|
تأليف : محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته : علي بن نايف الشحود
الباحث في القرآن والسنة
===
هذه موسوعة من أروع الموسوعات الإسلامية التي تتحدث عن فقه القلوب . وقد بذل صاحبها جهدا كبيرا حتى جمعها من هنا وهناك ، وقد قسمها إلى خمسة عشر بابا وهي :
الباب الأول: فقه أسماء الله وصفاته.
الباب الثاني: فقه الخلق والأمر.
الباب الثالث: فقه الفكر والاعتبار.
الباب الرابع: فقه الإيمان.
الباب الخامس: فقه التوحيد.
الباب السادس: فقه القلوب.
الباب السابع: فقه العلم والعمل.
الباب الثامن: فقه قوة الأعمال الصالحة.
الباب التاسع: فقه العبودية.
الباب العاشر: فقه النبوة والرسالة.
الباب الحادي عشر: فقه الأخلاق.
الباب الثاني عشر: فقه الشريعة.
الباب الثالث عشر: فقه الطاعات والمعاصي.
الباب الرابع عشر: فقه أعداء الإنسان.
الباب الخامس عشر: فقه الدنيا والآخرة.
==============
وعمدة الكتاب هو القرآن والسنة بالدرجة الأولى ، فجزاه الله عنا خير الجزاء ، وجعله في صحيفة أعماله .
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
والصلاة صلة بين العبد وربه، وهي تربية وتدريب للمسلم بأن لا يتحرك أي عضو من أعضائه إلا امتثالاً لأمر الله ورسوله، وذلك باستخدام الأعضاء في الحياة اليومية طبقاً للسنة المطهرة في مجال العبادات والمعاملات والمعاشرات والأخلاق.
سواء كان الإنسان ذكراً أم أنثى، وسواء كان حاكماً أو محكوماً، وسواء كان ولداً أو والداً، وسواء كان غنياً أو فقيراً.
في حال الحضر أو السفر.. وفي حال اليسر أو العسر.. وفي حال الأمن أو الخوف.. وعلى أية حال فلا يخرج عن طاعة الله ورسوله، فيكون مطيعاً وممتثلاً لأوامر ربه داخل الصلاة وخارج الصلاة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 162، 163].
ولأهمية الصلاة فقد ذكرها الله في القرآن أكثر من مائة مرة، فهي تصل المخلوق بخالقه، وتثمر الأخلاق الكريمة، وتذكر بالله العظيم، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ويمحو الله بها الذنوب والخطايا.
والصلاة عماد الدين، وإقامتها حرب للشيطان؛ لأن الشيطان يريد هدم الدين، فالذي لا يصلي كأنه رضي بهدم الدين؛ لأن الدين قائم بالصلاة، والدين كله معلق بالصلاة، وهي الركن الثاني بعد الشهادتين.
ولا يحصل التفقه في الدين إلا بالصلاة، ولا يوفق الإنسان للعمل الصالح إلا بالصلاة، ولا يسلم من الشرور والمنكرات إلا بالصلاة.
وتوفيق العبد يحصل له بقدر نوعية الصلاة التي يؤديها، وكلما ازداد العبد خشوعاً وخضوعاً في الصلاة اتجهت إليه الرحمة الإلهية:
فيستجاب دعاؤه.. وتستقيم أحواله.. وينال مراده.. ويأنس بمولاه.
(? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 45].
والناس في صلاتهم درجات، كما هم في إيمانهم درجات، وبحسب الإيمان تكون الرغبة في الصلاة وحضور القلب فيها.
(11/90)
فمن الناس لجهله لا يبالي بالصلاة مطلقاً ولا يفكر فيها.. ومنهم من يعنى بالصلاة لكنه لا يهتم بالجماعة.. ومنهم من يصلي مع الجماعة ولكنه لا يهتم ولا يعتني بشروط وآداب الصلاة.. ومنهم من يصلي جماعة، ويهتم بشروط الصلاة وسننها وآدابها، وهذا أفضلهم.
والصلاة التي تؤدى دون شوق لها، وترقب لأوقاتها، لا تثمر ولا تأتي بحلاوتها، فالصلاة لها جسم وروح، ولكل منهما أوامر:
فجسم الصلاة: القيام والقعود، والركوع والسجود.
وروح الصلاة: الخشوع والخضوع، والحمد والتعظيم لله، ومحبته والأنس بمناجاته، والتضرع والانكسار بين يديه.
فمن الناس من يصلي صلاة الجوارح ولا يصلي صلاة القلب، ومنهم من يصلي صلاة القلب ولكن يجهل في أحكام الصلاة.
والنجاة والفلاح: أن يصلي المسلم كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بقلبه وقالبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أصَلِّي» أخرجه البخاري(1).
والإيمان أكبر الأوامر، والصلاة أكبر الأعمال، فمن صلى صلاة كاملة تفتح له أبواب خزائن الله كاملة، ومن اجتهد على أوامر الله علماً وعملاً وتعليماً فتح الله له أبواب البركة في الدنيا كما سقى النبي صلى الله عليه وسلم من إناء اللبن جميع أهل الصفة، وكما أطعم أهل الخندق كلهم من عناق جابر - رضي الله عنه -، وكما سقى الله أهل الحديبية من الماء الذي خرج من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم ، وكما أنزل الله البركة في أموال الزبير وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما.
فالله عزَّ وجلَّ يعطي الرزق بدون الجهد مع كمال الإيمان والتقوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں ں? ? ? ? ? ? ہ) [الطلاق: 2، 3].
والآخرة خير من الدنيا، ومنازل الآخرة كلها إنما تنال بالإيمان والتقوى لا بالأسباب والأموال والأشياء.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (631).
(11/91)
والمجاهد في سبيل الله حقاً هو الذي يحيي سنن النبي صلى الله عليه وسلم الميتة في نفسه وفي الأمة، ويعلم الناس أمور دينهم، ويجتهد لإعلاء كلمة الله في الأرض، وهذا الذي تحصل له الهداية قبل الناس، وتكون معه معية الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
والصلاة المقبولة صلاة الخاشعين كما قال سبحانه: (? ? ?? ? پ پ پ پ?) [المؤمنون: 1، 2].
ولا بدَّ من ضبط الجوارح داخل الصلاة وخارجها.
فخارج الصلاة نحفظ أربعة:
السمع.. والبصر.. والفكر.. والكلام.
فلا نسمع إلا ما أمر الله ورسوله به.. ولا ننظر إلى لما أمر الله بالنظر إليه من الآيات الكونية، والآيات القرآنية ونحوهما.. ولا نفكر إلا فيما ينفعنا.. ولا نتكلم إلا بما ينفعنا من الدعوة إلى الله وتعليم شرعه ونحو ذلك.
وداخل الصلاة نحفظ أربعة:
النظر إلى محل السجود حال القيام.. والنظر حال الجلوس إلى محل التشهد وهو الإصبع.. ونتفكر ونتدبر ما نتلوه من القرآن والأذكار.. ونسمع القرآن بالتوجه.. ولا نتكلم إلا بما أمرنا الله به كالتكبير والأذكار في مواضعها، وقراءة القرآن.
وبذلك يتم ضبط هذه الجوارح داخل الصلاة وخارجها.
ونصلي بخمس صفات:
الأولى: أصلي وأنا أعتقد أن هذه الصلاة خير من الدنيا وما فيها، وفيها حل مشاكل العالم في الدنيا والآخرة، وبها تتم الاستفادة من خزائن الله.
الثانية: أصلي على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في قيامه وركوعه وسجوده، وإيقاع الألفاظ والأذكار في أماكنها.
الثالثة: أصلي ابتغاء مرضاة الله لا رياء ولا سمعة.
الرابعة: أصلي بصفة الإحسان والتوجه، كأني أرى الله وأسمعه، وكأنه يراني ويسمعني.
الخامسة: أصلي بصفة المجاهدة، والمجاهدة ضبط الفكر والتوجه؛ لئلا يشرد الذهن، ويفلت الفكر للدنيا، ويترك مناجاة الله.
يتدرب المسلم على ذلك في النوافل، حتى يجد اللذة في الفرائض، وبهذا يكون للصلاة نور، وتحل بها المشاكل، وتغفر بها الذنوب.
(11/92)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبقَى من دَرَنِهِ شَيْءٌ»، قَالُوا: لا يَبْقَِى مِنْ دَرَنِهِ شَيْئٌ، قَال: «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا» متفق عليه(1).
والقصد من امتثال أوامر الله تحقيق العبودية لله.. وطاعة الله.. والاستفادة من قدرة الله.. ومن خزائنه في الدنيا والآخرة.
وأي نقص خارجي في العمل سببه النقص الداخلي في القلب، لذلك الذي لا يسلم نفسه لله داخل الصلاة لا يستطيع أن يسلمها لله خارج الصلاة.
وليست المصيبة فقط التفات الوجه في الصلاة، بل المصيبة الكبرى التفات القلب عن الله، وهو واقف بين يديه، وكل من أحب غير الله لا تكاد تصفو له صلاة عن الخواطر.
وعلاقة المسلم مع الله بالإيمان والأعمال الصالحة، وعلاقته مع الخلق بالمعاملات والمعاشرات والأخلاق.
وإذا جاءت المشاكل والأحوال نفزع إلى الأعمال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 153].
وإذا لم ترتفع الأحوال والمصائب فهناك خلل في الأعمال، ولا ننظر إلى الأحوال، ولكن ننظر إلى أمر الله فيها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى الأحوال يوم بدر والخندق، ولكن نظر إلى أمر الله فحفظه الله ونصره وأيده بالملائكة.
وكذلك أبو بكر - رضي الله عنه - لم ينظر إلى الأحوال يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن نظر إلى أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأنفذ جيش أسامة - رضي الله عنه -، وأرسل الجيوش لردِّ المرتدين إلى الدين، وقام لله فاستقامت له البلاد والعباد.
وحقيقة الصلاة:
هي الخشوع الكامل وقت الوقوف أمام الله جل علا في الصلاة.
وبذلك يحصل الفلاح كما قال سبحانه: (? ? ?? ? پ پ پ پ?) [المؤمنون: 1، 2].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (528)، ومسلم برقم (667) واللفظ له.
(11/93)
فمن صلى بدون خشوع فإنه ليس من مقيمي الصلاة.. ومن صلى بدون اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو ليس من مقيمي الصلاة.. ومن صلى بدون إخلاص فليس من مقيمي الصلاة.
ويحصل الخشوع في الصلاة بالاهتمام بستة أمور:
الأول: حضور القلب، ومعناه التوجه إلى الله، وتفريغ القلب مما سواه.
الثاني: الفهم والإدراك لما يقرأ أو يسمع.
الثالث: التعظيم: ويتولد من أمرين:
معرفة جلال الله وعظمته وكبريائه.. ومعرفة حقارة النفس وخستها وجهلها وفقرها، وحاجتها إلى فاطرها، فيتولد من المعرفتين الانكسار والخشوع لله.
الرابع: الهيبة، وهي أسمى من التعظيم، فهي الخوف الذي منشؤه التعظيم وتتولد من المعرفة بقدرة الله وسطوته، وعظمته وجلاله، وتقصير العبد في حقه.
الخامس: الرجاء، وهو أن يكون العبد راجياً بصلاته ربه وثوابه وإحسانه، كما أنه خائف بسبب تقصيره من عقاب ربه عزَّ وجلَّ.
السادس: الحياء، ويتولد من شعور العبد بالتقصير في العبادة، مع رؤيته إحسان ربه إليه، وإنعامه عليه، وعلمه بعجزه عن أداء شكره وحقه.
فبهذه الأمور يصل المؤمن إلى الخشوع الكامل الذي قال الله عنه: (? ? ?? ? پ پ پ پ?) [المؤمنون: 1، 2].
فما أعظم فضل الله على عباده بالصلاة الجامعة لكل خير.
فإن الله إذا من على عبد وفقه وهداه للوقوف في الصلاة بين يدي ربه العظيم جل جلاله، الكبير المتعال الذي عنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، القاهر فوق عباده.
ثم أخذ في تسبيحه وحمده وذكره، ثم أخذ في الثناء عليه وحمده وشكره على إحسانه لعباده ورحمته لهم، وتمجيده بالملك الأعظم يوم الدين، وإفراده بالتوحيد.
ثم سؤاله أفضل سؤال على الإطلاق وهو: اهدنا الصراط المستقيم، الذي جعله الله موصلاً لمن سلكه إليه وإلى جنته.
ثم يأخذ بعد ذلك في تلاوة كتابه، ربيع القلوب، وشفاء الصدور، وهو كلام رب العالمين.
(11/94)
فهو يجتني من تلك الآيات والسور ثماراً ومنافع.. خيراً يؤمر به.. وشراً ينهى عنه.. وحكمة وموعظة.. وتبصرة وتذكرة.. وتقريراً لحق.. ودحضاً لباطل.. وإزالة لشبهة.. وجواباً عن مسألة.. وإيضاحاً لمشكل.. وترغيباً في أسباب الفلاح والسعادة.. وتحذيراً من أسباب الخسران والشقاوة.. ودعوة إلى هدى.. وتحذيراً من اتباع الهوى.
فتنزل تلك على القلوب نزول الغيث على الأرض التي لا حياة لها بدونه، ويحل فيها محل الأرواح من أبدانها، فيا له من نعيم وقرة عين تحصل بهذه المناجاة في الصلاة.
والرب عزَّ وجلَّ يسمع لكلامه جارياً على لسان عبده، ويقول: حمدني عبدي، أثنى علي عبدي، مجدني عبدي.
ثم يعود إلى تكبير ربه عزَّ وجلَّ، فيجدد لربه عهد التذكرة بكونه أكبر من كل شيء، ثم يرجع حانياً ظهره لربه خضوعاً لعظمته، وذلاً لعزته، مسبحاً له بذكر اسمه العظيم، منزهاً لعظمته عن حال ذل العبد، وقابل تلك العظمة بهذا الذل والانحناء، وربه فوقه يرى خضوعه وذله وخضوعه، ويسمع كلامه، فهو ركن تعظيم وإجلال.
ثم عاد إلى حاله من القيام، حامداً ربه، مثنياً عليه، بأكمل محامده وأحسنها.
ثم يعود إلى تكبيره، ويخر له ساجداً على أشرف ما فيه وهو الوجه، فيعفره في التراب ذلاً بين يدي ربه ومسكنة، وقد أخذ كل عضو من البدن حظه من هذا الخضوع، ويكون رأسه أسفل ما فيه تكميلاً للخضوع والتذلل لمن له العز كله، والعظمة كلها.
وهذا أيسر اليسير من حقه على عبده، فلو دام العبد على ذلك من حين خلقه الله إلى أن يموت لما أدى بعض حق ربه عليه فضلاً عن كل حقه.
ثم أمر أن يسبح ربه الأعلى في سجوده، فيذكر علوه سبحانه في حال سفوله هو، وينزهه عن مثل هذه الحال، فمن هو فوق كل شيء، وعال على كل شيء ينزه عن السفول، وكلما سجد العبد لربه سجدة رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها سيئة.
(11/95)
ولما كان هذا غاية ذل العبد وخضوعه كان أقرب ما يكون الرب منه في هذه الحال، فأمر أن يجتهد في الدعاء لقربه من القريب المجيب.
وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود والتوطئة له، فينتقل من خضوع إلى خضوع أكمل وأتم منه، وفصل بينهما بركن مقصود في نفسه، يجتهد فيه بالحمد والثناء والتمجيد، وجعل بين خضوعه خضوع قبله، وخضوع بعده وجعل خضوع السجود بعد الحمد والثناء والتمجيد، كما جعل خضوع الركوع بعد ذلك، والقيام أفضل بذكره، والسجود أفضل بهيئته.
فما أعظم هذا الترتيب العجيب، وهذا التنقل في مراتب العبودية؟.
ولما كان أشرف أذكار الصلاة القرآن شرع في أشرف أحوال الإنسان، وهي هيئة القيام في الصلاة في أحسن هيئة.
ولما كان أفضل أركان الصلاة الفعلية السجود شرع فيها بوصف التكرار، وشرع له بين هذين الخضوعين أن يجلس جلسة العبيد، ويسأل ربه ومولاه أن يغفر له ويرحمه، ويهديه ويرزقه، ويجبره ويعافيه، وهذه تجمع له خير دنياه وآخرته.
ثم شرع له تكرار هذه الركعة مرة بعد مرة، كما شرع له تكرار الفاتحة والأذكار والدعوات مرة بعد مرة، ليجبر ما قبله بما بعده، وليشبع القلب من هذا الغذاء النافع، وليأخذ رواه ونصيبه وافراً من الدواء، فإن منزلة الصلاة من القلب منزلة الغذاء والدواء.
ومن كرر الصلاة كان شفاؤه وسلامته أتم وأدوم، فما حصل الغذاء والشفاء للقلب بمثل الصلاة، وهي لصحته ودوائه بمنزلة غذاء البدن ودوائه.
ثم لما أكمل صلاته، شرع له أن يقعد قعدة العبد الذليل المسكين لسيده، ويثني عليه بأفضل التحيات، ويسلم على من جاء بهذا الحظ الجزيل، ومن نالته الأمة على يديه.
ثم يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين القائمين معه في هذه العبودية.
ثم يتشهد شهادة الحق أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم يعود فيصلي على من علم الأمة هذا الخير ودلهم عليه، وهم محمد وآل محمد، وإبراهيم وآل إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.
(11/96)
ثم شرع له بعد ذلك أن يسأل حوائجه، ويدعو بما أحب، ما دام بين يدي ربه مقبلاً عليه، فإذا قضى ذلك أذن له بالخروج منها بالتسليم على المشاركين له في الصلاة، والسامعين والحاضرين من عباد الله من الملائكة وغيرهم.
ثم لما كان العبد خارج الصلاة مهملاً جوارحه، قد أسامها في واقع الشهوات أمر بالعبودية بجميع جوارحه ليقبل على ربه، وتأخذ جوارحه بحظها من عبوديته داخل الصلاة وخارج الصلاة، وأمر بتكرار ذلك لئلا يطول الأمد عليه فينسى ربه، وينقطع عنه بالكلية.
فالصلاة أعظم نعم الله على عباده، وأفضل هداياه التي ساقها إليهم.
والله بصير بالعباد يرى مكانهم، ويسمع سرهم ونجواهم، ويعلم أحوالهم، والإنسان يعمل المعاصي في الظاهر فيسقط من عين الله تعالى؛ لأنه عصى الله في ملكه، ولكن الله برحمته شرع لنا الصلاة التي يمحو الله بها الخطايا والذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم : «أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبقَى من دَرَنِهِ شَيْءٌ»، قَالُوا: لا يَبْقَِى مِنْ دَرَنِهِ شَيْئٌ، قَال: «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا» متفق عليه(1).
وعلمنا سبحانه تعظيم الله قبل الصلاة.. وأثناء الصلاة.. وبعد الصلاة.. وعلمنا الاستغفار عن التقصير فيها بعد الصلاة؛ لأن حق الله عظيم، والإنسان جمع مع الجهل الغفلة والنسيان والكسل.
وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله في الصلاة.. والأجساد مزينة بالسنن، والألسنة ناطقة بالتكبير والحمد والاستغفار، فُتحت للإنسان أبواب السعادة في الدنيا والآخرة، وسمع الله دعاءه، وأجاب سؤاله.
والعمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه، واليقين: أن نعتقد أن جميع الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة بيد الله وحده لا شريك له.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (528)، ومسلم برقم (667) واللفظ له.
(11/97)
والذوق يولد الشوق، فمن ذاق طعم الإيمان اشتاق إلى تكميل الإيمان والأعمال الصالحة، وكل ما يرضي ربه.
وإقامة الصلاة تكون بأمرين:
إقامتها ظاهراً: بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها.
وإقامتها باطناً: بإقامة روحها، وهو حضور القلب فيها، وخشوعه لله، وتدبر ما يقوله ويفعله منها.
والصلاة فرضها ونفلها صلة بين العبد وربه، يجد فيها العارفون لذة مناجاة ربهم بتعظيمه، والثناء عليه، وسؤاله، واستغفاره.
يصلون مع الناس الفرائض والسنن، ولهم مع ربهم في الليل شأن آخر، يحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطيور إلى أوكارها عند الغروب.
فإذا جَنَّهم الليل.. واختلط الظلام.. وفرشت الفرش.. وخلا كل حبيب بحبيبه.. قاموا إجلالاً لمولاهم.. فتطهروا للوقوف بين يديه.. ونصبوا أقدامهم.. وافترشوا وجوههم.. وناجوا ربهم بكلامه.. وتملقوا إليه بإنعامه.
فهم بين خاشع وباك.. وبين متأوه وشاك.. وبين معظم وحامد.. وبين قائم وقاعد.. وبين راكع وساجد.. وبين مسبح ومستغفر وتائب.
والجبار الذي لا تأخذه سنة ولا نوم يراهم.. بعيني ما يتحملون من أجلي؟.. وبسمعي ما يشكون من حبي؟.
فلله ما أعظم هؤلاء.. وما أكبر عقولهم.. وما أحسن عملهم.. وما أفقههم.. وما أعلمهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 9].
وما أعظم لذتهم بمناجاة مولاهم: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [السجدة: 16، 17].
وكثير من الناس لا يعرف من العبادة إلا الأعمال الظاهرة، أما حال القلب وعمله وحبه وشوقه وتعلقه بربه، فقد لا يبالي أن ينصرف لأي وجهة؛ لقصور نهمه، ونقص علمه.
فالتعبد هو غاية الحب لله، وغاية الذل له، فالمحب قد ذلَّله الحب لمولاه، وذلك لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له، فمحبة العبودية هي أشرف أنواع المحبة.
(11/98)
وكلما كان قلب العبد في محبة الله وذكره وطاعته كان معلقاً بالمحل الأعلى، فلا يزال في علوٍّ ما دام كذلك، فإذا أذنب هبط قلبه إلى أسفل، فلا يزال في هبوط ما دام كذلك، ولهذا شرع الله الصلوات والعبادات لاستدامة ذكره سبحانه.
وكل عبادة لها مقصد، فمقصد الصلاة استدامة ذكر الله، والاستفادة من خزائن الله، وقضاء الحاجات.
وإذا كانت الصلاة التي لم تحل مشاكل الدنيا الفانية الصغيرة، فلا يمكن لها أن تحل مشاكل الإنسان في الدار الآخرة الدائمة الكبيرة: (? ?? ? چ چ چ چ? ? ? ?? ? ??) [الماعون: 4- 7].
2- فقه الزكاة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [التوبة: 103].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 60].
الله تبارك وتعالى خلق الخلق، وقسم أرزاقهم، وفضل بعضهم على بعض في الأخلاق والأموال والأرزاق والأعمال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 32].
والله عزَّ وجلَّ أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، وأعلم بمن لا يصلح للهداية فيضله، وكذلك هو أعلم بمن يصلح للغنى فيغنيه، ويهيء له أسبابه، وهو أعلم بمن لا يصلح للغنى فيمنعه، ويقطع عنه أسبابه.
والمال أياً كان مال الله يؤتيه من شاء من خلقه، ويبتليه به لينظر هل ينفقه حسب أمر الله ورسوله، أم ينفقه حسب هواه وشهواته.
والزكاة حظ الفقراء في أموال الأغنياء، فيها إعانة للضعيف، وإغاثة للملهوف، وإقدار للعاجز، وتقويته على أداء ما افترضه الله عليه من العبادات والحقوق.
والزكاة تطهر مؤديها من أنجاس الذنوب، وتزكي أخلاقه بخلق الجود والكرم والبذل والإحسان، وترك الشح والبخل، فالأنفس مجبولة على الضن بالمال، والإنفاق -صدقة أو زكاة- يقطع هذا الخلق، ويعود المرء على التحلي بمكارم الأخلاق، ونفع السائلين والمحرومين والمحتاجين.
(11/99)
كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [التوبة: 103].
والله سبحانه أنعم على الأغنياء بصنوف النعم يأكلون منها، ويزكون منها، ويتصدقون منها، وأداء الزكاة إلى الفقير من باب شكر النعمة.
والنفس ميالة إلى الحرص، ولما كانت النفس كذلك، وكان الجود مطلوباً جعلت الزكاة رياضة للنفس وتمريناً لها على الكرم شيئاً فشيئاً، حتى يصير الكرم لها عادة، وهذا أعظم جهاد للإنسان يزول به البخل عنه.
والزكاة فرض من فرائض الإسلام، والمسلم إذا لم يؤد فرضاً من فرائض الصلاة على الوجه المطلوب يكون غير مقبول، ويكون آثماً، فكذلك الزكاة إذا لم يؤدها الإنسان من طيبات ما رزقه الله لم تكن مقبولة، ويكون آثماً، فالكريم حقاً يجود بأحسن ما لديه، وهو في الحقيقة يختار لنفسه قبل غيره، وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالإنفاق من الطيبات وتجنب الخبائث كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [البقرة: 267].
والله عزَّ وجلَّ أوجب الزكاة مواساة للفقراء، وطهرة للمال، وعبودية للرب، وتقرباً إليه بإخراج محبوب العبد له؛ إيثاراً لمرضاته.
وفرضها سبحانه على أكمل الوجوه وأنفعها للمساكين، وأرفقها بأرباب الأموال، ولم يفرضها في كل مال، بل فرضها في الأموال التي تحتمل المواساة ويكثر فيها الربح والدر والنسل.
ولم يفرضها العزيز الرحيم فيما يحتاج العبد إليه من ماله، ولا غنى له عنه كعبيده وداره وثيابه وسلاحه ومركوبه.
بل فرضها في أربعة أجناس من المال:
الذهب والفضة.. وعروض التجارة.. والزروع والثمار.. وبهيمة الأنعام.
فهذه أكثر أموال الناس الدائرة بينهم، وقسم الشارع كل جنس من هذه الأجناس إلى ما فيه الزكاة، وإلى ما لا زكاة فيه.
فقسم الذهب والفضة إلى قسمين:
ما هو معد للتجارة ففيه الزكاة ربع العشر.
وما هو معد للانتفاع دون التجارة كحلي المرأة وحلية السلاح فلا زكاة فيه.
وقسم العروض إلى قسمين:
(11/100)
عروض معدة للتجارة ففيها الزكاة ربع العشر.
وعروض معدة للقنية والاستعمال، فهو مصروف عن جهة النماء فلا زكاة فيه.
وقسم الزروع والثمار إلى قسمين:
قسم يسقى بلا كلفة ولا مشقة كالذي يسقى بماء السماء فأوجب فيه العشر.
وقسم يسقى بكلفة ومشقة كالذي يسقى بالآلات، أو الحيوانات فأوجب فيه نصف العشر.
وقسم البهائم إلى قسمين:
سائمة ترعى بلا كلفة ولا مشقة ولا خسارة كالإبل والبقر والغنم، فهذه فيها الزكاة.
ومعلوفة بالثمن، أو عاملة في مصالح أربابها بالحرث والنقل، فلا زكاة فيها لكلفة المعلوفة، وحاجة المالك إلى العوامل لخدمته.
ولما كان حصول النماء والربح في التجارة أشق، خففها بأن جعل فيها ربع العشر.. ولما كان الربح والنماء في الزروع والثمار التي تسقى بالكلفة أقل كلفة جعله ضعفه وهو نصف العشر.. ولما كان التعب والعمل فيما يشرب بنفسه أقل جعله ضعف ذلك وهو العشر.. ولما كان الركاز والمعدن مالاً مجموعاً محصلاً بلا كلفة كان الواجب فيه ضعف ذلك وهو الخمس.. ثم لما كانت المواساة لا تحتمل كل يوم ولا كل شهر جعلها في كل عام مرة كالصيام.. ولما كانت الصلاة لا تشق كل يوم وظفها كل يوم وليلة.. ولما كان الحج يشق على المسلم جعله في العمر مرة.
ومقدار ما أوجبه الشارع في الزكاة لا يضر المخرج فقده، وينفع الفقير أخذه، وقصد إلى كل جنس من أجناس الأموال فأوجب الزكاة في أعلاه وأشرفه كالذهب والفضة من المعادن.
والنعم متى شُكرت قرّت، ومتى كُفرت فرّت، وشكر النعم يكون باللسان كأن تقول: الحمد لله.. الشكر لله.. ويكون بالجوارح كفعل الصلاة والصدقات والعبادات كلها على الإطلاق إنما هي شكر لله تعالى على نعمه التي لا تحصى، وإذا كان الأمر كذلك كان أداء الزكاة شكراً لله على نعمه العديدة التي أنعم بها عليك، والتي منها إنقاذك من مخالب الفقر والفاقة.
(11/101)
ومدّ يد الغني لإعطاء الزكاة يزيد في ماله وينميه، فكأن المال شجرة، والسقيا له هو الزكاة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [البقرة: 276].
والمال لا ينفع صاحبه إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط هي:
أن يكون حلالاً.. وأن لا يشغل صاحبه عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. وأن يؤدي حق الله فيه.
والله عزَّ وجلَّ شرع لعباده عبادات متنوعة منها ما يتعلق ببذل المحبوب إلى النفس كالزكاة والصدقة، ومنها ما يتعلق بكف النفس عن محبوباتها وما تشتهيه كالصيام، ونوّع الله العبادات ليختبر العباد ليرى من يقدم طاعة ربه على هوى نفسه، وليقوم كل واحد بما يسهل عليه ويناسبه منها.
وليس الهدف من دفع الزكاة جمع المال وإنفاقه على الفقراء والمساكين فحسب، بل الهدف الأول أن يعلو بالإنسان عن المال ليكون سيداً له لا عبداً له، ومن هنا جاءت الزكاة لتزكي المعطي والآخذ وتطهرهما.
والزكاة تكفر الخطايا، وهي سبب لدخول الجنة، والنجاة من النار، وهي تزيد في حسنات مؤديها، وتقي المال من الآفات، وتثمره وتنميه وتزيده، وتسد حاجة الفقراء والمساكين، وتمنع الجرائم المالية كالسرقات والنهب والسطو، وتولد المحبة بين المسلمين.
وكل قادر على الكسب مطلوب منه شرعاً أن يعمل ليكفي نفسه بنفسه.
فمن كان عاجزاً عن الكسب لضعف ذاتي كالصغر والأنوثة، والعته والكبر، والعاهة والمرض، أو كان قادراً ولم يجد باباً حلالاً للكسب يليق بمثله، أو وجد ولكن كان دخله من كسبه لا يكفيه وعائلته، أو يكفيه بعض الكفاية دون تمامها، فقد حل له الأخذ من الزكاة، ولا حرج عليه في دين الله، الذي جمع بين العدل والإحسان، والعدل والرحمة، والعدل والشفقة.
والفقراء والمساكين نوعان:
نوع يستطيع أن يعمل ويكتسب ويكفي نفسه بنفسه، ولكن ينقصه أدوات الصنعة، أو رأس مال التجارة، أو آلات الحرث والسقي، فهذا يعطى من الزكاة ما يمكنه من اكتساب كفاية العمر، وعدم الاحتياج إلى الزكاة مرة أخرى.
(11/102)
والنوع الآخر عاجز عن الكسب كالشيخ الكبير والأعمى والأرملة والطفل ونحوهم، فهؤلاء لا بأس أن يعطى الواحد منهم كفاية السنة، بل يصح أن يوزع على أشهر العام إن خيف من المستحق الإسراف، وبعثرة المال في غير حاجة ماسة.
والله بكل شيء عليم، يعلم كل ما ينفقه المنفق صدقة أم نذراً، سراً أو جهراً، لله أو لغير الله، قليلاً كان أو كثيراً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 270].
وشعور المؤمن بأن عين الله سبحانه على نيته، وعلى حركته، وعلى عمله، يثير في نفسه مشاعر حسية حية متنوعة، شعور التقوى والتحرج أن يهجس في خاطره هاجس رياء، وهاجس شح أو بخل، وهاجس خوف من الفقر أو الغبن، وشعور الإطمئنان على الجزاء، وشعور الرضا والراحة.
وإخفاء الصدقة حين تكون تطوعاً أولى وأحب إلى الله، وأجدر أن تبرأ من الرياء، فإن كان في إظهارها مصلحة الاقتداء به فهو أولى.
فأما حين تكون أداء للفريضة فإن إظهارها فيه معنى الطاعة، وفشو ذلك وظهوره خير، وفيها تنبيه للغافل عن أدائها.
فتحمد هذه في موضعها، وتحمد تلك في موضعها، ويعد الله المؤمنين على هذه وتلك تكفير السيئات، وعليهم مراقبة الله في ذلك، فإن الله خبير بما يعملون: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 271].
وحق الله على العبد أن يعبده ويطيعه، ويتقرب إليه بما أمر به، ويجتنب كل ما نهى عنه.
أما الخلق فعليه الإحسان إليهم، والنصيحة لهم، ومواساة محتاجهم، وعيادة مريضهم، وشهود جنائزهم، ومحبتهم، وإجابة دعوتهم.
(11/103)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» قِيلَ: مَا هُنَّ؟ يَا رَسُولَ ا?! قال: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» أخرجه مسلم(1).
وهدى القلوب وضلالها بيد الله لا بيد غيره، فهذه القلوب من صنعه، وهو الذي يقلبها كيف يشاء.
فعلى المسلم أن يحسن إلى الخلق، ويبذل لهم الخير والعون أياً كانوا مسلمين أو غيرهم ما لم يحاربوا الإسلام كما قال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الممتحنة: 8].
وثواب العطاء والإنفاق والإحسان إلى الخلق كله محفوظ عند الله، ومضاعف للمنفق أضعافاً كثيرة، ما دام الإنفاق ابتغاء وجه الله، وهذا شأن المؤمن لا سواه، إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله، لا ينفق عن هوى ولا غرض: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [البقرة: 272].
فالمؤمن ينفق الطيب خالصاً لوجه الله، ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته، ويطمئن لبركة الله في ماله، ويطمئن لثواب الله وعطائه، ويطمئن إلى حصول الخير والإحسان إليه من ربه، جزاء الخير والإحسان لعباد الله.
ويزكو ويتطهر بما أعطى في حياته، وعطاء الآخرة، ودخول الجنة بعد ذلك كله فضل.
والله تبارك وتعالى أمرنا بالإحسان إلى جميع الناس، فالخلق كلهم عيال الله فهو الذي يعولهم ويربيهم بنعمه الظاهرة والباطنة، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله وأرحمهم بهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [آل عمران: 134].
وقد خص الله بالذكر مصرفاً من أهم مصارف الصدقة من المؤمنين ليحرك القلوب لإدراك نفوس وقفت نفسها لله، وفي سبيل الله، وهي نفوس أبية، تأنف السؤال، وتأبى الكلام.
فلا بدَّ أن تدرك بالمدد فلا تهون، وبالإسعاف فلا تضام.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2162).
(11/104)
هؤلاء قوم كرام معوزون بذلوا أوقاتهم من أجل إعلاء كلمة الله، اكتنفتهم ظروف تمنعهم من الكسب قهراً، وأمسكت بهم كرامتهم أن يسألوا العون، إنهم يتحملون كي لا تظهر حاجتهم، وكثيراً ما يغفل الناس عنهم، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
فما أعظم الصدقة والإحسان إلى هؤلاء الفقراء الكرام الذين يكتمون الحاجة كأنما يغطون العورة تعففاً وحياءً.
وما أجمل إعطاءهم سراً، وفي تلطف لا يخدش إباءهم، ولا يجرح كرامتهم، هؤلاء قوم كرام، وقد وصفهم الله بست صفات ليعرفهم من يريد الإحسان إليهم، والصدقة عليهم، فهناك الثواب العظيم، والأجر الجزيل على من أنفق على من وقف نفسه في سبيل الله كما قال سبحانه: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 273].
أما المنفقون ابتغاء مرضاة الله فهم ينفقون كل وقت من كل مال، في كل حال، ولكل محتاج، فما هو جزاؤهم؟.. وما هي صفاتهم؟.
إنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 274].
إن الإٍسلام لا يقيم حياة أهله على العطاء والصدقات.
بل يقوم أولاً على تيسير العمل والرزق لكل قادر، لكن هناك حالات خاصة يعجز أهلها عن الكسب والعمل، فهذه هي التي يعالجها الإسلام بالصدقة مرة في صورة فريضة كالزكاة.. ومرة في صورة تطوع غير محدد كالصدقات التي يتكرم بها المحسنون القادرون، ويبذلونها للمحتاجين ابتغاء الأجر من الله، مع مراعاة الأدب في العطاء.
فالزكاة يجبيها إمام المسلمين ويوزعها على المستحقين لها، وأما الصدقة فموكولة للغني يبذلها لمن شاء من المحتاجين بأي قدر شاء، والله يضاعف لمن يشاء حسب نيته وصدقه، ووقوع صدقته في محلها كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [البقرة: 261].
وعلى كل من يريد إخراج الزكاة أن يفهم المراد من الزكاة، وهو أربعة أشياء:
(11/105)
ابتلاء مدعي محبة الله بإخراج محبوبه.. والتنزه عن صفة البخل المهلك.. وشكر نعمة المال وتطهيره.. وسد حاجة الفقراء.
ومن آداب الزكاة الظاهرة والباطنة:
الإسرار بإخراجها لكونه أبعد من الرياء والسمعة، وفيه إذلال للفقير.
وأن لا يفسدها بالمن والأذى، فإنه محسن إلى الفقير، والفقير محسن إليه بقبول حق الله الذي هو طهرة له.
وأن يستصغر العطية؛ لئلا يدخله العجب، ولا يتم المعروف إلا بتصغيره وتعجيله وستره.
وأن ينتقي من ماله أحله وأجوده وأحبه إليه، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ويلاحظ فيه أمرين:
حق الله سبحانه وتعالى بالتعظيم له، فإنه أحق من اختير له.
وحق نفسه فإن الذي يخرجه هو الذي يلقاه غداً في القيامة، فينبغي أن يختار الأجود لنفسه.
وأما أحبه إليه فلقوله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 92].
ومن الآداب كذلك أن يطلب لصدقته من تزكو به من أهل الزكاة، ولهم صفات أهمها:
التقوى؛ لتكون عوناً لهم على طاعة الله.. وأهل العلم؛ لتكون إعانة لهم على طلب العلم ونشره.. ومن يرى الإنعام من الله وحده، بأن يكون ساتراً لحاجته، صائناً لفقره.. أو يكون ذا عائلة فقيرة.. أو محبوساً لمرض أو دين، فهذا من المحصرين.. وأن يكون من الأقارب وذوي الأرحام المحتاجين، فالصدقة عليهم صدقة وصلة، وكل من جمع هذه الخلال أكثر فعطاؤه أفضل.
3- فقه الصيام
قال الله تعالى: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 183].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [البقرة: 185].
الصيام: هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بنية الصيام لله تعالى.
والصيام فريضة الله في كل دين أنزله الله، ودين الله في صيغته الأخيرة الخاتمة قد فرض فيه الصوم بصيغة نهائية وخاتمة، ولذلك كان صوماً ما شئت أن ترى من واقعيته إلا رأيت، ومن سهولته إلا رأيت، ومن نفعه إلا رأيت، ومن آثاره الطيبة على الحياة البشرية إلا رأيت.
(11/106)
والصيام المفروض علينا هو صيام شهر رمضان، وفي شهر رمضان نزل القرآن، ففيه كان بدء الدعوة الإسلامية، وبدء نزول كتابها فيه.
فصيام هذا الشهر تخليد لذكرى ينبغي أن تبقى حية في نفس المسلم كل وقت.
وجعل الشهر القمري الذي له علامته الكونية الكبيرة، القمر بدءاً وانتهاءً يحمل في طياته عوامل الوضوح والثبات، فلا تستطيع سلطة أو جماعة أن تخفيه أو تحرف المسلمين عنه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ» متفق عليه(1).
واختيار السنة القمرية في التوقيت له فيها حكم عظيمة، فالسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بحوالي عشرة أيام، فعلى هذا يتقدم شهر رمضان كل عام عنه في السنة الماضية عشرة أيام، وعلى هذا ففي خلال ستة وثلاثين عاماً لا يبقى يوم من أيام السنة إلا وقد صامه المسلم، يشهد له بصومه لربه.
اليوم القصير.. واليوم الطويل.. واليوم الحار.. واليوم البارد.
وبذلك يتساوى المسلمون في كل أقطار الدنيا في مقدار الصيام وشدته، ولولا هذا لكان نصيب أهل المناطق الحارة أشد من نصيب أهل المناطق الباردة، وناس يصومون يوماً طويلاً أبد الدهر، وناس يصومون يوماً قصيراً، فلله الحمد والمنَّة أن أكرمنا بشهر المنافع والخير والبركات: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 185].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1909)، واللفظ له، ومسلم برقم (1081).
(11/107)
وفي تعيين شهر رمضان بالذات شهراً للصوم، دون ترك التعيين للإنسان ليختار شهراً معيناً لنفسه من السنة، فيه إشعار للمسلمين بوحدتهم، ومن تعويدهم النظام والانضباط والاستسلام لله عزَّ وجلَّ، وفيه فتح الباب لأعمال موحدة من الخير، ينال كل مسلم من المسلمين فيها نصيبه، وإعلان لدخول المسلمين جميعاً في يوم واحد مدرسة واحدة فيها الصيام والقيام، والبذل والإحسان، وتلاوة القرآن.
وفي الصيام حبس النفس عن الإسراف في الشهوات، وكبح جماحها عن كل سوء، وتعويد لها على الانضباط في الأكل والكلام والأخلاق.
وشهوتا البطن والفرج أعتى شهوات الإنسان، فمن استطاع أن يحفظ نفسه خلال فترة الصوم من هاتين الشهوتين كان على غيرها أقدر، فلا يخرج عن حدود الحلال.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» أخرجه البخاري(1).
وفي الصيام ضبط لجوارح الإنسان وشهواته، فلا ينضبط اللسان بشيء كانضباطه بالصيام، فالشبع الدائم للإنسان يجعل أعضاءه في كامل طاقتها ويجعل نفسه كذلك، واللسان ينطلق وقد لا يستطيع ضبطه.
واللسان أداة التعبير عن النفس، فمهما كان في النفس من شرود عن طريق الله ظهر في اللسان، وفي اليد، وفي الرجل، وفي السلوك، وفي العمل.
فحبس النفس عن شهوة الطعام إضعاف لها عن الانطلاق في أي طريق، وترويض لها على الانضباط على الطريق الشرعي الصحيح.
ففي الصيام كف للنفس عما لا ينبغي لها، وعما يشينها من الأقوال والأعمال والأخلاق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» متفق عليه(2).
__________
(1) اخرجه البخاري برقم (6474).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1904)، واللفظ له، ومسلم برقم (1151).
(11/108)
وما لم يحقق الإنسان من صيامه هذا الجانب فلا حاجة لله أن يدع طعامه وشرابه، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» أخرجه البخاري(1).
ومن رحمة الله عزَّ وجلَّ بعباده أن علق الصوم والإمساك على علامتين سماويتين يسهل تمييزهما هما طلوع الفجر، وغروب الشمس، وفي ذلك ضبط للوقت يستطيعه أي إنسان في أكثر مناطق العالم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 187].
وقد أعطى الله الإنسان في رمضان وقتاً يعوض فيه كل ما فقده في صيامه من حاجة الجسد، وذلك بإباحة الطعام والشراب والنكاح ليلاً، ومنعه منه نهاراً، وبذلك يتمحض الصيام نفعاً خالصاً للإنسان بدنياً ونفسياً.
وليس هذا هو المقصود من الصيام فقط، بل المقصود الأعلى والأسمى طاعة الله وتقواه، فالتقوى هي الخلق الذي علق الله عليه فلاح المسلم في دنياه وآخرته، كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [الطور: 17].
والتقوى خلق عظيم، وحتى يستجمعها المسلم في قلبه فتكون له خلقاً، لا بدَّ أن يسلك لها طريقها.
وأهم الطرق المؤدية إلى التقوى:
الصيام.. والقيام.. والأذكار.. والدعاء.. وقراءة القرآن.. والإنفاق في سبيل الله.. والاعتكاف.. والصبر.. والاستغفار.. والتوبة.
قال الله تعالى: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 183].
وشهر رمضان هو الشهر الذي يسير به المسلم في كل طرق التقوى بشكل عفوي، ففيه تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين، وفيه تكثر الصدقات، وتزداد الأعمال الصالحة، وتكثر تلاوة القرآن، فما ينتهي شهر رمضان إلا وقلب المسلم قد امتلأ نوراً وإيماناً وتقوى، وتحلى بأحسن الأخلاق، وتلذذ بطاعة الله وعبادته.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (1903).
(11/109)
والصوم شكر لله تعالى من حيث كونه عبادة، والعبادات مطلقاً شكر من العبد لمولاه على النعم التي لا تحصى.. والله عزَّ وجلَّ يعلمنا بالصوم كيف نحافظ على أداء الأمانة ولا نضيعها أبداً، ولا نفرط فيها، وذلك بالأمر بالإمساك عن الطعام والشراب أثناء الصيام. وفي الصيام تصفو نفس العبد وتخلص روحه من صفة البهيمية، وترتقي إلى صفة الملكية التي مزاجها الطاعة ولزوم العبودية.. وفي الصوم صحة البدن وخلوصه من الأخلاط الرديئة.. وفي الصوم إضعاف لشهوة الجماع التي تزداد مع الأكل والشرب وإطلاق النظر.. والإنسان إذا صام وذاق مرارة الجوع حصل عنده عطف ورحمة على الفقراء والمساكين الذين لا يجدون ما يكفيهم من القوت فتصدق عليهم وأحسن إليهم.
والبدن مع العمل يكل، فيجب أن تستريح الأعضاء وقتاً من الأوقات لتستعيد نشاطها وقوتها مرة أخرى، فمن رحمة العزيز العليم أن جعل للمعدة وقتاً تستريح فيه كما يستريح غيرها.
والصوم قمع للنفس عن شهواتها، ومن استطاع قمع نفسه ومنعها من الأكل استطاع منعها من الحرام والإجرام والإفساد، والانهماك في الطعام والشراب والملاذ يطغي النفوس، ويجعلها لا ترحم الضعفاء، ولا تعطف على البؤساء؛ لأنها لا تحس بما هم فيه من ألم المسغبة والفاقة.
فيجب أن يشعر العبد أثناء الصوم أنه هبط إلى الفقير في حالته الغذائية، فيعرفها ليشفق عليه.
وكثير من الناس يشكون من سوء التغذية، وسببها عند الأغنياء يرجع إلى زيادتها، وعند الفقراء إلى نقصها المعيب.
والله عزَّ وجلَّ يريد من عباده المؤمنين أن يكون شهر رمضان شهر زهد وتعبد، وبر بالفقراء والبائسين، وصون للمعدة واللسان والقلب، وتطهير للجسد من الأخلاط، وتطهير للروح من سوء الأخلاق.
فما أعظم منافع شهر الصيام وما أكثر بركاته، وإن الناس لفي حاجة إلى العلم بحكمة العبادات قبل التعبد بها أكثر من حاجتهم إلى معرفة أحكامها.
والله يقول: (ک ک ک گ گ گ گ ??) [البقرة: 184].
(11/110)
وإذا كان الربيع يكسو الأشجار أوراقها وأزهارها، ويبسم الوادي بعد أن كان خشناً يابساً، فكذلك رمضان في الشهور نال من إكرام الله ما لم ينله شهر سواه: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [البقرة: 185].
فهو وحي السماء إلى النفوس يهتف بها إلى داعي الله، ويحفزها إلى طريق الحياة، ويهديها إلى سبل البر والرشاد والنجاة، ويذكرها بما في دين الله من رحم وتواصل، وإخلاص وتنافس في الأعمال الصالحة، ويعظها أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً.
وفي الصيام تشعر النفس الإنسانية أن هؤلاء البشر كلهم على تفاوت درجاتهم واختلاف أمزجتهم متساوون في الاحتياج إلى الطعام والشراب.
والصوم الذي فرضه الله على المسلمين جميعاً الغني منهم والفقير، والأمير والحقير، والذكر والأنثى، يعظ بوجوب تغليب سلطان العقل على سلطان البطن، وسلطان البصر، وسلطان السمع، وسلطان الشهوات، وسلطان الغفلة.
والمقصود من الصوم التقوى التي يحصل بها كف جميع الجوارح عن مباشرة كل ما يحرم فعله شرعاً، ويتم ذلك بأمور:
أحدها: غض البصر عن الاسترسال في النظر إلى ما يشغل القلب عن ذكر الله تعالى، وما ينسي الإنسان ذكر الآخرة.
الثاني: حفظ اللسان عن النطق بالفحش والهذيان، والكذب والغيبة، ولزوم الصمت وعدم النطق إلا بما يحبه الله من ذكر الله، وتلاوة القرآن، والنصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه من غيبة ونميمة، وفحش وقول الزور ونحوها.
الرابع: كف بقية الجوارح عن المحرمات والمكاره، وحفظ البطن وقت الإفطار عن الشبهات والمحرمات، فلا يفطر على لحوم الناس بالغيبة، أو على طعام مكتسب بغير وجه حلال.
الخامس: أن لا يكثر من الطعام وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه؛ لأن امتلاءه يهيج النفس البهيمية، ويبعث فيها الشهوة التي كانت راكدة خاملة طول النهار، وروح الصوم وسره إضعاف هذه القوى التي هي وسائل الشيطان في إفساد البشر.
(11/111)
ومتى ضعفت تلك الوسائل قوي القلب، وزالت عنه الحجب، ونظر بعين البصيرة إلى جلال الملكوت وجماله، ومواطن رحمته، وسوابغ نعمه، وآلائه وإحسانه، فانقاد لطاعته، وامتثال أوامره، وهذا لب العبودية وروحها.
السادس: أن يكون قلب الصائم بعد فطره بين الرجاء والخوف؛ لأنه لا يدري هل قبل صيامه أم لم يقبل، وهكذا في كل عمل صالح يكون العبد راجياً ربه، وخائفاً من عدم قبول عمله.
فروح الصوم هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج وسائر المفطرات، وحبس القلب والفكر عما سوى الله تعالى، فلا يفكر في شيء من أمور الدنيا إلا فيما لا بدَّ منه من مصلحة أو منفعة واجب قضاؤها.
وقد خص الله سبحانه الصوم بأنه له، وهو يجزي به، وإن كانت أعمال البر كلها له، وهو يجزي بها؛ لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بلسان ولا فعل فتكتبه الملائكة الحفظة، إنما هو نية في القلب، وإمساك عن حركة المطعم والمشرب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أطْيَبُ عِنْدَ ا? مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» متفق عليه(1).
والصوم منه ما هو واجب كصيام رمضان، ومنه ما هو تطوع كصيام النفل.
وكما أوجب الله صيام رمضان لمصلحة العباد، فقد رغب في صيام النفل؛ تكميلاً للفرض، وقياماً بما يحبه الله، وسداً لما عساه أن يقع من خلل في الصوم الواجب، وتزوداً من الطاعات.
وصيام التطوع كصوم يوم الإثنين، وثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة لغير حاج، وصوم يوم عاشوراء، وصوم ستة أيام من شوال ونحوها.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1846)، ومسلم برقم (1151) واللفظ له.
(11/112)
وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكثرون من صيام التطوع، فداود صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وهو أحب الصيام إلى الله، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم.
ولقد كان من رحمة الله أن فرض الصوم على هذه الأمة التي فرض عليها الجهاد في سبيل الله لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة على البشرية، وللشهادة على الناس، وجعله ركناً عظيماً من أركان الإسلام الخمسة.
فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد، كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها؛ إيثاراً لما عند الله من الرضا والرضوان والجنان.
فما أعظم صبر المسلم على الصيام، وإمساكه عن الطعام والشراب، والرغائب والشهوات تتناثر من حوله، وألوان المغريات تهتف به، إن ذلك تربية للمسلم على تقديم أوامر الله على محبوبات النفس، وإعداد له للثبات أمام الأعداء في الخارج كما ثبت وقمع نفسه عن شهواتها في الداخل.
والصائم لصفاء روحه وقلبه أكثر الناس ذكراً، وأحسنهم توجهاً إلى ربه، وأقرب الدعاة استجابة، ولذلك جاء ذكر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصيام في القرآن كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 186].
وصلاح القلب واستقامته بإقباله بالكلية على ربه وأنسه به، ولما كان فضول الطعام والشراب، والكلام والمنام، وفضول مخالطة الأنام مما يقطعه عن ربه، ويزيده شعثاً، ويشتته في كل واد، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات التي تعوقه عن سيره إلى الله تعالى.
وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده عكوف القلب على الله، وجمعيته عليه والخلوة به، والانقطاع عن غيره.
(11/113)
وشرع للأمة حبس اللسان والجوارح عن كل ما لا ينفع في الآخرة، وشرع لهم قيام الليل، وتلاوة القرآن، الذين تحصل بهما منفعة القلب والبدن.
فما أعظم فضل شهر الصيام، وما أعظم أجر من صامه وقامه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه» متفق عليه(1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ، إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه» متفق عليه(2).
وقال صلى الله عليه وسلم : «فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبْوَابٍ، فِيهَا باب يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لا يَدْخُلُهُ إِلا الصَّائِمُونَ» متفق عليه(3).
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً.
4- فقه الحج
قال الله تعالى: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 97].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 197].
الحج ركن من أركان الإسلام، وهو مؤتمر المسلمين الجامع على مستوى العالم، الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام، متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام، عرايا من كل شيء إلا من ثوب غير مخيط يستر العورة، ولا يميز فرداً عن فرد، ولا قبيلة عن قبيلة، ولا جنساً عن جنس.
لهم نسب واحد هو الإسلام.. ولهم صبغة واحدة هي شعائر الإسلام وشرائعه وأخلاقه: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [البقرة: 138].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (38) واللفظ له، ومسلم برقم (760).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (37) واللفظ له، ومسلم برقم (759).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3257) واللفظ له، ومسلم برقم (1152).
(11/114)
وقد كانت قريش في الجاهلية تسمي نفسها الحُمس، ويتخذون لأنفسهم امتيازات تفرقهم عن سائر العرب، ومن ذلك أنهم لا يقفون مع سائر الناس في عرفات، ولا يخرجون من الحرم، ولا يفيضون مع الناس.
فجاءهم الأمر من الله ليردهم إلى المساواة التي أرادها الله، وإلى الاندماج الذي يلغي هذه الفوارق المصطنعة بين الناس، والتوبة من تلك الذنوب كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 198، 199].
فالعامة والخاصة، والأغنياء والفقراء، والذكور والإناث، والسادة والعبيد، كلهم جميعاً أمام أوامر الله سواء، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، يصلون كلهم جميعاً بلا استثناء، ويصومون معاً، ويمتثلون أوامر الله معاً في جميع شئون الحياة، ويطيعون الله ورسوله في كل أمر.
لقد كلفهم الإسلام أن يتجردوا في الحج من كل ما يميزهم من الثياب، ليلتقوا في بيت الله إخواناً مكرمين متساوين في الطاعة والعبودية:
رب واحد.. ودين واحد.. وكتاب واحد.. ورسول واحد.
(? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الحجرات: 13].
وقد جعل الله الكعبة البيت الحرام أول بيت وضعه الله للناس، يتعبدون فيه لربهم فتغفر أوزارهم، وتقال عثارهم، ويحصل لهم به من الطاعات والقربات ما ينالون به رضى ربهم، والفوز بثوابه، والنجاة من عقابه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 96، 97].
ففي حج هذا البيت بركات ومنافع دينية ودنيوية.. وفيه هدى للعالمين.
والهدى نوعان:
هدى في المعرفة.. وهدى في العمل.
فالهدى في العمل هو ما جعل الله فيه من أنواع التعبدات المختصة به، وأما هدى العلم فبما يحصل لهم بسببه من العلم بالحق، ومعرفة عظمة الرب وجلاله، ومعرفة حكمته وسعة علمه ورحمته، وما مَنّ به على أوليائه وأنبيائه.
(11/115)
وقد أوجب الله حج بيته الحرام على كل مسلم يستطيع الوصول إليه، وافتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت، وعظم شأنه بما يدعو النفوس إلى قصده وحجه وإن لم يطلب ذلك منها، فوصفه بخمس صفات:
أحدها: كونه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض.
الثاني: أنه مبارك، والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه، ولا أكثر خيراً منه، ولا أدوم ولا أنفع للخلائق منه.
الثالث: أنه هدى للعالمين في كل ما ينفعهم في الدنيا والآخرة.
الرابع: ما فيه من الآيات البينات والعبر العظيمة التي تزيد على أربعين آية.
الخامس: حصول الأمن لداخله، فالناس والوحوش والأشجار كلهم في أمان داخله.
ثم أتبع سبحانه ذلك بصريح الوجوب المؤكد، وذلك يدل على عناية الله بهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره وتعظيم من طاف به، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 26].
وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وساقت نفوسهم حباً له، وشوقاً إلى رؤيته.
فهذه المثابة للمحبين له يثوبون إليه، ولا يقضون منه وطراً أبداً، كلما ازدادوا له زيارة ازداد إيمانهم، وحسنت أخلاقهم، وازدادت أعمالهم الصالحة.
وكلما تكرر ذلك ازدادوا له حباً وإليه اشتياقاً، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 125].
هذا البيت الحرام الذي قام سدنته من قريش فروَّعوا المؤمنين وآذوهم وفتنوهم عن دينهم حتى هاجروا من جواره، لقد أراده الله مثابة يثوب إليه الناس جميعاً من أقطار الأرض كلها، فلا يروعهم أحد، بل يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم، فهو ذاته أمن وطمأنينة وسلام، ومن أَمَّهُ معظماً لربه فهو آمن، فليؤم الناس هذا البيت الذي يذكر بالله وشرعه وأنبيائه ورسله: (پ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [قريش: 3، 4].
(11/116)
وليقتدوا بأنبياء الله ورسله في عبادتهم لربهم، وإخلاصهم له، ويقينهم عليه، وفي دعوتهم إلى الله، وجهادهم في سبيله، وبذل ما يملكون في سبيل إعلاء كلمته، وإقامة شريعته، وفي حسن أخلاقهم، وكمال عبوديتهم.
فهؤلاء الذين اختارهم الله رسلاً إلى خلقه هم قدوة البشر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 90].
فهم أئمة الدعوة والعبادة، السابقون لها، الموفون حقها، فلذلك اختارهم الله من بين خلقه يبلغون شرعه، ويقتدى بهم في سيرتهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 73].
وسعادة الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم بالله وعبادته وحده لا شريك له، واجتماع كلمتهم على الحق والهدى، وبعدهم عن الفرقة والخلاف، وهذه من أَجَلِّ نعم الله على العباد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [آل عمران: 103].
وقد أرسل الله عزَّ وجلَّ نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم والعرب في خصام وتنافر، وتقاطع وتدابر، القلوب ملؤها الأضغان والأحقاد، والحروب بينهم متصلة، ونيرانها مشتعلة، يعبدون الأوثان، ويقترفون الآثام، ويظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق.
فأمر الله رسوله أن يؤلف بين القلوب، ويسلك بهم طريق التآلف والوئام، ولما كانت هذه الطريق غير كافية لانتظام شمل المسلمين، وتوحيد كلمتهم، وجعلهم كالرجل الواحد في الإلفة، إذ هم متفرقون في مشارق الأرض ومغاربها، كما أنهم مختلفون من جهة العناصر واللغات، لذا شرع الله لهم الحج ليجتمعوا في صعيد واحد على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وأقطارهم كما قال سبحانه: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [الحج: 27].
فإذا اجتمعوا من أماكنهم الشاسعة عند بيته العتيق حصل بينهم التعارف والتآلف تحت راية (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، واجتمعت كلمتهم على الحق والهدى، وتبادلوا في هذا اللقاء العظيم ما فيه مصالحهم الدينية والدنيوية، وعرف بعضهم أحوال بعض.
(11/117)
فنشأ من ذلك الزيارات النافعة في الدعوة والتعليم، والصدقات على الفقراء والمحتاجين، والتراحم والتناصر، والتعاون على البر والتقوى تحقيقاً لقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 2].
وقد شرع الله العبادات إظهاراً لحق العبودية، ولحق شكر النعمة، وفي الحج إظهار العبودية وشكر النعمة وحسن الطاعة.
أما إظهار العبودية فلأن إظهار العبودية هو إظهار التذلل للمعبود، وفي الحج ذلك؛ لأن الحاج في حال إحرامه، وطوافه وسعيه، ووقوفه بعرفات والمزدلفة ومنى، وغير ذلك من مناسك الحج يظهر عبوديته لربه بشعث حاله، وتنقله من مكان إلى مكان تنفيذاً لأوامر مولاه.
وفي حال وقوفه بعرفة بمنزلة عبد عصى مولاه، فوقف بين يديه متضرعاً منكسراً، حامداً له مثنياً عليه، مستغفراً لزلاته، مستقيلاً لعثراته.
وفي الطواف بالبيت يلازم المكان المنسوب إلى ربه، بمنزلة عبد معتكف على باب مولاه، لائذ بجنابه.
وأما شكر النعمة، فلأن العبادات بعضها بدنية، وبعضها مالية، والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال، فكان فيه شكر النعمتين، وشكر النعمة واجب عقلاً وشرعاً.
والحج مدرسة جامعة لكل خير، يتعود فيها المسلم على الصبر، ويتذكر فيها اليوم الآخر وأهواله، ويستشعر فيه لذة العبودية لله، ويعرف عظمة ربه وجلاله، وخضوع الخلائق بين يديه، وشدة حاجتهم إليه.
والحج موسم كبير لكسب الأجور، تضاعف فيه الحسنات، وتكفر فيه السيئات، يقف فيه الحاج بين يدي ربه مقراً بتوحيده، معترفاً بذنوبه، مقراً بعجزه عن القيام بحق ربه، ممتثلاً لأمر ربه، فيرجع من الحج نقياً من الذنوب كيوم ولدته أمه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ اُمُّهُ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1521) واللفظ له، ومسلم برقم (1350).
(11/118)
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق.. وألسنتنا من الكذب.. وأعيننا من الخيانة.. وجوارحنا من المعاصي.. إنك على كل شيء قدير.
8- فقه الذكر والدعاء
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ??) [الأحزاب: 41، 42].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [غافر: 60].
الذكر: هو أفضل العبادات، بل هو الغرض المقصود من العبادات كلها، فإنها ما شرعت إلا لتعين على ذكر الله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: (? ? ??) [طه: 14].
وقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 45].
وأنواع الذكر ثلاثة:
ذكر أسماء الله وصفاته، والثناء على الله بها، وتوحيده بها.. وذكر الأمر والنهي.. وذكر الآلاء والنعماء.
وقد وعد الله عزَّ وجلَّ بذكر من ذكره، ونسيان من ينساه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [البقرة: 152].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 67].
وبين الله صفة الذكر بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 205].
وذكر الله عزَّ وجلَّ هو ثمرة المعرفة بالله والإيمان به، وقد أمرنا الله بذكره دائماً حتى نطيعه ولا نعصيه، ونشكره ولا نكفره، ونحبه ونعظمه.
وطمأنينة القلب تحصل بذكر الله، فالذكر المستمر يملأ القلب إيماناً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
وكل عبادة لها وقت معين كالصلوات والصيام والحج ونحوها، أما الذكر فهو العبادة المفتوحة المشروعة في جميع الأوقات.
تسبيحاً لله، وتعظيماً له، وحمداً له، وتلاوة لكتابه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 36، 37].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أحْيَانِهِ. أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (373).
(11/119)
فالمسلم يذكر الله بلسانه نطقاً، ثم بقلبه اعتقاداً، ثم بعمله طاعة وامتثالاً لأوامر الله سبحانه.
والهدف من ذكر الله عزَّ وجلَّ هو إحياء جميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان بالله، وتوحيده، وحسن عبادته، والتزام شرعه، وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم . والذكر روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه.
والدعاء: هو العبادة.
والله عزَّ وجلَّ هو الحي القيوم، الملك الذي يملك كل شيء، الغني وما سواه فقير، يعطي ويمنع، ويكرم ويهين، ويحيي ويميت، ويعز ويذل.
وأعظم ما يسأل العبد ربه الهداية إلى الصراط المستقيم.
ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب، عَلّم الله عزَّ وجلَّ عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه، وتمجيده، ثم الإقرار بعبوديتهم وتوحيدهم له كما قال سبحانه: (پ پ پ پ? ? ?? ? ? ?? ? ? ? ?ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الفاتحة: 2-6].
فهاتان وسيلتان لحصول مطلوبهم لا يكاد يرد معهما الدعاء:
توسل إلى الرب بأسمائه وصفاته.. وتوسل إليه بعبوديته.
ثم جاء سؤال أهم المطالب وهو الهداية، فالداعي بذلك حقيق بالإجابة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 186].
والله تبارك وتعالى هو الملك العظيم الحي القيوم، الذي لا ينام ولا ينبغي أن ينام:
(11/120)
يجيب السائلين.. ويسمع الذاكرين.. ويغفر للمستغفرين.. ويتوب على التائبين.. وسع سمعه جميع المسموعات، ووسع بصره جميع المخلوقات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم(1).
وأنفع الدعاء طلب العون على مرضاة الله كما قال سبحانه: (? ? ? ?ٹ) [الفاتحة: 5].
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ ا? صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ وَا? إِنِّي لأَُحِبُّكَ وَا? إِنِّي لأَُحِبُّكَ فَقَالَ أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ وَأَوْصَى بِذَلِكَ مُعَاذٌ الصُّنَابِحِيَّ وَأَوْصَى بِهِ الصُّنَابِحِيُّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ» أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود(2).
والله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض، يسأله أولياؤه وأعداؤه، ويمد هؤلاء وهؤلاء، وأبغض خلقه عدوه إبليس، ومع هذا سأله حاجة وهي الإنظار إلى يوم القيامة فأعطاه إياها ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عوناً على مرضاة الله وطاعته كانت زيادة له في شقوته وبعده عن الله.
وهكذا كل من سأل ربه أمراً ولم يكن عوناً على طاعته كان مبعداً له عن مرضاته قاطعاً له عنه ولا بدَّ.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (179).
(2) صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (771)، صحيح الأدب المفرد رقم (533).
وأخرجه أبو داود برقم (1522)، واللفظ له، صحيح سنن أبي داود رقم (1347).
(11/121)
والعطاء والمنع ابتلاء من الله لعباده فلا يدل على الإكرام ولا الإهانة.
وإذا أعطى الله عبده عطاءً بلا سؤال فليسأله أن يجعله عوناً له على طاعته ومرضاته، ولا يجعله قاطعاً عنه، ولا مبعداً عن مرضاته.
والله تبارك وتعالى خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده كل شيء.
وسع الخلق كلهم بخلقه وعلمه ورزقه، وفضله ورحمته وإحسانه كما قال سبحانه: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلا تَظَالَمُوا.
يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ.
يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ.
يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ.
يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ.
(11/122)
يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم(1).
وأفضل الدعاء ما جمع بين التضرع والخفية، وإخفاء الدعاء أكمل إخلاصاً، وأعظم إيماناً، وأبلغ في التضرع والخضوع والخشية، وأعظم في الأدب والتوقير والتعظيم لله عزَّ وجلَّ، وأبلغ في جمعية القلب، وأدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل، والجوارح لا تتعب.
وإخفاء الدعاء يدل على قرب صاحبه من ربه، والله سميع قريب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 186].
وقد أمر الله عباده أن يسألوه كل شيء من خيري الدنيا والآخرة، فهو الغني الذي خزائنه مملوءة بكل شيء، ولا ينقص عطاؤه مما في خزائنه مثقال ذرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 68].
والاعتداء في الدعاء محرم لا يجوز كما قال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [الأعراف: 55].
والاعتداء في الدعاء له صور:
كأن يسأل العبد ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات.
أو يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء والمرسلين.
أو يسأل ما أخبر الله أنه لا يفعله لمنافاته الحكمة كأن يسأل ربه تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يطلعه على الغيب، أو يهب له ولداً من غير نكاح، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله، ولا يحب سائله.
ومن الاعتداء رفع الصوت بالدعاء، وأن يعبد الله بما لم يشرعه، أو يثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه، أو يدعوه غير متضرع إليه.
ومن الاعتداء أن يدعو مع الله غيره، فهذا أعظم المعتدين عدواناً، فإن أعظم العدوان الظلم والشرك، وهو وضع العبادة في غير موضعها.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).
(11/123)
فكل سؤال يناقض حكمة الله.. أو يتضمن مناقضة شرعه وقدره وأمره.. أو يتضمن خلاف ما أخبر به.. فذلك كله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله.
ومن دعا الله أجابه، وليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضياً عنه، ولا محباً له، ولا راضياً بفعله.
فالله سبحانه يجيب البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والمطيع والعاصي.
وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدي فيه، أو يشترط في دعائه، أو يكون مما لا يجوز أن يسأل، فيحصل له ذلك أو بعضه فيظن أن عمله صالح مرضي لله، ويكون بمنزلة من أملي له، وأمد بالمال والبنين، وهو يظن أن الله يسارع له في الخيرات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 55، 56].
فلا يغتر العبد بما يعطى من الأموال والبنين وهو معرض عن ربه، منهمك في معاصيه، فذلك استدراج، به هلاكه وخسارته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 44].
فالدعاء له حالتان:
إما أن يكون عبادة يثاب عليه الداعي كسؤال الله الإعانة والمغفرة ونحوهما، أو يكون مسألة تقضى به حاجته، ويكون مضرة عليه، إما أن يعاقب بما يحصل له، أو تنقص به درجته، فيقضي حاجته، ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه سبحانه، وتجاوز حدوده.
والشيطان له تلطف في الدعوة، فيدعو الناس إلى الدعاء عند قبور الصالحين، فيدعو العبد ربه عند القبر بحرقة وانكسار وذلة، فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه، لا لأجل القبر.
فإنه لو دعا الله في الخمارة والحمام والسوق أجابه، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيراً في إجابة تلك الدعوة، والله سبحانه يجيب دعوة المضطر ولو كان كافراً.
فالشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار، ثم ينقل الإنسان من الدعاء عنده إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، وأن هذا أبلغ في تعظيمه واحترامه، وأنجح في قضاء حاجته.
(11/124)
ثم ينقله إلى أعلى من ذلك، وهو دعاء الميت نفسه من دون الله، ثم ينقله إلى درجة أعلى فيتخذه وثناً يعكف عليه، ويتخذ عليه السرج، ويوقد عليه القناديل، ويبنى عليه المسجد، ويعلق عليه الستور، ويعبده بالسجود له، والطواف به، وتقبيله أو استلامه، والحج إليه، والذبح عنده.
ثم ينقله إلى درجة أخرى أشد، وهي دعاء الناس إلى عبادة هذا الوثن من دون الله، واتخاذه عيداً ومنسكاً، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، ثم ينقله إلى درجة أخرى، وهي محاربة ومعاداة من أنكر ذلك الشرك والكفر، وإثارة الناس والطغام عليه.
ولشدة خطر الشيطان، وعظمة كيده ومكره، فقد حذر الله المؤمنين منه بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 21].
وخطوات الشيطان يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب واللسان والبدن، فليحذر العبد هذا العدو المبين الماكر.
وإذا دعا المسلم ربه استجاب له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [غافر: 60].
ويمنع إجابة الدعاء أمور منها:
أكل الحرام.. الاعتداء في الدعاء.. غفلة القلب.. وضعف اليقين.. واللبس الحرام.. وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. والظلم.
فإذا دعونا دعاء الأنبياء، وكانت حياتنا حياة أعداء الأنبياء، أو جهدنا جهد أعداء الأنبياء، فأنى يُستجاب لنا أو يُقبل دعاؤنا؟.
وأفضل الدعاء وأعظمه وأحسنه طلب الهداية من الله، ولذلك شرع الله لنا تكرار طلبه في كل صلاة عدة مرات كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ?) [الفاتحة: 6].
وأفضل الدعاء دعاء الأنبياء والرسل، وكله ليس فيه طلب لعرض من أعراض هذه الأرض، إنه دعاء يتجه إلى آفاق أعلى، تحركه مشاعر أصفى، لطلب العلم النافع، والعمل الصالح، والفوز بالجنة والرضوان.
(11/125)
إنه دعاء القلب الذي عرف الله وعرف ما عنده فأصبح يحتقر ما عداه كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پپ پ پ ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ٹ ٹ ٹٹ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [الشعراء: 83-89].
وفي مقام آخر: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 127، 128].
والله تبارك وتعالى خلق الناس فقراء كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [فاطر: 15].
فالخلق كلهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه:
فقراء إلى الله في خلقهم، فلولا خلقه لهم لم يوجدوا.
فقراء إلى الله في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح.
فقراء إلى الله في إمدادهم بالأقوات والأرزاق، والنعم الظاهرة والباطنة.
فقراء إلى الله في جلب المنافع لهم، وصرف النقم والمكاره عنهم.
فقراء إلى الله في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم.
فقراء إلى الله في تألههم لله، وحبهم له، وعبادتهم إياه.
فالخلق كلهم فقراء إلى الله بالذات، فلو لم يوفقهم لهلكوا، ولولا توفيقه لم يصلحوا، والله وحده له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال ذاته وأسمائه وصفاته.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بسؤاله تارة.. وبسؤال أهل الذكر تارة.
فنسأل الله الهداية، وكل ما نحتاجه من خيري الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [غافر: 60].
ونسأل العلماء وأهل الذكر عما اختصهم الله به، وأئتمنهم عليه من أحكام الدين ومسائله في شعب الحياة كلها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 43].
وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نسأل الله، وبين كيفية السؤال.
(11/126)
فتارة يكون بصيغة الطلب كما قال صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» أخرجه الترمذي وابن ماجه(1).
وتارة يسأل بصيغة الخبر:
إما بوصف حاله كما قال موسى صلى الله عليه وسلم : (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [القصص: 16].
وإما بوصف حال المسؤول سبحانه، كما قال موسى صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 155].
وتارة بوصف حال الداعي والمدعو سبحانه، كدعوة ذي النون: (? ? ں ں ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 87].
وأكمل أنواع الطلب:
ما تضمن حال الداعي.. وحال المدعو.. والسؤال بالمطابقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ! إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا -(وَقَالَ قُتَيْبَةُ: كَثِيرًا) وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» متفق عليه(2).
وأمهات مطالب السائلين من رب العالمين أربع:
إما خير موجود.. فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه كالإيمان والأعمال الصالحة.
وإما خير معدوم.. فيطلب وجوده وحصوله كالوصول إلى الجنة.
هذا ما يتعلق بالخير.. أما الشر فنوعان:
شر موجود.. فيطلب من ربه رفعه كالذنوب والسيئات.
وشر معدوم.. فيطلب بقاءه على العدم، وأن لا يوجد.
وقد جاءت هذه المطالب كلها في قوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 193، 194].
فقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) لطلب دفع الشر الموجود، فإن الذنوب والسيئات شر.
وقوله: (? ? ??) لطلب دوام الخير الموجود وهو الإيمان.
فهذان قسمان:
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3513)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2789).
وأخرجه ابن ماجه برقم (3850)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3105).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705) واللفظ له.
(11/127)
ثم قال: (? ? ? ? ? ?) فهذا طلب الخير المعدوم أن يؤتيهم إياه.
ثم قال: (? ? ? ? ?) فهذا طلب ألا يوقع بهم الشر المعدوم.
وهذا غاية الحسن في الطلب، فقدم اللذين في الدنيا وهما المغفرة، ودوام الإسلام، ثم أتبعه بما في الآخرة أن يعطوا ما وعدوه، وأن لا يخزيهم يوم القيامة بدخول النار.
وما يحتاج العباد قسمان:
أحدهما: ما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا لا يطلب إلا منه سبحانه، فهو القادر عليه وحده دون سواه مثل:
غفران الذنوب.. وهداية القلوب.. وإنزال المطر.. وإنبات النبات.. وشفاء المرض.. ونحو ذلك من جلب المنافع.. ودفع المضار.
الثاني: ما يقدر عليه الناس، فيستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من النصر والعون، والبذل والعطاء، ونحو ذلك.
فالأول لا يطلب إلا من الله وحده، ومن طلبه من غيره فقد أشرك، والثاني يطلب من الله ومن غيره ممن يقدر عليه.
والمأمور به شرعاً سؤال الله تعالى، والرغبة إليه، والتوكل عليه وحده في جميع الأمور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِا?، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» أخرجه أحمد والترمذي(1).
وسؤال الخلق ما يستطيعونه من الحاجات في الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً.
وقال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [التوبة: 59].
وفي سؤال الخلق ثلاث مفاسد:
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (2669).
وأخرجه الترمذي برقم (2516)، صحيح سنن الترمذي رقم (2043).
(11/128)
الأولى: مفسدة الافتقار إلى غير الله، وهي نوع من الشرك.
الثانية: مفسدة إيذاء المخلوق، وهي نوع من ظلم الخلق.
الثالثة: مفسدة ذل العبد لغير خالقه، وهي ظلم للنفس.
والأمر في القرآن قسمان:
الأول: ما ورد بصيغة الأمر موجهاً من المخلوق إلى الخالق فهو دعاء؛ لأن المخلوق لا يأمر الخالق، بل يدعوه ويسأله كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ?) [الفاتحة: 6].
وقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 286].
الثاني: ما ورد بصيغة الأمر موجهاً من الخالق إلى المخلوق، فهذا أمر بطلب فعل أو طلب ترك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 31].
والله سبحانه محمود على كل حال فكل عطاء منه فضل، وكل عقوبة منه عدل، ومن تقرب إلى الله شبراً تقرب الله إليه ذراعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، والله أرحم بالعباد من الوالدة بولدها.
فإذا دعاه العبد ولم يستجب له فذلك لتفريط العبد وعدوانه، بأن لا يكون العمل الذي عمله صالحاً، أو يكون له من السيئات ما يؤخر الإجابة.
والعبد ظالم جاهل عجول، يعتقد أنه قد أتى بما يستوجب كمال التقريب، ولعل الذي أتى به إنما يستوجب اللعنة والغضب والحرمان، فهو بمنزلة من معه نقد مغشوش فجاء ليشتري متاعاً فلم يبيعوه، فظن أنهم ظلموه وهو الظالم، والله يقول: (? ? ? ? ? ں) [المائدة: 27].
والناس في تحصيل مرادهم بالأسباب والدعاء أربعة أقسام:
الأول: من فعل الأسباب التي نصبها الله مفضية إلى المطلوب، وسأل سؤال من لم يدل بسبب أصلاً، بل سؤال بائس ليس له حيلة ولا وسيلة، فهذا أعلم الخلق وأحزمهم وأفضلهم.
الثاني: من لم يفعل السبب، ولم يسأل ربه، فهذا أعجز الخلق وأمهنهم.
الثالث: من فعل الأسباب، وصرف همته إليها، وقصر نظره عليها، فهذا وإن كان له حظ مما رتبه الله عليها، لكنه منقوص، ولا يحصل له ما يريد إلا بجهد، فإذا حصل فهو سريع الزوال.
(11/129)
الرابع: من نبذ الأسباب وراء ظهره، وأقبل على الطلب والدعاء، فهذا يحمد في موضع، ويذم في موضع، ويشينه الأمر في موضع.
فيحمد إذا كانت الأسباب غير مأمور بها.. ويذم إذا كانت الأسباب مأموراً بها.. كمن جهده العطش وعنده الماء فيتركه ويقبل على الدعاء، ويسأل الله أن يرويه.. ويشينه الأمر في الأسباب التي لا يتبين له عواقبها.
والدعاء بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه لا بحده فقط، فمتى كان السلاح تاماً لا آفة به، والساعد قوياً، والمانع مفقوداً، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من الثلاثة تخلف الأثر.
والدعاء سلاح المؤمن ينفع مما نزل ومما لم ينزل.
وبقدر قوة اليقين على الله وأسمائه وصفاته، والاستقامة على أوامر الله، وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله، تكون إجابة الدعاء، وحصول المطلوب.
وأسباب إجابة الدعاء كثيرة أهمها:
الإخلاص لله عزَّ وجلَّ.. وأن يبدأ بحمد الله تعالى.. ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أول الدعاء وآخره.. وحضور القلب أثناء الدعاء.. وخفض الصوت بالدعاء.. والاعتراف بالذنب.. والاستغفار منه.. والاعتراف بالنعمة وشكر الله عليها.. والإلحاح في الدعاء.. وتكريره ثلاثاً.. وعدم استبطاء الإجابة.. والجزم في الدعاء مع اليقين بالإجابة.. وعدم الاعتداء في الدعاء، وأن لا يدعو بإثم ولا قطيعة رحم.
ومنها: أن يكون مطعمه ومشربه وملبسه حلال.. ولزوم التضرع والخشوع.. والطهارة من الحدث والخبث.. ورفع اليدين إلى المنكبين وبطونهما نحو السماء، وإن شاء قنع بهما وجهه وظهورهما نحو القبلة.. واستقبال القبلة أثناء الدعاء.. والدعاء في الرخاء والشدة.. والدعاء بالأدعية التي هي مظنة الإجابة كما ثبت.
فهذه ثلاثون سبباً لا بدَّ من العلم بها، والعمل بمقتضاها؛ ليتم حصول المطلوب للعبد عند سؤاله لربه، وقد جعل الله لكل شيء سبباً.
والدعاء من أقوى الأسباب في حصول المطلوب، ودفع المكروه، ولكن قد يتخلف عنه أثره لأسباب:
(11/130)
إما لضعفه في نفسه، بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان.
وإما لضعف القلب، وعدم إقباله على الله تعالى وقت الدعاء.
وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، والاستعجال، وتراكم الذنوب على القلب، والغفلة ونحو ذلك.
والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يمنع نزوله، ويرفعه إذا نزل أو يخففه.
وللدعاء مع البلاء ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون الدعاء أقوى من البلاء فيدفعه ويدمغه.
الثانية: أن يكون الدعاء أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء.
الثالثة: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه.
وأفضل أحوال الدعاء حالة إقبال القلب على الله عزَّ وجلَّ.
وإذا حصل الدعاء، فالله يعطي للعبد أحد خمسة أشياء:
إما أن يعطي السائل حالاً.. أو يؤخره ليكثر المسلم من البكاء والتضرع.. أو يعطيه شيئاً آخر أنفع له من سؤاله.. أو يدفع به عنه بلاء.. أو يؤخره إلى يوم القيامة أحوج ما يكون إليه العبد، فلا نستعجل: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 3].
والله سبحانه هو الغني لذاته، الكريم لذاته، له الجود كله، يحب أن يسأل ويطلب منه ويرغب إليه، فخلق من يسأله، وألهمه سؤاله، وخلق له ما يسأله إياه.
فهو سبحانه خالق السائل وسؤاله ومسئوله، وذلك كله لمحبته سؤال عباده له، ورغبتهم إليه، وطلبهم منه.
فأحب خلقه إليه وأفضلهم عنده أكثرهم سؤالاً له، وهو سبحانه يحب الملحين في الدعاء، وكلما ألح العبد عليه في السؤال أحبه وقربه، وأعطاه من خيري الدنيا والآخرة.
فكم سائل لله في العالم العلوي والسفلي؟.. وكم من سؤال سئل؟.. وكم من دعوة أجابها؟.. وكم عثرة أقالها؟.. وكم من رحمة أنزلها؟.. وكم من كربة كشفها؟.. وكم من جبار قصمه؟.. وكم من ذليل أعزه؟.. وكم من مريض شفاه؟.. وكم من جاهل علمه؟.. وكم من فقير أغناه؟.. وكم من سائل أعطاه؟.. وكم من ضال هداه؟.
فسبحانه ما أعظمه، وسبحانه ما أكرمه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [الرحمن: 29].
(11/131)
وسبحانه ما أوسع رزقه: «يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ» أخرجه مسلم(1).
فما أعظم جناية وعقوبة من كفر بالله، وأعرض عن دينه وشرعه، وحارب رسله وأولياءه، وما أشد ظلمهم، فماذا ينتظر هؤلاء من عذاب الله؟ وماذا أعد الله لهم من العذاب الأليم؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [الكهف: 29].
وقال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [النساء: 56].
فهل ذلك خير أم جنة الخلد التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الفرقان: 15، 16].
لهم فيها ما يشاؤون من المطاعم المتنوعة.. والمشارب اللذيذة.. والملابس الفاخرة.. والنساء الجميلة.. والقصور العالية.. والحلي الجميلة.. والمساكن الواسعة.. واللحوم اللذيذة.. والفواكه التي تسر ناظريها وآكليها.. وسرر مرفوعة.. وأكواب موضوعة.. ونمارق مصفوفة.. وزرابي مبثوثة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 25].
والأنهار تجري أمامهم في رياض الجنة، أنهار من ماء غير آسن.. وأنهار من لبن لم يتغير طعمه.. وأنهار من خمر لذة للشاربين.. وأنهار من عسل مصفى.. وروائح طيبة.. ومساكن مزخرفة.. وأصوات شجية تأخذ القلوب والألباب.. وأمن ونعيم وخلد.
وفوق ذلك كله التمتع بالنظر إلى وجه الرب الرحيم، وسماع كلامه، والحظوة بقربه، والسعادة برضاه.
هذا كله كان على ربك وعداً مسئولاً:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).
(11/132)
يسأله إياه عباده المؤمنون، ويسأله لهم ملائكته، والجنة تسأل ربها أهلها، وأهلها يسألونه إياها، والملائكة تسألها لهم، والرسل يسألونه إياها لهم ولأتباعهم.
ويوم القيامة يقيمهم سبحانه بين يديه، يشفعون فيها لعباده المؤمنين، ويسألونه أن يدخلهم إياها، ويأذن لهم بالتمتع بما فيها من النعيم.
وحينذاك يتفضل الرب بإجابة تلك السؤالات، ويأذن لهم بدخولها، ويقال لهم: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [ق: 34، 35].
ويقال لهم كذلك: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 70-72].
وفي هذا من تمام ملكه، وإظهار رحمته وإحسانه وجوده وكرمه، وإعطائه ما سئل، ما هو من لوازم أسمائه وصفاته، فهو الكريم المحسن إلى عباده، ذو الفضل العظيم والخير العميم.
فلا إله إلا الله.. أي جناية جنت العقول الفاسدة على الناس؟
وأي جريمة أوقعتها بالبشرية حين منعتهم من الإيمان؟.
وأي ظلم ظلمته البشرية حين حالت بين القلوب وبين معرفة ربها بأسمائه وصفاته وأفعاله، وحرفتهم عن عبادة الله، وحرمتهم من الوصول إلى الجنة دار رضاه.
فلله ما أشد جرم هؤلاء، وما أعظم خطرهم على البشرية، وما أشد عقوبتهم يوم القيامة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ??) [النحل: 88].
فسبحان العليم الحليم الكريم.. وسبحان من له الملك والحمد كله، فهو المحمود في ذاته، وهو الذي يجعل من يشاء من عباده محموداً، فيهبه حمداً من عنده.
وقد أنزل الله هذا القرآن العظيم لا ليقرر عقيدة فحسب، ولا ليشرع شريعة فحسب، ولكن كذلك ليربي أمة على أجمل الصفات وأحسنها.
(11/133)
فالله هو الذي أنزل الشريعة، وهو الذي يعلم حاجة العباد، فمن الأدب أن يترك العبيد لربهم تفصيل الشريعة وبيانها، وأن يتركوا له كذلك كشف هذا الغيب أو ستره، وأن يقفوا في هذه الأمور عند الحدود التي أرادها الله ولا يشددوا على أنفسهم بتكلف ما لا يعينهم، ولا يجرون وراء الغيب يحاولون الكشف عما لم يكشف الله لهم منه وما هم ببالغيه.
والله أعلم بطاقة البشر واحتمالهم، فيشرع لهم في حدود طاقتهم، ويكشف لهم من الغيب ما تدركه طبيعتهم.
وقد نهى الله المؤمنين عن أن يسألوا أشياء يسوؤهم الكشف عنها فقال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 101].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ» متفق عليه(1).
فالمعرفة في الإسلام تطلب لمواجهة حاجة واقعية في حياة البشرية، والأحكام الشرعية تطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام.
وفي طوال العهد المكي لم ينزل حكم شرعي تنفيذي، وإنما تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال، ولكن الأحكام العملية كالعبادات والمعاملات لم تنزل إلا بعد أن امتلأت القلوب بالإيمان، وجاء عند المسلمين الاستعداد لقبولها والعمل بها بعد الهجرة إلى المدينة.
وكذلك الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير والكفارات لم تنزل إلا بعد قيام الخلافة في الأرض، التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام بعد الهجرة إلى المدينة.
وجميع الأنبياء والرسل قدموا الشكوى إلى الله وحده، فنوح توجه إلى ربه يشكو إليه قومه: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ) [القمر: 10-13].
فأنجاه الله ومن آمن معه، وأغرق من كفر به.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7288)، ومسلم برقم (1337) واللفظ له.
(11/134)
وقال يعقوب صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يوسف: 86].
ويونس نادى ربه فأنجاه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 87].
والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ودعا ربه كما دعا في بدر فنزل النصر، وكما استسقى في المدينة فنزل الغيث.. وهكذا.
فهل يليق بالعاقل إذا أصابته مصيبة وأراد حلها أن يذهب للمخلوق الصغير الفقير الذي ليس بيده شيء، ويترك الخالق الغني الكبير الذي بيده خزائن كل شيء، وهذا المخلوق المسؤول من حاكم أو وزير أو تاجر ذرة من خزائنه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [التغابن: 11].
فسبحان الملك العزيز الجبار الغني الكريم، الذي فتح أبوابه للسائلين، وملأ خزائنه للعالمين، وهي مع جزيل العطاء لا تنقص إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجر: 21].
وقال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَه» أخرجه مسلم(1).
وسبحان الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً، الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وما في قعر البحر.
ويعلم منبت كل شعرة وحبة وشجرة، وكل زرع ونبات وثمرة، ويعلم كل ذرة وخردلة وورقة، وعدد كل كلمة ونفس، ويعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).
(11/135)
ويعلم ما في القلوب وما في الصدور، والسر والجهر، ويعلم أعمال العباد وحاجاتهم وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم، لا يخفى عليه شيء من ذلك: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 59].
فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم، الغني الحميد المجيد.
فهل يليق بالإنسان فضلاً عن العاقل، فضلاً عن المسلم أن يسأل غير الله الغني الحميد، ويقف بباب المخلوق العاجز الهزيل الضعيف؟.
فما أجهل وما أسفه من أعرض عن العلي العظيم، الغني الكريم، وتعلق وتضرع أمام العاجز الفقير: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 38].
إن كل من سأل أو دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك ظالم ضال، والعيان يصدق هذا، فإن المخلوقين إذا اشتكى إليهم الإنسان فضررهم أقرب من نفعهم؛ لما فيهم من الظلم والجهل والحسد.
فما أضل من يترك سؤال ربه ويدعو سواه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 12، 13].
والخالق جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره إذا اشتكى إليه أحد، أو أنزل حاجته به، أو استغفره من ذنوبه، أيده وقواه وهداه، وأعطاه وأغناه، ويسد فاقته وحاجته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 186].
فهو سبحانه وحده الذي يجيب المضطر الذي أقلقه الكرب، وتعسر عليه المطلوب، واضطر للخلاص مما هو فيه.
وهو سبحانه الذي يكشف السوء من شر وبلاء وفتنة ومصيبة، وهو الذي خلق الخلق، ومكنهم في الأرض، وأمرهم بالرزق: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النمل: 62].
أفلا يستحي الإنسان أن يسأل غير الله، والله قد أمره بسؤاله، وتكفل بإجابة دعائه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [غافر: 60].
والمخلوق إذا أنزل العبد به حاجته استرذله وازدراه، ثم أعرض عنه ونساه -وإن قضى له بعض حاجته- فخسر الدنيا والآخرة.
(11/136)
فما أعجب حال هؤلاء، وما أضل عملهم وسعيهم، وما أشد خسارتهم: (? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [الشعراء: 213].
فالله وحده هو الغني الحميد، وسؤال المخلوق للمخلوق هو سؤال الفقير للفقير، وتعلق الغريق بالغريق، والرب سبحانه كلما سألته كرمت عليه، ورضي عنك وأحبك.
والمخلوق كلما سألته هنت عليه، وأبغضك ومقتك وقلاك، وقبيح بالعبد الذي كفاه سيده أن يتعرض لسؤال العبيد، وهو يجد عند مولاه كل ما يريد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [آل عمران: 189].
وسؤال الناس ما في أيديهم محظور في الأصل، ولا يباح إلا لضرورة كإباحة الميتة للمضطر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الْمَسْألَةَ لا تَحِلُّ إِلا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْألَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْألَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ(أوْ قال سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ). وَرَجُلٌ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْألَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ(أوْ قال سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ) فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْألَةِ، يَا قَبِيصَةُ! سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» أخرجه مسلم(1).
فإن سأل الناس تكثراً فإنما يسألهم جمراً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ سَألَ النَّاسَ أمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْألُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أوْ لِيَسْتَكْثِرْ» أخرجه مسلم(2).
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بسؤاله ودعائه والاستعانة به، والتوسل إليه.
والتوسل إلى الله أنواع:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1044).
(2) أخرجه مسلم برقم (1041).
(11/137)
أحدها: التوسل بنعم الله تعالى على العبد كما قال يوسف صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يوسف: 101].
الثاني: التوسل إليه سبحانه بذكر أسمائه وصفاته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الْوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» أخرجه أبو داود والنسائي(1).
الثالث: التوسل بإقرار العبد بظلمه وعصيانه لربه، فهذا توسل بأحسن وسيلة، ويرجى له إجابة دعائه كما قال آدم وزوجه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [الأعراف: 23].
الرابع: التوسل بعرض فقره، وحاجته إلى ربه كما قال موسى صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ژ ژ) [القصص: 24].
والدعاء سلاح المؤمن يستخدم وقت الحاجة كالبطاقة.
فإبراهيم صلى الله عليه وسلم دعا حين ألقي في النار فأنجاه الله.
ويونس صلى الله عليه وسلم دعا ربه في بطن الحوت فأنجاه الله.
وأيوب صلى الله عليه وسلم دعا ربه حين مسه الضر فكشف الله ضره.
والله عزَّ وجلَّ أعطانا الإيمان نستفيد منه في الدنيا في قضاء الحاجات، والدعاء في الأصل ينبغي أن يكون لقضاء الحاجات الدنيوية والأخروية، وكل حاكم عنده سلاح مادي، ولكنه يتوقف أمام دعوة الأنبياء؛ لأنه مخلوق مع مخلوق عاجز، والداعي معه قدرة الله عزَّ وجلَّ، ومعيته التي تغنيه عما سواه.
ومقصد المسلم العبادة والدعوة، وهي تزيد بالجهد والعمل كالتجارة تزيد بالجهد والعمل، وحاجات الإنسان لا تزيد الأكل هو الأكل، والشرب هو الشرب، وبجهد الدعوة والدعاء تحصل الهداية ومعية الله.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (985)، صحيح سنن أبي داود رقم (869).
وأخرجه النسائي برقم (1301)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (1231).
(11/138)
وإذا كان عندنا ألفاظ الدعاء لا حقيقة الدعاء، وصورة العمل لا حقيقة العمل فالله لا يجيب دعاءنا، ونحن الآن بدل أن ندعو للكفار بالهداية ندعو عليهم بالهلاك، فتنزل العقوبة بنا؛ لأننا ظالمون بعدم إيصال الحق إليهم، الذي هو حق لهم، ولو بلغهم لأسلموا وعبدوا ربهم، وصاروا مسلمين بعد أن كانوا كافرين، وجزاء الظالم اللعنة والعقوبة في الدنيا والآخرة.
ودعاء المسلم ينقسم إلى قسمين:
الأول: دعاء العبادة، وذلك بأن تعبد الله بما تقتضيه أسماؤه وصفاته، فالرحيم مثلاً يدل على الرحمة، وحينئذ تتطلع إلى أسباب الرحمة وتفعلها.
والغفور يدل على المغفرة، وحينئذ تتعرض لمغفرة الله بالتوبة والاستغفار.
والقريب يدل على القرب، وذلك يقتضي أن تتعرض للقرب منه في الصلاة وغيرها.
والسميع يدل على السمع، وذلك يقتضي أن تعبد الله بمقتضى السمع، فلا تُسمع الله قولاً يغضبه ولا يرضاه منك.. وهكذا في بقية الأسماء.
الثاني: دعاء المسألة، وهو أن تقدم أسماء الله عزَّ وجلَّ بين يدي سؤالك متوسلاً بها إلى الله عزَّ وجلَّ، كأن تقول: يا رحمن ارحمني.. ويا رزاق ارزقني، ويا غفار اغفر لي.. وهكذا.
وفي هذا ثناء على الله، والتوسل بصفة المدعو سبب للإجابة.
هذا كله فيما يسأله العبد، أما ما يسأل عنه العبد، فالله عزَّ وجلَّ جواد كريم، رحيم بالعباد، أنعم على العباد بنعم لا تعد ولا تحصى، وأعظم هذه النعم هذا الدين الذي يسعدون به في الدنيا والآخرة، وسوف يسألهم الله عنه مَنْ قَبِله؟، ومن أعرض عنه؟.
ومن رحمته سبحانه بعباده أنه لم يجعل هذه الأسئلة مبهمة غير معلومة، بل بينها لنا في الدنيا لنجتهد ونعمل حتى نستطيع الإجابة عليها في مواطنها.
وهذه الأسئلة للعبد وردت في القرآن والسنة:
فيسأل العبد عن جوارحه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 36].
ويسأل عن النعيم الذي تنعم به كما قال سبحانه: (ہ ھ ھ ھ ھے) [التكاثر: 8].
(11/139)
ويسأل في قبره: من ربك؟.. من نبيك؟.. ما دينك؟.
ويسأل يوم القيامة عن أربع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاه» أخرجه الترمذي والدارمي(1).
ويسأل العبد من كان يعبد كما قال سبحانه: (چ چ ?? ? ? ? ? ? ?? ? ژ ژ ڑ ڑک) [الشعراء: 91-93].
ويسأل عن العبادة كما قال سبحانه: (? ہ ہہ) [القصص: 65].
ويسأل الرسول والمرسل إليهم ماذا عملوا كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ کک) [الأعراف: 6].
فيجب على المسلم أن يحاسب نفسه في الدنيا قبل أن يناقش الحساب في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 18].
والمسلم إذا أراد من ربه شيئاً فلا بدَّ له من أمرين:
الأول: فعل السبب المأمور به شرعاً، فمن أراد الولد تزوج، ومن أراد الحب زرع، ومن أراد الهداية فعل أسبابها.
