9 - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ج1/ ق1/267.
??
??
??
??
www.ikhwan-info.net
14(8/29)