الثاني: التوجه إلى الخالق بالدعاء لحصول ما يريد، وعدم الالتفات إلى المخلوق.
فإن حصل المطلوب وإلا أكثرنا من البكاء والدعاء والصلاة والصيام والصدقة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [غافر: 60].
والسؤال نوعان:
سؤال محمود.. وسؤال مذموم.
فالمحمود: هو سؤال الاسترشاد والتعليم، فهذا محمود قد أمر الله به كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ) [الأنبياء: 7].
والمذموم: هو سؤال التعنت والاعتراض، فهذا مذموم قد نهى الله عنه كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 101].
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2417)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1970).
وأخرجه الدارمي برقم (543)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (946).
(11/140)
والأسئلة متفاوتة بحسب نية صاحبها، وقد تصل به إلى الكفر كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [البقرة: 108].
وجميع الخلق يسألون الله مطالبهم، ويستدفعونه ما يضرهم، ولكن مقاصدهم تختلف:
فمنهم من يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته، وليس له في الآخرة من نصيب؛ لرغبته عنها، وقصر همته على الدنيا.
ومنهم من يدعو الله ويسأله لمصلحة الدارين كما قال سبحانه: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 200-202].
وكل من هؤلاء وهؤلاء لهم نصيب من كسبهم وعملهم، وسيجازيهم الله حسب نياتهم وأعمالهم جزاءً دائراً بين العدل والإحسان، يحمد عليه أكمل حمد وأتمه.
وإجابة الله عزَّ وجلَّ دعاء من دعاه ليست دليلاً على محبته له ورضاه عنه إلا في مهمات الدين، ومطالب الآخرة.
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد من رزق هني واسع حلال، وزوجة صالحة، وولد تقر به العين، وراحة، وعلم نافع، وعمل صالح، ونحو ذلك من المطالب المشروعة والمحبوبة والمباحة.
وحسنة الآخرة هي السلامة من العقوبات في القبر والموقف والنار، وحصول رضا الله، والفوز بالجنة، والقرب من الرحمن ورؤيته.
وهذا الدعاء أجمع الدعاء وأكمله، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به والحث عليه بقوله: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» متفق عليه(1).
وكل مطلوب للعبد يسأل بالمناسب له من أسماء الله وصفاته، فالعلم يسأل من العليم، والرزق من الرزاق، والعفو من العفو وهكذا.
ومن علم عبوديات الأسماء الحسنى والدعاء بها، وسر ارتباطها بالخلق والأمر، وبمطالب العبد وحاجاته عرف ذلك: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 180].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6389)، ومسلم برقم (2688).
(11/141)
وذِكرُ الله عزَّ وجلَّ جلاء القلوب وصقالها، ودواؤها إذا اعتلت، وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عباده، ما لم يغلقه العبد بغفلته.
ودوام ذكر العبد لربه لما كان سبباً لدوام المحبة، وكان الله أحق بكمال الحب والعبودية والتعظيم والإجلال كان كثرة ذكر الله من أنفع ما للعبد، وكان عدوه حقاً هو الصاد له عن ذكر ربه وعبادته، ولهذا أمر الله سبحانه بكثرة ذكره في القرآن كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ??) [الأحزاب: 41،42].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكراً لله عزَّ وجلَّ، فكان يذكر الله على كل أحيانه، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه، وكان أمره ونهيه ذكراً منه لله، وإخباره عن أسماء ربه وصفاته وأحكامه، وأفعاله، ووعده ووعيده ذكراً منه لربه، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وحمده وتسبيحه ذكراً منه له، وسؤاله ودعاؤه إياه، ورغبته ورهبته ذكراً منه له، وسكوته وصمته ذكراً منه له بقلبه.
وكان ذكر ربه يجري مع أنفاسه:
قائماً وقاعداً.. وفي مشيه وركوبه.. وفي إقامته وسفره.. وعند نومه واستيقاظه.. وفي حال صحته ومرضه.
ومن أفضل ذكره سبحانه ذكره بكلامه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
والله سبحانه رقيب على العباد، ناظر إليهم، سميع لأقوالهم، مطلع على أعمالهم في كل لحظة كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گگ) [الأحزاب: 52].
ومن راقب الله في خواطره، عصمه الله في حركات جوارحه وعلامة المراقبة:
إيثار ما أنزل الله.. وتعظيم ما عظم الله.. وتصغير ما صغر الله.
ولا بدَّ لكل إنسان من معرفتين:
أحدهما: معرفة العبد بربه.. والثانية معرفة العبد بنفسه.
فمن حصلت له هاتان المعرفتان كان أعظم الناس ذكراً لربه، ومحبة له، وإجلالاً له، وحمداً له.
والناس متفاوتون في هاتين المعرفتين:
(11/142)
فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق.. ومن عرف ربه بالعلم التام عرف نفسه بالجهل.. ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام.. ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة.
وحقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه، في كل وقت، وفي كل حال.
فالإيمان بالله ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره، هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، وحمده وشكره ومعرفته وتوحيده قرة عين الإنسان.
والدعاء مشروع أن يدعو الأعلى للأدنى، والأدنى للأعلى.
فالأول كما كان المسلمون يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ويطلبون منه الدعاء، فدعا لهم وأنزل الله الغيث.
والناس يوم القيامة يطلبون الشفاعة من الأنبياء لفصل القضاء.
وقال نوح صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [نوح: 28].
والثاني كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ ا?، وَأرْجُو أنْ أكُونَ أنَا هُوَ، فَمَنْ سَألَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ» أخرجه مسلم(1).
فالنبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من أمته أن يدعوا له كما أمرهم بسائر الطاعات التي يثابون عليها.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (384).
(11/143)
فالدعاء للغير ينتفع به الداعي، والمدعو له، وإن كان الداعي دون المدعو له، فدعاء المؤمن لأخيه ينتفع به الداعي والمدعو له، وهو من التعاون على البر والتقوى، فيثاب المأمور على فعله، ويثاب الآمر مثل ثواب الداعي لكونه آمره به كما قال صلى الله عليه وسلم : «دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأخِيهِ، بِظَهْرِ الْغَيْبِ، مُسْتَجَابَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لأخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ. وَلَكَ بِمِثْلٍ» أخرجه مسلم(1).
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالدعاء والاستغفار له ولأمته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 19].
9- فقه المعاملات
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 89].
وقال تعالى: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [النحل: 90].
الله تبارك وتعالى أكرم هذه الأمة بالدين الكامل الذي فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 3].
وأنزل الله عزَّ وجلَّ كتابه منهاجاً للبشرية كلها إلى يوم القيامة، ينظم حياة الإنسان من حين ولادته إلى أن يلقى ربه، وجاء الفقه الإسلامي بالسنن والآداب والأحكام التي تشمل حياة الإنسان في شعب الحياة كلها وفق منهج الله، يسعد بها الإنسان في حياته، وينال عليها الأجر بعد مماته.
ويمكن حصر هذه السنن والأحكام في ثماني شعب:
الشعبة الأولى: الأحكام المتعلقة بالتوحيد والإيمان، من معرفة الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة خزائنه، ومعرفة وعده ووعيده، ويسمى هذا الفقه الأكبر.
الشعبة الثانية: الأحكام المتعلقة بعبادة الله من وضوء وصلاة، وزكاة وصيام، وحج وتلاوة قرآن ونحوها، وتسمى هذه أحكام العبادات.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2733).
(11/144)
الشعبة الثالثة: الأحكام المتعلقة بالأخلاق والحشمة، والمحاسن والمساوئ ونحو ذلك، وتسمى هذه أحكام الآداب والأخلاق.
الشعبة الرابعة: الأحكام المتعلقة بأحوال الأسرة، من زواج وطلاق، وولادة ورضاع، ووصايا وأوقاف، ونفقة وإرث ونحو ذلك، وتسمى هذه أحكام الأسرة.
الشعبة الخامسة: الأحكام المتعلقة بأفعال الناس، ومعاملة بعضهم بعضاً، من بيع وشراء، ورهن وإجارة، وصلح ومشاركة، وقضاء دين، ونحو ذلك، وتسمى هذه أحكام المعاملات.
الشعبة السادسة: الأحكام المتعلقة بعقاب المجرمين، وحفظ الأمن، وحفظ الأنفس والأعراض والأموال ونحو ذلك، مثل عقوبة القاتل والسارق والزاني وشارب الخمر، وأحكام القصاص، ونحو ذلك، وتسمى هذه أحكام العقوبات والحدود.
الشعبة السابعة: الأحكام المتعلقة بواجبات الحاكم من إقامة العدل، ودفع الظلم، وتنفيذ الأحكام والدعوة والجهاد، ونحو ذلك.
وواجبات المحكوم من السمع والطاعة في غير معصية الله، ونحو ذلك، وتسمى هذه الأحكام الأحكام السلطانية.
الشعبة الثامنة: الأحكام المتعلقة بتنظيم علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى في حال الحرب والسلم كعقد الهدنة، وعقد الذمة، ونحو ذلك وتسمى السِّيَر.
إن الإسلام هو الدين الكامل الذي أكرم الله به البشرية، وبالإسلام تتحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، فالله عزَّ وجلَّ خلق هذا الكون، وجعل لكل مخلوق فيه سنة يسير عليها، وبها يتحقق مراد الله منه، ويؤدي العبودية المطلوبة منه وفق سنة الله ومشيئته.
فالشمس لها سنة تسير عليها.. والقمر له سنة.. والليل له سنة.. والنهار له سنة.. والنبات له سنة.. والحيوان له سنة.. والرياح لها سنة.. والولادة لها سنة.. والبحار لها سنة.. والإنسان كذلك مخلوق من مخلوقات الله، محتاج إلى سنة يسير عليها في جميع أحواله ليسعد في الدنيا والآخرة.
(11/145)
وهذه السنة هي الدين الذي أكرمه الله به، وشرعه له، ورضيه له، ولا يقبل منه غيره، وسعادته وشقاوته مرتبطة بمدى تمسكه به أو إعراضه عنه، وهو مختار في قبوله أو رده، متحمل لمسئولية اختياره: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [الكهف: 29].
إن الإسلام دين العبادات والمعاملات والأخلاق:
ينظم علاقة الإنسان مع ربه بالإيمان به، وتوحيده، وعبادته، وطاعة أمره، واجتناب نهيه، والتوجه إليه في جميع الأمور، ومحبته، والاستعانة به في جميع الأحوال.
وينظم علاقة الإنسان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بمحبته وطاعة أوامره، واجتناب ما نهى عنه، وتصديق ما جاء به، والاقتداء به في سائر أحواله.
ويوجه الإنسان للاستفادة من كتاب ربه، بالتأدب بآدابه، والتخلق بأخلاقه، والاتعاظ بمواعظه، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
وينظم الإسلام علاقة الإنسان مع غيره على أسس من العدل والإحسان.
كالأم والأب.. والزوجة والزوج.. والأولاد والبنات.. والأقارب والجيران.. والحاكم والمحكوم.. والمسلم والكافر وغيرهم.
وينظم الإسلام كذلك معاملات الإنسان المالية بكسب الحلال.. والسماحة في البيع والشراء.. والإنفاق في وجوه البر.. وتحري الصدق.. وتجنب الغش.. وتجنب الربا.. وتجنب الكذب.. وكيفية توزيع الأموال بالصدقات.. وقسمه المواريث، ونحو ذلك.
وينظم الإسلام كذلك حياة الإنسان الزوجية، وكيفية تربية الأولاد، وصيانة الأسرة من الفساد، وتربيتها على الفضائل.
وينظم حياة الرجل والمرأة، ويقرر الحقوق اللازمة لكل منها في حال السراء والضراء، وحال الغنى والفقر، وحال الصحة والمرض، وحال الحضر والسفر.
وينظم الإسلام سائر العلاقات على جسور متينة من الحب في الله، والبغض في الله، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، وجميل الصفات كالكرم والجود، والحياء والعفة، والصدق والبر، والعدل والإحسان، والرحمة والشفقة، والحلم والعفو، وغير ذلك من مكارم الأخلاق.
(11/146)
وينهى الإسلام عن كل شر وفساد، وعن كل ظلم وطغيان:
كالشرك، والقتل بغير حق، والكذب والكبر، والرياء والنفاق، والزنا والسرقة، والفواحش والآثام، والبغي والعدوان، والغش والخداع، والكيد والمكر، والنهب والاختلاس، والربا والخمر، والكهانة والسحر، وأكل أموال الناس بالباطل، والغيبة والنميمة والأذى والظلم، وقول الزور والبهتان، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [النحل: 90].
وينظم الإسلام بعد ذلك كله حياة الإنسان في الآخرة، وأنها مبنية على حياته في الدنيا، فمن جاء بالإيمان والأعمال الصالحة دخل الجنة، وسعد برؤية ربه، ونال رضاه، وتمتع في الجنة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، في نعيم كامل، وخلود دائم.
ومن جاء بالكفر والمعاصي دخل النار، ونال أشد العذاب.
فهذه شرائع الإسلام، وهذه سننه، وهذه آدابه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 13،14].
وهذا هو الدين الكامل الذي أرسل الله به رسوله إلى البشرية في مشارق الأرض ومغاربها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
والإسلام هو الدين الحق الذي يجب على كل مسلم ومسلمة اعتناقه، وألا يخسر دنياه وآخرته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [آل عمران: 85].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأَمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ، إِلا كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ» أخرجه مسلم(1).
والله سبحانه خلق الإنسان، وكرمه على سائر المخلوقات، وجعل له علاقة مع ربه، وعلاقة مع خلقه:
فعلاقته بربه تتم بواسطة العبادات، ولب العبادات توحيد الله، والإيمان به، وعبادته، وطاعته بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وذكره وحمده وشكره.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (153).
(11/147)
أما علاقة الإنسان بالخلق، فهي بواسطة المعاملات والمعاشرات والأخلاق، ويتم ذلك بثلاثة أشياء:
أداء الحقوق.. والإحسان إلى الناس ورحمتهم.. وكف الأذى عنهم.
فنمد أيدينا إلى الخالق وذلك هو العبادة، ونمد أيدينا الأخرى بالإحسان إلى الخلق وذلك هو الأخلاق.
فبالأولى نأخذ، وبالأخرى نعطي، وبطاعة الله وعبادته يكون العبد محبوباً عند الله وملائكته وخلقه، وبرحمة الناس، والإحسان إليهم يكون الإنسان محبوباً عند الناس، وعند رب الناس.
والأصل في جميع العقود والمعاملات إنما هو العدل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الحديد: 25].
فدين الله كله عدل وقسط في الأوامر والنواهي، وفي المعاملات والأخلاق، وفي الحقوق والحدود.
فالله أباح البيع لما فيه من العدل.. وحرم الربا لما فيه من الظلم.
وأمر بالنكاح الشرعي لما فيه من المصالح.. ونهى عن الزنا لما فيه من المفاسد.
وحث على الصدق لما فيه من الخير.. وحذر من الكذب لما فيه من الشر.
ورغب في الصدقة لما فيها من المنافع.. وزجر عن السرقة لما فيها من المضار.
(? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 105].
وأوامر الله عزَّ وجلَّ كلها عبادات، إذ لكل أمر سنة وثواب، فأحكام الطهارة والصلاة كأحكام الطعام والنكاح، كأحكام العقود والبيوع، كأحكام السلم والحرب، كبقية الأحكام التي شرعها الله.
كلها عبادة لله، وكلها دين الله، وكلها أوامر الله، وكلها شرع الله.
فالدين يتألف من هذه وتلك على السواء، وحكم هذه كتلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه.
وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع والعمل، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر، والدين لا يستقيم إلا بهما معاً، كلها عقود أمر الله المؤمنين بالوفاء بها، وكلها عبادات يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله، وكلها إسلام وإقرار من المسلم بعبوديته لله.
(11/148)
فجميع أوامر الله عزَّ وجلَّ شعائر وشرائع، كلها عبادات وفرائض وعقود مع الله، والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [البقرة: 85].
وقد وصف الله عزَّ وجلَّ أعمال الدين بالصالحات؛ لأن بها تصلح أحوال العبد، وأمور دينه ودنياه، وحياته الدنيوية والأخروية، ويزول بها عنه فساد الأحوال، فيكون بذلك من الصالحين:
الذين أصلح الله قلوبهم بمعرفته وحبه والإيمان به.
وأصلح ألسنتهم بالثناء عليه وذكره.
وأصلح جوارحهم بعبادته وطاعته.
وبذلك صلحوا لكرامته، وصلحوا لمجاورة الرحمن في جنته.
ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجات كما قال سبحانه: (? ?? ? ?? ? ? ??) [الواقعة: 10-12].
وكم لله من نعمة في بعثة رسوله الكريم بهذا القرآن العظيم الذي فيه تبيان كل شيء، فهو حجة الله على العباد كلهم، انقطعت به حجة الظالمين، وانتفع به المسلمون كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 89].
فصار هذا الكتاب المبارك هدى للمسلمين، يهتدون به إلى أمر دينهم ودنياهم، ورحمة ينالون بها كل خير في الدنيا والآخرة، وبشرى يبشرهم بكل خير ونعيم وسعادة في الدنيا والآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ??) [الكهف: 1-3].
والله تبارك وتعالى جواد كريم رؤوف بالعباد:
خلق الناس في أحسن تقويم.. وأسكنهم في الأرض.. ورزقهم من الطيبات.. وآتاهم من كل ما سألوه.. وجعل لهم العقول والأسماع والأبصار.. وأنزل عليهم كتبه.. وأرسل إليهم رسله.. وشرع لهم أفضل شرائع دينه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 164].
(11/149)
وهداهم إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة.. ودلهم على ما يحببهم إليه ويقربهم منه بعبادته وطاعته.. فأمرهم بكل خير.. وحذرهم من كل شر.. ووعدهم على ذلك الأمن والسعادة في الدنيا.. والجنة والرضوان في الآخرة كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 72].
وكلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، وذكره لله أكثر، وصار الواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على غيره.
ولهذا كان الواجب على الرسل أعظم من الواجب على أممهم.. والواجب على أولي العزم من الرسل أعظم من الواجب على غيرهم.. والواجب على العلماء أعظم من الواجب على من دونهم.. فكل أحد بحسب مرتبته.. ودرجته بحسب عمله.
والعبودية التامة امتثال أوامر الله في جميع أحوال الإنسان، وفي جميع شعب الحياة، على طريقة رسوله صلى الله عليه وسلم :
في الإيمان.. والعبادات.. والمعاملات.. والمعاشرات.. والأخلاق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 162،163].
والطريق إلى الله واحد وهو الإسلام، والإسلام جامع لكل ما يرضي الله، وما يرضي الله متعدد متنوع بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، ومن رحمة الله أن جعلها متنوعة جداً؛ لأختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ليسلك كل امرئ إلى ربه بعد أداء الفرائض طريقاً يناسب استعداده وقوته وقبوله، فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يسلكه إلى الله طريق العلم والتعليم، قد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، فلا يزال كذلك حتى يصل من تلك الطريق إلى الله.
ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى أدى ورده منها فهو في سرور وانشراح، ومتى قصر في ورده أظلم عليه وقته، وضاق صدره.
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، فهو يتلذذ بذكر الله في كل وقت، وقد جعله زاداً لمعاده، فمتى فتر وقصر رأى أنه قد غبن وخسر.
(11/150)
ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وإغاثة اللهفات، وتفريج الكربات، وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا، وسلك منه طريقاً إلى ربه.
ومن الناس من يكون طريقه الصوم يجد لذته به، ومتى أفطر تغير قلبه، وساءت حاله.
ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد فتح الله له فيه.
ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه تكرار الحج والعمرة.
ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق عن الخلائق، ودوام المراقبة لربه، وحفظ الأوقات.
ومن الناس السالك إلى الله في كل واد، الواصل إليه من كل طريق، فأين كانت مرضاة ربه، وأين كانت العبودية وجدته هناك.
إن كان علم وجدته مع أهله.. وإن كان جهاد وجدته مع المجاهدين.. أو صلاة وجدته مع المصلين.. أو ذكر وجدته في الذاكرين.. أو إحسان وجدته في زمرة المحسنين.. أو محبة أو مراقبة لله وجدته في المراقبين.. تَدَيَّن بدين العبودية، بروحه وقلبه وبدنه، ليس له مراد إلا تنفيذها، فهذا بأرفع المنازل.
وهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وكتابها أحسن الكتب وأعظمها وأحكمها وأبينها، وشريعتها أحسن الشرائع.
فالشرائع ثلاث:
شريعة عدل، وهي شريعة التوراة فيها الحكم والقصاص.
وشريعة فضل، وهي شريعة الإنجيل المشتملة على العفو ومكارم الأخلاق، والصفح والإحسان.
وشريعة عدل وإحسان، وهي شريعة القرآن التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من ربه، وقد جمعت بين العدل والإحسان، كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [النحل: 90].
والقرآن يذكر العدل ويوجبه، ويذكر الفضل ويندب إليه كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 40].
وبنو إسرائيل هم أولو العلم الأول، وأمة موسى أوسع علوماً ومعرفة من أمة المسيح كما قال سبحانه عن التوراة التي أنزلها على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 145].
(11/151)
ولهذا لا تتم شريعة المسيح إلا بالتوراة وأحكامها، فإن المسيح صلى الله عليه وسلم وأمته محالون في الأحكام عليها، والإنجيل كأنه مكمل لها متمم لمحاسنها، والقرآن جامع لمحاسن الكتابين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 48].
فالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الكمال.. وشريعته شريعة الكمال، وأمته أكمل الأمم، حرم الله عليهم كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع، وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم قبلهم، كما كمل لنبيهم صلى الله عليه وسلم بما فرقه في الأنبياء قبله، وكمل في كتابه من المحاسن بما فرقها في الكتب قبله، وكمل في شريعته من المحاسن بما فرقها في شرائع الأنبياء قبله، وجعلهم شهداء على الناس، فأقامهم مقام الأنبياء الشاهدين على أممهم: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 78].
10- فقه الحسنات والسيئات
قال الله تعالى: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [الأنعام: 160].
وقال تعالى: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 114].
الحسنة: هي ما يحسن لدى الإنسان مما يتلاءم مع مزاجه.
والحسنات قسمان:
أحدهما: حسنة سببها الإيمان والعمل الصالح، وتحصل بطاعة الله ورسوله.
الثاني: حسنة سببها الإنعام الإلهي على العبد بما يؤتيه الله من مال وولد وسلامة بدن.
والسيئة ضد الحسنة، وهي ما لا يحسن لدى الإنسان.
والسيئات قسمان:
أحدهما: سيئة سببها الشرك والمعاصي اللذان يورثان ظلمة وخبثا ً في النفس، وتحصل بمعصية الله ورسوله.
الثاني: سيئة سببها الانتقام أو الابتلاء الإلهي كالمرض وضياع المال، والجوع والقحط ونحو ذلك.
(11/152)
فالسيئة الأولى تنسب إلى العبد فاعلها؛ لأن الله لا يرضى لعباده الكفر، بل حذرهم منه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 31،32].
أما الحسنة بمعنى النعمة، والسيئة بمعنى النقمة، فكلاهما من عند الله؛ لأن الله يبلو عباده بما شاء ابتلاءً وانتقاماً ورفعة، تربية لعباده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 78].
والحسنة بمعنى الطاعة لله ورسوله لا تنسب إلا إلى الله، فهو الذي شرعها للعبد، وعلمه إياها، وأمره بفعلها، وأعانه عليها، وحببها إليه.
والسيئة بمعنى المعصية لله ورسوله، إذا فعلها العبد بإرادته واختياره مؤثراً المعصية على الطاعة فهذه السيئة تنسب للعبد فاعلها، ولا تنسب إلى الله؛ لأن الله لم يشرعها، ولم يأمر بها، بل حرمها وتوعد عليها.
وقد كشف الله ذلك وبينه بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 79].
وفي فعل الحسنات عدة فوائد:
الأولى: الفوز والفلاح كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 71].
الثانية: محبة الله ورسوله والمؤمنين له كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [البقرة: 195].
الثالثة: دخول الجنة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 26].
الرابعة: معية الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
الخامسة: القرب من رحمة الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 56].
السادسة: مضاعفة الأجر كما قال سبحانه: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 40].
السابعة: تكفير السيئات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 114].
الثامنة: جلب المحبة وإزالة العداوة كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [فصلت: 34،35].
(11/153)
قال تعالى: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 36-40]
قال تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 41-45].
والحسنات تعلل بعلتين:
أحدهما: ما تتضمنه من جلب المصلحة والمنفعة.
الثانية: ما تتضمنه من دفع المفسدة والمضرة.
كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 45].
فقوله: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) بيان لما تضمنته من دفع المفاسد والمضار، وقوله (ولذكر الله أكبر) بيان لما تضمنه من المنفعة والمصلحة.. وهكذا في جميع الحسنات.
والسيئات كذلك تعلل بعلتين:
إحداهما: ما تتضمنه من المفسدة والمضرة.
الثانية: ما تتضمنه من الصد عن المنفعة والمصلحة.
كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 91].
فقوله: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) بيان لما تتضمنه السيئات من حصول مفسدة العداوة والبغضاء، وقوله: (? ? ? ? ? ? ?) بيان لما تتضمنه من المنع من المصلحة التي هي رأس السعادة، وهي ذكر الله والصلاة.
والله تبارك وتعالى مالك الملك، وله الخلق والأمر، فلا يكون في ملكه إلا ما يريد.. فالحسنات من عطائه.. والسيئات من قضائه.. فهو سبحانه لا يطاع إلا بإذنه، ولا يعصى إلا بعلمه، الطاعات بإذنه والمنة لله، والمعاصي بتقديره والحجة له.
والسيئات قسمان:
صغائر.. وكبائر.
فالكبائر والصغائر تكفرها التوبة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [الأنعام: 54].
وتكفير الصغائر بشيئين:
الحسنات الماحية.. واجتناب الكبائر.
(11/154)
فالأول: كما قال سبحانه: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 114].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الصَّلاةُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ» أخرجه مسلم(1).
والثاني: كما قال سبحانه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?ں) [النساء: 31].
وحبوط الحسنات والسيئات نوعان:
حبوط عام.. وحبوط خاص.
فالعام: حبوط الحسنات كلها بالردة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [البقرة: 217].
وحبوط السيئات كلها بالتوبة كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 53].
والخاص: حبوط الحسنات والسيئات بعضها ببعض، وهذا حبوط مقيد جزئي كما قال سبحانه: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 114].
والكفر والإيمان كل منهما يبطل الآخر ويذهبه، وشعبة واحدة منهما لها تأثير في إذهاب بعض شعب الآخر، فإذا عظمت الشعبة ذهب في مقابلها شعب كثيرة، والمعاصي كلها بالنسبة إلى الجرأة على الله ومخالفة أمره كبيرة، لما فيها من التوثب على حق الرب، والاستهانة بأمره، وانتهاك حرماته.
وإذا عمل المؤمن سيئة فسوف يجازى عليها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [النساء: 123].
وتندفع عقوبة السيئة عن المؤمن بما يلي:
إما أن يتوب فيتوب الله عليه.. أو يستغفر فيغفر الله له.. أو يعمل حسنات تمحوها.. أو يدعو له إخوانه المؤمنون.. أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به.. أو يبتليه الله في الدنيا بمصائب تكفر عنه.. أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه.. أو يبتليه في عرصات القيامة بما يكفر عنه.. أو يشفع فيه نبيه صلى الله عليه وسلم .. أو يرحمه أرحم الراحمين.. والله غفور رحيم.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (233).
(11/155)
والحسنات تزيد الإيمان، وتزيد نور القلب، والسيئات تنقص الإيمان، وتطفئ نور القلب، والمعاصي للإيمان كالأمراض للبدن سواء بسواء.
وفي اجتناب المعاصي والسيئات عدة فوائد:
الأولى: صون النفس وحفظها وحمايتها عما يشينها ويعيبها ويزري بها، عند الله وملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه.
فمن كرمت عليه نفسه وكبرت صانها وحماها، ومن هانت عليه نفسه، وصغرت عنده ألقاها في الرذائل.
الثانية: توفير الحسنات، ففي اجتناب السيئات توفير الحسنات، وذلك من وجهين:
أحدهما: توفير زمانه على اكتساب الحسنات، فإنه إذا اشتغل بالقبائح نقصت عليه الحسنات التي كان مستعداً لتحصيلها.
الثاني: توفير الحسنات المفعولة عن نقصانها، فكما أن الحسنات يذهبن السيئات، فكذلك السيئات قد تحبط الحسنات، وقد تستغرقها بالكلية أو تنقصها، فتجنبها يوفر ديوان الحسنات.
الثالثة: كسب مودة الخلق، وذلك بملاطفتهم ومعاملتهم بما يجب أن يعاملوه به من اللطف، ولا يعاملهم بالشدة والغلظة والعنف، فإن ذلك ينفرهم عنه، ويغريهم به، ويفسد عليه قلبه وحاله مع الله.
فليس للقلب أنفع من معاملة الناس باللطف، فالناس إما أجنبي فتكسب مودته ومحبته، وإما صاحب وحبيب فتستديم صحبته ومودته، وإما عدو ومبغض فتطفئ بلطفك جمرته، وتستكفي شره.
الرابعة: مراقبة الله سبحانه، وهي الموجبة لكل صلاح وخير عاجل وآجل، ولا يصح ما قبلها إلا بهذه، وهي المقصود لذاته، فمراقبة الحق سبحانه توجب إصلاح النفس، واللطف بالخلق، ورحمتهم، والصبر على أذاهم.
والناس متفاوتون في العلم والعمل، والسؤال والهمم: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 200،201].
والحسنة المطلوبة في الدنيا:
هي كل ما يحسن وقعه عند العبد من رزق هني واسع حلال، وزوجة صالحة، وأولاد تقربهم العين، وراحة من الهم والكد، وعلم نافع، وعمل صالح، ونحو ذلك من المطالب المحبوبة والمباحة.
وحسنة الآخرة:
(11/156)
هي الفوز بالنعيم المقيم، وحصول رضا الله، والقرب من الرب الكريم، والسلامة من العقوبات في القبر والموقف والنار.
فقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 201].
هذا أجمع دعاء وأكمله وأفضله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به.
والله غني كريم يضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ويجزي السيئة بمثلها أو يعفو.
قال الله تعالى: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [الأنعام: 160].
وقال تعالى: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [البقرة: 261].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 245].
والله عزَّ وجلَّ يبتلي عباده بالعسر واليسر، والحسنات والسيئات، والرخاء والشدة، لعلهم يتوبون ويرجعون إلى ربهم كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [الأعراف: 168].
ولا يستوي فعل الحسنات والطاعات لأجل رضا الله تعالى، ولا فعل السيئات والمعاصي التي تسخطه، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق ولا الإساءة إليهم كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [فصلت: 34،35].
والتي هي أحسن إذا أساء إليك مسيء من الخلق بالقول أو الفعل فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فصله، وإن ظلمك فاعف عنه، وإن أساء إليك فأحسن إليه، وإن حرمك فأعطه.
فإذا قابلت الإساءة بالإحسان حصلت لك ولغيرك فوائد عظيمة، فإن مقابلة المسيء بجنس عمله لا يفيده شيئاً، ولا يزيد العداوة إلا شدة، والإحسان للمسيء يقلب العداوة صداقة.. والبغض محبة، ويعطف القلوب على من عادَتْه، ويحركها للاعتذار والندم.
والحسنة كما أنها تذهب السيئة فكذلك الحسنة تجلب الحسنة بعدها، فكل من يصلي تجده يقرأ القرآن، ويصلي النوافل، ويذكر الله، ويصوم ويتصدق ويحسن إلى الناس.. وهكذا..
(11/157)
وكما أن السيئة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب فكذلك السيئة تجلب أخواتها من السيئات، فالشيطان ينقل العاصي من الصغيرة إلى الكبيرة ومن الغيبة، إلى قول الزور، إلى التهاون في الصلاة، إلى إضاعة الصلاة واتباع الشهوات، إلى محبة المحرمات ثم فعلها، ثم دعوة الناس إلى فعلها وهكذا.
فالشيطان صد كفار مكة عن الإيمان بالرسول، ثم زين لهم الاستهزاء به ومن معه، ثم زين لهم أذى من آمن به لعلهم يرجعون عنه، ثم زين لهم الصد عن الدين الذي جاء به، ثم زين لهم إخراج الرسول وقتله، ثم ساقهم إلى مصارعهم كفاراً يحاربون الله ورسوله فخسروا الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [الأنفال: 36].
فالله ورسله وأنبياؤه وأتباعهم يدعون إلى فعل الحسنات وترك السيئات، وبذلك تحصل السعادة للبشرية في الدنيا والآخرة.
وشياطين الجن والإنس وأتباعهم يدعون إلى فعل السيئات وترك الحسنات، ويخدعون الناس بالشهوات لتحل بهم العقوبات (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [البقرة: 221].
وقد وعد الله كل من أحسن وأتى بالحسنات في الدنيا أن يرزقه الحسنى يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 26].
ومن أساء اسود وجهه، وأصابه الذل، والعذاب في الدنيا والآخرة: كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 27].
وما خطا عبد خطوة إلا كتبت له حسنة أو سيئة بحسب نيته.
كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يس: 12].
والحسنات تحصل للعبد من ثلاث جهات:
فعل الطاعة.. والفرح بها.. وتهيئة الفرصة لحصولها.
كأن يصلي مثلاً، ويفرح بأداء الصلاة، ويهيئ الفرصة للمصلين.
والسيئات كذلك تحصل للعبد من ثلاث جهات:
فعل المعصية.. والفرح بها.. وتهيئة الفرصة لحصولها.
كأن يشرب الخمر مثلاً، ويفرح بذلك، ويهييء الفرصة لمن يشرب الخمر.
(11/158)
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة.. وفي الآخرة حسنة.. وقنا عذاب النار.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا.. وإسرافنا في أمرنا.. وكفر عنا سيئاتنا.. وتوفنا مع الأبرار.
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الثاني عشر ... 2
فقه الشريعة ... 2
1- فقه الحق والباطل ... 2
2- فقه العدل والظلم ... 22
3- فقه الأمر والنهي ... 33
4- فقه النفع والضر ... 45
5- فقه الحلال والحرام ... 50
6- فقه السنن والبدع ... 65
7- فقه العبادات ... 75
1- فقه الصلاة ... 86
2- فقه الزكاة ... 100
3- فقه الصيام ... 108
4- فقه الحج ... 116
8- فقه الذكر والدعاء ... 121
9- فقه المعاملات ... 145
10- فقه الحسنات والسيئات ... 154
(11/159)
موسوعة فقه القلوب (13)
الباب الثالث عشر
فقه الطاعات والمعاصي
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثالث عشر
فقه الطاعات والمعاصي
1- مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي
قال الله تعالى: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الفتح: 17].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 116].
الناس متفاوتون في أفكارهم وأعمالهم، مختلفون في مقاصدهم ونياتهم، والقلوب جوالة، منها ما يطوف حول العرش، ومنها ما يطوف حول الحش.
فمن استنار بنور الوحي أضاء له في الدنيا والآخرة، فأبصر الطريق إلى الله، وعرف هداه، وسار إلى ربه على هدى رسوله.
فهذا على صراط مستقيم، الله مولاه، وله الجنة يوم يلقاه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چچ) [فصلت: 30-32].
ومن استكبر عن الحق أو ضل عنه فهو في الظلمات في الدنيا والآخرة، وأنى يبصر الطريق بلا هدى، فهو يتخبط في الظلمات، ويجمع من المعاصي والسيئات ما يعذب به في جهنم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 72].
فهذا سائر إلى النار، وقادم على ما عمل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 14].
فالناس متفاوتون أعظم تفاوت في إرادتهم وشهواتهم، وفي أعمالهم ومقاصدهم.. وفي ثوابهم وعقابهم، وذلك بحسب علمهم وجهلهم.
وبحسب إيمانهم وكفرهم.
ولو شاء الله لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الحق والهدى، فإن مشيئته مطلقة، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولكن حكمته سبحانه اقتضت أن خلقه لا يزالون مختلفين، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق فيما يقوله ويفعله، والضلال في قول غيره إلا من رحم الله، فهداهم الله إلى العلم بالحق والعمل به، والإنفاق عليه، والدعوة إليه، فهؤلاء الناجون، وأولئك الهالكون.
(12/1)
ولذلك خلقهم الله ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد عدل الله وحكمته.. وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر.. وليقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [هود: 118،119].
فالناس في معرفة الحق، وفي قبوله ورده متفاوتون، وفي الطاعات والمعاصي التي يفعلونها بإرادتهم مختلفون، وفي شهود المعاصي التي تجري عليهم أحكامها بإرادتهم وشهواتهم متفاوتون أعظم تفاوت، وجماع ذلك في المشاهد الآتية:
الأول: مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة.
فهذا مشهد الجهال الذين لا فرق بينهم وبين الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان، فهؤلاء نفوسهم حيوانية، لم تترق عنها إلى درجة الإنسانية، فضلاً عن درجة الملائكة.
فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر، وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها.
فمنهم من نفسه كلبية، لو صادف جيفة تُشبع ألف كلب لوقع عليها، ونبح كل مخلوق يدنو منها، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة، همه شبع بطنه من أي طعام حصل له طيب أو خبيث، حلال أو حرام، (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [محمد: 12].
ومنهم من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف، كلما زيد في علفه زيد في كده، أبكم الحيوان، وأقله بصيرة.
ومنهم من نفسه سبعية، همه العدوان على الناس، وقهرهم بما وصلت إليه قدرته.
ومنهم من نفسه فأرية، فاسق بطبعه، مفسد لما جاوره.
(12/2)
ومنهم من نفسه على نفوس ذوات السموم كالحية والعقرب ونحوهما، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه، فيدخل الرجل القبر، ويدخل الجمل القدر، فهذه النفوس الخبيثة سواء رأت أو علمت إذا تكيفت بكيفية غضبية مع شدة حسد وإعجاب، وصادفت المعين على غرة وغفلة لدغته كالحية وأهلكته، نعوذ بالله من شرها: (? ? ? ? ?? چ چ چ چ ??) [الفلق: 4،5].
ومن الناس من طبعه طبع خنزير، يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قَمَّه، وهكذا كثيراً من الناس يسمع ويرى المحاسن من أخيه فلا ينشرها، ويرى المساوئ فيجعلها فاكهته.
ومن الناس من هو على طبيعة الطاووس، ليس له هم إلا التطوس والتزين بالريش لا غير، أما زينة قلبه بالإيمان، وجوارحه بالأعمال، ولسانه بذكر الله فهو غافل عنه، غره الشيطان فتزين للمخلوق، ولم يتزين لخالقه.
ومنهم من هو على طبيعة الذرة، أجمع الخلق مالاً، وأقلهم أعمالاً.
ومنهم من هو على طبيعة الجمل، أحقد الحيوان، وأغلظه كيداً.
ومنهم من هو على طبيعة الدب، أبكم خبيث.
ومنهم من هو على طبيعة القرد، يفسد كل ما تصل إليه يده.
ومنهم من هو على طبيعة الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوساً، وأكرمها طبعاً.
ومنهم من هو على طبيعة الديك، يؤذن بالخير في كل مكان، ويؤثر غيره بما تحبه نفسه.
ومنهم من هو على طبيعة الثعلب، يروغ في معاملاته كما يروغ الثعلب.؟
ومنهم من هو على طبيعة الغنم، حيث السكينة والتواضع.
ومنهم من هو على طبيعة البقر، مهتم بنفسه، غافل عن غيره، وعن مصيره.
وهكذا.. وكل من ألف ضرباً من هذه الحيوانات، اكتسب من طبعه وخلقه، فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى وأظهر.
الثاني: مشهد الحكم القدري.
(12/3)
وهؤلاء يعصون الله، ويشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم، وأنها واقعة بغير قدرتهم، وأن الفاعل غيرهم، والمحرك سواه، فلا ينسبون إلى أنفسهم فعلاً، ولا يرون لها إساءة، ويزعمون أن هذا هو التحقيق والتوحيد، وربما زادوا على ذلك، فيرى أحدهم نفسه مطيعاً من وجه، وإن كان عاصياً من وجه آخر لموافقته المشيئة والقدر.
فيقول: كما أن موافقة الأمر طاعة، فكذلك موافقة المشيئة طاعة، وأنا مطيع لإرادة الله ومشيئته، وإن كنت عاصياً لأمره.
وهؤلاء أعداء الله حقاً، وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه، وشر خلق الله، وأصحاب المشهد الأول خير منهم.
وهذا المشهد بعينه هو المشهد الذي شهده المشركون عباد الأصنام، ووقفوا عنده: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 35].
وهو كذلك مشهد إبليس الذي انتهى إليه حين قال ربه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک ک ک ک گگ) [الحجر: 39،40].
الثالث: مشهد الطبيعة البشرية.
وعند هؤلاء أن الإنسان العاقل متى كان له وازع من نفسه لم يحتج إلى أمر غيره ونهيه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 50].
الرابع: مشهد الفعل الكسببي القائم بالعبد فقط.
فلا يشهد إلا صدوره عنه، وقيامه به، ولا يشهد مع ذلك مشيئة الرب له، ولا جريان حكمه القدري به، ولا عزة الرب في قضائه ونفوذ أمره في خلقه.
فهذا المشهد وإن كان صحيحاً نافعاً له، حيث يرى الذنب والعيب من نفسه وأنه مستحق للعقوبة والنكال، وأن الله سبحانه إن عاقبه فهو العادل فيه، وأنه هو الظالم لنفسه، وهذا كله حق لا ريب فيه، لكن صاحبه ضعيف مغلوب على نفسه غير معان عليها، بل هو معها كالمقهور المخذول.
فإنه لم يشهد عزة ربه في قضائه وقدره، ونفوذ أمره الكوني ومشيئته، وأنه لو شاء لعصمه وحفظه، وأنه لا معصوم إلا من عصمه الله، ولا محفوظ إلا من حفظه.
(12/4)
ولم يشهد أنه هو محل جريان أقضيته وأقداره سبحانه، مسوق إليها في سلسلة إرادته وشهوته، وأن تلك السلسلة طرفها بيد غيره، فهو سبحانه القادر على سوقه فيها إلى ما فيه صلاحه وفلاحه، وإلى ما فيه هلاكه وشقاؤه.
فهو لغيبته عن هذا المشهد، وغلبة شهود المعصية والكسب على قلبه لا يعطي التوحيد حقه، ولا الاستغاثة بربه، ولا الافتقار إليه حقه.
فهو سبحانه خالق كل شيء، ورب كل شيء، لا ملجأ منه إلا إليه..
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» أخرجه مسلم(1).
الخامس: مشهد الحكمة.
وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة، وهؤلاء يشهدون أن الله لم يخلق شيئاً عبثاً ولا سدى، وأن له الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه، من خير وشر، وطاعة ومعصية.
وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئة الله وقدره، وأن لله في ظهور المعاصي والجرائم حكم وأسرار، يترتب عليها ما هو أحب إليه وآثر عنده من قوته بتقدير عدم المعصية.
فصاحب هذا المشهد يرى حكمة الله في تخليته بينه وبين الذنب، واقتداره عليه، وتهيئة أسبابه له، وأنه لو شاء عصمه وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا الله.
فهو سبحانه يحب التوابين، فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب، ثم إذا كان ممن سبقت له الحسنى قضى له بالتوبة.
وليعرف العبد عزة ربه في قضائه ونفوذ مشيئته، وجريان حكمه.
وليعرف حاجته إلى حفظ ربه، وأنه إن لم يحفظه فهو هالك.
وليستجلب من عبده استعانته به، والتضرع إليه، والاستعاذة به من شر نفسه وشر عدوه.
وإرادته من عبده تكميل مقام الذل والانكسار له، فإنه متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه، وظن أنه وأنه، فإذا ابتلاه ربه بالذنب تصاغرت نفسه وذلت.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (486).
(12/5)
وتعريف عبده بحقيقة نفسه، وأنها الخطاءة الجاهلة، وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير فمن الله مَنَّ به عليه لا من نفسه.
وليعلم العبد سعة حلمه وكرمه في ستره عليه، فإنه لو شاء لعاجله على الذنب، ولهتكه بين عباده، فلم يصف له معهم عيش.
وليعلم أنه لا طريق إلى الجنة إلا بعفو ربه ومغفرته، وتعريفه كرمه في قبول توبته، ومغفرته له على ظلمه وإساءته، وإقامة الحجة عليه، فإن عذبه فَبِعَدْله، وإن أكرمه فبفضله.
ولأجل أن يعامل الناس عند إساءتهم إليه بما يجب أن يعامله الله به.
وأن يخلع سبحانه صولة الطاعة والإحسان من قلب عبده، فتتبدل برقة ورأفة ورحمة، وأن يعرى عبده من داء العجب بعلمه وعمله، وأن يعريه من لباس الكبر، ويلبسه لباس الذل الذي لا يليق بالعبد سواه.
وأن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم.
وأن يعرف العبد مقداره مع معافاته، وفضله سبحانه في توفيقه وعصمته، فمن تربى في العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى، ولا يعرف مقدار العافية.
وأن يستخرج من عبده محبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه.
والعبد إذا شهد إساءته وظلمه استكثر القليل من نعمة الله عليه، لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير على مسييء مثله، فهو دائماً مستقل لعمله كائناً ما كان.
والذنب يوجب للعبد اليقظة والحذر من مصايد عدوه ومكايده.
وقد تكون في القلب أمراض مزمنة لا يشعر بها فيطلب دواءها، فيمنّ الله عليه، ويقضي عليه بذنب ظاهر فيجد ألم مرضه، فيحتمي ويشرب الدواء النافع فتزول تلك الأمراض التي لم يكن يشعر بها.
وبالذنب يذيقه ألم الحجاب والبعد بارتكاب الذنب، ليكمل له نعمته وفرحه وسروره إذا أقبل بقلبه إليه، وأقامه في طاعته، فتكون لذته بذلك بعد أن صدر منه ما صدر بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب الزلال، وأن لطف الرب وبره وإحسانه بعبده ليبلغ أكثر من هذا.
(12/6)
والمعاصي والذنوب فيها امتحان واختبار للعبد.. هل يصلح لعبودية الله وولايته أم لا؟.
فإذا وقع في الذنب سلب حلاوة الطاعة والقرب، ووقع في الوحشة.
فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة، فحنت وأنت وتضرعت، واستعانت بربها ليردها إلى ما عودها من بره ولطفه.
وإن ركنت عنها، واستمر إعراضها، ولم تحن إلى مألوفها الأول، ولم تحس بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها علم أنها لا تصلح لله عزَّ وجلَّ.
وإذا أذنب العبد أنساه الله رؤية طاعته، وأشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نصب عينيه يستغفر الله منه، ويتوب إليه، ويتضرع بين يديه، ويزول عنه عجبه وكبره الذي قد يقتله ويهلكه.
وشهود العبد معصيته وخطيئته يوجب له أن لا يرى له على أحد فضلاً، ولا له على أحد حقاً، فإذا شهد عيب نفسه بفاحشة، لا يظن أنه خير من مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر.
وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على الناس حقوقاً من الإكرام يتقاضاهم إياها، ويذمهم على ترك القيام بها، فإنه عنده أخس قدراً، وأقل قيمة من أن يكون لها على عباد الله حقوقاً يجب مراعاتها، أو لها عليهم فضل يستحق أن يكرموه لأجله.
فيرى أن من سلم عليه، أو لقيه بوجه منبسط، قد أحسن إليه، وبذل له ما لا يستحقه، فاستراح في نفسه، واستراح الناس من عتبه وشكايته فما أطيب عيش هذا، وما أقر عينه.
والذنب كذلك يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها، فإنه في شغل بعيبه ونفسه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.
وكذلك الذنب يوجب له الإحسان إلى الناس، والاستغفار لإخوانه الخاطئين من المؤمنين، فيصير هجيراه: رب اغفر لي ولوالدي، وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.
(12/7)
فكأنه يشهد إخوانه الخاطئين مصابين بمثل ما أصيب به، فيستغفر لهم وإذا شهد نفسه مع ربه مسيئاً مخطئاً مذنباً مع فرط إحسان ربه إليه وبره به، وشدة حاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فإذا كانت هذه حاله مع ربه، فكيف يطمع أن يستقيم له الخلق، ويعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربه تلك المعاملة؟.
وكيف يطمع أن يطيعه ولده ومملوكه وزوجه في كل ما يريد وهو مع ربه ليس كذلك؟.
وهذا يوجب أن يغفر لهم ويعفو عنهم ويسامحهم، ويغض عن الاستقصاء في طلب حقه منهم.
فكم في ظهور المعاصي والذنوب من الحكم والأسرار التي يترتب عليها ما هو أحب إلى الله وآثر عنده من عدمها.
فإنه لولا المعصية من أبي البشر آدم بأكله من الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى.
من امتحان خلقه وتكليفهم.. وإرسال رسله.. وإنزال كتبه.. وإظهار آياته وعجائبه.. وتنويعها وتصريفها.. ومعرفة جلاله وجماله.. وإكرام أوليائه.. وإهانة أعدائه.. وظهور عدله وفضله.. وعزته وانتقامه.. وعفوه ومغفرته.
وظهور من يعبده ويحبه.. ومن يقوم بمراضيه ومحبوباته بين أعدائه في الدنيا.. وظهور الطيب من الخبيث من خلقه.
ولم تتم المملكة حيث لم يكن هناك إكرام وثواب.. وعقوبة وإهانة.. ودار سعادة وفضل.. ودار شقاوة وعدل.
السادس: مشهد التوحيد.
وهو أن يشهد العبد انفراد الرب تعالى بالخلق والأمر، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه وعلمه، ولا تسكن إلا بإذنه وعلمه.
ويشهد أن قلوب العباد كلهم بيده، وأنه يقلبها بين أصبعين من أصابعه، ويصرفها كيف شاء، وأنه الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها، وألهم نفوس الفجار فجورها، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، هذا فضله وعطاؤه، وهذا عدله وقضاؤه.
(12/8)
لا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته، ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقه فيشهد العبد هنا انفراد الرب بالخلق كله، ونفوذ مشيئته في ملكه، وتعلق الموجودات بأسرها به، وجريان حكمه على خلقه بما سبق به علمه، وجرى به قلمه.
ويشهد مع ذلك أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وارتباط الجزاء بالأعمال، فشهود توحيد الرب، وانفراده بالخلق، ونفوذ مشيئته، وجريان قضائه وقدره، يفتح للعبد باب التوكل عليه، ودوام الالتجاء إليه، والافتقار إليه، وذلك يدنيه من عتبة العبودية، ويطرحه بالباب فقيراً عاجزاً مسكيناً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
وشهوده أمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه، يوجب له الحمد والتشمير وبذل الوسع، والقيام بالأمر، والرجوع إلى نفسه باللوم، والاعتراف بالتقصير.
فيكون سيره بين شهود العزة والحكمة، والقدرة الكاملة، والعلم السابق، والمنة العظيمة، وبين شهود التقصير والإساءة منه، ومعرفة عيوب نفسه وأعماله.
فهذا هو العبد الموفق المعان، الذي أقامه ربه مقام العبودية، وضمن له التوفيق، وحسن الثواب.
وهذا هو مشهد الأنبياء والرسل:
فهو مشهد أبيهم آدم صلى الله عليه وسلم حين قال: (? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [الأعراف: 23].
ومشهد أول الرسل نوح صلى الله عليه وسلم إذ قال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [هود: 47].
ومشهد إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم إذ قال: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 35].
ومشهد موسى صلى الله عليه وسلم إذ قال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 155].
ومشهد ذي النون يونس صلى الله عليه وسلم إذ قال عنه ربه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 87].
(12/9)
ومشهد سيد الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم إذ يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ» أخرجه البخاري(1).
فالعارف يسير إلى ربه بين شهود المنة من الله، ومطالعة عيب النفس والعمل.
فشهود المنَّة يوجب له المحبة لربه سبحانه، وحمده والثناء عليه، ومطالعة عيب النفس والعمل يوجب استغفاره، ودوام توبته، وتضرعه لربه.
ثم أصحاب هذا المشهد فيه قسمان:
أحدهما: من يشهد تسليط عدوه عليه، وإفساده إياه، وكبحه إياه بلجام الشهوة، فهو أسير معه، وهو مع ذلك ملتفت إلى ربه ومولاه، عالم بأن نجاته بيده سبحانه، وناصيته بين يديه، وأنه لو شاء طرده عنه، وخلصه من يديه، ولم يعبأ به.
فكلما قاده عدوه وكبحه بلجامه أكثر الإلتفات إلى وليه وناصره وتضرع إليه، وتذلل بين يديه، وكلما أراد البعد عن بابه تذكر عطفه وبره سبحانه، وتذكر جوده وإحسانه، وكرمه وغناه، ورأفته ورحمته، وقدرته وعزته، وجلاله وجماله، فانجذبت دواعي قلبه هاربة إليه، مترامية على بابه، منطرحة بين يديه.
وفوق هذا مشهد أجل منه وأعظم، ومثله كمثل عبد أخذه سيده بيده، وقدمه ليضرب عنقه، فأيقن العبد المسيء أنه قاتله، وقد علم العبد بره ولطفه ورحمته، ورأفته وكرمه، فهو يناشده بأوصافه، ويدخل عليه بها، فانقطع تعلقه بشيء سواه.
فهذا العبد معرض عن عدوه الذي كان سبباً في غضب سيده عليه، مقصور النظر إلى سيده، وهو في قبضته منتظر منه ما يقتضيه عطفه وبره وكرمه.
ومثل الأول كمثل عبد أمسكه عدوه وهو يخنقه للموت، وذلك العبد يشهد دنو عدوه له، ويستغيث بسيده، وسيده يغيثه ويرحمه.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6306).
(12/10)
السابع: مشهد التوفيق والخذلان:
فالتوفيق: هو أن يكلك الله إلى نفسك، والخذلان: هو أن يخلي بينك وبين نفسك، والعباد متقلبون بين توفيقه وخذلانه، بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا.
فيطيع ربه ويرضيه، ويذكره ويشكره بتوفيقه له، ثم يعصيه ويخالفه، ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له.
فهو دائر بين توفيقه وخذلانه، فإن وفقه ربه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته، وهو المحمود على هذا وهذا.
لم يمنع سبحانه عبده شيئاً هو له، وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يضعه، وأين يجعله؟.
فإذا علم العبد ذلك، علم ضرورته وحاجته إلى التوفيق في كل نفس، وكل لحظة، وكل طرفة عين، وشهد توفيق الله وخذلانه كما يشهد ربوبيته وخلقه، فيسأله توفيقه مسألة المضطر، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف.
ويلقي نفسه بين يديه مستسلماً له سبحانه، خاضعاً ذليلاً له، مستكيناً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.
فالتوفيق: إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد بأن يجعله قادراً على فعل ما يرضيه، مريداً له، محباً له، مؤثراً له على غيره، ويبغض إليه ما يسخطه وما يكرهه، وهذا مجرد فعله سبحانه، والعبد محل له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ ? ??) [الحجرات: 7،8].
فهو سبحانه العليم بمن يصلح لهذا الفضل العظيم، ومن لا يصلح له، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله، لا يمنعه أهله، ولا يضعه عند غير أهله.
الثامن: مشهد الأسماء والصفات:
وهو من أجل المشاهد، فإن كل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة، وأسماؤه أوصاف مدح وكمال، وكل صفة لها مقتض وفعل:
فاسمه الحميد والحكيم والمجيد يمنع ترك الإنسان سدى مهملاً معطلاً لا يُؤمر ولا يُنهى، ولا يُثاب ولا يُعاقب.
واسمه الملك والحي يوجب أن يكون مدبراً فاعلاً، ويقتضي مملكة وتصرفاً وتدبيراً، وعطاءً ومنعاً، وإحسانا وعدلاً، وثواباً وعقاباً.
(12/11)
واسمه السميع والبصير والرقيب يوجب مسموعاً ومرئياً ومراقباً.
واسمه الخالق والرازق يقتضي مخلوقاً ومرزوقاً.. وهكذا بقية الأسماء.
إذا عُرف هذا فمن أسماء الله الحسنى الغفار والتواب والعفو، ولا بدَّ لهذه الأسماء من متعلقات، ولا بدَّ من جناية تُغفر، وتوبة تُقبل، وجرائم يعفى عنها.
ولا بدَّ لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه.
والله سبحانه يحب ذاته وأسمائه وصفاته، فهو عفو يحب العفو، غفور يحب المغفرة، تواب يحب التوبة، رحيم يحب الرحمة، محسن يحب الإحسان، حليم يحب الحلم.
وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما ومنها:
مغفرة الزلات.. وإقالة العثرات.. والعفو عن السيئات.. والمسامحة على الجنايات.. هذا مع كمال القدرة على استيفاء الحق..
فحلمه سبحانه بعد علمه.. وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته.. ولله في كل ما قضاه وقدره حكمة بالغة.
والله تبارك وتعالى يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها.
وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته:
فهو عليم يحب العلم والعلماء.. جواد يحب كل جواد.. بر يحب أهل البر شكور يحب الشاكرين.. حليم يحب أهل الحلم.
ولمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة، والعفو والصفح، خلق من يغفر له، ويتوب عليه، ويعفو عنه، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له، ليترتب عليه المحبوب له، المرضي له، فسبحان أحكم الحاكمين.
فالتوحيد والإيمان والطاعات أسباب محبوبة لله، موصلة إلى الإحسان والثواب المحبوب له أيضاً.
والشرك والكفر والمعاصي أسباب مسخوطة له، موصلة إلى العدل المحبوب له، وإن كان الفضل أحب إليه من العدل، واجتماع العدل والفضل أحب إليه من انفراد أحدهما عن الآخر، لما فيهما من كمال الملك والحمد، وتنوع الثناء وكمال القدرة.
التاسع: مشهد زيادة الإيمان.
(12/12)
فالله أرسل رسله ليأمروا العباد بما فيه صلاح الظاهر والباطن، وينهونهم عما فيه فساد ظواهرهم وبواطنهم.
وأخبروهم بما يحبه الله ويرضاه، وبما يثيب عليه من الجنة والرضوان، وأنه يبغض الشرك والمعاصي، ويجازي عليها بالسخط والنار.
وأنه إذا أطاعه العباد بما أمر به، شكر عليه بالإمداد والزيادة، وأنه إذا عصاه العباد، وخالفوا أمره، أصابهم النقص والفساد، والذل والهوان، وضيق العيش، وسوء الأحوال، فالذنوب مضرة بالقلوب مثل السموم مضرة بالأبدان.
وهذا المشهد من ألطف المشاهد، فإن العبد إذا شهد نقص حاله إذا عصى ربه، وتغير القلوب عليه، وجفولها منه، وانسداد الأبواب في وجهه، وتوعر المسالك عليه، وهوانه على أهل بيته وأولاده وزوجته وإخوانه، وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أُتي؟، ووقوعه على السبب الموجب لذلك مما يقوي إيمانه، ليباشر تغيير حاله، فإذا أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى ضد هذه الحال رأى العز بعد الذل.. والغنى بعد الفقر.. والسرور بعد الحزن.. والأمن بعد الخوف.. وقوة الإيمان بعد ضعفه.. ازداد إيماناً مع إيمانه.
فكل ما نراه في الوجود من شر وفساد، وألم وعقوبة، وجدب ونقص، في أنفسنا وأموالنا، فهو من قيام الرب تعالى بالقسط، وهو عدل الله وقسطه وإن أجراه على يد ظالم.
فالمسلط له أعدل العادلين وأحكم الحاكمين كما قال سبحانه لمن أفسد في الأرض: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [الإسراء: 4-6].
وكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة فسببه الذنوب، ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها.
وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال أمر مشهود في العالم، يعرفه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
(12/13)
وشهود العبد هذا مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل من التوحيد والإيمان، والأوامر والنواهي، والثواب والعقاب.
العاشر: مشهد الرحمة:
فإذا وقع العبد في المعصية خرجت من قلبه تلك الغلظة والقسوة والغضب الذي كان عنده لمن صدر منه ذنب، حتى لو قدر عليه لأهلكه، وربما دعا عليه غضباً لله، وحرصاً منه على أن لا يعصي ربه، فلا يجد في قلبه رحمة للمذنبين.
فإذا جرت عليه المقادير وأذنب استغاث بالله، والتجأ إليه، ودعاؤه عليهم بالدعاء لهم بالمغفرة.
الحادي عشر: مشهد العجز والضعف.
فالإنسان أعجز شيء عن حفظ نفسه، ولا حول له ولا قوة إلا بربه، تجري عليه أحكام القدر وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله، كشاة ملقاة بين الذئاب والسباع لا يردهم عنها إلا الراعي، فلو تخلى عنها طرفة عين لتقاسموها أعضاء.
وهكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس والجن، فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلاً، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه طرفة عين اغتاله وظفر به أحدهم.
وفي هذا المشهد يعرف العبد نفسه حقاً، ويعرف فضل ربه حقاً، فمن عرف نفسه بالضعف عرف ربه بالقوة، ومن عرفها بالعجز عرف ربه بالقدرة، ومن عرف صفاته الممدوحة فيه كالقوة والكلام، والحياة والصدق، عرف أن الذي أعطاه ذلك أولى به منه، فمعطي الكمال أولى بالكمال، فمن لم يعرف نفسه لم يعرف ربه.
وإذا عرف العبد ذلك عرف أنه ليس بيده شيء، ولا بيد غيره شيء، وأن الأمر كله لله العلي الكبير كما قال سبحانه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأعراف: 54].
الثاني عشر: مشهد الذل والانكسار والخضوع والافتقار للرب جل جلاله.
فيشهد العبد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقاراً تاماً إلى ربه ووليه، ومن بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته.
(12/14)
فإذا انكسر قلب العبد وخضع لربه رأى أنه لا يستحق قليلاً ولا كثيراً، وأن كل خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم أن قدره دونه، وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به، وسياقته إليه.
واستقل طاعاته لربه، ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه، ورآها سوء أدب مع ربه الذي أكرمه بوافر نعمه.
فالانكسار والافتقار الذي حصل لقلبه أوجب هذا كله، فما أقرب الخير والجبر من هذا القلب المكسور، وذرة من هذا ونَفَسٍ منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بعلومهم وأعمالهم وأحوالهم.
وأحب القلوب إلى الله قلب تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة، ينظر إلى ربه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم، ونظر الفقير العاجز إلى الغني القادر.
فلا يرى في جميع أحواله إلا متعلقاً بربه خاضعاً له، يسأله عطفه ورحمته، باكياً بين يديه، يقول: يا رب.. يا رب.. ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مغيث له سواك، ولا مؤوي له سواك.
الثالث عشر: مشهد العبودية والمحبة والشوق إلى لقائه، والابتهاج بذكره، والفرح والسرور به.
فتقر عينه بربه، ويسكن إليه قلبه، وتطمئن إليه جوارحه، ويستولي ذكره على لسانه، فتصير حركات اللسان والقلب والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي، قد امتلأ قلبه من محبته، ولهج لسانه بذكره، وانقادت جوارحه لطاعته.
والدخول على الله من أبواب الطاعات كلها عليه زحام، لكن الدخول عليه من باب الذل والافتقار أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم عليه.
فلا طريق أقرب إلى الله من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عمل.
والله سبحانه لا يأخذ أحداً ولا يعاقبه إلا بذنبه، وإذا شاهد العبد القدر السابق بالذنب علم أن الله سبحانه قدره سبباً مقتضياً لأثره من العقوبة، كما قدر الطاعة سبباً مقتضياً للثواب.
(12/15)
وكلما طالع العبد منن ربه عليه قبل الذنب، وفي حال مواقعته، وبعد مواقعته، ولاحظ بره به، وحلمه عنه، وإحسانه إليه، هاجت من قلبه لواعج محبته، والشوق إلى لقائه، وشدة الحياء منه، فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وتستحي من معصية أمره.
وأهل المعاصي إن نظرنا إليهم بعين القدر نرق لهم، ونسأل الله لهم السلامة والعافية، ونشفق عليهم ونرحمهم.
وإن نظرنا إليهم بعين الشرع فإننا يجب أن ننصحهم، ونأمرهم بالمعروف، وننهاهم عن المنكر، حتى يعودوا إلى الصراط المستقيم.
ولا بدَّ لورثة الأنبياء أن ينظروا بهذا وهذا، وبذلك يقبل الله دعاءهم، ويبارك في جهدهم، وينزل الهداية ببركة جهدهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه.. وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.. ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق.. واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك.. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 8].
2- فقه الطاعات والمعاصي
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 13].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 14].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [آل عمران: 32].
كل إنسان متحرك بطاعة أو معصية أو بهما معاً ولا بد.
والطاعات كلها محبوبة لله مرضية له، وإن لم يشأها ممن لم يعطه، ومن وجدت منه فقد تعلقت بها مشيئة الله ومحبته.
والمعاصي كلها مبغوضة لله مكروهة له وإن وقعت بمشيئة الله، فما لم يوجد من الطاعات المقدرة تعلقت بها محبة الله دون مشيئته، وما وجد منها تعلق بها محبته ومشيئته.
وما لم يوجد من أنواع المعاصي فلم تتعلق بها مشيئته ولا محبته، وما وجد منها تعلق به مشيئته دون محبته.
(12/16)
وطاعات العباد كلها لا تكون مقابلة لنعم الله عليهم، ولا مساوية لها، بل ولا لواحدة منها، فكيف يستحقون بها النجاة؟.
وطاعة المطيع لا نسبة لها إلى نعمة من نعم الله عليه، فتبقى سائر النعم تتقاضاه شكراً، والعبد لا يقوم بمقدوره الذي يجب لله عليه، فجميع عباده تحت عفوه ورحمته، وفضله وإحسانه.
فما نجا منهم أحد إلا بعفوه ومغفرته، ولا فاز بالجنة إلا بفضله ورحمته.
وما أطاع الله من أطاعه إلا بإذنه وعونه وفضله، وما عصاه من عصاه إلا بعلمه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأعراف: 54].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلا أنْتَ؟ يَا رَسُولَ ا?! قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه(1).
فأمور الخلائق كلها بيد الله وحده، والهداية بيد الله، ولكن الله جعل لها أسباباً، كما جعل للنور أسباباً، وللحياة أسباباً، وللكسب أسباباً.
وحتى تحصل الهداية لمن ندعوه لا بدَّ من العلم بأمور:
الأول: أن نتيقن أن القلوب بيد الله، فندعو الله له بالهداية.
الثاني: أن يكون في قلوبنا الحزن على العاصي، ورحمته، والسعي لإصلاحه.
الثالث: أن نؤلف قلبه، ونتقرب إليه بما يحب كالهدية.
الرابع: ثم نتفكر ما مرض هذا العاصي؟.. وما دواء هذا المرض؟.
الخامس: ثم ننظر ماذا نعطيه منه؟.. وما هو الوقت المناسب لذلك؟.
السادس: أن نعتقد ونجزم أن علاجه مسئوليتنا، فإن تركناه فأين يذهب.
وبذلك يتأثر الناس، وتنزل الهداية على من شاء الله هدايته، ويجعلنا الله سبباً لهداية العالم.
والمسلم إذا أطاع الله، وامتثل أوامره، جاءت عليه مشقة في البداية، ولكنها صغيرة، والسعادة التي تعقبها كالبحر بالنسبة إلى القطرة، والعاقل لا يترك البحر من أجل قطرة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5673) ومسلم برقم (2816) واللفظ له.
(12/17)
والنفس تجد اللذة في المعاصي، ولكن هذه اللذة كالقطرة بالنسبة لعذاب يوم القيامة، والعاقل لا يتلذذ بلذة صغيرة عاجلة، ويترك بحر السعادة في الآخرة.
وقد خلق الله الإنسان واستخلفه في هذه الحياة، وهو صائر إلى الله في نهاية المطاف.
وعقد الاستخلاف لهذا الإنسان في الأرض قائم على تلقي الهدى من الله، والتقيد بمنهج الله في الحياة، والإنسان سامع مطيع:
فإما أن يسمع الإنسان ويطيع لما يتلقاه من الله فيسعد في الدنيا والآخرة.
وإما أن يسمع ويطيع لما يمليه عليه الشيطان فيشقى في الدنيا والآخرة.
وليس هناك طريق ثالث.
إما أن يطيع الله... أو يطيع الشيطان.. إما أن يتبع الحق.. أو يتبع الباطل.. وإما أن يسير إلى الجنة.. وإما أن يسير إلى النار.
وبناء على ذلك إما أن يكون من المفلحين، وإما أن يكون من الخاسرين.
كما قال سبحانه: (? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [البقرة: 38،39].
والله عزَّ وجلَّ له الخلق والأمر، يأمر الكائنات أن تطيع من أطاعه، وتهلك من عصاه، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ) [هود: 48].
فلما جاء الامتثال والطاعة قال سبحانه للكائنات: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 44].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [ص: 26].
فلما جاء الامتثال والطاعة قال سبحانه للكائنات: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [سبأ: 10].
وأما الهلاك فكما قال سبحانه عن قوم عاد: (ہ ہ ہ ہ ھ ھھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ??) [القمر: 18-20].
وكما قال عن قوم لوط: (? ? ? ?چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [القمر: 33،34].
وكما قال سبحانه عن فرعون وجنوده: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک ک گ گ گ گ ? ??) [الذاريات: 38-40].
فمن أطاع الله سخر له المخلوقات فتطيعه وتنفعه وتحفظه، وبحسب الطاعات تصلح وتحسن الأحوال، وتزيد الخيرات، وتكثر البركات.
(12/18)
فنزول الغيث، وصلاح الأولاد، والأرباح، والطمأنينة، كلها مربوطة بطاعة الله كما قال نوح لقومه: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? پ پ پ پ ? ? ? ? ??) [نوح: 10-12].
ومن يعص الله تكون المخلوقات ضده، فتسوء حاله، وتكثر مشاكله، ولو كان بين القناطير المقنطرة، والمساكن الواسعة، والمراكب الفاخرة والأولاد: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 55].
وبحسب كثرة المعاصي تكثر المصائب، فإذا أخذ الإنسان الشيء بالكذب أو السرقة، زادت المصائب عليه بشكل جديد، طلبات متكررة، وحاجات غير لازمة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ?) [طه: 124-126].
والطاعات شعبة من شعب الإيمان، والمعاصي شعبة من شعب الكفر، وبالدعوة يأتي الإيمان، وثمرة الإيمان عبادة الله وحده، وطاعة الله ورسوله، وثمرة العبادة والطاعة رضا الله عزَّ وجلَّ ودخول الجنة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الفتح: 17].
والطاعات نوعان:
طاعات تتعلق بالعبد نفسه، وتكون بالاستقامة على أوامر الله، بفعل الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات.. وكلاهما مطلوب من العبد.
وطاعات تتعلق بالغير، وتكون بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان إلى الناس، والجهاد في سبيل الله.. وكلاهما مطلوب من العبد.
وكل الطاعات مشروعة ومطلوبة، لكن الطاعة المتعلقة بالنفس بالنسبة للطاعة المتعلقة بالغير كالذرة بالنسبة للجبل في الأجر والثواب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئا» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2674).
(12/19)
والمسلم إذا وضع جهده وما له ووقته تحت شجرة الطاعة تكبر وتزيد، ويزيد الخير، وإذا وضعه تحت شجرة المعصية تكبر وتزيد، ويزيد الشر.
وقد جعل الله للحصول على الأرزاق طريقين:
طريق الأموال والأسباب.. وطريق الإيمان والأعمال.
فالأول عام، والثاني خاص.
والإنسان في هذه الحياة إما أن يمشي على طريق الشهوات، أو على طريق الأوامر الشرعية، فالأول خاسر، والثاني رابح.
والله عزَّ وجلَّ يؤيد من يمشي على طريق الأوامر الشرعية بالعطاء الغيبي كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
وبالمشي على طريق الشهوات البدن يقوى، وبالمشي على طريق الأحكام الروح تقوى.
ومن مشي على طريق الشهوات لا يزول قلقه ولا همه حتى يسير على أحكام الله، ولو كان عنده الملك والمال، وسائر الشهوات والملذات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ?) [طه: 123-126].
والذي يمشي في طريق الطاعات تفتح له أبواب السعادة في الدنيا، ثم تزداد سعادته وسروره كلما أحدث طاعة.. ثم تزداد سعادته عند الموت حين تبشره الملائكة بالجنة.. ثم تزداد سعادته في القبر، فقبر المؤمن روضة من رياض الجنة.. ثم تزداد سعادته عند البعث والحشر، حيث يبعث آمناً من غضب الله وعقابه.. ثم تزداد سعادته وتبلغ كمالها إذا دخل الجنة، ورأى ربه، وفاز برضاه، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا وإياكم ممن يكرم بذلك.
والذي يمشي في طريق المعاصي تفتح له أبواب الشقاء في الدنيا.. ثم يزداد شقاؤه وألمه كلما أحدث معصية.. ثم يزداد شقاؤه وعذابه عند الموت حين تبشره الملائكة بالنار.. ثم يزداد عذابه وشقاؤه في القبر، فقبر الكافر حفرة من حفر النار.. ثم يزداد شقاؤه عند البعث والحشر، حيث يبعث خائفاً من غضب الله وعقابه.. ثم يزداد شقاؤه وعذابه ويبلغ كماله إذا دخل النار وأعرض عنه ربه، وباء بسخطه وغضبه، نسأل الله السلامة والعافية.
(12/20)
وخاصية النفس تريد المعاصي والشهوات، فهي أمارة بالسوء، وخاصية الروح تريد طاعة الله، فالنفس تحب الشهوات، والروح تحب طاعة الله.
وإذا قويت النفس انقاد الإنسان لها فأوقعته في الشهوات والمحرمات، وإذا قويت الروح انقاد الإنسان لها فحركت جوارحه لطاعة الله ورسوله.
وكل من مشى مستقيماً على طاعة الله فتحت له أبواب الرحمة والبركة، ووجد اللذة والراحة في كل شيء أمر الله به، حتى يجد الراحة الكاملة في الجنة.
وكل من مشى على طريق الشهوات فهذا في الظاهر كالحلوى، وفي الحقيقة هو عين السم، فتفتح له أبواب الشقاء والمصائب، ولا يزال في البلاء والشدة حتى ينال كمال العذاب في جهنم.
والذي يستعمل جوارحه وأمواله وأوقاته حسب أمر الله، فلا يأكل إلا ما أمر الله بأكله، ولا يلبس إلا ما أمر الله بلبسه، ولا يعبد الله إلا بما شرع، يؤدي الواجبات، ويجتنب المحرمات، ويقيد نفسه بأوامر الله، فهذا إذا جاء يوم القيامة أطلق الله جوارحه في الشهوات والملذات الدائمة، ومَلَّكَه جوارحه، وخَلَّده في النعيم المقيم في الجنة.
ومن استعمل جوارحه وأمواله وأوقاته كيف شاء، فالله يمهله ويتركه يتمتع ويأكل ويلعب، فإذا جاء يوم القيامة قيده الله وأذله وأهانه وخلده في النار: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [محمد: 12].
والله سبحانه إنما يخلي بين العبد والذنب لأجل معنيين:
أحدهما: أن يعرف العبد عزة ربه في قضائه، وبره في ستره، وحلمه في إمهال راكبه، وكرمه في قبول العذر منه، وفضله في مغفرته.
فهو سبحانه العزيز الذي يقضي بما يشاء، وأنه لكمال عزته حكم على العبد وقضى عليه بما شاء، وقلب قلبه، وصرف إرادته على ما يشاء.
وبذلك يعرف العبد أنه مدبر مقهور، ناصيته بيد غيره، لا عصمة له إلا بعصمته، ولا توفيق له إلا بمعونته.
(12/21)
ويشهد أن الكمال والحمد، والغنى والعزة، والقوة والقدرة، كلها لله وحده، ويعرف بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له وقدرته عليه، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه ومقتوه.
وهذا من كمال بره بعبده مع كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه.
فإذا اشتغل العبد بمطالعة هذه المنَّة، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم من ربه، أقبل على طاعته، وأقلع عن معصيته.
ويشهد حلم الله في إمهال راكب الخطيئة، ولو شاء لعاجله بالعقوبة.
ويعرف كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه، فيقبل عذره بكرمه وجوده، فيوجب له ذلك اشتغالاً بذكره وشكره.
ويشهد فضله في مغفرته ذنوبه، فإن المغفرة فضل من الله، وعفوه بفضله لا باستحقاق العبد له، فيوجب ذلك له شكراً لله، ومحبة له، وإنابة إليه، وفرحاً وابتهاجاً به، ومعرفة له باسمه الغفار.
وبذلك يكمل لعبده مراتب العبودية من التعظيم لمولاه، والذل له، والخضوع والانكسار بين يديه، وكمال الافتقار إليه.
والثاني: أن يقيم الله على عبده حجة عدله، فيعاقبه على ذنبه بحجته.
فكل من تمكن من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، فقصد عنه ولم يعرفه، فقد قامت عليه الحجة، والله لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، فإذا عاقبه على ذنبه عاقبه بحجته على ظلمه.
فإذا أقدم العبد على سبب الهلاك، وقد عرف أنه سبب الهلاك فهلك، فالحجة مركبة عليه، والمؤاخذة لازمة له.
فإذا شاهد العبد القدر السابق بالذنب، علم أن الله سبحانه قدره سبباً مقتضياً لأثره من العقوبة، كما قدر الطاعة سبباً مقتضياً للثواب، وأن الله علم أن هذا العبد لا يصلح إلا للوقود كالشوك الذي لا يصلح إلا للنار.
فاقتضى عدله سبحانه أن يسوق هذا العبد إلى ما لا يصلح إلا له، وأن يقيم عليه حجة عدله، بأن قدر عليه الذنب فواقعه، فاستحق ما خلق له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يس: 69،70].
(12/22)
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بطاعته وطاعة رسوله، وطاعة أولي الأمر من المؤمنين ما لم يأمروا بمعصية فلا طاعة لهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 59].
وقد أرسل الله رسله ليطاعوا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 64].
فالرسول والداعية ليس مجرد واعظ يلقي كلمته ويمضي، فالرسالة سلطان يحقق منهج الله في الأرض، وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ في مجالات الحياة كلها.
ولم يرسل الله الرسل لمجرد التأثر الوجداني وأداء الشعائر التعبدية فقط، فهذا وهمٌ في الدين لا يستقيم مع حكمة الله من إرسال الرسل، وتصريف الحياة وفق منهج الله جل جلاله.
ومن هنا كان الإسلام دعوة وبلاغاً.. ونظاماً وأحكاماً.. وخلافة على منهاج النبوة تنفذ أوامر الله في عباد الله، على أرض الله، على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإذا اشتغل الناس بمعصية الله ورسوله حرموا نصرة الله، وحرموا رضاه، ونزل بهم غضب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [النساء: 123].
والمكلفون ثلاث فرق:
أهل الطاعة: وهم المنعم عليهم.. وأهل المعصية: وهم المغضوب عليهم.. وأهل الجهل: وهم الضالون.
فالطائفة الأولى: أهل الإيمان، وهم الذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل، فجمعوا بين معرفة الحق لذاته، والخير من أجل العمل به، فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة المغضوب عليهم، وإن اختل قيد العلم فهم الجهلة الضالون، فاللهم (ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفاتحة: 6،7].
وإذا كان المقصود من الشجرة الثمرة والمنفعة، والشجرة إنما جاءت من البذرة، والبذرة لا بدَّ لها من بيئة حتى تزكو وتثمر، والبيئة هي الأرض والماء والضوء والهواء.
(12/23)
فكذلك رضا الله عزَّ وجلَّ هو الغاية والمقصد من الدين، وذلك لا يكون إلا بطاعة الله ورسوله، وذلك لا يتم إلا بالإيمان بالله، والإيمان لا بدَّ له من بيئة صالحة حتى يثبت ويزكو وينمو ويثمر.
والبيئة هي التي تتمثل فيها الأعمال الصالحة كالعبادة والدعوة، والتعليم والذكر، واتباع السنن النبوية، والأخلاق والآداب الشرعية، وكل ما يرضي الله ورسوله.
فالدرجة الأولى الدعوة.. وبالدعوة يأتي الإيمان.. وبالإيمان تأتي طاعة الله ورسوله.. ثم يأتي رضا الله ورسوله.. ثم يأتي دخول الجنة.
وإذا ترك المسلم الدعوة إلى الله.. ضعف الإيمان.. وإذا ضعف الإيمان قلَّت الطاعات، وكثرت المعاصي.. وإذا جاء الكفر والمعاصي جاء غضب الله.. ثم نزلت عقوبة الله بمن عصاه في الدنيا، وبالنار في الآخرة.
كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 34]
والطاعات والمعاصي وكل ما يجري في هذا الكون كله واقع بمشيئة الله وقدره، لكن الطاعات مأمور بها، والمعاصي مكروهة للرب، لكنه لم يأمر بها، لكنه شاء وقوعها، ولو لم يشأ لم تقع.
وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ عن قدرته على تبديل من عصاه:
إما بخير منهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 38].
وأما بأمثالهم كما قال سبحانه: (? ? ?? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الواقعة: 60،61].
وإما بغيرهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 133].
وكل من انصرف من الناس عن الإيمان والأعمال الصالحة صرف الله قلبه عن القرآن وتدبره والانتفاع به كما قال سبحانه عن المنافقين: (گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ) [التوبة: 127].
فصرف الله قلوبهم عن القرآن وعن الحق؛ لأنهم ليسوا أهلاً له، والمحل غير صالح ولا قابل.
(12/24)
وإبليس لما عصى ربه، ولم يستجب لأمره، وأبى واستكبر، وأصر على ذلك، عاقبه الله بأن جعله داعياً إلى كل معصية، وهكذا العبد إذا أعرض عن ربه سبحانه، وأصر ولم يتب، جازاه الله بأن يعرض عنه، فلا يمكنه من الإقبال عليه؛ لأنه استمر في طغيانه، وازداد في كفره، فطبع على قلبه، وسد عليه طرق الهداية كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 168-169].
وأسباب وقوع الإنسان في المعاصي والذنوب:
إما بالغفلة عن الله.. أو بالغفلة عن أوامر الله.. أو بالغفلة عن اليوم الآخر.. أو يعتقد أن الوعيد ليس على ظاهره.. أو يذهل عن التحريم.. أو لا يستحضر عظمة الرب وشدة بأسه.. أو لفرط الشهوة.. بحيث تقهر مقتضى الإيمان وتغمره.. أو يزين له الشيطان المعصية ويغويه.. أو يغلب عليه جانب الرجاء، ونحو ذلك.
والطاعات والمعاصي متفاوتة في درجاتها، ومنافعها ومفاسدها، وثوابها وعقابها.
وأصل المعاصي نوعان:
ترك مأمور.. وفعل محظور.
وهما الذنبان اللذان ابتلى الله بهما أبوي الجن والإنس، فإبليس ترك المأمور، وآدم فعل المحظور.
وكلاهما ينقسم باعتبار محله إلى ظاهر على الجوارح، وباطن في القلوب.
وينقسم كل منهما باعتبار متعلقه إلى حق الله، وحق لخلقه، وإن كان كل حق لخلقه فهو متضمن لحقه، لكن سمي حقاً للخلق؛ لأنه يجب بمطالبتهم به، ويسقط بإسقاطهم.
والذنوب والمعاصي تنقسم إلى أربعة أقسام:
ملكية.. وشيطانية.. وسبعية.. وبهيمية.
فالذنوب الملكية: أن يتعاطى الإنسان ما لا يصلح له من صفات الربوبية كالعظمة والكبرياء، والقهر والعلو، والجبروت واستعباد الخلق ونحو ذلك، ويدخل في هذا الشرك بالله.
وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب، ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وأمره، وصاحبه قد نازع الله في ربوبيته وملكه، وجعل له نداً.
وهذا أعظم الذنوب عند الله، ولا ينفع معه عمل.
(12/25)
وأما الذنوب الشيطانية: فبالتشبه بالشيطان في الحسد والبغي، والغش والغل، والخداع والمكر، والأمر بمعاصي الله وتحسينها، والنهي عن طاعة الله وتهجينها، والابتداع في الدين ونحو ذلك.
وهذا القسم يلي النوع الأول في المفسدة لكنه دونه.
وأما الذنوب السبعية: فذنوب العدوان والغصب، وسفك الدماء، والتوثب على الضعفاء والعاجزين، وأذى النوع الإنساني، والجرأة على الظلم والعدوان.
وأما الذنوب البهيمية: فمثل الشره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنها يتولد الزنا والسرقة، وأكل أموال اليتامى، والبخل والشح، والجبن والهلع والجزع ونحو ذلك.
وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق؛ لعجزهم عن الذنوب السبعية والشيطانية والملكية، ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام، فهو يجرهم إليها بالزمام، فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية، ثم إلى الشيطانية، ثم إلى الملكية بمنازعة الرب، والشرك به في وحدانيته.
وبهذا التفصيل يتبين أن الذنوب دهليز الشرك والكفر.
وفعل المعصية ذنب.. والإصرار عليها ذنب آخر.. والعزم على المعاودة لفعل المعصية ذنب آخر، ولعله أعظم من الذنب الأول بكثير.
وهذا من عقوبة الذنب، فإن الذنب يوجب ذنباً آخر أكبر منه، ويجر إليه، ثم الثاني كذلك، وهكذا حتى يستحكم الهلاك للمذنب.
فالإصرار على المعصية معصية أخرى، وأشد من هذا كله المجاهرة بالذنب، مع تيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه.
فإن آمن بنظره إليه، وأقدم على المجاهرة، فذنب عظيم، وإن لم يؤمن بنظره إليه، واطلاعه عليه فكفر، فهو دائر بين الأمرين:
بين قلة الحياء، ومجاهرة نظر الله إليه.. وبين الكفر والانسلاخ من الدين.
أما الفرح بالمعصية فهو دليل على شدة الرغبة فيها، والجهل بقدر من عصاه، والجهل بسوء عاقبتها وعظيم خطرها، ففرحه بها غطى عليه ذلك كله، وفرحه بها أشد ضرراً عليه من مواقعتها.
(12/26)
والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبداً، ولا يكمل بها فرحه، بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه، ولكن سكر الشهوة يحجبه عن الشعور به، ومتى خلى قلبه من هذا الحزن، واشتدت غبطته به، فليتهم إيمانه، وليبك على موت قلبه، فإنه لو كان حياً لأحزنه ارتكاب الذنب، وهذا عين الهلاك والخسران إن لم يتدارك نفسه بالتوبة النصوح.
وقلب الإنسان إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وإذا صلح القلب بالإيمان جاءت التقوى والأعمال الصالحة، وإذا فسد القلب، جاءت المعاصي والسيئات.
فالقلب إذا فسد فسد السمع والبصر، وإذا فسد السمع والبصر فسد القلب فهما متلازمان.
فإذا أعرض القلب عن سماع الحق وأبغض قائله بحيث لا يحب رؤيته، امتنع وصول الهدى إلى القلب ففسد، وإذا فسد السمع والعقل تبعهما فساد البصر.
والإنسان إذا لم يكن له علم بما يصلحه في معاشه ومعاده كان الحيوان البهيم خيراً منه، لسلامته في المعاد مما يهلكه دون الإنسان الجاهل.
فإذا أتاح الله للعبد فرصة القربة والطاعة فعليه بانتهازها والمبادرة إليها، فالعزائم والهمم سريعة الانتقاض.
والله سبحانه يعاقب من فتح له باباً من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكِّنه بعد من إرادته؛ عقوبة له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 24].
وعشق الصور، وحب الفواحش، إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى، المعرضة عنه، المتعلقة بغيره.
فإذا امتلأ قلب العبد من محبة الله تعالى، والشوق إلى لقائه، دفع ذلك عنه حب تلك الصور والفواحش كما قال سبحانه في حق يوسف صلى الله عليه وسلم : (? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [يوسف: 24].
فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، فسلم من السوء والفحشاء.
فالإخلاص هو سبيل الخلاص.. والإسلام مركب السلامة.
والإيمان خاتم الأمان.. والطاعات مركب النجاة.. والمعاصي طرق الهلاك.
(12/27)
والله سبحانه خالق الخير والشر، والشر ليس إليه، وإنما الشر في بعض مخلوقاته، لا في خلقه وفعله، وخلقه وفعله وقضاؤه خير كله، ولهذا تنزه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه.
فالإنسان إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل الشر والسوء، والله عزَّ وجلَّ هو الذي جعله فاعلاً، فجعله فاعل خير، والمفعول شر قبيح، فهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء في موضعه؛ لما له من الحكمة التي يحمد عليها، فالشر ليس إليه سبحانه، وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك.
فهو سبحانه القدوس المنزه عن كل شر ونقص وعيب، وهو السلام الذي سلم من العيوب والنقائص، فهو السلام من صفات النقص وأفعال النقص، وأسماء النقص.
وهو الكبير الذي تكبر عن السوء، العزيز الذي برئ من كل سوء وشر وعيب، الحميد الذي له الحمد كله.
والله عزَّ وجلَّ كما جعل الحبوب والثمار تخرج من الزروع والأشجار، كذلك جعل الأعمال تخرج من الزروع والأشجار، كذلك جعل الأعمال تخرج من الإنسان، وهي إما أعمال صالحة أو أعمال سيئة، ولكل عمل ثواب أو عقاب.
والخلق في ذلك أربعة أقسام:
الأول: من خلقه الله لطاعته وجنته، وهم المرسلون وأتباعهم.
الثاني: من خلقه الله لطاعته وناره، وهم المراءون والمنافقون.
الثالث: من خلقه الله لجنته لا لعبادته، وهم من أسلم ثم مات فوراً.
الرابع: من خلقه الله لناره لا لعبادته، وهؤلاء هم المستكبرون عن عبادة الله كإبليس وفرعون وأتباعهما من الكفار والمشركين.
والناس بالنسبة للثواب والعقاب ثلاثة أقسام:
فأهل الإيمان والطاعات في الجنة.. وأهل الكفر والمعاصي في النار.. ومن لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان، فهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة.. ومنهم المجنون الذي لا يعقل.. ومنهم الأصم الذي لا يسمع.. ومنهم الخرف الذي لا يعقل.. ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئاً.
(12/28)
فهؤلاء وأمثالهم يكلفون يوم القيامة ويمتحنون، فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيه، ومن عصى دخل النار، وانكشف علم الله فيه.
والخلق بالنسبة للطاعات والمعاصي أربعة أقسام:
الأول: من لهم طاعات ومعاصٍ، وهم الثقلان: الجن والإنس.
الثاني: من ليس لهم طاعات ولا معاصٍ، وهم غير العاقل من جماد ونبات وحيوان.
الثالث: من لهم طاعات ولا معاصي لهم، وهم الملائكة.
الرابع: من لهم معاصي ولا طاعات لهم، وهم إبليس وذريته.
والله تبارك وتعالى هو العلي العظيم، وهو الغفور الرحيم، وهو الذي أحاط بكل شيء علماً، وله خزائن السموات والأرض، وهو خالق كل شيء، وهو رب العالمين: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 68].
وإن من اتصف بهذه الصفات لحقيق بأن يكون الحب كله له، والتعظيم كله له، والإجلال كله له، والطاعات كلها له.
وأن يذكر فلا ينسى.. ويطاع فلا يعصى.. ويشكر فلا يكفر.
وأهل الطاعة هم المنعم عليهم في الحقيقة، ويجب عليهم من الشكر أضعاف ما على غيرهم، وإن توسدوا التراب، ومضغوا الحصى، فهم أهل النعمة المطلقة.
ومن خلى الله بينه وبين معاصيه.. فقط سقط من عينه، وهان عليه وإن وسع الله عليه في الدنيا، ومد له من أسبابها، فإنهم أهل الابتلاء في الحقيقة: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 54-56].
والطاعة بذاتها فوز عظيم، فهي استقامة على منهج الله، والاستقامة على منهج الله فيه الراحة والطمأنينة.
والاهتداء إلى الصراط المستقيم الواضح سعادة بذاته، ولو لم يكن وراءه جزاء سواه، فليس الذي يسير في الطريق الممهد المنير، وكل ما حوله من خلق الله يتجاوب معه ويتعاون، كالذي يسير في الطريق المظلم ذي الحفر والتعرجات، وكل ما حوله من خلق الله يعاديه ويصادمه ويؤذيه.
إن طاعة الله ورسوله تحمل جزاءها في ذاتها، وهي الفوز العظيم قبل يوم الحساب، وقبل الفوز بالنعيم: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 71].
(12/29)
أما نعيم الآخرة فهو فضل زائد على جزاء الطاعة، فضل من الكريم المنان، فضل من كرم الله وفضله بلا مقابل، والله يرزق من يشاء بغير حساب.
ولعله فضلٌ نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه، والتي تعهد بحملها وحده، وهو على ما هو عليه من الضعف، وضغط الشهوات والميول والنزعات، وقصر العمر، وحواجز الزمان والمكان دون المعرفة الكاملة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 72].
والله جل جلاله واجب الطاعة، ومن خصائص ألوهيته سبحانه أن يسن الشريعة، وشريعته واجبة التنفيذ؛ لأنها في خلقه وملكه، فعلى الناس كافة أن يطيعوا الله كافة كما أطاعته المخلوقات كافة.
وعلى المؤمنين أن يطيعوا الله ابتداء، وأن يطيعوا الرسول بما له من صفة الرسالة من الله، فطاعته من طاعة الله الذي أرسله بهذه الشريعة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 59].
فأما أولو الأمر فهم من المؤمنين الذين يطيعون الله ورسوله.
والله عزَّ وجلَّ يجعل طاعته أصلاً، وطاعة رسوله أصلاً كذلك؛ لأنه مرسل منه، ويجعل طاعة أولي الأمر من المؤمنين تبعاً لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فطاعتهم مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، مع الإيمان.
وهي طاعة في حدود المعروف والمشروع من الله، والذي لم يرد نص بتحريمه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ» متفق عليه(1).
والشريعة التي تطاع، والسنة التي تتبع، واحدة لا تتعدد، ولا يتوه فيها الفرد، وذلك فيما ورد فيه نص صريح.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7144) واللفظ له، ومسلم برقم (1839).
(12/30)
فأما الذي لم يرد فيه نص.. وأما الذي يعرض من المشكلات والأحوال على مدى الزمان ولا يكون فيه نص قاطع.. أو لا يكون فيه نص على الإطلاق.. مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام.. فإن الله لم يتركه بلا حل، بل جعل له ميزاناً يوزن به.. وهو يرده إلى الله والرسول.
فيرد الأمر والحال إلى النصوص الشرعية، فإن لم توجد النصوص التي تنطبق عليه، فيرده أولو الأمر إلى المبادئ الكلية العامة في منهج الله وشرعه.
وطاعة الله وطاعة رسوله، وطاعة أولي الأمر من المؤمنين القائمين على شريعة الله، ورد ما يتنازع فيه إلى الله والرسول، هذه وتلك شرط ومقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر.
والمؤمنون حقاً لهم أدب مع الله ورسوله، ولهم قول حسن إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ينبئ عن إشراق قلوبهم بالنور كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 51].
فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال، السمع والطاعة المبنيان على الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم، وما عداه الظلم والهوى النابعان من التسليم المطلق لله العليم بمصالح خلقه، الرحيم بهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 52].
إن المؤمنين عندهم الطاعة لله ورسوله:
في كل أمر.. وفي كل نهي.. وفي كل حكم.. وفي كل شأن.
وهي طاعة مصحوبة بخشية الله وتقواه، والتقوى أعم من الخشية، فهي مراقبة الله، والشعور به عند الصغيرة والكبيرة، والتحرج من إتيان ما يكره، توقيراً لذاته سبحانه، وإجلالاً له، وحياءً منه، إلى جانب الخوف والخشية.
وذلك أدب رفيع ينبئ عن مدى إشراق قلب المؤمن بنور الله، واتصاله به، وشعوره بهيبته، مما ينبئ عن عزة القلب المؤمن واستعلائه، فكل طاعة لا ترتكز على طاعة الله ورسوله ذلة يأباها الكريم، وينفر منها طبع المؤمن:
فالمؤمن الحق لا يحني رأسه إلا لله الواحد القهار: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ??) [البروج: 9].
3- فقه آثار الطاعات والمعاصي
(12/31)
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 41].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [الزمر: 60].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
ضرر الذنوب والمعاصي والآثام في القلوب كضرر السموم في الأبدان، وليس في الدنيا والآخرة من شر إلا وسببه الذنوب والمعاصي.
ومن آثار وأضرار الذنوب والمعاصي:
حرمان العلم.. وحرمان الرزق.. والوحشة بين العبد وربه، وبينه وبين الناس.. وظلمة يجدها العبد في قلبه.. وتعسر أموره عليه.. وحرمان الطاعة.. ووهن القلب والبدن.
والمعاصي تقصر العمر.. وتمحق بركته.. وتنقص العقل.. ويجر بعضها إلى بعض.. فيألفها العاصي ولا يستطيع مفارقتها.. ولا يستقبح فعلها أمام غيره.
والمعاصي سبب لهوان العبد على ربه، وسقوطه من عينه، وكما أن العز في طاعة الله.. فكذلك الذل في معصية الله.
والمعاصي مفسدة للعقول، تورث الطبع على القلوب، وتدخل العبد تحت لعنة الله ورسوله، وحرمانه من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والملائكة.
ومن آثار الذنوب والمعاصي كذلك:
أنها تحدث في الأرض أنواعاً من الفساد في الإنسان والحيوان، وفي المياه والهواء، وفي الزروع والثمار وغيرها.
والمعاصي تذهب الغيرة من القلب، وتذهب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وتضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله، وتضعف وقاره في القلب، وتستدعي نسيان الله لعبده، وتركه وخذلانه له، وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه.
ومن عقوباتها أنها تسبب نسيان العبد لنفسه، وتخرجه من دائرة الإيمان والإحسان إلى ما دونها، وتمنعه ثواب المؤمنين.
فالإيمان سبب جالب لكل خير، وكل خير في الدنيا والآخرة فسببه الإيمان والطاعات، وكل شر في الدنيا والآخرة فسببه الكفر والمعاصي.
والطاعات تقوي سير القلب إلى الله والدار الآخرة، والمعاصي تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة أو تعوقه، أو توقفه.
(12/32)
فالذنب إما أن يميت القلب، أو يمرضه مرضاً مخوفاً، أو يضعف قوته تدريجياً حتى ينقطع عن السير إلى الله.
فإن نجاسة المعاصي والفواحش في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الدغل في الزرع، وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة.
فكما أن بدن الإنسان إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة استراح فعمل بلا معوق ونما، فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة، وزكا ونما وقوي واشتد، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له الجوارح وأطاعت، ولا سبيل إلى زكاته إلا بعد طهارته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [النور: 30].
والله عزَّ وجلَّ لا يضيع أجر من أحسن عملاً، يجزي العبد على ما عمل من خير في الدنيا فيها، ثم في الآخرة يوفيه أجره بأعظم مما في الدنيا كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ??) [النحل: 30].
وقال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [النحل: 97].
وكذلك الكفار يعاقبون بسوء أعمالهم في الدنيا، ثم يصيرون في الآخرة إلى أشد العذاب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 34].
فما أجدر العاقل بطاعة ربه، واجتناب معصيته، ولو لم يعذب الله على معصيته لكان ينبغي أن لا يعصى؛ لعظمته وجلاله، وجزيل نعمه وإحسانه.
والله عزَّ وجلَّ لما خلق آدم صلى الله عليه وسلم ، علم المطيع من ذريته والعاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، وقضى بسعادة من علمه مطيعاً، وشقاوة من علمه عاصياً، وطار لكل واحد ما هو صائر إليه كما قال سبحانه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [الإسراء: 13].
(12/33)
والطاعات سبب لنزول النعم، وحصول البركات، والمعاصي والذنوب تزيل النعم وتحل النقم، وتسبب الوحشة والرعب والخوف في قلب العصاة، وكلما كثرت الذنوب زادت الوحشة بينه وبين ربه، وبينه وبين خلقه، فالغفلة توجب الوحشة، وأشد منها وحشة المعصية، وأشد منها وحشة الشرك.
والطاعات غذاء للقلوب، والمعاصي تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضاً معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه.
والذنوب تعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد أبواب العلم، وتحجب موارد الهداية، وتذل النفس وتصغرها حتى تصير أصغر شيء وأحقره.
والطاعات تجعل مع العبد معية الله ونصره وحفظه، والذنوب تجعل العاصي في أسر شيطانه، وسجن شهواته، وقيد هواه: (? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 38].
وإذا قيد القلب طرقته الآفات بحسب قيوده، فلا يستطيع السير إلى الله والدار الآخرة: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 24].
وكلما بعد القلب عن الله كانت الآفات إليه أسرع، والبعد عن الله عزَّ وجلَّ مراتب متفاوتة، فالغفلة تبعد العبد عن الله.. وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة. وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية.. وبعد الشرك والنفاق أعظم من ذلك كله، والمعاصي تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف والعزة، وتكسوه أسماء الذل والذم والصغار، وشتان ما بين الأمرين: (ے ے ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 18-20].
فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن، والتقي والمطيع والورع، والطيب والصالح والعابد، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي، والمفسد والمسيء، والمجرم والخبيث، والكاذب والخائن، والسارق والزاني، والظالم والفاسق ونحو ذلك من أسماء الفسوق.
(12/34)
والطاعات صلة بين العبد وربه، والمعاصي توجب القطيعة بين العبد وربه، وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير، واتصلت به أسباب الشر كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 36،37].
والمعاصي والذنوب تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، بل تمحق بركة الدين والدنيا، وما محقت بركة الأرض إلا بمعاصي الخلق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 41].
وإنما كانت معصية الله سبباً لمحق بركة الرزق والأجل وغيرها؛ لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها، وكل شيء اتصل به الشيطان فبركته ممحوقة، وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة.
فإن الله هو الذي يبارك وحده، والبركة كلها منه، وكل ما نُسب إليه مبارك من الكلام، والأنبياء، والأزمنة، والأمكنة، والأعمال، والعبيد كما قال سبحانه عن كتابه: (? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [الأنعام: 155].
وقال رسوله عيسى صلى الله عليه وسلم : (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [مريم: 31].
وقال عن بيته الحرام: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [آل عمران: 96].
فـ: (? ? ژ ژڑ) [الرحمن: 78].
وضد البركة اللعنة، فأرض لعنها الله، أو أمة لعنها الله، أو شخص لعنه الله، أو عمل لعنه الله، هو أبعد شيء من الخير والبركة، وكل ما اتصل بذلك فلا بركة فيه البتة.
وقد لعن الله عدوه إبليس، وجعله أبعد خلقه منه، فكل ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قربه منه، واتصاله به.
ولعن سبحانه الكافرين والظالمين، وكل من آذى الله ورسوله، ولعن الكاذبين والمفسدين، ولعن من كتم ما أنزل الله من البينات والهدى كما قال سبحانه:
(? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 159،160].
وأهل طاعة الله هم الأعلون في الدنيا والآخرة، وهم أكرم خلقه عليه، وأهل معصيته أهون خلقه عليه، وهم الأسفلون في الدنيا والآخرة.
(12/35)
والذنوب والمعاصي تجعل صاحبها من السفلة بعد أن كان مهيئاً لأن يكون من العلية البررة.
وكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين، ثم في أسفل سافلين كحال العصاة والكفار والمنافقين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 145].
وكلما عمل العبد طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين، ثم في أعلى الأعلين: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النساء: 69،70].
والنزول أمر لازم للإنسان كالصعود، فقد هيأه الله ليصعد بالطاعات إلى أعلى، أو ينزل بالمعاصي إلى أسفل.
فمن شاء أن يتقدم فيعمل بما يقربه من ربه، ويدنيه من رضاه، ويزلفه إلى دار كرامته، أو يتأخر عما خلق له، وعما يحبه الله ويرضاه، فيعمل بالمعاصي، ويتقرب إلى نار جهنم، فكل ذلك ميسر وممكن: (? ? ? ? ? ? ??) [المدثر: 37].
والنزول درجات:
فهو يحصل للعبد بسبب الغفلة.. أو التوسع في المباحات.. أو إلى معصية صغيرة أو كبيرة.. فهذا علاجه الإقلاع والتوبة.
فإن كان النزول إلى أمر يقدح في أصل الإيمان كالشك والريب والنفاق، فهذا لا يرجى لصاحبه صعود إلا بتجديد إسلامه.
ومن عقوبات المعاصي والآثام:
أنها تجرئ على العبد من لم يكن يتجرأ عليه من أصناف المخلوقات.
فتجرئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة، والتخويف والتحزين والنسيان، وتؤزه إلى المعاصي أزاً.
ويجترئ عليه شياطين الإنس بما يقدرون عليه من أذاه.
ويجترئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه، حتى الحيوان البهيم.
ويجترئ عليه أولياء الأمر بالعقوبة التي إن عدلوا فيها أقاموا عليه الحد.
وتجترئ عليه نفسه فتستأسد عليه، وتصعب عليه، فلا تنقاد له، فلو أرادها لخير لم تطاوعه ولم تنقد له، وتسوقه إلى ما فيه هلاكه شاء أم أبى.
(12/36)
وذلك لأن الطاعة حصن الرب، فمن دخله كان آمناً، فإذا فارق الحصن اجترأ عليه قطاع الطريق وغيرهم، وبحسب اجترائه على معاصي الله تكون جرأتهم عليه، وانتقامهم منه.
والقلب يصدأ بالذنوب، ويصير مثخناً بالمرض، والنفس المطمئنة تخبث بالشهوات والمعاصي وتضعف، وربما ماتت، والمعاصي تخوف العبد أحوج ما يكون إلى نفسه.
فإذا وقع العبد في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله، والإنابة إليه، والتضرع والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكر ذكر بلسانه دون قلبه.
ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ولم تطاوعه، وأدهى من ذلك وأمر أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار، فربما لم ينطق بالشهادة عند الموت، بل ربما نطق بضدها أحياناً.
والمعاصي تعمي القلب وتضعف بصيرته، فإذا عمي القلب وضعف فاته من معرفة الله، ومعرفة الهدى، وقدرته على تنفيذه في نفسه وفي غيره بحسب ضعف بصيرته وقوته، فينعكس إدراكه كما ينعكس سيره، فيدرك الباطل حقاً، والحق باطلاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ويفسد ويرى أنه يصلح، فينتكس في سيره، ويرجع عن سفره إلى الله والدار الآخرة إلى سفره إلى مستقر النفوس المبطلة التي رضيت بالحياة الدنيا واطمأنت بها، وغفلت عن الله وآياته، فماذا أعد الله لهؤلاء من العذاب؟.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ٹٹ) [يونس: 7، 8].
ومن عقوبات الذنوب والمعاصي:
أن المعاصي مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه، وجيش يقويه به على حربه، وهو الشيطان الذي لا يفارق الإنسان طرفة عين، يراه الشيطان من حيث لا يراه.
والنفس أول مداخل الشيطان على القلب، فإذا منَّاها وحقق لها مرادها اطمأنت إليه، فخامرت القلب، وصارت مع الشيطان عليه.
وبذلك يملك الشيطان ثغور البلد وهي:
العين.. واللسان.. والأذن.. والفم.. واليد.. والرجل.
(12/37)
ويرابط على هذه الثغور كل المرابطة، ويدخل على القلب منها فيفسده، فيجعل نظر العين نظر تفرج ولهو لا نظر فكر واعتبار، وهذا أخطر شيء.
ويرابط على ثغر الأذن، فلا يدخل منه إلا الباطل، الذي هو خفيف على النفس تستحليه وتستملحه، ولا يسمح بدخول هذا الثغر من كلام الله ورسوله أو كلام النصحاء والوعاظ.
فإن غلب ودخل شيء من ذلك، حال بينه وبين فهمه وتدبره والعظة به، إما بإدخال ضده عليه، أو بتهويل ذلك وتعظيمه، وأنه حمل ثقيل عليها لا تستطيعه، وإما بإرخاصه على النفوس، وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أعلى عند الناس، والذي زبائنه أكثر.
وأما الحق فهو مهجور، وقائله معرِّض نفسه للعداوة والشبهة، يدخل الشيطان عليه الباطل بالقالب الذي يحبه ويقبله ويخف عليه، ويخرج له الحق في كل قالب يكرهه ويثقل عليه، وينفره منه.
ويجتهد الشيطان على ثغر اللسان، وهو الثغر الأعظم، فيجري عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، ويمنعه أن يتكلم بشيء مما ينفعه من ذكر الله واستغفاره، وتلاوة كتابه، والدعوة إليه، والنصح لعباده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويرابط الشيطان على اللسان، ويزين له التكلم بالباطل بكل طريق، ويخوفه عن التكلم بالحق بكل طريق، فلا تراه إلا متكلماً بباطل، أو ساكتاً عن حق.
فالأول شيطان ناطق، والآخر شيطان أخرس، والشياطين وأتباعهم في جهنم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 77].
ويجتهد الشيطان كذلك على ثغر اليدين والرجلين، فيمنع اليد أن تبطش بما يضر أعداء الله ورسوله، ويمنع الرجل أن تمشي للخير وجهاد أعداء الله ورسوله، والدعوة إليه.
يحرك الجوارح لكل معصية.. ويثبطها عن كل طاعة.
فما أعظم عداوة الشياطين لبني آدم، وما أشد غفلة بني آدم عنهم؟.
(? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يس: 60-62].
(12/38)
ومما يعين الشياطين على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمارة بالسوء، وإعانتها والاستعانة بها، والوقوف معها ضد النفس المطمئنة.
فإن النفس الأمارة إذا قويت وأطاعت الشياطين، أنزلوا القلب من حصنه، وأخرجوه من مملكته، وولوا مكانه النفس الأمارة بالسوء، التي تأمر بما تهوى الشياطين وتحبه، ولا تخالفهم البتة، بل تبادر إلى فعل كل ما يشيرون به من الفواحش والآثام.
والشياطين تغلب بني آدم بجندين:
الأول: جند الغفلة التي تغفل قلوب بني آدم عن الله والدار الآخرة.
الثاني: جند الشهوات التي يزينونها في قلوب بني آدم، ويحسنونها في أعينهم، ثم ينقلونهم منها إلى المحرمات، ثم إلى الكبائر، ثم الخروج من الدين.
يستعينون تارة بالشهوات على الغفلة، وتارة بالغفلة على الشهوات، يصطادون بني آدم عند الشهوة، وعند الغضب، وعند الغفلة.
ويدعونهم إلى الشهوة من باب الغضب، وإلى الغضب من باب الشهوة، وأبلغ أسلحة الشياطين في بني آدم الغفلة واتباع الهوى، ولذلك حذرنا الله من ذلك بقوله: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 28].
ومن عقوبات الذنوب:
أنها تنسي الإنسان نفسه، وإذا نسي العبد نفسه أهملها وتركها ففسدت، وإذا نسي العبد ربه نسيه، وأنساه نفسه.
ونسيان الرب للعبد إهماله وتخليه عنه، وإضاعته، وأما إنساؤه نفسه فهو إنساؤه لأسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها، وما تكمل به، فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها.
وينسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامها، فلا يخطر بباله مداواتها، ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول به إلى الفساد والهلاك، وكفى بذلك عقوبة، وقد حذرنا الله من ذلك بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [الحشر: 18،19].
وكيف تكون حال الإنسان إذا نسيه ربه؟ ونسي هو ربه؟ ونسي نفسه؟ وأنساه الله نفسه؟.
وإنما يظهر أثر هذا عند الموت، ويزداد ظهوره في القبر، ويبلغ تمامه يوم التغابن.
(12/39)
فالذنوب والمعاصي تنسي العبد حظه من التجارة الرابحة، وتشغله بالتجارة الخاسرة، وتجمع حوله الأشرار، وتنفره من الأتقياء الأبرار.
والمعاصي تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة، فلكل شيء سبب وآفة، فنعم الله ما حُفظ موجودها، ولا استُجلب مفقودها بمثل طاعة الله.
وجعل آفاتها المانعة منها المعاصي:
فإذا أراد الله سبحانه حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 7].
ومن عقوبات المعاصي والذنوب:
أنها تباعد عن العبد وليه وأنفع الخلق له، وهو الملك الموكل به، وتدني منه عدوه وأغش الخلق له، وهو الشيطان.
فالعبد إذا عصى الله تباعد منه الملك بقدر تلك المعصية، وقرب منه الشيطان، وإذا أطاع العبد ربه قرب منه الملك، وتباعد منه الشيطان.
ولا يزال الملك يقرب من العبد بالطاعة، فتتولاه الملائكة في حياته، وعند موته، وعند بعثته، وإذا تولاه الملك تولاه أنصح الخلق له، يبشره بالخير، ويعينه عليه، ويدفع عنه عدوه.
وإذا اشتد قرب الملك من العبد تكلم على لسانه بالقول السديد، وإذا اشتد قرب الشيطان من العبد تكلم على لسانه بالفحش والزور.
والمعاصي والذنوب والآثام تستجلب مواد هلاك العبد في الدنيا والآخرة، وتلك أمراض متى استحكمت ولم تعالج قتلت ولا بدّ.
وكما أن صحة البدن تكون بغذاء نافع يحفظ قوته، واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة، والأخلاط الرديئة، وحمية يمتنع بها مما يؤذيه.
فكذلك القلب لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة، تحفظ قوته، واستفراغ بالتوبة النصوح تستخرج المواد الفاسدة، والأخلاط الرديئة منه، وحمية توجب له حفظ الصحة بترك النواهي والمحرمات.
فهذه بعض العقوبات القدرية على المعاصي.
أما عقوبات المعاصي الشرعية:
(12/40)
فالله عزَّ وجلَّ شرع عقوبات شرعية على الجرائم كقطع اليد في السرقة، وقطع أيدي وأرجل قطاع الطريق، والجلد بالقذف وشرب الخمر، والقتل والجلد في الزنا، وغير ذلك من العقوبات التي شرعها الله ورتبها على الجرائم، وجعلها سبحانه على حسب الدواعي، وحسب الوازع عنها.
فالذنوب والمعاصي تترتب عليها العقوبات الشرعية، أو القدرية، أو هما معاً، وقد يرفعهما الله عمن تاب وأحسن.
وإذا أقيمت العقوبات الشرعية رفعت العقوبات القدرية، أو خففتها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?ٹ) [يونس: 98].
وإذا عطلت العقوبات الشرعية استحالت قدرية، وربما كانت أشد من الشرعية، وربما كانت دونها، ولكنها تعم، والشرعية تخص كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 78-80].
والعقوبات القدرية نوعان:
نوع على القلوب والنفوس.. ونوع على الأبدان والأموال.
وعقوبات القلوب أشد العقوبتين، وهي تسري من القلب إلى البدن، كما يسري ألم البدن إلى القلب.
والعقوبات على الأبدان نوعان:
نوع في الدنيا.. ونوع في الآخرة.
وشدتها وآلامها بحسب تلك المعصية، وليس في الدنيا والآخرة شراً أصلاً إلا الذنوب وعقوباتها.
ومن عقوبات الذنوب:
الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به إلى أسفل سافلين وعلامة الخسف بالقلب: أنه لا يزال جوالاً حول السفليات، والقاذورات، والرذائل، كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالاً حول العلويات، والطاعات، والطيبات.
وأصول الخطايا كلها ثلاثة:
الأول: الكبر.. وهو الذي صير إبليس إلى ما صار إليه.
الثاني: الحرص.. وهو الذي أخرج آدم من الجنة.
الثالث: الحسد.. وهو الذي جر أحد ابني آدم على قتل أخيه، وأول ذنب عُصي الله به في الأرض.
ومن وقي شر هذه الثلاثة فقد وقي الشر، فالكفر من الكبر، والمعاصي من الحرص، والظلم من الحسد.
(12/41)
وقد دخل الناس النار من ثلاثة أبواب:
باب شبهة أورثت شكاً في دين الله.
وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على الهدى.
وباب غضب أورث العدوان على خلق الله.
فللسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة لا بد من طاعة الله ورسوله، وكلما ازداد المسلم من طاعة الله ورسوله ازداد خيره وكماله، وارتفعت درجته عند الله لزيادة إيمانه وأعماله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ںں) [البقرة: 158].
والله شكور يقبل اليسير من العمل، ويجازي عليه بالأجر العظيم.
فمن أطاعه أعانه على ذلك.. وأثنى عليه ومدحه.. وجازاه في قلبه نوراً وإيماناً وسعة.. وفي بدنه قوة ونشاطاً وعافية.
وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء.. وفي أعماله زيادة توفيق.
ثم بعد ذلك يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملاً، لم تنقصه هذه الأمور.
ومع أنه سبحانه شاكر، فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل بحسب نيته وإيمانه وتقواه ممن ليس كذلك.
وبالطاعات تصلح أحوال الإنسان في الدنيا والآخرة.. وبالمعاصي تفسد أحوال الإنسان في الدنيا والآخرة.
فالبهائم إذا أكلت الحشائش، والسباع إذا أكلت اللحوم، صح مزاجهما، وإذا علفت البهائم اللحم، وعلفت السباع الحشائش، فسد مزاجهما.
وكذلك الإنسان إذا باشر أعمالاً صالحة صلح مزاجه الملكي، وإذا باشر أعمالاً سيئة فسد مزاجه الملكي.
فلصلاح الإنسان يجب عليه الإيمان بالله، وطاعة الله ورسوله في كل حال، وفعل الأوامر، واجتناب النواهي.
والحيوان مجبول على أكل ما ينفعه، واجتناب ما يضره، أما الإنسان فقد أعطاه الله العقل، وأنزل عليه الكتب، وأرسل إليه الرسل، وبين له ما ينفعه وما يضره، وترك له حرية الاختيار امتحاناً وابتلاءً.
والطاعات كلها منافع، فالسموات والأرض، والشمس والقمر، والحيوان والنبات، كلها أطاعت فنفعت، وخرج منها من المنافع ما لا يعلمه إلا الله.
(12/42)
وكذلك الإنسان كلما أطاع الله نفع نفسه وغيره، وخرج منه من المنافع ما لا يعلمه ولا يحصيه إلا الله من العبادة، والدعوة، والتعليم، والإنفاق، وأعطاه الله من خزائنه ما يريد.
4- فقه النعيم والعذاب
قال الله تعالى: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [الانفطار: 13-14].
وقال تعالى: ( ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [الرعد: 35].
الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده كل شيء، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وهو الحكيم العليم.
يعز ويذل.. ويكرم ويهين.. ويرضى ويغضب.. ويعطي ويمنع.. ويحب ويكره.. ويرفع ويخفض.. ويرحم وينتقم: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [الرحمن: 29].
اقتضت حكمته سبحانه أن خلق داراً لطالبي رضاه، العاملين بطاعته، المؤثرين لأمره، القائمين بمحابه، المطيعين لرسله، وهي الجنة دار النعيم.
وجعل فيها كل شيء مرضي، وملأها من كل محبوب ومرغوب، ومشتهي ولذيذ، وجعل الخير كله بحذافيره فيها، وجعلها محل كل طيب من الذوات والصفات، والأقوال والأعمال، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 25].
وخلق سبحانه داراً أخرى لطالبي أسباب سخطه، العاملين بمعصيته، المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، المخالفين لأوامره، القائمين بما يكره من الأقوال والأعمال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله، وهي جهنم دار العذاب.
وأودعها كل شيء مكروه، وسجنها مليء بكل شيء مؤذ ومؤلم، وجعل الشر كله بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات، والأقوال والأعمال.
فهاتان الداران هما دار القرار.
وخلق سبحانه داراً ثالثة، هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا دار العمل.
(12/43)
ثم أخرج سبحانه إليها من أثمار تلك الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما، وما يستدل به عليهما، حتى كأنهما رأي عين، ليصير للإيمان بالغيب وجه شهادة تستأنس به النفوس، وتستدل به.
فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات، والملابس الفاخرة، والصور الجميلة، وسائر ملاذ النفس ومشتهياتها، ما هو نفحة من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال والدوام.
فإذا رآه المؤمنون في الدنيا، ذكرهم بما هناك من الخير والسرور، والعيش الرضي في الآخرة، فشمروا إليه وقالوا: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.
وأحدثت لهم رؤيته عزمات وهمماً، وجداً وتشميراً؛ لأن النعيم يذكر بالنعيم، والشيء يذكر بجنسه.
فوجود تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمة من الله يسوق بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها، وزاد لهم من هذه الدار إليها، فهي زاد وعبرة ودليل، وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك الدار.
فالمؤمن يهتز برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكن عزماته إلى دار النعيم والخلود، فالنفس ذواقة تواقة، إذا ذاقت شيئاً منها تاقت إلى ما هو أكمل منه، حتى تتوق وتصل إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم.
وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضاً من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يستدل بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النفَسَين الشتاء والصيف، اللذين أذن الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما كما قال صلى الله عليه وسلم : «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقالتْ: رَبِّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» متفق عليه (1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3260) واللفظ له، ومسلم برقم (617).
(12/44)
فاقتضى ذلك النفسان آثاراً ظهرت في هذه الدار كانت دليلاً عليها وعبرة، تذكرة تذكر بنار جهنم، ومنفعة للعباد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 71-73].
فالله سبحانه وتعالى أشهد خلقه في هذه الدار ما أعده لأوليائه وما أعده لأعدائه في دار القرار.
وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما في الآخرة من خير وشر ونعيم وعذاب.
وجعل هذه العقوبات والآلام المحن والبلايا سياطاً يسوق بها عباده المؤمنين، فإذا رأوها حذروا كل الحذر، واستدلوا بها على ما في نار جهنم من المكروهات والعقوبات.
وكان وجودها في هذه الدار وإشهادهم إياها، وامتحانهم باليسير منها، رحمة منه بهم، واحساناً إليهم، وتذكرة وتنبيهاً لهم.
ولما كانت هذه الدار ممزوجاً خيرها بشرها، ونعيمها بعذابها، وراحتها بعذابها، اقتضت رحمة أرحم الراحمين، وحكمة أحكم الحاكمين أن خَلَّص خيرها من شرها، ونعيمها من عذابها، وخصه بدار أخرى، هي دار الخيرات المحضة، ودار النعيم والسرور المحض، وهي الجنة دار السلام.
فكتب سبحانه على دار الدنيا حكم الامتزاج والاختلاط، وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة، حكمة بالغة بهرت العقول: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 20].
فقام بهذا الاختلاط سوق العبودية كما يحبه الله ويرضاه، ولم تكن تقوم عبوديته التي يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه.
بل العبد الواحد جمع فيه سبحانه بين أسباب الخير والشر، وسلط بعضه على بعض، ليستخرج منه ما يحبه ويرضاه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك.
فلما حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط أعقبه سبحانه بالتمييز والتخليص، فميز بينهما بخلق دارين ومحلين، وجعل لكل دار ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها.
وخلق سبحانه المؤمنين المتقين المخلِّطين لرحمته.. وخلق أعداءه المشركين والكافرين لنقمته.. وخلق المخلِّطين للأمرين.
(12/45)
فهؤلاء أهل الرحمة، وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل النقمة والرحمة، وخلق قسماً آخر لا يستحقون ثواباً ولا عقاباً.
ورتب سبحانه على كل قسم من هذه الأقسام حكمه اللائق به، وأظهر فيه حكمته الباهرة، ليعلم العباد كمال قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء ويختار من خلقه من يصلح للاختبار والابتلاء، وأنه يضع ثوابه موضعه، ويضع عقابه موضعه، ويجمع بينهما في المحل المقتضي لذلك.
ولا يظلم سبحانه أحداً، ولا يبخسه شيئاً من حقه، ولا يعاقبه بغير جنايته.
بل يجازي على الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، ويعاقب على السيئة بمثلها ويعفو عن كثير.
هذا مع ما في هذا الابتلاء والامتحان من الحكم النافعة للعبيد أنفسهم من استخراج شكرهم وصبرهم.. وتوكلهم وجهادهم.. وخوفهم ورجائهم.. واستخراج كمالاتهم الكامنة في أنفسهم من القوة إلى الفعل.
ودفع سبحانه الأسباب بعضها ببعض.. وكسر كل شيء بمقابله لتظهر عليه آثار القهر.. وسمات الضعف والعجز.. ويتيقن العبد أن القهار لا يكون إلا واحداً وأنه يستحيل أن يكون له شريك في أسمائه وصفاته وفي خلقه وأمره.
وأن الملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار، وأن ما سواه مربوب مقهور له ضد ومناف ومشارك، والله حكيم عليم.
فخلق سبحانه الرياح وسلط بعضها على بعض تصادمها وتكسر سورتها.
وخلق الماء وسلط عليه الرياح تصرفه وتكسره.
وخلق النار وسلط عليها الماء يكسرها ويطفئها.
وخلق الحديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته.
وخلق الحجارة وسلط عليها الحديد يكسرها ويفتتها.
وخلق آدم وذريته وسلط عليهم إبليس وذريته.
وخلق إبليس وذريته وسلط عليهم الملائكة، يشردونهم كل مشرد، ويطردونهم كل مطرد، ونجوم السماء والشهب التي ترجمهم عند استراق السمع.
وخلق سبحانه الحر والبرد، والشتاء والصيف، والليل والنهار، والرطب واليابس، وسلط كل واحد منهما على الآخر يذهبه ويقهره.
(12/46)
وخلق سبحانه النبات والحيوان والطير، في البر والبحر، وسلط بعضها على بعض، فلكل واحد منها مضاد ومغالب وقاهر.
فسبحان الحكيم الخبير الذي خلق كل شيء، المالك لكل شيء، القاهر لكل شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 73].
فاستبان للعقول والفطر أن الحكيم العليم سبحانه هو القاهر الغالب وحده لجميع المخلوقات، فهو خالقها ومالكها ومصرفها، وكلها تحت قهره وأمره.
ومن تمام ملكه إيجاد العالم على هذا الوجه، وربط بعضه ببعض، وابتلاء بعضه ببعض، وامتزاج بعضه ببعض، وقهر بعضه ببعض، وإحواج بعضه إلى بعض، وامتزاج خيره بشره، وجعل شره لخيره الفداء، ولهذا يدفع إلى كل مؤمن يوم القيامة كافر، ويقال له هذا فداؤك من النار، ويرث مكانه في الجنة.
وهكذا المؤمن في الدنيا يسلط عليه من الابتلاء والامتحان والمصائب ما يكون فداءه من عذاب الله يوم القيامة، أو يكون فداءً له من شرور أكثر منها في هذا العالم أيضاً.
فسبحان الحكيم العليم، اللطيف الخبير: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 12].
والله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق الملائكة والإنس والجن والشياطين، وجعل لكل منهم أعمالاً وأوامر، وهم يوم القيامة أربعة أصناف:
خلق كلهم في الجنة وهم الملائكة.. وخلق كلهم في النار وهم إبليس وذريته من الشياطين.. وخلق بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار وهم الجن والإنس.
فهؤلاء الإنس والجن هم الذين أرسل الله إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأمرهم بعبادته وطاعته.
فمن قيد حريته منهم في الدنيا بمنهج الله، أطلق الله حريته في الآخرة، فيستدعي في الجنة من النعمة ما شاء، في أي وقت شاء، بأي قدر شاء.. ومن أطلق حريته في الدنيا بما شاء، وأعرض عن منهج الله، قيد الله حريته في الآخرة، ونال في سجن جهنم ألوان العذاب جزاءً وفاقاً.
والإنس والجن من مات منهم على الكفر، فهذا مخلد في النار.
(12/47)
والمؤمن المحسن منهم إذا مات على ذلك، فهذا في الجنة.
والمؤمن المذنب إذا مات تائباً، فهذا في الجنة كذلك.
أما المؤمن المذنب الذي مات قبل توبته:
فآيات الوعد في القرآن والسنة لفظها العموم، والمراد بها الخصوص، فهي في المؤمن المحسن، وفي التائب من الذنب، وفيمن سبق في علم الله العفو عنه.
وآيات الوعيد لفظها العموم، والمراد بها الخصوص، فهي في الكفار والمشركين والمنافقين، وفيمن سبق في علم الله أنه يعذبه من العصاة. كما قال سبحانه: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 48].
وينشأ للعبد من أعماله الصالحة كل ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه من سائر المشتهيات، ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن واللذة والموافقة بحسب كمال عمل العبد وإخلاصه فيه، وتنوعه ومتابعته فيه للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبلوغه مرتبة الإحسان فيه.
وينشأ له كذلك من أعماله السيئة كل ما تكرهه نفسه، وتستقبحه عينه من سائر المكروهات والمؤلمات، ويكون تنوع تلك الآلام وشدتها، وبلوغها مرتبة القبح والشدة بحسب أعمال العبد السيئة، وصده عن سبيل الله، وبحسب تنوع أعماله السيئة وخبثه وكبره وإعراضه.
فمن تنوعت أعماله المرضية لله المحبوبة له في هذه الدار، تنوعت الأقسام والمصائب التي يتألم بها في تلك الدار، وكثرت بحسب كثرة أعماله.
رأى النبي صلى الله عليه وسلم قنواً من حشف معلقاً في المسجد للصدقة فقال: «لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا» وَقَالَ: «إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَأْكُلُ الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه أبو داود والنسائي (1).
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود برقم (1608)، صحيح سنن أبي داود رقم (1419).
وأخرجه النسائي برقم (2493)، صحيح سنن النسائي رقم (2337).
(12/48)
وقد جعل الله عزَّ وجلَّ لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثراً وجزاء، ولذة وألماً يخصه ولا يشبه أثر الآخر وجزاءه.
ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة، وآلام أهل النار، وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات.
فليست لذة من ضرب في كل مرضاة الله بسهم، وأخذ منها بنصيب كلذة من أنمى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 172].
وليس ألم من ضرب في كل مسخوط لله بسهم وعقوبته كألم من ضرب بسهم واحد في مساخطه سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?) [النحل: 88].
والحياة الطيبة تحصل للعبد بالإيمان والأعمال الصالحة من عبادة، ودعوة إلى الله، وتعليم للدين، وحسن خلق، وامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 97].
والحياة الطيبة ليست في الدنيا فقط، بل هذه الحياة الطيبة تزداد طيباً وحسناً كلما انتقل من مرحلة إلى أخرى.
فيسعد المؤمن بذلك في الدنيا.. ثم تزداد سعادته عند سكرات الموت، حين تنزل عليه الملائكة تؤنسه وتبشره بالجنة.. ثم تزداد سعادته في القبر حيث يجعله الله روضة من رياض الجنة.. ثم تزداد سعادته في الحشر، حيث يزداد طيباً وحسناً وطمأنينة.. ثم تبلغ سعادته كمالها حين يدخل الجنة، ويفوز برؤية مولاه ورضاه.
وهكذا الإنسان يفسد حياته بنفسه، فكلما أساء في عمله ساءت أحواله، وجاءت عليه المحن والمصائب.. ثم زادت عليه عند الموت.
ثم تزداد في القبر.. ثم تزداد عند الحشر.. ثم تزداد وتبلغ كمالها حين يدخل نار جهنم، ويبوء بسخط الله وغضبه ولعنته.
والحياة الطيبة لا تكون بالأموال والأشياء، ولو كانت تحصل بالأموال لكان قارون أسعد الناس، لكن الله خسف به وبداره الأرض؛ لأنه لم يكسبها ولم يصرفها حسب الإيمان فأهلكه الله وإياها: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [القصص: 81].
(12/49)
ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالزراعة لكان قوم سبأ أول من تصلح وتطيب حياتهم، لكنهم لما أعرضوا عن دين الله دمر الله مزارعهم بسيل العرم، ومزقهم كل ممزق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 15-17].
ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالقوة والصحة لكان قوم عاد أول من تطيب حياتهم، لكنهم لما أعرضوا عن الدين لم تنفعهم قوتهم، وعاقبهم الله بأهون شيء عليهم وهي الريح: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [الذاريات: 41-42].
ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالتجارة لكان قوم شعيب أسعد الناس، لكنهم لما أعرضوا عن الدين أهلكهم الله بعذاب الرجفة والصيحة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 94].
ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالملك لكان نمرود وفرعون أسعد الناس، لكنهم لما أعرضوا عن الدين أهلكهم الله وأذلهم بين خلقه كما قال سبحانه عن فرعون: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [الذاريات: 38-40].
ولو كانت كثرة النسل وطول الأعمار تحصل بها السعادة والحياة الطيبة، لكان قوم نوح أسعد الناس، لكنهم لما أعرضوا عن الدين أغرقهم الله كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الفرقان: 37].
ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالبناء والتعمير، وزراعة السهول، وبناء القصور لكانت ثمود أسعد الناس، ولكنهم لما أعرضوا عن الدين أهلكهم ودمرهم كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [هود: 66-68].
فلا سعادة ولا فلاح ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا بالإيمان والأعمال الصالحة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 74-76].
(12/50)
وثواب الله عزَّ وجلَّ على الطاعات، وجزاؤه على السيئات، حاصل لكل عبد، وذلك في الدنيا والآخرة.
فثواب الله العاجل للعبد على الطاعات:
الأنس بالله.. ومحبته.. والتلذذ بمعرفته وطاعته وعبادته.. والرضا بقضائه.. والطمأنينة بذكره.. وبسط الرزق.. والكفاية والهداية.. وغير ذلك مما عجله الله سبحانه من ثواب الطاعات في الدنيا.
أما ثواب الطاعات الآجل فأنواع:
أحدها: النعيم المادي كالمطاعم والمشارب، والحور والقصور والولدان المخلدون للخدمة ونحو ذلك.
الثاني: النعيم الروحاني كالتعزز بجوار الله وقربه، وسماع كلامه وسلامه، وتبشيره بالرحمة والرضوان.
الثالث: رضا الرحمن، ورؤية رب العالمين، وهما أعلى نعيم الجنان كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 72].
وأما عقوبة الله العاجلة على المعاصي فهي:
الوحشة من الله.. والإعراض عنه.. والاشتغال بما يبعده عنه.. ومحبة ما يسخطه وما يبغضه من الأقوال والأعمال.. وعدم الرضا بقضائه.. وضيق المعيشة.. والضلالة.. ونسيان ذكره.. والقعود عن طاعته.. وبعد الملائكة عنه.. واقتران الشياطين به.. والدعوة إلى كل شر..
وأما عقوبة الله الآجلة على المعاصي يوم القيامة فأنواع:
أحدها: العذاب الجسدي في نار جهنم بألوان العذاب من الإحراق بالنار، وأكل الزقوم، وشرب الماء الحميم، وضرب المقامع، وقيد السلاسل وغير ذلك من ألوان العذاب.
الثاني: العذاب الروحاني بالطرد والإهانة، واللعن والإعراض عنه.
الثالث: غضب الله عليه، ومنعه من رؤيته، وهما أشد أنواع العذاب كما قال سبحانه، عن الكفار: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [المطففين: 15-16].
وما أحسن محسن من مسلم وكافر إلا أثابه الله في الدنيا والآخرة.
أما المسلم فله السعادة في الدنيا، وله الجنة في الآخرة.
(12/51)
وأما الكافر فإن كان قد وصل رحماً، أو تصدق بصدقة، أو عمل حسنة، أثابه الله تعالى في الدنيا المال والولد والصحة ونحو ذلك حتى يلقى الله وليس له حسنة واحدة؛ لأن ما فعله من خير جوزي به في الدنيا.
وأما إثابة الكافر في الآخرة فعذاب دون عذاب، فعذاب من كفر ولم يؤذ المسلمين ليس كعذاب من كفر وصد عن سبيل الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ??) [النحل: 88].
وقد أرسل الله عزَّ وجلَّ الرسل لهداية الناس، فمن آمن بهم وأطاعهم سعد في الدنيا والآخرة، ومن عصاهم شقى في الدنيا والآخرة.
وقد عرض الله عزَّ وجلَّ في كتابه صوراً من صور العذاب الذي وقع بالأمم السابقة الذين كذبوا رسله، فنصر سبحانه أولياءه، وأهلك أعداءه: فمنهم من أهلكهم الله بالماء كقوم نوح وفرعون وقومه.. ومنهم من أهلكه الله بالريح الصرصر العاتية كقوم عاد.. ومنهم من أهلكه الله بالصيحة كقوم ثمود.. ومنهم من أهلكه الله بالنار التي أمطرتهم كقوم مدين.. ومنهم من أهلكه الله بالحجارة المصنوعة في جهنم وقلب ديارهم عليهم كقوم لوط.. ومنهم من خسف الله به وبداره الأرض كقارون.. ومنهم من قتله الله بأضعف خلقه البعوض كنمرود: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [العنكبوت: 40].
وقد جعل الله الجزاء على الأعمال في الآخرة لا في الدنيا؛ لأن العبد لو جوزي في الدنيا، وأعطى الله النعم والعافية لأهل الإيمان.. وأعطى الفقر والأمراض والمصائب والعذاب للكفار وأهل السيئات في الدنيا؛ لاهتدى الناس جميعاً بالطبع، وآمنوا جبراً وكرهاً.
وهذا الإيمان والاهتداء لا يقبل عند الله، فالإيمان الجبري ليس مقصوداً عند الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 48].
فالذين آمنوا بالله وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح لهم جنات النعيم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [لقمان: 8-9].
(12/52)
ألا ما أعظم فضل الرب على عباده، لقد أوجب على نفسه الإحسان إليهم جزاء إحسانهم لأنفسهم لا له سبحانه، وهو الغني عن الجميع كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 6].
والنعيم الكامل بلا منغصات يكون للمؤمنين يوم القيامة، وهو غاية من غايات الخلق والإعادة، إنه قمة الكمال البشري الذي يمكن أن تصل إليه البشرية.
والبشرية لا يمكن أن تصل إلى شيء من هذا في هذه الأرض، وفي هذه الحياة الدنيا المشوبة بالقلق والكدر، والتي لا تخلو فيها لذة من غصة إلا لذة الإيمان بالله الخالصة، وهذه قلما تخلص لبشر.
ولو لم يكن في هذه الحياة الدنيا إلا الشعور بنهاية نعيمها، لكان هذا وحده ناقصاً منها، وحائلاً دون كمالها.
فالبشرية لا يمكن أن تصل في هذه الأرض إلى أعلى الدرجات المقدرة لها، وهي التخلص من النقص والضعف، والاستمتاع بلا كدر ولا خوف من الفوت، ولا قلق من الانتهاء.
بل هذا كله تبلغه في الجنة، وما فيها من النعيم الواسع الشامل الكامل، وهناك يبلغ المهتدون من البشرية الذين اتبعوا سنة الحياة الصحيحة التي شرعها الله لعباده، هناك يبلغون في الجنة إلى أعلى مراتب البشرية: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [السجدة: 17].
أما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، فهؤلاء لم يسيروا في طريق الكمال البشري، بل جانبوه وأعرضوا عنه.
وهذا يقتضي حسب السنة الإلهية التي لا تتخلف ألا يصلوا إلى مرتبة الكمال؛ لأنهم جانبوا طريق الكمال، فلم يبق إلا أن يلقوا عاقبة انحرافهم كما يلقى المريض عاقبة انحرافه وإعراضه عن أوامر وتعليمات الصحة الجسدية، هذا يلقاه مرضاً وضعفاً، وأولئك يلقونه تردياً وانتكاساً، وغصصاً بلا لذائذ في نار جهنم.
فإعادة الخلق ليبلغوا هناك كمال النعيم لمن أطاع ربه، وكمال العذاب لمن عصى ربه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [يونس: 4].
(12/53)
والذين يرون هذا الكون وما فيه من المخلوقات والأوامر وتقلب الأحوال، ثم لا يتوقعون لقاء الله، ولا يدركون أن من مقتضيات هذا النظام المحكم أن تكون هناك آخرة، وأن الدنيا ليست النهاية؛ لأن البشرية لم تبلغ فيها كمالها المنشود، والذين يمرون بهذه الآيات كلها غافلين، لا تحرك فيهم قلباً يتدبر، ولا عقلاً يتفكر، هؤلاء لم يسلكوا طريق الكمال البشري، ولم يصلوا إلى الجنة التي وعد بها المتقون.
فهذا النظام الكوني البديع، وهذا التصريف والتغيير، وهذا الخلق المتجدد، وهذه الأوامر التي تعقبها الحياة والموت، والسكون والحركة، هذا كله يوحي بأن لهذا الكون خالقاً مدبراً، وهؤلاء لا يدركونه، ولا يدركون أن الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام وهذه السنن، يتم فيها تحقيق القسط والعدل، كما يتم فيها إبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا من كمال ونعيم وخلود.
ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله، ونتيجة لهذا يقفون عند الحياة الدنيا بما فيها من نقص وهبوط، ويرضونها ويستغرقون فيها، فلا ينكرون فيها نقصاً، ولا يدركون أنها لا تصلح أن تكون نهاية للبشر، فهؤلاء جزاؤهم النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [يونس: 7-8].
أما المؤمنون فيدركون أن هناك آخرة، وأن هناك ما هو أعلى من هذه الحياة الدنيا، وهي الجنة الأبدية التي أعدها الله لهم كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 9].
وثواب الإيمان والطاعات الجنة.. وعقوبة الكفر والمعاصي النار.
والله عزَّ وجلَّ لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 15].
وعذاب الله يستحقه المسيء بسببين:
أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادة العلم بها وبموجبها.
الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها.
فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد.
(12/54)
فأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله عنه التعذيب حتى تقوم الحجة بالعلم به.
وقيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة دون أخرى.
كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً.
وأفعال الله عزَّ وجلَّ تابعة لحكمته فهو الفعال لما يريد، لا يُسأل عما يفعل؛ لكمال حكمته وعلمه، ووضعه الأشياء مواضعها.
ليس في أفعاله سبحانه خلل ولا عبث ولا فساد يُسأل عنه كما يُسأل المخلوق، فهو الفعال لما يريد، ولكنه لا يفعل إلا ما هو خير ومصلحة ورحمة وحكمة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 23].
والمؤمنون الأبرار تكون قلوبهم في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها نعيم البتة، بل إن التفاوت الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة، وهذا أمر لا يصدق به إلا من باشر قلبه وذاق حلاوته كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [الانفطار: 13-14].
فالنعيم والجحيم ليس في الآخرة فقط، بل في الدور الثلاث:
دار الدنيا.. ودار البرزخ.. ودار القرار.
وهل النعيم إلا نعيم القلب؟.. وهل العذاب إلا عذاب القلب؟.
وأي عذاب أشد من إعراض العبد عن الله والدار الآخرة، وتعلقه بغير الله؟.
وكل شيء تعلق به الإنسان وأحبه من دون الله فإنه يسومه سوء العذاب، فكل من أحب شيئاً غير الله عذب به ثلاث مرات في هذه الدار:
يعذب به قبل حصوله حتى يحصل.. فإذا حصل عذب به بالخوف من سلبه وفواته.. فإذا سلبه اشتد عذابه عليه.
فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار.
وأما في البرزخ فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجى عوده بحجاب عن الله.. وألم الحسرة التي تقطع الأكباد.
(12/55)
فالهمّ والغمّ والحزن والحسرة تعمل في نفوسهم كما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم، بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها، فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر في نار جهنم.
فقلوب أهل الكفر والبدع والمعاصي في جحيم قبل الجحيم الأكبر، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر، لكن تمام وكمال النعيم والعذاب إنما هو في الدار الآخرة، وفي البرزخ دون ذلك، وفي هذه الدار دون ما في البرزخ.
قال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 34].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطور: 45-47].
وقد جعل الله تبارك وتعالى للطاعات والحسنات آثاراً محبوبة لذيذة طيبة، ولذتها فوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة.
وجعل سبحانه للمعاصي والسيئات آلاماً وآثاراً مكروهة تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة.
وقد جرت سنة الله أن كل من خرج عن شيء منه لله، حفظه الله عليه، أو أعاضه الله ما هو أجل منه.
فمن آثر الألم العاجل على الوصال الحرام أعقبه ذلك في الدنيا المسرة التامة، وإن هلك فالفوز العظيم، والله سبحانه لا يضيع ما تحمَّل عبده لأجله، فيوسف صلى الله عليه وسلم لما ترك امرأة العزيز لله، واختار السجن على الفاحشة، عوضه الله أن مكَّنه في الأرض.
والشهداء في سبيل الله لما خرجوا عن نفوسهم لله، جعلهم الله أحياء عنده يرزقون، وعوضهم عن أبدانهم التي بذلوها لله أبدان طير خضر، جعل أرواحهم فيها تسرح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش.
ولما تركوا مساكنهم له عوضهم مساكن طيبة في جنات عدن.
والمعين على الطاعات هو الله وحده.. والحافظ من المعاصي هو الله وحده.. والموفق لكل خير هو الله وحده.. والحافظ من كل شر هو الله وحده لا شريك له.
(12/56)
فلا يركن العبد إلى نفسه وصبره، وحاله وعفته، وعلمه وذكائه، ومتى ركن إلى ذلك تخلت عنه عصمة الله، وأحاط به الخذلان، بل يتوكل على ربه وحده كما قال سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 21].
وقال سبحانه لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 74].
5- فقه الصبر عن المعاصي
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 10].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 155-157].
الصبر له ثلاثة أركان:
صبر على طاعة الله.. وصبر عن معصية الله.. وصبر على أقدار الله المؤلمة.
وصبر العبد عن المعاصي ينشأ من أسباب عديدة:
منها الحياء من الله سبحانه عند المعصية، فهو يراه ويسمعه، فكيف يتعرض لمساخطه؟.
ومنها علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، وهذا كاف في تركها، ولو لم يعلِّق عليها وعيد العذاب.
ومنها مراعاة العاقل نعم الله عليه، وإحسانه إليه.
فالذنوب تزيل النعم ولا بدّ، والمعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النار الحطب، وما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من نعم الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب ورجع رجعت إليه أو مثلها أو أكثر منها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة بعد نعمة، حتى تسلب النعم كلها.
وأعظم النعم الإيمان والطاعات، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر يزيلها ويسلبها العبد.
ومن أسباب الصبر عن المعاصي محبة الله، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه، فإن المحب لمن يحب مطيع.
وفرق بين من يحمله على ترك المعصية خوفه من سوط سيده وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده.
ومنها خوف الله وخشية عقابه الذي توعد به من عصاه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 14].
(12/57)
وإذا امتلأ قلب المؤمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه منعه ذلك من معصيته حياء وطاعة لربه، وما عمر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه.
ومنها شرف النفس وفضلها وأنفتها أن تختار ما يحطها ويضع من قدرها، ويسوي بينها وبين السفلة.
ومنها قوة العلم بسوء عاقبة المعصية، وقبح أثرها، والضرر الناشئ منها من سواد الوجه، وظلمة القلب، وشدة قلقه واضطرابه، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعريته من زينته، وتخلي وليه وناصره عنه، وتولي عدوه المبين له.
ومنها أن العبد بسبب المعصية يصير أسيراً بيد أعدائه، بعد أن كان ملكاً متصرفاً يخافه أعداؤه.
ومنها زوال أمنه، وتبدله به مخافة، فأخوف الناس أشدهم إساءة.
ومنها زوال الأنس، فكلما ازداد العبد إساءة ازداد وحشة.
ومنها زوال الطمأنينة بالله، والسكون إليه، وزوال الرضا، واستبداله بالسخط ومنها وقوع العاصي في بئر الحسرات، فلا يزال في حسرة دائمة، كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها أو غيرها إن قضى وطره منها.
وكلما اشتد نزوعه.. وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه.
ومنها فقره بعد غناه، فإنه كان غنياً بما معه من رأس مال الإيمان، وهو يَتَّجِرُ به ويربح الأرباح الكثيرة من الأعمال الصالحة.
ومنها نقصان رزقه، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه.
ومنها زوال المهابة التي لبسها بالطاعة.
ومنها حصول النفرة منه، والبغض له في قلوب الناس، فكما جعل الله المودة لكل مؤمن، وكل مطيع فكذلك جعل الكراهية لكل كافر وكل عاصٍ.
ومنها ضياع أعز الأشياء عليه وأنفسها وأغلاها وهو الوقت الذي لا عوض منه.
ومنها الطبع والرَّين على قلبه، ومنها أنه يحرم حلاوة الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمان، والرغبة في الآخرة.
ومنها إعراض الله وملائكته وعباده عنه، فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيه أعرض الله عنه، فأعرضت عنه ملائكته وعباده.
(12/58)
ومنها أن الذنب يستدعي ذنباً آخر حتى تهلكه ذنوبه.
ومنها علمه بفوات ما هو أحب إليه منها.
ومنها علمه بأن أعماله هي زاده ووسيلته إلى دار إقامته، فإن تزود من معصية الله أوصله ذلك الزاد إلى دار العصاة والجناة، وإن تزود من طاعة الله أوصله ذلك إلى دار أهل طاعته وولايته.
ومنها علمه أن عمله هو وليه في قبره وأنيسه فيه، فإن شاء جعله له، وإن شاء جعله عليه.
ومنها علمه أن أعمال البر والطاعات تنهض بالعبد وتقوم به، وتصعد إلى الله به، وأعمال الفجور تهوي به، وتجذبه إلى الهاوية، وتجره إلى أسفل سافلين.
كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 10].
وقال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?) [الأعراف: 40].
فلما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم، بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند الموت، بل أغلقت عنها.
وأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلى الله، فتحت كذلك لأرواحهم حتى وصلت إلى ربها وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها في عليين.
ومن أسباب الصبر عن المعصية علم العبد أنه متى عصى الله فقد خرج من حصنه الذي لا ضيعة على من دخله، فإذا خرج بمعصيته منه صار نهباً للصوص وقطاع الطريق.
ومنها علم العبد بقصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قال تحت ظل شجرة ثم سار وتركها.
ومنها تجنب الفضول في طعامه وشرابه، ولباسه ومنامه، واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات.
فإنها تطلب مصرفاً، فيضيق عليها المباح، فتتعداه إلى الحرام.
ومنها ثبات شجرة الإيمان في القلب، وهو أعظمها، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فإن من باشر قلبه الإيمان بالله، وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب، والجنة والنار، حجزه ذلك عن المعاصي، ومنعه من أن لا يعمل بموجب هذا العلم.
(12/59)
ومن ظن أنه يقوى على ترك المعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط، فإن سراج الإيمان إذا قوي في القلب، وأضاءت جهاته كلها به، سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة، غير متثاقلة ولا كارهة.
بل تفرح بدعوته حين يدعوها كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 105].
وبالجملة فآثار المعاصي أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط العبد بها علماً.
فخير الدنيا والآخرة كله بحذافيره في طاعة الله ورسوله، وشر الدنيا والآخرة كله بحذافيره في معصية الله ورسوله.
والصبر على الطاعة ينشأ من معرفة تلك الأسباب، ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة، والآثار الجميلة.
ومن أقوى أسبابها الإيمان ومحبة الله، فكلما قوي داعي الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.
وصبر العبد على الطاعة، وصبره عن المعصية، أيهما أفضل؟.
ذلك يختلف باختلاف الطاعة والمعصية.
فالصبر على الطاعة المعظمة الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية الصغيرة الدنية، والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة.
فصبر العبد على الجهاد مثلاً أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر، وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة الصبح، وصوم يوم تطوعاً ونحوه.
فالطاعات يفعلها البَرُّ والفاجر، ولكن المعاصي لا يصبر عنها إلا صدِّيق.
والنفس لها قوتان:
قوة الإقدام.. وقوة الإحجام.
فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفع العبد، وقوة الإحجام إمساكاً عما يضره.
ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينفعه أقوى من صبره عن ما يضره، ومنهم من تكون قوة صبره عن المعاصي أقوى من صبره على مشقة الطاعات، ومنهم من لا يصبر على هذا.. ولا على هذا.
(12/60)
وأفضل الناس أصبرهم على النوعين مع الصبر على أقدار الله فهؤلاء هم الصابرون حقاً، ويأخذون أجرهم بغير حساب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 10].
وكمال العقل في ثلاثة:
حسن المعرفة بالله.. وحسن الطاعة لله.. وحسن الصبر لله.
إن إكرام الضيف من الناس والإحسان إلى الجار من لوازم الإيمان وموجباته، فما الظن بإكرام أكرم الأضياف وخير الجيران وأبرهم وهم الملائكة.
فإذا آذى العبد الملك بأنواع المعاصي والظلم والفواحش فقد أساء جواره، وبالغ في أذاه وطرده عنه، فهل يليق بالمسلم أن يؤذي جاره فضلاً عن أنصح الخلق له من الملائكة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الانفطار: 10-12].
فمن ألأم ممن لا يستحي من الكريم العظيم القادر ولا يكرمه ولا يوقره؟.
ألا يستحي العصاة من هؤلاء الملائكة الحافظين الكرام، ويكرمونهم ويجلونهم أن يروا منهم ما يستحون أن يراهم عليه من هو مثلهم؟.
والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يَفْجُر ويعصي بين يديه، وإن كان قد يعمل مثل عمله، فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟.
وهل يليق بالعاقل فضلاً عن المسلم أن يسكن في أرض الله، ويأكل من رزق الله، ثم يبارز من خلقه وأسكنه ورزقه بالمعاصي؟.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 34].
ومن لم يصبر عن المعاصي في الدنيا، فقارفها بلا حياء ولا خوف، فليوطن نفسه على تحمل عقوبتها في الآخرة حيث لا ينفع الصبر كما قال سبحانه عن النار: (پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطور: 16].
ومن عقوبة المعصية المعصية بعدها، فإبليس لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك، عاقبه الله بأن جعله داعياً إلى كل معصية.
فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعياً إلى كل معصية وفروعها، فمن عقاب السيئة السيئة بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
(12/61)
ونعم الله على العباد لا تعد ولا تحصى، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، فنسأله عزَّ وجلَّ أن يعفو عنا عن كل ما ضيعنا من شكر النعم، وعن كل ما ركبنا من الذنوب، وعن كل ما قصرنا فيه من حق الله وحق عباده: (? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [الأعراف: 23].
6- فقه الثواب والعقاب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [الرعد: 31].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 13-14].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 25].
وقال تعالى: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [المائدة: 33-34].
الله تبارك وتعالى خلق الخلق لعبادته سبحانه، وأرسل إليهم الرسل ليأمروهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [النحل: 36].
فمن آمن بالله وعبده وأطاعه أسعده الله في الدنيا، وأدخله الجنة يوم القيامة، ومن كفر بالله وعصاه شقي في الدنيا، وأدخله الله النار يوم القيامة: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [الفتح: 17].
وأصل الذنوب نوعان:
ترك مأمور به.. وفعل منهي عنه.
وهذان هما الذنبان اللذان ابتلى الله بهما أَبَوي الإنس والجن، ولكل ذنب عقوبة تناسبه في القدر والعدد.
والعقوبات نوعان:
عقوبات قدرية.. وعقوبات شرعية.
فالعقوبات الشرعية ثلاث أنواع:
القتل.. والقطع.. والجلد.
وعقوبات الذنوب نوعان:
(12/62)
شرعية وقدرية، فإذا أقيمت العقوبات الشرعية رفعت العقوبات القدرية أو خففتها، وإذا عطلت العقوبات الشرعية استحالت قدرية، وربما كانت أشد أو أخف، ولكنها تعم، والشرعية تخص، فالله لا يعاقب شرعاً إلا من باشر الجناية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [المائدة: 38].
وعقوبات الله للمخالفين نوعان:
عقوبات على عدم قبول الحق.. وعقوبات على مخالفة أوامر الرب.
فالأول كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 17].
والثاني كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [النساء: 93].
وقد عذب الله الأمم المكذبة للرسل بعقوبات في الدنيا تناسب جرائمهم، وأما في الآخرة فمأواهم جهنم، فبسبب كفرهم وظلمهم، وتكذيبهم واستكبارهم، وصدهم عن سبيل الله جعل الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 34].
فقوم نوح ذنوبهم مع الشرك.. الاستكبار والاغترار بكثرة العدد، والسخرية بأهل الإيمان، فلما كذبوا رسولهم نوحاً أغرقهم الله ولم يُنج إلا المؤمنين كما قال سبحانه: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [يونس: 73].
وجعلهم عبرة لمن بعدهم كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الفرقان: 37].
وعاد قوم هود ذنوبهم مع الشرك.. الاستكبار والتجبر في الأرض.. والظلم وشدة البطش.. فلما كذبوا رسولهم هوداً صلى الله عليه وسلم عاقبهم الله بريح صرصر عاتية تناسب عتوهم واستكبارهم عن الحق وقوتهم التي اغتروا بها كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 15].
فلما اجتمعت فيهم هذه الجرائم عاقبهم الله وطهر الأرض من جرائمهم كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 16].
أرسل الله عليهم ريحاً عقيماً شديدة القوة، مزعجة الصوت كالرعد القاصف: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحاقة: 7].
فدمرتهم وأهلكتهم، وأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.
(12/63)
وقوم ثمود ذنوبهم مع الشرك.. انتهاك محارم الله.. وعقر الناقة التي حذرهم الله من مسها بسوء.. والاستكبار عن الحق والاستهزاء به.
فلما كذبوا رسولهم صالحاً صلى الله عليه وسلم عاقبهم الله بكفرهم وظلمهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 17-18].
وقوم لوط ذنوبهم مع الشرك.. إتيان الفاحشة التي لم يسبقوا إليها.. وهي إتيان الذكران من الناس.. فلما حذرهم رسولهم لوط صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 80-81].
فلما لم يستجيبوا له.. وأصروا على الاستمرار في فعل هذه الفاحشة المنكرة عاقبهم الله بأن أمر جبريل باقتلاع بلادهم ومن فيها، ثم رفعها إلى السماء ثم قلبها عليهم، وجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من جهنم متتابعة، عليها علامة الغضب والعذاب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [هود: 82-83].
وقوم مدين ذنوبهم مع الشرك.. الظلم في الأموال.. وبخس المكيال والميزان.. والفساد في الأرض.. فأرسل الله إليهم أخاهم شعيباً يأمرهم بعبادة الله وحده.. والعدل في الكيل والميزان كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [هود: 84-85].
فلما كذبوا رسولهم عاقبهم الله بسحابة أمطرتهم ناراً، فأحرقتهم وأحرقت أموالهم التي أخذوها ظلماً، وظلوا تحتها خامدين كما قال سبحانه: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [الشعراء: 189].
وأنجى الله شعيباً والذين آمنوا معه، وأهلك الظالمين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 94].
وفرعون وقومه ذنوبهم مع الشرك والكفر.. العلو والاستكبار.. والفساد في الأرض كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 4].
(12/64)
وادعى فرعون الربوبية: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [النازعات: 24-25].
وادعى الألوهية: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [القصص: 38].
فما أعظم جرم هذا الطاغية، وما أشد ظلمه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [يونس: 83].
فأرسل الله رسوله موسى صلى الله عليه وسلم إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 46-47].
ولكن فرعون كذب موسى وعصاه، واتهمه مرة بالجنون حيث: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک) [الشعراء: 27].
ومرة بالسحر حيث: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشعراء: 34-35].
ومرة بالكذب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 23-34].
ولكن الطغاة والمفسدين والمستكبرين لا يعبأون بالحق، ولا بمن جاء به، بل يحاربونه بكل وسيلة؛ لأنه يردعهم عن قهر العباد وظلمهم واستعبادهم لهم، وهم لا يريدون ذلك، والله لا يتركهم على هذه الحال، بل يأمر رسله أن يذهبوا إليهم لدعوتهم إلى الله، ورفع الظلم عن العباد كما قال سبحانه لموسى صلى الله عليه وسلم : (پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [النازعات: 17-26].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [المؤمنون: 45-48].
فلما كذبوا موسى، وردوا ما جاء به وأضلوا قومهم عن الهدى، وزاد طغيانهم وأذاهم، ساقهم الله إلى مصارعهم، وعاقبهم بسوء صنيعهم، وحاق بفرعون وآله سوء العذاب.
فلما يئس موسى من إيمانهم بعد ما رأوا الآيات البينات، وحقت عليهم كلمة العذاب، وآن لبني إسرائيل أن ينجيهم الله من أسرهم، ويمكِّن لهم في الأرض كما وعدهم، أوحى الله إلى موسى صلى الله عليه وسلم أن يخرج بهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشعراء: 52].
فماذا حصل من فرعون وقومه لما علموا بخروج موسى وبني إسرائيل؟.
(12/65)
لقد حشر فرعون جيشاً عظيماً من مدائن مصر للقضاء على موسى ومن آمن معه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشعراء: 53-56].
فأخرجهم الله بحسن تدبيره من بساتين مصر، وجنانها الفائقة، وعيونها المتدفقة، وزروعهم وفواكههم المختلفة، وساقهم إلى مصارعهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشعراء: 57-58].
وأورث بني إسرائيل فيما بعد هذه الجنات والبساتين والزروع والعيون والمقام الكريم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?) [الشعراء: 59].
فتبع فرعون وقومه موسى وقومه وأدركوهم عند شروق الشمس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشعراء: 60-62].
وحان وقت الهلاك للمجرمين ونصرة الله للمؤمنين، فأمر الله موسى أن يضرب البحر بعصاه ليفتح به طريقاً آمناً لأوليائه، ويجعله مقبرة لأعدائه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [الشعراء: 63-68].
فسبحان من يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء بطاعته، ويذل من يشاء بمعصيته.
ونزلت عقوبة الله بهؤلاء الطغاة: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ?) [الأعراف: 136].
وحق وعد الله لموسى ومن آمن معه بالنصر والتمكين في الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 137].
فكل أمة من الأمم المكذبة للرسل أخذه الله بذنبه على قدره، وبعقوبة مناسبة له، وما ظلمهم الله ولكن الناس أنفسهم يظلمون: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [العنكبوت: 40].
أما عقوبة هذه الأمم المكذبة يوم القيامة فهي بالنار، وهم في العذاب متفاوتون، وأشدهم عذاباً آل فرعون كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [غافر: 45-46].
فجعل عليين مستقر العلية، وأسفل سافلين مستقر السفلة.
(12/66)
وجعل أهل طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة، وجعل أهل معصيته الأسفلين في الدنيا والآخرة.
كما جعل سبحانه أهل طاعته أكرم خلقه عليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الحجرات: 13].
وجعل أهل معصيته أهون خلقه عليه، وجعل العزة لأهل طاعته، والذلة والصغار لأهل معصيته.
وكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين، وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين.
فيجب على المؤمن أن يقف بين يدي مولاه موقف المخطئ المذنب، مستحياً منه، خائفاً منه، راجياً له، محباً له.
فأي نعمة وصلت إليه من الله استكثرها على نفسه، ورأى نفسه دونها، وأي نقمة أو بلية وصلت إليه رأى نفسه أهلاً لما هو أكبر منها، ورأى مولاه قد أحسن إليه إذ لم يعاقبه على قدر جرمه وإساءته.
والشر الذي يصيب الإنسان لا يخلو من قسمين:
أحدها: إما ذنوب وقعت منه فيعاقب عليها ويجازى بها؛ لأنه فعلها بنفسه وقصده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [النساء: 123].
الثاني: شر واقع به من غيره:
إما من مكلف كالإنس والجن.. أو غير مكلف مثل الهوام والحيات والعقارب ونحوها، فيصيبه ذلك لحكم يعلمها الله حسب حاله:
إما عقوبة له على معصية، أو تطهيراً له من ذنب، أو رفعة لدرجاته ونحو ذلك والشر الأول هو الذنوب وموجباتها وهو أعظم الشرين.
وإن الذنب وإن صغر لقبيح، وإن مقابلة العظيم جل جلاله به، العظيم الذي لا شيء أعظم منه، الكبير الذي لا أكبر منه، القوي الذي لا أقوى منه، المنعم لجميع النعم، يعد من أقبح الأمور وأعظمها وأشنعها.
فإن مقابلة العظماء وسادات الناس بمثل ذلك يستقبحه كل أحد مؤمن أو كافر، وأرذل الناس وأسقطهم مروءة من قابلهم بالرذائل.
فكيف بعظيم السموات والأرض، ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة؟.
هل يليق بالعاقل فضلاً عن المسلم عصيانه ومخالفة أمره؟.
(12/67)
(? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [نوح: 13-18].
ولولا أن رحمة الله سبقت غضبه، ومغفرته سبقت عقوبته، لتزلزلت الأرض بمن قابله بما لا تليق مقابلته به من الذنوب والمعاصي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [مريم: 90-95].
ولولا حلم الله ومغفرته وعفوه لزالت السموات والأرض من معاصي العباد وظلمهم: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [فاطر: 41].
وكل من نسي الله عاقبه بعقوبتين:
إحداهما: أن الله سبحانه ينساه، وإذا نسيه الله وأهمله وتركه وتخلى عنه فالهلاك أدنى إليه من اليد إلى الفم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 67].
الثانية: أن الله سبحانه ينسيه نفسه، فيهمل حظوظها وأسباب سعادتها وفلاحها، وينسيه عيوب نفسه وآفاتها فلا يخطر بباله مداواتها، وإزالة عللها، وهذه أعظم خسارة للعبد، وقد حذرنا الله من ذلك بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [الحشر: 19].
ومن نسي دين الله في الدنيا وأعرض عنه أشغله الشيطان بما يضره ويبعده عن ربه، ثم نزلت به عقوبة جنايته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?) [الأنعام: 44-45].
ومن نسي الله في الدنيا نسيه الله في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه عن الكفار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [الجاثية: 34-35].
والله عزَّ وجلَّ لا يكلف نفساً إلا وسعها، والأوامر والنواهي الشرعية ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح، ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله سبحانه أمر العباد بما أمرهم به رحمة منه وإحساناً.
(12/68)
ولما كان كل عامل سيجازي بعمله، والإنسان عرضة للنسيان والخطأ والتقصير، أخبر الله سبحانه أنه لا يؤاخذ على الخطأ والنسيان كما قال سبحانه: ? (? ? ? ? ? ? ? ? ) [البقرة: 286].
فقال الله عزَّ وجلَّ: «قَدْ فَعَلْتُ» أخرجه مسلم (1).
وقال سبحانه: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [الأحزاب: 5].
والنسيان قسمان:
نسيان بمعنى ترك الشيء عمداً والإعراض عنه.. ونسيان بمعنى ذهول القلب عما أمره الله به فيتركه نسياناً، فالأول محاسب عليه ومعاقب عليه.
والثاني معفو عنه.
والخطأ: أن يقصد الإنسان شيئاً يجوز له فعله ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله كأن يرمي صيداً فيصيب إنساناً خطأ، فهذا الخطأ والنسيان بمعنى ذهول القلب قد عفا الله عنهما عن هذه الأمة رحمة بهم وإحساناً.
فمن أتلف مالاً أو إنساناً خطأ فليس عليه إثم، لكن الضمان مرتب على الإتلاف، فمن أتلف شيئاً خطأ فعليه ضمانه، الإنسان بالدية والكفارة، والمال أو الشيء بمثله أو قيمته.
والله تبارك وتعالى أمرنا بأربعة أمور هي:
تعلم الدين.. والعمل بالدين.. وتعليم الدين.. والدعوة إلى الدين.
فكل سعادة وفلاح في العالم سببه القيام بهذه الأمور الأربعة.
وكل شقاء وفساد في العالم سببه الإخلال بهذه الأربعة أو بعضها، فكل نقص فيها نقص من الدين.
وإذا نقص الدين خرج من حياة الأمة تدريجياً ثم هلكت.
فحارس البستان المملوء بالزورع والأشجار والثمار إذا ترك الحراسة دخلته الكلاب والبهائم والسراق فلعبت به، وأكلت ما فيه، وغيرت صورته حتى ينتهي.
وكذلك الدين إذا تركنا الدعوة إلى الله جاءت شياطين الإنس والجن فلعبت بالأمة، وغيرت صورتها ومقصدها، وحياتها وأخلاقها.
فجاءت البدع مكان السنن.. والمعاصي مكان الطاعات.. والباطل مكان الحق.. والكفر بدل الإيمان.. والجهد للدنيا بدل الجهد للدين.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (126).
(12/69)
والله حكيم عليم أعلم عباده أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ليحذروه، وأنها بقضاء الله وقدره ليوحدوه، ويتوجهوا إليه وحده في كشفها، وأخبرهم بما له فيها من الحكم، ومالهم فيها من المصالح؛ لئلا يتهموه في قضائه وقدره، وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته.
وسلاهم بما أعطاهم بما هو أجل قدراً وأعظم مما فاتهم، فكل مصيبة وبلية تهون أمام منة الله على المؤمنين بالهداية إلى الإسلام كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 164].
والله قوي عزيز، وهو على كل شيء قدير، والمخلوقات كلها بالنسبة لله أصغر من الخردلة فهو سبحانه وحده الكبير المتعال.
والله عزَّ وجلَّ لا يستعمل قدرته أمام الطغاة والجبابرة، بل يهلكهم ويدمرهم بأضعف مخلوقاته وأصغرها وأهونها؛ ليعلم الناس أنهم ليسوا بشيء، وأن الله قادر على إهلاكهم بأهون شيء عليهم.
كما أرسل الله البعوضة على النمرود فأهلكته.. وفتح ماء السماء والأرض على قوم نوح فأغرقهم.. وكما فتح البحر لفرعون وقومه فأغرقهم في جوفه.. وكما فتح السد على قوم سبأ فأهلك زروعهم وخرب ديارهم.. وكما أرسل الريح على قوم عاد فدمرتهم.. وكما أرسل النار على قوم شعيب فأحرقتهم.. وكما أرسل الصيحة على قوم ثمود فأهلكتهم.. وكما أهلك قوم لوط بطرف جناح جبريل.. وأهلك أصحاب الفيل بالطير الأبابيل.. وأرسل الجراد والقمل والضفادع على قوم فرعون.
وقد شرع الله سبحانه الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ونصرة الدين، وقمع المعتدين، وإذا تركته الأمة هلكت كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 39].
(12/70)
وإذا أقبلت الأمة على الدنيا وأعرضت عن الآخرة، سلط الله عليها الذل حتى تعود إلى ربها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» أخرجه أحمد وأبو داود (1).
وما يبتلى به العبد من الذنوب والمعاصي وإن كان خلقاً لله فهو عقوبة له على عدم فعل ما خلقه الله من أجله وهو عبادته سبحانه.
فلما لم يفعل ما أمره الله به، زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، والإيمان يمنع من تسلط الشيطان عليه.
ولا بدَّ لكل إنسان من إرادة وحركة، فمن تحرك بالمعاصي والذنوب إما بفعل محظور أو ترك مأمور، فهذا عقوبة له لعدم فعل الطاعات، والشيطان مسلط عليه، فلما لم يتحرك بالحسنات حركه الشيطان بالسيئات، عدل من الله.
وتخصيصه سبحانه لمن هداه، بأن استعمله ابتداء فيما خُلق له وفيما يحبه الله فضل منه سبحانه، وهذا منه لا يوجب الظلم ولا يمنع العدل، وهو سبحانه أعلم بمن يستحقه ويشكره كما خص بعض الأبدان بقوى لا توجد في غيرها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 105].
فإن قيل معصية الكفر كانت في زمان قليل متناه، والجزاء في جهنم أبدى غير متناه، فكيف ينطبق هذا الجزاء على العدل الإلهي؟.
قيل: من مات على الكفر لو بقي أبداً لكان كافراً أبداً لفساد جوهر روحه، فهذا القلب الفاسد استعد لجناية غير متناهية.
وبذلك نعلم أن الجزاء الأبدي في مقابلة الجناية غير المتناهية، وذلك عين العدالة.
وأيضاً فالكفر كفران لنعم غير متناهية، فجزاؤه غير متناهٍ.
وحقيقة الإيمان:
__________
(1) صحيح بطرقه: أخرجه أحمد برقم (4825)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (11).
وأخرجه أبو داود برقم (3462) واللفظ له، صحيح سنن أبي داود ر قم (2956).
(12/71)
التوكل على الله وحده، والتأثر من الله وعدم التأثر من غيره مطلقاً.
فالأعداء يخوفون الناس بما صنعوه من المدمرات الإنسانية كالقنابل والطائرات والدبابات وغيرها.
أما الأنبياء وأتباعهم فيدعون الناس إلى الإيمان والاستقامة على أوامر الله، فمن استجاب فله الجنة، ومن عصى خوفوه بطش ربه في الدنيا وعذابه في الآخرة كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فصلت: 13-14].
فالأنبياء والمؤمنون معهم قوة الخالق.. والكفار والأعداء معهم قوة المخلوق.. وقوة الخالق أقوى من قوة المخلوق.. ومن كان الله معه فمعه كل شيء.. ومن لم يكن الله معه فليس معه شيء.
ولله جنود السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن، والمياه والرياح والزلازل، والخوف والرعب، والحر والبرد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المدثر: 31].
والله عزَّ وجلَّ مع الأنبياء والمؤمنين بنصره وتأييده، سواء كان معهم شيء أو لم يكن معهم شيء.
فمحمد صلى الله عليه وسلم نجاه الله من الكفار حين أرادوا قتله، وأظهر دينه، وخذل أعداءه، ولم يكن له ملك ولا مال.
وإبراهيم صلى الله عليه وسلم نجاه الله من النار، ونجاه من أعدائه، ولم يكن معه شيء إلا إيمانه بربه.
وموسى صلى الله عليه وسلم نجاه الله من فرعون وملأه، ونجاه من الغرق، ولم يكن معه إلا إيمانه بربه.
(? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 51].
وقارون خسف الله به الأرض مع كثرة أمواله، فلما أعرض عن الله أعرض الله عنه فهلك.. وهلكت أمواله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [القصص: 81].
وفرعون لما طغى أهلكه الله مع أن معه الملك والمال: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الزخرف: 55].
ونمرود أهلكه الله لما أصرَّ على كفره مع أن معه الملك والمال.
وهكذا القرى الظالمة، أهلكهم الله بذنوبهم ولم ينفعهم ما تعلقوا به من دون الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 59].
(12/72)
فهل يعتبر العاقل، ويتوب الظالم، ويطيع العاصي، قبل أن تحل بهم عقوبة الظالمين والعصاة: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [الفجر: 6-14].
إن الدعوة إلى الله كما هي وظيفة الأنبياء والرسل، هي كذلك وظيفة هذه الأمة، وبها تحصل الهداية للدعاة والمدعوين.
ولما تركت الأمة الدعوة إلى الله عوقبت بضعف الإيمان، فعطلت أوامر الله في الدين، وأوامر الله في جهد الدين، حتى خرجت من الأمة أوامر الله، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وليس هذا فقط، بل لما خرجت السنن والفضائل، أخذت مكانها المحرمات والرذائل، فجاءت المصائب والمشاكل.
وليس هذا فقط، بل قام في المسلمين من يحارب الله ورسوله، ويدعو إلى نبذ كتاب الله وراءه، وترك شرعه، ويدعو إلى المحرمات والكبائر والفواحش والرذائل، واتباع سنن اليهود والنصارى.
وذلك كله عقوبة ترك الدعوة إلى الله، هذا ما حصل بين المسلمين، فكيف بأحوال الكافرين؟.
إن في الدعوة إلى الله إحياء دين الله في قلوب المؤمنين، ودخول الكفار في دين رب العالمين، وإنشاء الاستعداد في القلوب للأعمال الصالحة، وبها تعمر الحياة كما كانت حياة الصحابة رضي الله عنهم.
ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فالحياة حسب أوامر الله بركة ورحمة، والحياة بدون أوامر الله شقاء وتعاسة.
وجميع البشرية اليوم يعيشون في المصائب والمشاكل:
كل خائف.. كل غير مطمئن في جميع شعب الحياة.. في نفسه، وفي بيته، وفي مجتمعه.. كل يشكو أحواله.. ويشكو ربه الرحمن الرحيم إلى خلقه.
والمسلمون خاصة في أعظم المصائب والمشاكل، لتعطيلهم كثير من أوامر الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 41].
فكل مسلم إلا من رحم الله يشكو المصيبة، بل المصائب في كل مكان، ويدعو فلا يستجاب له.
(12/73)
والسبب: أن المسلمين لم يفكروا في سبب البلاء والمرض، بل يفكرون في الخلاص من البلاء والمرض، فلا يرتفع البلاء، ولا يزول المرض.
والنجاة والسلامة أن نعلم أن المصائب من الله عزَّ وجلَّ، والمصائب تكون بحسب أعمالنا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [النساء: 123].
ونحن غافلون عن إصلاح إيماننا وأعمالنا، وبصلاح أعمالنا تصلح أحوالنا، وترفع عنا العقوبات: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 97].
فعلينا تغيير الداخل بالإيمان والتقوى، ثم الله يغير الخارج ويصلحه:
(ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 11].
وعلينا أن نعيش كحياة الأنبياء والرسل لنسعد في الدنيا والآخرة، ونسلم من العقوبات، وننقل هذه الحياة الطيبة إلى جميع البشرية بالدعوة إلى الله، لتسعد البشرية، وتسلم من العقوبات في الدنيا والآخرة، فمن عاش كحياة الأنبياء حصل له الخير ثم دخل الجنة بعد الموت.
وقد خلق الله الإنسان ليعيش في الدنيا كإنسان يعرف ربه ويعبده ويطيع أمره، ليس كالحيوان، وليس كالشيطان، وبذلك يسعد في الدنيا والآخرة.
فإذا عاش الإنسان كالحيوان أو عاش كالشيطان جاءت المصائب والمشاكل في الدنيا، وعوقب بالنار في الآخرة.
وكلما تشبه المسلم بالملائكة والأنبياء ارتفع مكانه، وعلت درجاته، واطمأنت نفسه، وكثر خيره في الدنيا والآخرة.
وكلما تشبه الإنسان بالحيوانات والشياطين ضرَّ نفسه، وآذى غيره، ونزلت قيمته، وهبطت درجته، وشقي في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [طه: 123-127].
والعقوبات الشرعية نوعان:
أحدها: عقوبة على ذنب ماض كجلد الشارب للخمر والقاذف، وقطع السارق والمحارب ونحو ذلك.
(12/74)
الثاني: العقوبة لتأدية حق واجب، وترك محرم في المستقبل كما يستتاب المرتد حتى يسلم، وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة، وآخذ حقوق الناس حتى يؤديها.
وقد شرع الله العقوبات الشرعية على قدر مفسدة الذنب، وتقاضي الطبع له: فإن كان الوازع عنه طبيعياً، وليس في الطباع داع إليه، اكتفى فيه بالتحريم مع التعزير، ولم يرتب عليه حداً كأكل الرجيع، وأكل الميتة، وشرب الدم ونحو ذلك، وما كان في الطباع داع إليه رتب عليه من العقوبة بقدر مفسدته، وبقدر داعي الطبع إليه كالقتل والزنا والسرقة، وجعل عقوبتها: القصاص والرجم والجلد.
ولما كان داعي الطبع إلى الزنا من أقوى الدواعي كانت عقوبته العظمى من أشنع القتلات وأعظمها وهي الرجم، وعقوبته الدنيا أعلى أنواع الجلد مع التغريب، فالجلد للبكر، والرجم للثيب.
ولما كانت جريمة اللواط فيها الأمران، كان حده القتل بكل حال.
وجعل سبحانه القتال بإزاء الكفر، وما يليه ويقرب منه وهو الزنا وعمل قوم لوط، فإن هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد الأنساب.
وجعل سبحانه القطع بإزاء إفساد الأموال الذي لا يمكن الاحتراز منه.
وجعل الجلد بإزاء إفساد العقول، وتمزيق الأعراض بالقذف.
وكما جعل الله للطاعات ثواباً، فقد جعل للمعاصي عقاباً.
والذنوب ثلاثة أقسام:
الأول: قسم فيه الحد، فهذا لم يشرع فيه كفارة؛ اكتفاءً بالحد الشرعي كالقتل قصاصاً، وكسرقة المال فيها القطع، وشرب الخمر فيه الجلد ونحوهما.
الثاني: قسم ليس فيه حد، لكن شرعت فيه الكفارة كالوطء في نهار رمضان، والوطء في الإحرام، والظهار، وقتل الخطأ، والحنث في اليمين ونحو ذلك.
الثالث: قسم لم يرتب عليه حد ولا كفارة، وهو نوعان:
أحدهما: ما كان الوازع عنه طبيعياً كأكل العذرة والنجاسات، وشرب البول والدم ونحو ذلك.
الثاني: ما كانت مفسدته أدنى من مفسدة ما رتب عليه الحد كالنظر، والقبلة ونحوهما.
وشرع الإسلام الكفارات في ثلاثة أنواع:
(12/75)
أحدها: ما كان مباح الأصل ثم فرض تحريمه، فباشره الإنسان في الحال التي عرض فيها التحريم كالوطء في حال الإحرام والصيام، والوطء حال الحيض والنفاس ونحوهما.
الثاني: ما عقده الإنسان لله من نذر، أو بالله من يمين، أو حرمه على نفسه ثم أراد حله، فشرع الله حله بالكفارة، فالكفارة حل لما عقده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [التحريم: 2].
الثالث: ما تكون فيه الكفارة جابرة لما فات، مثل كفارة قتل الخطأ، وإن لم يكن هناك إثم، وكفارة قتل الصيد خطأ.
فإن هذا من باب الجوابر، والأول من باب الزواجر، والأوسط من باب التحلة لما منعه العقد.
ولا يجتمع الحد والتعزير في معصية، بل إن كان فيها حد اكتفى به، وإلا اكتفى بالتعزير.
ولا يجتمع الحد والكفارة في معصية، بل كل معصية فيها حد فلا كفارة فيها، وما فيه كفارة فلا حد فيه.
وعقوبات الذنوب والمعاصي نوعان:
عقوبات قدرية.. وعقوبات شرعية.
وهي إما في القلب.. وإما في البدن.. وإما فيهما معاً.
عقوبات في دار الدنيا.. وعقوبات بعد الموت في القبر.. وعقوبات يوم البعث وحشر الأجساد.. وعقوبات في مستقر الكفار والعصاة في النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 34].
وترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق على النار، والغرق على الماء، وفساد البدن على السموم.
والعقوبة قد تقارن الذنب، وقد تتأخر عنه إما يسيراً وإما مدة، كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه.
أما أصل العقوبة فهو واقع على كل ذنب وما يعفو الله عنه أكثر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [النساء: 123].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 30].
وأعظم الذنوب ثلاثة:
الشرك.. والقتل.. والزنا.
وعقوباتها أعظم العقوبات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الفرقان: 68-70].
(12/76)
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم : أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أنْ تَجْعَلَ لله نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «وَأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «أنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» متفق عليه (1).
فأعظم أنواع الشرك أن يجعل العبد لله نداً.
وأعظم أنواع القتل أن يقتل الإنسان ولده خشية أن يطعم معه.
وأعظم أنواع الزنا أن يزني الإنسان بحليلة جاره.
فإن مفسدة الزنا تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق.
فالزنا بالمرأة التي لها زوج أعظم إثماً وأشد عقوبة من التي لا زوج لها كالبكر؛ لما فيه من انتهاك حرمة الزوج، وإفساد فراشه، وتعليق نسب عليه لم يكن منه.
فإن كان زوجها جاراً له فذلك أشد وأعظم البوائق، فإن كان الجار أخاً أو قريباً من أقاربه انضم إلى ذلك قطيعة الرحم، فيتضاعف الإثم له.
فإن كان الجار غائباً في طاعة الله كالصلاة وطلب العلم والجهاد تضاعف له الإثم، حتى إن الغازي في سبيل الله يوقف له يوم القيامة، ويقال له خذ من حسناته ما شئت.
فإن اتفق أن كانت المرأة رحماً منه انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها، فإن كانت خالته أو عمته أو أخته أو بنته فذلك أشد وأعظم، وأقبح وأشنع، نسأل الله السلامة والعافية.
فإن اتفق أن كان الزاني محصناً كان الإثم أعظم وأشد، فإن كان شيخاً كبيراً كان أعظم إثماً، فإن اقترن بذلك أن كان الزنا في شهر حرام، وبلد حرام، أو وقت حرام كالصيام، أو وقت معظم عند الله كأوقات الصلاة تضاعف الإثم، وتضاعفت العقوبة.
وقد حرم الله عزَّ وجلَّ على اليهود بعض الطيبات عقوبة لهم على ظلمهم وبغيهم وانتهاكهم حرمات الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 160].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4477) واللفظ له، ومسلم برقم (86).
(12/77)
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 146].
أما الإسلام فقد شرع الله فيه للمسلمين لتكفير الخطايا أموراً أخرى غير تحريم الطيبات:
أحدها: التوبة النصوح التي تمحو الذنوب كما يمحو الماء الوسخ كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [المائدة: 39].
الثاني: الحسنات اللاتي يذهبن السيئات كما قال سبحانه: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 114].
الثالث: الصدقات التي تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ » أخرجه أحمد والترمذي(1).
الرابع: المحن والمصائب التي تتناثر بها الخطايا كما يتناثر ورق الشجر إذا يبس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» متفق عليه(2).
وصار التحريم كله في الإسلام يتبع الضرر والخبث والفساد.
والناس قسمان:
الأول: حي قابل للانتفاع، يقبل الإنذار، وينتفع به.
الثاني: ميت القلب، لا يقبل الإنذار ولا ينتفع به؛ لأن أرضه غير زاكية ولا قابلة للخير البتة، فيحق عليه القول بالعذاب.
وتكون عقوبته بعد قيام الحجة عليه، لا بمجرد كونه غير قابل للهدى والإيمان، بل لأنه غير قابل ولا فاعل.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (22016).
وأخرجه الترمذي برقم (2616) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2110).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5641) واللفظ له، ومسلم برقم (2573)
(12/78)
وإنما يتبين كون الإنسان غير قابل بعد قيام الحجة عليه بالوحي والرسول، فإذا رد ما جاء به الرسول تبين أنه غير قابل للهدى، فعوقب بكونه غير فاعل، فحق عليه القول أنه لا يؤمن ولو جاءه الرسول كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 33].
وإنما يؤمن هؤلاء إذا رأوا العذاب يوم القيامة، وذلك لا ينفعهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 96-97].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد كل أوقاته لدعوة الكفار إلى الإسلام، ويدعو ربه، ويبكي لأمته لعل الله أن يهديهم، والكفار كانوا يسبونه ويؤذونه ويشتمونه، فتحمل ذلك وصبر حتى أظهر الله دينه.
وفي أيامنا هذه طرد كثير من المسلمين الدين من حياتهم.. من بيوتهم.. ومن أسواقهم.. ومن معاملاتهم.. ومن معاشراتهم..
وفي هذه المرحلة ينبغي أن نكون أشد جهداً، وأشد بكاءً، وأشد دعاء؛ لأن الكفار زمن النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين يطردون الرسول والدين ويحاربونه.
أما اليوم فإن كثيراً من المسلمين هم الذين يطردون الدين وأعمال الرسول، ويعملون بسنن اليهود والنصارى، ويرضون بالخبائث عن الطيبات، وبالباطل عن الحق، وبالمحرمات عما أحل الله، وبالدنيا عن الآخرة.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 100-101].
وأصبح المسلمون اليوم بسبب ضعف الإيمان، وترك العمل بأوامر الله، كحفرة صغيرة انفصلت من البحر، فصار الناس والبهائم والسباع يلعبون بها لصغرها وقلة مائها وانفصالها من البحر الأعظم.
فبدأ الأعداء يلعبون بهذه الأمة التي صارت صغيرة بسبب تركها للدين وجهد الدين، يلعبون بها ولا يخافون منها:
يلعبون بشبابها ورجالها.. ويلعبون ببناتها وأولادها.. ويلعبون برجالها ونسائها.. ويسخرون بدينها وأخلاقها.. ويلعبون بأموالها وأعراضها.. وعقولها وأفكارها.. وحكامها وتجارها.
(12/79)
يلعبون بالمسلمين هكذا، وهم آمنون مطمئنون، فليس لهذه الأمة صلة متينة بمصدر عزها ومجدها وهو القرآن الكريم.
وأوامر القرآن الكريم لها قوة لا تقف أمامها أي قوة في الأرض كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [الرعد: 31].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 96].
والجهاد موجود في العالم الإسلامي، ولكنه جهاد من أجل الدنيا وتكميل الشهوات، جهاد لرفاهية البدن، جهاد لجمع الحطام، جهاد لتكميل شهوات النفس من المطعم والمشرب، والمركب والمسكن، والملبس والمنكح.
عبث في الأوقات.. وإضاعة للطاقات.. واقتراف للمحرمات.
فلله ما أعظم هذه الجناية، وما أخطرها على أهلها: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [مريم: 59-60].
فسبحان الله كم حل بالمسلمين من العقوبات بسبب هذه الجنايات، والإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ) [إبراهيم: 28-29].
ولا تزال هذه العقوبات من إغراق وإحراق، وإهلاك وتدمير، تحل بالأمم كلما أعرضت عند دين الله وخالفت رسله.
وأما الجهاد لإعلاء كلمة الله وإصلاح النفس فهو موجود، ولكن القائمين به قليل.
ومن رحمة الله عزَّ وجلَّ بعباده أن أرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى التوحيد والإيمان بالله، فإذا ظهر الشرك والكفر بعد ذلك بعث الله نبياً آخر يردهم إلى التوحيد والإيمان.
وقد عاش بنو إسرائيل حياة شديدة مؤلمة في ظل حكم فرعون، الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل، وملأها بالالتواء من ناحية، وبالقسوة من ناحية، وبالجبن من ناحية، وبالضعف عن تحمل التبعات من ناحية، وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعاً.
(12/80)
فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلاً، ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء، والحركة في الظلام مع الذعر الدائم، والتوقع الدائم للبلاء.
ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً، وفرعون يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، فإذا فتر هذا النوع من العذاب عاشوا حياة الذل والكد والسخر والمطاردة على كل حال، حتى جاء موسى صلى الله عليه وسلم ، ورفع الله بسببه هذا البلاء.
فدين الله يجعل الناس في أرض الله أعزاء، ويجب أن يكونوا أعزاء؛ لأنهم عبيد الله ملك الملوك، ويجب أن لا يضربهم الحكام فيذلوهم؛ لأنهم ليسوا عبيداً للحكام، بل عبيد الله وحده: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 49].
وقد حقق الله وعده لبني إسرائيل فأنجاهم من عذاب فرعون، وأهلك أعداءهم، وأورثهم أرضهم وديارهم كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [القصص: 4-6].
وعقوبات الله واقعة بكل من كفر بالله وعصاه: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [الرعد: 31].
ونحن إذا تركنا الدعوة إلى الله عوقبنا بالدعوة إلى الأموال والأشياء، ثم بالدعوة إلى الشهوات والمحرمات والشبهات، فجاء في قلوبنا تعظيم المخلوق، والخوف من المخلوق، والتأثر منه، فيسلطه الله علينا، فنطيع أمره وإن خالف أمر خالقه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأنعام: 44].
والصحابة رضي الله عنهم لما قاموا بالدعوة إلى الله جاء في قلوبهم عظمة الخالق عزَّ وجلَّ، فزاد إيمانهم، وحسنت أعمالهم وتنوعت، وأطاعوا الله ورسوله، فرضي الله عنهم ورضوا عنه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [التوبة: 100].
(12/81)
والناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب، وفي هذا تخويف وتحذير لمن سكت عن النهي عن المنكر.. فكيف بمن داهن؟.. فكيف بمن رضي؟ فكيف بمن أعان؟ فكيف بمن فعل؟.
والعقوبة معناها: مؤاخذة المجرم بذنبه، وسميت بذلك لأنها تَعْقُب الذنب.
والعقوبة أنواع:
منها ما يتعلق بالدين وهي أشدها كأن تخف المعصية في نظر العاصي، أو يتهاون بترك الواجب.
ومنها العقوبة في النفس كالمرض.. والعقوبة بفقد الأهل والأولاد.. والعقوبة بفقد المال ونحو ذلك: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 49].
وإذا أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الأمراء وأقوال الشيوخ عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم.
وأعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم فلم يروها منكراً، وجاءتهم دولة أخرى تقوم فيها البدع مقام السنن.. والنفس مقام العقل.. والهوى مكان الهدى.. والضلال مقام الرشد.. والمنكر مقام المعروف.. والجهل مكان العلم.. والباطل مقام الحق.. والرياء مقام الإخلاص.. والظلم مقام العدل.. والظلام مقام النور.
فحينذاك بطن الأرض خير من ظهرها، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
وما ضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلي بتضييع السنن، وما ضيع أحد سنة من السنن إلا يوشك أن يبتلي بالبدع.
والله عزيز حكيم عليم، إذا منع الناس الزكاة، وحرموا المساكين، حبس الله عنهم الغيث، وابتلاهم بالقحط.
فلما منعوا الحق عاقبهم الله بمنع نزول الغيث.
ومن صرف الناس عن الهدى والإيمان صرف الله قلبه عن الهدى والإيمان، فصدهم الله عنه كما صدوا عباده عنه، صداً بصد، ومنعاً بمنع: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [النساء: 123].
وإذا جار القوي على الضعيف، ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه، سلط الله العدو عليهم ففعل بهم كفعلهم بضعفائهم.
فسبحان من بهرت حكمته العقول، وملكت القلوب.
(12/82)
وكفر ساعة يوجب عقاب الأبد في النار؛ لأن الكافر كان على عزم أنه لو عاش أبداً لبقي على ذلك الاعتقاد أبداً، فلما كان ذلك العزم مؤبداً عوقب بعقاب الأبد، والله عليم بذات الصدور.
أما المسلم المذنب، فإنه يكون على عزم الإقلاع عن ذلك الذنب فلا جرم كانت عقوبته منقطعة.
والعبد إذا قصر في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه، وكلما زاد الإيمان زادت الطاعات، فاستأنس العبد بربه، واستوحش من غيره، وكلما نقص الإيمان قلت الطاعات، وزادت المعاصي، وانشغل الإنسان بالشهوات عن أوامر الله عزَّ وجلَّ.
وإذا قامت الحياة على أساس الأموال والأشياء، لا على أساس الإيمان والتقوى، سلط الله على الأمة أربعة أشياء:
قحط الدهر.. وخيانة الحكام.. وظلم الملوك.. وخوف الأعداء، فالأشياء موجودة لكن الحوائج لا تكمل، والأموال موجودة لكن القلوب غير مطمئنة: (? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 33].
ومن سنة الله عزَّ وجلَّ أن كل من أعرض عن شيء من الحق وقع في باطل، مقابل ما أعرض عنه من الحق.
فمن رغب عن العمل لله وحده ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق، فما أخسره حين رغب عن العمل لمن ضره ونفعه، وحياته وموته، وسعادته وشقاوته بيده، إلى العمل لمن لا يملك من ذلك شيئاً.
ومن رغب عن إنفاق ماله في طاعة الله ابتلي بإنفاقه لغير الله وهو راغم.
ومن رغب عن التعب لله ابتلي بالتعب لخدمة أدنى الخلق.
ومن رغب عن الهدى بالوحي ابتلي بكناسة الآراء، وزبالة الأذهان.
والعقوبات نوعان:
خاصة: كما عاقب الله قارون وحده، فخسف به وبداره الأرض.
وعامة: كما دمر الله فرعون وقومه؛ لأن فرعون ادعى أنه رب وإله، واستخف قومه فأطاعوه واتبعوه، فدمر الله الجميع، وأغرقهم في البحر كما قال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الزخرف: 55].
وكذا كل من عاند الرسل وكذبهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقريش عاقبهم الله بذنوبهم: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [الرعد: 31].
(12/83)
والجرائم في الشريعة الإسلامية لها عقوبات تسمى الحدود كالقصاص، والقطع في السرقة، والرجم أو الجلد في الزنا، والجلد في القذف وشرب الخمر ونحوها.
أما عقوبة ترك الدعوة فهي الاستبدال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [محمد: 38].
وكما أن الله لم يستثن أحداً من الخيرية، كذلك لم يستثن أحداً من المسئولية، والدعوة ليست عملاً اكتسابياً، بل هي عمل اجتبائي من الخالق، وبعد الاجتباء تأتي المسئولية كما قال سبحانه لموسى: (? ? ? ? ? پ) [طه: 13].
وقد اجتبى الله هذه الأمة كما اجتبى الأنبياء كما قال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 78].
والملوك إذا تعرضوا للدين سُلبوا ملكهم، وذلوا بعد عزهم، كما حصل لفرعون حين استكبر وعارض موسى أهلكه الله، وكما حصل لكسرى حين مزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مزق الله ملكه.
وقد أرسل الله الأنبياء السابقين إلى أممهم، وعاقب من خالفهم بعذاب الاستئصال كقوم نوح وهود، وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم.
والسبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة، أن ذلك العذاب مشروط بشرطين:
الأول: أن عند الله حداً من الكفر مَنْ بلغه عذبه، ومن لم يبلغه لم يعذبه.
الثاني: أن الله لا يعذب قوماً حتى يعلم أن أحداً منهم لا يؤمن.
فإذا حصل الشرطان أمر الله الأنبياء أن يدعو على أممهم، فإذا دعوا وشكوا إليه سوء أعمالهم استجاب الله دعاءهم، وعذب أممهم بعذاب الاستئصال إلا من آمن منهم فينجيه الله وإياهم.
والمسلمون اليوم وإن آمنوا بالله رباً وإلهاً.. إلا أنهم لم يعظموه ولم يطيعوه كما يجب أن يعظم وأن يطاع.. ولم يسلموا وجوههم إلى الله.. ولم يتوكلوا عليه.. ولم يتيقنوا على ذاته وأوامره.
فكانت النتيجة أن عوقبت الأمة بعقوبات:
(12/84)
فارتابت الأمة في أخبار الله.. وشكت في عدالته فلم تحكم شرعه.. ولم تذعن لأمره ولا لنهيه.. فتركت كثيراً من الفرائض والواجبات.. وارتكبت كثيراً من الكبائر والمحرمات.
فقست القلوب.. وضعف الإيمان.. وقلت الطاعات.. وكثرت المعاصي.. فأصبحت الأمة إلا من رحم الله تكره لقاء ربها.. وتخاف من فراق الحياة.
وأمست لا همَّ لها إلا ما يعمر دنياها ويحقق شهواتها.. وانقطعت عن السير في طريق الكمال.. وأسرعت السير في طريق الضلال.. فضلَّت وتاهت إلا من رحم الله.
وبسبب ترك الدعوة إلى الله ضاع الإسلام أو كاد، ومسئولية ضياع الإسلام مسئولية مشتركة بين أعدائه وأوليائه:
فأعداؤه كادوا له بإثارة النعرات والنزاعات، وإيجاد الطرق والمذاهب المتعددة بين أمم الإسلام وشعوبه، وبذر بذور الفرقة والشقاق في صفوفهم: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [البقرة: 217].
وأولياؤه: هم الأمراء والعلماء، فالأمراء والرؤساء فرطوا في إقامة الشرع، وحماية حدوده بما أوتوا من قوة وما خُوِّلوا من سلطان.
وأكثر العلماء فرطوا في تعليم الدين للناس، والعمل به، والدعوة إليه.
وبين كيد الأعداء وتفريط الأولياء ضاع الإسلام أو كاد، وصار كأمة لا يهاب ولا يحترم.
لكنه باقٍ في الأرض كأفراد وجماعات تؤمن به، وتعمل بأحكامه وتؤدي فرائضه، وتقيم حدوده، وتدعو إليه في ساحة الأرض كلها، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأمْرِ ا?، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أمْرُ ا? وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» متفق عليه (1).
والله عزَّ وجلَّ يعاقب على الأسباب المحرمة، وعلى ما تولد منها، كما يثيب على الأسباب المأمور بها، وعلى ما تولد منها.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3641) واللفظ له، ومسلم برقم (1037).
(12/85)
فمن دعا إلى بدعة أو ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها؛ لأن فعلهم تولد من فعله، ولذلك كان على ابن آدم القاتل لأخيه كفل من ذنب كل قاتل بغير حق إلى يوم القيامة.
ولكل من دل على خير فله مثل أجر فاعله.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 25].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم(1).
والله جل جلاله إنما يسلط الشيطان على الذين يتولونه، والذين هم به مشركون، فلما تولوه من دون الله، وأشركوه معه، عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 99-100].
ولله عزَّ وجلَّ على أهل المعاصي عقوبتان:
إحداهما: جعل الإنسان خاطئاً مذنباً لا يحس بألم المعصية ومضرتها لموافقتها شهوته وإرادته، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات.
الثانية: العقوبات المؤلمة بعد فعله للسيئات.
لكن العقوبة الأولى عقوبة موافقة لشهوته وإرادته فلا يشعر بها، والثانية مخالفة لما يحبه ويتلذذ به فيقاسي ألمها.
وقد ذكر الله العقوبتين وقرن بينهما بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?) [الأنعام: 44-45].
وعلى المسلم أن يحذر من أمرين لهما عواقب سوء:
الأول: رد الحق لمخالفته هواه، فمن فعل ذلك عوقب بتقليب قلبه، وَرَدِّ ما يَرِدُ عليه من الحق رأساً، فلا يقبله إلا إذا برز في قالب هواه.
الثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته، فمن تهاون بذلك ثبطه الله وأقعده عن مراضيه وأوامره عقوبة له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 110].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2674).
(12/86)
وكل كافر ومشرك إنما يستحق العقوبة بمجرد كفره وشركه، ولكن إرسال الرسل وترك طاعتهم شرط في وقوع العذاب.
فالمقتضي قائم وهو عدم الإيمان، لكن وقوع العقوبة مشروط بشرط هو إرسال الرسول، ومعصية الرسول كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 15].
وفساد الدين يحصل بأمرين:
البدع.. واتباع الهوى.
وهذان هما داء الأولين والآخرين، وأصل كل شر وفتنة، وكل بلاء وعقوبة، وبهما كُذبت الرسل، وعصي الرب، ودُخلت النار، وحلت العقوبات.
فالأول من جهة الشبهات، والثاني من جهة الشهوات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 69].
فالاستمتاع بالخلاق وهو النصيب من الدنيا متضمن لنيل الشهوات المانعة من متابعة الأمر، والخوض في الباطل شأن النفوس الباطلة التي لم تخلق لنعيم الآخرة، فهي لا تزال ساعية في نيل شهواتها.
فإذا نالتها خاضت في الباطل الذي لا يجدي عليها إلا الضرر العاجل والآجل، ولكن من رحمة الله أنه يبتلي هذه النفوس بالشقاء والنصب في تحصيل مرادها وشهواتها، فلا تتفرغ للخوض في الباطل إلا قليلاً.
ولو تفرغت لكانت هذه النفوس آثمة تدعو إلى النار.
وهذا حال من تفرغ منها كما هو مشاهد في كل زمان ومكان.
فالاستمتاع بالشهوات داء العصاة، والخوض في الباطل داء المبتدعة وأهل الأهواء.
وما من قرية من القرى المكذبة للرسل إلا لا بدَّ أن يصيبهم هلاك قبل يوم القيامة، أو عذاب شديد، كتاب كتبه الله، وقضاء أبرمه لا بدَّ من وقوعه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 58].
وقضى الله سبحانه قضاءً لا مرد له أن من اطمأن على شيء سواه، أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته كائناً من كان.
بل لو اطمأن العبد إلى علمه وعمله وحاله سلب ذلك.
وقد جعل سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضاً لسهام البلاء، ليعلم عبادُه وأولياؤه أن المتعلِّق بغيره مقطوع.
(12/87)
وكل ما نراه في الوجود من شر وألم، وعقوبة وجدب، ونقص فينا وفي غيرنا، فهو من قيام الرب تعالى بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يد ظالم، فالمسلِّط له أعدل العادلين كما قال سبحانه لمن أفسد في الأرض: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?) [الإسراء: 5].
وقد عاقب الله جل جلاله الكفار بعقوبات حسب جرائمهم، ورتب بعض العقوبات على الذنوب.
منها: الختم على القلوب والأسماع.. والغشاوة على الأبصار.. والأقفال على القلوب.. وجعل الأكنة والرين عليها.. والطبع على القلوب.. وتقليب الأفئدة والأبصار.. والحيلولة بين المرء وقلبه.. وإغفال القلب عن ذكر الرب.. وإنساء العبد نفسه.. وترك إرادة الله تطهير قلبه.. وجعل الصدر ضيقاً حرجاً كأنما يَصَّعَّد في السماء.. وصرف القلوب عن الحق.. وزيادتها مرضاً على مرضها.. وإركاسها وإنكاسها بحيث تبقى منكوسة.
ومن عقوبات المعاصي أنها تثبط عن الطاعات، وتبعد عنها، وتجعل القلب أصم لا يسمع الحق، أبكم لا ينطق به، أعمى لا يراه.
ومنها الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به إلى أسفل سافلين، وصاحبه لا يشعر به.
وعلامة الخسف بالقلب أنه لا يزال جوالاً حول السفليات والقاذورات والرذائل، كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالاً حول البر والخير، والفضائل والطيبات، والعلويات والمحاسن من الأقوال والأعمال والصفات.
وقد أخبر الله تبارك وتعالى في القرآن ما أوقع بالمشركين من العقوبات، ويذكر إنجاءه لأهل التوحيد.
فيذكر شرك هؤلاء الذي استحقوا به الهلاك، وتوحيد هؤلاء الذي استحقوا به النجاة، ثم يخبر أن في ذلك آية وبرهاناً للمؤمنين، ثم يذكر مصدر ذلك كله، وأنه صادر عن أسمائه وصفاته سبحانه.
فصدور هذا الإهلاك عن عزته، وذلك الإنجاء عن رحمته كما قال سبحانه بعد عقوبات الأمم المكذبة كقوم نوح وعاد وثمود: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [الشعراء: 8-9].
(12/88)
والله عزَّ وجلَّ أحسن كل شيء خلقه.. وأتقن كل شيء صنعه.. فكل شيء عند مبدأ خلقه بريء من الآفات والعلل.. تام المنفعة لما خلق له وهيىء له: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [السجدة: 6-7].
وإنما تعرض له الآفات بعد ذلك بأمور أخر من مجاورة، أو امتزاج، أو أسباب أخر تقتضي فساده، فلو تُرِك على خلقته الأصلية من غير تعلق أسباب الفساد به لم يفسد.
ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه، يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه، وأحوال أهله، جاءت بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه.
ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تُحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأسقام والأمراض، ومن القحط والجدب والطواعين، وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلب منافعها، ونقص أوزانها وأحجامها أموراً متتابعة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 96].
ولا زالت تحدث الآفات والعلل كل وقت في الزروع، والثمار، والأشجار، والإنسان، والحيوان، ويحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة، وبعضها آخذ برقاب بعض.
وكلما أحدث الناس ظلماً وفجوراً أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وهوائهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 41].
فظهر الفساد في البر والبحر وفي أنفسهم بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة، المفسدة بطبعها، ليعلم العباد أن الله هو المجازي على الأعمال، فعجل لهم شيئاً يسيراً من جزاء أعمالهم في الدنيا لعلهم يرجعون عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت، وجلبت لهم من البلاء والمحن ما جلبت، فتصلح أحوالهم، ويستقيم أمرهم.
(12/89)
فسبحان الحكيم العليم الذي أنعم ببلائه.. وتفضل بعقوبته.. وإلا فلو أذاقهم عقوبة جميع ما كسبوا من السيئات في الدنيا ما ترك على ظهرها من دابة..
كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [فاطر: 45].
وأكثر هذه الآفات والأمراض بقية عذاب عذبت به الأمم السابقة، ثم أبقى الله منها بقية مرصدة لمن فعل مثل أفعالهم، حكماً قسطاً، وقضاء عدلاً.
كما سلط الله الريح على قوم عاد سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، ثم أبقى في العالم منها بقية في تلك الأيام وفي نظيرها عظة وعبرة.
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الطَّاعُونُ رِجْزٌ أوْ عَذَابٌ أرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأرْضٍ، فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأرْضٍ وَأنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» متفق عليه(1).
والحل الذي يرفع هذه الآفات والبلايا والأمراض الإيمان بالله، والاستقامة على أوامره، بفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه، والقيام بوظائف الدين الظاهرة والباطنة، وفي ذلك الأمن والسلامة والعافية في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چ چ) [فصلت: 30-32].
وبذلك نعلم أن الرسل وأتباعهم خاصة على سبيل النجاة، وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون، وإلى دار البوار صائرون، والله بالغ أمره لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره.
ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط، وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة أمر الله ورسوله، والدعوة إلى غير الله وما شرعه رسوله.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3473)، ومسلم برقم (2218) واللفظ له.
(12/90)
فالله عزَّ وجلَّ أصلح الأرض برسوله ودينه، وبالأمر بعبادته وتوحيده، ونهى عن إفسادها بالشرك به، ومخالفة رسوله كما قال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 55-56].
والناس قسمان:
ذاكر لربه.. وغافل عن ربه.
فمن نسي ربه أنساه ذاته ونفسه، وما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده، فصار معطلاً مهملاً بمنزلة الأنعام السائبة، بل هي خير منه لبقائها على هداها التام الذي أعطاها إياه خالقها.
وأما هذا الغافل عن ربه فخرج عن فطرته التي خُلق عليها، فنسي ربه فأنساه نفسه، وما تكمل به، وما تزكو به، وما تسعد به في معاشها ومعادها كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 28].
فلما غفل عن ذكر ربه انفرط عليه أمره وقلبه.
وأعظم العقوبات نسيان العبد نفسه وإهماله لها، وإضاعته حظها ونصيبها من الله، ومن نسي ربه أنساه الله نفسه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [الحشر: 19].
فهؤلاء عاقبهم الله على نسيانهم له، بأن أنساهم أنفسهم، فنسوا مصالحها أن يفعلوها، وعيوبها أن يصلحوها، ونقائصها أن يكملوها، وحظوظها أن يتناولوها.
وهذا من أعظم العدل، فإنه سبحانه نسيهم كما نسوه، وأنساهم حظوظ أنفسهم ونعيمها وكمالها، وأسباب سعادتها ولذتها؛ عقوبة لهم على نسيان المحسن إليهم بصنوف النعم، المتحبب إليهم بآلائه ونعمائه.
فلما قابلوا ذلك بنسيان ذكره، والإعراض عن شكره، عدل فيهم بأن أنساهم مصالح أنفسهم فعطلوها، فوقعت فيما تفسد به وتتألم بفوته.
ومن أعظم مصالح النفس وأنفع حظوظها ذكرها لربها وفاطرها، وشكرها له، وطاعتها لأمره، فلا نعيم لها ولا سرور، ولا فلاح ولا صلاح، إلا بذكر الله وحبه وطاعته، والإقبال عليه والإعراض عما سواه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 28].
(12/91)
فهؤلاء ذكروا الله فذكرهم، وذكرهم بمصالح نفوسهم ففعلوها، وأوقفهم على عيوبها فأصلحوها، وعَرَّفهم حظوظها العالية فبادروا إليها.
فجازى أولئك على نسيانهم بأن أنساهم الإيمان، ومحبة الله وذكره وشكره، فلما خلت قلوبهم من ذلك لم يجدوا عن ضده محيصاً.
وهذا يبين لنا كمال عدل الله سبحانه في تقدير الكفر والذنوب عليها.
وإذا كان قضاؤه على النفس بالكفر والذنوب عدلاً منه عليها، فقضاؤه عليها بالعقوبة أعدل وأعدل.
فهو سبحانه ماض في عبده حكمه، عدل فيه قضاؤه.
فله فيها قضاءان:
قضاء السبب.. وقضاء المسبب، وكلاهما عدل فيه.
فإن العبد لما ترك ذكر ربه، وترك فعل ما يحبه ويرضاه، عاقبه بنسيان نفسه، فأحدث له هذا النسيان ارتكاب ما يبغضه الله ويسخطه بقضائه الذي هو عدل.
فترتب لهذا العبد على هذا الفعل والشرك عقوبات وآلام لم يكن منها بدّ، بل هي مترتبة عليه ترتب المسببات على أسبابها، فهو عدل محض من الرب سبحانه، فعدل في العبد أولاً وآخراً، فهو محسن في عدله، محبوب عليه.
ودين الله تبارك وتعالى هو الحق، وكل ما سواه باطل، وإنما يكيد المكذبون الظالمون، ويحتالون ويخادعون، من أجل رده وصرف الناس عنه، والله جلَّ جلاله يكيدهم كما يكيدون دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين عقوبة لهم على جرمهم كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?ں) [الطارق: 15-17].
وكيده سبحانه لأعدائه استدراجهم لمصارعهم من حيث لا يعلمون، والإملاء لهم حتى يأخذهم على غرة كما قال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 182-183].
فالإنسان إذا أراد أن يكيد غيره يظهر له إكرامه وإحسانه إليه حتى يطمئن إليه، فيأخذه على غرة كما يفعله أعداء الله ورسوله.
فإذا فعل ذلك أعداء الله ورسوله بأوليائه ودينه كان كيد الله لهم حسناً لا قبح فيه، فيعطيهم ويعافيهم وهو يستدرجهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 44].
(12/92)
وكل من استقام على أوامر الله أسعده الله وأكرمه في الدنيا والآخرة، وتفضيل بني إسرائيل على العالمين موقوت بزمان استخلافهم واختيارهم، واستقامتهم على أوامر الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 47].
فأما بعد ما عتوا عن أمر ربهم، وعصوا رسله، وقتلوا أنبياءه، وتخلوا عن التزاماتهم وعهدهم، وأفسدوا في الأرض، فقد أعلن الله حكمه عليهم باللعنة والغضب، والذلة والمسكنة، وقضى عليهم بالتشريد، وحق عليهم الوعيد كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [المائدة: 78].
وقال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 13].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 61].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 160-161].
والربا من كبائر الذنوب، يدمر الأمم، ويحطم الأخلاق، ويوجب اللعنة والطرد من رحمة الله، وقد أعلن الله الحرب على أهله من الله ورسوله، وهي حرب شاملة داهمة غامرة أعم من القتال.
حرب على الأعصاب والقلوب.. وحرب على البركة والرخاء.. وحرب على السعادة والطمأنينة.. حرب المطاردة والمشاكسة.. حرب الغبن والظلم.. حرب القلق والحزن.. حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لدينه ومنهجه على بعض.. وأخيراً حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول.
إنها حرب تشتعل الآن في العالم كله من جراء النظام الربوي المقيت، وأيسر ما يقع إن لم يقع هذا كله هو خراب النفوس، وانهيار الأخلاق، وانطلاق سعار الشهوات، وتحطيم الكيان البشري كله من أساسه.
(12/93)
وهي حرب مشبوبة دائماً، وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا، وهي مسعرة الآن تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة، وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم، بينما هي خاسرة قطعاً؛ لأن المرابين يحاربون الله ورسوله، ومن يحاربه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو هالك وخاسر قطعاً كما قال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 278-279].
وهذا الإنتاج العظيم والمال الوفير لو أنه نشأ من منبت زكي طاهر لأسعد البشرية، ولكنه نبت من أرض الربا الملوث فأشقى البشرية، وخنق أنفاسها، وحطم أخلاقها، وأثقل كواهلها بالديون، وأشعل الفتن والحروب، وتسبب لها بأعظم العقوبات.
والحل واحد.. بالاستقامة على أوامر الله، وتجنب هذا المورد العفن النتن الآسن وهو الربا، واتباع وطاعة الله ورسوله فيما شرعه من أحكام عادلة، وإلا فهي العقوبة والهلاك بلا ريب.
فيا لله.. كم يؤم أوكار الوحوش الربوية من المسلمين؟.
وكم تسعى هذه الفرائس إلى الفخاخ بأقدامها؟.
وإذا كانت الطاعات محسوبة.. والمعاصي محسوبة.. والمعاملات مكتوبة.. والسرائر مكشوفة، فهلا نسارع إلى الخيرات؟. وهلا نخاف الله؟ ونخاف يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار؟ (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 281].
والكفر بآيات الله سواء بإنكارها أصلاً.. أو عدم الاحتكام إليها في واقع الحياة.. وقتل الأنبياء بغير حق.. وطرد سننهم من الحياة.. وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس جسدياً أو معنوياً.. وعصيان الجبار سبحانه.. والاستعداء على حق الله، وحق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحق عباده.. هذه هي المؤهلات لغضب الله، وللهزيمة والذلة والمسكنة يتقدم بها من يسمون أنفسهم مسلمين بغير حق إلى ربهم، فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة والغضب.
(12/94)
(? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [آل عمران: 112].
فاليهود لا يطمئنون ولا يستقرون، حيث عاقبهم الله بالذلة في بواطنهم، والمسكنة في ظواهرهم، فلا يطمئنون إلا بحبل من الله، وحبل من الناس فلا يكون اليهود إلا تحت أحكام المسلمين وعهدهم، تؤخذ منهم الجزية ويُستذلون، أو تحت أحكام النصارى، وباءوا مع ذلك بأعظم العقوبات وهي غضب الله عليهم، ولعنته لهم.
وقد حذر الله المؤمنين من طاعة الذين كفروا، فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة، وليس فيها ربح ولا منفعة، بل فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 149-150].
فالذي لا يكافح الكفر والشر، والضلال والباطل، والظلم والطغيان، لا بدَّ أن يتخاذل أو يتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والطغيان.
فالإيمان والكفر ضدان.. فالذي لا يتحرك إلى الأمام بإيمانه، لا بدَّ أن يرتد إلى الوراء بكفره.. والذي لا يعلو بإيمانه وأعماله الصالحة، لا بدَّ أن ينزل إلى أسفل بكفره وأعماله السيئة.
ومن كان الله مولاه فما حاجته بولاية أحد من خلقه؟.. ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد؟.
والله تبارك وتعالى لطيف بعباده رحيم بهم كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ?) [الحج: 65].
وهو سبحانه غني عن عذاب العباد، فما به سبحانه من نقمة ذاتية عليهم يصب عليهم من أجلها العذاب، وما به سبحانه من حاجة لإظهار سلطانه وقوته عن هذا الطريق، وما به سبحانه من رغبة ذاتية في عذاب الناس، وإنما هو صلاح العباد بالإيمان والشكر لله عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 147].
فعذاب الله جزاء على الجحود والكفران، وتهديد لعله يقود إلى الشكر والإيمان.
(12/95)
إنها ليست شهوة التعذيب، ولا رغبة التنكيل، فمتى اتقى الإنسان ربه بالشكر والإيمان فهنالك المغفرة والرضوان، وهناك شكر الله سبحانه لعبده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 7].
وإذا كان الخالق المنعم المتفضل، الغني عن العالمين، يشكر لعباده صلاحهم وإيمانهم وشكرهم وهو غني عنهم وعن إيمانهم وشكرهم، فماذا ينبغي للمخلوقين المغمورين بنعم الله؟. وماذا يجب عليهم تجاه الخالق الرزاق المنعم المتفضل؟.
(چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [البقرة: 172].
وأعظم المنكرات والفواحش والكبائر ثلاثة:
الشرك بالله.. والزنا.. وقتل النفس بغير حق، وكل هذه جرائم قتل في الحقيقة.
الجريمة الأولى: جريمة قتل الفطرة.
والثانية: جريمة قتل الجماعة.
والثالثة: جريمة قتل النفس المفردة.
فالفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة، والجماعة التي تشيع فيها الفاحشة جماعة ميتة منتهية قطعاً إلى الدمار، والمجتمع الذي تشيع فيه المقاتل والثارات مهدد بالدمار.
ومن ثم جعل الله عقوبة هذه الجرائم الثلاث هي أقسى العقوبات؛ لأنه سبحانه يريد حماية خلقه من عوامل الدمار، ولذا وصف الله عباده المؤمنين بالبراءة منها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الفرقان: 68].
وقد ذكر الله سبحانه سنته في عقوبة الذين يتكبرون في الأرض في الحق بقوله: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 146].
عاقبهم سبحانه بصرفهم عن آياته، فلا ينتفعون بها ولا يستجيبون لها، آياته في كتابه المنظور وآياته في كتبه المنزلة على رسله.
وذلك لأنهم تكبروا وكذبوا بآيات ربهم، فكانوا عنها غافلين.
فالكبرياء صفة لله وحده؛ لا يقبل فيها شريكاً، وحيثما تكبر الإنسان في الأرض كان ذلك تكبراً في الأرض بغير حق.
(12/96)
وشر التكبر: ادعاء حق الربوبية في الأرض على عباد الله، ومزاولة هذا الحق بالتشريع لهم من دون الله، وتعبيدهم لهذا التشريع الباطل، ومن هذا التكبر تنشأ سائر ألوان التكبر، فهو أساس الشر كله، ومنه ينبعث ويتفجر.
وهؤلاء الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق جبلتهم مقلوبة ضالة، تجنح عن سبيل الرشد حيثما رأته، وتجنح إلى سبيل الغي حيثما لاح لها.
وهذا الصنف من الناس موجود مشهود، يتجنب الرشد، ويتبع الغي، دون جهد منه، ودون تفكير ولا تدبر.
فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه، وينشرح لطريق الغي ويتبعه، إنه يرى الحق باطلاً، والباطل حقاً ويعمل بذلك، ويدعو إلى ذلك، وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله الكونية والشرعية، لا يراها ولا يتدبرها، ولا تتأثر بها نفسه، فما أعظمها من عقوبة؟.
وما يظلم الله هذا الصنف من الناس بهذا الجزاء المردي المؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة، إنما هو الجزاء الحق لمن يكذب بآيات الله، ويغفل عنها: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [الأعراف: 147].
إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور، أو آياته المتلوّة التي يحملها الرسل، ويكذب تبعاً لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر، إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المسلم ونواميسه، لا تربطه بهذا الكون رابطة.
وكل عمل يصدر عن هذا المسيخ المقطوع هو عمل حابط ضائع، ولو بدا أنه قائم وناجح، كالدابة التي تأكل النبات السام فتنتفخ فيحسبه الناس عافية وسمنة، وإنما الهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط.
وكلما تكررت جريمة الكذب والافتراء على الله تكررت العقوبة كما حصل من بني إسرائيل حين عبدوا العجل كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [الأعراف: 152].
(12/97)
فهو جزاء متكرر كلما تكررت جريمة الافتراء على الله، وقد كتب الله على الذين اتخذوا العجل الغضب والذلة، وكان آخر ما كتب الله عليهم أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب.
فإذا بدا في فترة من الفترات أن بني إسرائيل يطغون في الأرض ويستعلون، وأنهم يملكون سلطان المال والإعلام، وأنهم يستذلون بعض عباد الله، ويطردونهم من أرضهم وديارهم في وحشية، والدول الضالة تساندهم، فليس هذا بناقض لوعيد الله ولا لما كتبه عليهم.
فهم بظلمهم وأفعالهم وصفاتهم السيئة يختزنون النقمة في قلوب البشر، ويهيئون الرصيد الذي يدمرهم من السخط والغضب.
غير أن هذه حالة لا تدوم، إنها فترة غيبوبة المسلمين عن سلاحهم الوحيد، فإذا عادوا إلى ربهم ردوا هؤلاء إلى الذلة التي كتبها الله عليهم.
أما الذين يعملون السيئات، ثم يتوبون إلى الله، فإن الله يتوب عليهم، ويغفر لهم، وهذه سنة الله في كل زمان ومكان: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [الأعراف: 153].
وما أكثر الذين يعطون علم دين الله ثم لا يهتدون به، إنما يتخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه، واتباع الهوى به.
وكم من عالم يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها، ويعلن غيرها، ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوي المطلوبة لسلطان الأرض الزائل.
وما أكثر ما يتكرر هذا النوع من علماء البشر، يعطيه الله نعمة العلم ثم ينسلخ من آيات الله، ويخلد إلى الأرض، ويتبع الهوى، فيستند له الشيطان، ويلهث وراء الحطام الذي يملكه أصحاب الجاه والسلطان.
فليحذر العبد أن يوقعه الشيطان في حبائله فيهلك: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [الأعراف: 175].
إنه مثل لكل من آتاه الله علماً فلم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإيمان، وانسلخ من نعمة الله، ليصبح تابعاً ذليلاً للشيطان، ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان، يلهث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا مقبلاً ومدبراً.
(12/98)
يلهث، سواء وعظته أم لم تعظه، يلهث وراء هذا المطمع لهاثاً لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا إلى نار جهنم.
إن الإسلام يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم النفس وعالم الحياة الدنيا إلى نار جهنم.
إن الإسلام يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم النفس وعالم الحياة فور استقرارها في القلب والعقل.
وتحيي موات القلب فينبض ويتحرك ويتطلع.. وتوقظ أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة فترجع إلى عهد الله الأول.
فالعقيدة والعلم في صورة نظرية للدراسة، هذا مجرد علم لا ينشئ في عالم الإنسان وعالم الحياة شيئاً كما هو واقع الآن.
إنه علم بارد لا يعصم من الهوى، ولا يرفع من ثقلة الشهوات شيئاً، ولا يدفع الشيطان، بل ربما ذلل له الطريق وعبدها.
وقد كانت القرون الأولى تهلك بعذاب الاستئصال من عند الله، بعد أن يأتيهم رسولهم بالخوارق التي يطلبونها، ثم يمضون في التكذيب.
ذلك لأنها رسالات مؤقتة لأمة من الناس، ولجيل واحد من هذه الأمة.
فأما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهي خاتمة الرسالات، لجميع الأقوام، وجميع الأجيال إلى يوم القيامة، فكانت معجزتها القرآن الكريم باقية أبد الدهر، تتدبرها الأجيال بعد الأجيال، وتؤمن بها أجيال وأجيال، وأمم وشعوب، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن ثم اقتضت الحكمة الإلهية ألا تؤخذ هذه الأمة بعذاب الاستئصال، وأن يقع العذاب والعقوبات على أفراد منها في وقت معلوم.
وكذلك كان الحال في الأمم قبلها من اليهود والنصارى، فلم ينزل بهم عذاب الاستئصال العام.
إن عذاب الله لا تستعجله نفس مؤمنة، ولا نفس جادة، وإذا ما أبطأ فهي حكمة ورحمة ليؤمن من يتهيأ للإيمان.
ولم يحل عذاب الاستئصال بكفار أهل الكتاب، ولا بكفار هذه الأمة؛ لأن لهم كتاباً، والذين لهم كتاب من أتباع الرسل وغيرهم كلهم مؤجلون إلى يوم القيامة.
(12/99)
لأن الكتاب دليل هداية باق، تستطيع الأجيال أن تتدبره وتعمل به كالجيل الذي أنزل فيه، والأمر ليس كذلك في الخوارق المادية التي لا يشهدها إلا جيل من حضرها، فإما أن يؤمن بها فينجو ويسعد، وإما أن لا يؤمن بها فيأخذه العذاب.
والتوراة والإنجيل كتابان كاملان معروضان للأجيال، حتى جاء الكتاب الأخير القرآن، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، فيصبح هو الكتاب الأخير للناس جميعاً.
يدعى إليه الناس جميعاً.. ويعمل به الناس جميعاً.. ويحاسب على أساسه الناس جميعاً بما فيهم أهل التوراة والإنجيل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [آل عمران: 85].
وإذا كان عذاب الاستئصال قد أُجِّل ورُفع عن كفار قوم موسى، وقوم عيسى، وقوم محمد، على السواء، فإنهم سيوفون ما يستحقون بعد الأجل، ولم يؤخر عنهم العذاب لأنهم على الحق، فهم على الباطل الذي كان عليه آباؤهم وأسلافهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [هود: 109-110].
وإذا كان العذاب قد أجل، فإن الكل سيوفون أعمالهم خيرها وشرها، يوفيهم بها العليم الخبير بها ولن تضيع: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [هود: 111].
والأمم السالفة التي أهلكها الله بعذاب الاستئصال، لو كان فيهم أولو بقية يستبقون لأنفسهم الخير عند الله فينهون عن الفساد في الأرض، ويصدون الظالمين عن الظلم، ما أخذ الله تلك القرى بعذاب الاستئصال الذي حل بها، فإن الله لا يأخذ القرى بالظلم إذا كان أهلها مصلحين، (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 116-117].
فتلك القرى فيها قلة من المؤمنين لا نفوذ لهم ولا قوة فأنجاهم الله، وكان فيها كثرة من المترفين المكذبين، فأهلك القرى بأهلها الظالمين، وهذه سنة من سنن الله في الأمم.
(12/100)
فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله في أي صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير.
فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويُفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها إما بهلاك الاستئصال، وإما بهلاك الانحلال والاختلال.
إن أصحاب الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له هم صمام الأمان للأمم والشعوب في كل زمان ومكان.
إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله، واستحقاق النكال والعقوبة.
وإذا قدر الله لقرية أنها هالكة؛ لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون، فلم تدفعهم ولم تضرب على أيديهم، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها، وعاثوا في الأرض فساداً، فحقت عليهم سنة الله، وأصابها الهلاك والدمار.
وهي المسئولة عما حل بها؛ لأنها لم تضرب على أيدي المترفين.
فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا، ولو أخذت عليهم الطريق، فلم تسمح لهم بالظهور فيها، ما استحقت الهلاك، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد، فيقودها إلى الهلاك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 16].
والله عزَّ وجلَّ قد جعل للحياة البشرية سنناً لا تتبدل، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج، فتنفذ إرادة الله، وتحق كلمته: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [الأحزاب: 38].
إن مسئولية الأمة عظيمة، وستتحمل تبعة ترك النظم الفاسدة تنشي آثارها السيئة التي لا مفر منها، وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها، فيحق عليها القول فيدمرها تدميراً.
هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح قرناً بعد قرن، كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 17].
(12/101)
ولقد كان المشركون في مكة يسمعون النذير، ولا يدركون حكمة الله في إمهالهم إلى حين، فيستعجلون الرسول صلى الله عليه وسلم بالعذاب على سبيل التحدي كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 53].
وكثيراً ما يكون إمهال الله استدراجاً للظالمين؛ ليزدادوا عتواً وفساداً، أو امتحاناً للمؤمنين؛ ليزدادوا إيماناً وثباتاً، وليتخلف عن صفوفهم من لا يطيق الصبر والثبات، أو استبقاءً لمن يعلم الله سبحانه أن فيهم خيراً من أولئك المنحرفين.. حتى يتبين لهم الرشد من الغي فيثوبوا إلى الهدى، أو استخراجاً لذرية صالحة من ظهورهم تعبد الله وتنحاز إلى حزبه، ولو كان آباؤهم من الضالين، أو لغير هذا وذاك من تدبير الله المستور.
إن أحوال الحياة وأوضاعها مربوطة بأعمال الناس وكسبهم، وإن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملؤها براً وبحراً بهذا الفساد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 41].
فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه، لا يتم عبثاً، ولا يقع مصادفة، وإنما حصل بإذن الله، ليذيقهم بعض الذي عملوا من الشر والفساد حينما يكتوون بناره، لعلهم يرجعون، فيعزمون على مقاومة الفساد، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح، وإلى الصراط المستقيم.
والذين كفروا ووقفوا في وجه الحق أن يبلغ إلى الناس، وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع، وشاقوا الله ورسوله، وآذوا الرسول في حياته بإعلان الحرب عليه، والمخالفة لما جاء به، والوقوف في غير صفه، أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه، ومحاربة المتبعين لسنته، والقائمين على دعوته، وذلك من بعد ما تبين لهم الهدى، وعرفوا أنه الحق، ولكنهم اتبعوا الهوى، وجمح بهم العناد.
فهؤلاء كلهم لن يضروا الله شيئاً، فهم أضعف وأضأل من أن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته، مهما بلغت قوتهم، ومهما قدروا على إيذاء بعض المسلمين فترة من الوقت.
(12/102)
فإن هذا بلاء وقتي يقع بإذن الله لحكمة يريدها، وليست ضراً لدينه ومنهجه وعباده القائمين على شرعه ومنهجه.
والعاقبة مقررة فسيحبط أعمالهم فتنتهي بهم إلى الخيبة والدمار، كما تنتهي الماشية التي ترعى ذلك النبات السام فتهلك: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [محمد: 32].
والفرصة متاحة لهؤلاء الكفار والعصاة في الدنيا فقط بأن يتوبوا إلى ربهم، فباب التوبة لا زال مفتوحاً للكافر والعاصي حتى يغرغر، فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة ولا مغفرة كما قال سبحانه: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [محمد: 34].
والعقوبات التي أنزلها الله في الأرض بقيت آثاراً سارية في الأرض تطلب ما يشاكلها من الذنوب، فهذه الآثار في الأرض من آثار العقوبات، كما أن هذه المعاصي من آثار الجرائم، وكان العظيم من العقوبة للعظيم من الجناية، والأخف للأخف: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [النمل: 69].
وكل من أعرض عن دين الله وشرعه قارنه الشيطان عقوبة له، والشيطان إذا قارن العبد واستولى عليه نزعت البركة من عمره ورزقه، وقوله وعمله: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 36-37].
ولما أثرت طاعة الشيطان في الأرض ما أثرت نزعت البركة من كل محل ظهرت فيه طاعته، وكذلك سكنه لما كان في الجحيم لم يكن هناك شيء من الروح والرحمة والبركة.
فكم يحصل للعبد المعرض عن ربه من الشرور والآثام بسبب مقارنة الشيطان له: (? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 38].
وإذا اتصف قلب الإنسان بالمكر والخديعة، والفسق والبلادة، وانصبغ بذلك صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك من القردة والخنازير، والكلاب والحمير، حتى يبدو على صفحات وجهه بدواً خفياً، ثم يصير ظاهراً على الوجه، ثم يقوى حتى يقلب الصورة الظاهرة كما قلب الصورة الباطنة، يرى ذلك من له فراسة تامة عقوبة من الله.
(12/103)
فقلّ أن ترى مكاراً وخداعاً إلا على وجهه مسحة قرد.. وقل أن ترى رافضياً إلا على وجهه مسحة خنزير.. وقل أن ترى شرهاً نهماً إلا على وجهه مسحة كلب.
فالظاهر مرتبط بالباطن.
وإذا استحكمت الصفات المذمومة في النفس قويت على قلب الصورة الباطنة، ولهذا خوف النبي صلى الله عليه وسلم من سابق الإمام في الصلاة بأن يجعل الله صورته صورة حمار؛ لمشابهته الحمار في البلادة وعدم الفطنة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ أنْ يُّحَوِّلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ» متفق عليه(1).
وأحق الناس بالمسخ أهل الباطل، وأهل الأهواء، وأهل الغناء، فهؤلاء أسرع الناس مسخاً قردة وخنازير لمشابهتهم لهم في الباطن.
وكل من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته سلبه الله إياه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلاً وآجلاً، وإن حبسه وادخره منعه التمتع به، ونقله إلى غيره، فيكون له مهنئوه، وعلى مخلفه وزره.
وكذلك من رفَّه بدنه وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله أتعبه الشيطان أضعاف ذلك في غير سبيل الله ومرضاته، وهذا أمر معلوم.
وإبليس لما امتنع من السجود لآدم فراراً أن يخضع له ويذل، صيره الله أذل الأذلين، وجعله خادماً لأهل الفسوق والفجور من ذريته، فلم يرض بالسجود له، ورضي أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته.
وعباد الأصنام لما أنفوا أن يتبعوا رسولاً من البشر، وأن يعبدوا إلهاً واحداً سبحانه، رضوا أن يعبدوا آلهة أخرى من الأحجار.
فكل من امتنع أن يذل لله أو يبذل ماله في مرضاته، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته، لا بدَّ أن يذل لما سواه من الخلق، ويبذل له ماله، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته عقوبة له.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (691)، ومسلم برقم (427) واللفظ له.
(12/104)
ومن امتنع أن يمشي خطوات في طاعة الرب ابتلي أن يمشي أكثر منها في غير طاعته: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجن: 17].
والذنب لا يخلو من عقوبة البتة، وترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق على النار، والكسر على الانكسار.
وقد تقارن المضرة الذنب، وقد تتأخر عنه إما يسيراً وإما مدة، كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه.
وأعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به، فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته.
ولهذا توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [الفتح: 6].
فلم يجمع الله على أحد من الوعيد والعقوبة مثل ما جمع على أهل الشرك، فإنهم ظنوا به ظن السوء.
ولا يتم إيمان العبد إلا إذا آمن بالله، ورضي حكمه في القليل والكثير، وتحاكم إلى شريعته وحدها في كل شأن من شؤونه في الأنفس والأموال والأعراض وإلا كان عابداً لغيره.
فمن خضع لله سبحانه وأطاعه وتحاكم إلى وحيه فهو العابد له، ومن خضع لغيره، وتحاكم إلى غير شرعه فقد عبد الطاغوت وانقاد له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [النساء: 60].
وعبادة الله وحده والتحاكم إليه من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
والحكم بغير ما أنزل الله حكم الجاهلين، والإعراض عن حكم الله تعالى سبب في حلول عقابه وبأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 49-50].
والمنهج الرباني لا يأخذ الناس بالعقوبة وحدها، إنما يرفع سيف العقوبة ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلا السيف.
(12/105)
فأما اعتماده الأول فعلى الدعوة إلى الله، وتقوية الإيمان، وتربية القلب، وهداية الروح، وتقويم الطبع، إلى جانب إقامة المجتمع الذي تنمو فيه بذرة الخير وتزكو، وتذبل فيه نبتة الشر وتذوي، لذلك ما يكاد السياق القرآني ينتهي من الترويع بالعقوبة حتى يأخذ طريقه إلى القلوب والضمائر والأرواح، يستجيش فيها مشاعر التقوى، ويرغبها بالحسنى كما قال سبحانه: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [البروج: 10].
ثم قال: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [البروج: 11].
وقد بشر الله بالجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 25].
فالمبشِّر هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن قام مقامه من أمته.
والمبشَّرون هم الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة التي تصلح بها أحوالهم، وأمور دينهم ودنياهم، وأحوالهم الدنيوية والأخروية.
والمبشر به هي الجنات الجامعة للأشجار العجيبة، والثمار اليانعة، والظل الممدود، والأنهار الجارية بالماء واللبن والخمر والعسل، والعيون العذبة الصافية يفجرونها تفجيراً، وسرر مرفوعة، وأزواج مطهرة من كل عيب ودنس، فهن مطهرات الأخلاق، مطهرات الخلق، مطهرات اللسان، مطهرات الأبصار، قاصرات الطرف على أزواجهن.
والسبب الموصل لهذا النعيم كله الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة إلا بهما.
فهذه أعظم بشارة للبشرية كلها.. وهي حاصلة على يد أفضل الخلق كلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .. بأفضل الأسباب وهي الإيمان والعمل الصالح.. الموصل لأفضل نعيم وهو الجنة ورضوان الله عزَّ وجلَّ.
(12/106)
والمؤمنون الذين يستحقون الجنة لهم صفات، ولهم أعمال، ولهم وظائف، إذا قاموا بها رحمهم الله وأسكنهم الجنة، وقد وصفهم الله بقوله سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [التوبة: 71].
فهؤلاء أعد الله لهم من الثواب العظيم، والنعيم المقيم، ما لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولا خطر على قلب بشر كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 72].
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا وإياكم وجميع المسلمين منهم.
فالإيمان والطاعات سبب للنجاة وحصول الحسنات، والكفر والمعاصي سبب للهلاك وحصول السيئات.
والطاعات كلها شعب من شعب الإيمان، والمعاصي كلها شعب من شعب الكفر.
وشعب الإيمان أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخوف والتعظيم والمحبة والخشية كل ذلك من شعب الإيمان، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق.
وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة.
ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً.
وشعب الإيمان قسمان: قولية.. وفعلية.
وكذلك شعب الكفر: قولية.. وفعلية.
فحقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل.
والقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام.
والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، وهي الأعمال الظاهرة فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، وكما يكفر الإنسان بالإتيان بكلمة الكفر اختياراً، فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم.
(12/107)
والعقوبات الشرعية أدوية نافعة، يُصلح الله بها أمراض القلوب، وهي من رحمة الله بعباده، ورأفته بهم، والدين كله شفاء ورحمة للعباد: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 203].
فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض، فهو الذين أعان على عذابه وهلاكه وإن كان لا يريد إلا الخير.
فدين الله هو طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، المبني على محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما، فإن الرأفة والرحة يحبهما الله ما لم تكن مضيعة لدين الله وحدوده.
والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها، فإن رآه مائلاً إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلاً إلى الشدة زين له الشدة في غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر واللين وصلة الرحم ما يأمر به الله وسوله صلى الله عليه وسلم ، ويتعدى في الشدة فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتعدى الحدود.
وهذا كله من الإسراف والله لا يحب المسرفين.
7- فقه الجزاء من جنس العمل
قال الله تعالى: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [البروج: 11].
وقال تعالى: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البينة: 6].
الثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر الله وشرعه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 149].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ» متفق عليه(1).
وهذا هو العدل الذي تقوم به السموات والأرض، وبه تصلح الدنيا والآخرة، ويصلح به الدين والدنيا.
ولهذا أمر الله بقطع يد السارق، وشرع قطع يد المحارب ورجله، وشرع القصاص في الدماء والأموال والأبدان.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5997)، ومسلم برقم (2318).
(12/108)
والجزاء مماثل للعمل من جنسه في الخير والشر:
فمن ستر مسلماً ستره الله.. ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة.. ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.
ومن أقال نادماً أقال الله عثرته يوم القيامة.
ومن أحسن إلى عباد الله أحسن الله إليه.
ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته.. ومن ضار مسلماً ضار الله به.. ومن شاق شاق الله عليه.. ومن خذل مسلماً في موضع يجب نصرته فيه خذله الله في موضع يحب نصرته فيه.
ومن أَنفق أُنفق عليه.. ومن أَوعى أُوعي عليه.. ومن يسر يسر الله عليه..
ومن عفا عن حقه عفا الله له عن حقه.. ومن تجاوز عن غيره تجاوز الله عنه.. ومن استقصى استقصى الله عليه.
ومن سمح سمح الله له.. ومن رحم خلق الله رحمه الله.. ومن عفا عنهم عفا الله عنه، ومن ظلمهم سلط الله عليه من يظلمه.
والراحمون يرحمهم الرحمن.. وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، والله سبحانه أتقن كل شيء صنعه، وأحسن كل شيء خلقه، فهو عند مبدأ خلقه برئ من الآفات والعلل، تام المنفعة لما هيء وخُلق له، وإنما تعرض له الآفات بعد ذلك بأمور أخر تقتضي فساده، ولو تُرك على خلقته الأصلية لم يفسد.
ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتصت حدوثه.
ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين والقحط والجدب، وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلب منافعها أو نقصانها ونحو ذلك من حصول الخوف والجوع وتسلط الأعداء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 41].
(12/109)
وكلما أحدث الناس ظلماً وفجوراً أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وهوائهم ومياههم، وأبدانهم وصورهم، وصفاتهم وأخلاقهم، من النقص والآفات، ما هو من موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.
وأكثر هذه الأمراض والآفات بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة، ثم بقيت منها بقية أُرصدت لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم، حكماً قسطاً وقضاءً عدلاً.
وقد جعل الله عزَّ وجلَّ أعمال البر والفاجر مقتضية لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بدَّ منه:
فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لحصول القحط والجدب، ومنع نزول الغيث.. وجعل ظلم المساكين، والبخس في الموازين، وتعدي القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك والولاة الذي لا يرحمون إذا استرحموا.
وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صورة ولاتهم، فإن الله سبحانه بحكمته يظهر للناس أعمالهم في صور تناسبها.
تارة بالقحط.. وتارة بالجدب.. وتارة بأمراض عامة.. وتارة بهموم وآلام.. وتارة بولاة جائرين.. وتارة بعدو.. وتارة بمنع بركات السماء والأرض.. وتارة بتسلط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزاً، لتحق عليهم كلمة الله، وليصير كل منهم إلى ما خلق له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [النساء: 123].
فكل صلاح في العالم سببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر وبلاء في العالم فسببه الكفر ومخالفة الله ومن رحمة الله سبحانه أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجراح والقذف والسرقة ونحوها.
فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع.
فلم يشرع الله في الكذب قطع اللسان ولا القتل.. ولا في الزنا الخصا.. ولا في السرقة قتل النفس.. ولا في القذف إزهاق الروح.
(12/110)
وإنما شرع سبحانه ما هو موجب أسمائه وصفاته من رحمته وحكمته ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن العدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه خالقه ومالكه، فلا يطمع في استلاب حق غيره ظلماً وعدواناً.
ولهذه الجنايات مراتب مختلفة في القلة والكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر، والقلة والكثرة.
ومعلوم أن الضربة بالعود لا يصلح إلحاقها في العقوبة بالضربة بالسيف.. ولا النظرة المحرمة بعقوبة مرتكب الفاحشة.. ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب.. ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الكثير..
فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، ومعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك، وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً، لذهبت بهم الآراء كل مذهب، ولعظم الاختلاف، واشتد الخطب، لقصور علمهم، وضعف رؤيتهم، واختلاف مداركهم وعقولهم.
فكفاهم أرحم الراحمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة وما يليق بها من النكال، فكانت عدلاً ورحمة.
ثم بلغ من سعة رحمته وجوده سبحانه أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها، وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه لا سيما مع التوبة منها.
فرحمهم الله سبحانه بهذه العقوبات أنواعاً من الرحمة في الدنيا والآخرة.
وجعل سبحانه هذه العقوبات دائرة على ستة أصول:
القتل.. والقطع.. والجلد.. والنفي.. وتغريم المال.. والتعزير.
(12/111)
فالقتل جعله الله عقوبة على أعظم الجنايات كالجناية على النفس، وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه، فهذه الجناية أولى بالقتل وكف عدوان الجاني عليه من كل عقوبة، إذ بقاء هذا الجاني بين أظهر العباد مفسد لهم، ولا خير يرجى في بقائه ولا مصلحة، فهو كالعضو الفاسد فناسب بتره وقطع دابره؛ صيانة للدين وأهله من شره.
وجعله كذلك عقوبة على الجناية على الفروج المحرمة كالزاني المحصن؛ لما في جنايته من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب.
وأما القطع فجعل عقوبة مثله عدلاً.. وعقوبة السارق الذي اقتطع مال غيره، فكان أليق العقوبات به إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم.
ولما كان ضرر المحارب أشد من ضرر السارق، وعدوانه أعظم، ضم إلى قطع يده قطع رجله، ليكف عدوانه عن الناس، ورحمه بأن جعل القطع من خلاف فأبقى له يداً من شق، ورجلاً من شق.
وأما الجلد فجعله سبحانه عقوبة على الجناية على الأعراض وعلى العقول وعلى الأبضاع، ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغاً يوجب القتل ولا إبانة الطرف.
فسبحان الحكيم العليم بخلقه، جعل إتلاف النفوس في مقابلة أكبر الكبائر وأعظمها ضرراً، وأشدها فساداً في العالم وهي:
الكفر الأصلي والطارئ.. والقتل.. والزنا من المحصن.
وإذا تأمل العاقل فساد الحياة رآها من هذه الجهات الثلاث وقد سأل عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ فقال: «أنْ تَجْعَلَ لله نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ» قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «وَأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «أنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» متفق عليه(1).
فأنزل الله تصديق ذلك بقوله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الفرقان: 68].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4477)، واللفظ له، ومسلم برقم (86).
(12/112)
ثم لما كانت سرقة الأموال تلي ذلك في الضرر وهو دونه جعل عقوبته قطع اليد، ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفسدة جعل عقوبته دون ذلك وهو الجلد.
ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حده دون حد هذه الجنايات كلها.
ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف.. والقلة والكثرة، وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة جعلت عقوباتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور بالتعزير بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم أنفسهم بمعاقبتهم بما يردعهم ويكف شرهم ويصلح أحوالهم وحال الأمة.
والحسنات والسيئات يراد بها أعمال الخير وأعمال الشر، كما يراد بها النعم والمصائب، والجزاء من جنس العمل:
فمن عمل خيراً وحسنات لقي خيراً وحسنات، ومن عمل شراً وسيئات لقي شراً وسيئات.
وقصد الخير في الدنيا جزاؤه الهدى إلى طريق الجنة كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 9].
وقصد الشر في الدنيا جزاؤه الهدى إلى طريق النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصافات: 22-23].
والراحمون يرحمهم الرحمن، ومن رحم من في الأرض رحمه من في السماء، فالجزاء أبداً من جنس العمل، وكما تدين تدان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2699).
(12/113)
ومن سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار.
ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 66-68].
ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها كما قال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [المائدة: 13].
والله عزَّ وجلَّ على صراط مستقيم في قضائه وقدره، وفي أمره ونهيه، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بفضله ورحمته، ويصرف من يشاء عن صراطه المستقيم بعدله وحكمته لعدم صلاحية المحل.
فهو سبحانه على صراط مستقيم، ونصب لعباده من أمره صراطاً مستقيماً دعاهم جميعاً إليه، فإذا كان يوم لقائه نصب لخلقه صراطاً مستقيماً يوصلهم إلى الجنة، ثم صرف عنه من انصرف عنه في الدنيا، وأقام عليه من اتبع صراطه المستقيم في الدنيا.
وجعل نور المؤمنين به الذي كان في قلوبهم في الدنيا نوراً ظاهراً يسعى بين أيديهم وبأيمانهم في ظلمة الحشر والموقف، وحفظ عليهم نورهم حتى قطعوه كما حفظ عليهم الإيمان به حتى لقوه.
وأطفأ نور المنافقين أحوج ما كانوا إليه كما أطفأه من قلوبهم في الدنيا: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الحديد: 12].
فمن لم يقبل نور الإيمان في الدنيا فلا حظَّ له في النور يوم القيامة، فهو أعمى وفي الظلمات فأنى يهتدي وينجو: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 13].
وأقام سبحانه أعمال العصاة على جنبتي الصراط كلاليب وحسكاً تخطفهم إلى النار كما خطفتهم في الدنيا عن الاستقامة على الصراط المستقيم.
وجعل سبحانه قوة سير الناس على الصراط على قدر قوة سيرهم في الدين وسرعتهم إليه في الدنيا.
ونصب للمؤمنين حوضاً يشربون منه بإزاء شربهم من شرعه في الدنيا، وحَرَمَ من الشرب منه هناك من حَرََمَ نفسه من الشرب من شرعه ودينه في الدنيا.
فالدنيا مزرعة الآخرة:
(12/114)
فمن هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه.
وعلى قدر سيره على هذا الصراط سيكون سيره على ذاك الصراط المنصوب على متن جهنم.
فمن الناس من يمر كالبرق.. ومنهم من يمر كالطرف.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجسر فقال: «دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ وَحَسَكٌ، تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ، كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» متفق عليه(1).
فلينظر العبد إلى الشبهات والشهوات والمظالم التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم، فإنها الكلاليب التي بجنبتي الصراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 46].
والله عليم خبير يجزي الإنسان بجنس عمله، فمن خالف الرسل عوقب بمثل ذنبه، فإن قدح فيهم ونسب ما يقولون إلى أنه جهل وخروج عن العلم والعقل ابتلي في عقله وعلمه، وظهر من جهله ما عوقب به.
ومن قال عنهم إنهم تعمدوا الكذب أظهر الله كذبه، ومن قال أنهم جهال أظهر الله جهله بين خلقه وخذله.
ففرعون وهامان وقارون لما قالوا عن موسى صلى الله عليه وسلم إنه ساحر كذاب، أهلك الله فرعون، وأظهر كذبه وافتراءه على الله وعلى رسله، وأذله غاية الإذلال، وأعجزه عن الكلام النافع فلم يبين حجة، وكذلك خسف الله بقارون وماله: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [الذاريات: 38-40].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7439)، ومسلم برقم (183)، واللفظ له.
(12/115)
وفرعون هذه الأمة أبو جهل أهلك بجهله نفسه وأتباعه في الدنيا والآخرة، والذين قالوا عن رسول الله إنه أبتر عوقبوا بانبتارهم، فلا يوجد من شنأ الرسول إلا بتره الله حتى أهل البدع المخالفون لسنته كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ) [الكوثر: 3].
ومن احتال على إباحة ما حرمه الله بالحيل عاقبه بنقيض قصده كما احتال أصحاب السبت فلعنهم الله ومسخهم قردة وخنازير جزاء احتيالهم على فعل ما حرمه الله عليهم كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [البقرة: 65].
فهؤلاء احتالوا على وقوع الحيتان يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله بحيث لم يتمسكوا إلا بظاهره دون حقيقته مسخهم الله قردة تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة جزاءً وفاقاً.
وحياة القلب بالإيمان، فإذا أمد الله عبده بهذه الحياة أثمرت له محبة الله وإجلاله وتعظيمه والحياء منه ومراقبته وحسن التوكل عليه، وحياة النفس وسعادتها بهذه الحياة.
ومتى فقدت هذه الحياة عاش الإنسان في الدنيا ليس بحي الحياة النافعة التي خلق من أجلها، بل كانت حياته من جنس حياة البهائم، ولم يكن ميتاً عديم الإحساس كان في الآخرة كذلك.
فحياة البدن بالطعام، وحياة القلب بالإيمان، وحياة الإنسان بدون الإيمان حياة ضالة معذبة شقية، لم تسترح راحة الأموات، ولم تعش عيشة الأحياء السعداء وفي الآخرة كذلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعلى: 9-10].
ومن أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله، وعميت عنه بصيرته، أعمى الله بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 97].
والإنسان الطَّيِّب يتفجر الطِّيْب من قلبه على لسانه وجوارحه، والخبيث يتفجر من قلبه الخبث على لسانه وجوارحه، وقد يكون في الإنسان مادتان: طيْب وخبث، فأيهما غلب عليه كان من أهلها.
(12/116)
فإذا أراد الله به خيراً طهره من المادة الخبيثة قبل الموت، فيوافيه يوم القيامة مطهراً من الذنوب بما يوفقه له من التوبة النصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار.
ويمسك سبحانه عن الآخر مواد التطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة ومادة طيبة، وحكمة الله تأبى أن يجاوره أحد في داره الطيبة بخبائثه، فيدخله النار طهرة له وتصفيه، فإذا خلص من الخبث صلح حينئذ لجواره ومساكنة الطيبين من عباده.
وإقامة هذا النوع من الناس في النار على حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها، وأكثر المسلمين لا بدَّ له من التطهير، فإن الجهل والغفلة والحرص يولد كثرة المعاصي والذنوب لا محالة.
ولهذا قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [مريم: 71-72].
ولما كان المشرك خبيث العنصر، خبيث الذات، لم تطهر النار خبثه، بل لو خرج منها لعاد خبيثاً كما كان، كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه، فلذلك حَرَّم الله على المشرك الجنة كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [المائدة: 72].
ولما كان المؤمن الطيب مبرءاً من الخبائث كانت النار حراماً عليه، إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره بها، فيحفظه ويوصله إيمانه إلى الجنة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 107-108].
فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، رب العالمين، وأحكم الحاكمين.
(12/117)
والجزاء من جنس العمل كما قال صلى الله عليه وسلم : «يَقُولُ الله تَعَالَى: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه(1).
ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، ولا تزال المسألة بالرجل حتى يجيء يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، وإذا تقرب العبد إلى ربه بالنوافل التي يحبها الله أحبه الرب، فكان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، فبه يسمع، وبه يبصر، وبه يمشي.
والله عزَّ وجلَّ وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير، وذلك لأن تعليم الناس الخير يخرجهم من الظلمات إلى النور، والجزاء من جنس العمل ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحق الناس بكمال هذه الصلاة: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [الأحزاب: 56].
فلما تسبب معلمو الخير للناس في دخولهم في جملة المؤمنين الذين يصلي الله عليهم وملائكته صلى الله عليهم وملائكته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 43].
وكذلك العالم كلما علّم الناس من جهالتهم جزاه الله بأن علمه من جهالته، وأمر الكائنات أن تستغفر له؛ لأن لها جميعاً حظ من علمه.
ومن خزن العلم ولم ينشره ولم يعلمه ابتلاه الله بنسيانه وذهابه منه، ومن كتم الحق أو كذب فيه فقد حاد الله في شرعه ودينه، وسنة الله أن يمحق عليه بركة علمه ودينه ودنياه، كما أن المتبايعين إذا صدقا بوركا في بيعهما، وإن كتما وكذبا محق الله بركة بيعهما.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405) واللفظ له، ومسلم برقم (2675).
(12/118)
فالكتمان يعزل الحق عن سلطانه.. والكذب يقلبه عن وجهه.
والجزاء من جنس العمل فجزاء أحدهم أن يعزله الله عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم الذي يلبسه أهل الحق والصدق والبيان، ويلبسه ثوب الذل والهوان ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرة صلى الله عليه بها عشراً، ومن أثنى على الرسول أثنى الله عليه وزاد تشريفه وتكريمه، ومن سأل الله له الوسيلة حلت له شفاعته يوم القيامة.
ومن آثر الله ومحابه على غيره آثره على غيره، وأعطاه ما يحب جزاء وفاقاً.
والإمام العادل أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظل يوم لا ظل إلا ظله، فكما كان الناس في ظل عدله في الدنيا كان في ظل الرحمن يوم القيامة، ظلاً بظل، جزاء وفاقاً.. وهكذا بقية السبعة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ ا?، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي ا?، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه(1).
وإذا استقام الناس استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم.
فسبحان من جميع أقضيته وأقداره جارية على مقتضى الحكمة، بل على أتم وجوه الحكمة والصواب، ولكن العقول الضعيفة محجوبة عنها وعن إدراك أسرارها.
وإذا منع الناس الزكاة وحرموا المساكين حبس الله الغيث عنهم وابتلاهم بالقحط، فلما منعوا حق المساكين منع الله عنهم مادة القوت والرزق، وهو الماء.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم(1423)، واللفظ له، ومسلم برقم (1031).
(12/119)
والله منعم على جميع العباد، ولا يغير سبحانه نعمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غَيَّر، غَيَّر الله عليه، جزاء وفاقاً: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 53].
فإن غَيَّر المعصية بالطاعة غَيَّر الله العقوبة بالعافية والسلامة، والذل بالعز، والتعب بالراحة: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 11].
ومن غض بصره عن المحرمات عوضه الله إطلاق بصيرته في العلم والإيمان والمعرفة، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره، ولم يغضه عن محارم الله، فكما حبس بصره لله أطلق الله نور بصيرته، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته ولهذا وغيره قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [النور: 30-31].
وكلما أحسن الناس بأعمالهم أحسن الله إليهم برحمته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 56].
وأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله، فمن أحسن عبادة ربه أحسن ربه إليه ورحمه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ??) [الرحمن: 60].
والله عزَّ وجلَّ يعامل العبد في ذنوبه بمثل ما يعامل العبد الناس في ذنوبهم، فإذا عرف العبد ذلك كان في ابتلائه بالذنوب من الحكم والفوائد ما هو أنفع الأشياء له.
والمتقون لما فعلوا ما يحب الله، وتركوا ما يكره أعطاهم ما يحبون، ووقاهم مما يكرهون جزاء وفاقاً كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطور: 17-18].
(12/120)
جمع الله لهم بين النعيمين، نعيم القلب بالتفكه، ونعيم البدن بالأكل والشرب والنكاح، ووقاهم عذاب الجحيم، وعلى قدر ما يتقرب العبد إلى ربه يتقرب الله منه أكثر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَقُولُ الله تَعَالَى: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه(1).
وحقيقة هذا التقرب أن تفنى بمراد الله عن هواك، وبما منه عن حظك، فكما جاد المسلم لحبيبه بنفسه وروحه، وجميع قواه وإرادته، وأقواله وأعماله، فهو أهل أن يُجاد عليه، بأن يكون ربه سبحانه هو حظه ونصيبه عوضاً عن كل شيء جزاء وفاقاً.
والشهيد في سبيل الله لما بذل حياته لله أعاضه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته كما قال سبحانه: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [آل عمران: 169].
وإذا توكل العبد على الله حق توكله، ثم كادته السموات والأرض ومن فيهن جعل الله له مخرجاً من ذلك وكفاه ونصره: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 2-3].
ومن بذل لله شيئاً عوضه الله خيراً منه، فمن جاء بالحسنة أعطاه الله عشراً، ومن صلى صلاة واحدة كتبها الله عشراً، ومن أنفق درهماً أخلفه الله عليه، وكتب له به عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 245].
فلا يزال العبد رابحاً على ربه في كل طاعة بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة، سعادة في الدنيا، وجنة ورضوان في الآخرة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405) واللفظ له، ومسلم برقم (2675).
(12/121)
ومن كان مستوحشاً من الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ ويوم المعاد أعظم وأشد، ويعود عمله عليه بعينه، فيشقى به ظاهراً وباطناً.
ومن قرت عينه بالله في هذه الدار قرت عينه به يوم القيامة، وعند الموت، ويوم البعث، ويعود عليه عمله بعينه، فينعم به ظاهراً وباطناً: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 49-58].
وقابل الله ما أخفاه المتقون من قيام الليل بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس، وقابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقومون لصلاة الليل بقرة الأعين في الجنة كما قال سبحانه عنهم: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [السجدة: 16-17].
وجعل سبحانه الجنة التي غرسها بيده لمن خلقه بيده ولأفضل ذريته، اعتناءً وتشريفاً، وإظهاراً لفضل ما خلقه بيده وشرفه.
ولما كان الكفار في الدنيا في سجن الكفر والشرك وضيقه، وكانوا كلما هموا بالخروج منه إلى فضاء الإيمان وسعته رجعوا على حوافرهم كانت عقوبتهم في الآخرة كذلك كما قال سبحانه عن الكفار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 20].
فالكفر والمعاصي والفسوق كله غموم، كلما أراد الإنسان أن يخرج منه أبت عليه نفسه وشيطانه، فلا يزال في غمّ ذلك حتى يموت، فإن لم يخرج من غم ذلك في الدنيا بقي في غمه في البرزخ وفي القيامة.
فما حبس العبد عن الله في هذه الدار حبسه عنه بعد الموت, وكان معذباً به هناك كما كان قلبه معذباً به في الدنيا.
وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 24].
(12/122)
والله حليم غفور، فلولا حلمه عن الجناة، ومغفرته للعصاة، لما استقرت السموات والأرض، فحلمه ومغفرته يمنعان زوال السموات والأرض كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [فاطر: 41].
وقد أخرج الله سبحانه آدم وزوجه من الجنة بذنب واحد ارتكباه، ولعن إبليس وطرده وأخرجه من ملكوت السموات بذنب واحد ارتكبه، ونحن معاشر الحمقى نصل الذنوب إلى الذنوب، ونتبع الصغائر بالكبائر غير مقدرين لعظمة الرب، وغير مبالين بأمره، ونرجو مع ذلك أعلى الدرجات في الآخرة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [الأعراف: 23].
وكل عمل له جزاء، والعبد ميسر بأعماله لغاياتها كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الليل: 4-10].
فهذا عمله الصالح ييسر لليسرى.. وهذا بعمله السييء ييسر للعسرى.
وأسباب التيسير لليسرى ثلاثة:
الأول: إعطاء العبد من نفسه الإيمان والطاعات، واعطاؤه الإحسان والنفع بماله ولسانه وبدنه ونيته، فتكون نفسه مطيعة باذلة لا لئيمة مانعة.
فالنفس المطيعة هي النافعة المحسنة التي طبعها الإحسان لنفسها ولغيرها، فهي ميسرة لذلك، وهكذا الإنسان المبارك ميسر للنفع حيث حل، فجزاء هذا أن ييسره الله لليسرى كما كانت نفسه ميسرة للعطاء..
الثاني: التقوى، وهي اجتناب ما نهى الله عنه، وهذا من أعظم أسباب التيسير، فالمتقي ميسرة عليه أمور دنياه وآخرته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 4].
وتارك التقوى وإن تيسرت عليه بعض أمور دنياه تعسر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى، ولو اتقى الله لكان تيسرها عليه أتم، ولو قدر أنها لم تتيسر له فقد يسر الله له من الدنيا ما هو أنفع له مما ناله لغير التقوى من نعيم القلب ولذة الروح ما هو أجل من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذات.
الثالث: التصديق بالحسنى، وهي التصديق بالإيمان وشعبه وجزائه وهو الجنة.
(12/123)
فهذا قد زكى نفسه، وأعدها لكل حالة يسرى، فصارت هذه النفس بذلك ميسرة لكل يسرى، وأكمل الناس من كملت له هذه القوى الثلاث قوة الإعطاء.. وقوة الكف.. وقوة الفهم.
فهذا أهل أن ييسر لليسرى، فتصير خصال الخير ميسرة عليه، مذللة له، منقادة لا تستعصي عليه؛ لأنه مهيأ لها، ميسر لفعلها، يسلك سبلها ذللاً، يتلذذ بفعلها حتى يلقى ربه فيدخل الجنة.
أما من بخل فعطل قوة الإرادة والإعطاء عن فعل ما أمر الله به.. واستغنى بترك التقوى عن ربه، فعطل قوة الكف عن فعل ما نهى الله عنه.. وكذب بالحسنى، فعطل قوة العلم والإدراك عن التصديق بالإيمان وجزائه..
فهذا جزاؤه أن ييسر للعسرى، ويحال بين قلبه وبين الإيمان، فيعمل بأعمال أهل النار، وتصير خصال الشر ميسرة عليه، يعمل بها حتى يلقى الله فيدخله النار.
والله سبحانه هو الذي يسر للعبد أسباب الخير والشر، وخلق خلقه قسمين: أهل سعادة، فَيَسَّرهم لليسرى.. وأهل شقاوة فيَسَّرهم للعسرى، واستعمل هؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها، لا يصلحون لسواها، وهؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها لا يصلحون لسواها.
وحكمته الباهرة تأبى أن يضع عقوبته في موضع لا تصلح له، كما يأبى أن يضع كرامته وثوابه في محل لا يصلح لهما ولا يليق بهما.
والعبد إذا أخلى قلبه من محبة الله، والإنابة إليه، وطلب مرضاته.. وأخلى لسانه من ذكره وحمده والثناء عليه.. وأخلى جوارحه من شكره وطاعته وعبادته.. ولم يرد من نفسه ذلك.. ونسي ربه.. نسيه الله كما نسيه.. وقطع عنه الإمداد الواصل إليه منه كما قطع العبد العبودية والشكر والتقوى التي تناله من عباده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 37].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [الحشر: 19].
(12/124)
فإذا أمسك العبد عما ينال ربه منه، أمسك الرب عما ينال العبد من توفيقه، ومن أعرض عن الله وعن دينه خلى بينه وبين نفسه التي ليس له منها إلا الظلم والجهل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 41].
فعدم إرادته تطهيرهم، وتخليته بينهم وبين نفوسهم أوجب لهم من الشر ما أوجبه.
فالذي إلى الرب وبيديه ومنه الخير.. والشر كان مصدره منهم.. وإليهم كان منتهاه.. فمنهم ابتدأت أسبابه بخذلان الله تعالى لهم تارة.. وبعقوبته لهم به تارة.
فمن أحسن أحسن الله إليه بما يسره في الدنيا والآخرة..
ومن أساء عوقب بما يسوؤه في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [النساء: 123].
8- فقه التخلص من المعاصي
قال الله تعالى: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ?) [النساء: 66-68].
وقال تعالى: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [المائدة: 74].
العارف بالله من يعظم ربه أمام الناس ليعظموه، ويكبره أمامهم ليكبروه، فإذا عظموه عظموا كلامه، وعظموا أوامره، فأطاعوه وتجنبوا معاصيه.
وكذلك يحبب الله لخلقه بذكر آلائه وإنعامه وإحسانه، وصفات كماله، ونعوت جلاله، فالقلوب مفطورة على حب من أحسن إليها، فإذا ذكرت آلاء الله وإنعامه تعلقت بحبه، وهان عليها ترك الذنوب، وترك الإصرار عليها، ونشطت وتلذذت بطاعته.
فالعارف لا يأمر الناس بترك الدنيا، فإنهم لا يقدرون على تركها لأول وهلة، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم؛ لأن ترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، فلا يؤمر بالفضيلة من لم يقم بالفريضة.
وترك الدنيا التي تشغل العبد عن الله صعب على النفوس، فإن الفطام عن الثدي الذي ما عقل الإنسان نفسه إلا وهو يرتضع منه شديد.
وليس المراد ترك أسباب الكسب، فإن الدنيا دار الأسباب الدنيوية والأخروية، وإنما المراد التقلل منها، والأخذ منها بقدر الحاجة، وإنفاق ما سوى ذلك في مرضاة الله.
(12/125)
فمن قوي على مرارة الفطام فذلك خير، وإلا فليرتضع بقدر حتى يأذن الله له بمعرفة الباقي من الفاني فيؤثره.
ويهون على العبد ترك الذنوب والمعاصي إذا علم أن في تركها مرضاة الرب.. ومحبة الرب.. ومحبة الخلق.. وصلاح المعاش.. وراحة البدن.. وقوة القلب.. وانشراح الصدر.. ونعيم القلب.. وحصول المروءة.. وصون العرض.. وقلة الهمّ والغمّ والحزن.. وعز النفس عن احتمال الذل.. وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعاصي.
ويسهل على الإنسان ترك المعاصي إذا عرف عظمة ربه وجلاله، وغزارة نعمه عليه وعلى غيره، ولاحظ عفوه وإحسانه، فلا يليق بمن هذه عظمته، وهذه نعمه أن يعصيه، بل الواجب طاعته، وشكر نعمه، والتسبيح بحمده سراً وجهراً ليلاً ونهاراً.
ويسهل عليه كذلك ترك الذنوب والمعاصي إذا علم أن في تركها تيسير الرزق عليه.. ووصوله إليه من حيث لا يحتسب وحصول البركة فيه.. وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي.. وتسهيل الطاعات عليه.. وكثرة الدعاء له.. والحلاوة التي يكتسبها في وجهه.. والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس.. وانتصارهم له إذا أوذي أو ظلم.. وسرعة إجابة دعائه.. وزوال الوحشة التي بينه وبين الله.. وقرب الملائكة منه.. وبعد الشياطين عنه.. وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه.. ورغبتهم في صحبته.. وعدم خوفه من الموت.. وصغر الدنيا في قلبه.. وكبر الآخرة عنده.. وذوق حلاوة الطاعات.. ووجدان حلاوة الإيمان في قلبه.. ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له.
هذه بعض آثار ومنافع ترك المعاصي في الدنيا.
أما في الآخرة فإذا مات تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة.. وانتقل من سجن الدنيا إلى روضة من رياض الجنة.. ينعم فيها في قبره إلى أن تقوم الساعة.
(12/126)
فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق.. وهو في ظل عرش الرحمن، فإذا انصرفوا بعد الحساب من بين يدي الله، أخذت به الملائكة ذات اليمين إلى جنات النعيم مع أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، حيث النعيم المقيم، يتجول بين القصور، ويتلذذ بالنساء والحور، ويتنعم بالأكل من ألوان الأطعمة والفواكه، ويشرب من أنهار اللبن والماء والعسل والخمر.. وغير ذلك من النعيم الذي لم يخطر بباله: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [السجدة: 17].
وفوق ذلك كله تمتع برؤية ربه، وفوزه برضوانه كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 72].
فهل يزهد في هذا النعيم من له أدنى مسكة من عقل؟.
وهل يحرم نفسه منه بمعصية من يملكه إلا مارج العقل والدين؟.
إنه ليس في الآخرة إلا نعيم أو عذاب.. وإكرام أو إهانة.. وسعادة أو شقاوة.. مع الخلود والتأبيد.. ولكل دار عمل وعمال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [الروم: 14-16].
والعاقل إنما يقدم طاعة الله على طاعة النفس.. ومحبوبات الله على محبوبات النفس.. وطاعة الرحمن على طاعة الشيطان.. والدار الباقية على الدار الفانية.. (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
والمعاصي والذنوب ضربان:
كبائر.. وصغائر.
فالكبائر تكفرها التوبة النصوح كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [المائدة: 39].
أما تكفير الصغائر فيقع بشيئين:
أحدهما: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 114].
الثاني: اجتناب الكبائر كما قال سبحانه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [النساء: 31].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الصَّلاةُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ» أخرجه مسلم(1).
وقد خلق الله الإنسان ضعيفاً من جميع الوجوه:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (233).
(12/127)
فهو ضعيف البنية.. ضعيف الإرادة.. ضعيف القوة.. ضعيف العلم.. ضعيف الصبر، فلا بدَّ له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره وإلا هلك، وخلقه على هذه الصفة من الأمور التي يحمد عليها الله سبحانه، وهو بالنسبة إلى الخالق خير وعدل وحكمة.
وبالنسبة إلى العبد ينقسم إلى خير وشر، وطاعة ومعصية، فالإنسان ضعيف، تارة يتبع الشهوات، وتارة ينفذ أوامر الرب، حسب قوة الإيمان وضعفه.
وشهوة الطعام والشراب، وشهوة الفرج من أعظم الشهوات، فلهذا أباح الله لنا جميع الطيبات وحرم علينا الخبائث، وأباح لنا أن ننكح ما طاب لنا من النساء إلى أربع، وأن نتسرى من الإماء بما شئنا.
والعبد له في باب الشهوات ثلاثة أحوال:
حالة جهل بما يحل له ويحرم عليه.. وحالة تقصير وتفريط.. وحالة ضعف وقلة صبر.
فقابل سبحانه جهل العبد بالبيان والهدى، وقابل تقصيره وتفريطه بالتوبة، وضعفه وقلة صبره بالتخفيف كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [النساء: 26-28].
ويهوَّن على العاصي ترك الذنوب إذا علم أنه سوف يحاسب عليها، وأنه سوف يمكث في النار بحسب قلتها أو كثرتها، وأنه في الدنيا لا يطيق حرارة الشمس ولا شدة البرد، فكيف يطيق عذاب نار جهنم؟.
وعذاب الدنيا الذي يحصل للعصاة بسبب معاصيهم شديد، وعذاب الآخرة أشد وأبقى وأخزى:
وذلك بسبب قوته وشدته.. وبسبب دوامه وعدم انقطاعه.. وبسبب كثرة أنواعه.. وبسبب اليأس من زواله.. وبسبب أنه لا يختلط به شيء من موجبات الراحة كما قال سبحانه عن الكفار والعصاة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 34].
وكل من كملت عظمة الخالق في قلبه عظمت عنده مخالفته.
ومن عرف قدر نفسه، وفقرها الذاتي إلى مولاها، وشدة حاجتها إليه، عظمت عنده الجناية، ومخالفة من هو شديد الضرورة إليه في كل لحظة.
ومن عرف حقارة الجناية مع عظم قدر من خالفه، عظمت عنده الجناية، فشمر في التخلص منها.
(12/128)
وبحسب تصديق الإنسان بالوعيد، ويقينه به، يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تسبب عقوبته وهلاكه كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ?) [إبراهيم: 14].
والمعاصي والبدع ضربان: صغائر.. وكبائر.
والكبائر: كل ما اقترن بالنهي عنه وعيد من لعن، أو غضب، أو عقوبة، وكل ما لم يقترن بالنهي عنه شيء من ذلك فهو صغيرة.
والمعصية والبدعة لا تكون صغيرة إلا بشروط:
الأول: أن لا يداوم عليها، فإن داوم عليها فهو مصر عليها، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة.
الثاني: أن لا يدعو الناس إليها، فما كان بين العبد وربه ترجى معه التوبة والمغفرة، فإن دعا إليها فعليها وزرها ووزر من عمل بها.
الثالث: أن لا يفعلها في مجامع الناس كالمساجد والأسواق، وأماكن إقامة السنن، فهذا من أضر الأشياء على الناس، لكثرة من يقتدي به فيما يعمل في تلك الأماكن.
الرابع: أن لا يستصغرها ولا يحتقرها، فالاستهانة بالذنب أعظم من الذنب.
والذنوب كلها بالنسبة إلى الجرأة على الله سبحانه معصية، ومخالفة أمره كبائر، وذلك بالنظر إلى من عصيت أمره، وانتهكت محارمه.
والمعصية تتضمن الاستهانة بالآمر، والاستهانة بأمره، والتوثب على حق الرب عزَّ وجلَّ وذلك كله يحتاج من العبد إلى التوبة والاستغفار: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [النساء: 110].
إن أول ما يفسد من الشجرة الجذور ثم ينتشر الفساد على باقي الشجرة، ثم تتعفن الثمرة، وكذلك الإنسان أول ما يفسد قلبه، ثم تفسد معاملاته ومعاشراته وأخلاقه، ثم تفسد عباداته، ثم يتحول من جند الرحمن إلى جند الشيطان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم(1599) واللفظ له.
(12/129)
وإذا تذكر العبد أن الذي خلقه هو الله.. وأن الذي يرزقه هو الله.. وأن الذي أعطاه العقل والسمع والبصر هو الله.. وأن الذي أسكنه في الأرض هو الله.. وأن الذي هداه هو الله.. إذا ذكر هذا علم أن من هذه صفاته وهذه أفعاله لا يليق به إلا الطاعة التامة، والمحبة التامة.. وأن معصيته لا تليق بالإنسان فكيف بالعاقل، فكيف بالمسلم؟.
وهل يليق بالرب المحسن إلى العبد من جميع الوجوه أن يقابل ذلك بالمعاصي والسيئات التي أول ما تضر نفسه.
والناس رجلان:
منهم من يجمع الطيبات والحسنات والأعمال الصالحة التي ترضي الرب.
ومنهم من يجمع الخبائث والسيئات والأعمال السيئة التي تسخط الرب.
فإن غاب المذّكِّر رتعت الأمة في الشهوات والسيئات، وإن قام المذّكِّر تحولت الأمة من الشهوات والسيئات إلى الطاعات والحسنات، واكتفت من الشهوات بما أحل الله لها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعلى: 9-13].
ولعافية الجسد لا بد من الأغسال المتكررة، وتناول الأغذية الطيبة، واستفراغ المواد الفاسدة.
ولعافية القلب لا بدَّ من التوبة المتكررة، وفعل الأعمال الصالحة، واجتناب الأعمال السيئة: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 31].
فما أحسن الاستغفار والتوبة من العبد الظالم الغافل الجاهل: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [النساء: 110].
والطهر طهران:
طهر بالماء من الأحداث والأنجاس.. وطهر التوبة من الشرك والمعاصي.
وهذا الطهور أصل لطهور الماء، وطهور الماء لا ينفع بدونه، ولهذا قدمه الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 222].
اللهم طهر قلوبنا من النفاق.. وأعمالنا من الرياء.. وألسنتنا من الكذب.. وأعيننا من الخيانة.. وجوارحنا من البدع والمعاصي.
9- فقه التوبة من المعاصي
قال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 53].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [المائدة: 39].
(12/130)
المعاصي جمع معصية، والذنوب جمع ذنب، والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأوامر الله ورسوله في ترك، أو فعل.
والذنوب قسمان:
صغائر.. وكبائر.
فالكبائر: ما توعد الله عليه بلعنة، أو غضب، أو طرد كالكفر والشرك، وقتل النفس المعصومة، والزنا والربا، والسرقة وقول الزور ونحو ذلك.
والصغيرة: ما دون ذلك من الذنوب.
وبعض الكبائر: قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر.
وجميع الصغائر: قد تكون كبيرة بحسب نية فاعلها، وتكرارها، وسروره بها، وقد يقترن بها من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وعدم الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى مراتبها.
وأصل الذنوب تنبعث من أربع صفات في القلب:
صفات ربوبية: كالكبر والعجب، وحب المدح والثناء، والعز والغنى وطلب البقاء والاستعلاء.
وصفات شيطانية: كالحسد والبغي، والحيل والنفاق، والمكر والكيد، والأمر بالفساد والمنكر، والغش والخداع، والدعوة إلى البدع والضلال، ونحو ذلك.
وصفات بهيمية: كالحرص والشهوة والشره، ومن ذلك يتشعب الزنا والسرقة، وأكل الأموال بالباطل، وجمع الحطام لأجل الشهوات.
وصفات سبعية: ومنها يتشعب الغضب والانتقام، والتهجم على الناس بالضرب، والشتم، والقتل، وأكل الأموال.
والذنوب والمعاصي نوعان:
أحدها: ذنوب بين العبد وربه كترك الصلاة والصوم، والواجبات الخاصة به من فعل محذور، وترك مأمور ونحو ذلك.
الثاني: ذنوب بين العبد والخلق كمنع الزكاة، وقتل النفس المعصومة، وغصب الأموال، وشتم الأعراض، وكل متناول من حق الغير.
وجميع الذنوب والمعاصي التي اقترفها الإنسان تحتاج إلى توبة، والتوبة لازمة لكل أحد وإلا هلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 11].
(12/131)
ومن أضل غيره ثم تاب فإن الله يقبل توبته، ويمحو وزره، ووزر من أضله، لكن عليه أن يدعو إلى الهدى كما دعا إلى الضلالة، فإن الحسنات يذهبن السيئات كما قال سبحانه: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 114].
وعلامة التوبة: الإقلاع عن الذنب، ورقة القلب، وغزارة الدمع، وأن يشعر بمرارة تلك الذنوب في قلبه بدلاً من حلاوتها.
فيستبدل بالميل كراهة، وبالرغبة نفرة، وبالمعصية طاعة.
وشرط صحتها:
فيما يتعلق بالماضي أن يرد فكره إلى أول يوم بلغ، ويفتش عما مضى من عمره، وينظر إلى الطاعات ما الذي قصر فيه منها.. فيكمله.
وينظر إلى المعاصي ما الذي قارفه منها.. فيتوب منه.
وأما المعاصي فيجب أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصره، وعن بطنه وفرجه، وعن لسانه ويده ورجله، وسائر جوارحه.
ثم ينظر في جميع أيامه ولياليه، ويفصل ويعرض ديوان معاصيه أمام نفسه، حتى يطلع على جميعها، صغائرها وكبائرها.
ثم ينظر فيها:
فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى كالتقصير في العبادات ونحوها مما لا يتعلق بمظالم العباد، فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها، وبأن يحسب مقدارها من حيث الكبر والعدد، ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها.
فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 114].
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: «تَقْوَى ا? وَحُسْنُ الْخُلُقِ» وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالََ: «الْفَمُ وَالْفَرْجُ» أخرجه الترمذي وابن ماجه(1).
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2004) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1630).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4246)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3424).
(12/132)
وأما مظالم العباد ففيها أيضاً معصية وجناية على حق الله تعالى، فإن الله عزَّ وجلَّ نهى عن ظلم العباد، فما يتعلق بحق الله تعالى منه تداركه بالندم والتوبة، وترك مثله في المستقبل، والإتيان بالحسنات التي هي أضدادها.
فيقابل مثلاً إيذاء الناس بالإحسان إليهم، ويكفر غصب أموالهم إن لم يجدهم بالصدقة بها عنهم، ويكفر عن غيبتهم بالثناء عليهم ونحو ذلك.
وأما الجناية على القلوب بمشافهة الناس بما يسوؤهم أو يبيعهم في الغيبة، فيطلب كل من تعرض له بلسانه، أو آذى قلبه بفعل من أفعاله، ويستحلهم واحداً واحداً.
ومن مات منهم أو غاب فقد فات أمره، فيتدارك ذلك بتكثير الحسنات، والدعاء له، والتضرع إلى ربه، ليكف عقوبتها عنه بما شاء.
وأما العزم المرتبط بالمستقبل، فهو أن يعقد مع الله عقداً مؤكداً، ويعاهده بعهد وثيق أن لا يعود إلى تلك الذنوب وأمثالها.
وشفاء التوبة لا يحصل للعبد إلا بالدواء، ولا يقف على الدواء من لا يقف على الداء، ولا يبطل الشيء إلا بضده.
وسبب الإصرار على الذنوب هو الغفلة والشهوة، ولا يضاد الغفلة إلا العلم، ولا يضاد الشهوة إلا الصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة.
ولا يحمل الإنسان على ترك المعاصي والذنوب إلا قوة الإيمان التي يحب بسببها الطاعات والحسنات، ويبغض المعاصي والسيئات، ومعرفة الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين، والآيات والأحاديث في مدح التائبين، وذم العاصين، ومعرفة أحوال الأنبياء والصالحين، وما جرى عليهم من المصائب بسبب ذنوبهم، مثل أحوال آدم صلى الله عليه وسلم وخروجه من الجنة بسبب معصيته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 121، 122].
ويعرف أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنوب، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جنايته.
والذنوب كلها يتعجل في الدنيا شؤمها في غالب الأمر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [النساء: 123].
(12/133)
ويذكر ما ورد من العقوبات على آحاد الذنوب كالجلد على شرب الخمر، والرجم والجلد على الزنا، وقطع اليد في السرقة، والقصاص على القاتل عمداً وكذا الكبر والنفاق والحسد والغيبة، وغير ذلك مما لا يمكن حصره.
والتوبة إلى الله من الذنب مركبة من ثلاثة أمور:
علم.. وحال.. وفعل.
أما العلم فهو معرفة ضرر الذنوب، وكونها حجاباً بين العبد وبين كل محبوب، ومعرفة عظمة من عصيته.
فإذا عرف العبد ذلك بيقين غالب على قلبه، ثار من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات المحبوب.
فإن كان حصل فواته تأسف على الفعل المفوت، وأعقب الندم.
فإذا غلب هذا الألم على القلب، انبعث من القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال والماضي والمستقبل:
أما تعلقه بالحال فبترك الذنب الذي كان ملابساً له.
وأما في المستقبل فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر.
وأما في الماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر والقضاء، والإكثار من الاستغفار.
والناس قسمان: تائب.. وظالم كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 11].
والتوبة معناها الرجوع، فالتائب هو الراجع إلى الله تعالى من المعصية إلى الطاعة.. ومما نهى الله عنه إلى ما أمر الله به.
فمن رجع عن المعاصي خوفاً من عذاب الله فهو تائب.. ومن رجع عنها حياءً من الله فهو منيب.. ومن رجع عنها تعظيماً لجلال الله سبحانه فهو أواب، كما وصف الله خليله صلى الله عليه وسلم بقوله: (چ چ ? ? ? ?) [هود: 75].
فعلينا أن نطهر ظواهرنا وبواطننا من الذنوب والمعاصي، فإن ذنوبنا من أكبر عيوبنا، وهي أوساخ تدنس قلوبنا وجوارحنا.
فنبدأ بتطهير قلوبنا من الشك والشرك والشبهات.. ثم التطهر من المحرمات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [الأنعام: 120].
ثم التطهر من المكروهات، ثم من المشتبهات، ثم من فضول المباحات، ثم من كل شاغل يشغل عن رب الأرض والسموات.
(12/134)
والعبد في الذنب ينظر إلى أربعة أمور:
الأول: نظر إلى الأمر والنهي، فهو لم يخلق إلا لعبادة الله وطاعته.
الثاني: نظر إلى الحكم والقضاء، فالله له الخلق والأمر وحده، يفعل ما يشاء بحكمته.
الثالث: نظر إلى محل الجناية، وهي النفس الأمارة بالسوء، فيعرف أنها جاهلة ظالمة، وعنها يصدر كل عمل قبيح، فيوجب له ذلك بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها عن الجهل، والعمل الصالح الذي يخرجها من الظلم.
الرابع: نظره إلى الآمر له بالمعصية، المزين له فعلها، وهو الشيطان الموكل به، فيفيده ذلك ملاحظته، واتخاذه عدواً، وكمال الاحتراز منه، وعدم طاعته.
وعلى المسلم أن يتوب إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي، ويهجر ما نهى الله عنه من الأقوال والأعمال، والمعاصي والسيئات.
والهجرة ثلاثة أقسام:
هجرة المكان.. وهجرة العمل.. وهجرة العامل.
فهجرة المكان: هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام رغبة فيما عند الله.
وهجرة العمل: هو أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفواحش والفسوق، وسائر الذنوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ» متفق عليه(1).
وهجرة العامل: معناها هجر الرجل المجاهر بالمعصية، الذي لا يبالي بها، كمن عُرف بالغش في البيع والشراء، فيُهجر لعله يتوب ويعود إلى الصواب.
والتوبة أحب الأشياء إلى الله، ولذلك ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه، وهو آدم صلى الله عليه وسلم وذريته.
فالتوبة هي غاية كمال الآدمي، فكمال الآدمي في هذه الدنيا بالتوبة النصوح، وفي الآخرة بالنجاة من النار، ودخول الجنة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (10) واللفظ له، ومسلم برقم (40).
(12/135)
والله عزَّ وجلَّ يحب التوابين، ويفرح بتوبة عبده، ولفرحه بها يقضي على عبده بالذنب، فإن كان ممن سبقت له الحسنى قضى له بالتوبة، وإن كان ممن غلبت عليه شقاوته، أقام عليه حجة عدله، وعاقبه بذنبه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 222].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأرْضِ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأيِسَ مِنْهَا، فَأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ! أنْتَ عَبْدِي وَأنَا رَبُّكَ أخْطَأ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» متفق عليه(1).
والله جل جلاله له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، ولكل اسم من أسمائه أثر من الآثار في الخلق والأمر.
فالخالق يقتضي مخلوقاً.. والرازق يقتضي مرزوقاً.. والغفار يقتضي مغفوراً له.. والتواب يقتضي مذنباً يتوب عليه.. والحليم يقتضي سفيهاً يحلم عليه.. وهكذا.
وليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عوفي العبد من الذنوب عوفي من موجباتها.
فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح.
وعلامة سعادة العبد أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها، وبالتوبة منها، والله يتولى حفظه ونصرته والدفع عنه.
وما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه، فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب منه.
__________
(1) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (6308)، ومسلم برقم (2747) واللفظ له.
(12/136)
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي، فِي أمْرِي وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي» متفق عليه(1).
والتوبة من الذنوب واجبة على كل مسلم ومسلمة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 31].
ومن تاب إلى الله توبة نصوحاً فإن الله يتوب عليه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وكل من كان غير آثم فهو غير معاقب لا في القبر ولا في الآخرة.
وأما في الدنيا فالتوبة لا تكون مسقطة للعقوبات الواجبة لحق الله تعالى من حد سرقة أو زنا أو شرب مسكر بعد ثبوتها.
وكذا ما وجب لحق آدمي من قصاص أو مال أو حد قذف، أو تعزير.
كما لا تسقط بها الكفارات وسائر الواجبات التي أثم بسبب تركها من صلاة أو صيام أو زكاة أو غيرها فلا بدَّ من الإتيان بها؛ لأنها حقوق لا ذنوب، وإنما الذنب في تأخيرها، فيسقط بالتوبة إثم المخالفة بالتأخير، لا نفس الحق المؤخر من صلاة وزكاة ونحوها.
وكل إنسان على خطر عظيم، فهو مع كونه ظلوماً جهولاً، كفوراً قتوراً، ضعيفاً عجولاً، تصيبه آفات أخرى كالعجز والكسل، والغفلة والنسيان، والإسراف والتبذير، والحرص والشره.
فعليه أن يستدرك ما فرط فيه بالعلم والعمل.. وما سلف منه من الإساءة بالإحسان.. وأن يتخلص من رق الجناية بالاستغفار والندم.. ويخلص إيمانه وأعماله من خبث الجناية، فالجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب القلب والبدن والعمل.
فلا يمكن للعبد من دخول الجنة إلا بعد هذا التمحيص، ولهذا تقول الملائكة لأهل الجنة: (? ? ? ? ? ?) [الزمر: 73].
وتمحيص العبد من الذنوب في الدنيا بأربعة أشياء:
بالتوبة النصوح.. والاستغفار.. والحسنات الماحية.. والمصائب المكفرة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6398)، ومسلم برقم (2719) واللفظ له.
(12/137)
فإن محصته هذه الأربعة كان من الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، ومن الذين تتنزل عليهم الملائكة عند الموت كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [فصلت: 30-32].
وإن لم تف هذه الأربعة بتمحيصه وتخليصه محص في البرزخ بثلاثة أشياء:
أحدها: صلاة المؤمنين الجنازة عليه، واستغفارهم له، وشفاعتهم فيه.
الثاني: تمحيصه بفتنة القبر، وروعة الفتًّان، والعصرة والانتهار.
الثالث: ما يهدي إليه إخوانه المسلمون من هدايا الأعمال من الصدقة عنه، والدعاء له، والصيام عنه، والحج عنه، وجعل ثواب ذلك له.
فإن لم تف هذه الثلاثة بتمحيصه محص بين يدي ربه في الموقف بأربعة أشياء:
أهوال القيامة.. وشدة الموقف.. وشفاعة الشفعاء.. وعفو الله عزَّ وجلَّ.
فإن لم تف هذه الأربعة بتمحيصه، فلا بدَّ له من دخول الكير رحمة في حقه، ليتخلص ويتمحص ويتطهر في النار، ويكون مكثه فيها على حسب كثرة الخبث وقلته، وشدته وضعفه وتراكمه.
فإذا خرج خبثه، وصفا ذهبه، وصار طيباً خالصاً، أخرج من النار وأدخل الجنة: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [مريم: 71، 72].
وأما الاستغفار فهو نوعان:
مفرد.. ومقرون بالتوبة.
فالمفرد كقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ?) [نوح: 10-12].
والمقرون بالتوبة كقوله سبحانه: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 3].
فالاستغفار يتضمن التوبة.. والتوبة تتضمن الاستغفار.. وكل منهما يتضمن الآخر عند الإطلاق.
وأما عند الاقتران: فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى.. والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه العبد في المستقبل من سيئات أعماله.
فالاستغفار من باب إزالة الضرر، والتوبة طلب جلب المنفعة، والله سبحانه لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 5].
(12/138)
وكذلك لم يجعل الله شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 53].
وإذا خرج العبد عما خلق له من الطاعة والعبودية فقد خرج إلى أحب الأشياء إليه، وعن الغاية التي خلقت من أجلها الخليقة، وصار كأنه خلق عبثاً لغير شيء.
فإذا رجع إلى ما خلق له وأوجد من أجله فقد رجع إلى الغاية التي هي أحب الأشياء إلى خالقه وفاطره، ورجع إلى مقتضى الحكمة التي خلق لأجلها، وخرج عن معنى العبث والسدى والباطل.
فاشتدت محبة الله له، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وأوجبت هذه المحبة فرحاً عظيماً كأعظم ما يقدر من الفرح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأرْضِ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأيِسَ مِنْهَا، فَأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ! أنْتَ عَبْدِي وَأنَا رَبُّكَ أخْطَأ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» متفق عليه(1).
والتوحيد يكفر الذنوب، فلو لقي العبد المسلم ربه بقراب الأرض خطايا للقيه بقرابها مغفرة.
فالمسلمون ذنوبهم ذنوب موحد، إن قوي التوحيد على محو آثارها بالكلية، وإلا فما معهم من التوحيد يخرجهم من النار إذا نقوا من ذنوبهم.
__________
(1) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (6308)، ومسلم برقم (2747) واللفظ له.
(12/139)
عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام، فَبَشَّرَنِي أنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لا يُشْرِكُ بِا? شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» قُلْتُ: وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ» متفق عليه(1).
وأما الكفار والمشركون فإن كفرهم وشركهم يحبط حسناتهم، فلا يلقون ربهم بحسنة يرجون بها النجاة، ولا يغفر لهم شيء من ذنوبهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک) [النساء: 116].
وقال سبحانه في أعمال الكفار والمشركين: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الفرقان: 23].
فالذنوب والمعاصي تزول آثارها بالتوبة النصوح، والتوحيد الخالص، والحسنات الماحية، والاستغفار، والمصائب المكفرة لها وشفاعة الشافعين في الموحدين، ورحمة أرحم الراحمين.
والتوبة لها مبدأ ومنتهى:
فمبدؤها: الرجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيم الذي نصبه لعباده موصلاً إلى رضوانه، وأمرهم بسلوكه بقوله سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الأنعام: 153].
ونهاية التوبة: الرجوع إلى الله في المعاد، وسلوك صراطه الذي نصبه موصلاً إلى جنته.
فمن رجع إلى الله في هذه الدار بالتوبة، رجع إليه في المعاد بالثواب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [الفرقان: 71].
وتوبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها، وتوبة من الله عليه بعدها، فتوبته بين توبتين من ربه، فإنه سبحانه تاب عليه أولاً إذناً وتوفيقاً، فتاب العبد، فتاب الله عليه ثانياً فقبلها منه وأثابه عليها.
فالله تواب، والعبد تواب، وتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الإباق.
وتوبة الله نوعان: إذن وتوفيق.. وقبول وإمداد.
وتوبة العبد: هي رجوعه مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً.
__________
(1) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (1237)، ومسلم برقم (94) واللفظ له.
(12/140)
وسمى العبد تائباً لرجوعه إلى أمر الله من نهيه، وإلى طاعته من معصيته.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 117].
والتوبة إلى الله واجبة من كل ذنب.
فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها خمسة شروط:
أحدها: أن تكون خالصة لله تعالى.
الثاني: أن تكون التوبة في وقتها.
الثالث: أن يقلع عن المعصية.
الرابع: أن يندم على فعلها.
الخامس: أن يعزم على أن لا يعود إليها أبداً.
فإن فقد أحد الخمسة لم تصح توبته.
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها ستة، هذه الخمسة، والسادس أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه، أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها.
والتوبة واجبة على كل مسلم ومسلمة من جميع الذنوب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 31].
فإن تاب من بعض الذنوب دون بعض صحت توبته من ذلك الذنب، وبقي عليه الباقي.
والتوبة النصوح تتضمن ثلاثة أشياء:
أحدها: التوبة من جميع الذنوب والمعاصي.
الثاني: إجماع العزم على التوبة بحيث لا يكون عنده تردد فيها.
الثالث: إخلاص التوبة لله.
فالأول يتعلق بما يتوب منه، والثاني يتعلق بذات التائب، والثالث يتعلق بمن يتوب إليه.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [التحريم: 8].
والأنبياء والرسل أعظم الخلق معرفة بالله، وأشدهم اجتهاداً في العبادة؛ لما أعطاهم الله من فضله، وحباهم به من نعمه، فهم دائبون في شكره، معترفون له بالتقصير، لكمال معرفتهم به، وبما يجب له سبحانه، فهم أكثر الناس استغفاراً، وأحسنهم عملاً، وأكثرهم توبة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَا أيُّهَا النَّاسُ! تُوبُوا إِلَى ا?، فَإِنِّي أتُوبُ، فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّة» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2702).
(12/141)
والتوبة التي تكرَّم الله بقبولها من عبده هي ما كان قبل معاينة الموت والعذاب المهلك كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [النساء: 17].
وأما بعد حضور الموت فلا يقبل من الكفار رجوع، ولا من العاصين توبة، كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) النساء: 18].
فالتوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار قبل معاينة الهلاك.
وهذه الأمة خير الأمم التي أخرجها الله للناس، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى عنه.
وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله، وجهادهم على ذلك، وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم.
فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 110].
ومن قصر في تكميل نفسه.. أو قصر في تكميل غيره.. أو قصر فيهما معاً، فلا بدَّ له من التوبة: (? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 11].
والنقص والتقصير من لوازم البشر، والغفلة والنسيان من طبيعة البشر، فالتقصير والنقص حاصل في كل عمل قطعاً.
تقصير في الاستقامة على الحق.. وتقصير في الدعوة إلى الحق.
فليس للعبد إلا الاستغفار المستمر على ما سلف من الذنوب والمعاصي، ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكثرة الاستغفار في ختام دعوته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النصر: 1-3].
(12/142)
والنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق، وأكرمهم على الله، وأعرفهم به، والمقدم على الخلق كلهم في جميع أنواع الطاعات، وكان أصحابه رضي الله عنهم يعدون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم: «رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه أحمد والترمذي(1).
فكيف بحالنا نحن المقصرين المفرطين؟
كم نحتاج إلى الاستغفار والتوبة من الذنوب والمعاصي كل يوم، بل كل لحظة؟.
ألا ما أجهل البشر بربهم حين يقصرون في طاعته، ويقترفون معصيته، وينتهكون محارمه، ويخالفون أوامره: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [المائدة: 74].
فما أجهل الإنسان بربه، وما أظلمه لنفسه حين يتأخر عن طاعة ربه، ويقدم على معصيته، مع تواتر إحسان ربه إليه على مدى الأنفاس.
فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم.. وأزاح علله.. وبعث إليه رسله.. وأنزل عليه كتبه.. وساق إليه رزقه.. ومكنه من التزود إلى جنته.. وأعطاه السمع والبصر والفؤاد.. وعرَّفه الخير والشر.. وحبب إليه الطاعات.. وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وأعانه الله بجند من الملائكة يحرسونه، ويحاربون عدوه، ويريدون منه أن لا يميل إليه، ولا يصالحه، وهم يكفونه مؤنته، ويأبى إلا مظاهرته عليهم، وموالاته دونهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 119].
والله عزَّ وجلَّ عادى هذا الشيطان ولعنه، وأبعده وطرده، وهذا الإنسان يواليه، ويميل إليه، ويطيع أوامره.
فما أعجب حال الإنسان حين يطيع عدوه ويعصي ربه ومولاه.
فأي حرمان فوق هذا؟.. وأي ضلال بعد هذا؟.
(? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [يس: 60، 61].
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (4726)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (556).
وأخرجه الترمذي برقم (3434)، صحيح سنن الترمذي رقم (2731).
(12/143)
وقد أمر الله الإنسان بشكره لا لحاجته إليه، ولكن لينال به المزيد من فضله، فجعل كفر نعمه والاستعانة بها على مساخطه من أكبر أسباب صرفها عنه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 7].
أمره الله بذكره ليذكِّره بإحسانه إليه، وجعل نسيانه سبباً لنسيان الله له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [الحشر: 19].
أمر الله الإنسان بسؤاله ليعطيه فلم يسأله، بل أعطاه أجلّ العطايا بلا سؤال، فلم يقبل هدى الله.
فمتى يفيق هذا الإنسان ويؤوب إلى ربه؟.
إنه يشكو من يرحمه إلى من لا يرحمه، ويتظلم ممن لا يظلمه.
إنْ أنعم الله عليه بالصحة والعافية، والمال والجاه، استعان بها على معاصيه، وإن سُلب ذلك سخط على ربه وشكاه إلى خلقه، وهو الظالم لنفسه.
لا يصلح له على عافية ولا على ابتلاء، العافية تلقيه إلى مساخطه.. والبلاء يدفعه إلى كفرانه وجحود نعمته، وشكايته إلى خلقه.
وهذه حال أكثر الخلق الذين لم يهتدوا بهدى النبوة، ولم يعرفوا ربهم ودينه وشرعه.
ألم يعلموا أن الله أرحم الراحمين، الغني عن العالمين: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [يونس: 44].
وقال سبحانه: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 40].
وقال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ?) [الحج: 65].
فمتى يصحو مثل هذا الإنسان؟.. ومتى يبصر الطريق السوي؟.
لقد دعاه ربه إلى بابه فما وقف عليه ولا طرقه، ثم فتحه له فما عرج عليه، ولا ولجه، وأرسل إليه رسوله يدعوه إلى دار كرامته، فعصى الرسول وسفهه، وسخر منه وقاتله، إن وافق حظه طاعة الرسول أطاعه لنيل حظه لا لرضى مرسله، لم يزل يتمقت إليه بمعاصيه حتى أعرض عنه، وأغلق الباب في وجهه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [آل عمران: 86].
فماذا ينتظر هذا من العقاب جزاء ظلمه وكفره ومعاصيه؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 68].
(12/144)
ومع هذا كله فالله غفور رحيم، دعا عباده إلى التوبة والاستغفار من جميع الذنوب، ووعدهم على ذلك القبول والمغفرة كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 53].
فلا يأس من رحمة الله، فالله يقبل توبة كل مذنب كما قال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [الشورى: 25].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأََتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» أخرجه الترمذي(1).
ولا يستحق العبد اسم التائب حتى يتخلص من أجناس المحرمات المذكورة في كتاب الله عزَّ وجلَّ، وهي:
الكفر والشرك.. والرياء والنفاق.. والفسوق والعصيان.. والإثم والعدوان.. والفحشاء والمنكر.. والظلم والبغي.. والقول على الله بلا علم.. واتباع غير سبيل المؤمنين.. ونحو ذلك.
قال الله تعالى: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البينة: 6].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 33].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 151].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [البينة: 5].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 68].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [النساء: 115].
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3540)، صحيح سنن الترمذي رقم (2805).
(12/145)
ومن رحمة الله بعباده أن أنزل عليهم هذا القرآن الذي فيه تبيان كل شيء، وصرَّف فيه سبحانه من الوعد والوعيد ما يُرغِّب في كل طاعة، ويزجر عن كل معصية، لعل العباد يتقون الله فيتركون من الشر والمعاصي ما يضرهم، أو يُّحْدِث لهم الوعيد ذكراً، فيعملون من الطاعات والخير ما ينفعهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 113].
وقد نوع الله الوعيد في كتابه أنواعاً كثيرة:
تارة بذكر أسمائه الدالة على العدل والانتقام كالعزيز الجبار، والقوي والقهار.
وتارة بذكر المَثُلات والعقوبات التي أحلها بالأمم السابقة، وأمرنا أن نعتبر بها.
وتارة بذكر آثار الذنوب، وما تُكسبه من العيوب.
وتارة بذكر أهوال القيامة، وما فيها من المزعجات والحسرة والندامة.
وتارة بذكر جهنم، وما فيها من أنواع العقاب، وأصناف العذاب.
كل هذا رحمة بالعباد لعلهم يتقون الله، فيمتثلون أوامره، ويحتنبون معاصيه، ويذكرونه ولا ينسونه، ويشكرونه ولا يكفرونه.
والتوبة ثلاثة أنواع:
أحدها: التوبة الصحيحة، وهي أن يقترف العبد ذنباً ويتوب عنه بصدق في الحال.
الثاني: التوبة الأصح، وهي التوبة النصوح، وعلامتها أن يكره العبد المعصية ويستقبحها فلا تخطر له على بال، ولا ترد في خاطره أصلاً.
وهي من أعمال القلب، وهي تعني تنزيه القلب عن الذنوب.
الثالث: التوبة الفاسدة، وهي التوبة باللسان مع بقاء لذة المعصية في الخاطر.
وتوبة الإنابة أن تخاف من الله من أجل قدرته عليك.
وتوبة الاستجابة أن تستحي من الله لقربه منك.
ومن تاب من الناس توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها وإن لم يستحضر أعيان الذنوب.
وكثير من الناس لا يستحضر عند التوبة إلا بعض المعاصي المتعلقة بالفاحشة أو مقدماتها، أو بعض الظلم باللسان أو اليد.
وقد يكون ما تركه من المأمور الذي يجب عليه في باطنه وظاهره من شعب الإيمان وحقائقه أعظم ضرراً عليه مما فعله من بعض الفواحش.
(12/146)
فإن ما أمر الله به من حقائق الإيمان التي بها يصير العبد من المؤمنين حقاً، أعظم نفعاً من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة كحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتعليم شرعه، والدعوة إليه.
فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية، والناس في الغالب لا يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك.
فالتوبة واجبة على كل مسلم في كل حال؛ لأنه دائماً يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور، أو ما اعتدى فيه من فعل محظور، فعليه أن يتوب إلى الله دائماً.
والله يحب من عباده أن يتوبوا إليه، وقد أخبر سبحانه أنه يريد أن يتوب على كل من تاب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [النساء: 27، 28].
والله رؤوف بالعباد، واسع الرحمة لهم، يقبل التوبة من عباده التائبين من أي ذنب، بل يفرح تعالى بتوبة عبده إذا تاب أعظم فرح يقدر، فمن تاب إليه تاب عليه ولو تكررت منه المعصية مراراً؛ لأنه سبحانه التواب الرحيم.
فليعلم العصاة ذلك ليقبلوا عليه وينيبوا إليه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 104].
والله تبارك وتعالى يقبل التوبة الصادرة من عباده، وقد دعا سبحانه عباده إلى الإنابة إليه والتوبة من التقصير فانقسموا إلى قسمين:
المستجيبون الذين استجابوا لربهم لِمَا دعاهم إليه لمِمَا معهم من الإيمان والعمل الصالح، فإذا استجابوا له شكر الله لهم.
وأما غير المستجيبين لله وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله، فهؤلاء لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [الشورى: 25، 26].
والتوبة هي حقيقة دين الإسلام، وغاية كل مؤمن، وهي الغاية التي وجد لأجلها الخلق، والأمر والتوحيد جزء منها، بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها.
ولهذا أمر الله بها رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النصر: 1-3].
(12/147)
ودعا جميع الأنبياء أممهم إليها كما قال هود صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 52].
ودعا صالح صلى الله عليه وسلم قومه إليها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 61].
ودعا شعيب صلى الله عليه وسلم قومه إليها كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 90].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «والله إِنِّي لأسْتَغْفِرُ الله وَأتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» أخرجه البخاري(1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه مسلم(2).
وتوبة الإنسان من عمله على قسمين:
1- توبة العبد من حسناته، وهي على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يتوب ويستغفر من تقصيره فيها.
الثاني: أن يتوب مما كان يظنه حسنات ولم يكن كحال أهل البدع.
الثالث: أن يتوب من إعجابه بعمله، ورؤيته أنه فعله بقوته.
2- توبة العبد من فعل السيئات وهي على ضربين:
توبة من ترك مأمور.. أو فعل محظور.
والتوبة لا بد منها لجميع الخلق، فهي مقام لا بد أن يستصحبه العبد من أول ما يعقل إلى آخر عمره.
والتوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء:
الاستغفار باللسان.. والندم بالقلب.. والترك بالجوارح.. وإضمار ألا يعود.
وكان صلى الله عليه وسلم يختم كل عمل صالح بالاستغفار كالصلاة والصوم والحج والجهاد، ويختم المجلس بالاستغفار.
وأمره ربه بالاستغفار في نهاية أحواله وآخر أمره، فقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.
ولما أكمل مراتب العبودية ظاهراً وباطناً أمره ربه بالتسبيح والاستغفار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النصر: 1-3].
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6307).
(2) أخرجه مسلم برقم (2702).
(12/148)
والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فمن تاب من الذنب قبل القدرة عليه سقطت عنه حقوق الله تعالى، وغفر الله له بتوبته كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [المائدة: 33، 34].
وجاء النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي أصَبْتُ حَدّاً، فَأقِمْ فِيَّ كتاب الله، قَالَ: «ألَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟». قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنَّ الله قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ، أوْ قَالَ: حَدَّكَ» متفق عليه(1).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «أنَّ رَجُلاً أصَابَ مِنِ امْرَأةٍ قُبْلَةً، فَأتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأخْبَرَهُ فَأنْزَلَ اللهُ: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?)» [هود: 114].
فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ ا?، ألِي هَذَا؟ قال: «لِجَمِيعِ أمَّتِي كُلِّهِمْ» متفق عليه(2).
فالتوبة إلى الله من الذنوب والتقصير من أفضل مقامات أهل الإيمان، ولا يفارقها العبد أبداً، ولا يزال فيها إلى الممات، فكل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون.
وتوبة الله على عباده نوعان:
توفيق منه للتوبة.. وقبول لها بعد وجودها من العبد.
والتوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه كرماً منه وجوداً لمن عمل المعاصي بجهالة منه بعاقبتها.. وإيجابها لسخط الله وعقابه.. وجهل منه بنظر الله ومراقبته له.. وجهل منه بما تؤول إليه من نقص أو زواله.
فهذا إذا تاب من قريب قبل معاينة الموت أو العذاب فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت أو العذاب قطعاً كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [النساء: 17].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6823)، واللفظ له، ومسلم برقم (2764).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (526)، واللفظ له، ومسلم برقم (2763).
(12/149)
وأما بعد حضور الموت فلا يقبل من العاصين توبة، ولا من الكفار رجوع، وذلك لأن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [النساء: 18].
ووقت التوبة مفتوح للعباد حتى تطلع الشمس من مغربها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ، لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» أخرجه مسلم(1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ تَابَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ» أخرجه مسلم(2).
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 147]. (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 193]. (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [نوح: 28].
«اللَّهُمَّ! إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» متفق عليه(3).
وقد شرع الله التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال الصالحة:
فشرعها في خاتمة الحج.. وفي آخر قيام الليل في السحر.. وبعد السلام من الصلوات الخمس.. وبعد كمال الوضوء.
فالتوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة.
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ رسوله بالاستغفار بعد قيامه بما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً.
فكأن التبليغ لدين الله عبادة قد أكملها وأداها، فشرع له الاستغفار عقيبها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النصر: 1-3].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2759).
(2) أخرجه مسلم برقم (2703).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705)، واللفظ له.
(12/150)
وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
فمن أذنب سراً فليتب سراً، وليس عليه أن يظهر ذنبه، ويكشف ما ستره الله عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ الله، فَيَقُولَ: يَا فُلانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ الله عَنْهُ» متفق عليه(1).
ومن أذنب جهراً فليتب جهراً، فمن أظهر بدعة أو فجوراً فلا بد من توبته علناً، ليفرح به المؤمن الصادق، ويقتدي به من كان على مثل بدعته أو فجوره.
- - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الثالث عشر ... 2
فقه الطاعات والمعاصي ... 2
1- مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي ... 2
2- فقه الطاعات والمعاصي ... 17
4- فقه النعيم والعذاب ... 44
5- فقه الصبر عن المعاصي ... 58
6- فقه الثواب والعقاب ... 64
7- فقه الجزاء من جنس العمل ... 111
8- فقه التخلص من المعاصي ... 125
9- فقه التوبة من المعاصي ... 132
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6069) واللفظ له، ومسلم برقم (2990).
(12/151)
موسوعة فقه القلوب (14)
الباب الرابع عشر
فقه أعداء الإنسان
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الرابع عشر
فقه أعداء الإنسان
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ?) [فاطر: 5].
وقال تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 82].
وقال تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [التغابن: 14].
خلق الله تبارك وتعالى خلقه من حيث العمل أربعة أقسام:
الأول: من يعملون بالطاعات دون المعاصي.. وهم الملائكة.
الثاني: من يعملون بالمعاصي دون الطاعات.. وهم الشياطين.
الثالث: من لهم طاعات ومعاصي.. وهم الإنس والجن.
الرابع: من ليس لهم طاعات ولا معاصي.. وهم الحيوانات.
فالملائكة عقول بلا شهوات.. والحيوانات شهوات بلا عقول.. والإنس والجن لهم شهوات وعقول.. والشياطين شرور وفتن.
ولما اصطفى الله الإنسان من بين سائر المخلوقات، وكرمه على غيره، وتحمل الأمانة، واستعد لفعل الأوامر، واجتناب النواهي، ابتلاه الله عزَّ وجلَّ بما يبين صدقه من كذبه، ويثبت إيمانه من كفره فأهبطه إلى الأرض، وأنزل عليه الوحي، وأرسل إليه الرسل، فأمره بالطاعات، ونهاه عن المعاصي، وسلط عليه الأعداء، وابتلاه بالسراء والضراء، وأمره بجهاد أعدائه، والصبر على أذاهم.
وأعداء الإنسان كثيرون، وقد كشفهم الله له، ليتقي شرهم، وليأخذ حذره منهم، ولا يغتر بخداعهم، وَلَبْسِهم الحق بالباطل، وأعظم هؤلاء الأعداء، وأشدهم خطراً ستة، وهم:
النفس.. والشيطان.. والدنيا.. والمنافقون.. والكفار.. وأهل الكتاب.
ولكل عدو من هؤلاء علامات.. ولهم أعمال.. ولهم ضحايا من البشر، وهم يعملون ليل نهار.. ويستخدمون كل وسيلة لصد الناس عن عبادة ربهم.. وإشغالهم بما يبعدهم عنه.. ويوجب سخطه وغضبه.. ويحرمهم من الوصول إلى جنته.
(13/1)
فلا بدَّ للإنسان أن يعبد ربه، ويعمل بشرعه، ولا يغفل عن جهاد أعدائه الذين يصدونه عن طاعة ربه ومولاه، ويحرمونه من الوصول إلى جنته والفوز برضاه.
وقبل جهاد الأعداء لا بد من معرفتهم، ومعرفة أسلحتهم أولاً، ثم الشروع في جهادهم وإبطال كيدهم، وكسر شوكتهم، ودفع شرورهم.
وأعظم هؤلاء الأعداء، وأشدهم ملازمة للإنسان نفسه التي بين جنبيه.
1- العدو الأول: النفس
1- فقه النفوس
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يوسف: 53].
وقال تعالى: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [الشمس: 7، 8].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفجر: 27-30].
النفس البشرية فيها خير أصيل، والشر والسوء دخيل، فإذا صادفت هذه النفس من يذكِّرها، فإن فيها استعداداً للاستقامة على طريق الهدى، وإن لم تجد من يذكرها مالت إلى طريق الفجور.
وكل إنسان له نفس واحدة، ولكن لهذه النفس صفات وأحوال تختلف من شخص لآخر، ومن وقت لآخر.
وصفات النفس ثلاث:
إحداها: النفس الأمارة بالسوء التي يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يوسف: 53].
الثانية: النفس اللوامة، وهي التي تذنب وتتوب، تفعل الخير والشر، لكنها إذا فعلت الشر تابت وأنابت، سميت لوامة لأنها تلوم صاحبها على فعل الذنوب كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [القيامة: 1، 2].
الثالثة: النفس المطمئنة، وهي التي تحب الخير والحسنات، وتريدها وتفعلها وتبغض الشر والسيئات وتكرهها، قد اطمأنت إلى مولاها، وإلى قضائه وقدره، وإلى دينه وشرعه، وإلى جزائه وثوابه، وصار لها ذلك خلقاً وعادة وملكة، فصارت بذلك راضية مرضية، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفجر: 27-30].
(13/2)
وينبغي للعبد أن لا يطمئن إلى نفسه فإن الشر لا يجيء إلا منها، ولا يشتغل بلوم الناس، ولكن يرجع إلى الذنوب فيتوب منها، ويستعيذ بالله من شر نفسه، وسيئات عمله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته، ويحول بينه وبين معصيته، وبذلك يحصل له الخير، ويندفع عنه الشر.
والذنوب من لوازم النفس، وأعظمها جحود الخالق والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة لله سبحانه، أو إلهاً من دونه، وكل هذين وقع: فإن فرعون وإبليس كل واحد منهما يطلب أن يُعبد ويطاع من دون الله، وهذا الذي في فرعون وإبليس غاية الظلم والجهل، وفي نفوس سائر الإنس والجن شعبة من هذا.. وهذا.
والله عزَّ وجلَّ إن لم يعن العبد ويهده وإلا وقع في بعض ما وقع فيه فرعون وإبليس بحسب الإمكان.
وإذا هداه الله أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر في الدنيا ولا في الآخرة، والعبد محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب.
وأحوال النفوس متفاوتة متعددة، والنفوس مشحونة بحب العلو والرياسة، وكل نفس تريد أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، فتجد الإنسان يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده.
فمن وافق هواه كان ولياً وإن كان كافراً، وإن لم يوافقه كان عدواً وإن كان من المتقين، وهذه حال فرعون.
وهؤلاء خاصة الأشراف وذوي المكانة والرياسة يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه كفرعون، وهم وإن أقروا بالله، فإذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادة الله المتضمنة ترك طاعتهم عادوه كما عادى فرعون رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم .
وإن كان مسلماً طلب أن يطاع في أغراضه وما يهوى، وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله، ويكون من أطاعه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون، وسائر المكذبين للرسل.
(13/3)
وإن كان عالماً أو شيخاً أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، وربما أبغض غيره حسداً وبغياً، كما فعلت اليهود مع محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، ولهذا أخبر الله عنهم بمثل ما أخبر به عن فرعون، وسلط عليهم من انتقم منهم.
والأنبياء والرسل دينهم واحد وهو الإسلام، وشرائعهم مختلفة، وهؤلاء الرسل يؤمن بعضهم ببعض، ويصدِّق بعضهم بعضاً.
ومن كان من المطاعين من الأمراء والعلماء تبعاً للأنبياء والرسل أَمَر بما أَمَروا به ودعا إليه، وأحب من دعا إلى مثل ما دعا إليه، فإن الله يحب ذلك الشخص، ومن كره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك، فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود، وله نصيب من حال فرعون.
ومن طلب أن يطاع مع الله، فهذا يريد من الناس أن يتخذوه من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، ومن الناس من يحسن إلى غيره ليمن عليه، أو ليجزيه بطاعته له، وتعظيمه إياه، أو نفع آخر.
فالمتبع للرسل يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل، ليكون الدين كله لله لا له، فإذا أمر غيره بمثل ذلك أحبه وأعانه وسر به.
وإذا أحسن إلى الناس فإنما يحسن إليهم ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد منَّ عليه بأن جعله مؤمناً محسناً.
والناس ثلاثة أقسام:
عبد محض.. وحر محض.. ومكاتب قد أدى بعض كتابته.
فالعبد المحض: هو عبد المال والطين، الذي قد استعبدته نفسه وشهوته، وملكته وقهرته، فانقاد لها انقياد العبد لسيده الحاكم عليه.
والحر المحض: هو الذي قهر شهوته، وملك نفسه، فانقادت معه، وذلت له، ودخلت تحت رقه وحكمه، فهي مملوكة عنده، يأمرها بما شاء مما يرضي ربه، ويمنعها مما يسخط ربه.
والمكاتب: من قد عقد له سبب الحرية، وهو يسعى في كمالها، فهو عبد من وجه، حر من وجه آخر، فهو عبد ما بقي عليه درهم، فكذا المسلم عبد لنفسه ما بقي عليه حظ من حظوظ نفسه.
فالحر مَنْ تَخلَّص من رق المال والطين، وفاز بعبودية رب العالمين، فاجتمعت له العبودية والحرية.
ويتم إصلاح النفوس بأمرين:
(13/4)
تكوين القلب.. وتكوين الجسم.
وتكوين القلب: هو بذل الجهد لترسيخ الإيمان واليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فيه.
أما تكوين الجسم: فهو استغلاله في السبل التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم من السنن والأحكام والآداب، ويتم ذلك بالتعلم... والتذكير.. وتزكية النفس بالأخلاق الحميدة، وإخلاص العمل لله.. وإبلاغ الناس دين الله ليكون الدين كله لله.
والنفوس وما تحب تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأولى: نفس سماوية علوية، ومحبتها منصرفة إلى معرفة الله، ومعرفة أسمائه وصفاته، وفعل الفضائل والطاعات، واجتناب الرذائل والمعاصي، وهذه النفس مشغوفة بما يقربها من الرفيق الأعلى، وذلك قُوتُها وغذاؤها وشفاؤها ودواؤها.
الثانية: نفس سبعية غضبية، ومحبتها منصرفة إلى القهر والبغي، والعلو في الأرض، والكبر والرئاسة على الناس بالباطل، فلذاتها في ذلك وشغفها به.
الثالثة: نفس حيوانية شهوانية، فهذه النفس محبتها منصرفة إلى المأكل والمشرب، والمنكح والملبس، ونحو ذلك من الشهوات والملاذ.
وربما جمعت بين الأمرين العلو والفساد كما قال سبحانه عن فرعون: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 4].
والحب في هذا العالم دائر بين هذه النفوس الثلاث.
وكل واحدة من هذه النفوس ترى أن ما هي فيه أولى بالإيثار، وأن ما سواه غبن وفوات حظ.
فالنفس السماوية العلوية بينها وبين الملائكة والرفيق الأعلى مناسبة طبيعية، بها مالت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم، فالملائكة أولياء هذا النوع في الدنيا والآخرة.
فالمَلَك يتولى من يناسبه بالنصح والإرشاد، والتثبيت والتعليم، وإلقاء الصواب على لسانه، ودفع عدوه عنه، والاستغفار له إذا زل، وتذكيره إذا نسي، وتسليته إذا حزن، وإيقاظه للصلاة إذا نام عنها، وتحذيره من الدنيا إذا ركن إليها.. وهكذا.
(13/5)
والشياطين أولياء النوع الثاني، يخرجونهم من النور إلى الظلمات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [البقرة: 257].
فهؤلاء بينهم وبين الشياطين مناسبة طبيعية، بها مالت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم.
فالشياطين تتولاهم فتؤزهم إلى المعاصي أزاً، وتزين لهم القبائح والمعاصي، وتسهلها عليهم، وتثقل عليهم الطاعات، وتثبطهم عنها، وتلقي على ألسنتهم ألوان القبيح من الكلام، ويبيتون معهم حيث باتوا.
ويشاركونهم في أموالهم وأولادهم ونسائهم، ويأكلون ويشربون معهم، ويجلسون معهم، وينامون معهم.
فهؤلاء حياتهم مطابقة لحياة الشياطين: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 36، 37].
وأما النوع الثالث فهم أشباه الحيوان، ونفوسهم أرضية سفلية، لا تبالي بغير شهواتها، ولا تريد سواها، فهي مشغوفة بها، مشغولة بها عن مراد ربها، ملازمة لها إلى حين أجلها: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [محمد: 12].
وعلامات المحبة قائمة بكل نوع بحسب محبوبه ومراده.
وكمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع، والعمل الصالح، وهما الهدى ودين الحق، وبتكميله لغيره في هذين الأمرين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [العصر: 1-3].
فكل أحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان، وقوته العملية بالعمل الصالح، وكمل غيره بالتوصية بالحق، والصبر عليه.
وهاتان القوتان لا تتعطلان في القلب، فإن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق، والعملية في العمل به، وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه ويشتهيه من الباطل.
والإنسان من حيث هو إنسان خاسر إلا من رحمه الله فهداه ووفقه للإيمان والعمل الصالح في نفسه وأمر غيره به.
(13/6)
فالإنسان من حيث هو إنسان ظلوم جهول، كفور كنود، عجول قتور، عارٍ عن كل خير من العلم النافع والعمل الصالح، وإنما الله سبحانه هو الذي يكمله بذلك ويعطيه إياه، فكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه لا من نفسه، ولا فلاح له إلا بتزكية الله له بالإيمان والعمل الصالح.
فالكمال التام أن يكون الشخص كاملاً في نفسه، مكملاً لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية.
فصلاح القوة العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل، وهذا نهاية الكمال، وهو ما توج الله به هذه الأمة، ودرجة أهله أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 75-76].
والإنسان قد يقوم بما يجب عليه في نفسه، ولا يأمر غيره به، فهذا قد ربح الإيمان والعمل الصالح في حق نفسه، وخسر ربح التواصي بالحق والتواصي بالصبر في حق غيره، فصار في خسر.
ولكنه لا يكون من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، فمطلق الخسار شيء، والخسار المطلق شيء آخر، ومن ربح في سلعة وخسر في أخرى فهو ذو ربح، وذو خسر، فهذا نوع خسر بالنسبة لمن حصل ربح ذلك، فهو ناج كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [التين: 4-6].
وقد استثنى الله عزَّ وجلَّ من الإنسان الذي هو في خسر كل من كمل مراتب الكمال الإنساني بإصلاح نفسه، وإصلاح غيره، والإحسان إلى نفسه، والإحسان إلى غيره: بالإيمان.. والعمل الصالح.. والتواصي بالحق.. والتواصي بالصبر.
فهؤلاء الكُمَّل في درجة السابقين.. ومن دونهم في درجة أصحاب اليمين.
ولكل درجات مما عملوا.. (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [الأنفال: 4].
والنفس في الأصل خلقت جاهلة ظالمة.
(13/7)
فهي لجهلها تظن أن شفاءها في اتباع هواها، ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح، يوضع لها الداء موضع الدواء فتقبله، ويوضع لها الدواء موضع الداء فترده، فيتولد لها من إيثارها للداء، واجتنابها للدواء، أنواع من الأسقام والعلل التي تعيي الأطباء، ويتعذر معها الشفاء.
وقد سميت النفس نفساً إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها، وإما من تنفس الشيء إذا خرج، فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفساً.
وفي النفس ثلاثة دواع متجاذبة:
أحدها: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشياطين من الكبر والحسد والعلو والبغي والغش والكذب.
الثاني: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الحيوان من الحرص والبخل والشهوة.
الثالث: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الملائكة من الطاعة والعبادة، والإحسان والنصح، والعلم والبر، والتسبيح والاستغفار.
والنفس فيها استعداد للخير والشر، وهي بحسب المذكر، ولمن سبق وغلب منقادة مطاوعة:
فترى من الناس من هو شيطان يركض بكل شر وفساد.
ومنهم كالحيوان ليس له هم إلا قضاء شهواته.
ومنهم كالملائكة عبادة لله، وطاعة له، وتسبيح واستغفار، في ليله ونهاره.
والنفس الإنسانية لها قوتان:
إحداهما: القوة النظرية، وكمالها في معرفة الأشياء، وأعلى المعارف معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله.
الثانية: القوة العملية، وكمالها في معرفة الخيرات والطاعات، وأعلاها عبادة الله بالأعمال الصالحة على طريقة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الكهف: 107].
فقوله: (? ? ?) إشارة إلى كمال القوة النظرية بمعرفة الله.
وقوله: (? ?) إشارة إلى كمال القوة العملية بعبادة الله وإنما تكمل الثانية بكمال الأولى.
والنفس في علاجها كالبدن في علاجه، فكما أن البدن لا يُخلق كاملاً، وإنما يكمل بالتربية بالغذاء، فكذلك النفس تُخلق ناقصة قابلة للكمال.
وإنما تكمل النفس بالتزكية، وتهذيب الأخلاق، والتغذية بالعلم.
(13/8)
وكما أن العلة الموجبة لمرض البدن لا تعالج إلا بضدها، إن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة.
فكذلك الأخلاق الرذيلة التي هي مرض القلب علاجها بضدها، فيعالج مرض الجهل بالعلم، ومرض البخل بالسخاء، ومرض الكبر بالتواضع.. وهكذا.
وكما أنه لا بدَّ من احتمال مرارة الدواء، والصبر عن المشتهيات لصلاح البدن، فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة، والصبر على مداواة مرضى القلب حتى يزكو.
والقلوب جوالة، منها ما يطوف مع البهائم حول الحش، ومنها ما يطوف مع الملائكة حول العرش: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 19-22].
والله عزَّ وجلَّ جعل في النفس حباً لما ينفعها، وبغضاً لما يضرها.
فلا تفعل النفس مع حضور عقلها ما تجزم بأنه يضرها ضرراً راجحاً.
والبلاء مركب من شيئين:
من تزيين الشيطان.. ومن جهل النفس.
فإن الشيطان يزين لها السيئات، ويريها إياها في صور المنافع واللذات والطيبات، ويُغفلها عن مطالعتها لمضرتها.
فيتولد من هذا التزيين، وهذا الإغفال، وهذا الإنساء، إرادة وشهوة، ثم يمدها بأنواع التزيين، فلا يزال يقوى حتى يصير عزماً جازماً يقترن به الفعل، كما زين للأبوين الأكل من الشجرة كما قال سبحانه في تزيين الشيطان للشر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 43].
وقال سبحانه في تزيين الخير: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [الحجرات: 7، 8].
وقال سبحانه في تزيين النوعين: (? ? ? ? ?) [الأنعام: 108].
وتزيين الخير والهدى بواسطة الملائكة والرسل والمؤمنين، وتزيين الشر والضلال بواسطة شياطين الإنس والجن.
وتزيين الشر والضلال إنما يغتر به الجاهل؛ لأنه يُلَبَّسُ له الباطل والضار والمؤذي بصورة الحق النافع.
وكما أن للأبدان آفات، فكذلك للنفوس آفات، وترك مداواة ذلك مؤذن بالهلاك.
2- آفات النفوس
(13/9)
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [التغابن: 10].
وقال تعالى: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 25].
النفوس تصيبها الآفات والأمراض كما تصيب الأبدان، بل آفات الأبدان سببها آفات النفوس، وكل علة في الخارج سببها علة في الداخل، وكل حُسْن في الجوارح سببه حُسْن في القلوب، وكل فساد في الجوارح سببه فساد في القلوب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه(1).
وآفات النفوس كثيرة جداً، وكل داء له دواء، وعلاج آفات النفوس وأمراضها وأسقامها إلى الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله بالعلم الإلهي والوحي الرباني الذي فيه شفاء من كل داء من أدواء النفوس.
ومن أهم الآفات التي تصيب النفوس:
آفة الكفر.. وآفة الشرك.. وآفة الجهل.. آفة الكبر.. وآفة الابتداع.. وآفة البغي.. وآفة الجفاء.. وآفة البخل.. وآفة الشح.. وآفة الطمع.. وآفة الجبن.. وآفة الجزع.. وآفة الجحود.. وآفة الإسراف.. وآفة النفاق.. وآفة الخداع.. وآفة الخيانة.. وآفة الطغيان.. وآفة العجلة.. وآفة الغش.. وآفة الغدر.. وآفة الغل.. وآفة القسوة.. وآفة القنوط.. وآفة الفسوق.. وآفة المكر.. وآفة الكيد.. وآفة المن.. وآفة الغيبة.. وآفة النميمة.. وآفة الظلم.. وآفة الكذب.
وغير ذلك من الصفات والآفات التي تصيب النفوس.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، واللفظ له، ومسلم برقم (1599).
(13/10)
والله سبحانه فطر الناس على التوحيد والإيمان بالله، وكلما انحرف الناس عن الفطرة أرسل الله إليهم رسولاً يردهم إلى التوحيد والإيمان بالله والعمل بشرعه، وعلاج ما أصابهم من الآفات بسبب الكفر والشرك والإعراض عن دين الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?) [البقرة: 213].
فأعظم الأمراض التي تصيب البشرية هو مرض الكفر والشرك بالله، وشفاؤهم منه بالإيمان والتوحيد الذي أرسل الله به رسله، وأنزل كتبه.
ومن مات على الكفر فلا حظَّ له في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 68].
والشرك جَعْلُ شريك لله تعالى، وهو من أعظم الأدواء، وصاحبه مخلد في النار إذا مات ولم يتب منه كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البينة: 6].
وقال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [المائدة: 72].
والجهل آفة تزول بالعلم الإلهي الذي جاءت به الرسل، وبه يعرف الإنسان ربه، والطريق الموصل إليه، وما للإنسان بعد القدوم عليه.
والبدع آفة تزول بمعرفة السنن والأحكام الشرعية الواردة في الكتاب والسنة.. وهكذا باقي الآفات.
وهذه الآفات تصيب الناس بسبب كفرهم وشركهم، وعدوانهم، وضعف إيمانهم؛ عقوبة لهم: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النساء: 66-70].
والآفات درجات، والناس فيها متفاوتون فسالم ومستقل ومستكثر، ومبتلى ومعافى.
وهذه إشارة إلى أهم آفات النفوس.. وبيان أسبابها وآثارها.. وكيفية التخلص منها:
1- آفة الغفلة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 179].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 7].
(13/11)
الغفلة أشد ما يفسد القلوب، فالقلب الغافل قلب معطل عن وظيفته، معطل عن الالتقاط والتأثر والاستجابة، تمر به دلائل الإيمان والهدى أو يمر بها دون أن يحسها أو يدركها.
ومن ثم كان الإنذار هو أليق شيء بالغفلة، وتذكير الغافلين بما ينفعهم ليفعلوه، ونهيهم عما يضرهم ليجتنبوه.
والإنذار قد ينفع ويوقظ الغافلين المستغرقين في الغفلة كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 6].
والإنذار لا ينفع قلباً غير مهيأ للإيمان، مشدود عنه، محال بينه وبينه بالسدود والأغلال والأغشية، فالإنذار لا يخلق القلوب، إنما يوقظ القلوب الحية المستعدة للتلقي: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 11].
فهذا الصنف من الناس هو الذي يستحق التبشير بعد انتفاعه بالإنذار، فبشره بمغفرة وأجر كريم، المغفرة عما يقع فيه من الخطايا غير مصر، والأجر الكريم على خشية الرحمن بالغيب، واتباعه لما أنزل الرحمن من الذكر، وهما متلازمان في القلب، فما تحل خشية الله في قلب، إلا ويتبعها العمل بما أنزل الله، والاستقامة على النهج الذي أراد.
فعلينا أن نعيش في بيئة الذاكرين لربهم، المستقيمين على منهجه، ونصبر على ذلك؛ لننال الأجر والثواب من الله، ونحذر من أهل الأهواء والغفلة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 28].
فهؤلاء إنما يتبعون أهواءهم، ويحكمون بها بين العباد، فهم وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله وتقواه.
فلا تطع أيها المسلم من أغفلنا قلبه عن ذكرنا حين أعرض عن ربه ودينه واتجه إلى ذاته، إلى ماله، إلى أبنائه، إلى متاعه، إلى لذائذه وشهواته، فلم يعد قلبه متسعاً للإيمان بالله، وذكر الله، والعمل بطاعة الله.
(13/12)
والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله، فيزيده الله غفلة، ويملي له فيما هو فيه، حتى تفلت الأيام من بين يديه، ويلقى ما أعده الله لأمثاله الغافلين، الذين يظلمون أنفسهم وغيرهم.
والإنسان كلما غفل قلبه عن ذكر الله، وجد الشيطان طريقه إليه، فيلزمه ويصبح له قرين سوء يوسوس له ويزين له السوء: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 36].
ووظيفة قرناء السوء من الشياطين أن يصدوا قرناءهم عن سبيل الله، بينما هؤلاء يحسبون أنهم مهتدون، وهذا أسوأ ما يصنعه قرين السوء بقرينه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 37].
إن حياة المسلم ثمينة كبيرة؛ لأنها منوطة بوظيفة ضخمة، ذات ارتباط بهذا الوجود، وذات أثر في حياة هذا الوجود الكبير، وهي أعز وأنفس من أن يقضيها في عبث ولهو، وخوض ولعب، في غفلة عن ربه، وعن وظيفته.
وكثير من اهتمامات الناس في هذه الأرض تبدو عبثاً ولهواً ولعباً حين تقاس إلى اهتمامات المسلم الناشئة من تصوره لتلك الوظيفة الضخمة، ومن ثم تبدو اهتمامات الآخرين صغيرة هزيلة في حس المسلم المشغول بتحقيق وظيفته الكبرى التي كلفه بها من خلقه واستخلفه.
ألا ما أخطر الغفلة على البشرية!
إن الذي يعيش بلا إيمان بالله، إنما يعيش في بحر الأماني والخوف والاضطراب في كل حين.
وما أشد غرور الكفار حين يعرضون عن ربهم، إنهم يرون أنهم في أمن وفي حماية وفي طمأنينة، وهم يتعرضون لغضب الرحمن، وبأس الرحمن، بلا شفاعة لهم من إيمان ولا عمل يستنزل رحمة الرحمن: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 20].
من الذي ينصرهم من الله غير الله؟.. ومن الذي يدفع عنهم بأس الرحمن إلا الرحمن؟.
وهذا الرزق الذي يستمتعون به، ويغفلون عن واهبه، وينسون مصدره وخالقه، ثم لا يخشون ذهابه، ثم يلجون في التبجح والإعراض: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 21].
إن رزق البشر وسائر الخلائق كله معقود بإرادة الله في أول أسبابه:
(13/13)
في خلق هذا الكون.. وفي عناصر الجو والأرض.. وهي أسباب لا قدرة للبشر عليها إطلاقاً، فهي أسبق منهم في الوجود، وهي أكبر منهم في الطاقة، وهي أقدر منهم على محو كل أثر للحياة حين يشاء الله.
فمن يرزق البشر إن أمسك الله الماء؟.. أو أمسك الهواء؟.. أو أمسك العناصر الأولية التي ينشأ منها وجود الأشياء بإذن الله؟.
وآه للعقول التي لا تفقه، والعيون التي لا تبصر.. والآذان التي لا تسمع.
إنه إذا كان خالق الخلق هو الله، وخالق أرزاقهم هو الله، والحافظ لهم هو الله، وهم عيال على الله في كل ذلك، فما أقبح العتو والإعراض والنفور من العيال في مواجهة المطعم الكاسي، الرازق العائل، وهم خِلْو من كل شيء إلا ما يتفضل به عليهم ربهم، وهم بعد ذلك عاتون معرضون نافرون وقحاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 46].
فما أبعد هذه النفوس عن ربها، وهي تعرض عن الدعوة إلى الله في طغيان عات، وفي إعراض نافر، وتنسى أنها من صنع الله، وأنها تعيش على فضله، وأنها لا تملك من أمر وجودها وحياتها ورزقها شيئاً على الإطلاق.
وبعد هذه الغفلة والشرود والاستكبار: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [المائدة: 74].
وإذا استكبر هؤلاء عن الحق، واعتقدوا فوق ذلك أنهم أهدى سبيلاً، وأن ما سواهم ضال، فهي الطامة الكبرى، تلك التي ترى الحق باطلاً، والباطل حقاً، والرشد ضلالاً، والضلال رشداً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 22].
إن الذي يمشي مكباً على وجهه حاله بائسة تعاني المشقة والعسر والتعثر، ولا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا فلاح، إنها حال الشقي المنكود الضال عن طريق الله المحروم من هداه، الذي يصطدم مع المخلوقات؛ لأنه شذ عنها في طاعة الله، فهي مطيعة لربها وهو مخالف لها، يعترضها في سيره، ويتخذ له مساراً غير مسارها.
فهو أبداً في تعثر.. وأبداً في عناء.. وأبداً في ضلال.. فأنى يهتدي؟.
(13/14)
وفي المقابل حال السعيد المهتدي إلى الله، المتمتع بهداه، الذي يسير في موكب الإيمان والتوحيد، والحمد والتمجيد، وهو موكب الوجود كله بما فيه من أحياء وأشياء: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الإسراء: 44].
والله سبحانه هو الذي خلق البشر، ووهبهم وسائل الهدى، وأدوات الإدراك، ولكن أكثرهم غافلون، ومن ثم لم ينتفعوا بها، ولم يكونوا من الشاكرين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 23].
فالله بلا ريب هو الذي خلق هذا الكون، بل خلق كل شيء، وخلق الإنسان، هذه حقيقة تلح على العقل البشري، وتثبت ذاتها بتوكيد يصعب رده.
فالإنسان قد وُجِد، وهو أرفع وأعلم وأقدر ما يعلم من الخلائق، وهو لم يُوجِد نفسه، فلا بدَّ أن يكون هناك ما هو أرفع وأعلم وأقدر منه أوجده.
فلا مفر من الاعتراف بخالق عظيم كبير غني قوي، خلق هذا الكون الهائل العظيم بما فيه الإنسان، والمماراة في ذلك نوع من المماحكة لا تستحق الاحترام: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 81، 82].
فبماذا قابل الإنسان هذه النعم.. نعمة الإنشاء.. ونعمة السمع والبصر والفؤاد، ونعمة الهداية.. ونعمة الحياة.. ونعمة التكريم.. ونعمة الأرزاق؟.
إن الإنسان مع هذه الهبات الضخمة التي أعطاه إياها ربه لينهض بتلك الأمانة الكبرى، لم يشكر ولم يقم بما أوجب الله عليه، وهو أمر يثير الخجل والحياء من الله عند التذكير به.
فكم من إنسان؟.. وكم من جاحد؟.. وكم من كافر؟.. لا يشكر نعمة الله عليه، ولا يوفيها حقها لو عاش للشكر دون سواه، قليلاً مما تشكرون.
إن الله سبحانه وتعالى لم ينشئ البشر، ولم يمنحهم هذه الخصائص عبثاً ولا جزافاً لغير قصد ولا غاية، إنما هي فرصة الحياة للابتلاء والعمل، ثم الجزاء في يوم الجزاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 24].
إن الدين وأعمال الدين دائماً تتبعها الغفلة لماذا؟.
(13/15)
لأن المنهج الإلهي العدل يقف دائماً أمام شهوات النفس الجامحة، والتي تريد أن تمتلك كل شيء، وتستمتع بكل شيء، من حلال أو حرام، من نافع أو ضار، من طيب أو خبيث: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [يونس: 92].
أما الدنيا وأعمال الدنيا فالإنسان لا يغفل عنها ولا ينساها أبداً، فإذا تعلم صنع الخبز، وعمل الطعام ونحوهما، فإنه لا ينساهما أبداً، وهما عمليتان منقولتان لنا عن الآباء والأمهات جيلاً بعد جيل فلم ننسهما، ونسينا أوامر الله عزَّ وجلَّ في إصلاح أنفسنا، وإصلاح غيرنا.
والإنسان إنما يقع في المعاصي بسبب الغفلة عن الله.. والغفلة عن أوامر الله.. والغفلة عن عقوبة المعصية في الدنيا والآخرة، وعلاج الغفلة بذكر الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 205، 206].
والغفلة عدم إدراك الشيء مع وجود ما يقتضيه.
وعلى قدر ذكر العبد لربه يكون قربه منه، وخوفه منه، وحياؤه منه، ومحبته له، وأنسه به، وعلى قدر غفلة العبد عن الذكر يكون بعده عن الله ووحشته منه، وبين الغافل وبين الله عزَّ وجلَّ وحشة لا تزول إلا بالذكر.
والذين غفلوا عن الله وعن لقائه، ورضوا بالحياة الدنيا عن الآخرة وغفلوا عن آيات الله الكونية، وآياته القرآنية، هؤلاء مأواهم جهنم، لكفرهم وغفلتهم عن آيات ربهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [يونس: 7، 8].
2- آفة الهوى
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 50].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 43، 44].
قسَّم الله تبارك وتعالى أمر الناس إلى قسمين لا ثالث لهما:
إما الاستجابة لله والرسول صلى الله عليه وسلم .. وإما اتباع الهوى.
فكل ما لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من الهوى، ومن اتبع أحدهما لم يمكنه اتباع الآخر، فهما ضدان لا يجتمعان.
(13/16)
والشيطان يطيف بالعبد من أين يدخل عليه، فلا يجد عليه مدخلاً ولا إليه طريقاً إلا من هواه، والذي يخالف هواه يَفْرَقُ الشيطان من ظله.
وإنما تطاق مخالفة الهوى بالرغبة في الله، والرغبة في ثوابه، والخوف من عقابه، والخشية من حجابه، ووجود حلاوة الشفاء في مخالفة الهوى.
والهوى شارع النار الأكبر، ولذلك حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من اتباع الهوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [الجاثية: 18].
وما أطاع أحد هواه قط إلا وجد في نفسه ذلاً، ولا يغتر أحد بصولة أهل الهوى وكبرهم، فهم أذل الناس بواطن، قد جمعوا بين رذيلتي الكبر والذل.
وكل عاقل يأنف أن يكون تحت قهر عدوه، فالشيطان إذا رأى من الإنسان ضعف عزيمة وهمة، وميلاً إلى هواه، طمع فيه وصرعه، وألجمه بلجام الهوى، وساقه حيث أراد على موارد الهلكة.
والهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة، وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء.
وإن وقع الهوى في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء، ومخالفة السنة.
وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم، وصده عن الحق.
وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى الجور.
وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة.
وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين، حيث يولي بهواه، ويعزل بهواه.
فما قارن الهوى شيئاً إلا أفسده، وهو يسري في القلب والأعضاء سريان السم في القلب والأعضاء.
فإبليس حمله هواه على التكبر عن طاعة الله عزَّ وجلَّ لما أمره بالسجود لآدم، فطرده الله ولعنه، فهو أشقى الخلق في الدنيا والآخرة.
وآدم حمله الحرص وهوى نفسه على الأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها طمعاً في الخلود، فكان عاقبة ذلك الهوى والشهوة إخراجه منها إلى دار التعب والنصب.
(13/17)
وفتنة الكفار حين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وابتدعوا في دينه ما لم يشرعه، وحرموا زينته التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وتعبدوا له بالفواحش، وزعموا أن الله أمرهم بها، واتخذوا الشياطين أولياء من دون الله.
والحامل لهم على ذلك كله الهوى والحب الفاسد، وعليه حاربوا رسله، وكذبوا كتبه، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيله حتى خسروا الدنيا والآخرة.
وقوم نوح اتبعوا أهواءهم وكذبوا رسله، واستكبروا عن الحق، فأغرقهم الله في الدنيا، ولهم النار يوم القيامة.
وقوم عاد لما دعاهم هود إلى عبادة الله وحده سفهوه وكذبوه، فعاقبهم الله بالعذاب الفظيع المستمر، بريح صرصر عاتية، تدمر كل شيء بإذن ربها، فخسروا الدنيا والآخرة.
وقوم ثمود لما كذبوا رسولهم صالحاً، واستكبروا عن الحق الذي جاء به، عاقبهم الله بالهلاك في الدنيا والآخرة: (ں ں ? ? ? ? ?) [الأعراف: 78].
ولوط دعا قومه إلى الله، وحذرهم من فعل الفاحشة، وهي إتيان الذكران من العالمين، فكذبوه وسخروا منه، فعاقبهم الله بأن أمر جبريل فرفع بلادهم وقلبها عليهم، ثم أُتبعوا بحجارة من سجيل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [هود: 82، 83].
وقوم شعيب حملهم على بخس المكيال والميزان فرط محبتهم للمال، وغلبهم الهوى على طاعة نبيهم شعيباً حتى أصابهم العذاب.
وفرعون وقومه حملهم الهوى والشهوة وعشق الرئاسة على تكذيب موسى، فعاقبهم الله بالغرق في الدنيا، والإحراق بالنار في الآخرة.
وأهل السبت مسخوا قردة لما خالفوا أمر الله، واتبعوا أهواءهم.
والذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، واتبع هواه، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين.
وقد ذكر الله في سورة الأعراف حال أهل الأهواء والشهوات وما آل إليه أمرهم مفصلاً، فالكفر والهوى أصل كل بلية: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 177، 178].
(13/18)
وكل من بلغته الحجة ثم اتبع هواه فإن الله يرفع عنه ولايته ونصرته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 120].
وقد شبه الله عزَّ وجلَّ أتباع الهوى بأخس الحيوانات.
فشبههم بالكلب تارة كما قال سبحانه: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 175، 176].
وشبههم بالحمر تارة كما قال سبحانه: (پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المدثر: 49-51].
ومن اتبع هواه طبع الله على قلبه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [محمد: 16].
وملاك الأمر كله الرغبة في الله.. وإرادة وجهه، والتقرب إليه.. والشوق إلى الوصول إليه.. وتحقيق مراده.. والفوز برضاه.. واتباع هداه.
فإن لم يكن للعبد همة إلى ذلك فالرغبة في الجنة ونعيمها، وما أعد الله فيها لأوليائه، فإن لم يكن له همة عالية تدفعه إلى ذلك فخشية النار، وما أعد الله فيها لمن عصاه، فإن لم تطاوعه نفسه على شيء من ذلك فليعلم أنه خُلق للجحيم والسعير لا للجنة والنعيم، ولا يًقْدِر على ذلك بعد قدر الله وتوفيقه إلا بمخالفة هواه.
ولم يجعل الله للجنة طريقاً إلا باتباع هداه، ومخالفة العبد هواه، ولم يجعل للنار طريقاً غير اتباع العبد هواه، والإعراض عن هدى مولاه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النازعات: 37-39].
واتباع الهوى يضل العبد عن سبيل الله، ومن ضل عن سبيل الله لم يصل إلى نعيم مولاه، وكانت النار مأواه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 26].
ومن نهى نفسه عن الهوى كانت الجنة مأواه، وعاش في هذه الدنيا في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها نعيم البتة.
بل التفاوت الذي بين النعيمين، كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة، وهذا لا يصدق به إلا من باشر قلبه هذا وهذا.
(13/19)
وقلوب أهل البدع، والمعرضين عن القرآن، وأهل الغفلة عن الله، وأهل المعاصي في جحيم من العذاب قبل الجحيم الأكبر في النار.
وقلوب الأبرار في نعيم في الدنيا قبل النعيم الأكبر في الجنة كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [الانفطار: 13، 14].
وليس النعيم والجحيم في الآخرة فقط.
بل النعيم والجحيم في دورهم الثلاث كلها:
دار الدنيا.. ودار البرزخ.. ودار القرار في الآخرة.
فهؤلاء الأبرار في نعيم.. وهؤلاء الفجار في جحيم.
وهل النعيم إلا نعيم القلب.. وهل العذاب إلا عذاب القلب.
وأي عذاب أشد من الهم والحزن، والخوف والوجل، وضيق الصدر، وإعراضه عن الله والدار الآخرة، وتعلقه بغير الله، وانقطاعه عن الله.
وكل شيء تعلق به العبد وأحبه من دون الله فإنه يسومه سوء العذاب.
فكل من أحب شيئاً غير الله عذب به ثلاث مرات في هذه الدار.
فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل، فإذا حصل عذب به حال حصوله بالخوف من سَلبه وفواته أو خرابه، فإذا سُلبه اشتد عذابه عليه.
فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار.
وأما عذابه في البرزخ في قبره فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجى عوده، وألم فوات ما فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده، وألم الحجاب عن الله عزَّ وجلَّ، وألم الحسرة التي تقطع الأكباد.
فالهم والغم والحسرة والحزن كل هذه تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم، بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها، فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر، وأشد وأبقى.
إن العبد الذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصية ربه، فإذا أقدم عليها بحكم ضعفه البشري قاده خوف هذا المقام الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة، فظل في دائرة الطاعة.
(13/20)
والخوف من الله عزَّ وجلَّ هو الحاجز الصلب أمام عواصف الهوى العنيفة، ونهي النفس عن الهوى هو الذي يكبح جماح النفس إلى المعصية، فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية، وهو أساس البلوى، وينبوع الشر، وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قِبَل الهوى.
فالجهل سهل علاجه، ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النازعات: 40، 41].
ولم يكلف الله سبحانه الإنسان أن ينزع من نفسه الهوى، فإن هذا خارج عن طاقته، ولكنه كلفه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها، وأن يستعين في هذا بالخوف من مقام ربه الجليل، وكتب له بهذا الجهاد الشاق الجنة مثابة ومأوى.
ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة هذا الجهاد، وقيمته في تهذيب النفس البشرية، ورفعها إلى مقامها الأسنى.
إن الإنسان يعلو ويسمو بهذا النهي، وبهذا الجهاد، وبهذا الارتفاع، وليس إنساناً بترك نفسه لهواها، وإطاعة جواذبه إلى دركها.
إن الذي أودع في نفس الإنسان الاستعداد لجيشان الهوى، هو الذي أودعها الاستعداد للإمساك بزمامه، ونهي النفس عنه، ورفعها من جاذبيته، وجعل له الجنة جزاء ومأوى حين ينتصر على هواه ويرقى.
والحرية نوعان:
الأولى: حرية إنسانية تليق بتكريم الله للإنسان، وهي حرية الانتصار على هوى النفس، والانطلاق من أسر الشهوة، والتصرف بها في توازن تثبت معه حرية اختيار الأحسن شرعاً.
الثانية: حرية حيوانية، وهي هزيمة الإنسان أمام هواه، وعبوديته لشهوته، وانفلات الزمام من إرادته، وهي حرية لا يهتف بها إلا مخلوق مهزوم الإنسانية، فهؤلاء وإن حملوا صورة الآدمي في الظاهر فهم هابطون إلى درك الحيوان في الباطن: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 44].
(13/21)
ولكل إنسان مهما كان له هوى شخصي حتى ولو كان طفيفاً، فتلك هي الطبيعة البشرية، ولكن الذي لا هوى له هو الله سبحانه، فهو سبحانه الغني الذي يملك كل شيء، ولا يحتاج إلى أحد، بل كل أحد محتاج إليه في وجوده وبقائه وحركته، فتشريعه سبحانه لا يتم عن هوى، وإنما يتم عن حق وعدل ورحمة وعلم.
وهوى النفس حينما يسيطر على الإنسان يتخذ من العلم والتطور والحرية سبيلاً ومبرراً للخروج عن منهج الله إلى هوى النفس البشرية.
وهل العلم والترقي، والحرية والطمأنينة، والعزة والسعادة إلا في اتباع منهج الله لو كانوا يعلمون؟.
فكما خلق الله كل شيء، وبين للإنسان كل شيء، وسخر له كل شيء في السموات والأرض، كذلك وضع له منهجاً يسير عليه في الحياة فيه تبيان كل شيء يحتاجه، وكما وضع للنبات أوامر، وللكواكب أوامر، كذلك وضع للإنسان أوامر يسير عليها في هذا العالم، ليكون على صلة بخالقه ومولاه.
ولكن لغلبة الهوى تشذ النفس بشهواتها عما سواها من المخلوقات المطيعة.
أفلا يستحي البشر من هذا، يتركون هدى ربهم الذي فيه فلاحهم، ويتبعون هوى أنفسهم الذي فيه هلاكهم، ويشذون بمعاصيهم عن ركب المطيعين؟
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 83].
أيبتغون غير الله رباً وهو رب كل شيء؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 164].
أيقبلون حكم المخلوق، ويعافون حكم ربهم العدل، الذي له ملك السموات والأرض، وله الخلق والأمر وحده، وإليه يرجعون؟.
(ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الأنعام: 114].
واعجباً لهذا الإنسان الغافل عن ربه، الجاهل بدينه وشرعه.
أو لما أعطاه الله من العلم ما يساعده على تسهيل أمور حياته من وسائل النقل والبناء والصناعة والزراعة يجعل هذا سبباً للبعد عن ربه ورفض منهجه؟
(ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [المائدة: 74].
أفلا يخجل من ربه كلما أردف عليه النعم زادته كفراً وجحوداً وإعراضاً؟.
(13/22)
إن العلم مع الإيمان يسوق الإنسان إلى كل خير، وإن العلم بلا إيمان يهوي بالإنسان إلى كل شر كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 83].
إن النفس البشرية لها شهوات، وهي تريد أن تنطلق بهذه الشهوات إلى ما تهواه، دون أن يكون لها قيود تحدها.
والله عزَّ وجلَّ قد خلقنا جميعاً، وجعل لنا ديناً واحداً، وهذا الدين يجعل عبادتنا واحدة، وشريعتنا واحدة، وقبلتنا واحدة، وحقوقنا متساوية، فإذا جاء هوى النفس يطلب ما هو حق للغير، جاء عدل الله ومنعه من ذلك.
فإن اعتدى على حق غيره عاقبه، وحينئذ يبحث هوى النفس عمن يبيح له ذلك، فيخترع آلهة من دون الله، أو يتصور أو يصور آلهة تبيح له شهوات نفسه بلا قيود.
ومن هنا فإنه يريد أن يشكل إلهه على هواه، فيتخذ أحجاراً، أو أصناماً، أو أشياء يسميها هو ولا وجود لها، ويضع لها المنهج الذي تمليه عليه نفسه، مما يحقق رغبته وشهواته، وينسبه إليها وهي غافلة عنه.
وفي هذه الحالة يكون الإنسان قد ألغى عقله، واتبع هواه، وضل عن الحق: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 43، 44].
وهذا هو الضلال البعيد الذي ليس بعده ضلال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 50].
وهو الخسران المبين في الدنيا والآخرة إنه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 12، 13].
فأصل كل شر ومصيبة تقديم الهوى على الوحي.. وتقديم شهوات النفس على أوامر الرب كما قال سبحانه: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [النور: 63].
وقد رد الله على الملائكة الرأي كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 30].
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 105].
(13/23)
وما أُخرج آدم من الجنة إلا بتقديم الرأي على النص، والشهوة على الأمر.. وما لُعن إبليس إلا بتقديم الرأي على النص.. ولا هلكت أمة من الأمم إلا بتقديم آرائها على الوحي.. ولا تفرقت الأمة شيعاً وأحزاباً وفرقاً إلا بتقديم آرائهم على النصوص.
وقد نهى الله عزَّ وجلَّ عن التقديم بين يدي الله ورسوله بأي قول يخالف الكتاب والسنة كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [الحجرات: 1].
ومجامع الهوى خمسة أمور جمعها الله في قوله سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [الحديد: 20].
ومن اتبع هواه وسد على نفسه أبواب الهداية، ولج في دروب الغواية، فإن الله لا يهديه، وما ظلمه الله، ولكن هو ظلم نفسه وتسبب لمنع رحمة الله عليه باتباع هواه فمن يهديه من بعد الله؟.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?) [الجاثية: 23].
والله تبارك وتعالى هو الهادي لكل خير، المانع من كل شر، أنزل الهدى وأمرنا باتباعه، وحذرنا من مخالفته والتعلق بغيره كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 71].
فالقرآن العظيم هو الهدى المشتمل على المطالب العالية في الدنيا والآخرة:
فهو الهادي إلى معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله.
الذي يهدي إلى معرفة جلال الله وجماله، وإنعامه وإحسانه.
ويهدي إلى معرفة رسله وأوليائه وأعدائه، وأوصافهم وأعمالهم.
ويهدي إلى الأعمال الصالحة ويدعو إليها، ويبين الأعمال السيئة وينهى عنها.
ويهدي إلى بيان الجزاء على الأعمال الحسنة والسيئة في الدنيا والآخرة.
فالمؤمنون اهتدوا به فأفلحوا وسعدوا، والذين كفروا أعرضوا عنه فشقوا في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 88].
(13/24)
وفي اتباع الهوى السعادة الأبدية والصلاح والفلاح، فما أجدر العاقل باتباع الشريعة الكاملة التي تأمر بكل خير، وتنهى عن كل شر، ومخالفة الهوى الذي يوقع في كل شر، ويمنع كل خير كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?) [الجاثية: 18].
واتباع الهوى يضل العبد عن سبيل الله، ويخرجه عن الصراط المستقيم فيقع في العذاب الشديد؛ لأنه ترك الهدى واتبع الهوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 26].
واتباع الهوى هو إيثار ميل النفس إلى الشهوة والانقياد لها فيما تدعو إليه من معاص الله عزَّ وجلَّ.
وانقياد الإنسان واتباعه للشهوات يجعله في مصاف الحيوانات، ويجلب له الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
وجميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله، والهوى شر داء خالط القلوب، وشر إله عُبد في الأرض.
وخير الناس من أخرج الشهوات من قلبه، وعصى هواه في طاعة ربه، ومن أطاع هواه أعطى عدوه مناه.
والإنسان إذا كان كلما هوى شيئاً رَكِبه، وكلما اشتهى شيئاً أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى، فقد اتخذ إلهه هواه.
وإذا تمكنت الشهوة من الإنسان وملكته وانقاد لها كان كالبهائم أشبه منه بالناس.
وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في الأمر ولا يطلبه أصلاً، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، بل يرضى إذا حصل له ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه؛ لأن قصده الحمية لنفسه، أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه، وليس قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا.
وعلاج اتباع الهوى بسبعة أمور:
أحدها: التفكر في أن الإنسان لم يخلق للهوى، وإنما خلق لعبادة الله والنظر في العواقب، والعمل للآجل، فلو كان نيل المشتهى فضيلة لما بخس الإنسان منه وزاد عن حظ البهائم.
(13/25)
وفي توفير حظ الإنسان من العقل، وبخس حظه من الهوى دليل على فضل هذا وذاك.
الثاني: التفكر في فائدة مخالفة الهوى من اكتساب الذكر الجميل في الدنيا، وسلامة النفس والعرض، والأجر في الآخرة.
الثالث: التفكر في حقيقة ما يناله باتباعه هواه من اللذات والشهوات، فإن العقل سيخبره أنه ليس بشيء، ولكن عين الهوى عمياء.
الرابع: التدبر لما يحصل له من عز الغلبة إن ملك نفسه، وذل القهر إن غلبته، فمن غلب هواه عز، ومن غلبه هواه ذل.
الخامس: التفكر في عواقب الهوى، فكم فوت من فضيلة، وكم أوقع في رذيلة مع الإثم.
السادس: تصور العاقل لانقضاء غرضه من هواه، فسيرى أن ما حصل له من الأذى يربو على اتباع الهوى أضعافاً مضاعفة.
السابع: تصور عاقبة ذلك في حق غيره، فعندئذ سيرى ما يعلم به عيب نفسه إن هو وقف في ذلك المقام وارتكس في هذه الآثام.
(? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 119].
فما أسفه عقول البشر حين يتبعون أهواءهم بعد بلوغهم رسالة ربهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النجم: 23].
فليتبع العبد هدى ربه، ويحذر من هوى نفسه وهوى غيره، وفي طاعة ربه سعادته ونجاته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 120].
3- آفة الكبر
قال الله تعالى: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الأعراف: 40، 41].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [غافر: 60].
الله تبارك وتعالى وحده هو الكبير الذي له الكبرياء في السموات والأرض، وله الأسماء الحسنى والصفات العلا، وله الجلال والجمال والكمال، وله الملك كله، وله العزة كلها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الجاثية: 36، 37].
ومن استكبر من الخلق فليس له ذلك؛ لأن الكبرياء لله وحده لا شريك له، والعبد مخلوق ضعيف عاجز فقير، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً إلا ما مَلَّكه الله إياه.
(13/26)
والكبر بطر الحق، وغَمْطُ الناس بازدرائهم واحتقارهم.
وآفة الكبر في الناس على ثلاث درجات:
الأولى: أن يكون الكبر مستقراً في قلب الإنسان منهم، فهو يرى نفسه خيراً منهم إلا أنه يجتهد ويتواضع، فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسة إلا أنه قد قطع أغصانها بإخفائه الكبر.
الثانية: أن يظهر ذلك بأفعاله من الترفع في المجالس، والتقدم على الأقران، فتراه يصعر خده للناس ويحتقرهم.
الثالثة: أن يظهر الكبر بلسانه كالدعاوى والمفاخرة وتزكية النفس، والتكبر بالنسب، والمال، والعلم، والجمال، والقوة، وكثرة الأتباع، ونحو ذلك من الحالات.
فالتكبر بالمال أكثر ما يجري بين الملوك والتجار.. والتكبر بالجمال أكثر ما يجري بين النساء.. والتكبر بالعلم أكثر ما يجري بين المرائين.. والتكبر بالنسب أكثر ما يجري بين الناقصين الجاهلين.. والتكبر بكثرة الأتباع أكثر ما يجري بين الملوك بكثرة الجنود.. وبين العلماء بكثرة الطلاب والمستفيدين.
ومن صفات المتكبر:
استكباره عن الحق.. واحتقار الناس.. وحبه قيام الناس له.. وجلوسه في صدور المجالس.. ومشيه متبختراً.. وأنه لا يمشي غالباً إلا ومعه أحد يمشي خلفه.. ولا يزور أحداً تكبراً على الناس.. ويستنكف جلوس أحد إلى جانبه، ولا يتعاطى في بيته شغلاً.. ونحو ذلك.
والكبر من المهلكات، ويعالج بأمرين:
الأول: استئصال شجرته من القلب، ووسيلة ذلك أن يعرف الإنسان ربه ويعرف نفسه.
الثاني: من تكبر بالنسب فليعلم أن هذا تعزز بكمال غيره.. ومن اعتراه الكبر بالجمال فلينظر إلى باطنه وأقذاره نظر العقلاء.. ومن اعتراه الكبر بالقوة فليعلم أنه لو آلمه عِرْق عاد أعجز من كل عاجز.. ومن تكبر بسبب المال فليعلم أن اليهود أغنى منه وهم شر خلق الله، وقد غضب الله عليهم ولعنهم.. ومن تكبر بسبب العلم فليعلم أن حجة الله على العالم أكثر من الجاهل.
وأول ذنب عصى الله به أبوا الثقلين: الكبر والحرص.
(13/27)
فالكبر ذنب إبليس اللعين، فآل أمره إلى ما آل إليه، وذنب آدم صلى الله عليه وسلم الحرص والشهوة، فكان عاقبته التوبة والهداية.
فأهل الكبر والإصرار والاحتجاج بالأقدار مع شيخهم وقائدهم إلى النار إبليس، وأهل الشهوة المستغفرون التائبون المعترفون بالذنوب مع أبيهم آدم في الجنة.
والتكبر شر من الشرك، فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد مع الله غيره، ولذلك جعل الله النار دار المتكبرين كما قال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?) [الزمر: 72].
والذين طبع الله على قلوبهم هم أهل الكبر والتجبر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ژ ژ) [غافر: 35].
والكبر قليله وكثيره في النار، وهو موجب للحرمان من الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» أخرجه مسلم(1).
ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر عن الانقياد للحق أذله الله ووضعه وصغَّره وحقَّره، ومن تكبر عن الانقياد للحق فإنما تكبر على الله، فإن الله هو الحق، وكلامه حق، ودينه حق، فإذا رده العبد وتكبر عن قبوله، فإنما رد على الله وتكبر عليه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [غافر: 60].
والفرق بين المهابة والكبر:
أن المهابة أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله ومحبته وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك حل فيه النور، ونزلت عليه السكينة، وألبس رداء الهيبة، كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 49، 50].
وأما الكبر فأثر من آثار العجب والبغي، من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، ترحلت منه العبودية، ونزل عليه المقت، فنظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختر، يستأثر صاحبه بالأشياء ولا يؤثر أحداً، ولا يرى لأحد عليه حقاً، ويرى حقوقه على الناس، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (91).
(13/28)
والإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان بالله، والشعور بالخالق القاهر فوق عباده، تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان أو قوة أو جمال.
ولو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله، وأنه ضعيف أمام حول الله، لطامن من كبريائه، وخفف من خيلائه، ومشى على الأرض هوناً لا تيهاً ولا مرحاً، وهذا هو الأدب مع الله ومع الناس.
وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب، والكبر الفارغ، والخيلاء الكاذبة إلا فارغ صغير القلب، صغير الاهتمامات، يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته، ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه، فتواضع لله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 37].
والكبر ينقسم إلى قسمين:
كبر باطن.. وكبر ظاهر.
فالباطن هو خلق في النفس، والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح، واسم الكبر بالخلق الباطن أحق، وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق.
وخلق الكبر موجب للأعمال، ولذلك إذا ظهر على الجوارح قيل تكبر، وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر.
والكبر يظهر بثلاثة أشياء:
متكبر.. ومتكبر عليه.. ومتكبر به.
فالمتكبر بما يملك من مال أو سلطان أو علم ونحوها يتكبر على غيره، فيرى لنفسه مرتبة، ولغيره مرتبة دونه، ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره، وبهذه الثلاثة يحصل له خلق الكبر.
والأعمال السيئة الصادرة عن خلق الكبر كثيرة من احتقار الناس وازدرائهم والترفع عنهم، والاستهانة بهم، وآفاته أكثر من أن تحصى.
وآفات الكبر عظيمة، وبه يهلك خواص الخلق، وقلما ينفك عنه العباد والعلماء والزهاد فضلاً عن عوام الخلق.
وكيف لا تعظم آفته وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْر» قال رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُّحِبُّ أنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَاً، قال: «إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُّحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (91).
(13/29)
وإنما صار الكبر حجاباً دون الجنة؛ لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة، والكبر يغلق تلك الأبواب كلها، فالمتكبر لا يقدر على أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، وفيه شيء من الكبر، ولا يقدر على التواضع والنصح لهم وفيه الكبر.
والكبر درجات، وشر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم، وقبول الحق، والانقياد له، ويقال لهؤلاء يوم القيامة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 29].
والتكبر باعتبار المتكبر عليه ثلاثة أقسام:
الأول: التكبر على الله: وهو أفحش أنواع الكبر، ولا مثار له إلا الجهل المحض والطغيان، وهو يصدر من كل من ادعى الربوبية كفرعون وغيره، وقد توعد الله هؤلاء بقوله: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [غافر: 60].
الثاني: التكبر على رسل الله: من حيث تعزز النفس، وترفعها عن الانقياد لبشر مثل سائر الناس، وذلك تارة يصرف عن الفكر والاستبصار فيبقى في ظلمة الجهل بكبره، فيمتنع عن الانقياد، وهو ظان أنه محق فيه، وتارة يمتنع مع المعرفة، ولكن لا تطاوعه نفسه للانقياد للحق والتواضع للرسل.
كما قال الله عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ) [الفرقان: 21].
الثالث: التكبر على الخلق: وذلك بأن يستعظم نفسه ويحقر غيره، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم، وتدعوه إلى الترفع عليهم، فيزدريهم ويستصغرهم، ويأنف من مساواتهم.
وهذا وإن كان دون الأول والثاني، لكنه عظيم من وجهين:
أحدهما: أن الكبر والعز والعظمة والعلا لا يليق إلا بالملك القادر، فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء فمن أين يليق بحاله الكبر؟.
(13/30)
فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا تليق إلا بجلاله كما قال سبحانه: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» أخرجه أبو داود وابن ماجه(1).
وإذا كان الكبر على عباد الله لا يليق إلا بالله، فمن تكبر على عباده فقد جنى عليه، فالذي يسترذل خواص الملك ويستخدمهم ويترفع عليهم، ويستأثر بما حق الملك وحده أن يستأثر به منهم فهو منازع لله في بعض أمره.
الثاني: أن ذلك يدعو العبد إلى مخالفة الله في أوامره؛ لأن المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عباد الله استنكف عن قبوله، وتشمر لجحده، كما تكبر إبليس على آدم فقال أنا خير منه، فحمله هذا الكبر على الامتناع عن السجود الذي أمره الله تعالى به.
وكان مبدؤه الكبر على آدم والحسد له، فجره ذلك إلى التكبر على أمر الله تعالى، فكان ذلك سبب هلاكه أبد الآباد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 77، 78].
ولذلك شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر بآفتين في قوله: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» أخرجه مسلم(2).
فكل من رد الحق وهو يعرفه، وأنف أن يخضع لله ويتواضع له بطاعته واتباع رسله فقد تكبر عن الحق فيما بينه وبين الله تعالى ورسله.
وكل من رأى أنه خير من أخيه، واحتقره وازدراه، ونظر إليه بعين الاستصغار، ورد ما قاله من الحق فقد تكبر فيما بينه وبين الخلق.
وأما ما يتكبر به الناس، فإنه لا يتكبر إلا من استعظم نفسه، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال.
وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي.
فالديني هو العلم والعمل.
والدنيوي هو الرئاسة، والنسب، والجمال، والمال، والقوة.
فهذه سبعة أسباب.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4090)، صحيح سنن أبي داود رقم (3446).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4175)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3366).
(2) أخرجه مسلم برقم (147).
(13/31)
فأما العلم فما أسرع الكبر إلى العلماء إذا قل عملهم، فلا يلبث العالم أن يتعزز بعلمه، فيستعظم نفسه، ويستحقر الناس، وينظر إليهم نَظَرَه إلى البهائم، ويستجهلهم، ويتوقع منهم أن يخدموه، ويستخدمهم وكأنهم عبيده وأجراؤه.
ويرى نفسه عند الله أفضل منهم، فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه، ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم، وهل هذا إلا عين الجهل والسفه في صورة العلم.
والعلم الحقيقي: هو الذي يعرف به الإنسان نفسه وربه، ويزيده خضوعاً وخشوعاً وتواضعاً لربه، ويرى أن الناس خير منه، لعظم حجة الله عليه بالعلم، وتقصيره عن القيام بشكر نعمة العلم.
فالعلم من أعظم ما يتكبر به ولذلك قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ) [الشعراء: 215].
وأما العبادة والعمل: فليس يخلو عن رذيلة الكبر أحد، فكثير من الزهاد والعباد يرون الناس هالكين، ويرون أنفسهم ناجين، ويرون غيرهم أولى بزيارتهم لهم، ويرون أن على غيرهم توقيرهم وذكرهم لهم بالورع والتقوى، والتوسيع لهم في المجالس، وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ، وقضاء حوائجهم.
فما أجدر العالم والعابد إذا أحبه الناس لصلاحه أن ينقلهم الله إلى درجته في العمل، وما أجدره إذا ازدراهم بعينه أن ينقله الله إلى أدناهم في الإهمال.
وأسباب الكبر وبواعثه المهيجة له أربعة:
العجب.. والحقد.. والحسد.. والرياء.
فالكبر خلق باطن، وما يظهر على الجوارح من الأخلاق والأفعال التي تدل على الكبر فهي ثمرة ونتيجة للكبر الباطني الذي هو عبارة عن استعظام النفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير.
وهذا الباطن له موجب واحد وهو العجب الذي يتعلق بالمتكبر، فإنه إذا أعجب بنفسه وبعلمه وبعمله أو بشيء من الأسباب استعظم واستكبر.
أما الكبر الظاهر فأسبابه ثلاثة:
سبب في المتكبر وهو العجب.
وسبب في المتكبر عليه وهو الحقد والحسد.
وسبب في غيرهما وهو الرياء.
(13/32)
فالعجب يورث الكبر الباطن، والكبر يثمر التكبر الظاهر في الأقوال والأعمال والأحوال، والحقد يحمل على التكبر من غير عُجب، كالذي يتكبر على من يرى أنه مثله أو فوقه، ولكنه غضب عليه لسبب، فأورثه الغضب حقداً عليه، فهو لذلك لا يتواضع له بل يتكبر عليه، ويرد الحق إن جاء من جهته، ويأنف منه إن نصحه.
والحسد يوجب بغض المحسود، ويرد الحق إن جاء من جهته، ويمنع من قبول النصيحة وتعلم العلم، فكم من جاهل يشتاق إلى العلم فبقي في رذيلة الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد من أهل بلده حسداً وبغياً عليه؟.
فهو يتكبر عليه ويعرض عنه مع علمه بأنه يستحق التواضع بفضل علمه، ولكن الحسد يبعثه على أن يعامله بأخلاق المتكبرين، وإن كان في باطنه ليس يرى نفسه فوقه.
وأما الرياء فهو كذلك يدعو إلى أخلاق المتكبرين، حتى إن الرجل ليناظر من يعلم أنه أفضل منه، ويمتنع من قبول الحق منه، ولا يتواضع له خوفاً من أن يقول الناس إنه أفضل منه، فيكون باعثه على التكبر عليه الرياء المجرد.
وعلامات التكبر:
تكون في شمائل الرجل كصعر وجهه، ونظره شزراً، وإطراقه رأسه ونحو ذلك، وتكون في أقواله في صوته ونغمته.
ويظهر في مشيته وتبختره، وقيامه وجلوسه، وحركاته وسكناته، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 18-19].
فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله، ومنهم من يتكبر في بعض ويتواضع في بعض.
والكبر من الكبائر المهلكات، ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه، وإزالته فرض عين، ولكنه لا يزول بالتمني، بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له، ويتم ذلك بأمرين:
الأول: استئصال أصله، وقلع شجرته من مغرسها في القلب.
الثاني: دفع العارض منه بالأسباب الخاصة التي بها يتكبر الإنسان على غيره.
فاستئصال أصله يتم بأمرين: علمي وعملي، ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما:
(13/33)
أما العلمي: فهو أن يعرف الإنسان نفسه، ويعرف ربه تعالى، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر، فالإنسان مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة.
وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله العلي العظيم.
فأما معرفة العبد نفسه فأولاً لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً، ثم خلقه الله من أرذل الأشياء وأقذرها وهو التراب، ثم من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة ثم جعله عظماً، ثم كسى العظام لحماً كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ) [عبس: 17-22].
فما صار الإنسان شيئاً مذكوراً إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت، فكان في بداية خلقه جماداً ميتاً، لا يسمع ولا يبصر، ولا يحس ولا يتحرك، ولا ينطق ولا يبطش، ولا يدرك ولا يعلم.
فبدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبجهله قبل علمه، وبعماه قبل بصره، وبصممه قبل سمعه، وبضلالته قبل هداه، وبفقره قبل غناه، وبعجزه قبل قدرته.
ثم مَنَّ الله عليه ويسر له السبيل فأحياه بعد أن كان ميتاً.. وأسمعه بعد ما كان أصم.. وبصَّره بعد ما كان فاقداً للبصر.. وقواه بعد الضعف.. وعلَّمه بعد الجهل.. وأغناه بعد الفقر.. وأشبعه بعد الجوع.. وكساه بعد العري.. وهداه بعد الضلال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 1-3].
فانظر كيف دبر الله الإنسان وصوره، وإلى السبيل كيف يسره، وإلى طغيان الإنسان ما أكفره؟.
ثم انظر إلى نعمة الله عليه كيف نقله من تلك الذلة والقلة، والخسة والقذارة والعجز والضعف إلى هذه الرفعة والكرامة، فصار موجوداً بعد العدم، وحياً بعد الموت، وناطقاً بعد البكم، وبصيراً بعد العمى، وقوياً بعد الضعف، ومهدياً بعد الضلال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الملك: 23].
وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه، ويعلم بها عظمته وجلاله، وأنه لا يليق الكبرياء إلا به جلَّ جلاله.
(13/34)
ثم بعد ذلك يسلب الله هذا الإنسان روحه وسمعه وبصره، وعلمه وقدرته وماله وحسه وإدراكه وحركته فيعود جماداً كما كان أول مرة، ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة، كما كان أول نطفة مذرة، ثم يصير رميماً ورفاتاً يأكله الدود، ثم يصير روثاً في أجواف الديدان، وجيفة يهرب من نتنه الحيوان ويستقذره كل إنسان.
وأحسن أحواله أن يعود تراباً يعمل منه البنيان، وتصنع منه الكيزان، فيصير مفقوداً بعد أن كان موجوداً.
وليته بقي كذلك فما أحسن الحال لو كان تراباً، بل يحييه الله بعد طول البلى ليقاسي شديد البلاء، فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه، ويخرج إلى أهوال يوم القيامة فينظر إلى سماء مشققة، وأرض مبدلة، وجبال مسيرة، ونجوم منكدرة، وأحوال مظلمة، وملائكة غلاظ شداد، ونار مسعرة، وجنة عالية، وصحائف منشورة فيها عمله، فينقطع قلبه، ويتمزق فؤاده من هول ما رأى في صحيفته من المخازي والكبائر فيقول: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 49].
فمن كان هذا بدؤه.. وهذه أحواله.. وهذا آخر أمره.. فمن أين له البطر والكبرياء، والفخر والخيلاء، وهو على التحقيق أخس الأخساء، وأضعف الضعفاء؟.
وما لمن هذه حاله والتكبر والتعظم؟.
بل ما له وللفرح في لحظة واحدة فضلاً عن البطر والأشر والكبر؟.
ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ بأنفه وتعظم كما قال سبحانه: (گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [العلق: 6، 7].
ولو فوض الله إليه أمره، وأدام له الوجود باختياره وأكمله، لجاز أن يطغى وينسى المبدأ والمنتهى، ولكن الله سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة، والأسقام العظيمة، والآفات المختلفة، شاء أم أبى، لا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يُسلب سمعه أو بصره أو عقله أو ماله، أو تُختطف روحه، ويُسلب جميع ما يهواه في دنياه، فهو مضطرب مضطر ذليل، عاجز فقير، لا يقدر على شيء من نفسه، ولا شيء من غيره.
فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه؟.
(13/35)
وأنى يليق به الكبر لولا جهله؟
فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر.
وأما العلاج العملي فيكون بالتواضع لله بالفعل، ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، وينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال المذمومة فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقاً، فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعاً.
والكبر بالعلم أعظم الآفات، وأغلب الأدواء، وأبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة، وذلك لأن قدر العلم عظيم عند الله، عظيم عند الناس، وهو أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما، بل لا قدر لهما أصلاً إذا كان معهما علم وعمل، فللعلم طغيان كطغيان المال.
ولذا يعجز العالم عن أن لا يستعظم نفسه بالإضافة إلى الجاهل، لكثرة ما نطق الشرع بفضائل العلم.
ولا يقدر العالم على دفع الكبر إلا بأمرين:
أحدهما: أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد، وأنه يُّحتمل من الجاهل ما لا يُّحتمل عشره من العالم، فإن من عصى الله عن معرفة وعلم فجنايته أفحش، إذا لم يقض حق نعمة الله عليه في العلم.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : «.. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأ الْقُرْآنَ، فَأتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى ألْقِيَ فِي النَّارِ» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1905).
(13/36)
فكما أن قدر العالم أعظم من قدر غيره، فكذلك خطره أعظم من خطر غيره، فهذا بذاك، فهذا الخطر يمنع من التكبر، والعالم إذا فكر فيما ضيعه من أوامر ربه بذنوب في باطنه، وجنايات على جوارحه، وعلم ما هو بصدده من الخطر العظيم فارقه كبره لا محالة.
الثاني: أن يعرف العالم أن الكبر لا يليق إلا بالله عزَّ وجلَّ وحده، وأنه إذا تكبر صار ممقوتاً عند الله بغيضاً، وقد أحب الله منه أن يتواضع، فمن تواضع لله رفعه في الدنيا والآخرة، فلا بد وأن يكلف نفسه ما يحبه مولاه منه، وهذا يزيل التكبر عن قلبه.
وبهذا زال التكبر عن الأنبياء إذ علموا أن من نازع الله تعالى الكبرياء والعظمة قصمه، وقد أمرهم سبحانه أن يُصغِّروا أنفسهم، حتى يَعْظُمَ عند الله محلهم، فهذا مما يبعثه على التواضع لا محالة.
فالواجب على العبد أن لا يتكبر على أحد من خلق الله، فإن رأى جاهلاً قال: هذا عصى الله بجهل، وأنا عصيته بعلم، فهو أعذر مني، وإن نظر إلى كبير قال: هذا أطاع الله قبلي، فكيف أكون مثله؟، وإن نظر إلى صغير قال: إني عصيت الله قبله، فكيف أكون مثله؟.
والله عزَّ وجلَّ خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الليل والنهار، وخلق الشمس والقمر والنجوم، وخلق الملائكة الذين لا يحصيهم إلا الله، وخلق كل شيء، وجميع هذه المخلوقات مطيعة لربها، منقادة لأوامره، عابدة له.
والبشر إن استكبروا عن عبادة الله بعد معرفتهم لهذه الآيات الكبرى، والمخلوقات العظمى، فهذا لن يقدم أو يؤخر، فغيرهم من جميع الكائنات يعبد الله غير مستكبر في العالم العلوي، وفي العالم السفلي كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 49، 50].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 38].
(13/37)
هؤلاء الملائكة الذين عند ربك، وهم أرفع وأعلى، وهم أكرم وأمثل، لا يستكبرون كما يستكبر أولئك المنحرفون الضالون في الأرض، ولا يغترون بقرب مكانهم من الله، ولا يفترون عن تسبيحه ليلاً ونهاراً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 20].
وماذا يساوي أن يتخلف من أهل الأرض من يتخلف عن عبادة الله؟.
وهذه الأرض التي تقوتهم، والتي منها خرجوا وإليها يعودون، الأرض التي هم على سطحها أنمال تدب.
هذه الأرض تقف خاشعة لله، وهي تتلقى من يديه الحياة، فاهتزت وربت لتشارك العابدين المتحركين: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [فصلت: 39].
وكم في الأرض من أَفَّاك؟.. وكم في الأرض من مستكبر؟.
وماذا ينتظر هؤلاء من العذاب الأليم؟.
(ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [الجاثية: 7، 8].
ألا ما أخطر هؤلاء المستكبرون.. وما أعظم جهلهم بالله.
إنهم إذا علموا من آيات الله شيئاً استهزؤوا بها، واتخذوها مادة للسخرية منها، وممن يؤمنون بها، وممن يريدون أن يرجعوا أمر الناس والحياة إليها: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجاثية: 9-11].
فما أخسر هؤلاء في الدنيا والآخرة.. وأي خسارة أكبر من خسارة الإيمان واليقين في الدنيا؟.. ثم خسارة الرضوان والنعيم في الآخرة؟.. ثم العذاب الذي يحق على الجاحدين المنحرفين؟.
وكل أحد يستكبر في الأرض فإنما يستكبر بغير حق، فالكبرياء لله وحده، وليست لأحد من خلقه في قليل أو كثير.
وعذاب الهون هو الجزاء العدل على الاستكبار في الأرض، وجزاء على الفسوق عن منهج الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحقاف: 20].
(13/38)
والكفار بمالهم وجاههم يحسبون أنفسهم شيئاً عظيماً عند الله، فهم يكفرون ويستكبرون، ويؤذون الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويسمعون القرآن، ويتناجون بالكيد والرد على ما يسمعون، ثم يدخلون الجنة بعد هذا كله؛ لأنهم يزعمون أنهم في ميزان الله شيئاً عظيماً: (? ? ? ? ? ? ? ? ں) [سبأ: 35].
فما أعجب حالهم؟ وما أعوج تقديرهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المعارج: 36-38].
فهل يستحقون بكفرهم وكيدهم أن يدخلوا الجنة؟
(? ? ? ? ? ? ?) [المعارج: 39].
فهم لا ريب يعلمون مم خلقوا؟.
من ذلك الماء المهين الذي يعرفون، إنها لمسة خفية عميقة تمسح كبرياءهم مسحاً، وتنكس كبرياءهم تنكيساً.
كيف يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم على الكفر وسوء الصنيع؟.
إن هذا خرق لسنة الله في الجزاء العادل، للمؤمن بالنعيم.. وللكافر بالجحيم.
ألا ما أسفه العقول التي تستكبر بكثرة الأموال والأولاد، وتظن أن ذلك سوف ينجيها من العذاب الأليم، وأنهم خيار الناس: (? ? ? ? ? ? ? ? ں) [سبأ: 35].
إن الكبر آفة من آفات النفس ينشأ من الاغترار بالجاه أو السلطان أو المال، فينشأ من ذلك الكبر على الحق برده، والكبر على الناس باحتقارهم.
والطغيان كذلك آفة من آفات النفس ينشأ مما سبق، وهو وصف لكل من يتجاوز الحق والهدى.
ومداه أوسع من الطغاة ذوي السلطان والجبروت، حيث يشمل كل متجاوز للهدى، وكل من آثر الحياة الدنيا واختارها على الآخرة، فعمل لها وحدها غير حاسب للآخرة حساباً.
واعتبار الآخرة هو الذي يقيم الموازين في يد الإنسان وضميره، فإذا أهمل حساب الآخرة، أو آثر عليها الدنيا، اختلت كل الموازين في يده، واختلت كل القيم في تقديره، واختلت كل قواعد السلوك والشعور في حياته، وعُدَّ طاغياً وباغياً ومتجاوزاً للهدى.
فهذا مصيره إلى الجحيم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النازعات: 37-39].
(13/39)
والله تبارك وتعالى رحيم ودود، ينادي في الإنسان أكرم ما في كيانه وهي إنسانيته التي تميز بها عن سائر الأحياء، وارتفع بها إلى أكرم مكان، وتجلى فيها إكرام الله له فيقول له: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الانفطار: 6-8].
إن هذا النص يلتفت إلى واقع الإنسان الحاضر، فإذا هو غافل لاهٍ سادر، ويلمس قلبه لمسة فيها عتاب رضى، وفيها وعيد خفي، وفيها تذكير بنعمة الله الأولى عليه، نعمة خلقه في هذه الصورة السوية، على حين يملك ربه أن يركبه في أي صورة شاء، ولكنه سبحانه اختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة وهو لا يشكر ولا يقدر، بل يغتر ويستكبر.
يا أيها الإنسان الذي تكرم عليك ربك، ما الذي غرك بربك الكريم فجعلك تستكبر عن الإيمان به، وتعرض عن طاعته، وتقصر في حقه، وتتهاون في أمره، ويسوء أدبك في جانبه، وهو ربك الكريم الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبره، ومن هذا إنسانيتك التي تميزك عن سائر خلقه.
أغرك علمه وحلمه؟.. أم غرتك نعمه وآلاؤه؟.. أم غرك جهلك بربك؟..
إنه نداء وخطاب يهز كل ذرة في كيان الإنسان، وربه يعاتبه هذا العتاب الجميل، ويذكره هذا الجميل، بينما هو سادر في التقصير، سيء الأدب في حق مولاه، الذي خلقه فسواه.
إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة الكاملة الشكل والوظيفة أمر يستحق التدبر الطويل، والشكر العميق، والأدب الجم، والحب لربه الكريم الذي أكرمه بهذه الخلقة تفضلاً منه ورعاية منه.
وإن الجمال والسواء والاعتدال لتبدو في تكوين الإنسان الجسدي، وفي تكوينه الروحي، وفي تكوينه العقلي.
فسبحان: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 7، 8].
وإنه ما من خلق حادث مهما كان إلا وفيه نقص يصغره، وما يقال عن خلق من خلق الله كبير، أو أمر من الأمور كبير، أو عمل من الأعمال كبير، حتى يتضاءل بمجرد أن يذكر الله الكبير المتعال.
(13/40)
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الجاثية: 36، 37].
ومراد الله من العباد إيمانهم وصلاح قلوبهم، فإذا طلب العبد العلم ليعمل به صلح قلبه وزاده تواضعاً، وإذا طلبه لغير العمل به فسد قلبه وزاده فخراً وكبراً.
والسيئة التي لا تنفع معها حسنة هي الكبر، والسجود يذهب الكبر، والتوحيد يذهب الرياء.
والتواضع في الخلق كلهم حسن.. وفي الأمراء والعلماء والأغنياء أحسن.. والتكبر في الخلق كلهم قبيح.. وفي الفقراء أقبح.
4- آفة العُجْب
قال الله تعالى: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 25].
وقال تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 49].
آفات العجب كثيرة:
فإن العجب يدعو إلى الكبر؛ لأنه أحد أسبابه، فيتولد من العجب الكبر، ومن الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى كما سبق، هذا مع العباد.
وأما مع الله تعالى فالعجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها، وما يتذكره منها يستصغره ولا يستعظمه، فلا يجتهد في تداركه وتلافيه، بل يظن أنه يُغفر له.
وأما العبادات والأعمال فالمعجب يستعظمها ويتبجح بها، ويمن على الله بفعلها، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق لها، والتمكين منها، ثم إذا أعجب بها عمي عن آفاتها، ومن لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه ضائعاً.
والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه، ويأمن مكر الله وعذابه، ويظن أنه عند الله بمكان، وأن له عند الله منَّة وحقاً بأعماله التي هي نعمة وعطية من عطاياه، ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها.
وإن أعجب برأيه وعقله وعمله منع ذلك من الاستفادة والاستشارة والسؤال، فيستبد بنفسه ورأيه، ويستنكف مِنْ سؤال مَنْ هو أعلم منه.
ومن أعظم آفات العجب أن يفتر العبد عن السعي لظنه أنه قد فاز، وأنه قد استغنى، وهذا هو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه.
فهذا وأمثاله من آفات العجب، فلهذا صار من المهلكات.
(13/41)
والعجب: هو استعظام النعمة والركون إليها، مع نسبتها إلى نفسه ونسيان إضافتها إلى المنعم.
وعلة العجب: الجهل المحض.
وعلاجه المعرفة المضادة لذلك الجهل، فما يدخل تحت اختيار العبد إذا حصله من مال أو علم أو عبادة أو إحسان فهذا له حالتان:
إن كان إنما يعجب به من حيث أنه فيه فهو محله ومجراه يجري فيه وعليه من جهة غيره، فهذا جهل، إذ كيف يعجب بما ليس إليه ولا منه؟.
وإن كان يعجب به من حيث أنه هو منه وإليه، وباختياره حصل، وبقدرته تم، فهذا ينبغي أن يتأمل في قدرته وإرادته وسائر الأسباب التي يتم بها عمله، من أين هي؟ ومن أين كانت له؟.
فإن كان جميع ذلك نعمة من الله عليه من غير حق سبق له، ومن غير وسيلة يدلي بها، فينبغي أن يكون إعجابه بجود الله وكرمه وفضله، إذ أفاض عليه ما لا يستحقه، وآثره به على غيره من غير سابقة.
فكل خير وفضل حصل للعبد فهو من الله وحده، والواجب شكره عليه، ومهما غلب ذلك على القلب شغله خوف سلب هذه النعمة عن الإعجاب بها.
وما يحصل به العجب أمور:
الأول: أن يعجب الإنسان ببدنه في جماله وصحته وقوته وحسن صورته وحسن صوته، ونحو ذلك، فيلتفت إلى جمال نفسه وينسى أنه نعمة من الله تعالى، وهو بعرضة الزوال في كل حال.
الثاني: البطش والقوة كما حكى الله عن قوم عاد بقوله سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 15].
الثالث: العجب بالعقل والفطنة، وذلك يولد الاستبداد بالرأي، وترك المشورة، واستجهال الناس المخالفين له، ويخرجه إلى قلة الإصغاء إلى أهل العلم، إعراضاً عنهم بالاستغناء بالرأي والعقل، واستحقاراً لهم وإهانة.
وعلاجه: أن يشكر الله تعالى على ما رزقه من نعمة العقل، وأنه قادر على سلبه منه.
الرابع: العجب بالنسب الشريف، حتى يظن بعضهم أنه ينجو بسبب شرف نسبه، ونجاة آبائه، وأنه مغفور له، ويتخيل بعضهم أن جميع الخلق له موال وعبيد.
(13/42)
وعلاجه: أن يعلم أن شرف الإنسان بطاعة ربه وتقواه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 13].
الخامس: العجب بكثرة الأتباع من الأولاد والأنصار والعشيرة ونحو ذلك.
وعلاجه: أن يعلم أن الكل ضعيف عاجز لا يملك واحد منهم لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً، وأنهم يموتون ويتركونه، ويهربون منه يوم القيامة فكيف يعجب بهم.
السادس: العجب بالمال، كما قال صاحب الجنتين لصاحبه: (? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 34].
وعلاجه: أن يتفكر في آفات المال وغوائله، وكثرة حقوقه، وينظر إلى فضيلة الفقراء، وسبقهم إلى الجنة يوم القيامة، ويتذكر أن المال غاد ورائح لا أصل له.
السابع: العجب بالرأي الخطأ كما قال سبحانه: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [فاطر: 8].
وجميع أهل البدع والضلال إنما أصروا عليها لعُجْبهم بآرائهم.
والعجب بالبدعة هو استحسان ما يسوق إليه الهوى والشهوة مع ظن كونه حقاً.
وعلاج هذا العجب أشد من علاج غيره؛ لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه، ولو عرفه لتركه، ولا يعالج الداء الذي لا يعرف، والجهل داء لا يُعرف، فتعسر مداواته جداً؛ لأن العارف يقدر على أن يبين للجاهل جهله ويزيله عنه، إلا إذا كان معجباً برأيه وجهله فإنه لا يصغي إلى العارف ويتهمه.
فمن سلط الله عليه بلية تهلكه وهو يظنها نعمة.. فكيف يمكن علاجه؟.
وكيف يطلب الهرب مما هو سبب سعادته في اعتقاده؟.
وعلاجه: أن يكون متهماً لرأيه أبداً لا يغتر به، إلا أن يشهد له قاطع من كتاب، أو سنة، أو دليل عقلي صحيح.
5- آفة الغرور
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ?) [فاطر: 5].
وقال تعالى: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الانفطار: 6-8].
الغرور: هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان.
فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور.
(13/43)
وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه، فأكثر الناس إذاً مغرورون، وإن اختلفت أصناف غرورهم، واختلفت درجات غرورهم، وأظهرها وأشدها غرور الكفار والعصاة والفساق:
فالكفار: منهم من غرته الحياة الدنيا، ومنهم من غره بالله الغرور.
فالذين غرتهم الحياة الدنيا قالوا: النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، والآخرة نسيئة، فهي إذن خير فلا بدَّ من إيثارها: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 86].
وعلاج هذا الغرور بأمرين:
أحدهما: الإيمان بالله وتصديقه فيما قال عن الدنيا والآخرة: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [الشورى: 36].
وقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [الضحى: 4].
الثاني: البرهان، فالدنيا نقد، والآخرة نسيئة، هذا صحيح، واللبس جاء من كون النقد خير من النسيئة، فليس الأمر كذلك، بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير، وإن كان أقل منها فالنسيئة خير، والكافر المغرور لا يعلم أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم.
لذا يركن إلى شهوات الدنيا ولذاتها مع أنها مشوبة بالأمراض والآفات والأكدار.
والمسلمون إذا ضيعوا أوامر الله تعالى، وهجروا الأعمال الصالحة، ولابسوا الشهوات والمعاصي، فهم مشاركون للكفار في هذا الغرور؛ لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، لكن أمرهم أخف؛ لأن أصل الإيمان يعصمهم من عقاب الأبد، فيخرجون من النار بعد تطهيرهم من المعاصي.
ولكنهم من المغرورين، فإنهم اعترفوا أن الآخرة خير من الدنيا، ولكنهم مالوا إلى الدنيا وآثروها، ومجرد الإيمان بلا عمل لا يكفي للفوز بالجنة، فوعد الله للمؤمنين بالمغفرة ودخول الجنة كله منوط بالإيمان والعمل الصالح جميعاً، فهو مركب منهما لا بالإيمان وحده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 107].
وغرور الكفار والعصاة بالله ألوان وأشكال.
(13/44)
ومنه قول بعضهم في أنفسهم وألسنتهم إنه لو كان لله من معاد فنحن أحق به من غيرنا، ونحن أوفر حظاً فيه، وأسعد حالاً كما قال سبحانه عن الكافر الذي يحاور صاحبه المؤمن قائلاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?) [الكهف: 34-36].
وسبب هذا الغرور، أن الكفار والعصاة ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعيم الآخرة، وينظرون مرة إلى تأخير العذاب عنهم في الدنيا فيقيسون عليه عذاب الآخرة، وأنه لا يصيبهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں) [سبأ: 35].
وقال عنهم: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [المجادلة: 8].
ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم شعث فقراء فيزدرونهم ويحتقرونهم فيقولون: (پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 53].
ويقولون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحقاف: 11].
وقد نشأ هذا الغرور من ظن الإنسان أنه كريم عند الله ومحبوب له، وإلا لما أحسن إليه، فيقول قد أحسن الله إلينا في الدنيا، وكل محسن فهو محب، وكل محب فإنه يحسن في الحاضر والمستقبل.
واللبس حصل تحت ظنه أن كل محسن محب، بل تحت ظنه أن إنعامه عليه في الدنيا إحسان، فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عنده بدليل ما أعطاه من الأموال والشهوات، وما علم أن الذي يبغضه الله يهمله ليعيش كيفما يريد، والذي يحبه يشغله بطاعته وعبادته.
فيظن هذا العبد المهمل حين يتركه ربه يتمتع بشهواته ولذاته أنه عند سيده محبوب كريم، وذلك محض الغرور، وهكذا نعيم الدنيا ولذاتها مهلكات ومبعدات عن الله، ومنشأ هذا الغرور أنه استدل بنعم الدنيا على أنه كريم عند ذلك المنعم، والمغرور إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامة من الله، وإذا صرفت عنه ظن أنها هوان كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الفجر: 15، 16].
فأجاب الله عن ذلك بقوله: (ھ ھ) [الفجر: 17].
(13/45)
أي ليس كما قال، إنما هو ابتلاء من الله، فليس الإعطاء دليل كرامة من الله، ولا المنع دليل إهانة، ولكن الكريم من أكرمه الله بطاعته غنياً كان أو فقيراً، والمهان من أهانه الله بمعصيته غنياً كان أو فقيراً.
ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وعلاجه بمعرفة دلائل الكرامة والإهانة في كتاب الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 55، 56].
وقوله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 55].
فمن آمن بالله تخلص من هذا الغرور.
ومن غرور العصاة من المؤمنين قولهم: إن الله كريم، وإنا لنرجو عفوه، واتكالهم على ذلك وإهمالهم الأعمال والتوبة، وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين فلا يعملون، وأن نعمة الله واسعة، ورحمته شاملة، وكرمه عميم، وأين معاصي العباد في بحار رحمته، وربما كان مستند رجائهم التمسك بصلاح الآباء وعلو مرتبتهم.
فيتركون الطاعات ويخوضون في الفسق والفجور اعتماداً على ذلك، وذلك نهاية الاغترار بالله تعالى، فإن الإسلام إيمان وأعمال، ولا تزر وازرة وزر أخرى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النجم: 39-41].
فمن ظن أنه ينجو بتقوى أبيه كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه، ويصير عالماً بتعلم أبيه، وهذا يجمع مع الغرور الجهل والسفه، فالتقوى فرض عين على كل مسلم، فلا يجزى فيه والد عن ولده شيئاً.
والله كريم، وإنا لنرجو مغفرته ورحمته، هذا كله كلام صحيح مقبول، ولكن الشيطان لا يغوي الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر، مردود الباطن، ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب، واغترت به النفوس.
وقد حول الشيطان الأماني وسماها رجاءً بلا عمل حتى خدع بها كثيراً من الجهال، وقد شرح الله الرجاء فقال: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 218].
(13/46)
فلا يحصل في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح، فسنة الله في عباده كل نفس بما كسبت رهينة، فما الذي غركم بالله بعد أن سمعتم وعقلتم؟ (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 10، 11].
وموضع الرجاء المحمود في أمرين:
أحدهما: في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة، فقنطه الشيطان من رحمة الله، فيجب هنا أن يقمع القنوط بالرجاء بأن الله يغفر الذنوب جميعاً، وأنه كريم يقبل التوبة من كل مذنب.
فإذا توقع المغفرة مع التوبة فهو راج، وإن توقع المغفرة مع الإصرار على المعصية فهو مغرور.
الثاني: أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال، ويقتصر على الفرائض، فيرجِّي نفسه نعيم الله تعالى، وما وعد به الصالحين، حتى ينبعث من الرجاء نشاط العبادة فيقبل على الفضائل.
فالرجاء الأول يقمع القنوط المانع من التوبة، والرجاء الثاني يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر.
فكل توقع حث على توبة أو على تشمر في العبادة فهو رجاء، وكل رجاء أوجب فتوراً في العبادة وركوناً إلى البطالة فهو غرور.
فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل.. فما لا يبعث على العمل فهو تمنٍّ وغرور.. ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم.. وسبب إقبالهم على الدنيا.. وسبب إعراضهم عن الله تعالى.. وإهمالهم السعي للآخرة.
وقد كان المسلمون في القرن الأول يواظبون على العبادات، ويبالغون في التقوى والحذر من الشبهات، ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 60، 61].
وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي، وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله وعفوه.
فهؤلاء يضعون الطمع موضع الخوف، إن أحسن أحدهم قال: يتقبل مني، وإن أساء قال: يغفر الله لي فهو الكريم المنَّان، فما أجهل هؤلاء بتخويفات القرآن.
وأهل الغرور أربعة أصناف:
الأول: أهل العلم.
(13/47)
ومن هؤلاء من أحكم العلوم الشرعية وتعمق فيها، وأهمل تفقد الجوارح، وحفظها من المعاصي، وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان، وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغاً لا يعذب الله مثلهم.
ومنهم من أحكم العلم والعمل فواظبوا على الطاعات، وتركوا المعاصي، لكنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا عنها الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد، والرياء، وطلب الرياسة، والعلو، وطلب الشهرة في البلاد والعباد.
فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم، ونسوا قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُم» أخرجه مسلم(1).
ومنهم من علم أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة من جهة الشرع إلا أنهم لعُجْبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بها، وإنما يبتلى بها العوام دون من بلغ مبلغهم من العلم والعمل.
ومنهم من أحكم العلم والعمل، وطهر النفس من الأخلاق الذميمة، ولكنهم بعد مغرورون، إذ بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان ما بقي مما لم يفطن له.
فترى العالم يسهر ليله ونهاره في جمع العلوم وترتيبها، وتحسين ألفاظها، وهو يرى أن باعثه الحرص على إظهار دين الله ونشر شريعته، ولعل باعثه الخفي هو طلب الذكر وانتشار الصيت في الأطراف، وانطلاق الألسنة عليه بالثناء والمدح بالزهد والورع والعلم، والرحلة إليه من الأطراف، والاجتماع حوله للاستفادة ونحو ذلك، ومنهم من اشتغل بالكلام ومجادلة أهل الأهواء وهم فرقتان: ضالة، ومحقة، فالضالة تدعو إلى غير السنة.. والمحقة هي التي تدعو إلى السنة.
والغرور شامل لجميعهم.
أما الضالة: فلغفلتها عن ضلالها وظنها بنفسها النجاة.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2564).
(13/48)
وأما المحقة: فاغترارها من حيث أنها ظنت بالجدل أنه أهم الأمور، وأفضل القربات في دين الله، وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يفحص ويبحث ويجادل.
فلهذا الظن الفاسد قطعت أعمارها في تعلم الجدل، وأهملوا أنفسهم وقلوبهم حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة والباطنة، وقلدهم غيرهم ممن تعلم على أيديهم.
ومنهم من اشتغل بالوعظ والتذكير، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس، وصفات القلب من الخوف والرجاء، والمحبة واليقين والإخلاص، والصبر والشكر ونحوها، وأكثرهم مغرور؛ لأنهم يظنون أنهم إذا تكلموا بها فقد صاروا موصوفين بها، وهم عند الله منفكون عنها.
وغرور هؤلاء أشد الغرور؛ لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب.
ومنهم من عدل عن المنهاج الواجب في الوعظ، فاشتغلوا بالطامات والشطح، وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعقل طلباً للإغراب.
ومنهم من اشتغل بطيارات النكت والمضحكات، وسجع الألفاظ وتلفيقها وغرضهم أن تكثر في مجالسهم الزعقات والضحكات.
فهؤلاء شياطين الإنس قد ضلوا وأضلوا.
ومنهم من حفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا، فيؤدونها للناس من غير إحاطة بمعانيها، ومن غير أن يحفظ الواحد منهم ظاهره وباطنه عن الآثام ظناً منه أن كلام أهل الدين يكفيه، فما أشد غرور هؤلاء؟.
ومنهم من استغرق أوقاته في سماع الحديث، وجمع الروايات الكثيرة منه، وطلب الأسانيد الغريبة العالية، فهمة أحدهم أن يدور في البلاد، ويرى الشيوخ ليقول أنا أروي عن فلان، وما أكثر ما يحمل من الأحاديث ولا يعمل به، وينشغل بجمع الروايات ويغفل عن معرفة علاج القلب والعمل بما جمع.
ومنهم من اشتغل بعلم اللغة والنحو واغتروا به، وزعموا أنهم من علماء الأمة إذ قوام الدين بالكتاب والسنة، وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو، فأفنى هؤلاء أعمارهم في دقائق النحو واللغة، وكان يكفيهم أن يتعلموا أصل الخط بحيث يمكن أن يقرأ والباقي زيادة.
(13/49)
الصنف الثاني: أرباب العبادة والعمل، والمغرورون منهم أصناف:
فمنهم من غروره في الصلاة.. ومنهم من غروره في تلاوة القرآن.. ومنهم في الحج.. ومنهم في الغزو.. ومنهم في الزهد، وكل مشغول بمنهج من مناهج العمل، وليس خالياً من الغرور إلا الأكياس، وقليل ما هم.
فمنهم فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالفضائل والنوافل.
ومنهم من غلبت عليه الوسوسة في نية الصلاة، فلا يدعه الشيطان يعقد نية صحيحة، بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة، ويخرج الصلاة عن وقتها.
ومنهم من يصوم ولا يحفظ لسانه عن الغيبة، وخاطره عن الرياء، وبطنه عن الحرام عند الفطر والسحور.
ومنهم من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وينسى نفسه.
ومنهم من زهد في المال، وقنع من اللباس بالدون، ومن المسكن بالمسجد، وظن أنه أدرك رتبة الزهاد وهو مع ذلك راغب في الرياسة والجاه إما بالعلم أو بالوعظ ونحوهما.
ومنهم من حرص على النوافل وأهمل الفرائض، فترى أحدهم يحرص على صلاة الليل، ويفرح بصلاة الضحى ونحوهما، ولا يجد للفريضة لذة، ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت.
الصنف الثالث: من وقع في الإباحة وطووا بساط الشرع، ورفضوا الأحكام وسووا بين الحلال والحرام، فبعضهم يزعم أن الله مستغن عن عمله فَلِمَ يُتعب نفسه؟، وبعضهم يقول قد كُلِّف الناس تطهير القلوب عن الشهوات وحب الدنيا وذلك محال، فقد كلفوا ما لا يمكن فقعد عن العمل.
ومنهم من ضيق على نفسه في طلب الحلال الخالص من القوت، وأهمل تفقد القلب والجوارح في غير هذه الخصلة.
الصنف الرابع: أرباب الأموال، والمغترون منهم فرق:
فمنهم من يحرص على بناء المساجد والمدارس، ويكتبون أسماءهم عليها ليخلد ذكرهم بعد موتهم، وهم يظنون أنهم قد استحقوا المغفرة بذلك، فهؤلاء إن بنوها من أموال كسبوها من ظلم ونهب ورشوة ونحوها فقد تعرضوا لسخط الله في كسبها، وتعرضوا لسخطه في إنفاقها.
(13/50)
ومنهم من كسب المال من الحلال وأنفقه على بناء المساجد، ولكنه يريد الرياء وطلب الثناء، ويصرف في زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش ما يشغل المصلين، ويخطف أبصارهم، ويحسب أن ذلك من الخيرات، وهو من الإسراف الذي لا يحب الله صاحبه.
ومنهم من ينفقون الأموال على الفقراء والمساكين في المحافل الجامعة، ويكرهون الصدقة في السر، ويرون إخفاء الفقير لما يأخذه منهم جناية عليهم وكفراناً لإحسانهم.
ومنهم من يحفظون الأموال ويمسكونها بحكم البخل، ويشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى نفقة كصيام النهار، وقيام الليل، وختم القرآن، وهم مغرورون؛ لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم.
ومنهم من غلبه البخل، فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط، ثم إنهم يخرجون من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه، ويطلبون من الفقراء من يخدمهم ليعطوه إياه، والله يقول: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?) [البقرة: 267].
وفرقة أخرى من عوام الخلق وأرباب الأموال والفقراء اغتروا بحضور مجالس الذكر، واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم، واتخذوا ذلك عادة، ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون الاتعاظ أجراً، وهم مغرورون؛ لأن فضل مجالس الذكر لكونها مرغبة في الخير، فإن لم يهيج الرغبة فلا خير فيه.
فليحذر الأمراء والعلماء، والدعاة والفقهاء، والأغنياء والوجهاء، من خداع الشياطين، والغرور بالدنيا وشهواتها، وتمتع الكفار بنعيمها، فمتاع الدنيا قليل، يتمتع به المرء قليلاً، ويعذب عليه طويلاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [آل عمران: 196-198].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [فاطر: 5، 6].
(13/51)
ومن أعظم الغرور أن ترى الله عزَّ وجلَّ يتابع عليك نعمه، وأنت مقيم على معصيته، فاحذر ذلك فإنما هو استدراج يستدرجك به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 44].
والشياطين غروا كثيراً من الخلق، وأطمعوهم مع إقامتهم على ما يسخط الله ويغضبه في عفوه وتجاوزه، وحدثوهم بالتوبة لتسكن قلوبهم، ثم دافعوهم بالتسويف حتى هجم الأجل، فأخذوا على أسوأ أحوالهم، والشيطان موكل بالغرور، وقد حذرنا الله منه بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ?) [فاطر: 5].
وأعظم الناس غروراً من إذا مسه الله برحمة ونعمة وفضل قال أنا جدير به ومستحق له، وظن أنه أهل لتلك النعم مع كفره بالله، فاستكبر بها، وصد بها عن سبيل الله، ويزعم أنه لو رجع إلى ربه بعد الموت سينال من الكرامة مثل ما نال في الدنيا مع كفره.
وهذا من أعظم الجرأة والقول على الله بلا علم، فلكفره وكذبه هذا توعده الله بالعذاب الشديد يوم القيامة كما قال سبحانه: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [فصلت: 50].
6- آفة الكذب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 32].
وقال الله تعالى: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [يونس: 17].
لا أظلم ولا أشد ظلماً ممن كَذَب على الله، إما بنسبته إلى ما لا يليق بجلاله، أو بادعاء النبوة، أو الإخبار بأن الله قال كذا، أو أخبر بكذا، أو حكم بكذا، وهو كاذب، أو جاءه الحق المؤيد بالبينات فكذبه، ومن كان جامعاً بين الكذب على الله، والتكذيب بالحق كان ظلماً على ظلم.
وليس هناك أظلم ممن كذب على الله، فزعم أن له بناتاً، أو له شركاء، أو قال إنه فقير، أو قال يد الله مغلولة، أو قال إن الله ثالث ثلاثة، أو قال إن الله هو المسيح بن مريم، أو كذب الرسل ونحو ذلك.
(13/52)
والكذب من أعظم آفات النفس، ويوم القيامة تكون وجوه المكذبين مسودة من الخزي، ومن الكمد، ومن لفح النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [الزمر: 60].
وليس هناك أعظم ظلماً وعناداً ممن كَذَب على الله أو كذب بآياته التي جاءت بها الرسل، فهذا أظلم الناس، والظالم لا يفلح أبداً كما قال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 21].
والكذب من قبائح الذنوب، وفواحش العيوب، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا» متفق عليه(1).
والكلام وسيلة إلى المقاصد:
فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً، كما أن عصمة دم المسلم واجبة.
فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب، ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو إصلاح ذات البين إلا بكذب فالكذب مباح، إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن.
لأنه إذا فَتَح باب الكذب على نفسه فيُخشى أن يَتَداعى إلى ما يُستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة، فيكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6094) ومسلم برقم (2607). واللفظ له.
(13/53)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا أوْ يَقُولُ خَيْرًا» متفق عليه(1).
والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر التي لا يقاومها شيء، ويدخل في هذا فتوى العالم بما لا يتحققه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» متفق عليه(2).
والكذب: هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، وهو من سيء الأخلاق، والكذب من صفات المنافقين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ، إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه(3).
والكذب ضربان:
كذب في الأقوال.. وكذب في الأفعال.
فكما يكون الصدق والكذب في الأقوال يكونان في الأفعال، فقد يفعل الإنسان فعلاً يوهم به حدوث شيء لم يحدث، أو يعبر به عن وجود شيء غير موجود، وذلك على سبيل المخادعة.
والكذب في الأقوال أكثر من الأفعال؛ لسهولته، والكذب كله شر، والكذب في الأقوال خطير، وربما كان الكذب في الأفعال أشد خطراً وأقوى تأثيراً من الكذب في الأقوال كما حكى الله من أقوال وأفعال إخوة يوسف حين ألقوه في الجب: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [يوسف: 16-18].
فجمعوا بين كذب القول.. وكذب الفعل.
ورخَّص الشرع في الكذب في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل مع امرأته، وحديث المرأة مع زوجها، وذلك على طريق التورية والتعريض دون التصريح به، كما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم ممن أنت؟ فقال: «من ماء».
فورى عن الإخبار بنسبه بأمر محتمل.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2692) واللفظ له، ومسلم برقم (2605).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (110)، ومسلم برقم (3).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (33)، ومسلم برقم (59).
(13/54)
وكما سئل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في طريق الهجرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: هاد يهديني السبيل، فظنوا أنه يعني هداية الطريق، وهو إنما يعني هداية سبيل الخير.
وأسباب الكذب ودواعيه كثيرة، ومنها:
جلب النفع، ودفع الضر، فيرى الكذاب أن الكذب أسلم وأغنم فيرخِّص فيه لنفسه؛ طمعاً في حصول ما يريد به.
ومنها أن يُؤْثِر أن يكون حديثه مستعذباً، وكلامه مستظرفاً، فلا يجد صدقاً يعذب، فيستحلي الكذب الذي يسهل اجتراره، وتطرب الآذان عند سماعه.
ومنها حب الترأس، وذلك أن الكاذب يرى له فضلاً على المخبر بما أعلمه، فهو يتشبه بالعالم الفاضل في ذلك.
ومنها أن يكون الكذب له عادة، ونفسه إليه منقادة، فهو يألف دواعي الكذب ويستملحه.
ومنها أن يقصد بالكذب التشفي من عدوه، فيسمه بقبائح يخترعها عليه، ويصفه بفضائح ينسبها إليه.
وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها، يعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله، فيستحكم عليه الفساد ثم يهلك.
والكذب داء لا يصلح منه جد ولا هزل، يمزق الأمم، ويقطع الأرحام، وتؤكل به الحقوق، وتنتهك الحرمات، ويهدي إلى الفجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ ا? صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ ا? كَذَّابًا» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (6094)، ومسلم برقم (2607) واللفظ له.
(13/55)
وقال صلى الله عليه وسلم : «ألا أنَبِّئُكُمْ بِأكْبَرِ الْكَبَائِرِ».. ثَلاثًا، قالوا: بَلَى يَا رَسُولَ ا?، قال: «الإِشْرَاكُ بِا?، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» -وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقال: «ألا وَقَوْلُ الزُّورِ». قال: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. متفق عليه(1).
7- آفة اللسان
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [النساء: 114].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 11].
الله عزَّ وجلَّ خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلَّمه البيان، وأفاض على قلبه خزائن العلوم فأكمله، ثم أمده بلسان يترجم به عما حواه قلبه وعقله.
واللسان من نعم الله العظيمة، فهو صغير جرمه، عظيم نفعه، وعظيم جُرمه، رحب الميدان:
له في الخير مجال رحب.. وله في الشر مجال رحب.
فمن أطلق عذبة اللسان، وأهمله مرخي العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار، إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم.
ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة.
وأعصى الأعضاء على الإنسان اللسان، فإنه لا تعب في إطلاقه، ولا مؤنة في تحريكه، وأكثر الأخطار والشرور من طريقه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2654)، واللفظ له، ومسلم برقم (87).
(13/56)
فخطر اللسان عظيم، ولا نجاة من خطره إلا بالصمت، فلذلك مدح الشرع الصمت وحث عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ». قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ» متفق عليه(1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» أخرجه البخاري(2).
وسبب فضيلة الصمت أمران:
أحدهما: ما في الصمت من جمع الهمم، ودوام الوقار، والفراغ للفكر والذكر والعبادة، والسلامة من تبعات القول في الدنيا، ومن حسابه في الآخرة.
كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ق: 18].
الثاني: ما في نطق اللسان من كثرة الآفات من الخطأ والكذب، والغيبة والنميمة، والرياء والنفاق، والفحش والمراء، وتزكية النفس، والخوض في الباطل، والخصومة والجدال، والزيادة والنقصان، وإيذاء الخلق، وهتك العورات.
فهذه آفات كثيرة، وهي لا تَثْقل على اللسان، ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك لسانه فيطلقه بما يحب، ويكفه عما لا يحب.
ففي الخوض خطر.. وفي الصمت سلامة، فلذلك عظمت فضيلته.
وآفات اللسان كثيرة، ولها في القلب حلاوة، ولا نجاة من خطرها إلا بالصمت.
وهذه أهم آفات اللسان:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6019)، ومسلم برقم (48).
(2) أخرجه البخاري برقم (6474).
(13/57)
الآفة الأولى: الكلام فيما لا يعني، فمن عرف قدر زمانه، وأنه رأس ماله، حبس لسانه عن الكلام فيما لا يعنيه، واشتغل بذكر ربه والطاعات وأعمال البر المختلفة، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
الآفة الثانية: الخوض في الباطل، وهو الكلام في المعاصي كذكر مجالس اللهو والخمر، وأحوال الفساق، ونحو ذلك من الجدال والمراء الذي ينتهي غالباً بالسب والفرقة.
الآفة الثالثة: التقعر في الكلام بالتشدق، وتكلف السجع، ليُظهر الإنسان نفسه، ويُعجب الناس بحلاوة كلامه، فيفقد الإخلاص.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ» قَالُوا يَا رَسُولَ ا? قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ، قَالَ «الْمُتَكَبِّرُونَ» أخرجه الترمذي(1).
الآفة الرابعة: الفحش في الكلام والسب والبذاء ونحو ذلك مما هو مذموم.
والفحش: هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ما يكون ذلك في ألفاظ الجماع وما يتعلق به.
وليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء.
الآفة الخامسة: المزاح.
أما اليسير منه فلا بأس به إذا كان حقاً وصدقاً، وكان مع الصبيان والنساء الكبار، ومن يحتاج إلى تأديبه من ضعفاء الرجال.
وكثرة المزاح تسقط الوقار، وتوجب الضغائن والأحقاد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً.
الآفة السادسة: السخرية والاستهزاء:
والسخرية الاحتقار والاستهانة بالناس، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يُضْحَك منه بالقول، أو الفعل، أوالإشارة، أو الإيماء.
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2018)، صحيح سنن الترمذي (1642).
(13/58)
والضحك على الناس والسخرية بهم من جملة الذنوب والكبائر التي حرمها الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 11].
الآفة السابعة: إفشاء السر، وإخلاف الوعد، والكذب في القول واليمين، وكل ذلك منهي عنه إلا ما رُخص فيه من الكذب في الحرب، والإصلاح بين الناس، وعلى الزوجة ليراضيها لمصلحة راجحة، وتباح المعاريض عند الحاجة إليها.
الآفة الثامنة: الغيبة.
والغيبة: ذكرك أخاك الغائب بما يكره.
والغيبة محرمة، والمستمع للغيبة شريك فيها إلا أن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك.
وعلاج الغيبة: أن يعلم المغتاب أنه بالغيبة متعرض لسخط الله تعالى ومقته، وأن حسناته تُنقل إلى من اغتابه، وإن لم تكن له حسنات نُقل إليه من سيئات خصمه، وإذا عَرضت له الغيبة تفكر في عيوب نفسه، واشتغل بإصلاحها، فيستحي أن يَعيب وهو مَعيب.
وإن ظن أنه سليم من العيوب فليشكر ربه، ولا يلوث نفسه بأقبح العيوب وهو الغيبة، وكما لا يرضي نفسه بغيبة غيره له فينبغي أن لا يرضاها لغيره من نفسه.
وقد تحصل الغيبة بالقلب، وذلك سوء الظن بالمسلمين، ومن آفات سوء الظن التجسس، فإن القلب لا يقنع بالظن فيشتغل بالتجسس، وذلك منهي عنه؛ لأنه يوصل إلى هتك ستر المسلم، وهو محرم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 12].
أما كفارة الغيبة:
فالمغتاب قد جنى جنايتين:
إحداهما: جناية على حق الله تعالى حيث فعل ما نهاه الله عنه، فكفارة ذلك التوبة والندم.
الثانية: جناية على عِرض المخلوق، فإن كانت الغيبة قد بلغت الرجل جاء إليه واستحله، وأظهر له الندم على فعله.
(13/59)
وإن كانت الغيبة لم تبلغ الرجل، أو مات، جعل مكان استحلاله الاستغفار له، والدعاء له، والثناء عليه، ولا يخبره بما لا يعلمه إن كان حياً؛ لئلا يوغر صدره.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأحد مِنْ عِرْضِهِ أوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أنْ لا يَكُونَ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ » أخرجه البخاري(1).
الآفة التاسعة: النميمة.
والنميمة: هي كشف ما يُكره كشفه من الأقوال والأعمال.
وتطلق غالباً على قول إنسان في آخر، مثل أن يقول: قال فيك فلان كذا وكذا.
والقتات: هو النمام وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ» متفق عليه(2).
الآفة العاشرة: كلام ذي الوجهين.
وهو الذي يثني على الواحد في وجهه، ويذمه عند الآخر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ» متفق عليه(3).
الآفة الحادية عشرة: المدح، وله آفات، منها ما يتعلق بالمادح، فقد يقول ما لا يتحققه، وقد يبالغ في المدح فينتهي إلى الكذب، وقد يمدح من ينبغي أن يُذم.
وأما الممدوح، فإنّ مَدْحه يسبب له الكبر والإعجاب وهما مهلكان، ولأن الإنسان إذا أثني عليه رضي عن نفسه، وظن أنه بلغ المقصود، فيفتر عن العمل.
فإذا سلم المدح من هذه الآفات لم يكن به بأس، فقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الخلفاء الراشدين، والعشرة المفضلين، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2449).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6056)، ومسلم برقم (105) واللفظ له.
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7179)، واللفظ له، ومسلم برقم (2526).
(13/60)
الآفة الثانية عشرة: الخطأ في فحوى الكلام عن الدين:
فالشيطان يخيل للعاصي أنه بخوضه في العلم، ومجالسة العلماء، يكون من أهل العلم والفضل، ولا يزال يحبب إليه ذلك حتى يتكلم بما هو كفر وهو لا يدري.
وسؤال العوام عن غوامض العلوم من أعظم الآفات، فالأولى بهم الإيمان بما ورد في القرآن، والتسليم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والاشتغال بالأعمال الصالحة، وعدم التوسع فيما لا يقدرون على فهمه.
الآفة الثالثة عشرة: الغناء وهو ما يفسد القلوب، وقد غَرَّ به الشيطان خلقاً كثيراً من العوام والعلماء والزهاد حتى ظنوه قربة إلى الله.
الآفة الرابعة عشرة: اللعن: إما لحيوان أو جماد أو إنسان وكل ذلك مذموم، والمؤمن ليس بالطعان ولا اللعان.
واللعن: عبارة عن الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده عن الله عزَّ وجلَّ مثل الكفر والظلم ونحوهما، وينبغي أن يتبع فيه لفظ الشرع فإن في اللعنة خطراً؛ لأنه قد حكم على الله عزَّ وجلَّ بأنه قد أبعد الملعون، وذلك غيب لا يطلع عليه إلا الله تعالى.
والصفات المقتضية للعن ثلاثة:
الكفر.. والبدعة.. والفسق.
وللعن في كل واحدة ثلاث مراتب:
الأولى: اللعن بالوصف الأعم كقوله: لعنة الله على الكافرين والمبتدعة والفسقة.
الثانية: اللعن بوصف أخص منه كقوله: لعنة الله على اليهود والنصارى أو لعنة الله على الزناة والظلمة، وآكلي الربا، وكل ذلك جائز.
الثالثة: اللعن للشخص المعين، وهذا فيه خطر كقوله: زيد لعنه الله، وهو كافر أو فاسق أو مبتدع.
والتفصيل فيه: أن كل شخص ثبتت لعنته شرعاً فتجوز لعنته كقولنا: فرعون لعنه الله، وأبو جهل لعنه الله؛ لأنه ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر، وعرف ذلك شرعاً.
وإما شخص بعينه كقول: زيد لعنه الله، وهو يهودي مثلاً، فهذا فيه خطر؛ لأنه ربما يُسلم فيموت مقرباً عند الله، فكيف يحكم بكونه ملعوناً؟.
(13/61)
فعلى المسلم أن يصون لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة وقول الزور وغير ذلك مما نهى الله ورسوله عنه.
واللسان من نعم الله تبارك وتعالى العظيمة اللطيفة، فهو صغير جِرمه، عظيم طاعته ونفعه، وعظيم خطره وجُرمه.
فلا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والمعصية.
والكلام ترجمان يعبر عما في الضمائر، ويخبر بمكنونات السرائر.
وللكلام شروط لا يسلم المتكلم من الزلل إلا بها، وهي:
الأول: أن يكون الكلام لداع يدعو إليه إما في جلب نفع، أو دفع ضرر، ذلك أن ما لا داعي له هذيان، وما لا سبب له هُجْر.
الثاني: أن يقتصر من الكلام على قدر حاجته منه، فإن الكلام إن لم ينحصر بالحاجة لم يكن لحده غاية، ولا لقدره نهاية، ومن كَثُر كلامه كثر سقطه.
الثالث: اختيار الألفاظ التي يتكلم بها؛ لأن اللسان عنوان الإنسان، فلا يتجاوز في مدح، ويسرف في ذم.. ولا تبعثه الرغبة والرهبة في وعد أو وعيد يعجز عنهما.. وإذا قال قولاً حققه بفعله.. وإذا تكلم بكلام صدقه بعمله.. ويراعي مخارج كلامه بحسب مقاصده.. فإن كان ترغيباً قرنه باللين واللطف.. وإن كان ترهيباً خلطه بالخشونة والخوف.. ولا يرفع صوته بكلام مكروه.. ولا ينزعج له انزعاجاً مستهجناً.. ويكف عن حركة تكون طيشاً.. ويتجافى هجر القول ومستقبح الكلام.. وليعدل إلى الكناية عما يُستقبح صريحه ويُستهجن فصيحه.. ؛ ليبلغ الغرض ولسانه نزيه، وأدبه مصون.. ولا يسمع الخنا ولا يصغي إلى فحش ولا يقوله.. ويتجنب أمثال العامة الساقطة.. ولا يذكر في كلامه إلا أمثال القرآن والسنة، وأمثال العلماء والأدباء، فلهذه الأمثال موقع في السمع وتأثير في القلب لا يكاد الكلام المرسَل يبلغ مبلغها ولا يؤثر تأثيرها.
الرابع: أن يأتي بالكلام في موضعه؛ لأن الكلام في غير حينه لا يقع موقع الانتفاع به، فإن قدم ما يقتضي التأخير كان عجلة وخرقاً، وإن أخر ما يقتضي التقديم كان توانياً وعجزاً، فلكل مقام قول.
(13/62)
فما عقل دينه من لم يحفظ لسانه، وحفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم، ومن عد كلامه من عمله لم يتكلم إلا فيما يعنيه، وكثرة الكلام تذهب الوقار، ومن فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع.
ولا خير في الكلام إلا في عشر:
تهليل وتكبير وتسبيح وتحميد.. والسؤال عن الخير.. والتعوذ من الشر.. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وقراءة القرآن.. وما لا بدَّ منه في قضاء حاجته.
8- آفة الرياء
قال الله تعالى: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الماعون: 4-7].
وقال الله تعالى: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [النساء: 142].
الله عزَّ وجلَّ أغنى الأغنياء عن الشرك، فلا يقبل من الأعمال إلا ما كمل وخلص من شوائب الشرك والرياء.
والرياء حرام، والمرائي عند الله ممقوت.
والرياء من أعظم آفات النفس وأشد غوائلها.
وأكثر ما يبتلى بالرياء العلماء والعباد والأغنياء والمجاهدون، والمشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة.
فإن هؤلاء مهما قهروا أنفسهم وجاهدوها، وفطموها عن الشهوات، وصانوها عن الشبهات، وحملوها على أصناف العبادات إلا عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة، فطلبت الاستراحة إلى التظاهر بالخير، وإظهار العلم والعمل، فسارعت إلى إظهار الطاعة، وتوصلت إلى اطلاع الخلق ولم تقنع باطلاع الخالق، وفرحت بحمد الناس، ولم تقنع بحمد الله وحده.
وعلمت أنهم إذا عرفوا تركه الشهوات، وتوقيه الشبهات، وتحمله مشاق العبادات، أطلقو ألسنتهم بالمدح والثناء، ونظروا إليه بعين الوقار والتعظيم، وبالغوا في إطرائه، وتبركوا بمشاهدته، ورغبوا في بركة دعائه، وحرصوا على اتباع رأيه، وفاتحوه بالخدمة والسلام، وأكرموه في المحافل غاية الإكرام، وقدموه في المجالس، وسامحوه في البيع والمعاملات، وتصاغروا له متواضعين.
(13/63)
فأصابت النفس في ذلك لذة هي أعظم اللذات، وشهوة هي أغلب الشهوات، فاستحقرت فيه ترك المعاصي، واستلانت خشونة المواظبة على العبادات؛ لإدراكها في الباطن لذة الشهوات، فهو يرى أنه مخلص في طاعة الله، مجتنب لمحارم الله، والنفس قد أبطنت هذه الشهوة تزيناً للعباد، وتصنعاً للخلق، وفرحاً بما نالت من المنزلة والوقار، وأحبطت بذلك ثواب الطاعات، وأجور الأعمال، وقد أثبت اسمه في صحيفة المنافقين وهو يظن أنه عند الله من المقربين، وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون.
فالرياء هو الداء الدفين، وهو أعظم شبكة للشياطين في إفساد أعمال المؤمنين. وحد الرياء: ترك الإخلاص في العمل بإرادة العامل بعبادته غير وجه الله تعالى كأن يقصد اطلاع الناس على عبادته وعمله فيحصل له منهم نحو مال أو جاه أو ثناء.
وللمرائي أربع علامات:
يكسل إذا كان وحده.. وينشط إذا كان في الناس.. ويزيد في العمل إذا أثني عليه.. ويُنقص العمل إذا ذُم.
والرياء مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع، والرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، إلا أن الجاه والمنزلة تُطلب في القلب بأعمال سوى العبادات، وتطلب بالعبادات.
واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها.
فحد الرياء: هو إرادة العباد بطاعة الله.
فالمرائي هو العابد.. والمراءى هو الناس المطلوب رؤيتهم للظفر بالمنزلة في قلوبهم.. والمراءى به هو الخصال والأعمال التي قصد المرائي إظهارها.. والرياء هو قصده إظهار ذلك.
والمراءى به كثير، وتجمعه ستة أشياء، وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس وهي: البدن.. والزي.. والقول.. والعمل.. والأتباع.. والأشياء الخارجة.
(13/64)
فالأول: الرياء في الدين بالبدن بإظهار النحول والتقشف والصفار، ليوهم بذلك شدة الاجتهاد، وعظم الحزن على أمر الدين، وغلبة خوف الآخرة، وليدل بالنحول على قلة الأكل، وبالصفار على سهر الليل، وبشعث الرأس على استغراق الهم بالدين، وعدم التفرغ لتسريح الشعر.
وهذه الأسباب إذا ظهرت استدل بها الناس على هذه الأمور، فارتاحت النفس لمعرفتهم، ويقرب من هذا خفض الصوت، وإغارة العينين، وذبول الشفتين، ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم.
الثاني: الرياء بالهيئة والزي.
أما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس، وحلق الشارب، وإطراق الرأس في المشي، والهدوء في الحركة، وغلظ الثياب، ولبس المرقعات وتشميرها إلى أعلى الساق، وترك نظافة الثياب، كل ذلك يرائي به ليُظهر من نفسه أنه متبع للسنة فيه.
الثالث: الرياء بالقول.
ويكون بالوعظ والتذكير، والنطق بالحكمة، وحفظ الأخبار والآثار، إظهاراً لغزارة العلم، والانتصار في المحاورات، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق، وإظهار الغضب للمنكرات، وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي ونحو ذلك.
الرابع: الرياء بالعمل.
كمراءاة المصلي بطول القيام، ومد الظهر، وطول السجود والركوع، وإطراق الرأس، ليراه الناس.
وكذلك بالصوم والصدقة والحج والغزو، وإطعام الطعام، والإخبات في المشي عند اللقاء ونحو ذلك.
الخامس: المراءاة بالأصحاب والزائرين كالذي يتكلف أن يستزير عالماً من العلماء ليقال إن فلاناً قد زار فلاناً، أو عابداً من العباد ليقال أن أهل الدين يتبركون بزيارته، وكالذي يكثر من ذكر الشيوخ ليرى الناس أنه لقي شيوخاً كثيرة، فيباهي بشيوخه، ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه.
(13/65)
فهذه بعض ما يرائي به المراءون، وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد، ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته، وتنجز الحوائج على يده، فيقوم له بذلك جاه عند العامة.
ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع الحطام وكسب المال ولو من الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام.
وهؤلاء شر طبقات المرائين.
وأركان الرياء ثلاثة:
المراءى به.. والمراءى لأجله.. ونفس قصد الرياء.
أما نفس قصد الرياء.
فإن كان مراده الرياء لا الثواب فهذا ممقوت عند الله تعالى كمن يصلي بين أظهر الناس ولو انفرد لكان لا يصلي، بل ربما يصلي من غير طهارة على الناس، ومثله من يتصدق خوفاً من مذمة الناس لا رغبة في الثواب، ولو خلا بنفسه لما أداها، فهذه الدرجة أغلظ درجات الرياء وأعلاها وأخطرها.
وإن قصد الثواب لكن قصده ضعيف، بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله، فهذا قريب مما قبله، وما فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإثم.
وإن قصد الثواب وقصد الرياء سواء، بحيث لو كان كل واحد منهما خالياً عن الآخر لم يبعثه على العمل، فلما اجتمعا انبعثت الرغبة، فهذا قد أفسد مثل ما أصلح، وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم من العقاب.
وإن كان اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه، ولو لم يكن لا يترك العبادة فهذا قد لا يحبط أصل الثواب، ولكنه يُنقص منه، أو يعاقب على مقدار الرياء، ويثاب على مقدار قصد الثواب.
فهذه أربع درجات في نفس قصد الرياء.
وأما المراءى به: وهو الطاعات فينقسم إلى الرياء بأصول العبادات، وإلى الرياء بأوصافها.
فالرياء بالأصول على ثلاث درجات:
الأولى: الرياء بأصل الإيمان، وهذا أغلظ أبواب الرياء، وصاحبه مخلد في النار، وهو الذي يظهر كلمة الشهادة، وباطنه مشحون بالتكذيب، ولكنه يرائي بظاهر الإسلام.
(13/66)
وهؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون الإسلام رياء ويبطنون الكفر، وهم مخلدون في أسفل النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 145].
وليس وراء هذا الرياء رياء، وحال هؤلاء أشد حالاً من الكفار المجاهرين فإنهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر.
الثانية: الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين، وهذا عظيم عند الله لكنه دون الأول بكثير كأن يدخل وقت الصلاة وهو في جمع من الناس، وعادته ترك الصلاة في الخلوة فيصلي معهم، ولو كان وحده لم يصل، أو يصوم رمضان وهو يشتهي خلوة ليفطر، أو يخرج الزكاة أمام الناس خوفاً من ذمه، والله يعلم منه أنه لا يحب إخراجها.
فهذا مراء معه أصل الإيمان بالله، يعتقد أنه لا معبود سواه، ولكنه يترك العبادات والفرائض للكسل، وينشط عند اطلاع الناس عليه، فتكون منزلته عند الخلق أحب إليه من منزلته عند الخالق، وهذا غاية الجهل، وما أجدر صاحبه بالمقت.
الثالثة: أن لا يرائي بالإيمان، ولا بأصل الفرائض، ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تركها لا يعصي، ولكنه يكسل عنها في الخلوة، لفتور رغبته في ثوابها، ولإيثار الكسل على ما يرجى من الثواب، ثم يبعثه الرياء على فعلها، وذلك كالتهجد بالليل، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وصيام يوم عرفة وعاشوراء ونحو ذلك.
فقد يفعل المرائي جملة من ذلك خوفاً من المذمة، أو طلباً للمحمدة، والله يعلم منه أنه لو كان وحده لما زاد على أداء الفرائض.
فهذا كذلك عظيم، ولكنه دون ما قبله، فالذي قبله آثر حمد الخلق على حمد الخالق، وهذا اتقى ذم الخلق دون ذم الخالق.
أما الرياء بأوصاف العبادات فهو على ثلاث درجات:
الأولى: أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة كالذي من عادته تخفيف الركوع والسجود والقيام والقراءة في الصلاة، فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود، وأتم القيام، وحَسَّن القراءة.
(13/67)
فهذا من الرياء المحظور؛ لأن فيه تقديماً للمخلوقين على الخالق، ولكنه دون الرياء بأصول التطوعات.
وهذه مكيدة للشيطان بالإنسان، فإن ضرره من نقصان صلاته لمولاه أعظم من ضرره بغيبة غيره إذا رآه مقصراً في عبادته، فالواجب عليه أن يحسن ويخلص، فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على عادته في الخلوة، وليس له أن يدفع ذم الناس له بالمراءاة بطاعة الله تعالى، فإن ذلك استهزاء.
الثانية: أن يرائي بفعلِ ما لا نقصان في تركه، ولكنْ فَعَله في حكم التكملة لعبادته كالتطويل في الركوع والسجود، وتحسين الهيئة، والزيادة في القراءة، وطول الصمت، وإخراج الجيد في الزكاة، ونحو ذلك مما لو كان وحده لم يقدم عليه.
الثالثة: أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل كحضور الجماعة قبل القوم، وقصده الصف الأول، وتوجهه إلى يمين الإمام، ونحو ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف؟ ومتى يُّحرم بالصلاة؟.
فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يرائي به، وبعضها أشد من بعض، والكل مذموم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي الله بِهِ» متفق عليه(1).
أما الركن الثالث: فهو المراءَى لأجله.
فالمرائي له مقصود من الرياء لا محالة، فهو إنما يرائي لإدراك مال أو جاه أو غرض من الأغراض لا محالة، وهو على ثلاث درجات:
الأولى: أن يكون مقصوده بالرياء التمكن من معصية.
كالذي يرائي بعبادته وتقواه، ويظهر الورع بكثرة النوافل، والامتناع عن أكل الشبهات، وغرضه أن يُعرف بالأمانة والزهد فيولى القضاء، أو الأوقاف، أو الوصايا فيأخذها.
أو يُسلَّم إليه تفرقة الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها، أو تودع عنده الودائع فيأخذها ويجحدها.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6499)، ومسلم برقم (2986).
(13/68)
وقد يظهر بعضهم الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور، وقد يحضرون مجالس العلم والتذكير وحلق القرآن، يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن، وغرضهم ملاحظة النساء والغلمان، نسأل الله السلامة والعافية.
وهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى؛ لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلماً إلى معصيته.
الثانية: أن يكون غرضه نيل مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة، كالذي يظهر الحزن والبكاء، أو يشتغل بالوعظ والتذكير، لتبذل له الأموال ويرغب في نكاحه النساء.
فهذا رياء محظور؛ لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا، ولكنه دون الأول، فإن المطلوب بهذا مباح في نفسه، لكن عمله باطل لا ثواب عليه.
«قال الله عزَّ وجلَّ: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم(1).
الثالثة: أن لا يقصد نيل حظ أو إدراك مال أو نكاح، ولكن يظهر عبادته ويحسنها خوفاً من أن يُنظر إليه بعين النقص، ولا يُعد من الخاصة والزهاد كالذي يرى جماعة يصلون التراويح أو يتهجدون أو يصومون الإثنين، أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن يُنسب إلى الكسل والبخل، ويُلحق بالعوام، ولو خلا بنفسه لا يفعل شيئاً من ذلك.
وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء وهو غير صائم فلا يشرب خوفاً من أن يعلم الناس أنه غير صائم.
فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء، ولولا رسوخ عرق الرياء في الباطن لما ظهر في الخارج قولاً أو فعلاً.
فهذه درجات الرياء، ومراتب أصناف المرائين، وجميعهم تحت مقت الله وغضبه، وهو من أشد المهلكات، ومن شدته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل، يزل فيها فحول العلماء فضلاً عن عامة الجهلاء بآفات النفوس وعللها.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2985).
(13/69)
والرياء محبط للأعمال، وسبب للمقت عند الله تعالى، ومن كبائر الذنوب، وإذا كان هذا وصفه فهو جدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته، ولا شفاء منه إلا بشرب الأدوية القامعة له، ومجاهدة شديدة، ومكابدة لقوة الشهوات، والعباد كلهم مضطرون لهذه المجاهدة.
وإنما يحصل علاج الرياء بأمرين:
أحدهما: قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه.
الثاني: دفع ما يخطر منه في الحال.
فأما قلع عروقه وأصوله: فأصل الرياء حب المنزلة والجاه، وهو يرجع إلى ثلاثة أصول وهي:
لذة المحمدة.. والفرار من ألم الذم.. والطمع فيما في أيدي الناس.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ الله؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله» متفق عليه(1).
فالحمية: أن يأنف أن يُقهر.. وليُرى مكانه: هذا هو طلب لذة الجاه والقدر في القلوب.. ويقاتل للذكر: هذا هو طلب حمد الناس له باللسان.
فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك المرائي إلى الرياء.
فإذا علم العبد أن الرياء ضار في الدنيا والآخرة سهل عليه قطع الرغبة عنه، فإنه إذا علم مضرة الرياء، وما يفوته من صلاح قلبه، وما يُّحرم منه من التوفيق في الحال، وفي الآخرة من المنزلة عند الله، وما يتعرض له من العقاب العظيم، والمقت الشديد، والخزي الظاهر، فعلمه بذلك يُسهل عليه تركه، ويبعث فيه الرغبة في الإخلاص.
هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق، فإن رضا الناس غاية لا تدرك، ومن طلب رضاهم في سَخَط الله سَخِط الله عليه، وأسخطهم عليه.
وأي فائدة للمرائي إذا مدحه الناس وذمه الله، وحمدهم لا يزيد له رزقاً ولا يدفع أجلاً؟.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7458) واللفظ له، ومسلم برقم (1904).
(13/70)
وأما الطمع بما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء، وأن الخلق كلهم مضطرون إلى الله فلا رزاق إلا هو، ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة، وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنَّة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب؟.
وأما ذم الناس فلم يحذر منه، وذمهم لا يزيده ولا يضره شيئاً لم يكتبه الله عليه، ولا يعجل أجله، ولا يؤخر رزقه، ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة، والناس لا كمال في مدحهم، ولا نقصان في ذمهم.
وأي خير للإنسان في مدح الناس له وهو عند الله مذموم ومن أهل النار؟.
وأي شر لك من ذم الناس وأنت عند الله محمود في زمرة المقربين؟.
ومن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد ورضوان الله أعرض عن الخلق، وأقبل على ربه، وأخلص له العمل، وتخلص من مذلة الرياء للخلق، فهذه أهم الأدوية القالعة لأصول الرياء من القلب.
وأما الدواء العملي:
فهو أن يعوِّد نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها، كما تغلق الأبواب دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله واطلاعه على عباداته، ولا تنازعه نفسه إلى طلب علم غير الله به.
وأما دفع العارض من الرياء أثناء العبادة، فالشيطان لا يترك الإنسان ولو قلع مغارس الرياء من قلبه حتى يشغله أثناء العبادات، ويعارضه بخطرات الرياء، ولا تنقطع عنه نزغاته، وهوى النفس وميلها لا ينمحي بالكلية.
فلا بدَّ وأن يتشمر لدفع ما يعرض من خاطر الرياء.
وخواطر الرياء ثلاثة:
الأول: العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم.
الثاني: ثم يتلوه هيجان الرغبة في النفس في حمدهم، وحصول المنزلة عندهم.
(13/71)
الثالث: ثم يتلوه هيجان الرغبة في قبول النفس له، والركون إليه، والقيام به، والحزم في دفع الخاطر الأول ورده حتى لا يتلوه الثاني، فيقول لنفسه: الله عالم بحالك، ومَالَكِ وللخلق، علموا أو لم يعلموا، فإن هاجت الرغبة إلى لذة حمد الناس ذكرها ما في الرياء من التعرض لمقت الله يوم القيامة.
وكما أن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة ورغبة في الرياء، فمعرفة آفة الرياء تثير كراهة له تقابل تلك الشهوة.
والرياء فعل الخير لإرادة الخير بطلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، وإرادة العباد بطاعة الله.
والفرق بين الرياء والسمعة:
أن الرياء يكون في الفعل؛ لأن المرائي يري الناس أنه يفعل ولا يفعل بالنية، والسمعة تكون في القول.
والفرق بين الرياء والنفاق:
أن الأصل في الرياء الإظهار، والأصل في النفاق الإخفاء.
وقد يلتقي الأمران الرياء والنفاق الأصغر في عمل المنافق بإظهار مجرد الطاعة كما قال سبحانه في المنافقين: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [النساء: 142].
وقد يختلفان كما في قيام المنافقين إلى الصلاة كسالى، وعدم ذكرهم لله إلا قليلاً، فالمرائي يظهر النشاط، ويكثر الذكر لينال مكانة عند الناس بخلاف المنافق.
والرياء من الكبائر، بل هو الكبيرة الثانية بعد الشرك بالله؛ لما فيه من الاستهزاء بالحق تعالى، وتقديم المخلوق عليه، ولما فيه من التلبيس على الخلق لإيهام المرائي لهم أنه مخلص مطيع لله وهو بخلاف ذلك.
ولهذا أطلق على الرياء الشرك الأصغر، فهو كل عبادة يراد بها غير وجه الله تعالى، فهو من أكبر الكبائر المهلكة.
والرياء درجات:
فالرياء بما عمله الإنسان كبيرة.. والرياء بما لم يعمله أكبر:
(? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الماعون: 4-7].
9- آفة الحسد
قال الله تعالى: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [النساء: 54].
وقال الله تعالى: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [الفلق: 1-5].
(13/72)
أصل الحسد العداوة، وأصل العداوة التزاحم على غرض واحد، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين، بل لا يجمع إلا متناسبين كالتجار والصناع والزراع، والعلماء والأمراء ونحوهم.
وأهم أسباب الحسد:
إما العداوة والبغضاء، فإن آذاه إنسان أبغضه، وغضب عليه، وأحب ضرره.
وإما التعزز، فإذا نال الإنسان منصباً ترفع على غيره، فيحسده ذلك الغير، ويتمنى زوال ذلك المنصب عنه.
أو يكون في طبيعته أن يستخدم غيره، فيريد زوال النعمة عنه ليستخدمه.
وقد يكون سببه الخوف من فوت المقاصد، وذلك يحصل بين المتزاحمين على مقصود واحد، ومنه تحاسد الضرات على مقاصد الزوجية، وتحاسد الأولاد في كسب ود الآباء، وتحاسد أصحاب المهن عليها.
أو يكون سببه حب الرياسة وطلب الجاه كأن يسمع عن شجاع أو عالم أو والٍ فيتمنى زوال النعمة عنه، ويحسده ليظفر بتلك النعمة.
أو يكون سببه شح النفس بالخير على عباد الله من علم أو مال أو غيرهما، فإن ذكر له شر فرح به، وإن ذكر خير ساءه.
وهذا من خبث النفس، وقد تجتمع هذه الأسباب أو بعضها في شخص واحد فيعظم ضرره.
وزوال الحسد بأمرين: بالعلم.. والعمل.
أما العلم فهو أن تعلم أن الحسد ضرر عليك في الدين والدنيا، وليس على المحسود ضرر، بل ينتفع به في الدين والدنيا.
أما ضرره عليك في الدين، فإنك بالحسد كرهت حكم الله، ونازعته في قسمة رزقه بين عباده، وشاركت إبليس وسائر الكفرة في محبتهم للبلايا للمؤمنين، وستنال العقاب العظيم عليه يوم القيامة.
وضرره عليك في الدنيا: أنك بالحسد تتعذب، وتكون في الغم والكدر كلما رأيت نعمة على من تحسد، وهذا يمرض بدنك، وينغص عليك لذة المطعم والمشرب.
والمحسود لا ضرر عليه في دينه ودنياه، فما قدر الله كائن لا محالة، وهو مأجور في حال السراء والضراء.
وأما أن المحسود ينتفع به في الدين فهو أنه مظلوم من جهتك، لا سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول أو الفعل بالغيبة وذكر مساوئه.
فهذه هدايا يهديها الله إليه من حسناتك.
(13/73)
وحسد الحاسد يدل على اختصاص المحسود بفضل الله ونعمه، فهو مذكر له بفضل الله فليحمد الله.
أما العمل النافع الذي يزول به الحسد فهو أن يأتي بالأعمال المضادة لمقتضيات الحسد، فإن حمله الحسد على ذمه مَدَحَه، وإن حمله على التكبر عليه تواضع له، وإن حمله على إيذائه أحسن إليه، وإن حمله على الدعاء عليه دعا له.. وهكذا.
وللحسد ثلاث مراتب:
أحدها: أن يحسد غيره على ما أعطاه الله من النعم، ويتمنى زوال ذلك عنه، ويرتب على ذلك الحسد مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، وهذا أعظم أنواع الحسد.
الثانية: تمني استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، ويحب أن يبقى على حاله من جهل، أو فقر، أو ضعف، أو شتات قلبه عن الله، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب.
فهذا كله حسد على شيء غير مقدر، والأول حسد على شيء مقدر، وكلاهما حاسد عدو نعم الله وعدو عباده، ممقوت عند الله وعند الناس، لا يسود أبداً، فإن الناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم.
الثالثة: حسد الغبطة، وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير تمني أن تزول النعمة عنه، فهذا لا بأس به، ولا يعاب صاحبه، وهو محمود إن تمنى ما فيه خير من نعم يستعين بها على طاعة الله، وينفع بها الناس، وأعمال صالحة يكسب بها الأجر وينال عليها الثواب في الآخرة، وهذا قريب من المنافسة في الخيرات.
وقد قال الله تعالى: (? ? ? ? ?) [المطففين: 26].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (73)، ومسلم برقم (816) واللفظ له.
(13/74)
فهذا حسد غبطة الحامل لصاحبه عليه شرف نفسه، وحبها خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، وأن يكون من سباقهم وعليتهم، فتحدث له من هذه الهمة المنافسة والمسارعة والمسابقة في هذا العمل الصالح، مع محبته لمن يغبطه، وتمني دوام نعمة الله عليه.
والحسد المذموم من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، ويسبب العداوة والبغضاء، وقطع صلة الأرحام، والفرقة بين الناس.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا تَحَسَّسُوا، وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ الله إِخْوَاناً» متفق عليه(1).
ألا ما أجهل الحاسد بربه وقضائه ودينه، إن كان ما أعطاه الله لأخيك لكرامته عليه فلم تحسد من أكرمه الله؟ وماذا يضره حسدك له؟ وإن كان ما أعطاه الله لهوانه عليه فلم تحسد من مصيره إلى النار؟.
وقد حسد إبليس آدم ( على رتبته وكرامته على الله، وحمله الحسد على معصية الله بعدم السجود، فاستحق الطرد من رحمة الله، واللعن إلى يوم الدين، والقرار في نار الجحيم هو وذريته ومن تبعهم أجمعين.
كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 75-78].
وكم فوت الحاسد على نفسه ثواب الحب في الله، وثواب الجنة، وأصل الإيمان، ولعله يسوقه حسده إلى غضب الله وإلى النار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ» أخرجه مسلم(2).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6064) واللفظ له، ومسلم برقم (2563).
(2) أخرجه مسلم برقم (54).
(13/75)
وشر الحاسد إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ?) [الفلق: 5].
فعين الحاسد لا تؤثر بمجردها، لكن تؤثر إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة وانسمت واحتدت، فصارت نفساً غضبية خبيثة حاسدة، فإذا نظر بهذا إلى المحسود أثر فيه تأثيراً بحسب صفة ضعفه، وقوة نفس الحاسد، فربما أعطبه وأهلكه، بمنزلة من وجه سهماً نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلاً.
وهذه العين إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة، وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت، فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث فتُحدث فيها تلك الكيفية السم، فتؤثر في الملسوع، وربما تؤثر بمجرد نظرة.
وإذا كان هذا في الحيات، فما الظن في النفوس البشرية الشريرة الغضبية الحاسدة، إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية، وانسمت وتوجهت إلى المحسود بكيفيتها، فلله كم لها من قتيل وعليل وسقيم؟.
ومن له أدنى فطنة، ولطفت روحه، شاهد أحوال الأرواح وتأثيرها وتحريكها للأجسام، ورأى الأجسام كالخشب الملقى.
فلا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح، بل هو أعظم وأوسع، وعجائبه أبهر، وآياته أعجب.
فالهيكل الإنساني إذا فارقته الروح صار بمنزلة الخشب أو القطعة من اللحم.
فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل والكلام والسمع والبصر، وتلك الأفعال العجيبة، والأفكار والتدبيرات؟.
كلها ذهبت مع الروح، وبقي الهيكل هو والتراب سواء.
وهل يخاطبك في الإنسان أو يراك، أو يحبك أو يبغضك، أو يواليك أو يعاديك، أو يؤنسك أو يوحشك، إلا ذلك الأمر الذي وراء الهيكل المشاهد بالبصر.
والعاين والحاسد يفترقان في شيء، ويشتركان في شيء:
فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه، وتتوجه نحو من يريد أذاه.
فالعاين: تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته.
والحاسد: يحصل له ذلك عند غيب المحسود وحضوره أيضاً.
(13/76)
ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد أو نبات أو حيوان أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، وربما أصابت عينه نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق، مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [القلم: 51].
والنظر الذي يؤثر في المنظور قد يكون سببه شدة العداوة والحسد، فيؤثر نظره فيه، ويقوى تأثير النفس عند المقابلة.
وقد يكون سببه الإعجاب، وهو ما يسمى بإصابة العين، وهو أن الناظر يرى الإنسان أو غيره رؤية إعجاب به واستعظام، فتتكيف روحه بكيفية خبيثة تؤثر في المعين أو تهلكه.
فالعائن حاسد خاص، وهو أضر من الحاسد، فكل عائن حاسد ولا بدَّ، وليس كل حاسد عائناً.
وأصل الحسد: هو بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها.
فالحاسد عدو النعم، وهذا الشر من خبث نفسه وشرها، بخلاف السحر فإنما يكون باكتساب أمور أخرى، واستعانة بالأرواح الشيطانية.
فلهذا والله أعلم قرن الله بين شر الحاسد وشر الساحر؛ لأن الاستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [الفلق: 1-5].
فالحسد من شياطين الإنس والجن، والسحر من النوعين، لكن شياطين الجن ينفردون بالوسوسة في القلب، فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه، بل هو أذى من أمر خارج عنه.
والوسواس إنما يؤذي العبد من داخل بواسطة مساكنته له وقبوله منه.
واليهود أسحر الناس وأحسدهم كما قال الله عنهم: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?) [البقرة: 109].
وقال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [النساء: 54].
والشيطان يقارن الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبهما.
(13/77)
ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان؛ لأن الحاسد شبيه بإبليس وهو من أتباعه؛ لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس وزوال النعم عنهم، كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله، وأبى أن يسجد له حسداً، فالحاسد من جند إبليس.
وأما الساحر فإنه يطلب من الشيطان أن يعينه، ويستعين به، وربما يعبده من دون الله حتى يقضي له حاجته، وربما يسجد له.
وكلما كان الساحر أكفر وأخبث، وأشد معاداة لله ورسوله وعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ وأشد.
ولهذا سِحْر عباد الأصنام أقوى من سِحْر أهل الكتاب، وسحر اليهود أقوى من سحر المنتسبين إلى الإسلام، واليهود هم الذين سحروا النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله سبحانه: (چ چ چ چ ? ?) [الفلق: 5].
يعم الحاسد من الجن والإنس، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما حسد إبليس أبانا آدم، وهو عدو لذريته.
ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن، والحسد أخص بشياطين الإنس.
فنعوذ بالله العظيم الذي لا أعظم منه، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسمائه الحسنى ما علمنا منها وما لم نعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ونعوذ بالله من غضبه وعقابه وشر عباده.
والفرق بين الحسد والمنافسة:
أن الحسد شدة الأسى على الخيرات تكون للناس الأفاضل، وتمني زوالها عنهم، والمنافسة طلب التشبه بالأفاضل من غير إدخال ضرر عليهم.
فالحسد رذيلة مذمومة، والمنافسة في الخيرات فضيلة محمودة؛ لأنها داعية إلى اكتساب الفضائل، والاقتداء بالأفاضل.
وبحسب فضل الإنسان وظهور النعمة عليه يكون حسد الناس له، فإن كثر فضله كثر حساده، وإن قل قلوا؛ لأن ظهور الفضل يثير الحسد، وحدوث النعمة يضاعف الكمد.
والفرق بين البخل والحسد:
أن البخل والحسد مشتركان في أن صاحبهما يريد منع النعمة عن الغير، ثم يتميز البخيل بالبخل بما في يده، والحاسد يتمنى ألا يعطي أحد سواه شيئاً.
والفرق بين الغبطة والحسد:
(13/78)
أن الغبطة تمني المرء أن يكون له مثل الذي لغيره من غير إرادة إذهاب ما لغيره، وهي من صفات المؤمنين، أما الحسد فهو إرادة زوال النعمة عن الغير، وهي من صفات المنافقين والكفار.
وشر الحاسد مؤلم ومؤذ وموجع، ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:
الأول: التعوذ بالله من شر الحاسد، والتحصن به، واللجوء إليه.
الثاني: تقوى الله عزَّ وجلَّ، فمن اتقى الله تولى حفظه ولم يكله إلى غيره.
الثالث: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة.
الرابع: التوكل على الله، فمن توكل على الله فهو حسبه، والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم.
الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، فلا يلتفت إليه ولا يخافه، وبذلك يندفع عنه شره.
السادس: الإقبال على الله بكليته، والإخلاص له، وجعل محبة الله ورضاه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه حتى تقهرها وتذيبها بالكلية.
السابع: الصبر على عدوه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً، فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه.
الثامن: الصدقة والإحسان إليه ما أمكنه، فإن لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء، ودفع العين، ودفع شر الحاسد، فما حرس العبد نعمة الله عليه بمثل شكرها.
التاسع: إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذى وشراً وبغياً وحسداً ازددت إليه إحساناً، وله نصيحة، وعليه شفقة، وهذا من أعظم الأسباب وأصعبها على النفس، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [فصلت: 34، 35].
(13/79)
العاشر: تجريد التوحيد والترحل عن الفكر بالأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن هذه الآلات بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [يونس: 107].
وهذا السبب جامع لما سبق كله، وعليه مدار كل شيء.
10- آفة الغضب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [الشورى: 36، 37].
الغضب: هو غليان دم القلب طلباَ للانتقام.
وقوة الغضب محلها القلب، وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها، والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به.
والغضب شعلة نار من نار الله الموقدة، وهي مستكنَّة في الفؤاد، ويستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد كاستخراج الحجر النار من الحديد، والشيطان أقدر ما يكن على ابن آدم حين يغضب.
ومن نتائج الغضب الحقد والحسد، وبهما هلك من هلك، وفسد من فسد.
والحلم مفتاح كل خير، والغضب مفتاح كل شر، يصير صاحبه إلى ذلة الاعتذار.
وقد خلق الله سبحانه طبيعة الغضب من النار، وغرزها في الإنسان، فمهما صد عن غرض من أغراضه وحوائجه اشتعلت نار الغضب، وثارت ثوراناً يغلي به دم القلب، ثم ينتشر في العروق، ثم يرتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار، وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين، والبشرة لصفائها تحكي لون ما ورائها من حمرة الدم.
وإنما ينبسط الدم وينتشر إذا غضب الإنسان على من دونه، واستشعر القدرة عليه، فإن صدر الغضب على من فوقه، وكان معه يأس من الانتقام، تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب، وصار حزناً، ولذلك يصفر اللون.
وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط، فيحمر ويصفر ويضطرب.
والناس في الغضب على ثلاث درجات:
(13/80)
تفريط.. وإفراط.. واعتدال.
أما التفريط: فبفقد هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم، فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جداً، وقد وصف الله رسوله والمؤمنين معه بالشدة والحمية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [الفتح: 29].
وأما الإفراط: فهو أن تغلب صفة الغضب حتى تخرج عن سياسة الدين وطاعته، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر.
وإذا اشتدت نار الغضب وقوى اضطرامها أَعْمَت صاحبها، وأَصَمَّته عن كل موعظة، فإذا وعظه أحد لم يسمع له، بل زاده ذلك غضباً، فينطفئ نور العقل من دخان الغضب.
فمعدن الفكر الدماغ، ويتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخان مظلم إلى الدماغ يستولي على معادن الفكر، وربما يتعدى إلى معادن الحس فتظلم عينه حتى لا يرى بعينه، وتسود عليه الدنيا بأسرها.
ومن آثار هذا الغضب في الظاهر:
تغير اللون.. وشدة الرعدة في الأطراف.. واضطراب الحركة والكلام.. وخروج الأفعال والحركات عن المعتاد.. حتى يظهر الزبد على الأشداق.. وتحمر الأحداق.
وقبح باطن الغضبان أعظم من قبح ظاهره، فإن الظاهر عنوان الباطن، وإنما قبحت صورة الباطن أولاً، ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانياً.
وأما أثره في اللسان، فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل الرشيد.
وأما أثر الغضب على الأعضاء فالضرب والتهجم، والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة، فإن هرب منه المغضوب عليه، أو عجز عن التشفي منه، رجع الغضب على صاحبه فمزق ثوبه، ولطم نفسه، أو سقط على الأرض، أو كسر ما بيده، ونحو ذلك مما هو واقع.
وأما أثره في القلب على المغضوب عليه فالحقد عليه، والحسد له، وإضمار السوء، والشماتة بالمساءات، والحزن بالسرور، والعزم على إفشاء السر، وهتك الستر، وغير ذلك من القبائح.
فهذه مضار الغضب المفرط.
(13/81)
وأما مضار الحمية الضعيفة فقلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للمحارم والزوجة، واحتمال الذل من الأخساء، وعدم الغيرة على الحرام.
وأما الاعتدال: فالمحمود من الغضب هو الغضب الذي ينتظر إشارة العقل والدين، فينبعث حيث تجب الحمية، وينطفئ حيث يحسن الحلم، وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده، وهو الوسط بين الطرفين.
فمن مال غضبه إلى الفتور، حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة، وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله، فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه.
ومن رقا غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور، واقتحام الفواحش، فينبغي أن يعالج نفسه ليُنْقِص من سَوْرة الغضب، ويقف على الوسط الحق بين الطرفين، فهو الصراط المستقيم، وهو أدق من الشعرة، وأحد من السيف، فإن عجز عنه فليطلب القرب منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» متفق عليه(1).
فليس مَنْ عجز عن الإتيان بالخير كله ينبغي أن يأتي بالشر كله، ولكن بعض الشر أهون من بعض، وبعض الخير أرفع من بعض.
والإنسان إذا أُخذ منه محبوبه غضب لا محالة، وإذا قُصد بمكروه غضب لا محالة، فمن قُصد بدنه بالضرب والجرح فلا بد وأن يغضب، وكذلك إذا أُخذ منه ثوبه أو ماله أو طعامه فلا بد أن يغضب.
فهذه ضرورات لا يخلو الإنسان من كراهة زوالها، ومن غضبٍ على من يتعرض لها.
والطريق للخلاص من نار الغضب محو حب الدنيا من القلب، وذلك بمعرفة آفات الدنيا وغوائلها.
والأسباب المهيجة للغضب هي:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6114)، ومسلم برقم (2609) واللفظ له.
(13/82)
الزهو.. والعُجب.. والمزاح.. والهزل.. والهزء.. والتعيير.. والمماراة.. والغدر.. وشدة الحرص على فضول المال والجاه، ونحو ذلك من الأخلاق الرديئة المذمومة شرعاً، ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب، وتزال هذه الأسباب بأضدادها:
فيميت الإنسان الزهو بالتواضع.. والعجب بمعرفة ما في النفس من النقص.. والفخر بأنك من جنس عبدك.. وتزيل المزاح بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر.
وأما الهزل فتزيله بالجد في طلب الفضائل والأخلاق الحسنة والعلوم الدينية التي تبلغك إلى سعادة الآخرة.
وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس، وبصيانة النفس عن أن يُستهزأ بك.. والتعيير يزال بالحذر من القول القبيح، وصيانة النفس عن مر الجواب.
وأما شدة الحرص فتزال بالقناعة بقدر الضرورة طلباً لعز الاستغناء، وترفعاً عن ذل الحاجة.
وإذا عرف الإنسان غوائل هذه الأخلاق الرديئة رغبت النفس عنها، ونفرت عن قبحها، فإذا واظب على مباشرة أضدادها مدة مديدة صارت بالعادة مألوفة هينة على النفس، فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت من هذه الرذائل، وتخلصت من الغضب الذي يتولد منها.
فهذا حسم لمواد الغضب، وقطع الأسباب حتى لا يهيج، فإذا هاج الغضب فعلاجه بأمرين: العلم.. والعمل.
أما العلم فيكون بمعرفة ستة أمور:
الأول: أن يعلم ما في كظم الغيظ والعفو والحلم والصبر من الأجر والثواب، فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكظم والعفو عن التشفي والانتقام، وينطفئ عنه غيظه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? چ چ چ) [الأعراف: 199].
الثاني: أن يخوف العبد نفسه بعقاب الله، فيقول قدرة الله علي أعظم من قدرتي على هذا الإنسان، فلو أمضيت غضبي عليه لم آمن أن يمضي الله غضبه علي يوم القيامة أحوج ما أكون إلى العفو.
الثالث: أن يحذِّر نفسه عاقبة العداوة والانتقام، وَتَشمُّر العدو لمقابلته والسعي في أذاه، فيخوف نفسه بعواقب الغضب في الدنيا، وما يجر إليه من المصائب والعداوة.
(13/83)
الرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب، بأن يتذكر صورة غيره عند الغضب، ويتفكر في قبح الغضب في نفسه، ومشابهة صاحبه للكلب الضاري، ومشابهة الحليم الهادي للأنبياء والعلماء والحكماء والحلماء.
فيختار لنفسه ما يحمده الله والناس به.
الخامس: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام، ويمنعه من كظم الغيظ فيرده ولا يبالي به، كأن يقول له الشيطان: إن عدم الانتقام يُّحمل منك على العجز، وتصير حقيراً في أعين الناس، فيقول لنفسه: تأنفين من الاحتمال الآن، ولا تأنفين من خزي يوم القيامة إذا أخذ هذا بيدك وانتقم منك، وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس، ولا تحذرين من أن تصغري عند الله والملائكة والنبيين.
السادس: أن يعلم أن غضب الله عليه يوشك أن يكون أعظم من غضبه؛ لأنه خالف مراد الله منه.
وأما العمل: فأن تقول بلسانك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
اسْتَبَّ رَجُلاًنِ عِنْدَ النَّبِيِّ (، فَجَعَلَ أحَدُهُمَا يَغْضَبُ وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنِّي لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ، أعُوذُ بِا? مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» متفق عليه(1).
فإن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائماً، واضطجع إن كنت جالساً، فإن سبب الغضب الحرارة، وسبب الحرارة الحركة، والقائم والقاعد متهيئ للانتقام.
فإن لم يزل ذلك فليتوضأ بالماء البارد، أو يغتسل، فإن النار لا يطفئها إلا الماء.
والسكوت حال الغضب مما يزيل أثر الشر عنه، وكظم الغيظ كذلك.
والغضب إذا لزم كظمه لعجزه عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقداً، والحقد أن يلزم قلبه استثقاله والبغض له، والنفار عنه، وأن يدوم على ذلك ويبقى، فالحقد ثمرة الغضب.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري يرقم (6115)، ومسلم برقم (2610)، واللفظ له
(13/84)
والحقد يحمل على الحسد الذي يتمنى به الحاسد زوال النعمة عن الغير، ويشمت بما أصابه من بلاء، ويؤدي إلى هجره والانقطاع عنه، وأن يعرض عنه استصغاراً له، وأن يتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر، والاستهزاء به، وإيذائه أحياناً بالضرب، ومنعه حقه من قضاء دين أو رد مظلمة، أو صلة رحم، وكل ذلك حرام.
وعلاج الحقد: أن يحسن المحقود عليه إلى الحاقد بالعفو والصلة والدعاء له، والبر به: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [فصلت: 34، 35].
وهذه الآفات إنما نشأت في النفوس، وانتشرت بين الأمة وتخلق بها الناس، حصل ذلك كله بسبب ترك الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصح لكل مسلم، وعدم الاستقامة على أوامر الله.
فضعف الإيمان، ثم زهدت النفوس في أحسن الأعمال، ورغبت عن معالي الأخلاق، وتخلقت بأخلاق الشياطين والبهائم، ثم صارت تدعو إليها: (?? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يوسف: 53].
ويتخلص المسلم من آفة الحقد والغل ونحوهما بما يلي:
1- أن يذكر ما في بقاء هاتين من العداوة والمأثم وفوات الخير.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله ( قال: « تُفْتَحُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِا? شَيْئًا، إِلا رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَ» أخرجه مسلم(1).
2- أن يعلم أن العفو والإصلاح فيه خير كثير للعافي، ولا يزيد العفو العبد إلا عزاً.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2565).
(13/85)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله ( قال: « مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزّاً، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللهُ» أخرجه مسلم(1).
3- أن يعلم أن هذا مما يفرح به الشيطان، وهو تمزق الأمة: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 91].
اللهم آت نفوسنا تقواها.. وزكها أنت خير من زكاها.. أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك نفوساً مطمئنة.. تؤمن بلقائك.. وترضى بقضائك.. وتصبر على بلائك.
2- العدو الثاني: الشيطان
1- فقه عداوة الشيطان
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [فاطر: 6].
وقال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 208].
لقد لعن الله الشيطان وطرده بسبب أنه عصى أمر ربه حين أمره بالسجود لآدم، فأبى واستكبر وكان من الكافرين، فحقت عليه لعنة الله إلى يوم الدين كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 34، 35].
ووعد الله الشيطان وذريته وأتباعه بنار جهنم يوم القيامة كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ??) [الحجر: 43، 44].
ولما علم الشيطان أن ما حصل له من الطرد واللعن والإغواء والعذاب في جهنم، كله بسبب آدم، أعلنها حرباً صريحة على آدم وذريته من جميع الجهات، وفي جميع الأوقات، وفي جميع الأماكن، وبشتى الوسائل، مصراً على ملاحقة الإنسان ذكراً كان أو أنثى في كل لحظة: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [الأعراف: 16، 17].
واختار هذا اللعين أن يزاول هذا الكيد للإنسان على المدى الطويل، واختار هذا على أن يضرع إلى الله أن يغفر له خطيئته في معصيته عياناً، وقد سمع أمره مواجهة: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [الأعراف: 18].
فما أعظم عداوة الشيطان للإنسان وأصالتها وضراوتها واستمرارها.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2588).
(13/86)
إنه سيقعد للبشرية على صراط الله المستقيم لا يمكنهم من سلوكه، وسيأتيهم من كل جهة ليصرفهم عن هداه، وهو إنما يأتيهم من ناحية نقط الضعف فيهم، ومداخل الشهوة الجاذبة كما قال لآدم ( من قبل: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [طه: 120، 121].
فالشيطان عدو للإنسان، أما وقد نزل الإنسان والشيطان إلى الأرض، فالحرب بينهما قائمة، والمعركة مع الشيطان هي المعركة الكبرى:
إنها المعركة مع الهوى باتباع الهدى.. والمعركة مع الشهوات باستعلاء الإرادة.. والمعركة مع الشر والفساد في الأرض الذي يقود الشيطان أولياءه إليه باتباع شريعة الله المصلحة للأرض ومن فيها، والمعركة في النفس والحياة الواقعية، فالشيطان وراءهما جميعاً.
والطواغيت التي تقوم في الأرض لتخضع الناس لحاكميتها وشرعها ونظمها، وتستبعد حاكمية الله وشرعه، إنما هي شياطين الإنس التي توحي لها شياطين الجن، والمعركة معها هي المعركة مع الشيطان نفسه كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [الأنعام: 112].
فالمعركة الكبرى الطويلة الضارية تتركز مع الشيطان ذاته.. ومع ذريته.. ومع أوليائه.. وهي حرب طويلة المدى.. لا بدَّ أن يخوضها الإنسان مع الشيطان.. وقد استعد لها الشيطان بخيله ورجله كما قال سبحانه له: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 64].
والله حافظ عباده وأولياءه من كيده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 65].
ويشعر المسلم وهو يخوض هذه المعارك مع هواه وشهواته.. وهو يخوضها كذلك مع أولياء الشيطان من الطواغيت في الأرض وأتباعهم وأذنابهم.. وهو يخوضها مع الشر والفساد والانحلال الذي ينشئونه في الأرض من حولهم.. يشعر وهو يخوض هذه المعارك كلها أنه إنما يخوض معركة واحدة جدية صارمة ضارية؛ لأن عدوه فيها مصر ماض في طريقه، وأن الجهاد من ثَمَّ ماض إلى يوم القيامة في كل صوره ومجالاته:
(13/87)
جهاد النفس.. وجهاد الشيطان.. وجهاد الكفار.. فمُكْرَم ومهان.. ورابح وخاسر.. ومنتصر ومهزوم.
فلا يقعد المسلم عن جهاد عدوه الشيطان، فهو ماض في إغوائه وإضلاله، وساع في جر الناس إلى جهنم بكل ما يغضب الله من كفر وشرك، وبدعة ومعصية: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 118-119].
فالمشركون إنما يعبدون صورة الأوثان والأصنام، وفي الحقيقة إنما يعبدون الشيطان الذي زينها لهم وغرهم بها، وهو عدوهم الذي يريد إهلاكهم بكل ما يقدر عليه.
وكما أبعده الله من رحمته ولعنه فهو يسعى في إبعاد العباد من رحمة الله، وجرهم إلى عقوبة الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [فاطر: 6].
وقد وقع ما ظنه الشيطان بالناس فَتَبِعوه كلهم إلا القليل كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 20].
فأضلهم عن العلم الإلهي.. والعمل الصالح.. وزين لهم ما هم فيه من الضلال.. ومنَّاهم أن ينالوا ما ناله المهتدون.. وهذا هو الغرور بعينه.
وهذه زيادة شر إلى شر، حيث زين لهم ماهم فيه من الضلال، فعملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة، وحسبوا أنها موجبة للجنة كما غرَّ اليهود والنصارى حين أعرضوا عن دينهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 111].
وكما غرَّ الكفار فكفروا: (? ? ? ? ? ? ? ?ں) [سبأ: 35].
فما أخسر هؤلاء وهؤلاء حين أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?) [الكهف: 103، 104].
ومن الإضلال ما زينه الشيطان لبعض الناس حتى حرَّموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرَّم الله من الاعتقادات الفاسدة، والأحكام الجائرة ما هو من أكبر الضلال.
ومن ذلك ما أغواهم به الشيطان من تغيير خلقة الرحمن بالوشم والوشر والنمص ونحو ذلك، وذلك يتضمن التسخط من خلقته، والقدح في حكمته، واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن، وعدم الرضا بتقديره.
(13/88)
وكذلك أمرتهم الشياطين بتغيير الخُلُق الباطن، فالله تعالى خلق عباده حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل، وزينت لهم الشرك والكفر، والشر والإثم، والفسوق والعصيان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 168، 169].
فالشيطان يَعِد أولياءه الفقر إذا أنفقوا في سبيل الله، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل وغيره، ويخوفهم من طاعة الله بحصول الأذى لهم، ليكسلوا عن فعل الخير، ويمنيهم الأماني الباطلة: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 120].
وما أكثر من غرهم الشيطان فصاروا من أتباع إبليس وحزبه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 121].
وقد حذر الله عزَّ وجلَّ بني آدم عامة أن يستسلموا للشيطان فيما يتخذونه لأنفسهم من مناهج وشرائع، فَيُسْلِمَهم إلى الفتنة والبلاء كما فعل مع أبويهم من قبل، إذ نزع عنهما لباسهما وأخرجهما من الجنة.
فالعري والتكشف عمل من أعمال الشيطان في بني آدم، وهو طرف من المعركة التي لا تهدأ بين الإنسان وعدوه الشيطان.
فلا يدع بنو آدم لعدوهم الشيطان أن يفتنهم، وأن ينتصر عليهم، وأن يملأ منهم جهنم في نهاية المطاف: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [الأعراف: 27].
وزيادة في التحذير منه ينبههم ربهم أن الشيطان يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم، وإذن فهو أقدر على فتنتهم بوسائله الخفية، فعليهم الحذر حتى لا يأخذهم على غِرَّة، ومعرفة الثغور التي يدخل منها، وسدها في وجهه.
وقد قدَّر الله أن يكون هو ولي الذين آمنوا، وقدر كذلك أن يجعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، ويا ويل ويا خسارة من كان عدوه وليه، إنه يسيطر عليه ويقوده حيث يشاء.
(13/89)
وقد طلب الشيطان من ربه الإنظار إلى يوم القيامة، لا ليندم على معصيته وخطيئته في حضرة الخالق العظيم، ولا ليتوب إلى الله ويرجع ويكفر عن إثمه الجسيم، ولكن لينتقم من آدم وذريته جزاء ما لعنه الله وطرده من هداه، إنه يربط لعنة الله له بآدم، ولا يربطها بعصيانه لله في تبجح نكير: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 36-38].
فلما أنظره الله أعلن خليقة الحقد، وخليقة الشر، وخليقة العداوة على البشرية في الأرض، وحدد عدته فيها وهي تزيين القبيح وتجميله، والإغراء بزينته المصطنعة على ارتكابه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [الحجر: 39، 40].
وهكذا لا يقترف الإنسان الشر إلا وعليه مسحة من الشيطان تزينه وتجمله، وتظهره في غير حقيقته وردائه، وتغري بارتكابه.
فليفطن المسلمون إلى عدة الشيطان، وليحذروا كلما وجدوا في أمر تزييناً، وكلما وجدوا في نفوسهم اشتهاءً.
وشرط الشيطان أن يغوي الناس أجمعين إلا عباد الله المخلصين.
وقد شرط هذا الشرط؛ لأنه يدرك أن لا سبيل إلى سواه.
لأن سنة الله أن يستخلص لنفسه من يخلص له نفسه، وأن يحميه ويرعاه ومن ثَمَّ كان الجواب: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 41، 42].
هذه سنة الله:
المؤمنون لا سبيل لك عليهم، ولا تملك أن تزين لهم؛ لأنك عنهم محصور، ولأنهم منك في حمى، ومداخلك إلى نفوسهم مغلقة.
إنما سلطانك على من اتبعك من الغاوين الضالين، فالشيطان لا يتلقف إلا الشاردين، كما يتلقف الذئب الشاردة من الغنم.
وأما عاقبة الغاوين فهي معلنة في الساحة منذ البدء: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [الحجر: 43، 44].
إن حسد إبليس لآدم يجعله يذكر الطين، ويغفل نفخة الله في هذا الطين كما قال سبحانه: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [الإسراء: 61].
ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق، واستعداده لإغوائه بلا حياء فيقول: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [الإسراء: 62].
(13/90)
ويغفل الشيطان عن استعداد الإنسان للخير والهداية، واستعداده للشر والغواية، وعن حالته التي يكون فيها متصلاً بالله، فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية.
ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة، التي لا تعرف إلا طريقاً واحداً تسلكه بلا إرادة كالملائكة.
ويشاء الله عزَّ وجلَّ أن يطلق لرسول الشر والغواية الزمام، يحاول محاولته مع بني آدم: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [الإسراء: 63].
اذهب فحاول محاولتك، اذهب مأذوناً لك في إغوائهم، فهم مزودون بالعقل والإرادة، يملكون أن يتبعوك.. ويملكون أن يعرضوا عنك.
فمن تبعك منهم مغلِّباً جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية، معرضاً عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان، غافلاً عن آيات الله في الكون، وآيات الله المصاحبة للرسالات، فإن جهنم جزاؤكم أنت وتابعوك.
واستخدم في إضلالهم جميع وسائل الغواية والإضلال للاستيلاء على القلوب والعقول والمشاعر، وعِدْهم بما يغريهم بما تريد من المعاصي، كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص، والوعد بالغنى من الأسباب الحرام، والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والخسيسة، والوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة.
فالشيطان يزين للإنسان المعصية، وهو يلوح له بسعة الرحمة الإلهية، وشمول العفو والمغفرة، ولكن هناك من لا سلطان لك عليهم؛ لأنهم مزودون بحصانة تمنعهم منك ومن خيلك ورَجِلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 42].
فمتى اتصل القلب بالله.. واتجه إليه بالعبادة.. وارتبط بالعروة الوثقى.. فلا سلطن حينئذ للشيطان عليه.. وكفى بربك وكيلاً يعصم وينصر، ويبطل كيد الشيطان.
وانطلق الشيطان ينفذ وعيده، ويستذل عبيده، ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 20].
حقاً إن وعد الله حق، وإنه لآت لا ريب فيه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [فاطر: 5، 6].
(13/91)
إن الحياة تغر وتخدع.. فلا تغرنكم الحياة الدنيا.. وإن الشيطان يغر ويخدع.. فلا تمكنوه من أنفسكم.
والشيطان قد أعلن عن عداوته للبشرية، فليتخذوه عدواً، ولا يركنوا إليه، ولا يقبلوا منه نصيحة، ولا يتبعوا خطاه.
فالعاقل لا يتبع خطى عدوه وهو يعقل، والشيطان لا يدعوكم إلى خير، ولا ينتهي بكم إلى نجاة، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
فهل يليق بالعاقل أن يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير؟.
إن الإنسان حين يستحضر المعركة الخالدة مع الشيطان فإنه يتحفز بكل قواه.. وبكل يقظته.. دفاعاً عن النفس.. وحماية للذات:
يتحفز لدفع الغواية والإضلال والإغراء.. ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه.. ويتوجس من كل هاجسة.. ويسرع ليعرضها على ميزان الله وشرعه.
إن القرآن ينشئ في القلب حالة التعبئة الشعورية ضد الشر ودواعيه، وضد هواتفه المستسرة في النفس، وأسبابه الظاهرة للعيان، حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة، ولا تضع أوزارها في هذه الأرض أبداً.
وهاهي عاقبة الكافرين الذين لبوا دعوة الشيطان، وحالة المؤمنين الذين طاردوه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [فاطر: 7].
أما طبيعة الغواية، وحقيقة عمل الشيطان، والباب الذي يفتح فيجيئ منه الشر كله، فهو أن يرى الإنسان عمله القبيح حسناً: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [فاطر: 8].
هذا هو مفتاح الشر كله، أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً، أن يُعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها، أن لا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه؛ لأنه واثق أنه لا يخطئ، متأكد دائماً أنه على صواب.
فيُعجب بكل ما يصدر عنه، مفتون بكل ما يتعلق بذاته، لا يخطر على باله أن يراجع نفسه في شيء، ولا أن يحاسبها على أمر، ولا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله، أو في رأي يراه.
(13/92)
هذا هو البلاء العظيم الذي يصبه الشيطان على الإنسان، ويغرقه به، وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى الضلال ثم إلى البوار.
إن الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر، فلا يأمن مكر الله.. ولا يأمن تقلب القلب، ولا يأمن الخطأ والزلل.. ولا يأمن النقص والعجز: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 99].
فالمؤمن دائم التفتيش في عمله.. دائم الحساب لنفسه.. دائم الحذر من الشيطان.. دائم التطلع لعون الله وتوفيقه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 18].
إن كل من زين له الشيطان سوء عمله فرآه حسناً مثال للإنسان الضال الهالك البائر، الصائر إلى شر مصير.
ومفتاح هذا كله هو هذا التزيين.. هو هذا الغرور.. هو هذا الستار الذي يعمي قلبه وعينه فلا يرى مخاطر الطريق.. ولا يحسن عملاً؛ لأنه مطمئن إلى حسن عمله وهو سوء.. ولا يصلح خطأ؛ لأنه واثق أنه لا يخطئ.
أفهذا يرجى له صلاح ومتاب؟.
أفهذا كمن يحاسب نفسه ويراقب ربه؟.
أفهذا يستوي مع المؤمنين الأتقياء؟.
والله سبحانه له الخلق والأمر وحده، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ومثل هذا قد كتب الله عليه الضلالة، وهو مستحق لها بما زين له الشيطان من سوء عمله، وبما فتح عليه هذا الباب الذي لا يعود منه ضال، وبمطاوعته للشيطان، وتسليم نفسه له: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 37].
إن طبيعة الضلال برؤية العمل حسناً وهو سوء، وطبيعة الهدى بالحذر والمحاسبة والتقوى، وما دام الأمر كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فالهدى والضلال ليس من أمر البشر، إنما هو من أمر الله وحده، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وهو مقلب القلوب والأبصار، يعلم من يستحق الكرامة فيكرمه، ومن يستحق الإهانة فيذله: (گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [فاطر: 8].
(13/93)
وهذه حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم، وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من خير.. ورأوا الناس في الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون.. ولا يرون ما فيها من الخير والجمال.. ولا يستمتعون بما فيها من الحق والكمال والآداب.
وما أجمل أن يدرك الدعاة هذه الحقيقة التي واسى الله بها رسوله، فيبلغوا دعوتهم باذلين فيها أقصى جهدهم، ثم لا يَأْسَوا ولا يحزنوا بعد ذلك على من لم يقدِّر الله له الصلاح والفلاح.
إن الله عليم بما يصنعون، يقسم لهم الهدى أو الضلال وفق علمه، والله يعلم هذه الحقيقة قبل أن تكون منهم، ولكنه لا يحاسبهم على ما يكون منهم إلا بعد أن يكون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 46].
والشيطان لا يبذل جهده لمن باع نفسه للمعصية، وانطلق يخالف كل ما أمر الله به، ويتمرغ في الكفر والظلم والمحرمات.
فالنفس الأمارة بالسوء ليست محتاجة إلى إغواء؛ لأنها تأمر صاحبها بالسوء: (پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يوسف: 53].
ولذلك فإن إبليس لا يذهب إلى الحانات، وأماكن اللهو والفجور، ومستنقعات الزنا والرذيلة والفساد.
فهذه الأماكن كل من يذهب إليها ذاهب إلى معصية، وليس في حاجة إلى إغواء؛ لأنه قد اختار هذا الطريق العفن.
ولكن إبليس يذهب إلى بيوت الإيمان، وبيئات الطاعة، وأماكن العبادة، وساحات الفضيلة، ومن سار على الصراط المستقيم عابداً وداعياً، ومعلماً ومربياً، ومحسناً ومتصدقاً، وناصحاً ومرشداً.
هؤلاء الذين يبذل معهم إبليس كل جهده، وكل حِيَله، وكل مَكْره، وكل كيده، وكل إغوائه، ليصرفهم عن عبادة الله كما قال الله عنه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [الأعراف: 16، 17].
(13/94)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لاِْبنِِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلَامِ فَقَالَ تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ، فَقَالَ رَسُولُ ا? ( « فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى ا? عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى ا? عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى ا? أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى ا? أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» أخرجه أحمد والنسائي(1).
فالشيطان لا يقعد لبني آدم على الطريق المعوج؛ لأن الطريق المعوج لا يحتاج إلى جهد؛ لأنه بطبيعته يتبع الشيطان.
ومن هنا فإن إبليس يغوي أهل الطاعة، لا أهل الشر والفساد، بأن يزين للمسلمين المعاصي والفواحش، ويغريهم بمد أيديهم إلى المال الحرام، أو بترك واجب، أو فعل محرم، ونحو ذلك مما حرمه الله.
والله سبحانه اختار للإنسان طريق الخير والحياة الكريمة في الأرض، ورسمه له وبينه، ولكن الشيطان يأتي ويزين له طريق الباطل، ويحاول أن يصور له أن فيه خيراً.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (16054)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (2979).
وأخرجه النسائي يرقم (3134)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (2937).
(13/95)
فإذا سقط الإنسان في الشر هرب إبليس ونال الإنسان العقوبة، فجميع الجرائم يزين الشيطان للإنسان أنه سيفلت منها. ويظل يوسوس له، ويقنعه حتى يقتنع، ثم بعد ذلك ينكشف أمره، فيهرب الشيطان ويترك الإنسان يواجه مصيره كما غرَّ الكفار في غزوة بدر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [الأنفال: 48].
وكما دخل إبليس من ناحية الغفلة لآدم، دخل كذلك من ناحية الغفلة لأبناء آدم يريد أن يغويهم ويضلهم.
فهناك عداوة سابقة بين إبليس وآدم، وإبليس طُرد من الجنة بسبب آدم (، وطرد من رحمة الله بسبب معصية عدم السجود لآدم، فهو عدو لآدم وذريته إلى يوم القيامة.
وطلب إبليس من الله سبحانه أن يمهله إلى يوم البعث؛ لينتقم من آدم وذريته بإبعادهم عن الصراط المستقيم، وإغرائهم بكل معصية تكون سبباً لدخولهم النار.
والشيطان يشم ابن آدم، ويأتيه من الباب الذي يسهل دخوله منه عليه، فإذا وجد الإنسان متشدداً في جهة، أتاه من الجهة التي هو فيها ضعيف.
فإذا كان الإنسان متشدداً في الصلاة يحافظ عليها، ويؤديها في أوقاتها، ويواظب على فرائضها ونوافلها، جاءه إبليس من ناحية المال، فيوسوس له حتى لا يخرج الزكاة، ويقتر ويأكل حقوق الناس، مدخلاً السرور على نفسه بأن هذه الطريقة تزيد ما عنده، وتجعله غنياً آمناً مطمئناً.
والصدقة لا تنقص المال بل تزيده، وتضع البركة فيه، وتجعله يزداد وينمو، والمال مال الله، ينتقل من يد إلى يد، وحينما يحين الأجل يتركه الإنسان ويمضي.
(13/96)
وللشيطان خطوات في هذا: فيمنعه من الصدقات أولاً، ثم يمنعه من الزكاة، ثم يغريه بأكل الأموال المتشابهة، ثم يغريه بأكل المال الحرام، ونهب أموال الناس، ثم يغريه بالتوسع في الشهوات، ثم يدخله المحرمات، ثم يهوِّن عليه ارتكاب الكبائر، ثم تبدأ المعاصي تزيد شيئاً فشيئاً، حتى تغطي القلب كله، وتمنعه من ذكر الله، وامتثال أوامره، ولا يتركه الشيطان حتى يخرجه من الإسلام: (? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 38].
وإن وجد الشيطان في المؤمن تشدداً من ناحية الصلاة والزكاة، ووجد ضعفاً من ناحية النساء، أتاه من ناحية هذا الضعف، فيظل يزين له امرأة خليعة أو صالحة، ويزينها في نظره، ويغريه بسماع صوتها، ورؤية جمالها، ويوسوس له ولها، حتى يسقط في الحرام، ومتى سقط في الزنا سقط في الكبائر.
فإن كان قوياً في هذه النواحي كلها جاء إبليس وزين له مجالس الخمر، ومجالس السوء والغيبة والنميمة.. وهكذا حتى يظفر به.
وهناك فرق بين معصية يوحي بها الشيطان.. ومعصية تصر عليها النفس.
فإذا حدثتك نفسك بمعصية، وأصررت عليها، فاعلم أن النفس هي التي قادتك إلى هذا اللون من المعصية؛ لأن النفس تريد من صاحبها أن يحقق لها رغباتها وشهواتها.
أما إبليس فليس على هذا المنوال، فإبليس يريد من المؤمن أن يكون عاصياً بأي شكل من أشكال المعصية، ولا يهمه نوع معين من العصيان في ذاته.
فإذا طرق الشيطان لك باباً، ووجدك فيه متشدداً متمسكاً لا تصغي إليه، انطلق يطرق باباً آخر يجدك فيه مصغياً إليه، قابلاً منه.. وهكذا ينتقل من باب إلى باب حتى تسقط في قبضته، وتستمع إليه، وتستجيب لأمره.
وكل عبادة للأصنام والأوثان والقبور، وكل معصية تقع من الإنسان، فإنما هي عبادة للشيطان؛ لأنه هو الذي أمر بها الإنسان وزينها له، وغره بها، فأطاعه وعصى ربه الذي حذره منه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [يس: 60-62].
(13/97)
2- فقه تسليط الشيطان على الإنسان
قال الله تعالى: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 98-100].
وقال الله تعالى: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 20].
الناس فريقان:
أولياء الرحمن.. وأولياء الشيطان.
والله عزَّ وجلَّ إنما يسلط الشيطان على الذين يتولونه، والذين هم به مشركون، فلما تولوه من دون الله، وأشركوا معه، عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم.
وهذه عقوبة خلو القلب وفراغه من الإيمان والإخلاص، والإنابة العاصمة من ضدها، وإخلاص الدين يمنع من سلطان الشيطان، وإخلاص القلب لله مانع له من فعل ما يضاده، وإلهامه البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص، وإلهام الفجور عقوبة خلوه من الإخلاص.
ولله سبحانه عقوبتان:
إحداهما: جعله العبد خاطئاً مذنباً لا يحس بألم العقوبة ومضرتها، لموافقتها شهوته وإرادته، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات.
الثانية: العقوبات المؤلمة بعد فعله السيئات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 44].
فالعقوبة الأولى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 44].
والعقوبة الثانية: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 44].
فالعقوبة الثانية ترتبت على الأًوْلى، لكن العقوبة الأولى عقوبة موافقة لهواه وإرادته فلهذا لا يشعر بها، والثانية مخالفة لما يحبه ويلتذ به، ولذلك يتألم بها.
والله سبحانه إنما وضع العقوبة في محلها الأولى بها، الذي لا يليق بها غيره، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ومن يستحق الكرامة، ومن يستحق الإهانة.
والإخلاص لله والمحبة له والإنابة إليه محض منَّته وفضله على عبده، وهو من أعظم الخير الذي هو في يده، فالخير كله في يديه، ولا يقدر أحد أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه الله، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه الله.
فإن قيل: فمن لم يخلق الله ذلك في قلبه، ولم يوفقه له، ولا سبيل له إليه بنفسه، ألا يكون منعه منه ظلماً؟.
(13/98)
قيل: لا يكون منه سبحانه ذلك ظلماً، وإنما يكون المانع ظالماً إذا منع غيره حقاً لذلك الغير عليه، وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه.
وأما إذا منع غيره ما ليس حقاً له، بل هو محض فضله ومنَّته عليه لم يكن ظالماً بمنعه كما قال سبحانه: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 40].
والشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، ويحرمه من ثوابه.
وكلما كان الفعل أنفع للعبد، وأحب إلى الله تعالى، كان اعتراض الشيطان له أكثر، فالشيطان بالرصيد للإنسان على طريق كل خير، ولا سيما عند قراءة القرآن، ومناجاة الله، والقيام بين يديه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ -أوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا -لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ، فَأمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَأرَدْتُ أنْ أرْبِطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ اغْفرْ لي وَهَبْ لي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي» متفق عليه(1).
وقد أمر الله سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذي يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله تعالى منه، ويواصل سيره في طاعة ربه كما قال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ?) [النحل: 98].
فليس للشيطان طريق ولا سلطان يتسلط به على الذين آمنوا، لا من جهة الحجة، ولا من جهة القدرة.
إنما سلطان الشيطان على أهل الشرك، وعلى من تولاه، بالإغواء والإضلال، وتمكنه منهم بحيث يؤزهم إلى الكفر والشرك، ويزعجهم إليه، ولا يدعهم يتركونه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [مريم: 83].
ولكن ليس للشيطان عليهم سلطان حجة وبرهان، وإنما استجابوا له بمجرد دعوته إياهم، لما وافقت دعوته أهواءهم وأغراضهم.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (461) واللفظ له، ومسلم برقم (541).
(13/99)
فهم الذين أعانوا على أنفسهم، ومكنوا عدوهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته، فلما أعطوا بأيديهم، واستأسروا له، سلط عليهم عقوبة لهم.
وسنة الله تبارك وتعالى أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 141].
فهذا هو الأصل، ولكن المؤمنين يصدر منهم من المعاصي والمخالفات التي تضاد الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم، كما تسببوا إليه يوم أحد بمعصية الرسول ومخالفته فأصابهم ما أصابهم واستزلهم الشيطان بما كسبوا.
والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطاناً، حتى جعل له العبد سبيلاً إليه بطاعته والشرك به وموالاته، فجعل الله حينئذ له على الإنسان تسلطاً وقهراً.
فالتوحيد وفروعه، والإيمان وشعبه من التوكل، والإخلاص، واليقين يمنع سلطان الشيطان على الإنسان.
والشرك وفروعه من البدع، والمعاصي، والمنكرات يوجب سلطانه كما قال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 98-100].
والجميع بقضاء مَنْ أَزِمَّة الأمور بيده، ومردها إليه، وله الحجة البالغة سبحانه فيما قضى وقدر، وفيما حكم وشرع.
والإرسال في القرآن نوعان:
إرسال كوني.. وإرسال شرعي.
فالإرسال الكوني كما يرسل الله الرياح، ويرسل المياه على الأرض، وإرسال الشياطين على الكافرين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [مريم: 83].
فهذا الإرسال كوني قدري كإرسال الرياح، فهو إرسال تسليط، فلما كفروا عاقبهم الله بتسليط الشياطين عليهم، فأُرسلوا عليهم وقُيضوا لهم بكفرهم كما قال سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [فصلت: 25].
فقيض الله لهؤلاء الكفار بسبب كفرهم وجحدهم الحق قرناء من الشياطين يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم.
(13/100)
فالدنيا زخرفوها بأعينهم، ودعوهم إلى لذاتها، وأغروهم بشهواتها المحرمة، حتى افتتنوا فأقدموا على معاصي الله، وسلكوا ما شاءوا من محاربة الله ورسله وأوليائه.
والآخرة بعَّدوها عليهم، وأنسوهم ذكرها، ووسوسوا لهم بعدم وقوعها، فترحَّل خوفها من قلوبهم، فقادتهم الشياطين إلى شهوات الدنيا، وشغلتهم بها حتى غفلوا عن الآخرة، ووقعوا في الكفر والشرك والبدع والمعاصي وجروا غيرهم إليها، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [مريم: 83].
وهذا التسليط والتقييض من الله للشياطين على الكافرين والمكذبين والعصاة بسبب جحودهم الحق، وإعراضهم عن ذكر الله وآياته كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 36، 37].
أما الإرسال الشرعي فكما أرسل الله رسله إلى البشر بالدين الحق يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما سواه كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [الصف: 9].
فالإرسال نوعان:
إرسال دين يحبه الله ويرضاه كإرسال رسله وأنبيائه إلى عباده.. وإرسال كون وهو نوعان: نوع يحبه ويرضاه كإرسال ملائكته وتدبير أمر خلقه، ونوع لا يحبه بل يسخطه كإرسال الشياطين على الكفار.
وكل عبد عاجز عن جلب المنافع الدينية والدنيوية، ولذلك شُرع له أن يذكر الله على كل أحيانه، ويستعين به في جميع أحواله، فيذكر اسم الله في كل عمل خاصة عند تلاوة القرآن الذي فيه منافع الدنيا والآخرة (بسم الله الرحمن الرحيم) في بداية كل سورة.
وكذلك العبد عاجز عن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية، وأعظم ما يسبب هذه المضار الشيطان لحسده الإنسان، ولهذا شرع للعبد أن يستعيذ بالله منه، فإنه منبع الشرور والآثام خاصة عند تلاوة القرآن الذي فيه كل خير ونعمة للإنسان كما قال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ?) [النحل: 98].
(13/101)
فلا قادر على جلب المنافع الدينية والدنيوية وإيجادها إلا الله وحده، ولا قادر على دفع المضار الدينية والدنيوية إلا الله وحده.
فليستعن العبد بربه، وليستعذ به من كل شر وشيطان.
والجن والإنس كل منهما يستمتع بالآخر، فاستمتاع الجن بالإنس طاعتهم لهم فيما يأمرونهم به من الكفر، والفسوق والعصيان، فهذا أكثر أغراض الجن من الإنس.
واستمتاع الإنس بالجن أنهم أعانوهم على معصية الله تعالى والشرك به بكل ما يقدرون عليه من التحسين والتزيين، وقضاء الحوائج، واستخدامهم بالسحر والعزائم وغيرها.
فأطاعهم الإنس فيما يرضيهم من الشرك والفواحش والفجور، وأطاعهم الجن فيما يرضيهم من التأثيرات والإخبار ببعض المغيبات، فتمتع كل من الفريقين بالآخر، شياطين الجن، وشياطين الإنس.
فالفاسق يستمتع بالشيطان بإعانته على أسباب فسوقه، والشيطان يستمتع به في قبوله منه وطاعته له فيُسَرّ بذلك.
والمشرك يستمتع به الشيطان بشركه به وعبادته له، ويستمتع هو بالشيطان في قضاء حوائجه، وإعانته له.
فكل من الثقلين ممتَحَن بالآخر، ومبتلى به.
فما أعظم إضلال الشياطين لبني آدم؟ وما أكثر ما أفسدوه منهم؟.
وسوف يسأل الله جميع الثقلين من الإنس والجن، من ضل منهم، ومن أضل، عما عملوا وما اقترفوا من الآثام والفواحش كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الأنعام: 128].
فلما بلغوا الأجل، وهو يتناول أجل الموت وأجل البعث قال الله لهم: النار مثواكم خالدين فيها، فقد انقطع زمن التمتع، وانقضى أجله، وبقي زمن العقوبة، وانقضى زمن الشرك والكفر، وبقي زمن العذاب والعقوبة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 63].
والشيطان عدو للإنسان، واقف له بالرصد على طريق كل خير، وأحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، خاصة عند قراءة القرآن الذي هو نور وشفاء وهدى للناس.
(13/102)
ولهذا أمر الله بالاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن كما قال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ?) [النحل: 98].
وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى، كان اعتراض الشيطان له أكثر، وكيده له أعظم.
3- فقه خطوات الشيطان
قال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 208].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 21].
خطوات الشيطان وطرقه يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب واللسان والجوارح، فالشيطان يأمر بكل ما تستفحشه العقول والشرائع من الذنوب العظيمة، والكبائر المهلكة، وكل ما تنكره العقول ولا تعرفه من المعاصي والفواحش، ولولا فضل الله ورحمته على العباد ما تطهر أحد من اتباع خطوات الشيطان؛ لأن الشيطان يسعى هو وجنده في الدعوة إليها وتحسينها، والنفس ميّالة إلى السوء، أمّارة به، والنقص مستول على العبد من جميع جهاته، فلو خُلِّى وهذه الدواعي ما زكا أحد بالتطهر من الذنوب والسيئات، والنماء بفعل الحسنات.
ولكن الله بفضله ورحمته يزكي من يعلم منه أنه يتزكى بالتزكية كما قال سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 21].
وقد أمر الله المؤمنين أن يدخلوا في السلم كافة، ويعملوا بجميع شرائع الإسلام، ولا يتركوا منها شيئاً، فيفعل المسلم كل ما يقدر عليه من الأعمال الصالحة، وما يعجز عنه ينويه فيدركه بنيته.
ولا يمكن الدخول في السلم كافة إلا باتباع شريعة الرحمن، ومخالفة طرق الشيطان في العمل بمعاصي الله، فالشيطان يأمر بكل سوء وفاحشة، وبكل منكر وضرر، وبكل محرم وقبيح.
فالسبل التي يسلكها الإنسان أربعة:
اليمين.. والشمال.. والأمام.. والخلف.
وأي سبيل سلكها الإنسان من هذه وجد الشيطان عليها رصداً له.
(13/103)
فإن سلكها العبد في طاعة وجد الشيطان عليها يثبطه عنها ويبطِّئه ويعوقه، وإن سلكها في معصية وجده عليها حاملاً له، وخادماً، ومعيناً ومزيناً كما قال سبحانه عنه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [الأعراف: 16، 17].
فالشيطان يضل الناس ويغويهم، ويستعمل لتحقيق مراده منهم هذه الجهات الأربع، فبقى للإنسان جهتان: الفوق.. والتحت، لا يقدر عليهما الشيطان، فإذا رفع الإنسان يديه إلى الله في الدعاء على سبيل الخضوع، أو وضع جبهته ساجداً لله على الأرض على سبيل الخشوع والخضوع، غفرت ذنوبه؛ لأن الباب مفتوح، والدعاء مسموع، والتوجه إلى الله حاصل.
وخطوات الشيطان في إفساد الدين والأخلاق والعباد كثيرة جداً، وأشدها وأخطرها ما كان مزيناً للناس بصورة الحق ومن ذلك:
أن الله عزَّ وجلَّ أمر بإخلاص الدين لله وحده لا شريك له، ونهى عن الشرك بالله، ثم أظهر الشيطان للمسلمين الإخلاص في صورة تنقص الصالحين، والتقصير في حقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين واتباعهم.
ومنها أن الله سبحانه أمر بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق فيه، ثم أظهر الشيطان للأمة أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين، وتحول العلم الشرعي إلى خلاف وجدل فرَّق الأمة إلى شيع وأحزاب ومذاهب متناحرة، وصار الأمر بالاجتماع في الدين مستحيل لا يقوله إلا أحمق أو مجنون.
ومنها أن الله سبحانه أمر بالسمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبداً حبشياً إلا في معصية الله، ثم صار هذا الأصل بسبب كيد الشيطان لا يعرف عند كثير ممن يدعي العلم فكيف العمل به؟.
ومنها أن العلم الشرعي هو ما جاء عن الله ورسوله (، ثم أظهر الشيطان للأمة أن العلم والفقه في الدين هو البدع، ومعرفة الخلاف وأصول الجدل.
وصار العلم الذي فرضه الله على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلا منافق أو جاهل بزعمهم، وصار من أنكره وعاداه وجَدَّ في التحذير منه هو الفقيه العالم.
(13/104)
ومنها ترك القرآن والسنة، واتباع الآراء والأهواء المختلفة، بحجة أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا العالم المجتهد المطلق، والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا مما يتعذر وجوده.
ومنها أن الله عزَّ وجلَّ ذكر أنه أنزل القرآن ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، فزين لهم الشيطان أن الأمر ضد ذلك، وأنهم ما تأخروا إلا بسبب التمسك بالقرآن.
وذكر سبحانه أن الإيمان سبب للعلو والعز في الدنيا والآخرة، فأظهر الشيطان للناس أن العلو والرفعة والشرف بتعلم علم اليهود والنصارى، فأقبلوا على ذلك، وجفا أكثرهم كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
وأنزل الله القرآن عربياً لعلهم يفقهونه، فزين لهم الشيطان ضد ذلك، فأقبلوا على تعلم الكتب الأعجمية لظنهم سهولتها، وصعوبة فهم القرآن.
ومنها أن الله ذكر أن الأمة لو عملت بالدين الحق لصلحت دنياها وأخراها، فزين لهم الشيطان ضد ذلك، وذكر سبحانه أنه الله أنزل القرآن تفصيلاً لكل شيء، وأنه من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، وأنه من يتوكل على الله فهو حسبه، فأظهر لهم الشيطان أن الأمر بخلاف ذلك.
وذكر الله أن تزوج الفقير سبب لغناه، وأن صلة الرحم، وإخراج الزكاة سبب لزيادة المال وكثرته، فظن الأكثر أن الأمر بخلاف ذلك، وتُركت الزكاة خوفاً من نقصه، وغير ذلك مما زينه الشيطان وأضل به العباد مما عم وطم: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 20].
وكيد الشيطان خفي ماكر، فكم اصطاد به من الرجال والنساء، ومن العلماء والخاصة والعامة.
والمداخل التي يأتي الشيطان من قِبَلها إلى الإنسان ثلاثة:
الشهوة.. والغضب.. والهوى.
فالشهوة بهيمية، وبها يصير الإنسان ظالماً لنفسه، ومن نتائجها الحرص والبخل.
والغضب سبعية، وهو آفة أعظم من الشهوة، وأشد خطراً، وبالغضب يصير الإنسان ظالماً لنفسه، وظالماً لغيره، ومن نتائجه العجب والكبر.
(13/105)
والهوى شيطانية، وهو آفة أعظم من الشهوة، وأعظم من الغضب، وبالهوى يكون الإنسان ظالماً لنفسه، وظالماً لغيره من المخلوقات، ويتعدى ظلمه إلى خالقه بجحد حقه بالكفر والشرك والمعاصي، ومن نتائجه الكفر والبدعة.
وأكثر ذنوب الخلق بهيمية؛ لعجزهم عن غيرها، ومنها يدخلون إلى بقية الأقسام، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [هود: 112].
وجميع الشرور في العالم إنما سببها الشيطان، فهو يجتهد على بني آدم بكل ما يستطيع من وسائل ليخرجهم من الحق إلى الباطل، ومن الإيمان إلى الكفر، ومن السنة إلى البدعة، ومن الطاعات إلى المعاصي.
وللشيطان خطوات وطرق ووسائل يسلكها لإضلال الناس عن الهدى.
وللشيطان شرور كثيرة، ولكن ينحصر شره في سبع خطوات، ولا يزال بابن آدم حتى يوقعه في واحدة أو أكثر، وهي كما يلي:
الشر الأول: شر الكفر والشرك، ومعاداة الله ورسوله، فلا يزال الشيطان بالإنسان حتى يخرجه من الإيمان إلى الكفر، ومن التوحيد إلى الشرك، وهذه أعظم شروره وأكبرها وأخطرها، فإن عجز عنه نقله إلى ما بعده وهو:
الشر الثاني: وهو شر البدعة التي هي باب الكفر والشرك، فإن يئس منه نقله إلى ما بعده وهو:
الشر الثالث: شر الكبائر على اختلاف أنواعها، فإن عجز عنه نقله إلى ما دونها وهو:
الشر الرابع: شر الصغائر من الذنوب التي ربما اجتمعت عليه فأهلكته، فإن عجز عنه نقله إلى ما دونها وهو:
الشر الخامس: وهو إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب عن الطاعات والواجبات، فإن عجز عنه نقله إلى ما دون ذلك وهو.
الشر السادس: وهو إشغاله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل، كإشغاله بالنوافل حتى تفوت الفرائض، وبتوزيع المال حتى تفوت صلاة الجماعة.
فإن أعجزه العبد في كل ما سبق نقله إلى آخر ما يقدر عليه وهو:
(13/106)
الشر السابع: بأن يسلط عليه حزبه من شياطين الإنس والجن بأنواع الأذى، والتكفير، والتضليل، والتبديع، والتفسيق، والتحذير منه، وقصد إخماله.
ليشوش عليه قلبه.. ويشغل بحربه فكره.. وليمنع الناس من الانتفاع به.. فحينئذ يلزم المسلم أن يلبس لأمة الحرب، ولا يضعها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أُسِر أو أصيب، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله بثواب المجاهدين: و(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
والشيطان للإنسان عدو مبين، وهو الآن يُسيِّر الأمة ويخطو بها للتوسع في الحلال والمباحات والشهوات.. والحرام حد المباحات.. فلا يزال الشيطان بالإنسان حتى ينقله من المباحات إلى المحرمات لتكميل شهواته.. والكفر حد المحرمات.. فلا يزال الشيطان بالإنسان حتى ينقله من المحرمات إلى الكفر لتكميل شهواته وإضاعة أوامر الله.
فهذه خطوات الشيطان:
التوسع في المباحات، ثم الدخول في المحرمات، ثم الكفر وترك أوامر الله من أجل الشهوات، ثم الدعوة إلى الكفر والمعاصي كما يفعل الشيطان، فليحذر العبد من كيد الشيطان ومكره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 168، 169].
وقلب الإنسان كالحصن، والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولي عليه، ويقيم فيه، ويطرد من فيه، ولا يمكن حفظ الحصن إلا بحراسة أبوابه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يعرفها.
وأبواب الشيطان ومداخله التي يدخل منها إلى القلب صفات العبد.
ومن أبوابه العظيمة التي يهلك بها الناس باب الحسد والحرص، فإن الشيطان يحسِّن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته، وإن كان فاحشاً أو منكراً أو حراماً.
ومنها باب الغضب والشهوة والحدة، فالغضب غول العقل، والشهوة بحر يركض فيه الشيطان، وإذا ضعف جند العقل هجم الشيطان، فلعب بالإنسان، وزجه فيما حرم الله.
(13/107)
ومنها حب التزين في الثياب والأثاث، والمساكن والمراكب، فلا يزال الشيطان بالإنسان حتى يخسر عمره وأوقاته في التشييد والتزيين.
ومنها باب الشبع، فالشبع يقوي الشهوة، ويشغل عن الطاعة.
ومنها باب الطمع، فإن من طمع في شخص بالغ في الثناء عليه بما ليس فيه، وداهنه فلم يأمره بالمعروف، ولم ينهه عن المنكر.
ومنها باب العجلة وترك التثبت، ليقع المسلم في الأخطاء والآثام والمحرمات.
ومنها حب المال، وحب المال إذا تمكن من القلب أفسده، وحمله على طلب المال من غير وجهه، وأخرجه إلى البخل وخوف الفقر، فمنع الحقوق اللازمة ومنها سوء الظن بالمسلمين، فإن من حكم على مسلم بسوء ظنه احتقره وأطلق فيه لسانه، ورأى نفسه خيراً منه.
وسوء الظن يدل على خبث الظان؛ لأن المؤمن يطلب المعاذير للمؤمن، والمنافق يبحث عن عيوبه، وعلى المسلم أن يحترس من مواقع التهم؛ لئلا يُساء به الظن.
وعلاج هذه الآفات يكون بسد المداخل التي يدخل منها دخان الشيطان، وتطهير القلب عن الصفات المذمومة بالتوبة والاستغفار كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 208].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 268].
وإذا غلب على الإنسان هواه استسلم للشيطان وجنوده، فقادوه حيث شاؤوا، وله معهم حالتان:
إحداهما: أن يكون من جندهم وأتباعهم، وهذه حال العاجز الضعيف.
الثانية: أن يصير الشيطان من جنده، وهذه حال الفاجر القوي المتسلط الداعية المتبوع المبتدع.
فيصير إبليس وجنده من أعوانه وأتباعه، وهؤلاء هم الذين غلبت عليهم شقوتهم، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.
وهذه الحالة هي حالة جَهْد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وعَمَل أصحابها المكر والكذب، والخداع والغرور، والتسويف بالعمل، وطول الأمل، وإيثار العاجل على الآجل.
وهؤلاء أئمة جنود الشيطان، وهم أنواع شتى:
(13/108)
فمنهم المحارب لله ورسوله.. الساعي في إبطال ما جاء به الرسول.. يصد عن سبيل الله ويبغيها عوجاً.. ومنهم المقبل على دنياه وشهواته فقط.. ومنهم المنافق الذي يأكل بالكفر والإسلام.. ومنهم الماجن الذي قطع أنفاسه بالمجون واللهو واللعب.. إلى غير ذلك من أصناف المغترين الذين اتبعوا شهواتهم، فسلط الله عليهم من كان حقهم أن يتسلطوا عليه وهو الشيطان، وجعلهم تحت قهره وتصرفه وسلطانه، يسخرهم حيث شاء، ويَسْخر منهم ويزعجهم إلى كل معصية وفاحشة وشر.
وشياطين الإنس والجن منهم من يختار الكفر والشرك والمعاصي، وإبليس وجنوده من الشياطين يشتهون الشر، ويلتذون به، ويطلبونه ويحرصون عليه بمقتضى خبث أنفسهم، وإن كان موجباً لعذابهم، وعذاب من يغوونه.
والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به، بل يعشق ذلك عشقاً يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله.
والشيطان هو نفسه خبيث، فإذا تقرب إليه السحرة والكهان بما يحبه من الكفر والشرك صار ذلك كله كالرشوة له، فيقضي بعض أغراضه، كمن يعطي غيره مالاً ليقتل له من يريد قتله، أو يعينه على فاحشة أو سرقة.
4- فقه كيد الشيطان للإنسان
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 76].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 63].
الشيطان عدو للإنسان، فأيما سبيل سلكه الإنسان يمين أو شمال، أمام أو خلف، إلا وجد الشيطان عليه رصداً له.
فإن سلكه في طاعة قطعه أو عاقه.. وإن سلكه في معصية حمله وزينها له: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 120].
(13/109)
فالشيطان كما أخرج آدم وزوجه من الجنة، يريد أن يفتن ذريته كذلك، ويخرجهم من التوحيد إلى الشرك، ومن الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعات إلى المعاصي، ومن السنن إلى البدع، وبذلك ينقلهم من أعمال الجنة إلى أعمال النار، ويخرجهم من الجنة إلى النار كما أخرج أبويهم وأغراهم بمعصية الله، فليحذر الناس من فتنته كما أمرهم ربهم بقوله: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [الأعراف: 27].
فالشيطان للإنسان عدو مبين، وقد كشف الله لنا عن هذه العداوة، فهو يريد إضلال بني آدم وإهلاكهم، وقد غرَّ أكثرهم فزين لهم عبادة الأصنام والأوثان والكواكب والأحجار والأشجار وغيرها، وهم في الحقيقة إنما يعبدون الشيطان الذي زينها لهم، وأمرهم بعبادتها: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 117-119].
وكما أن الشيطان عدو للإنسان، فيجب على الإنسان أن يتخذه عدواً، يجاهده ويخالفه، ولا يطيعه أو يغتر به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [فاطر: 5، 6].
وقد وعد الله عباده المؤمنين على طاعته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، بالمغفرة والرضوان.
أما الشيطان فَوَعْده للناس أن يأمرهم بالشر، ويخوفهم من فعل الخير، وهذان الأمران جماع ما يطلبه الشيطان من الإنسان، فإنه إذا خوف الإنسان من فعل الخير تركه، وإذا أمره بالفحشاء وزينها له ارتكبها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 268].
والشيطان بمكره وكيده وتلبيسه يتلطف في دعوة الناس إلى الباطل، ويأتيهم بصورة ناصح لهم، مشفق عليهم، فيشم قلب ابن آدم لينظر ماذا يحب؟ وماذا يكره؟.. وماذا يريد؟.. وماذا يشتهي؟.
فإن رأى في قلبه كسلاً سعى في رده عن الدين بالكلية.
(13/110)
وإن رأى فيه قوة سعى في حمله على مجاوزة الحق، والزيادة على ما شرعه الله ورسوله، ليقع في الظلم والعدوان.
وإن رأى فيه حب الشهوات شغله بالشهوات والزينات عن السنن والواجبات.
والشيطان في كل يوم، بل في كل لحظة، يستفز كثيراً من بني آدم، ويرغبهم ويوقعهم في ألوان الفساد واللهو.. والزنا والسرقة.. والسكر والفواحش.. والظلم وسفك الدماء.. وذلك بالوسوسة والتزيين، والغرور والإغواء.. ولا يزال حتى تم له ما أراد.. واتبعه أكثر الناس كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 20].
ونية الشيطان في الفساد والإضلال عالمية لجميع الناس في كل زمان وفي كل مكان، فلا زال هو وذريته يعد الناس ويمنيهم، ويشاركهم في الأموال والأولاد، ويجتهد عليهم جميعاً ليفسدهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 82، 83].
ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم وفكره لجميع البشرية كيف يؤمنون بالله، ويعملون بالحق في الدنيا، ويدخلون الجنة في الآخرة.
وفكر الشيطان وجهده على جميع البشرية كيف يكفرون بالله، ويعملون بالباطل في الدنيا، ويدخلون النار في الآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [فاطر: 6].
وقد كاد الشيطان نفسه قبل كيده للأبوين، وكاد ذرية نفسه، وذرية آدم، فكان مشئوماً على نفسه، وعلى ذريته، وعلى أوليائه من الجن والإنس.
أما كيده لنفسه: فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم ، كان في امتثال أمره وطاعته سعادته وفلاحه، وعزه ونجاته.
فسولت له نفسه الجاهلة الظالمة أن في سجوده لآدم غضاضة عليه وهضماً لنفسه.
فلما قام بنفسه هذا الهوس، وقارنه الحسد لآدم، لما خصه الله به من أنواع الكرامة دونه، فإن الله خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته.
فعند ذلك بلغ الحسد من عدو الله كل مبلغ، ولما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم سجدوا كلهم إلا إبليس أبى وقال: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 12].
(13/111)
فعصى الشيطان الرب المعبود، وجمع بين الجهل والظلم، والكبر والحسد، والكفر والمعصية، فطرده الله ولعنه.
فأهان نفسه من حيث أراد تعظيمها.. ووضعها من حيث أراد رفعتها.. وأذلها من حيث أراد عزها.. وآلمها من حيث أراد لذتها.. وفعل بنفسه ما لو اجتهد أعظم أعدائه في مضرته لم يبلغ ذلك منه.
ومن كان هذا غشه لنفسه، فكيف يسمع منه العاقل ويقبل منه ويواليه؟.
(? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 50].
وأما كيده للأبوين (آدم وحواء) فلم يزل يخدعهما ويعدهما ويمنيهما الخلود في الجنة، حتى حلف لهما أنه ناصح لهما، فاطمأنا إلى قوله، وأجاباه إلى ما طلب منهما، فجرى عليهما من المحنة والخروج من الجنة ما جرى، وذلك بمكره وكيده الذي جرى به القلم، وسبق به القدر.
ورد الله سبحانه كيد الشيطان عليه، وتدارك الأبوين برحمته ومغفرته، فأعادهما إلى الجنة على أحسن الأحوال وأجملها، وعاد عاقبة أمره عليه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 37].
وأما كيد الشيطان لذرية آدم، فلا يزال الشيطان بمكره وكيده يسوق الناس إلى المعاصي والمنكرات والفواحش والآثام: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 118-119].
ومن كيد الشيطان للإنسان أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم، ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [آل عمران: 175].
ومن كيده أنه يورد الإنسان الموارد التي يخيل إليه أن فيها منفعته ومسرته، ثم يصدره المصادر التي فيها عطبه، ويتخلى عنه ويسلمه، ويقف يشمت به، ويضحك منه كما فعل بالمشركين يوم بدر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [الأنفال: 48].
(13/112)
ومن كيده أنه يأمر الإنسان ويزين له السرقة والزنا، والقتل والكفر، ثم يتبرأ منه ويسلمه ويشمت به: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 16].
ثم يتبرأ الشيطان من جميع أوليائه في النار، ويقول لهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 22].
فأوردهم كل الموارد، وتبرأ منهم كل البراءة، في وقت لا ينفع فيه الندم.
ومن مكايد الشيطان العظيمة أنه يسحر العقل حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله.
فيزين للعقل الفعل الذي يضره، حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء له، وينفر من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له، حتى يخيل له أنه يضره.
فسبحان الله كم فتن الشيطان بهذا السحر من إنسان؟.
وكم حال به بين القلب والإسلام والإحسان؟.
وكم جلا الباطل وأبرزه في صورة حسنة؟، وكم شنَّع على الحق وأخرجه في صورة مستهجنة؟.
فهو الذي سحر العقول وألقى أربابها في الأهواء والبدع، وسلك بهم سبل الضلال، وزين لهم عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام، ونكاح الأمهات، ووأد البنات، وهو الذي حسَّن الشرك والفسوق والعصيان لآدم وذريته.
فهو صاحب الأبوين حين أخرجهما من الجنة.. وصاحب قابيل حين قتل أخاه هابيل.. وصاحب قوم نوح حين أغرقوا.. وصاحب قوم عاد حين أهلكوا بالريح العقيم.. وصاحب قوم صالح حين أهلكوا بالصيحة.. وصاحب قوم لوط حين قلبت عليهم ديارهم ثم رجموا بالحجارة.. وصاحب فرعون وقومه حين أغرقوا.. وصاحب قريش حين هزموا وهلكوا يوم بدر.
وهو صاحب كل هالك ومفتون إلى يوم القيامة.
ومن كيد الشيطان العجيب أنه يشام النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها، قوة الإقدام والشجاعة، أم قوة الإحجام والمهانة.
فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في إضعاف همته وتثبيطه عن فعل المأمور به، وثقله عليه، ثم يهون عليه تركه حتى يتركه جملة أو يقصر فيه ويتهاون به.
(13/113)
وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به، ويوهمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة:
فيقصر بالأول.. ويتجاوز بالثاني.. ليبعد العبد عن سلوك الصراط المستقيم، ويسلك به صراط الجحيم.
فما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان:
إما إلى تفريط وتقصير.. وإما إلى مجاوزة وغلو.
ولا يبالي الشيطان بأيهما ظفر، وقد هلك أكثر الناس في هذين الواديين:
وادي التقصير.. ووادي المجاوزة.
وقليل منهم من يثبت على الصراط المستقيم الذي عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه.
فقصر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم.. وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.
وقصر بقوم حتى منعهم من طلب العلم الذي ينفعهم.. وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.
وقصر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة والجماعات، والعلم والجهاد.. وتجاوز بآخرين حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام.
وقصر بقوم عن الإتيان بواجبات الطهارة.. وتجاوز بآخرين إلى حد الوسواس، وقصر بقوم عن إخراج الزكاة.. وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا جميع ما يملكون، وصاروا كلاً على الناس.
وقصر بقوم عن تناول ما يحتاجون من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم.. وتجاوز بآخرين حتى أخذوا فوق حاجتهم فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.
وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح شاة ليأكلوها.. وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على سفك دماء الأنفس المعصومة.
وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم.. وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص.
وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في النكاح فرغبوا عنه بالكلية.. وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا الزنا والفواحش وما قدروا عليه من الحرام.
وقصر بقوم حتى جفوا العلماء والشيوخ من أهل الدين والصلاح، وأعرضوا عنهم.. وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى.
(13/114)
وقصر بقوم حتى منعهم من قبول أقوال أهل العلم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه، والحرام ما حرموه.
وقصر بقوم حتى قالوا إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل.. وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا الناس من الإسلام بالكبيرة الواحدة.
وقصر بقوم حتى عادَوْا أهل بيت رسول الله وقاتلوهم واستحلوا دماءهم.. وتجاوز بآخرين حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة، وربما ادعوا فيهم الإلهية.
وقصر باليهود حتى كذبوا المسيح، ورموه وأمه بما برأهما الله منه.. وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله، وجعلوه إلهاً يعبد مع الله.
وقصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب، ولم يلتفتوا إليها، وعدوها فضلاً.. وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعلمهم عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح.
فلا إله إلا الله كم فتن الشيطان بهذا الكيد والمكر من خلق الله؟.
ومن مكائد الشيطان أنه يأمر الغني وصاحب الجاه أن يلقوا المساكين والضعفاء وذوي الحاجات بوجه عبوس؛ لئلا يطمعوا فيهم، ويتجرؤوا عليهم، وتسقط هيبتهم من قلوبهم، فيحرمهم بذلك من محبتهم وصالح أدعيتهم.
ومن كيده أنه يغري الناس بتقبيل يد العالم أو الزاهد، والتمسح به، والثناء عليه، وسؤاله الدعاء، حتى يرى نفسه ويعجبه شأنها، فيفرح بذلك ويقع في قلبه حتى يظنه حقاً، وذلك الهلاك كله، وهو شر من أرباب الكبائر.
ومن كيده الذي بلغ به من الجهال ما بلغ الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال، وأخرجهم من السنة إلى البدعة، وخيل لبعضهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره.
فجمع لهم بكيده العظيم ومكره الخبيث بين هذا الظن الفاسد.. والتعب الحاضر.. وبطلان الأجر أو نقصه.
(13/115)
ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس ما أوحاه إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم، واتخذت أوثاناً، وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت الصور أجساماً لها ظل، ثم جعلت أصناماً وعبدت مع الله تعالى.
يطاف عليها.. ويسجد لها.. ويصلى عندها.. وتسكب عندها العبرات.. وتشكى إليها الحاجات.. وتحلق عندها الرؤوس.. وتذبح القرابين.. ويسأل الميت فيها قضاء الحاجات.. وتفريج الكربات.. وإقالة العثرات.. وتشد إليها الرحال من جميع الجهات.
فلله كم اغتال الشيطان من بني آدم، وزين لهم ما كانوا يعملون؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 76].
ومن أعظم مكايده ما نصبه للناس ليعبدوه من دون الله من شجر أو حجر أو عين أو قبر أو غير ذلك، والأزلام للتكهن وطلب علم ما استأثر الله بعلمه، فالأزلام للعلم، والأنصاب للعمل.
فلا إله إلا الله كم خدع الشيطان بهذا العمل من البشر، وأنساهم العهد والميثاق؟.
(? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يس: 60-62].
ومن أعظم كيد الشيطان ومكره أنه ينصب لأهل الشرك قبراً معظماً يعظمه الناس، ثم يجعله وثناً يعبد من دون الله، ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيداً فقد تنقصه وهضم حقه، فيسعى الجاهلون في قتله وعقوبته وتكفيره.
فسبحان الله كم شيد الشيطان من القبور التي تعبد من دون الله في العالم؟.
وكم غرَّ الشيطان بها كثيراً من الناس حتى عبدوه من دون الله من خلالها؟.
فوا أسفاه على النفوس والعقول التي انقادت لعدوها، وعبدته من دون الله: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 71].
(13/116)
ومن مكايد عدو الله ومصايده ما كاد به من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد به قلوب الجاهلين والمبطلين من سماع المكاء والتصدية، والغناء والعزف على الآلات المحرمة، الذي يصد به القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان.
وسماع الغناء والعزف من الرجال محرم، أما سماعه من المرأة الأجنبية فهو أشد حرمة، وأعظم فتنة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [لقمان: 6، 7].
ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله.
الحيل.. والمكر.. والخداع.. الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، وإسقاط ما فرضه الله، ومضادته في أمره ونهيه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [البقرة: 8-10].
ومن مكايده ومصايده ما فتن به عشاق الصور، تلك البلية العظمى التي استعبدت القلوب لغير خالقها، وملكت القلوب لمن يسومها سوء العذاب من عشاقها، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد.
فأوسعت القلوب محنة، وملأتها فتنة، وحالت بينها وبين رشدها ومولاها، ومحبة الصور المحرمة من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك، وأبعد من الإخلاص، كانت محبته بعشق الصور أشد.
فما أعظم تلاعب الشيطان بأكثر الخلق؟.
وما أشد فتنته حيث أخرج لهم أنواع الكفر والفسوق والعصيان في كل قالب.
ومن أعظم مكايده ومصائده ما كاد به المشركين في عبادة الأصنام، وتلاعب بكل قوم على قدر عقولهم.
فطائفة دعاهم إلى عبادة الأصنام من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، كما فعل بقوم نوح، فأطاعوه وعبدوها إما جهلاً، وإما عناداً لأهل التوحيد.
فمنهم عباد الشمس.. وعباد القمر.. وعباد البقر.. وعباد الحجر.. وعباد الماء.. وعباد النبات.. وعباد النار.. وعباد النور.. وعباد الظلام.
(13/117)
اتخذوا لها أصناماً يصلون عندها، ويطوفون بها، ويسألونها الحاجات.. ويقرِّبون لها القرابين، ويقضون عندها الأوقات، ويشدون إليها الرحال.
وزين لهم الشيطان وأوقع في نفوسهم أن هذه الأصنام تدبر أمر العالم العلوي والسفلي، تدخل فيها الشياطين وتكلمهم وتخبرهم ببعض المغيبات، وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم، وهم لا يرون الشياطين، فيظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم.
فإذا سمع العابد الخطاب والكلام من الصنم اتخذه إلهاً من دون الله.
وأضل الشيطان بمكره وكيده وتلاعبه ببني آدم أكثر أهل الأرض، فهم مفتونون بعبادة الشيطان عن طريق الأصنام والأوثان، ولم يتخلص منهم إلا الحنفاء الموحدون، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 42].
والأمم التي أهلكها الله بأنواع الهلاك كلهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان.
وأصل عبادة الأوثان والأصنام تشبيه المخلوق بالخالق في الإلهية حتى عبدوه من دون الله، وجعلوه نداً وعدلاً لله، يعبدونه ويسألونه كما يسألون الله جل جلاله، وزين لقوم عبادة الملائكة فعبدوهم من دون الله، ولم تكن عبادتهم في الحقيقة لهم، ولكن كانت للشياطين الذين أمروهم وزينوا لهم.
فعبدوا أقبح خلق الله، وأحقهم باللعنة والطرد والذم وهم الشياطين: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [سبأ: 40، 41].
فسبحان الله ما أعظم غفلة العباد، وما أشد مكر الشيطان وكيده حتى جعل طوائف من بني آدم تعبد الأحياء والأموات.. والأنبياء والملائكة.. والإنس والجن.. والنبات والحيوان.. والنور والنار.. والجبال والتراب.. والكواكب والنجوم.. والمياه والفروج: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 36، 37].
فما أخطر كيد الشيطان للإنسان.. فكم أضل من العباد؟
وكم أفسد من الأفراد والأمم والشعوب؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 63].
(13/118)
واه لعبدة الأصنام والأوثان.. ماذا تعبدون من دون الله؟.. وماذا تملك لكم هذه الأصنام والأوثان: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 17].
وعبّاد الأصنام والأوثان وإن تآلفوا وتحابوا عليها في الدنيا، فهم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ كل من العابد والمعبود من الآخر كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 25].
ومن كيد الشيطان للإنسان دفعه إلى إظهار كماله، وعدم الاعتراف بتقصيره، كي يسد عليه طريق الاستغفار والاستعاذة، مثيراً فيه أنانية النفس لتدافع عن ذاتها، فلا تستغفر الله ولا تستعيذ به، فتكون أضحوكة للشيطان.
ومن اتهم نفسه رأى عيوبها وتقصيرها.. ومن اعترف بتقصير نفسه استغفر ربه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يوسف: 53].
ومن مكايده أنه يحجب بسيئة واحدة للمؤمن جميع حسناته، وبذلك تفسد الحياة، فإن الإنسان ينسى بتلقين الشيطان، وبما يكمن في جبلته من الظلم مئات من حسنات أخيه المؤمن؛ لأجل سيئة واحدة بدرت منه جهلاً أو نسياناً، فيبدأ بمعاداته، ويدخل في الآثام.
ومن مكايد الشيطان للناس أنه في أعمال الشر والفساد يزين للناس الصبر ويجعله حلواً، وفي أعمال الخير والإصلاح والدعوة والعبادة يجعل الصبر صعباً مراً.
ومن مكايده لابن آدم الحزن؛ لأن الحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المجادلة: 10].
فالحزن مرض من أمراض القلب، يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، وثواب الصبر عليه كثواب المصائب التي يُبتلى بها العبد بغير اختياره كالمرض، والألم ونحوهما.
ومن مكايده أنه يريد من الإنسان الإسراف والتبذير في أموره كلها.
(13/119)
فإن رآه مائلاً إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلاً إلى الشدة زين له الشدة في غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر، واللين والرحمة، ما يأمره به الله ورسوله.
ويتعدى في الشدة فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله.
وبالإسراف والتبذير تحصل للعبد عقوبتان:
الأولى: أن الله لا يحبه؛ لأنه مسرف كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 31].
الثانية: أنه يصير أخاً للشيطان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 27].
هذه أعظم مكايد الشيطان وشروره في الدنيا، وفساده الذي أوقعه وما يزال يوقعه ببني آدم في الدنيا.
أما في الآخرة فالأمر أعظم وأشد، فإن الشيطان إذا قضي الأمر، ودخل أهل الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار، وقف خطيباً في أهل النار، متبرئاً منهم، قائلاً لهم: إن الله وعدكم وعد الحق على ألسنة رسله فلم تطيعوه، فلو أطعتموه لأدركتم الفوز العظيم، ووعدتكم الخير كذباً، فلن يحصل لكم ما مَنَّيتكم به من الأماني الباطلة.
وما كان لي عليكم من سلطان وحجة حين دعوتكم إلى مرادي، وزينته لكم فاستجبتم لي اتباعاً لأهوائكم وشهواتكم.
فإذا كان الأمر بهذه الصورة فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، فأنتم السبب وعليكم المدار في موجب العقاب الذي وصلتم إليه.
وما أنا بمصرخكم ومغيثكم من العذاب والشدة التي أنتم فيها، وما أنتم بمصرخيّ ولا نافعيّ، فكل له قسط من العذاب.
وأنا الآن كفرت بما أشركتموني من قبل، وتبرأت من جعلكم لي شريكاً مع الله، فلست شريكاً لله، ولا تجب طاعتي.
(13/120)
وقد وصلت وإياكم إلى ما يعاقب به كل ظالم في نار الجحيم، والظالمون لأنفسهم بطاعة الشيطان لهم عذاب أليم، وهم فيه خالدون أبداً.. فيا لها من عقوبة.. وما أشدها من حسرة.. إذا سمعها أولياء الشيطان منه في سواء الجحيم كما قال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 22].
والمؤمن الذي نوَّر الله بصيرته بنور الإيمان والتوحيد لا يسلَّط عليه الشيطان، وكلما قرب منه أحرقه نور الإيمان والتوحيد.
أما أصحاب الأحوال الشيطانية فيحسبهم الجاهل أولياء الرحمن، وإنما هم من أولياء الشيطان الذين أطاعوه في الشرك، ومعصية الله، والخروج عما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، فأطاعهم في أن خدمهم بإخبارهم ببعض المغيبات، واغتر بهم مَنْ قَلَّ حظه من العلم والإيمان فوالى أعداء الله، وعادى أولياءه، وحَسَّن الظن بمن خرج عن سبيل الله وسنته، وأساء الظن بمن اتبع سنة الرسول وما جاء به.
فما أعظم تلاعب الشيطان بالمشركين حتى عبدوه وأطاعوه واتخذوه وذريته أولياء من دون الله، وسيجزي الله الشيطان وأتباعه بنار جهنم كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الأنعام: 128].
فالفاسق يستمتع بالشيطان بإعانته له على أسباب فسوقه من الشهوات المحرمة، والشيطان يستمتع به في قبوله منه وطاعته له، فيسره ذلك، ويفرح به منه.
والمشرك يستمتع به الشيطان بشركه به، وعبادته له، ويستمتع هو بالشيطان في قضاء حوائجه وإعانته له.
وجزاء هذا الاستمتاع المحرم الخلود في نار جهنم، فإنه وإن انقضى زمن التمتع، فقد بقي زمن العقوبة على ذلك.
5- إفساد الشيطان لأهل الأديان
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [ص: 82، 83].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 63، 64].
(13/121)
الشيطان عدو مبين لجميع بني آدم، فهو يغريهم ويزين لهم كل ما يضرهم ويشقيهم في دنياهم وأخراهم، ولحسده وبغضه لهم فهو يريد أن يجرهم جميعاً معه إلى النار على مستوى:
الأفراد.. والأسر.. والمجتمعات.. والشعوب.. والأمم.. والقرون.
وقد حذر الله بني آدم من اتباعه وطاعته، ولكن أكثرهم اتبعوه وأطاعوه بما زين لهم من سبل الباطل، ومراكب الشهوات والشبهات، وأضل منهم جِبلاً كثيراً، وأرداهم إلى النار كفاراً فجاراً.
فما أعظم خسارة البشرية بمعصية الرحمن، وطاعة الشيطان؟
وما أعظم غفلتهم حيث لا يتعظ اللاحق بالسابق، ولا الحاضر بالماضي؟.
(? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يس: 60-62].
فلا بدَّ للإنسان من معرفة كيد الشيطان ومكره ليتقي شره، ويسلم من مكره وكيده، ويحذر من طاعته وتزيينه.
فمن مكر الشيطان وكيده ما زينه للمشركين من عبادة الأنوار والنيران التي يوقدونها ويعبدونها من دون الله وهم المجوس.
ومن مكره وكيده تلاعبه بالصابئة، وهم أمة كبيرة من الأمم الكبار، وهؤلاء كانوا قوم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم وأهل دعوته، وهم بِحَرَّان، وهم قسمان:
صابئة حنفاء.. وصابئة مشركون.
والمشركون منهم يعظمون الكواكب السبعة، زين لهم الشيطان فبنوا لها هياكل مخصوصة، وهي المتعبدات الكبار كالكنائس للنصارى، والبيع لليهود.
فلهم هيكل للشمس.. وهيكل للقمر.. وهيكل للزهرة.. إلخ.
صوروها واتخذوا لها أصناماً تخصها يعبدونها، ويقرِّبون لها القرابين.
وأصل مذهب الصابئة: أنهم يأخذون بمحاسن ديانات العالم ومذاهبهم، فالحنفاء منهم شاركوا أهل الإسلام في الحنيفية، والمشركون منهم شاركوا عباد الأصنام،
وسوف يجزي الله الجميع ويسألهم عما عملوا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 17].
(13/122)
والصابئة مُقِرُّون بأن للعالم خالقاً حكيماً مقدساً عن العيوب والنقائص، فالموحدون منهم عبدوه، والمشركون قالوا لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط، وهي الكواكب التي جعلوا لها هياكل في الأرض.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [البقرة: 62].
ومن مكر الشيطان وكيده تلاعبه بالدهرية الذين زين لهم الشيطان فقالوا إن العالم دائم لم يزل ولا يزال لا يتغير: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجاثية: 24].
وقالوا هذا العالم هو الممسك للأجزاء التي فيه، وجحدوا النبوات.
فداء التعطيل.. وداء الشرك.. وداء جحد النبوات.. وداء مخالفة الرسل.. أصل كل بلاء في العالم.. ومنبع كل شر.. وأساس كل باطل.. وقد سَرَت هذه الأدواء في قرون البشرية إلا من رحم الله.
ومن مكر الشيطان وكيده: تلاعبه باليهود حيث دعاهم إلى الشرك في حياة نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الأعراف: 138].
فأي جهل فوق هذا؟ لذا قال لهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [الأعراف: 139-140].
لقد طلبوا من مخلوق أن يجعل لهم إلهاً مخلوقاً فما أسفه عقولهم؟ وكيف يكون الإله مجعولاً؟.
فإن الإله الحق هو الجاعل والخالق لكل ما سواه، والمجعول مربوب مخلوق فيستحيل أن يكون إلهاً.
ومن تلاعبه بهم أن زين لهم عبادة العجل من دون الله تعالى، وقد شاهدوا ما حل بالمشركين والكفار من العقوبة، وشاهدوا صانعه يصنعه ويصوغه، ويصليه بالنار، ويدقه بالمطرقة، فأي سفه للعقول فوق هذا؟.
ومن عجيب أمرهم أنهم لم يكتفوا بجعله إلههم، حتى جعلوه إله موسى، فنسبوا موسى رسول الله إلى الشرك وعبادة غير الله، بل عبادة أبلد الحيوانات وهو العجل، وجعلوه إله كليم الرحمن.
(13/123)
بل حتى جعلوا موسى صلى الله عليه وسلم ضالاً مخطئاً إلهه، ذهب يطلبه وإلهه هاهنا، وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم كما قالوا لموسى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?) [طه: 87-89].
فتعلقوا به، وأحبوه أشد الحب، وأشربوا في قلوبهم العجل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 90، 91].
ومن تلاعب الشيطان باليهود أن زين لهم حتى قالوا لنبيهم موسى (: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 55].
وزين لهم أن واجهوا نبيهم لما دعاهم إلى القتال بأشنع الكلام حيث: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 24].
ومرة يعرض عليهم العمل بالتوراة فيمتنعون من ذلك حتى نتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [البقرة: 63، 64].
ومرة يقال لهم: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [الأعراف: 161].
فأزلهم الشيطان لأشنع القول والعمل فقالوا مستهزئين بأمر الله: حنطة في شعيرة، ودخلوا من قِبَل أستاهم، فبدلوا القول والفعل، فماذا فعل الله بهم:
(? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [الأعراف: 162].
ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم كانوا في البرية قد ظلَّل الله عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وزهدوا في أحسن الأطعمة وأشرفها، واستهانوا بأوامر الله ونعمه، فجازاهم الله من جنس عملهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة كما قال سبحانه: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 61].
(13/124)
ومن تلاعبه بهم أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه، وفَرَقَ بهم البحر، وأراهم الآيات والعجائب، ونصرهم وآواهم، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، ثم أمرهم بدخول القرية التي كتب الله لهم، وبشرهم بها، فأبوا طاعته، وامتثال أمره.
وقابلوا هذا الأمر والبشارة بقولهم لنبيهم: (? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 24].
فسبحان من عَظُم حلمه.. حيث يُقابل أمره بمثل هذه المقابلة.. ويواجه رسوله بمثل هذا الخطاب.. وهو يحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة.. بل وَسِعهم حلمه وكرمه فظللهم بالغمام.. وأنزل عليهم المن والسلوى من السماء.
ومن تلاعب الشيطان بهم أن الله أمرهم أن يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل ببعضها، فتعنتوا وأكثروا الأسئلة عن البقرة، فشددوا فشدد الله عليهم، وقالوا لموسى: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 67].
وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله، فإنها لما تعينت لهم توقفوا في الامتثال وما كادوا يفعلون.
ومن أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم: (? ? ? ? ? چ چ چ چ) [البقرة: 71].
ومن تلاعب الشيطان بهم أن زين لهم استحلال محارم الله بأدنى الحيل، وتلاعبوا بدينه، وخادعوه، ومسخوا دينه بالاحتيال، فمسخهم الله قردة وخنازير على استحلالهم محارم الله كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 166].
ومن تلاعب الشيطان بهم، أنهم لما حُرمت عليهم الشحوم بسبب عدوانهم ومعاصيهم جَمَلُوها وأذابوها، ثم باعوها وأكلوا ثمنها.
ومن تلاعبه بهم أن أمرهم وزين لهم اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.
ومن أعظم مكر الشيطان بهم وكيده لهم أن زين لهم قتل الأنبياء الذين لا تنال الهداية إلا على أيديهم، وزين لهم المعاصي التي توجب غضب الله ولعنته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 61].
(13/125)
ومن تلاعبه بهم أن زين لهم قتل الأنبياء والاستهزاء بهم، ورد ما جاءوا به، وأمرهم باتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 31].
فحرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فأطاعوهم وتلك عبادتهم إياهم.
وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالإنسان أن يقتل أو يقاتل من هداه الله على يديه، ويتخذ من لم تُضمن له عصمته نداً لله، يُّحرم عليه ويحلل له حسب هواه، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ?? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [آل عمران: 112].
ومن تلاعب الشيطان باليهود ما كان منهم في شأن زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام حتى قتلوهما، ثم سلط الله عليهم من يعاقبهم.
ومن مكر الشيطان وكيده وتلاعبه باليهود ما كان منهم في شأن المسيح (، ورميه وأمه بالعظائم، وهم يعلمون أنه رسول الله، فكفروا به بغياً وعناداً، وراموا قتله وصلبه، فصانه الله تعالى من ذلك، ورفعه إليه، وطهره منهم، فأوقعوا القتل والصلب على شبهه، وهم يظنون أنه هو.
فبئس القوم الذين يقتلون أنبياء الله، ويفتخرون بقتل رسله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [النساء: 157، 158].
ولم يزل أمر اليهود بعد تكذيبهم بالمسيح وكفرهم به في سفال ونقص وذلة، إلى أن قطعهم الله في الأرض أمماً، ومزقهم كل ممزق، وسلبهم عزهم وملكهم، فلم يقم لهم مُلك بعد ذلك، إلى أن بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فكفروا به وكذبوه وحاربوه وقاتلوه.
فأتم الله عليهم غضبه، ودمرهم غاية التدمير، وألزمهم ذلاً وصغاراً لا يُرفع عنهم إلى أن ينزل أخوه المسيح بن مريم من السماء فيستأصل شأفتهم، ويطهر الأرض منهم، ومن عباد الصليب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [البقرة: 90].
(13/126)
فالغضب الأول من الله بسبب كفرهم بالمسيح (، والغضب الثاني بسبب كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم .
ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم يزعمون أن الأحبار والرهبان إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالاً، وإذا حرموه صار حراماً، وإن كان نص التوراة بخلافه.
وحجروا على الرب سبحانه أن ينسخ ما يريد من شريعته، وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم، كما تكبر إبليس أن يسجد لآدم، ورأى أن ذلك يغض منه، ثم رضي أن يكون قواداً لكل عاص وفاسق.
وكما أبى عباد الأصنام أن يكون المرسل إليهم بشراً، ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجراً.
وكما نزهت النصارى بطارقتهم وأساقفتهم عن الصاحبة والولد، ولم يتحاشوا أن ينسبوا إلى الله الصاحبة والولد، وهو سبحانه الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجن: 3].
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية أنهم إذا رأوا الأمر أو النهي شاقاً عليهم طلبوا التخلص منه بوجوه الحيل.
فإن أعيتهم الحيل قالوا: هذا كان علينا لمَّا كان الملك والرياسة.
ولما سلب الله اليهود ملكهم وعزهم، وأذلهم بسبب كفرهم ومعاصيهم، وقطعهم في الأرض أمماً، انتقلوا من التدبير والإفساد بالقدرة والسلطان، إلى التدبير والإفساد بالمكر والدهاء، والخيانة والخداع.
ومن تلاعب الشيطان بهم أن جعلهم ينتظرون قائماً من ولد داود النبي يزعمون أنه إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به.
وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال، فهم أكثر أتباعه، وإلا فمسيح الهدى عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم يقتلهم ولا يبقي منهم أحداً.
والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى بن مريم من السماء، الذي يكسر الصليب.. ويقتل الخنزير.. ويقتل أعداءه من اليهود.. وعُبّاده من النصارى.. ويضع الجزية.. ويدعو إلى الإسلام.
(13/127)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» متفق عليه(1).
ومن تلاعب الشيطان بهم أن نسبوا إلى الله ما لا يليق به فقالوا: (پ پ پ ? ? ?) [آل عمران: 181].
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 64].
وقالوا إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم تعب فاستراح في اليوم السابع فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [ق: 38].
سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم يرمون أنبياء الله ورسله بالقبائح، ويقدحون في نبوتهم، ويؤذونهم ويقتلونهم، وقد آذوا نبيهم موسى إلى ما برأه الله منه كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?) [الأحزاب: 69].
ومن قدحهم في الأنبياء، وكذبهم على الله، ما تقشعر له الأبدان، فقد اتهموا عيسى بن مريم بأنه ساحر.. وأنه ولد بغية.. ونسبوا أمه إلى الفجور.. ونسبوا لوطاً إلى أنه وطئ ابنتيه وأولادهما وهو سكران من الخمر.. ونسبوا يوسف صلى الله عليه وسلم إلى أنه حل تكة سراويله.. وتكة سراويل سيدته.. وأنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته.
ومنهم من يزعم أن عيسى كان من العلماء يداوي المرضى بالأدوية.
ويزعمون أن المسلمين أولاد زنا.. وأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم متلقاة من أحبار اليهود.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3448)، واللفظ له، ومسلم برقم (155).
(13/128)
وهذا وأمثاله ليس بمستنكر من أمة قدحت في معبودها وإلهها، ونسبته إلى ما لا يليق بعظمته وجلاله، ونسبت أنبياءه إلى ما لا يليق بهم، ورمتهم بالعظائم والسوءات، أن ينسبوا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى ذلك.
وعدواتهم له، ومحاربتهم إياه، وتكذيبهم له، وكيدهم له، كل ذلك أشهر من أن يذكر، وذلك لما تحمله قلوبهم من الكفر والحسد.
وقد خلق الله لكل باطل وبُهت حملة.. كما خلق للحق حملة.. وليس وراء بُهت اليهود بُهت: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 13].
ثم استمر الأمر على عهد موسى كليم الرحمن على التوحيد، إلى أن توفي موسى صلى الله عليه وسلم ، ودخل الداخل على بني إسرائيل، وأقبلوا على علوم الكفار، وقدموها على نصوص التوراة.
فسلط الله عليهم من أزال ملكهم، وشردهم من أوطانهم، ومزقهم كل ممزق، وتلك سنة الله في عباده إذا أعرضوا عن الوحي، وتعوضوا عنه بكلام الكفار والملاحدة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 44].
وكذلك النصارى لما أعرضوا عن دين الله سلط الله بعضهم على بعض، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [المائدة: 14].
وكما سلط الله النصارى على بلاد العرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق، واشتغل المسلمون بذلك، وهجروا كتاب ربهم، فاستولت النصارى على بلادهم، وأصاروهم رعية لهم.
وكذلك لما ظهر هذا الأمر ببلاد المشرق سلط الله عليهم عساكر التتار فأبادوا أكثر أهلها، واستولوا عليها، وأهانوا أهلها.
وكذلك في المائة الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الباطل والإلحاد سلط الله عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات، واستولوا على حجاج بيت الله، واستعرضوهم قتلاً وأسراً، واشتدت شوكتهم، واستقر ملكهم في مصر والشام والحجاز واليمن وغيرها.
(13/129)
فهذا الداء لما دخل في بني إسرائيل كان سبباً في دمارهم، وزوال ملكهم.
فلنحذر من هذا الشر لئلا يصيبنا ما أصابهم، ويحل بنا ما حل بهم.
ثم بعث الله سبحانه بعد موسى ( عبده ورسوله وكلمته المسيح عيسى بن مريم ( فجدد لهم الدين، وبين لهم معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من تلك الأحداث والآراء الباطلة.
فعادوه.. وكذبوه.. ورموه وأمه بالعظائم.. وراموا قتله.. فطهره الله منهم.. ورفعه إليه.
وأقام الله للمسيح أنصاراً دعوا إلى دينه وشريعته، حتى ظهر دينه على من خالفه، ودخل فيه الملوك، وانتشرت دعوته، واستقام الأمر على السداد بعده نحو ثلاثمائة سنة.
ثم أخذ دين المسيح في التبديل والتغيير حتى تناسخ واضمحل، ولم يبق بأيدي النصارى منه شيء، بل ركّبوا ديناً بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام.
هذا ومعهم بقايا من دين المسيح كالختان، والاغتسال من الجنابة، وتعظيم السبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة إلا ما أحل لهم بنصها.
ولما أخذ دين المسيح في التغيير والتحريف والتبديل، وظهر الفساد، وعم البلاء، اجتمعت النصارى عدة اجتماعات في أزمنة مختلفة، ثم يتفرقون على الاختلاف والتلاعن، وقول الزور والباطل.
فمرة قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم.. ومرة قالوا: إن الله ثالث ثلاثة.. ومرة قالوا المسيح ابن الله، إله حق من إله حق.. ومرة قالوا: الإله واحد في ثلاثة، وثلاثة في واحد.
وهم في ذلك حيارى، تائهون، ضالون، مضلون.
لا يثبت لهم قدم.. ولا يستقر لهم قول في إلههم.. بل كل منهم قد اتخذ ألهه هواه، وصرح بالكفر والتبري ممن اتبع سواه.
قال الله تعالى: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [المائدة: 72].
وقال الله تعالى: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [المائدة: 73].
(13/130)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [المائدة: 77].
فانظر كيف أوصل الشيطان هذه الأمة الضالة إلى الكفر والشرك والضلال والكذب: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 74، 75].
ولقد ارتكبت النصارى محذورين عظيمين:
أحدهما: الغلو في المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق، وجزءاً منه، وإلهاً آخر معه، وأنفوا أن يكون عبداً له.
الثاني: تنقص الخالق وسبه ورميه بالعظائم، وأنه نزل من كرسيه ودخل في فرج امرأة، ثم خرج من حيث دخل، رضيعاً يمص الثدي، ويبكي ويجوع، ويأكل ويشرب، ويبول ويتغوط.
ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه، وصلبوه جهراً، وسمَّروا يديه ورجليه، وجرَّعوه أعظم الآلام، وهو الإله الحق المعبود المسجود له.
فسبحان الله.. ما أعظم هذا البهتان والكذب والافتراء على الله ورسله؟.
ولعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم، وبهتان عظيم: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [مريم: 90-95].
فما أشنع هذا الكلام الذي نسبوا فيه الإله الحق إلى ما يأنف أسقط الناس أن يفعله بعبده؟.
وكذبوا على الله عزَّ وجلَّ في كونه تاب على آدم وغفر له خطيئته، ونسبوه إلى أقبح الظلم، حيث زعموا أنه سجن أنبياءه ورسله وأولياءه في نار الجحيم بسبب خطيئة أبيهم آدم.
ونسبوه إلى غاية السفه حيث خلصهم من العذاب بتمكينه أعداءه من نفسه، حتى قتلوه وصلبوه وأراقوا دمه، ونسبوه إلى غاية العجز، حيث عجز أن يخلصهم بقدرته من غير هذه الحيلة.
ونسبوه إلى غاية النقص، حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه ففعلوا به ما فعلوا.
فسبحان الله كم أضل الشيطان من الأمم عن دينها بمثل هذا؟.
وهل يقول بهذا عاقل سوي؟.
(13/131)
إنه لا يُعلم أمة من الأمم سَبَّت ربها ومعبودها وإلهها بما سبت به هذه الأمة، فهم عار على بني آدم، مفسدون للعقول والشرائع: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 20].
وأما شريعة النصارى ودينهم فقد تلاعب بهم الشيطان، فليسوا متمسكين بشيء من شريعة المسيح صلى الله عليه وسلم ولا دينه البتة:
فابتدعوا.. وحرفوا.. وبدلوا.. وكتموا.. وضلوا.. وأضلوا.. وضلوا عن سواء السبيل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 63].
فابتدعوا الصلاة إلى المشرق مطلع الشمس مع علمهم أن المسيح لم يصل إلى المشرق أصلاً، بل كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس وهي قبلة الأنبياء قبله.
ومن كيد الشيطان ومكره بهم أن طوائف منهم وهم الروم وغيرهم لا يرون الاستنجاء بالماء، فيبول أحدهم ويتغوط، ويقوم بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة الكريهة.
فيستقبل المشرق، ويصلب على وجهه، ويحدث من يليه بأنواع الحديث كذباً كان أو فجوراً، ويخبره بسعر الخمر والخنزير ونحو ذلك، ولا يضر ذلك صلاته ولا يبطلها.
ومواجهة رب العالمين بهذه العبادة قبيح جداً، وصاحبها إلى استحقاق غضبه وعقابه أقرب منه إلى رضاه وثوابه.
ومن تلاعب الشيطان بهم ما ابتدعوه من تعظيم الصليب بعد المسيح بزمان، ولا ذِكْر له في الإنجيل، وإنما ذُكِر في التوراة باللعن لمن تعلق به.
فزين الشيطان لهذه الأمة الضالة، فاتخذته معبوداً يسجدون له، ويحلفون به.
ولو كان لهم أدنى مسكة من عقل، لكان ينبغي لهم أن يلعنوا الصليب من أجل معبودهم وإلههم حين صلب عليه، وأن يحرقوه حيث وجدوه، ويكسروه ويضمخوه بالنجاسة، فإنه صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم، وأهين عليه وفضح، هذا لو صح زعمهم أن المسيح صلب وأنى يصح وقد أعلن الله نجاته وسلامته ورفعه إليه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [النساء: 157، 158].
(13/132)
فبأي وجه يستحق الصليب هذا التعظيم منهم، لولا أن القوم أضل من الأنعام؟.
وإن كانوا يقصدون بتعظيمه التشنيع على اليهود، وتنفير الناس عنهم، وإغراءهم بهم فقد حصل لهم ما هو أعظم من ذلك، فقد نفروا به الأمم عن النصرانية، وعن المسيح ودينه أعظم تنفير.
وكأنهم إنما عظموه لأنه ثبت لصلب إلههم، ولم ينشق ولم ينكسر من هيبته لما حمل عليه.
ألا ما أقبح الجهل والسفه، وما أشد ضلال وجرم أولئك؟.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [المائدة: 14].
فأي إله هذا الذي يصلب ويبصق في وجهه؟.
وأي صليب يُعظَّم ويُذْكَر، وهو مكان الخزي والعار الذي صلب عليه الإله؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 46].
ومن مكر الشيطان وتلاعبه بهم أن زين لهم صياماً لم يأت به المسيح كالصوم الذي وضعوه لملوكهم وعظمائهم، فلهم صيام الحواريين، وصيام لمريم، وصيام للميلاد، وتركهم أكل اللحم في صيامهم مما أدخلوه في دين المسيح، وإلا فالمسيح يعلمون أنه كان يأكل اللحم، ولم يمنعهم منه في صوم ولا فطر.
وأكثر صومهم لا أصل له في شرع المسيح، بل هو مختلق مبتدع.
فسبحان الله.. كم تلاعب الشيطان بهذه الأمة الضالة كل التلاعب؟.
وكم دعاهم فأجابوه؟.. وكم استخفهم فأطاعوه؟.
فتلاعب بهم في شأن المعبود جل جلاله حتى قالوا فيه ما لم يقله أحد من العالمين.
وتلاعب بهم الشيطان في أمر المسيح.. وتلاعب بهم في أمه مريم.. وتلاعب بهم في شأن الصليب وعبادته.. وتلاعب بهم في تصوير الصور في الكنائس وعبادتها.. فلا تكاد تجد كنيسة من كنائس النصارى إلا وفيها صورة مريم، وصورة المسيح مصلوباً، وصورة جرجس وبطرس وغيرهم.. وأكثرهم يسجدون للصور، ويدعونها من دون الله تعالى.
ومن تلاعب الشيطان بهم في أعيادهم أنهم ابتدعوا أعياداً موضوعة مختلقة كعيد ميكائيل، وعيد الصليب، وعيد الفصح، وعيد الميلاد وغيرها.
وأما تلاعب الشيطان بهم في صلاتهم:
(13/133)
فصلاة كثير منهم بالنجاسة والجنابة، والمسيح بريء من هذه الصلاة، والله سبحانه أجل وأعلى من أن يتقرب إليه بمثل هذه الصلاة.
ومنها صلاتهم إلى المشرق، وتصليبهم على وجوههم في الصلاة، والمسيح بريء من كل ذلك، فصلاة مفتاحها النجاسة.. وتحريمها التصليب على الوجه.. وقبلتها المشرق.. وشعارها الشرك.. كيف يخفى على العاقل أنها لا تأتي بها شريعة من الشرائع البتة؟.
ولما علمت الرهبان والأساقفة أن مثل هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة، شيدوه بالحيل والصور في الحيطان، وطلاء جدران الكنائس بالذهب وبالأعياد المحدثة، ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول والبصائر.
وساعدهم على ذلك ما عليه اليهود من القسوة والغلظة، والكيد والمكر، والكذب والبهتان، وما عليه كثير من المسلمين من الظلم والفواحش، والفجور والبدع، والغلو في المخلوق، واعتقاد كثير من الجهال أن هؤلاء خواص المسلمين وصالحيهم.
فتركب من هذا وأمثاله تمسك القوم بما هم عليه، ورؤيتهم له أنه خير من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البدع والشرك، والفجور والفواحش.
فانظر كيف تلاعب الشيطان بهذه الأمة في أصول الدين وفروعه؟.
فجمعت بين الشرك، وعيب الإله وتنقصه، وتنقص نبيهم وعيبه، ومفارقة دينه بالكلية، فلم يتمسكوا بشيء مما كان عليه المسيح لا في صلاتهم، ولا في صيامهم، ولا في أعيادهم، ولا في سائر عباداتهم.
بل هم في ذلك أتباع كل ناعق ومبطل، أدخلوا في الشريعة ما ليس منها، وتركوا ما جاءت به.
وقالوا أساس الدين: واحد في ثلاثة، وثلاثة في واحد، أو الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد.
فواعجباً لأمة تضيع أوقاتها في مثل هذا الهراء والضلال والمحال؟.
وكيف يرضى عاقل أن يكون هذا مبلغ عقله، ومنتهى علمه، وأساس دينه؟.
وكيف ضحك الشيطان والقساوسة والرهبان على أشباه الأنعام فقرروا لهم ما هو محال، وإن ضربوا له الأمثال فقالوا: الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة؟.
(13/134)
ولم يقنعهم هذا القول في رب السموات والأرض حتى اتفقوا بأسرهم على أن اليهود أخذوه، وساقوه بينهم ذليلاً مقهوراً، ثم صلبوه وطعنوه بالحربة حتى مات، ثم دفنوه، وأقام تحت التراب ثلاثة أيام، ثم قام من قبره إلى السماء.
فأين عقول هؤلاء؟.
كيف كان حال هذا العالم العلوي والسفلي في هذه الأيام الثلاثة؟.
ومن كان يدبر أمر السموات والأرض وما فيهما في تلك الأيام؟.
ومن الذي خلف الرب سبحانه في تلك المدة؟.
ومن الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض والإله مدفون في قبره؟.
وكيف تمكن المخلوق من قتل الإله وصلبه ودفنه؟.
ثم أي قبر يسع إله السموات والأرض، وهو الملك القدوس الكبير المتعال؟.
وكيف تحمَّل هذا الإله الذنوب والخطايا عن البشر فليفعلوا ما شاءوا؟.
وكيف تستقر حياة الناس بلا أمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب؟.
سبحانك هذا بهتان عظيم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [مريم: 89-93].
فهل يليق بعاقل أن يسمع لهؤلاء؟.
وهل يليق بأمة حرفت دينها، وافترت على الله الكذب أن يقتدي العاقل بها، أو يدخل في دينها؟.
وكيف يقتدي الإنسان ويهتدي بأمة حرفت وبدلت كتاب الله وشرعه، ولعنها الله وغضب عليها؟.
(ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 78-80].
فلما حصل من أهل الكتاب: اليهود والنصارى ما حصل من التحريف.. والتبديل.. والنسيان.. والكذب.. والابتداع.. والظلم.. والكتمان.. والحكم بغير ما أنزل الله.. والبهتان.. والكبر.. والإضلال.. والغلو.. والكفر.. والاستهزاء.. وقتل الأنبياء.. وسفك الدماء بغير حق.. وأكل أموال الناس بالباطل.. وتنقص الرب.. وتعطيل شرعه.. وقول الزور والبهتان في الأنبياء.. والصد عن سبيل الله.
(13/135)
لما حصل ذلك وغيره من أهل الكتاب ضل الناس عن طريق الهدى، وعاشوا في شقاء وعناء، فبعث الله العزيز الرحيم محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً للعالمين، ورحمة للبشرية أجمعين: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [الأعراف: 157].
وأكمل الله به للبشرية دينها، وأتم نعمته عليها كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [المائدة: 3].
فدينه أفضل الأديان.. وكتابه أعظم الكتب.. وشريعته أيسر الشرائع.. وأمته أفضل الأمم.. وهو أفضل الأنبياء وسيد المرسلين.
والذين كملت نعم الله عليهم هم المؤمنون به، الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته، والخير لأجل العمل به وهم المرادون بقوله سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفاتحة: 6، 7].
فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة والمغضوب عليهم، ممن أخطأ في الأعمال الظاهرة كاليهود والفساق.
وإن اختل قيد العلم فهم الضالون، ممن أخطأ في الاعتقاد من النصارى وأهل البدع.
ومن أنعم الله عليه امتنع أن يكون من المغضوب عليهم والضالين كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفاتحة: 6، 7].
وأهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية، ثم بمعرفة العبودية؛ لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد، وهو عبادة الله عزَّ وجلَّ، ولا يتم ذلك إلا بالعلم والعمل: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ) [الذاريات: 56-58].
5- ما يعتصم به العبد من الشيطان
قال الله تعالى: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [فصلت: 36].
وقال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [الأعراف: 201].
الشيطان عدو للإنسان، وقد أشهر سلاحه، وأعلن عداوته للإنسان من أول يوم، وقعد على جميع الجهات التي يمر بها الإنسان، ليضل الناس عن الصراط المستقيم، ويغريهم بالكبائر والمنكرات، والفواحش والمعاصي، ليحرمهم من الجنة، ويوبقهم في النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [فاطر: 6].
(13/136)
وإذا علم العبد بعدوه فعليه أن يستعد له، ويواجهه ويقف له، ويتحصن منه لئلا يضره أو يهلكه.
وقد أخبرنا الذي علمنا بعداوة الشيطان، وهو الله تعالى، كيف نتحصن من الشيطان ونتقيه، ونحترز من شره؟.
وشرع لنا من الأدعية والأذكار ما فيه الشفاء والرحمة، والهدى والعصمة من جميع شرور شياطين الجن والإنس ومن ذلك:
الاستعاذة بالله العظيم: كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأعراف: 200].
ومنها التسمية: فالتسمية حرز من الشيطان، وعصمة من مخالطته للإنسان في طعامه وشرابه، وجماعه، ودخوله بيته، وسائر أحواله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيطَانُ: لا مَبيتَ لَكُمْ ولا عَشَاءَ، وإِذا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيطانُ: أَدْرَكْتُمُ المَبيتَ، وَإذَا لمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ المَبيتَ وَالعَشَاءَ» أخرجه مسلم(1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ إِذَا أرَادَ أنْ يَأْتِيَ أهْلَهُ فَقَالَ: بِاسْمِ الله، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أبَداً» متفق عليه (2).
ومنها قراءة المعوذتين: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [الفلق: 1-5] و(? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ) [الناس: 1-6].
وذلك عند النوم، وعند المرض، وعند شدة الرياح، وشدة الظلمة، وأدبار الصلوات الخمس ونحو ذلك.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2018).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7396)، واللفظ له، ومسلم برقم (1434).
(13/137)
ومنها قراءة آية الكرسي عند النوم، وأدبار الصلوات الخمس: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 255].
ومنها قراءة الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة: فمن قرأهما في ليلة كفتاه:
(? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 285، 286].
ومنها قراءة سورة البقرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» أخرجه مسلم(1).
ومنها كثرة ذكر الله تعالى بتلاوة القرآن، والتسبيح والتحميد، والتكبير والتهليل ونحوها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ بِأفْضَلَ مِمَّا جَاءَ إِلا رَجُلٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْهُ» متفق عليه(2).
ومنها الدعاء عند الخروج من المنزل:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (780).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6403)، واللفظ له ومسلم برقم (2691).
(13/138)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ ا? تَوَكَّلْتُ عَلَى ا? لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِا? قَالَ يُقَالُ حِينَئِذٍ هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ» أخرجه أبو داود والترمذي(1).
ومنها الدعاء إذا نزل منزلاً:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا نَزَلَ أحَدُكُمْ مَنْزِلا فَلْيَقُلْ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ ا? التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فَإِنَّهُ لا يَضُرُّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ» أخرجه مسلم(2).
ومنها كظم التثاؤب ووضع اليد على الفم:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا تَثَاوَبَ أحَدُكُمْ، فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ» أخرجه مسلم(3).
ومنها الأذان، ودعاء دخول المسجد، والخروج منه.
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: «أَعُوذُ بِا? الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ قَالَ أَقَطْ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ» أخرجه أبو داود(4).
ومنها الوضوء والصلاة، ولا سيما عند الغضب والشهوة، وتجنب فضول النظر والكلام، واجتناب مساكن الجن والشياطين كالأماكن الخربة والنجسة كالحشوش والمزابل، والأماكن الخالية من الإنس كالصحاري، وشواطئ البحار البعيدة، ومرابض الإبل ونحوها.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (5095)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (4249).
وأخرجه الترمذي برقم (3426)، صحيح سنن الترمذي رقم (2724).
(2) أخرجه مسلم برقم (2708).
(3) أخرجه مسلم برقم (2995).
(4) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (466)، صحيح سنن أبي داود رقم (441).
(13/139)
ومنها تطهير البيوت من الصور والتماثيل والكلاب والأجراس.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه تماثيل أو تصاوير» أخرجه مسلم(1).
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بالاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسياً أو جنياً أو هامة أو دابة أو ريحاً أو صاعقة، ومن أي نوع كان من أنواع البلاء فقال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [الفلق: 1، 2].
فالاستعاذة من شر ما خلق تعم شر كل مخلوق فيه شر، وكل شر في الدنيا والآخرة، وشر شياطين الإنس والجن، وشر السباع والهوام، وشر النار والهواء والماء وغير ذلك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «منْ نَزَلَ مَنْزِلا ثُمَّ قَالَ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ ا? التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» أخرجه مسلم(2).
وأمر سبحانه كذلك بالاستعاذة من شر الليل، وشر القمر، والقمر هو آية الليل وسلطانه، والليل إذا أقبل بظلمته من الشرق، ودخل في كل شيء وأظلم فهو غاسق، والقمر غاسق إذا وقب، والليل غاسق إذا أقبل بظلمته: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفلق: 1-3].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2112).
(2) أخرجه مسلم برقم (2708).
(13/140)
والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل وشر القمر إذا وقب، أن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة، وفيه تنتشر الشياطين، وحركتهم في الليل أمكن منها لهم في النهار، وضررهم للصبيان أكثر، لفقدهم الذكر الذي يحرزهم من الشياطين ولأن النجاسة التي تلوذ بها الشياطين موجودة مع الصبيان غالباً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ، أوْ: جُنْحُ اللَّيْلِ، فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ» متفق عليه(1).
وفي لفظ: «لا تُرسِلُوا فَواشيكُمْ وَصبيانَكُمْ إذَا غَابَتِ الشَّمْسُ» أخرجه مسلم(2).
والليل هو محل الظلام، وفيه تنتشر وتتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار، فإن النهار نور، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات، والمواضع المظلمة على أهل الظلمة، ولهذا كان سلطان السحر وعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار.
ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محال الشياطين وبيوتهم ومأواهم، والشياطين تجول فيها، وتتحكم كما يتحكم ساكن البيت فيه، وكلما كان القلب أظلم كان للشيطان أطوع، وهو فيه أثبت وأمكن.
ومن هنا حسن الاستعاذة من رب الفلق في هذا الموضع، ولهذا استعاذ من شر الغاسق الذي هو الظلمة ومحل الشرور والظلام، بعد الاستعاذة برب الفلق الذي هو الصبح والنور، الذي يطرد جيش الظلام، وعسكر المفسدين في الأرض بالليل من جن أو إنس أو حيوان.
فيأوي كل خبيث، وكل مفسد، وكل لص، وكل قاطع طريق، إلى سرب أو كِنٍّ أو غار، وتأوي الهوام إلى جحورها، والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها ومحالها.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3280) واللفظ له، ومسلم برقم (2013).
(2) أخرجه مسلم برقم (2013).
(13/141)
فأمر الله عزَّ وجلَّ عباده أن يستعيذوا برب النور والصبح الذي يقهر الظلمة ويزيلها، ويكشف ويقهر عسكرها وجيشها الظالم.
والكفر والشرك كله ظلمة، ومآله إلى الظلمات، ومستقره في القلوب المظلمة والمقترن بها الأرواح المظلمة.
والإيمان كله نور، ومآله إلى نور، ومستقره في القلوب المستنيرة، والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة وهم الملائكة.
والله عزَّ وجلَّ بعث رسله ليخرج عباده من الظلمات إلى النور كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [البقرة: 257].
واللص إذا رأى السراج يوقد في البيت لا يقرب منه، وإذا أنار الله قلب العبد بالإيمان، وأوقد سراج المعرفة في قلبه، فلا يمكن أن يقرب منه الشيطان: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 98-100].
3- العدو الثالث
1- الدنيا
1-فقه حقيقة الدنيا
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 64].
وقال الله تعالى: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [الحديد: 20].
الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق الدنيا والآخرة، وجعل الأولى دار الإيمان والعمل، وجعل الآخرة دار الثواب والعقاب.
والدنيا المذمومة: هي كل ما أشغل عن طاعة الله ورسوله (.
وقد عرّف الله عزَّ وجلَّ أولياءه بغوائل الدنيا وآفاتها، وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها ليحذروها، ولا يركنوا إليها، ولا يغتروا بزينتها.
وقد خلقها الله في صورة جميلة مليحة، تستميل الناس بجمالها، وتغرهم بزينتها، وتخدعهم بشهواتها، امتحاناً وابتلاء، ليعلم الله من يقدم أوامر الله على شهوات نفسه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الكهف: 7].
(13/142)
والدنيا شحيحة بإقبالها، وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها، وآفاتها على التوالي راشقة، وكل مغرور بها إلى الذل مصيره، لا يخلو صفوها عن شوائب الكدر، ولا ينفك سرورها عن المنغصات.
سلامتها تُعقب السقم، ونعيمها لا يثمر غالباً إلا الحسرة والندم، فهي خداعة مكَّارة، بينما أصحابها منها في نعيم وسرور، إذ ولت عنهم صاروا كأنهم أضغاث أحلام: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 24].
فالدنيا عدوة لله.. وعدوة لأولياء الله.. وعدوة لأعداء الله.
أما عداوتها لله فإنها قطعت الطريق على عباد الله، ولذلك لم ينظر الله إليها منذ خلقها، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء.
وأما عداوتها لأولياء الله سبحانه فإنها تزينت لهم بزينتها، وغرتهم بزهرتها ونضارتها، وملكت قلوبهم بجمالها وشهواتها، حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها.
وأما عداوتها لأعداء الله فإنها استدرجتهم بمكرها وكيدها، وصادتهم بشبكتها حتى وثقوا بها، فاجتنوا منها حسرة تقطع الأكباد، ثم حرمتهم السعادة أبد الآباد، فهم على فراقها يتحسرون، ومن مكايدها يستغيثون: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 86].
ومن هوان الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها، ولا يُنال ما عنده إلا بتركها.
وكما يأكل المريض الطعام فلا يلتذ به من شدة الوجع، كذلك صاحب الدنيا لا يتلذذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها ما دام حب الدنيا في قلبه.
والدنيا المذمومة المأمور باجتنابها هي القاطعة للعبد عن سلوك الصراط المستقيم الموصل إلى الله، وإلى رضاه، وإلى الجنة.
وما في هذه الحياة الدنيا ثلاثة أقسام:
الأول: ما يصحب العبد في الآخرة، وتبقى معه ثمرته بعد الموت، وهو شيئان: العلم.. والعمل.
فالعلم: هو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والعلم بشريعته.
(13/143)
والعمل: هو امتثال أوامر الله في جميع الأحوال، وعبادة الله وحده لا شريك له.
الثاني: كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلاً، كالتلذذ بالمعاصي كلها، والتنعم بالمباحات الزائدة على قدر الحاجة.
والتنعم والترفه بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، والغلمان والجواري، والقصور والدور، ورفيع الثياب ولذائذ الأطعمة ونحوها من ألوان المتاع الذي تحبه النفوس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 14].
فحظ العبد من هذا كله هي الدنيا المذمومة، باستثناء ما يحتاجه من المباح.
الثالث: كل حظ في العاجل معين على أعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام، والحاجة من اللباس والسكن، وكل ما لا بدَّ منه؛ ليتأتى للإنسان البقاء والصحة التي يتوصل بها إلى العلم والعمل الصالح.
فهذا ليس من الدنيا، فهو كالقسم الأول؛ لأنه معين على القسم الأول ووسيلة إليه، فمهما تناوله العبد على قصد الاستعانة به على العلم والعمل، لم يكن به متناولاً للدنيا، ولم يصر به من أبناء الدنيا.
وإن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة به على العلم والعمل التحق بالقسم الثاني، وصار من جملة الدنيا.
فالأول محمود.. والثاني مذموم.. والثالث حسب نية صاحبه.
وكل شيء في الدنيا يزول، ولا يبقى مع العبد عند الموت إلا أربع صفات: إيمان القلب.. وأنسه بذكر الله.. وحبه لربه.. وعمله الصالح.
وهذه الصفات هي المنجيات المسعدات بعد الموت.
فقوة الإيمان تفطم العبد عن شهوات الدنيا، وتنشطه للعمل الصالح الذي ينال به شهوات الآخرة، وتملأ قلبه بالأنس بالله، ولذة مناجاته ومحبته ونسيان ما سواه.
وليس الموت عدماً، إنما هو فراق لمحاب الدنيا، وقدوم على الله تعالى.
(13/144)
فالقدر الذي لا بدَّ منه للحياة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا، وكانت الدنيا في حقه مزرعة للآخرة، وإن أخذه لحظ النفس، وعلى قصد التنعم صار من أبناء الدنيا، والراغبين في حظوظها.
والرغبة في حظوظ الدنيا قسمان:
الأول: ما يُعرِّض صاحبه لعذاب الآخرة، ويسمى ذلك حراماً.
الثاني: ما يحول بين العبد وبين الدرجات العلا، ويعرضه لطول الحساب ويسمى ذلك حلالاً، فالدنيا حلالها حساب، وحرامها عذاب، ومن نوقش الحساب هلك.
عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ». قالتْ: قُلْتُ: ألَيْسَ يَقُولُ الله تَعَالَى: (? ? ? ? ?) [الانشقاق:8]. قَالَ: «ذَلِكِ الْعَرْضُ» متفق عليه(1).
والدنيا قليلها وكثيرها.. وحلالها وحرامها.. كل ذلك مذموم إلا ما أعان على تقوى الله وطاعته مما أمر الله ورسوله به.
وكل من كانت معرفته أقوى كان حذره من نعيم الدنيا أشد، ولهذا زوى الله كل ما يشغل عن الآخرة من اللذات والشهوات عن الأنبياء والمرسلين والأولياء والمتقين؛ ليتفرغوا للأعمال الصالحة.
وسلط عليهم البلاء والمحن، كل ذلك امتناناً عليهم؛ ليتوفر من الآخرة حظهم، ويعظم أجرهم، كما يمنع الوالد ولده من لذة الفواكه، ويلزمه الدواء الكريه المذاق شفقة عليه وحباً له لا بخلاً عليه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6536) واللفظ له، ومسلم برقم (2876).
(13/145)
سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً، فقَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه(1).
فالدنيا مركب الآخرة، وبها تقطع المسافة إلى الآخرة، والبدن مركب النفس، وبه تقطع مسافة العمر، فتعهد البدن بما تبقى به قوته على سلوك الطريق بالعلم والعمل هو من الآخرة لا من الدنيا، فهذه حقيقة الدنيا في حق الإنسان.
وأما حقيقة الدنيا في نفسها، فالدنيا عبارة عن أعيان موجودة، وللإنسان فيها حظ، وله في إصلاحها شغل، وقد جمع الله الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا في قوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 14].
فهذه هي أعيان الدنيا السبعة، ولها مع العبد علاقتان:
الأولى: علاقة الأعيان مع القلب، وهو حبه لها، وحظه منها، وانصراف همه إليها، حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا، ويدخل في هذا جميع صفات القلب الباطنة كالكبر والرياء والعجب، وحب الثناء، وحب التكاثر، وحب التفاخر، وهذه هي الدنيا الباطنة، وأما الدنيا الظاهرة فهي الأعيان المذكورة.
الثانية: علاقة الأعيان مع البدن، وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان، لتصلح حظوظه، وحظوظ غيره، وهي جملة الصناعات والحرف التي يشتغل بها الخلق.
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (143).
(13/146)
والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين: علاقة القلب بحب الدنيا.. وعلاقة البدن بالشغل فيها.
ولو عرف العبد نفسه وعرف ربه، وعرف حكمة الدنيا وسرها، علم أن هذه الأعيان التي تسمى دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى الله تعالى، والدابة البدن، فإنه لا يبقى ليعمل إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن، كما لا يبقى ولا يسير الجمل إلا بعلف وماء، والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده، وقلبه معلق بالكعبة والحج، فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشتغل بتعهد البدن، بل يشتغل بالعمل الموصل إلى الله مع العناية بالبدن الذي لا يتم العمل إلا بسلامته.
وقد اختلف الناس اختلافاً كبيراً في الإقبال على الدنيا والتجافي عنها، وأوسط الأمور، وأحبها إلى الله ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنه - وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية.. ولا يقمع الشهوات بالكلية.. فيأخذ من الدنيا قدر الزاد.. ويقمع من الشهوات ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل.. ولا يتبع كل شهوة.. ولا يترك كل شهوة.. بل يتبع العدل.
ولا يترك كل شيء من الدنيا.. ولا يطلب كل شيء من الدنيا.
(13/147)
بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا، ويحفظه على حد مقصوده، فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة.. ومن السكن ما يحفظ من اللصوص، ويُكِنُّ من الحر والبرد.. ومن الكسوة ما يستر العورة، ويحفظ الإنسان من الحر والبرد، حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن وحاجاته أقبل على طاعة مولاه بكل همته، واشتغل بالذكر والفكر والعمل الصالح طول العمر، وتلك سيرة أهل القرن الأول، فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا، بل للدين، وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية، وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط، بل كان أمرهم بين ذلك قواماً، وذلك هو العدل الوسط بين الطرفين، وأحب الأمور إلى الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 67].
وطلب الدنيا كظل الإنسان لا يمكن أن يدركه ولو مشى الدهر كله.
فالعاقل إنما يأخذ منها بقدر الحاجة، فإن ابتلي بسعة المال أنفقه فيما يرضي الله، وأخذ منه بقدر حاجته، واستعان به على طاعة ربه.
والدنيا وما فيها ليست داراً للعباد، وإنما أسكنهم الله فيها واستخلفهم فيها إلى أجل مسمى لينظر كيف يعملون، وابتلاهم بما فيها من الشهوات ليعلم من يقدم أوامر ربه على شهوات نفسه.. ومن يطيع الرحمن ممن يطيع الشيطان.. ومن يشتغل بجمع الحسنات ممن يشتغل بالاستكثار من الأموال.. ومن يعمر أخراه ممن يعمر دنياه.. ومن يتبع الهدى ممن يتبع الهوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الكهف: 7].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 50].
والجمع بين تحصيل الأسباب التي تحصل بها لذات الدنيا، والأسباب التي تحصل بها لذات الآخرة ممتنع غير ممكن.
والله عزَّ وجلَّ مكّن الإنسان من تحصيل أيهما شاء أو أراد، فمن اشتغل بتحصيل أحدهما فلا بد أن يفوت الآخر، والعاقل يقدم العمل للآخرة على العمل للدنيا، ويؤثر الباقية على الفانية.
(13/148)
والجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة، والفانية على الباقية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويعلم من يستحق الكرامة ممن يستحق الإهانة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [الإسراء: 18-20].
فالحياة الدنيا جبلت على الكد والنكد، والبلاء والكبد، وقد أقسم الله عز وجل الذي خلق كل شيء، وعلم كل شيء، بالبلد الأمين، ورسوله الذي حل فيه، وبكل ما خلق، أن هذه الحياة الدنيا لا تصفو لأحد، وأنها في الغالب شقاء وتعب ومجاهدة، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?) [البلد: 1-4].
2- فقه الفتن
قال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 2، 3].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 20].
الفتنة في كتاب الله عزَّ وجلَّ تطلق ويراد بها الامتحان والابتلاء، سواء خَلُص صاحبه من الافتتان أو حصل له افتتان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 155].
وتطلق الفتنة على ما هو أعم من ذلك كما قال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [التغابن: 15].
ففي الأموال والأولاد شغل عن الآخرة، فلا نطيعهم في معصية الله، فالإنسان مفتون بولده؛ لأنه ربما عصى الله بسببه، وربما تناول الحرام لأجله إلا من عصمه الله.
والقصد من الفتنة امتحان العباد، هل يصبرون فيقومون بما أمرهم الله به فيثيبهم مولاهم، أم لا يصبرون فيستحقون العقوبة.
وقد فتن الله العباد فتنة عامة، وامتحن بعضهم ببعض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 20].
فامتحن الله الرسل بالمرسل إليهم ودعوتهم إلى الحق، والصبر على أذاهم.
وامتحن المرسل إليهم بالرسل.. هل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم، أم يكفرون بهم ويقاتلونهم؟.
(13/149)
وامتحن العلماء بالجهال.. هل يعلمونهم وينصحونهم ويصبرون على تعليمهم وإرشادهم، أم يضجرون منهم ويتركونهم في غيهم وضلالهم؟.
وامتحن الجهال بالعلماء.. هل يطيعونهم ويهتدون بعلمهم، أم يعرضون عنهم ويتركون مجالسهم؟.
وامتحن الملوك بالرعية.. وامتحن الرعية بالملوك.
وامتحن الأغنياء بالفقراء.. وامتحن الفقراء بالأغنياء.
وامتحن الأقوياء بالضعفاء.. وامتحن الضعفاء بالأقوياء.
وامتحن الرجل بزوجته.. وامتحن الزوجة بزوجها.
وامتحن الرجل بأولاده.. وامتحن الأولاد بأبيهم.
وامتحن الرجال بالنساء.. وامتحن النساء بالرجال.
وامتحن المؤمنين بالكفار.. وامتحن الكفار بالمؤمنين.
وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم.. وامتحن المأمورين بهم.
ولذلك كان فقراء المسلمين وضعفاؤهم من أتباع الرسل فتنة لأغنياء الكفار ورؤسائهم، امتنعوا عن الإيمان بسببهم مع معرفتهم بصدق الرسل فتنة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 53].
فالفتنة كير القلوب.. ومحك الإيمان.. وبها يتبين الصادق من الكاذب.. والمؤمن من المنافق.. والطيب من الخبيث.
فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها، ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 3].
فالفتنة لا بدَّ منها في الدنيا؛ ليعلم الله الصادق من الكاذب، وكذلك لا بدَّ منها في الآخرة لكل من سقط في الفتنة في الدنيا كما قال سبحانه عن الكفار والعصاة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ) [الذاريات: 13، 14].
والكافر مفتون بالمؤمن في الدنيا، كما أن المؤمن مفتون بالكافر، ولذلك سأل المؤمنون ربهم أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا كما قال سبحانه عن المؤمنين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?) [الممتحنة: 4، 5].
وقال أصحاب موسى: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ?) [يونس: 85، 86].
(13/150)
أي لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم بهذا، ولا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق، فيفتنوا بذلك فيهلكوا، ولا تقتِّر علينا الرزق وتبسطه عليهم فيكون ذلك فتنة لهم.
والإنسان في هذه الحياة الدنيا محل الفتنة، فهو مفتون لا محالة: إما بالخير وإما بالشر، فهو مفتون بشهواته، ونفسه الأمارة بالسوء، وشيطانه المغوي المزين، وقرناء السوء، وما يراه وما يشاهده وما يسمعه، وغير ذلك مما يعجز صبره عنه من الأموال والأولاد والشهوات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 35].
والفتنة نوعان:
فتنة الشهوات.. وفتنة الشبهات.
وقد تجتمعان للعبد، وقد ينفرد بأحدهما.
ففتنة الشبهات: من ضعف البصيرة، وقلة العلم، لا سيما مع وجود فساد القصد، وحصول الهوى، فهنالك الفتنة العظمى، فهذا من الذين قال الله فيهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النجم: 23].
وهذه الفتنة أعظم الفتنتين، ومآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع على حسب مراتبهم.
وهذه الفتنة تنشأ من عدة أسباب:
تارة تنشأ من فهم فاسد.. وتارة من نقل كاذب.. وتارة من حق خفي على الرجل فلم يظفر به.. وتارة من غرض فاسد.. وتارة من هوى متبع.
ولا ينجي من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتحكيمه في كل شيء، في دق الدين وجلِّه، وظاهره وباطنه، وعقائده وأعماله.
فيتلقى العبد عنه حقائق الإيمان، وشرائع الإسلام، كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها، ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة، ومقادير الزكاة وغيرها من أحكام الدين.
فلا يجعله رسولاً في شيء دون شيء من أمور الدين، بل هو رسول في كل شيء تحتاج إليه الأمة في العلم والعمل، لا يتلقى إلا عنه، ولا يؤخذ إلا منه.
فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله، وكل ما خرج عنها فهو ضلال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 158].
(13/151)
والشبهات تأتي من أحد شخصين:
إما عدو حاقد على الإسلام والمسلمين.. وإما إنسان جاهل قذف الشيطان في قلبه ما جعل الحق يلتبس عليه.
فالأول أخطر النوعين وأخبثهما، وكلاهما خبيث يؤثر على ضعاف النفوس والهمج الرعاع، ويحدث بلبلة في أفكارهم وتصرفاتهم.
ولهذا يجب كشف هذه الشبهات الباطلة؛ لئلا تصد الناس عن دين الله.
لكن يجب في فقه الشبهات أمران:
الأول: أن لا يتصدى لرد الشبهات، وكشف زيفها إلا عالم متمكن من معرفة الحق والباطل بالأدلة الشرعية، حتى يحسن ويحكم إغلاق هذه الثغرات، ويسد هذه الشبهات، وهذا لا يستطيعه إلا العلماء الراسخون.
الثاني: ينبغي على طالب العلم ألا يشغل كل وقته بهذه الشبهات وردها؛ لأن الأعداء يريدون إشغال العلماء وأهل الإسلام عن الإسلام، والعمل به، وتعليمه، والدعوة إليه.
فيقذفون اليوم بشبهة وغداً بشبهة، فتكثر الردود، وتتنوع الإجابات، وتختلف الفتاوى، فيحصل الشك، ويقع الجدل، وإذا بالعلماء بعد مدة لا يستطيعون ولا يتفرغون لنشر الإسلام، ولا يجدون الفرصة لتعليم الناس أحكام دينهم.
وقد جاء البلاء من عدم الفقه بدين الله من صنفين من الناس:
من أناس يتصدرون لرد الشبهات بلا علم.. أو أناس يتصدون للشبهات حتى تضيع أوقاتهم فيها.
وحينئذ يحقق أعداء الإسلام ما يريدون بإقحام العامة ليقولوا ما شاؤوا بلا علم.. وإشغال العلماء عن الواجبات والأصول، وضبط العلم وفقهه وتعليمه الناس.
فالاشتغال بالشبهات ودراستها له قيمة في الدين، وهو من الحق الذي يزال به الباطل، لكن الاشتغال به أكثر من اللازم تضيع به حقوق وواجبات كبرى، أكد عليها الشرع وألزم بها عباده.
(13/152)
وليس المراد قفل باب الرد على الشبهات، فإنه من الدين، وإنما عدم المبالغة فيه، وعدم فتح الباب لكل أحد أن يقول ما شاء، وإنما ذلك للعلماء الراسخين الذين يعلمون على وجه الإجمال والتفصيل أن دين الله هو الحق، وأن ما سواه هو الباطل، وأن الباطل مهما كان لا يقف أمام الحق، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [الإسراء: 81].
ولا يحسب الناس أن دين الله عبث، فالحق يستمد قوته من ذاته، والجبار عز وجل يسمع ويرى، ويغار على دينه وحرماته، وهو العزيز الجبار، القوي الذي يدافع عن دينه وعباده المؤمنين، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 38].
فكل ما نرى من الكذب والافتراء، والصخب واللغط، والشبهات والتلبيسات، كلها منتهية مقطوع دابرها، ودابر أهلها، ودابر من دافع عنها، عاجلاً أو آجلاً.
أما الحق فهو باق ما بقي الزمان، وتعاقب الليل والنهار؛ لأن الله تكفل بحفظه، وحيث ما حل الحق، وقضاء الشرع، كان هناك الأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة.
فالشريعة ليس فيها خلط ولا شبه، ولا أهواء، ولا ظلم، كما قال سبحانه: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 57].
فالحق والعدل في أبهى صوره، وأجمل حلله، في الإسلام لا في غيره، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?) [الإسراء: 105].
وكلما جاءت شبهة زادت ولي الله تمسكاً بالحق، وزهداً بالباطل: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ?) [الزخرف: 43].
وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنة الشهوات.
وقد جمع الله بين الفتنتين في قوله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 69].
وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل.
فالأول: أصل فتنة الشبهات، والثاني: أصل فتنة الشهوات.
وفتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر.
قال الله تعالى: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 24].
(13/153)
وجمع الله بينهما في قوله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [العصر: 1-3].
أي تواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات، وبالصبر الذي يكف عن الشهوات.
فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوات، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهات.
وإذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصلت له الإمامة في الدين، وحصلت له أعظم غايتين مطلوبتين بهما سعادته وفلاحه وكماله، وهما: الهدى.. والرحمة، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [يونس: 57].
والشيطان في كل يوم، بل في كل لحظة، يبعث ويوجه ويحرك آلاف الأفراد والجماعات لعمارة الدنيا، والإفساد في الأرض، والاستمتاع بالشهوات والمحرمات، وغشيان الفواحش والآثام، ومزاولة السرقات والزنا وشرب الخمور، وأكل أموال الناس بالباطل، وظلم الناس، وإيذاء المسلمين، ولا يفتر عن ذلك ليلاً ونهاراً، ووقع في فتنة الشهوات ما لا يحصى من البشر من مسلم وكافر، فأعرضوا عن أوامر الله، واشتغلوا بتكميل شهواتهم من المطاعم والمشارب، والملابس والمساكن، والمراكب والمناكح: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [مريم: 59].
وكذلك الشيطان يوجه ويحرك آلافاً من العلماء والدعاة، وطلبة العلم ويزين لهم الانتصار للنفس لا للدين، ويستعملهم في الجدل والمراء، ويغمسهم في السمعة والرياء، ويزين لهم الفتاوى الشاذة، ويحسِّن لهم أكل الدنيا بالدين، والازدحام على أبواب المناصب، وبذل الجهود من أجلها لنفع الدين من خلالها، وهيهات أن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، بالهدى والرحمة، والشفقة والتواضع، والعدل والإحسان، والبر والتقوى وغير ذلك من شعب الإيمان ومحاسن الأخلاق.
وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين، سواء كان قولاً أو فعلاً.
ولا تقع الفتنة إلا من ترك ما أمر الله به، فالله سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر.
فالفتنة إما من ترك الحق.. وإما من ترك الصبر.
(13/154)
فالمظلوم إذا صبر واتقى كانت العاقبة له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 120].
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالصبر على البلاء، والصبر على أذى أهل الكتاب والمشركين، تنبيهاً على الصبر على أذى المؤمنين بعضهم لبعض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 186].
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالعدل مع الكفار مع بغضهم، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان، فاتقوا الله أيها المؤمنون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 8].
والكفر والفسوق والعصيان سبب لكل شر وعدوان.
فقد يذنب الرجل أو الطائفة، ويسكت آخرون عن الأمر والنهي فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكاراً منهياً عنه، فيكون ذلك من ذنوبهم.
فيحصل بسبب ذلك التفرق والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن قديماً وحديثاً، إذ الإنسان ظلوم جهول كفار، ومن تدبر الفتن الواقعة رأى أسبابها ذلك.
ورأى أن ما وقع بين علماء الأمة وأمرائها، ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشائخها، ومن تبعهم من العامة هذا أصلها، ومنه تفجر براكينها.
والفتن أقسام:
الأولى: فتنة الرجل في نفسه بأن يقسو قلبه، فلا يجد حلاوة الطاعة، ولا لذة المناجاة.
الثانية: فتنة الرجل في أهله، وهي فساد تدبير المنزل، وقد تولى ذلك الشيطان وذريته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أنْتَ» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2813).
(13/155)
الثالثة: فتنة تموج كموج البحر، وهي فساد تدبير المدينة، وطمع الناس في الخلافة والولايات من غير حق كما قال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» أخرجه مسلم(1).
الرابعة: فتنة ملية، بأن يموت الصالحون، ويسند الأمر إلى غير أهله، ونحو ذلك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» متفق عليه(2).
والفتن إذا جاءت كان ضررها على أهل الإيمان أكثر من غيرهم، كاللصوص إذا دخلوا بلداً، فأول من يخاف منهم أصحاب الأموال، فيتسلحون للدفاع عن أموالهم، أما غيرهم فلا يهتمون؛ لأنه ليس عندهم ما يخافون عليه.
وكذلك أهل الإيمان والأعمال الصالحة، إذا جاءت الفتن تسلحوا وتحصنوا بالإيمان والأذكار، والدعاء والعبادة، فذلك حصنهم من أعدائهم.
أما من ليس عنده إيمان وأعمال فلا يبالي؛ لأن حياته لم تقم على الإيمان والأعمال الصالحة، فليس عنده ما يخاف عليه، كالفقير الذي ليس عنده مال يخاف عليه من اللصوص.
والفتنة تطلق على العذاب وسببه، ولهذا سمى الله الكفر فتنة كما قال سبحانه: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [النور: 63].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2812).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3601) واللفظ له، ومسلم برقم (2886).
(13/156)
فالكفار فُتنوا أولاً بأسباب الدنيا وزينتها.. ثم فُتنوا بإرسال الرسل إليهم.. ثم فُتنوا بمخالفتهم وتكذيبهم.. ثم فُتنوا بعذاب الدنيا.. ثم فُتنوا بعذاب القبر.. ثم يفتنون في موقف القيامة.. ثم إذا حشروا إلى النار، ووقفوا عليها، وعرضوا عليها، وذلك من أعظم فتنتهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحقاف: 34].
ثم تحصل لهم في النهاية الفتنة الكبرى التي أنستهم جميع الفتن قبلها، وهي دخول النار وتعذيبهم بها وخلودهم فيها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ) [الذاريات: 13، 14].
وقد حذر الله عباده المؤمنين من فتنة الأموال والأزواج والأولاد التي تشغلهم عن طاعة الله كما قال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [المنافقون: 9].
وأظلم الظلم: الشرك بالله، ونبذ شريعة الله في الحياة، واتباع شرع غيره: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [النور: 63].
فالأمة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره، ولا تقف في وجه الظالمين، ولا تأخذ الطريق على المفسدين، هي أمة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 78، 79].
فالإسلام منهج كامل لا بدَّ من إقامته في حياة الناس، ولا بدَّ من حراسته والدفاع عنه، ولا بدَّ من إبلاغه للبشرية كلها.
فهو لا يسمح أن يقعد القاعدون، والظلم والفساد والمنكر يشيع في الأرض، فضلاً عن أن يروا دين الله لا يُتَّبع، بل أن يروا ألوهية الله تُنْكَر، وتقوم ألوهية العبيد مكانها وهم ساكتون.
ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة؛ لأنهم في ذاتهم صالحون طيبون.
(13/157)
إن هذا خلاف سنة الله الجارية، فليستجيبوا لله في كل ما أمرهم الله به، ويستعينوا به وحده، ويتوكلوا عليه وحده، وإلا أصابتهم فتنة تدع الحليم حيراناً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 24، 25].
ولما كانت مقاومة الظلم والفساد تكلف الناس أنفسهم وأموالهم، فإن الله يذكر العصبة المسلمة ويطمئنهم بتأييده ونصره ورزقه لمن استجاب لله والرسول فيقول: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 26].
فالعصبة المؤمنة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بما كان من ضعفها وقلة عددها، وبما كان من الأذى الذي ينالها، والخوف الذي يظللها، وكيف آواها الله بدينه، وأيدها بنصره، وأعزها ورزقها من الطيبات، فكما تحقق موعود الله لهذه العصبة التي استجابت، فهو كذلك وعد لكل عصبة تستقيم على طريقه، وتصبر على تكاليفه كما قال سبحانه: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ??) [يونس: 103].
إن جوهرة الإيمان وقاعدته أزكى من كل شيء، وإن قيم هذه الأرض لمن الزهادة والرُّخْص، بحيث لو شاء الله لأغدقها إغداقاً على الكافرين به، لولا أن تكون فتنة للناس تصدهم عن الإيمان بالله.
ولولا خوف الفتنة على المؤمنين لبذلت الدنيا للكفار هكذا رخيصة بلا تعب؛ لهوانها على الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پپ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 33-35].
إن عَرَض الدنيا من مال وزينة ومتاع لَيَفْتِن أكثر الناس، وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار، ويرون أيدي الأبرار منه خالية، أو يرون هؤلاء في عسر ومشقة، وأولئك في قوة وثروة وسطوة، والله عزَّ وجلَّ َيعلم وقع هذه الفتنة في قلوب الناس، ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه.
(13/158)
ويكشف لهم عن نفاسة ما يدخره للمؤمنين في الآخرة، والمؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار والفجار، وما في الدنيا كله متاع، وما في الآخرة أفضل وأعظم وأبقى.
وهؤلاء المكرمون عند الله بتقواهم، فهو سبحانه يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى، ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى.
وهذه الأموال، وهذا المتاع، كل ذلك رخيص عند الله، ومن هوانه أنه مبذول لشر خلق الله، وأبغض خلق الله.
ألا ما أعظم الفتن؟.. وما أشد خطرها على الأمة؟.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ». قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أيُّماَ هُوَ؟ قَالَ: «الْقَتْلُ الْقَتْلُ» متفق عليه(1).
ومكان ظهور الفتن من المشرق.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: «ألا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» متفق عليه(2).
وجماع معنى الفتنة الابتلاء والامتحان والاختبار.
والفتنة هي ما يبيَّن به حال الإنسان من الخير والشر.
والفرق بين الفتنة والابتلاء والاختبار:
أن الفتنة أشد الاختبار وأبلغه، وتكون في الخير والشر.
أما الفرق بين الابتلاء والاختبار:
أن الابتلاء لا يكون إلا بتحمل المكاره والمشاق.
والاختبار يكون بالخير والشر، والسراء والضراء.
وقد يكون الابتلاء باستخراج ما عند المبتلى من الطاعة والمعصية، والاختبار وقوع الخبر بحاله في ذلك.
والفتنة نوعان:
فتنة من الله.. وفتنة من العبد.
فالفتنة من الله كالبلية والمصائب التي تصيب الناس، وغير ذلك من الأفعال المؤلمة، فهذا كله يقع من الله على عباده على وجه الحكمة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7061) واللفظ له، ومسلم برقم (157).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7093) واللفظ له، ومسلم برقم (2905).
(13/159)
ومتى كان هذا من الإنسان بغير أمر الله كالقتل والتعذيب فهو بضد ذلك، ولهذا يذم الله الإنسان بأنواع الفتنة في كل مكان كما قال سبحانه: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [البروج: 10].
وهذه الدنيا مملوءة بالفتن المضلة.
فتنة الأموال.. وفتنة الشهوات.. وفتنة النساء.. وفتنة الأولاد.. وفتنة الشبهات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُر كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» أخرجه مسلم(1).
وهذه الفتن تهجم على العبد، وتغريه بحسنها وجمالها، وتخدعه بعاجل لذتها، فيقع في شراكها فيهلك.
فعليه بالمبادرة إلى الإيمان والأعمال الصالحة ليحفظ نفسه منها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعرضٍ مِنَ الدٌُّنْيَا» أخرجه مسلم(2).
والفتنة تطلق على العذاب وسببه، ولهذا سمى الله الكفر فتنة كما قال سبحانه عن الكفار: (? ? ? ? ? ? ? چ) [الذاريات: 14].
3- فتنة الأموال والشهوات
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الأنفال: 28].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 14].
خلق الله الإنسان مركباً من ثلاثة أشياء:
جسداً مادياً.. ونفساً حيوانياً.. وروحاً ملكياً.
فجسد الإنسان يخلقه الله في بطن الأم ثم يخرج إلى الدنيا.
وفي نفس الإنسان بحار من الشهوات، وفي روح الإنسان بحار الطاعات، والجسد للغالب منها.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2742).
(2) أخرجه مسلم برقم (118).
(13/160)
والشهوات والطاعات ليس لها حد، والنفس تريد تكميل الشهوات كلها في الدنيا، والله عز وجل جعل الدنيا محل تكميل الأوامر والطاعات، وجعل الآخرة محل تكميل الشهوات فمن أكمل طاعة الله في الدنيا أكمل الله شهواته في الآخرة.
فالذي يريد تكميل الشهوات في الدنيا إنما يطلب المحال؛ لأن الله جعل الدنيا ليست محلاً لتكميل الشهوات.
وفي الدنيا طريقان:
طريق إلى الجنة.. وطريق إلى النار.
فالإيمان والأعمال الصالحة الطريق الوحيد إلى الجنة.. والكفر والمعاصي الطريق الوحيد إلى النار؛ فالذي يريد تكميل الشهوات عليه أن يبحث عن طريق الجنة وهو الدين، ولا يضع قدمه في طريق النار.
وأوامر الله عز وجل كلها في مقابل شهوات النفس، فالإنسان إما أن يترك الشهوات بسبب الطاعات، أو يترك الطاعات بسبب الشهوات، ولا يمكن الجمع بينها، كما لا يمكن الجمع بين الماء والنار، لكن بفعل الأوامر، ويأخذ من الشهوات بقدر الحاجة.
فالطاعات من الرب، والشهوات من النفس، فالإنسان إما أن يكون عبداً للرب، أو عبداً للنفس، والشيطان زين للناس أن الشهوات ضرورة فاتبع أكثر الناس الشهوات وتركوا أوامر الله (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [مريم: 59].
الله تبارك وتعالى خالق الخلق، واسع الرزق، أنعم على العالمين بأنواع الأرزاق، وأصناف الأموال، وابتلاهم فيها بتقلب الأحوال، فهم بين العسر واليسر، والغنى والفقر، والطمع واليأس، والقناعة والحرص، والبخل والجود، والتبذير والتقتير، كل ذلك ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وينظر من يؤثر الإيمان والأعمال على الأموال والشهوات، ويرى من يؤثر الآخرة على الدنيا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الكهف: 7].
وفتن الدنيا كثيرة الأنواع، واسعة الأرجاء، ويجمعها كل ما كان للإنسان فيه حظ عاجل أشغل عن طاعة الله ورسوله.
(13/161)
والأموال أعظمها فتنة، وأطمها محنة، وأعظم فتنة فيها أنه لا غنى لأحد عنها، وإذا وجدت فلا سلامة منها، وإذا فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً، وإذا وجد حصل فيه الطغيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلا خسراً كما قال سبحانه: (گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [العلق: 6، 7].
والأموال بوجه عام لا تخلو من الفوائد والآفات، وفوائدها من المنجيات، وآفاتها من المهلكات، وتمييز خيرها من شرها لا يدركه إلا ذو البصائر في الدين من العلماء الأبرار.
فالدنيا فتنها كثيرة، والمال بعض أجزاء الدنيا، والجاه بعضها، واتباع شهوة البطن والفرج بعضها، وأكل الحرام بعضها ونحو ذلك.
والغنى والفقر حالتان يبتلى بهما العباد في الدنيا.
فللفقير حالتان: القناعة والحرص، فالقناعة محمودة، والحرص مذموم، وللحريص حالتان: طمع فيما في أيدي الناس، وتشمر للعمل، والطمع شر الحالين.
وللغني حالتان: إمساك بحكم البخل والشح، وإنفاق بحكم الجود والكرم، فالأولى مذمومة، والأخرى محمودة.
وللمنفق حالتان: تبذير واقتصاد، والمحمود هو الاقتصاد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 67].
وقد خلق الله سبحانه الأموال لمصالح العباد، والمال لا يذم لذاته، بل يقع الذم لمعنى من الآدمي، وذلك المعنى:
إما شدة حرصه.. أو أخذه من غير حله.. أو حبسه عن حقه.. أو إخراجه في غير وجهه.. أو المفاخرة به.. والتكبر على الخلق بسببه.
فالمال لا يذم لذاته، بل ينبغي أن يمدح؛ لأنه سبب للتوصل إلى مصالح الدين والدنيا، وقد سماه الله تعالى خيراً، وهو قوام الآدمي، لكن الواجب فيه: أخذه من حله، ووضعه في حقه.
ولا بدَّ من معرفة فوائده وغوائله ليحترز العبد من شره، ويستدر من خيره:
أما فوائد المال فتنقسم إلى قسمين:
فوائد دنيوية.. وفوائد دينية.
فالفوائد الدنيوية: الخلق يعرفونها، ولذلك تهالكوا في طلبها.
وأما الفوائد الدينية فتنحصر في ثلاثة أنواع:
(13/162)
أحدها: أن ينفق المال على نفسه وأهله إما في عبادة كالحج والجهاد في سبيل الله، وإما في الاستعانة به على العبادة، كالمطعم والملبس والمسكن ونحوها من ضرورات المعيشة، فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر لم يتفرغ القلب للدين والتوجه في العبادة.
وما لا يتوصل إلى حسن العبادة وكمالها إلا به فهو عبادة، فأخذه الكفاية من الدنيا للاستعانة به على الدين من الفوائد الدينية.
الثاني: ما يصرفه الغني للناس من الأموال كالصدقات والزكوات للفقراء والمساكين ونحوهم، والمروءة ببذل الأموال للأغنياء والأشراف، وإلى العلماء والدعاة في ضيافة أو هدية أو إعانة ونحو ذلك مما يكتسب به العبد الإخوان والأصدقاء.
ووقاية عرضه كبذل المال لقطع ألسنة السفهاء وكف شرهم.
وما يعطيه أجراً على الاستخدام، فإن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لمصالحه كثيرة، ولو تولاها بنفسه لضاعت أوقاته.
الثالث: ما لا يصرفه الإنسان إلى معيَّن، لكن يحصل به خيراً عاماً كبناء المساجد والأوقاف والوصايا ونحوها كالإنفاق في سبيل الله على الدعاة والمجاهدين في سبيل الله، ويضاف إلى ذلك الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر، والاستغناء عما في أيدي الخلق.
وأما غوائل المال وآفاته فهي قسمان كذلك:
آفات دينية.. وآفات دنيوية.
أما الآفات الدينية فثلاث:
الأولى: أن المال يجر إلى المعاصي غالباً؛ لأن من استشعر القدرة على المعصية انبعثت دواعيه إليها.
والمال نوع من القدرة يحرك داعية الإنسان إلى المعاصي، فصاحب القدرة إن اقتحم ما يشتهي هلك، وإن صبر لقي شدة في معاناة الصبر مع القدرة، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء، ومن العصمة أن لا تجد.
(13/163)
الثانية: أن المال يحرك الإنسان إلى التنعم في المباحات حتى تصير له عادة وإلفاً فلا يصبر عنها، وربما لا يقدر على استدامتها إلا بكسب فيه شبهة فيقتحم الشبهات، ويترقى إلى الكذب والنفاق، ثم يدخل في المحرمات لتكميل شهواته، ثم يترقى إلى الكبائر كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [مريم: 59].
الثالثة: أن يلهيه ماله عن ذكر الله عزَّ وجلَّ وعبادته، وهذا هو الداء العضال الذي لا ينفك عنه أحد، فإن أصل العبادات ذكر الله عزَّ وجلَّ، والتفكر في جلاله وعظمته، وذلك يستدعي قلباً فارغاً يناجي ربه لا يشغله شيء عنه، وصاحب الضيعة يصبح ويمسي متفكراً في أحوال ضيعته، وصاحب التجارة يمسي ويصبح متفكراً في أحوال تجارته، وفي الخوف على ماله.
هذا سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن، والهم والغم، والعناء والتعب، في متاع يفنى، وخير من ذلك لو كان الجهد في أرباح تبقى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 15].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «قَدْ أفْلَحَ مَنْ أسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ» أخرجه مسلم(1).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :
«اللَّهُمَّ! اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا» متفق عليه(2).
والسنة فيمن وجد المال أن يستعمله في السخاء والإيثار، واصطناع المعروف، ومن فقد المال أن يستعمل القناعة والاقتصاد في المعيشة.
وإذا تيسر للإنسان في الحال ما يكفيه فلا يضطرب لأجل المستقبل، وإذا انسد عنه باب كان ينتظر منه الرزق فلا ينبغي أن يضطرب قلبه، فلن ينقص رزقه الذي قدره الله له: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 2، 3].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1054).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6460)، ومسلم برقم (1055) واللفظ له.
(13/164)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» أخرجه ابن ماجه(1).
والمال لا ينفع صاحبه إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون حلالاً.
الثاني: أن لا يشغل عن ذكر الله وطاعة الله ورسوله.
الثالث: أن يؤدي حق الله فيه.
والمربي هو الله سبحانه، والرازق هو الله وحده، فالتاجر يجلس في متجره لينفذ أوامر الله في التجارة، لا بنية أن المتجر يربني أو يرزقني؛ لأن الرازق هو الله وحده، والمتجر سبب للربح أو الخسارة، وقد أمرنا الله بالكسب.
فالتاجر في امتحان في تجارته:
هل يلتزم بأوامر الله ورسوله في تجارته؟.
هل ينفذ أوامر الله في أمواله كسباً وإنفاقاً؟.
هل يميز بين الحلال والحرام في تجارته؟.
هل يغش في تجارته؟، هل يأكل الحرام؟، هل يقينه على ربه أم على جهده؟، وهكذا. فهو يجرب إيمانه.. هل ينفذ أوامر الله أم يتبع الهوى؟.
فمن كانت تجارته وفق أوامر الله بارك الله في تجارته، وصارت تجارته عبادة، فبعد الإيمان تأتي حركات المسلم وأعماله كلها لله على طريقة رسول الله: عبادة.. ودعوة.. ومعاملة.. وتجارة.. وجهاد.. وغير ذلك: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 162].
لكن المسلم يعمل في الكسب ببدنه وقلبه معلق بالله والدار الآخرة.
والمقصود من التجارة الإفادة لجميع الإنسانية، بتوفير ما يحتاجه الناس من الحلال الطيب، وتنفيذ أوامر الله في التجارة بأخذها من الحلال، وإنفاقها في وجوه الخير.
ولكسب المعاش طريقان:
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (2144)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1743).
انظر السلسلة الصحيحة (2607).
(13/165)
الأول: طريق لعامة الناس مؤمنهم وكافرهم، وهو طلب الرزق بالأسباب المشروعة في سائر البلاد كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 15].
الثاني: طريق الخاصة، وهم المؤمنون المتقون الذين يجتهدون في دين الله، وليس عندهم وقت أن يشتغلوا بالأسباب الكسبية فهؤلاء عليهم أن يختاروا طريق الإيمان والتقوى فيحصلوا على خمسة أشياء:
الأول: حصول البركات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
الثاني: سهولة الحصول على الرزق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [الطلاق: 2، 3].
الثالث: تيسير الأمور كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 4].
الرابع: تكفير السيئات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 5].
الخامس: دخول الجنة كما قال الله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [آل عمران: 133].
والمال له أربع مراحل:
الأولى: مرحلة جمعه والحصول عليه، إما عن طريق الكسب والعمل، وإما عن طريق الهدية، أو الوصية، أو الميراث ونحو ذلك.
الثانية: مرحلة حفظه بعد حصوله.
الثالثة: مرحلة الاستفادة منه في الأكل، والشرب، واللباس، والسكن ونحو ذلك.. وهذه لازمة.
الرابعة: مرحلة الإنفاق منه في سبيل الله.. وهي أعلاها.
وأهل الأموال ثلاثة أصناف:
محسنون.. وظالمون.. وأهل العدل.
فالمحسنون هم المتصدقون، والظالمون هم أهل الربا.. وأهل العدل هم المتبايعون حسب السنة.
وقد ذكر الله أحكام الناس في الأموال وبين أنها ثلاثة:
عدل.. وإحسان.. وظلم.
فالعدل البيع.. والإحسان الصدقة.. والظلم الربا.
فمدح الله سبحانه المتصدقين وذكر ثوابهم وهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 274].
وذم المرابين وذكر عقابهم فقال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 130، 131].
(13/166)
وأباح البيع والتداين إلى أجل مسمى كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 275].
وكما أن للصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها أحكاماً وأصولاً، فكذلك لكسب المال أصول، ولإنفاقه أصول، وكان إنفاق المال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على النحو التالي:
الأول: الإنفاق في سبيل الله لإعلاء كلمة الله كما أنفق الرسول ( وأبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
الثاني: الإنفاق لإكمال أركان الإسلام كالزكاة والحج ونحوها.
الثالث: الإنفاق لقضاء حاجات الناس ومواساة الفقراء والمساكين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 60].
الرابع: الإنفاق على حاجات النفس والأهل.
وبسبب تغير الترتيب للجهد والمال، صار الجهد للدنيا لا للدين، وصار إنفاق المال للشهوات، فقلت الطاعات، وزادت المعاصي والمنكرات، وقل دخول الناس في الإسلام، بل بدأ الناس يخرجون من الدين.
وبقي من الدين صورة الأعمال، فهان على الكفار استباحة ديار المسلمين، والتحكم في حياتهم، ونهب ثرواتهم، وإشغالهم بالألعاب والشهوات عن الإيمان والعبادات.
وقد جعل الله سبحانه الدنيا دار كسب.. تارة للمعاش.. وتارة للمعاد.
والتجارة لا تراد لذاتها، بل للاستغناء عن الناس، وإعفاف الأهل، ومواساة المحتاجين، وإفاضة الفضل على الإخوان، والإنفاق في سبيل الله.
أما إن كان المقصود نفس المال وجمعه والتفاخر به فهو مذموم.
والكسب المحمود ما جمع أموراً أربعة وهي:
الصحة.. والعدل.. والإحسان.. والشفقة على الدين.
أما الصحة في البيع: فمنها ما يتعلق بالسلعة وصاحبها، فلا يشتري من مجنون ولا صغير، ولا يشتري ولا يبيع ما لا يقدر على تسليمه حساً كالطير في الهواء، ولا شرعاً كالمرهون ونحو ذلك، وأن يكون البيع بإيجاب وقبول أو معاطاة، ونحو ذلك.
(13/167)
وأما العدل: فيجتنب البائع والمشتري ما يتضرر به أحدهما كالاحتكار والغش والنجش، ولا يثني البائع على السلعة بما ليس فيها، أو يكتم بعض عيوبها، ويرجح الوزن، وتحقيقه أن يرجح إذا أعطى، وينقص إذا أخذ.
أما الإحسان في المعاملة: فقد أمر الله بالعدل والإحسان، ومن الإحسان المسامحة في البيع، وأن لا يغبنه في الربح بما لا يتغابن به عادة.
وإذا أراد البائع استيفاء الثمن أو الدين فيحسن تارة بالمسامحة، وتارة بحط البعض، وتارة بالإنظار، وتارة بالتساهل، ومن الإحسان إقالة المستقيل.
أما شفقة التاجر على دينه: فلا ينبغي للتاجر أن يشغله معاشه عن معاده بل يراعي دينه، ويتم ذلك بأمور:
الأول: حسن النية في التجارة، فينوي بها الاستعفاف عن السؤال، وكف الطمع عن الناس، وكفاية العيال، والإفاضة على الإخوان، والإحسان إلى الفقراء بالصدقات، وامتثال أوامر الله في التجارة ليحصل له الأجر، ويكون من جملة المجاهدين.
الثاني: أن لا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة، وسوق الآخرة المساجد، وطلب العلم، والدعوة، والعبادة، وأعمال البر المختلفة، فيقسم الأوقات حسب حاله، ويرجح سوق الآخرة.
الثالث: أن يلازم ذكر الله تعالى في السوق، ويشتغل بالتسبيح والتهليل، وغض البصر، وحفظ اللسان، والذكر والفكر والتذكير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: أن لا يكون شديد الحرص على السوق والتجارة، فلا يكون أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منه.
الخامس: أن لا يقتصر على اجتناب الحرام، بل يتوقى مواقع الشبهات، ومواضع الريب.
السادس: أن يقصد بتجارته وصناعته مع إعفاف نفسه القيام بفرض من فروض الكفايات التي يحتاجها المسلمون ليؤجر على ذلك.
وشركاء الإنسان في المال ثلاثة:
الأول: القدر فهو لا يستأمرك أو يستأذنك أن يذهب به عنك بهلاك أو موت.
الثاني: الوارث ينتظر أن تضع رأسك وتدفن، ثم يستاقه وأنت ذميم.
الثالث: أنت، فقدمه لما ينفعك، فستسأل عن مدخله ومخرجه.
(13/168)
والله عزَّ وجلَّ خلق الخلائق من طير وحيوان، وإنس وجان، وكتب أرزاقهم وآجالهم وآثارهم، وهم جميعاً يأكلون من رزق الله.
والله عزَّ وجلَّ يرزق أحياناً بالأسباب.. وأحياناً بدون الأسباب.. وأحياناً بضد الأسباب كما رزق مريم طعاماً بلا شجر، وولداً بلا ذكر، وفجر الماء لموسى وقومه من الحجر.
وكل مخلوق كتب الله له مقدار رزقه.. ونوعية رزقه.. وزمان رزقه.. ومكان رزقه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 6].
ولكل مخلوق رزقه ينتظره، فلا يمكن أن يأخذ أحد منه شيئاً، وهو يطلبه وإن لم يطلبه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 32].
وبنو آدم يحصلون على أرزاقهم من خمسة أبواب:
الباب الأول: باب المجاهدة والكد والتعب، وذلك بالبيع والشراء والتجارة والصناعة والزراعة، ونحو ذلك، وهذا الباب لعموم الناس.
الباب الثاني: باب الحقوق والواجبات: كالوصية والميراث، والزكاة والصدقات، والهبة والهدية، والأوقاف ونحو ذلك.
الباب الثالث: باب الذل والهوان: كمن يسأل الناس ويتذلل لهم ليعطوه.
الباب الرابع: باب المعاصي والمحرمات: كمن يأكل الربا، ويسرق الأموال، ويقطع الطريق، ويغصب الأموال، أو يغش في المعاملات، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو يأخذها بطريق الميسر أو القمار، أو يحتكر المال، أو يأخذ الرشوة ونحو ذلك من الوسائل المحرمة.
فهذا وما قبله قد كتب الله له رزقه ولكنه لم يصبر، واستعجل وأخذها بطريق الذل أو الحرام.
الخامس: باب التقوى والصلاح: وهذا يحصل على رزقه بالإيمان والأعمال الصالحة كالاستغفار، وصلة الرحم، وحسن الخلق، والتقوى، والتوكل على الله، والإنفاق في سبيل الله، والإحسان إلى الخلق، والهجرة في سبيل الله ونحو ذلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 96].
وهذا الباب خاص بالمؤمنين.
(13/169)
فالأول: مباح مأمور به.. والثاني: من الإحسان والحقوق فهو مشروع ومأمور به.. والثالث: أخس الأبواب وأدناها.. والرابع: أخطرها وأعظمها وأشدها جرماً.. والخامس: مأمور به، وهو طريق الأنبياء وأتباعهم، وهو أعلاها وأشرفها وأزكاها وأعظمها بركة.
وكسب المال مباح، بل مأمور به، وإنما المذموم كسبه من غير وجهه، وصرفه في غير وجهه، ومنع الحق الواجب فيه.
والوسائل لها أحكام المقاصد، فالذي يجعل الدين مقصد حياته، ثم يستخدم الوسائل المشروعة لهذا المقصد، فهذا كله خير.
فالأموال والتجارة خير؛ لأنها من الوسائل التي جعلها الله نصرة للدين، فأبو بكر وعمر وعثمان، وابن عوف وطلحة والزبير رضي الله عنهم، كل هؤلاء تجار، وقد استخدموا تجارتهم للدين، فيؤجرون في الكسب الحلال، ويؤجرون في الإنفاق في سبيل الله، ويؤجرون في امتثال أوامر الله في تجارتهم، ويؤجرون في حسن الأخلاق في معاملاتهم، فتكون معاملاتهم سبباً لدخول الناس في الإسلام، لما يرونه من عدل الإسلام وسماحته.
والصحابة رضي الله عنهم كلهم أهل عمل وتجارة، وأقلهم ليس لديه عمل كأهل الصفة ونحوهم.
وإذا جاء المال للإنسان بغير سؤال فينبغي أن يلاحظ فيه ثلاثة أمور:
نفس المال.. وغرض المعطي.. وغرضه في الأخذ.
أما نفس المال: فينبغي أن يكون خالياً من المحرمات والشبهات كلها.
وأما غرض المعطي، فإن كان طلباً للمحبة بالهدية فلا بأس من قبولها إن لم تكن رشوة، وإن كان غرض المعطي الثواب وهو الزكاة والصدقة، فعليه أن ينظر في صفات نفسه هل هو مستحق أم لا؟.
وإن كان غرض المعطي الشهرة والرياء والسمعة، فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد بردها.
(13/170)
وأما غرضه في الأخذ، فإن كان مستغنياً عنه لم يأخذه، وإن كان محتاجاً إليه وقد سلم من الشبهة. فالأفضل له الأخذ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر - رضي الله عنه -: «خُذْهُ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَك» متفق عليه(1).
والله عزَّ وجلَّ جعل في المال حقوقاً، وهي نوعان:
حقوق واجبة.. وحقوق مستحبة.
فالحقوق الواجبة كالزكاة المفروضة، والنفقات الواجبة على من تلزمه.
والحقوق المستحبة، كمكافأة المهدي، والصدقات، والهدايا، وما وقى به عرضه ونحو ذلك.
فالجواد حكيم يضع العطاء مواضعه، ويتوخى بماله أداء هذه الحقوق على وجه الكمال، طيبة بذلك نفسه، راضية مؤملة للخلف في الدنيا، والثواب في العقبى.
أما المسرف المبذر فقد يصادف عطاؤه موضعه، وكثيراً لا يصادفه، فإنه يبسط يده في ماله بحكم هواه وشهوته جزافاً لا على تقدير ولا مراعاة مصلحة وإن اتفقت له.
فالأول بمنزلة من بذر حباً في أرض خصبة فأنبتت من كل زوج بهيج.
والثاني بمنزلة من بذر حبه في أرض سبخة.
والله سبحانه هو الجواد على الإطلاق، بل كل جود في العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى جوده أقل من قطرة في بحار الدنيا وهي من جوده.
ومع هذا فالله إنما ينزل بقدر ما يشاء، وجوده لا يناقض حكمته، ويضع عطاءه مواضعه، وإن خفي على أكثر الناس أن تلك مواضعه.
فالله أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم حيث يضع فضله، وأعلم حيث يضع هداه وتوفيقه وأي المحال أولى به: (ٹ ٹ ? ? ? ?) [البقرة: 216].
والله سبحانه هو الرزاق الذي يرزق من يشاء من عباده، ويحثه على الإنفاق في سبيل الله، فيبدأ عبده بالحض والتأليف، لا بالفرض والتكليف، ويشعره بأن الله يضاعف له أجر ما أنفق، يضاعف من رزقه الذي لا يعلم أحد حدوده، ويضاعف من رحمته التي لا يعلم أحد مداها.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7164)، ومسلم برقم (1045)، واللفظ له.
(13/171)
ويطمئنه أنه في إنفاقه لا يعطي بل يأخذ، وأن ماله لا ينقص بل يزيد كلما أنفق، كما تعطي الحبة إذا أودعها في الأرض سبعمائة حبة كما قال سبحانه:
(? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 262-263].
فالمن والأذى يحيل الإنفاق سماً وناراً، يمحق الإنفاق، ويمزق الشمل، ويثير السخائم والأحقاد، والمن عنصر كريه لئيم، فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاء، أو رغبة في إذلال الآخذ، أو رغبة في لفت أنظار الناس، فالمن يحيل الصدقة أذى للواهب وللآخذ على حد سواء، أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء، ورغبة في رؤية أخيه ذليلاً له، كسيراً لديه، ربما يملأ قلبه بالنفاق والرياء والبعد من الله، وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام، ومن رد فعل بالحقد والانتقام، ومن هنا يبطل الثواب والأجر بالمن والأذى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 264].
وما أراد الإسلام بالإنفاق مجرد سد خلة الفقير، وملء بطن الجائع، وتلافي حاجة المعوز فقط؛ بل أراد فوق ذلك تهذيب نفس المعطي وتزكيتها، وتطهيرها من الشح والحرص والبخل، واستجاشة مشاعر الإنسان تجاه أخيه الفقير المحتاج، وتذكيراً له بنعمة الله عليه.
وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا مخيلة، وأن ينفق منها في سبيل الله في غير منع ولا منّ.
والمال مال الله، والرزق الذي في خزائن الأغنياء هو رزق الله، وهذه حقيقة لا يجادل فيها إلا جاهل بأسباب الرزق القريبة والبعيدة.
فالذي خلق الإنسان خلقه وساق رزقه إليه، فإذا أعطى الواجد شيئاً، فإنما يعطي من مال الله، وإذا أسلف حسنة فإنما هي قرض لله يضاعفه له أضعافاً كثيرة، وليس الفقير الآخذ إلا أداة وسبباً لينال المعطي الواهب أضعاف ما أعطى من مال الله.
(13/172)
والصدقة ليست تفضلاً من المانح على الآخذ، إنما هي قرض لله، والله غني عن الصدقة المؤذية، والصدقة التي يتبعها أذى لا ضرورة لها، وأحسن منها كلمة طيبة تضمد الجراح، ومغفرة تغسل أحقاد النفوس، وتحل محلها الإخاء والمحبة.
فالقول المعروف والمغفرة في هذه الحالة يؤديان الوظيفة الأولى للصدقة من تهذيب النفوس وتأليف القلوب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 263].
والله حليم يعطي عباده الرزق فلا يشكرون، فلا يعاجلهم بالعقوبة وهو معطيهم كل شيء، فعلى الناس أن لا يعجلوا بالغضب والأذى على من يعطونهم من مال الله، حين لا يروقهم منهم أمر، ولا ينالهم منهم شكر.
والصدقة حركة إحسان محسوسة، وهي ثمرة لما في القلب من الإيمان والكفر، والإخلاص والرياء.
والمنفقون قسمان:
الأول: من أنفق ماله رياء، فهذا لا يثمر خيراً، ولا يعقب مثوبة، وحظ صاحبه منه التعب في كسبه، والحسرة على فوته، والعذاب على فعله وإنفاقه.
الثاني: من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله، فهذا يثمر خيراً، ويعقب مثوبة، وحظ صاحبه منه الأجر في كسبه، ومضاعفة أجره وماله، وتطهير نفسه وماله، والفوز بالجنة.
والله جل جلاله طيب لا يقبل إلا طيباً، فينبغي أن يكون الجود بأفضل الموجود، فلا يكون بالدون والرديء الذي تعافه النفوس.
والله غني عن الخبيث الذي يخرجه ضعيف الإيمان واليقين.
حميد يحمد الطيب الذي يخرجه الإنسان، ويجزي به عليه جزاء الراضي الشاكر، وهو الذي أعطاه إياه.
بل الله غني عن عطاء الناس إطلاقاً، فإذا بذلوا مالاً فإنما يبذلونه لأنفسهم، فليبذلونه طيباً طيبة به نفوسهم كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?) [البقرة: 267].
والأموال فيها خير من وجه، وفيها شر من وجه، وهي كالحية يأخذها الراقي فيستخرج منها الترياق، ويأخذها الغافل فيقتله سمها من حيث لا يدري.
ولا يخلو أحد عن سم المال إلا بالمحافظة على خمس وظائف:
(13/173)
الأولى: أن يعرف الإنسان مقصود المال، وأنه لماذا خلق؟، فلا يحفظ إلا قدر الحاجة، ولا يعطيه من همته فوق ما يستحقه.
الثانية: أن يراعي جهة دخل المال، فيجتنب الحرام المحض، وما الغالب عليه الحرام، ويجتنب الجهات المكروهة القادحة في المروءة كالهدايا التي فيها شوائب الرشوة، وكالسؤال الذي فيه الذلة، وهتك المروءة ونحو ذلك.
الثالثة: في المقدار الذي يكتسبه، فلا يستكثر منه ولا يستقل، بل القدر الواجب، ومعياره الحاجة، والحاجة مطعم وملبس ومسكن، يميل فيها إلى جانب القلة، وإن جاوز ذلك وقع تدريجياً في هاوية لا آخر لعمقها.
الرابعة: أن يراعي العبد جهة المخرج، ويقتصد في الإنفاق غير مبذر ولا مقتر، فيضع ما اكتسبه من حله في حقه، ولا يضعه في غير حقه، فالإثم في الأخذ من غير حقه وصرفه في غير حقه سواء.
الخامسة: أن يصلح نيته في الأخذ والترك، والإنفاق والإمساك، فيأخذ ما يأخذ ليستعين به على العبادة، ويترك ما يترك زهداً فيه واستحقاراً له، فإذا فعل ذلك لم يضره وجود المال.
وكذلك ينبغي أن تكون نيته في كل ما يحفظه من قميص وفراش وآنية، ينوي به الاستعانة على العبادة؛ لأن كل ذلك مما يحتاج إليه في الدين.
وما فضل عن الحاجة ينبغي أن يقصد به أن ينتفع به عبد من عباد الله، ولا يمنعه منه عند حاجته، فمن فعل ذلك فهو الذي أخذ من حية المال جوهرها وترياقها، واتقى سمها، فلا تضره كثرة المال، ولكن لا يتأتى ذلك إلا لمن رسخ في الدين قدمه، وعظم فيه علمه.
ومن أخذ حية المال مستحسناً صورتها وشكلها، ومستليناً جلدها، قتلته في الحال، إلا أن قتيل الحية يدري أنه قتيل، وقتيل المال قد لا يعرف أنه قتيل، وتلك الفتنة التي قلما يصحو منها أحد: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 55-56].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 55].
(13/174)
فالأصل في المال إنفاقه في الواجبات والمستحبات، وفي كا ما يرضي الله طلباً للأجر وتخلصاً من كل شاغل عن الله، كما قال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المنافقون: 9-11].
4- فتنة الأهل والأولاد
قال الله تعالى: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [التغابن: 15].
وقال الله تعالى: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [المنافقون: 9].
النفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد، وقد نصح الله عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد التي فيها محذور شرعي، ورغبهم في امتثال أوامره، وتقديم مرضاته؛ لما عنده من الأجر العظيم، والمحاب الغالية، وأن يؤثروا الآخرة الباقية على الدنيا الفانية.
ورغبهم في العفو والصفح والمغفرة، وتجنب الغلظة والقسوة في معاملتهم، ففي ذلك من المصالح ما لا يمكن حصره، فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له.
وإن من الأزواج والأولاد ما يكون صديقاً معيناً على الطاعة، ومنهم من يكون عدواً معيناً على المعصية.
فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله، كما أنهم قد يكونون دافعاً للتقصير في تبعات الإيمان، اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم.
فلو قام المؤمن بواجبه فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله، والمجاهد في سبيل الله يتعرض لآلام كثيرة، كما يتعرض هو وأهله للعنت، وقد يحتمل العنت في نفسه، ولا يحتمله في زوجته وأولاده، فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار، والمتاع والمال، فيكونون عدواً له؛ لأنهم صدّوه عن الخير، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا، كما أنهم قد يقفون له في الطريق ليمنعوه من النهوض بواجبه، اتقاء لما يصيبهم من جرائه، أو لأنهم يكونون في طريق غير طريقه، ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله فيفتنوه، ونحو ذلك من صور العداوة المتفاوتة.
(13/175)
فالله يريد من عبده أن يكون له، والأزواج والأولاد يريدونه لهم، فالله عزَّ وجلَّ يوقظ قلوب المؤمنين، ويحذرهم من تسلسل هذه المشاعر، وضغط هذه المؤثرات.
فالأموال والأولاد فتنة كما قال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [التغابن: 15].
والفتنة هنا لها معنيان:
الأول: أن الله يفتنكم بالأموال والأولاد ويختبركم كما يفتن الصائغ الذهب بالنار ليخلصه من الشوائب.
الثاني: أن هذه الأموال والأولاد فتنة لكم توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية، فاحذروا هذه الفتنة لا تجرفكم وتبعدكم عن الله.
ثم يبشر الله عباده المؤمنين بعد التحذير من فتنة الأموال والأولاد بالأجر العظيم، ويهتف للذين آمنوا بتقوى الله في حدود الطاقة والاستطاعة، وبالسمع والطاعة بقوله سبحانه: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التغابن: 16].
فالطاعة في الأمر ليس لها حدود، ومن ثم يقبل الله فيها ما يُستطاع، أما النهي فلا تجزئة فيه، فيُّحذر منه، ويُترك جملة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ، عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» أخرجه مسلم(1).
إن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها الله على عبد من عباده، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة والإصلاح بها في الأرض، وبذلها في سبيل الله ومرضاته والإحسان بها إلى خلقه، فكلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخراً.. وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب.. فإذا السكينة تغمره.. والأمل في الله يُسرِّي عنه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 274].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1337).
(13/176)
وقد تكون الأموال والأولاد نقمة يصيب الله بها عبداً من عباده؛ لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحول حياته جحيماً، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويتلف أعصابه.
فإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما يتلفه ويعود عليه بالأذى والشر، وإذا هو يشقى كذلك بأبنائه إذا مرضوا، ويشقى بهم إذا صحُّوا، وكم من الناس يعذبون بأولادهم لسبب من الأسباب: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 55].
فعلى المسلمين أن لا يقيموا وزناً لأموال وأولاد المنافقين؛ لأن الإعجاب بها نوع من التكريم الشعوري لهم، وهم لا يستحقونه لا في الظاهر ولا في الشعور، إنما هو الاحتقار لهم ولما يملكون.
وكثرة الأموال والأولاد لا تقرب من الله زلفى، ولا تدني إليه، وإنما الذي يقرب منه زلفى الإيمان بما جاءت به الرسل، والعمل الصالح الذي هو من لوازم الإيمان كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 37].
والكفار يستحقون النار بكفرهم، ولا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 10].
وقد ابتلى الله عزَّ وجلَّ بني آدم بالشهوات، وزين لهم حب الشهوات الدنيوية، فتعلقت بها نفوسهم، ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا إلى قسمين:
قسم جعلوها مقصد الحياة، فصارت أفكارهم وأعمالهم لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها، ويتمرغون بشهواتها، ولا يبالون بأي وجه حصولها، ولا فيما أنفقوها، فهؤلاء كانت لهم زاداً إلى دار الشقاء والعناء والعذاب.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 14].
(13/177)
والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها، وأن الله جعلها ابتلاء وامتحاناً لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة إلى الدار الآخرة، يستعينون بها على مرضاة الله وطاعته، قد صحبوها بأبدانهم، وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها متاع.
فهؤلاء صارت لهم زاداً إلى ربهم، ووسيلة إلى رضوانه والفوز بجنته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 15].
والإنسان إذا تبع هواه، وارتكب المعاصي دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة، وإذا كان كذلك افتتن وزال عنه نور الإسلام، والقلب كالكوز، فإذا انكب انصب ما فيه ولم يدخله شيء بعد ذلك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «تعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأيُّ قَلْبٍ أنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أسْوَدُ مُرْبَادّاً، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلا مَا أشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» أخرجه مسلم(1).
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات.. وترك المنكرات.. وحب المساكين.. وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر.. وأعوذ بك من عذاب جهنم.. وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال.. وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات.
4- العدو الرابع
1- المنافقون
1- علامات المنافقين
قال الله تعالى: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [النساء: 142].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 101].
النفاق: هو إظهار الخير وإبطان الشر.
والنفاق قسمان:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (144).
(13/178)
الأول: النفاق الأكبر: وهو النفاق الاعتقادي، بأن يظهر صاحبه الإسلام.. ويبطن الكفر.. وجميع ما ذكر في القرآن فالمقصود به النفاق الأكبر، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 145].
الثاني: النفاق الأصغر: وهو النفاق في الأعمال ونحوها، وصاحبه لا يخرج من ملة الإسلام لكنه عاص، وله علامات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإذَا خَاصَمَ فَجَرَ» متفق عليه(1).
والنفاق لم يكن موجوداً قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وبعد أن هاجر، فلما كانت غزوة بدر، ونصر الله المؤمنين على الكفار، وأظهرهم وأعزهم، ذل من في المدينة ممن لم يسلم، فأظهر بعضهم الإسلام خوفاً ومخادعة، ولتحقن دماؤهم، وتسلم أموالهم، وتحفظ مكانتهم، وليسهل عليهم كيد المسلمين، وتمزيق وحدتهم، والمكر بهم وخداعهم.
فكانوا بين أظهر المسلمين، في الظاهر أنهم منهم، وفي الحقيقة أنهم ليسوا منهم، فنال المسلمين منهم شر عظيم وبلاء مستطير.
ومن لطف الله تعالى بالمؤمنين أن كشف أحوالهم، وجلا صفاتهم، لئلا يغتر بهم المؤمنون، ولينقمعوا عن كثير من فجورهم.
ومن أعظم صفات المنافقين:
الأولى: الكذب أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم كما قال الله عنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 8].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (34) واللفظ له، ومسلم برقم (58).
(13/179)
الثانية: الخداع: فهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر مخادعة لله ولعباده المؤمنين، ولكنهم في الحقيقة لا يخدعون إلا أنفسهم، فما يعملون من المكر والكيد لإهلاك أنفسهم؛ لأن الله لا يتضرر بخداعهم، وعباده المؤمنون لا يضرهم كيدهم شيئاً: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [البقرة: 9].
فسلمت أموالهم، وحقنت دماؤهم، وصار كيدهم في نحورهم، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا، والحزن المستمر حين يرون ما يحصل للمسلمين من القوة والنصرة، ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع.
الثالثة: الشك والتردد، ففي قلوبهم مرض الشك والشبهات والنفاق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [البقرة: 10].
الرابعة: الإفساد في الأرض: فلا أعظم فساداً ممن كفر بآيات الله، وصد عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه، ووالى المحاربين لله ورسوله، وعمل بالكفر والمعاصي، وزعم مع ذلك أن هذا إصلاح، وأي فساد فوق هذا الفساد؟، وأعظم منه شدة إنكارهم على من نهاهم عنه؟.
(ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?) [البقرة: 11-12].
فجمعوا بين فعل الباطل واعتقاده حقاً، وهذا أعظم جناية ممن عمل بالمعصية مع اعتقاد أنها معصية، فهذا أقرب إلى السلامة، وأرجى لرجوعه.
وصلاح الأرض أن تعمر بالإيمان بالله وعبادته، وطاعة الله ورسوله.
ولهذا خلق الله الخلق وأسكنهم في الأرض، وأدر لهم الأرزاق ليستعينوا بها على طاعة الله وعبادته، فإذا عمل الناس فيها بضده، كان سعياً بالفساد فيها، وإخراباً لها عما خلقت من أجله.
الخامسة: تسفيه الناس، فهم يزعمون أن الصحابة والمؤمنين سفهاء، وأن سفههم أوجب لهم الإيمان، وترك الأوطان، ومعاداة الكفار، والتعرض للقتل والفقر، والحرمان من الشهوات: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 13].
(13/180)
فنسبوا المؤمنين إلى السفه، وفي ضمنه أنهم هم العقلاء أرباب الحجج والنهي، وفي الحقيقة أنهم هم السفهاء؛ لأن السفه جهل الإنسان بمصالح نفسه، وسعيه فيما يضرها، وهذه الصفة صادقة عليهم، فكم ينالهم بسبب نفاقهم من الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
السادسة: الاستهزاء بالمؤمنين: فهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين أظهروا أنهم معهم، وإذا خلوا إلى شياطينهم وكبرائهم قالوا: إنا معكم في الحقيقة، وإنما نحن مستهزئون بالمؤمنين، فهذه حالهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 14-15].
فهذه أهم صفاتهم القبيحة، وعلاماتهم المميزة لهم، فلله ما أخسرهم، وما أعظم ضلالهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 16].
فالمنافقون رغبوا في الضلالة رغبة المشتري بالسلعة التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان النفيسة، فالهدى غاية الصلاح، والضلالة غاية الشر، وهؤلاء المنافقون بذلوا الهدى رغبة عنه بالضلالة، فهذه تجارتهم، فبئس التجارة، وبئس الصفقة صفقتهم.
فما أسفه وما أضل من بذل الهدى في مقابلة الضلالة.. واختار الشقاء على السعادة.. ورغب في سافل الأمور عن أعاليها.
فهل مثل هذا رابح في تجارته؟.
كلا.. بل هو خاسر فيها أعظم خسارة، حيث لا أمل في الربح هناك: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 15].
فهؤلاء المنافقون عاشوا بين المؤمنين وهم غير مؤمنين، لكنهم انتفعوا بنور الإيمان، وحقنت بذلك دماؤهم، وسلمت أموالهم، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت، فسلبهم الانتفاع بذلك النور، وحصل لهم كل هم وغم وعذاب.
وحصل لهم ظلمة القبر.. وظلمة الكفر.. وظلمة النفاق.. وظُلَم المعاصي على اختلاف أنواعها.. وبعد ذلك ظلمة النار.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [البقرة: 17-18].
(13/181)
فهم صم عن سماع الحق والخير.. وبكم عن النطق به.. وعمي عن رؤية الحق.. فهم لا يرجعون؛ لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه.
والمنافقون إذا سمعوا القرآن، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأعرضوا عن أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فيروِّعهم وعيده، وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم، ويكرهونها كراهة صاحب الصَّيِّب الذي يسمع الرعد، فيجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [البقرة: 19].
هكذا حال المنافقين إذا سمعوا القرآن، وأوامره ونواهيه.
ومن صفات المنافقين أنهم يحبون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وهو كل من حكم بغير شرع الله، ولا يرغبون في الانقياد لشرع الله وتحكيمه في أي أمر من الأمور: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [النساء: 60].
وإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله صدوا وأعرضوا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [النساء: 61].
ومن صفاتهم محبتهم لكفر المؤمنين وحسدهم لهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [النساء: 89].
ومن صفاتهم اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 138-139].
ومن صفاتهم المخادعة لله وأوليائه، والمراءاة في الأعمال كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [النساء: 142].
ومن صفاتهم عدم الرغبة في الخروج للجهاد في سبيل الله طما قال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 46].
ومن صفاتهم الكيد للإسلام وأهله، وإعمال الحيل في إبطال الدعوة إلى الله، وخذلان المؤمنين وفتنتهم عن دينهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 48].
(13/182)
ومن صفاتهم أنهم مبغضون للدين وأهله، إن أصاب المسلمين حسنة وخير ساءهم ذلك، وإن أصاب المسلمين بلاء ومصيبة كنصر عدو عليهم فرحوا قبحهم الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 50].
ومن صفاتهم كراهيتهم للإنفاق في سبيل الله، وإذا أنفقوا أنفقوا من غير انشراح صدر؛ لعدم إيمانهم، فهم ينفقونها حسرة، ولا يرجون عليها ثواباً فلذلك يكرهون الإنفاق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 54].
ومن صفاتهم الجبن والخوف من الدوائر ومن المسلمين، فيخافون إن أظهروا حالهم من المؤمنين، ويخافون أن يتبرأ المؤمنون منهم، فيتخطفهم الأعداء من كل جانب، ولذلك يقسمون للمؤمنين كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ) [التوبة: 56-57].
ومن صفاتهم عيب المسلمين وانتقادهم حسب مصلحتهم منهم كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [التوبة: 58].
ومن صفاتهم كثرة الحلف والاعتذار للمؤمنين ليرضوا عنهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [التوبة: 62].
ومن صفاتهم عدم الرغبة في القرآن وحلق العلم؛ لأن ذلك يكشف ما في قلوبهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [التوبة: 64].
وقد فضح الله في القرآن مخازي المنافقين، وهتك أستارهم؛ لينكشف أمرهم، ويحتاط المسلمون لكيدهم ومكرهم، إلا أن الله لم يعين أشخاصهم لفائدتين:
إحداهما: أن الله ستِّير يحب الستر على عباده.
الثانية: أن الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين في ذلك الوقت إلى يوم القيامة، فكان ذكر الوصف أعم وأنسب وأخوف، فلكل منافق في أي مكان وفي أي زمان الخوف والخزي والخذلان واللعن في الدنيا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحزاب: 60-61].
(13/183)
ولهم أشد العذاب يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 145].
ومن صفات المنافقين تولي بعضهم بعضاً؛ لأنهم اشتركوا في النفاق فاشتركوا في تولي بعضهم بعضاً.
وقد وصفهم الله بوصف عام، لا يخرج منه صغير منهم ولا كبير فقال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 67].
ففسق المنافقين أعظم فسق، ولذلك صار عذابهم أشد عذاب، وقد جمع الله الكفار والمنافقين والمنافقات في النار، وألحق بهم اللعنة وأوجب لهم الخلود في النار؛ لأجتماعهم في الدنيا على الكفر، والمعاداة لله ورسوله وعباده المؤمنين، والكفر بآيات الله، وصدهم عن سبيله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 68].
ويجب على المسلمين جهاد الكفار والمنافقين بالسيف والسنان، واللسان والبيان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?) [التوبة: 73].
فمن بارز منهم بالمحاربة فيجاهد باليد واللسان والسيف والبيان.
ومن كان مذعناً للإسلام بذمة، أو عهد فإنه يجاهد بالحجة والبرهان، ويبين له محاسن الإسلام، ومساوئ الشرك والكفر.
ومن صفاتهم إخلاف الوعد، فمن المنافقين من يعطي الله عهده وميثاقه لئن أعطاه من فضله، وبسط له الرزق في الدنيا ليصَّدَّقن، ويعمل الأعمال الصالحة كما قال سبحانه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [التوبة: 75].
فلما أعطاهم الله بخلوا، وتولوا عن الطاعة والانقياد، وأعرضوا عن الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [التوبة: 76].
فلما لم يَفُوا بما عاهدوا الله عليه عاقبهم الله بالنفاق إلى يوم يلقونه كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 77].
فليحذر العبد من هذا الوصف الشنيع أن يعاهد ربه على عمل صالح ثم لا يفي بذلك، فإنه ربما عاقبه الله بالنفاق كما عاقب هؤلاء.
(13/184)
فهذا المنافق الذي عاهد الله لئن أعطاه الله من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين عاهد فغدر، ووعد فأخلف، وحدث فكذب، وتلك علامات المنافق.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه(1).
وقد توعد الله من صدر منهم هذا الصنيع بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 78].
ومن صفات المنافقين ومخازيهم السخرية بالمؤمنين ولمزهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 79].
فهل يطمع المنافقون برحمة الله ومغفرته بعد كفرهم بالله ورسوله؟.
هيهات.. فالكافر لا ينفعه الاستغفار ولا العمل ما دام مات كافراً:
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [التوبة: 80].
ومن صفاتهم تبجحهم بتخلفهم عن الجهاد، وعدم مبالاتهم بذلك، وفرحهم بذلك التخلف الدال على عدم الإيمان، واختيار الكفر على الإيمان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [التوبة: 81-82].
فليتمتع المنافقون في هذه الدار الفانية، ويفرحوا بلذاتها، ويلهوا بلعبها، فسيبكون كثيراً في نار جهنم، جزاء كفرهم ونفاقهم، وعدم الانقياد لأوامر ربهم: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [التوبة: 82].
وليتقلب الكفار في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب واللذات، وأنواع العز والغلبة، في بعض الأوقات، فذلك كله متاع قليل ليس له ثبوت ولا بقاء، بل يتمتعون به قليلاً، ويعذبون عليه طويلاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [آل عمران: 196-197].
وإذا كان الكفار والمنافقون يسخرون من المؤمنين، ويستهزئون بهم، ويضحكون منهم، ويحتقرونهم ويزدرونهم فيوم القيامة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?) [المطففين: 34-36].
2- فقه عداوة المنافقين
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (33)، ومسلم برقم (590).
(13/185)
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المنافقون: 4].
وقال الله تعالى: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?) [البقرة: 11-12].
المنافقون هم أعداء الدين حقاً، فصدوا عن سبيل الله بأنفسهم، وصدوا غيرهم ممن يخفى عليه حالهم، فقد أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر، وأقسموا على ذلك، وأوهموا صدقهم: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [المنافقون: 2].
وهؤلاء المنافقون إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم من روائها ونضارتها، ومن حسن منطقهم تستلذ لسماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة، والهدى الصالح شيء، بل هم كأنهم خشب مسندة لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المنافقون: 4].
فلجبنهم وخوفهم وضعف قلوبهم وريبهم يخافون من أي صيحة؟.
فهؤلاء هم العدو في الحقيقة؛ لأن العدو البارز أهون من العدو الذي لا يشعر به الإنسان، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي فيأخذ الأسرار وهو العدو المبين.
وما أعظم فساد المنافقين، فإنهم يكفرون بآيات الله، ويصدون عن سبيل الله، ويخادعون الله وأولياءه، ويوالون المحاربين لله ورسوله، ويفسدون في الأرض، ويزعمون أنهم مصلحون: (? ں ں ? ? ? ? ?) [البقرة: 12].
والمنافقون والمنافقات في كل زمان، وفي كل مكان، تختلف أقوالهم وأفعالهم، ولكنها ترجع إلى طبع واحد، وتنبع من معين واحد، فهم من طينة واحدة، وطبيعة واحدة: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 67].
قلوبهم مشتملة على سوء الطوية.. ولؤم السريرة.. والغمز والدس.. والضعف عن المواجهة.. والجبن عند المصارحة.
(13/186)
أما سلوكهم فهو الأمر بالمنكر.. والنهي عن المعروف.. والبخل بالمال إلا أن يبذلوه رئاء الناس.. نسوا الله.. فلا يحسبون إلا حساب الناس وحساب المصلحة.. فنسيهم الله فلا وزن لهم، ولا اعتبار في الدنيا والآخرة، فهم فاسقون خارجون عن ملة الإسلام، فما هو جزاؤهم؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 68].
والصلاة على الميت المنافق، والقيام على قبره تكريم، والمؤمنون يجب أن لا يبذلوا هذا التكريم لهذه الفئة الضالة الماكرة كما قال الله سبحانه لنبيه (: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 84].
فهذا التكريم لا يستحقه من يتخلف عن الصف في ساحة الجهاد، لتبقى للتكريم قيمته، ولتظل قيمة الرجال منوطة بما يبذلون في سبيل الله، وبما يصبرون على البذل، ويثبتون على الجهد، ويخلصون أنفسهم وأموالهم لله، لا يتخلفون بهما في ساعة الشدة.
وكما لا يُقبل هؤلاء المنافقون للعودة في صفوف الجهاد، كذلك لا يستحقون أي تكريم؟ (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 83-84].
وعلى المؤمنين أن لا يقيموا كذلك وزناً لأموال المنافقين وأولادهم؛ لأن الإعجاب بهما نوع من التكريم المعنوي لهم، وهم لا يستحقونه لا في الظاهر ولا في الباطن، إنما هو الاحتقار والإهمال لهم ولما يملكون من أموال وبنين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 85].
وقد قرر الله الأحكام النهائية بين المسلمين والمشركين.. ثم بين المسلمين وأهل الكتاب.. ثم بين المسلمين والمنافقين.
فالمنافقون فسقوا عن دين الله، والله لا يرضى عن القوم الفاسقين، إنهم رجس خبيث يلوث الأرواح، ودنس قذر يؤذي المشاعر، وهم كالجثة المنتنة وسط الأحياء تؤذي وتعدي: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 95].
(13/187)
فلهذا استحقوا بكفرهم وفسقهم، وجرمهم وكيدهم الدرك الأسفل من النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 145].
وليس للمنافقين عمل بين المسلمين إلا نشر الباطل، ومحاربة الحق، والتشكيك في الإسلام، وهم متحركون بباطلهم، ولا بدَّ لهم من مكان يجتمعون فيه لِيُّحْكموا خطط الدس والتشكيك في الإسلام، وتمزيق وحدة المسلمين، والكيد لهم، والإضرار بهم، والتعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 119-120].
وقد أنشأ المنافقون أول معقل لهم في المدينة جوار مسجد قباء وهو مسجد الضرار لتنفيذ كيدهم ومكرهم، فكشف الله هذا المكان الذي سموه باسم الدين، ليخدعوا المغفلين، وليضربوا من خلاله الإسلام والمسلمين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [التوبة: 107].
وقد نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحراقه وهدمه، فأُحرق وهُدم، وبطل كيد المنافقين، وقال الله لرسوله (: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 108].
والعمل وإن كان ظاهره الصلاح فإن مداره على النية الخالصة لله، فالمساجد التي أسست على التقوى خير من المساجد التي بنيت على النفاق والإضرار بالمسلمين: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [التوبة: 109].
وهذا المسجد الذي بناه المنافقون.. واتخذوه ليكون مكيدة للإسلام والمسلمين.. والإضرار بالمسلمين.. والكفر بالله.. وستر المتآمرين على المؤمنين.. والكافرين لهم في الظلام.. والتعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين.. وباسم الدين.. هذا المسجد ما يزال يُتخذ في كل زمان ومكان في صور شتى، تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين:
(13/188)
تُتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام، وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه وخنقه، وتُتخذ كذلك في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتترس وراءها، وهي ترمي هذا الدين وتذبحه بالخفاء بالسكين.
وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات، وكتب وبحوث، تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين على الإسلام، الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق فتخدرهم تلك، وتطمئنهم أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق، فالمساجد مفتوحة، والشعائر قائمة، ولو كانت الأسواق ملعونة، والأخلاق منحوتة.
وتتخذ في صور شتى كثيرة، وتكشف خمارها، وتكشر عن أنيابها كلما سنحت لها فرصة: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [الصف: 8].
وقد انتشرت مساجد الضرار الكثيرة في بلاد المسلمين، وفي بلاد الكفار، ولا يزال الإسلام يحارب من خلالها، وقد جلبت على المسلمين كل شر وفتنة وبلاء، وعم بلاؤها المدن والقرى، والرجال والنساء.
ولخطر مساجد الضرار الكثيرة، فالواجب على علماء الأمة ودعاتها كشفها، وانزال اللافتات الخادعة عنها، وبيان حقيقتها للناس، وما تخفيه وراءها، ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي اتخذه المنافقون لضرب الإسلام وأهله، ومركزاً يجتمع فيه دعاة الباطل والضلال للكيد للإسلام وأهله.
فلا بدَّ لتماسك المجتمع المسلم ووحدته من هدم كل مسجد ضرار يقام إلى جوار مسجد التقوى، ويراد به ما أريد بمسجد الضرار، وأن تكشف كل محاولة خادعة تخفي وراءها نية خبيثة.
وبين مسجد التقوى وأعماله.. ومسجد الضرار وأعماله.. فرق كبير.
هذا يؤدي إلى النار، وذلك يؤدي إلى الجنة.
فمسجد التقوى مبني بأمر الله، موصل إلى رضوانه.. ومسجد الضرار مبني بأمر الشيطان، موصل إلى النار: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [التوبة: 109].
(13/189)
والمنافقون يعتمدون على إتقانهم مهارة النفاق، وعلى خفاء أمرهم في الغالب، وعلى ستر عداوتهم وحسدهم في الغالب، ولكن الله لهم بالمرصاد يكشف أستارهم، ويفضح كيدهم ومكرهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ?) [محمد: 29-30].
والله سبحانه يعلم حقائق النفوس ومعادنها، ويطلع على خفاياها، ويعلم ما يكون من أمرها علمه بما هو كائن فعلاً.
والابتلاء بالسراء والضراء.. وبالنعماء والبأساء.. وبالسعة والضيق.. وبالفرج والكرب.. كل ذلك يكشف ما هو مخبوء من معادن النفوس.. وما هو مجهول من أمرها حتى لأصحابها: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [محمد: 31].
هكذا تتم حكمة الله في الابتلاء.
ومع هذا فإن المؤمن يرجو أن لا يتعرض لبلاء الله وامتحانه، ويتطلع إلى عافيته ورحمته، فإن أصابه بلاء بعد هذا صبر له، وهو مدرك لما وراءه من حكمة، مستسلم لمشيئة ربه، متطلع إلى رحمته وعافيته بعد الابتلاء.
والقرآن يصور القرابة بين المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب بقوله: (ٹ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 11].
والله الخبير بقلوب العباد يقرر غير ما يقررون، ويؤكد غير ما يؤكدون: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [الحشر: 11-12].
والمنافقون لجهلهم بالله، وقلة فقههم، يرهبون المؤمنين أشد مما يرهبون الله، ولو خافوا الله ما خافوا أحداً من خلقه: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 13].
والمنافقون أجبن الناس وأخوفهم، ولرهبتهم من المؤمنين قال الله تعالى عنهم: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 14].
فهم متفرقون.. متنازعون.. مختلفون.. بأسهم بينهم شديد.. بخلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم.. وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء تواصل الزمان والمكان والجنس والعشيرة والوطن.
(13/190)
والمظاهر قد تخدع، فنرى تضامن أهل الكتاب فيما بينهم، كما نرى تجمع المنافقين أحياناً في معسكر واحد، ولكن هذا كله مظهر خارجي خادع: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 14].
وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخادع، وينكشف الحال عن نزاع داخل المعسكر الواحد.
وما صَدَق المؤمنون مرة وتجمعت قلوبهم على الله حقاً إلا وانكشف العدو أمامهم عن هذه الاختلافات، وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل ينفسخ وينهار، وينكشف عن الخلاف الحاد، والشقاق والكيد والدس في القلوب المتنافرة.
وما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب من المسلمين إلا عندما تتفرق قلوب المسلمين، فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين.
والله سبحانه يعرض أحوال هؤلاء المنافقين ليهوِّن من شأنهم أمام المؤمنين، ويرفع من نفوس المؤمنين هيبة هؤلاء الأعداء ورهبتهم.
ومتى أخذ المؤمنون بكتاب ربهم مأخذ الجد هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله، وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد، صف الإيمان الذي لا تقف له قوة في الأرض.
والمنافقون فيهم خبث الطبع، وخسة المشاعر: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [المنافقون: 7].
إنها خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها في كل زمان ومكان على حرب العقيدة، ومناهضة الدين.
ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يحسبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة، كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين.
إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب في مكة، لينفضوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلموه للمشركين.
وهي خطة المنافقين وهم يقاطعون مَنْ عند رسول الله، لينفضنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه تحت وطأة الضيق والجوع.
وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعاة إلى الله في بلاد المسلمين بالحصار والتجويع، ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق.
(13/191)
وهكذا يتوافى ويتوافق على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان من قديم الزمان إلى هذا الزمان، ناسين أن الله غني: (? ? ? ? ? ? ? ) [المنافقون: 7].
ومن خزائن السموات والأرض.. يرتزق هؤلاء الذين يريدون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم.
فما أجهلهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين؟.
فالله جل جلاله يثبت المؤمنين، ويقوي قلوبهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة، والوسيلة الخسيسة، التي يلجأ إليها أعداء الله في حربهم للمسلمين، ويطمئنهم أن خزائن الله في السموات والأرض هي خزائن الأرزاق للجميع، فكل سيصل إليه رزقه.
والذي يعطي أعداءه لا ينسى أولياءه، فقد شاء العزيز الرحيم أن لا يأخذ حتى أعداءه من عباده بالتجويع وقطع الأرزاق: (ٹ ٹ ? ? ? ?) [الحج: 65].
وقد علم الله سبحانه أن الناس مؤمنهم وكافرهم لا يرزقون أنفسهم قليلاً ولا كثيراً لو قطع عنهم الأرزاق، وهو أكرم أن يكل عباده ولو كانوا أعداءه إلى ما يعجزون عنه البتة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [فاطر: 45].
فالتجويع خطة لا يفكر فيها، ولا يدعو إليها، ولا يقوم بها، إلا أخس الأخساء، وألأم اللؤماء.
ولعظيم خطر المنافقين على المسلمين كشف الله في القرآن صفاتهم، وبين عوراتهم، وفضحهم حتى لا يخفى أمرهم على أحد.
فبين سبحانه أنهم هم السفهاء.. المفسدون في الأرض.. المخادعون لله ورسوله والمؤمنين.. المستهزئون.. المغبونون في اشترائهم الضلالة بالهدى.. وأنهم صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون.. وأنهم مرضى القلوب.. وأنهم أهل الحيرة والكسل عند العبادة.. وأهل التردد والتذبذب بين المؤمنين والكفار.
وأنهم أهل الرياء مع قلة ذكر الله.. وكثرة الحلف باسم الله تعالى كذباً وباطلاً.
(13/192)
وأنهم أهل الجبن والبخل.. لا يفقهون ما ينفعهم.. ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر.. وأنهم يكيدون للإسلام والمسلمين.. ويكرهون ظهور أمر الله.. وأنهم يحزنون إذا حصل للمسلمين خير ونصر.. ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاء.. وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين.. ويكرهون الإنفاق في سبيل الله ومرضاته.. وأنهم يعيبون المؤمنين.. ويرمونهم بما ليس فيهم.. فيرمون الأغنياء عند الصدقة بالرياء.. ويلمزون المتصدقين الفقراء..
وهم عبيد الدنيا.. إن أُعطوا منها رضوا.. وإن لم يُعطوا سخطوا.. يؤذون الله ورسوله.. ويسخرون من المؤمنين.
وأنهم يكرهون الجهاد في سبيل الله.. ويفرحون إذا تخلفوا عن نصرة الدين.. ويتحايلون على تعطيل فرائض الله.. وأنهم يتركون ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه.
وأنهم أحلف الناس بالله.. قد اتخذوا أيمانهم جنة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم.. وأنهم رجس.. فهم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم.. وبأنهم فاسقون.. وأنهم مضرة على المؤمنين.. يقصدون التفريق بينهم.. ويوارون من حارب الله ورسوله.
وأنهم يتشبهون بالمؤمنين ويضاهونهم في أعمالهم؛ ليتوصلوا منها إلى الإضرار بهم وتفريق كلمتهم.
وأنهم أحسن الناس أجساماً.. تعجب الرائي أجسامهم.. والسامع منطقهم.. فإذا جاوزت أجسامهم ومنطقهم رأيت خشباً مسندة.. لا إيمان ولا فقه.. ولا علم ولا صدق.
وإذا عرضت عليهم التوبة والاستغفار أبوها وزعموا أنه لا حاجة بهم إليها.. يأمرون بالمنكر.. وينهون عن المعروف.. ويتولون الكفار، ويَدَعُون المؤمنين.
قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله.. فهم حزب الشيطان الذين يوادون من حاد الله ورسوله.. وأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.. قد بدت البغضاء من أفواههم.. وما تخفي صدورهم أكبر.
إذا حدث أحدهم كذب.. وإذا عاهد غدر.. وإذا خاصم فجر.. وإذا أؤتمن خان.. وإذا وعد أخلف.
(13/193)
يؤخرون الصلاة عن وقتها.. فإذا أدوها نقروها عجلة وإسراعاً، وترك حضورها جماعة.
أشحة على المؤمنين بالخير.. أجبن الناس عند الخوف.. فإذا ذهب الخوف وجاء الامن سلقوا المؤمنين بألسنة حداد وهم أشد الناس تقلباً.. لا يثبتون على حال.. بينما تراه صالحاً تعجبك حاله إذ انقلب إلى ضد ذلك.. معرضون عن الدين.. معارضون له.. يكتمون الحق.. ويُلَبِّسون على أهله.
يرمون المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله.. وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر بأنهم أهل فتن، مفسدون في الأرض، أهل بدع وضلال.
وإذا رأوهم زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله ( رموهم بما ينفر الناس عنهم.
وإن رأوا معهم حقاً ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاء العقول في قالب شنيع لينفروهم عنه، وإذا كان معهم باطل ألبسوه لباس الحق ليقبل منهم.
حالهم تروج على أكثر الناس، لعدم بصيرتهم بالنقد.
وليس أضر على الأديان من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قِبلهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى، وسلكوا بهم سبل الردى.
صحبتهم توجب العار والشنار، ومودتهم توجب غضب الجبار، ودخول النار، فحذار حذار منهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المنافقون: 4].
فهذه النبتة الخبيثة، والحشرة السامة، والبذرة الشاذة، التي تنخر في جسد الأمة الإسلامية، لا بدَّ من اجتثاثها، وقطع عروقها، قبل أن تكبر وتنتشر بذورها وسمومها في أرض الله، وتهلك الحرث والنسل: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?) [التوبة: 73].
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه.. وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، واستعمل جوارحنا في عبادتك، وأشغل ألسنتنا بذكرك.
5- العدو الخامس: الكفار والمشركون
فقه عداوة الكفار والمشركين
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 101].
(13/194)
وقال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 82].
كشف الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم أباطيل الكفار، وبيَّن بطلانها بالأدلة الحسية، والبراهين العقلية، حتى ظهر الحق وزهق الباطل.
وأباطيل الكفار ثلاثة أنواع:
الأول: ذكر الله بما لا يليق به من أن الملائكة بناته، وأن له ولداً وشريكاً، وأنه ثالث ثلاثة، ووصفه بما لا يليق به ونحو ذلك.
الثاني: ذكر رسول الله ( بأنه ساحر وكاهن، وشاعر ومجنون، وإنكار لنبوته ونحو ذلك.
الثالث: إنكار البعث، واليوم الآخر، والجنة والنار، وإنكار الثواب والعقاب.
واليهود والكفار والمشركون أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم سعياً في إيصال الضرر إليهم، وذلك لشدة بغضهم لهم بغياً وحسداً، وعناداً وكفراً.
وهؤلاء الكفار لا يؤمنون، فلا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة عليهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [البقرة: 6].
وبسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق طبع الله على قلوبهم بطابع لا يدخلها الإيمان، ولا ينفذ فيها، فلا يَعُون ما ينفعهم، ولا يسمعون ما يفيدهم، وجعل على أبصارهم غشاوة تمنعها من النظر الذي ينفعهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [البقرة: 7].
فهذا لهم عقاب عاجل في الدنيا، أما العقاب الآجل فهو عذاب النار، وسخط الجبار المستمر الدائم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 34].
وطبيعة المعرضين عن الهدى واحدة، وحجتهم كذلك مكرورة على مر الأجيال والقرون: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ) [الزخرف: 23].
فليس قصد هؤلاء المشركين الضالين بتقليد آبائهم اتباع الحق والهدى، وإنما هو تعصب محض يراد به نصرة ما معهم من الباطل، ولهذا كل رسول يقول لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 24].
(13/195)
فتغلق قلوب هؤلاء على هذه المحاكاة، وتطمس عقولهم، دون التدبر لأي جديد، ولو كان أهدى، ولو كان أجدى، ولو كان يصدع بالدليل والبرهان، فعلم بهذا أنهم ما أرادوا اتباع الحق والهدى، وإنما أرادوا اتباع الباطل والهوى.
فإذا تمسكوا بما عليه آباؤهم من الضلال، ولم يستجيبوا للرسول، فلا يكون إلا التدمير والتنكيل لهذه الجبلة التي لا تريد أن تفتح عينها لترى، أو تفتح قلبها لتحس، أو تفتح عقلها لتستبين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [الزخرف: 24-25].
وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الحق كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [فصلت: 6-7].
وواجه النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة التوحيد الكفار والمشركين من أول يوم، وأمره ربه سبحانه أن يقول لهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [الكافرون: 1-6].
فالإيمان ضد الكفر.. والتوحيد ضد الشرك، فلا يجتمعان أبداً في قلب عبد كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 2].
ولما كان الكفار والمشركون في مكة وغيرها يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله، جاء القرآن في عامة نصوصه ينكر على الكفار كفرهم بالله، وينكر على المشركين شركهم بالله، ويسخر من عقول عباد الأصنام والأوثان، ويسفه أحلامهم، ويكشف لهم عن حقارة هذه الأصنام وعجزها، وأنها لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً، ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً، فكيف يعبدونها من دون الله؟.
فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ?) [الأحقاف: 5-6].
وقال عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 98-100].
وقال جل جلاله: (پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الحج: 73-74].
(13/196)
فواجه الكفار والمشركون هذه الدعوة بإثارة الشبه حول حامل رايتها وهو القرآن، ليشككوا الناس فيه، وفي صحته وخيريته، وسلكوا في سبيل تحقيق ذلك مسالك متعددة:
فقالوا: (ے ے ? ? ? ?) [الأحقاف: 17].
وقالوا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المدثر: 24-25].
وقالوا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 4-5].
والله تبارك وتعالى يؤكد لهم ويقسم بما يُرى وما لا يُرى، أن هذا القرآن تنزيل من رب العالمين، جاء به رسول كريم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحاقة: 38-43].
وظل هؤلاء الكفار والمشركون يسخرون من هذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويواجهون رسول الله بما يكره لعله أن يرجع عما جاء به.
فقالوا: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [الحجر: 6-7].
وقالوا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 8].
ثم زادوا في التهكم والسخرية:
فقالوا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 32].
وقالوا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 7-8].
وقالوا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 124].
واستمروا على كفرهم وعنادهم وكبريائهم كما قال الله عنهم: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [الأنفال: 31].
فما أعظم جحود هؤلاء الكفار، وما أشد إثمهم: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجاثية: 7-10].
ويل لكل أفاك أثيم.. أهذا القرآن الذي فيه تبيان كل شيء، وتفصيل كل شيء، وفيه الهدى والشفاء، يمكن أن يكون قول ساحر، أو شاعر، أو كاهن، أو مجنون، أو كذاب؟.
(13/197)
ولما بلغ الكفار هذا الحد من الاستهتار والاستخفاف والاستكبار، تعين كسر شوكتهم، ورد باطلهم في أفواههم، ودمغهم بالحق المبين، الذي لا يبقي بعده أي شبهة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الإسراء: 81].
فتحداهم الله أن يأتوا بمثل هذا القرآن فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 88].
ثم تحداهم الله عزَّ وجلَّ أن يأتوا بعشر سور مثله فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 13].
ثم تحداهم لا بالقرآن كله، ولا بعشر سور مثله، بل بسورة مثله، فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 38].
ولما يئس الكفار والمشركون عن معارضة القرآن بأي وجه غيروا خطتهم في محاربة الحق، ودفاعهم عن الباطل، فراحوا يطالبون النبي صلى الله عليه وسلم بالمعجزات المادية الحسية كالتي كانت للأنبياء قبله، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 133].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 90-93].
ولما ألحوا في المطالبة، والله سبحانه لم يجبهم رحمة بهم، إذ لو جاءتهم الآيات فلم يؤمنوا هلكوا، والله يعلم أنهم لا يؤمنون ولو رأوا الآيات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الأنعام: 111].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 14-15].
وليس معنى هذا أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن معه آيات ومعجزات، فقد كان له معجزات، ولكنها ما كانت مقرونة بالتحدي، كراهية أن لا يؤمن بعدها من طلبها فيهلك.
ولما ألح المشركون في طلب الآيات: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 109].
(13/198)
والكفار لكفرهم والمشركون لشركهم في غفلة عن آيات الله الكبرى، في السموات والأرض والجبال والبحار والنبات والحيوان.
فبين الله لهم أن أكبر آية ومعجزة جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم هي القرآن، وهي آية عقلية باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فتكفيهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 51].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْياً أوْحَاهُ الله إِلَيَّ، فَأرْجُو أنْ أكُونَ أكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه(1).
ثم زادوا في التهكم والسخرية من البعث بعد الموت.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 49-51].
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 10-11].
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجاثية: 24].
ثم أقروا بالقرآن إلا أن الذي منعهم من اتباعه أن يأتي به بشر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 94-95].
ثم صدهم عنه أنه لم يأت به رجل شريف عظيم ذو جاه وسلطان، بل جاء به رجل بسيط فقير: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 31-32].
وسخروا من الرسول ومن طريقة حياته: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 7-8].
ثم تورطوا تورطاً آخر يدل على حمقهم وسفههم، فأقروا بأن القرآن هدى، لكنهم خافوا إن اتبعوه أن يُتخطفوا من أرضهم كما قال سبحانه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 57].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4981) واللفظ له، ومسلم برقم (152).
(13/199)
فإذا أَمَّنكم ورزقكم وأنت كافرون، فهل يتخلى عنكم وأنتم مؤمنون؟.
ثم حأولوا بعد عجزهم عما سبق أن يخنقوا دعوة التوحيد لا إله إلا الله بصرف الناس عنها وتنفيرهم منها: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 24-25].
والإعراض عن القرآن، وصد الناس عنه، واللغو عند سماعه كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 26-27].
وبعد حرب ضروس ذاق فيها المشركون مرارة الهمّ والغمّ والحزن، ومرارة القتل والأسر والهزيمة على أيدي من استضعفوهم بالأمس ناداهم الله بقوله: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 21-24].
إن الكفار والمشركين لا يدينون لله وحده بالعبادة.. وهم كذلك لا يعترفون برسالة رسوله.. ويواجهون بالجحود والكفر خالقهم ورازقهم.
والإسلام وإن كان له مع هؤلاء عهود أمر الله بالوفاء بها فهي عهود مرحلية لمواجهة الواقع، والذي يقضي بأن يدع من يسالمونه ابتداءً من المشركين ليتفرغ لمن يهاجمونه، وأن يوادَع من يريدون موادعته في فترة من الفترات، وأن يعاهَد من يريدون معاهدته في مرحلة من المراحل، فإنه لا يغفل لحظة عن هدفه النهائي، الذي يستهدف ابتداءً أن لا يكون في الأرض شرك بالله، وأن تكون العبودية لله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 193].
كما أنه لا يغفل أن هذه العهود مع المشركين موقوتة من جانب أنفسهم، وأنهم لا بدَّ مهاجموه ومحاربوه ذات يوم.
وأنهم لن يتركوه وهم يستيقنون من هدفه، ولن يأمنوه على أنفسهم إلا ريثما يستعدون له، ويستديرون لمواجهته كما قال الله عنهم: ( ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [البقرة: 217].
(13/200)
والله عزَّ وجلَّ يريد من عباده أن يعبدوه وحده لا شريك له، وهم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، وآذوا المسلمين، وفتنوهم عن دينهم: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک) [الفتح: 25].
فكيف يكون لهؤلاء المشركين عهد عند الله وعند رسوله؟.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?) [التوبة: 7].
وكيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، وهم أيها المسلمون لا يعاهدونكم إلا في حال عجزهم عن التغلب عليكم؟
ولو ظهروا عليكم وغلبوكم لفعلوا بكم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد قائم بينكم وبينهم، وفي غير ذمة يرعونها لكم.
وهم لشدة ما يكنونه لكم من البغضاء يتجاوزون كل حد في التنكيل بكم، ولو أنهم قدروا عليكم مهما يكن بينكم وبينهم من عهود قائمة، فليس الذي يمنعهم من التنكيل بكم أن بينكم وبينهم عهود، إنما الذي يمنعهم أنهم لا يقدرون عليكم ولا يغلبونكم.
فإذا تمكن هؤلاء الكفار منكم، أنزلوا بكم أقسى العقوبات؛ لما في قلوبهم من الحقد عليكم.
وإذا كانوا اليوم وأنتم أقوياء يُرضونكم بأفواههم بالقول اللين، والتظاهر بالوفاء بالعهد، فإن قلوبهم تنغل وتغلي عليكم بالحقد، وتأبى أن تقيم على العهد، فما بهم من وفاء لكم ولا ود، فاحذروهم فقلوبهم مملوءة بالحقد عليكم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [التوبة: 8].
وبسبب فسقهم عن دين الله، وخروجهم عن هداه، آثروا على آيات الله ثمناً قليلاً من عرض هذه الحياة الدنيا يخافون فوته.
وقد كانوا يخافون أن يفوت عليهم الإسلام شيئاً من مصالحهم، أو يكلفهم شيئاً من أموالهم، فصدوا عن سبيل الله: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [التوبة: 9].
(13/201)
وجميع الكفار والمشركين لا يضمرون هذا الحقد لأشخاصكم، وإنما يوجهون حقدهم وانتقامهم لهذه الصفة التي أنتم عليها، لكل مسلم، لكل مؤمن، للإيمان ذاته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [البروج: 8-9].
فالإيمان هو سبب النقمة، فهم يحقدون على المسلمين ويحسدونهم، ولا يرعون في مؤمن عهداً، ولا يتذممون من منكر: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [التوبة: 10].
إن المسلمين يواجهون أعداء يتربصون بهم، ولا يقعد هؤلاء الأعداء من الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك.
لا يقعدهم عهد معقود، ولا ذمة مرعية، ولا تحرج من مذمة، ولا إبقاء على صلة.
هذا منهج الكفار مع المسلمين، وهو معلوم وواقع مشهود‘ لا ينحرفون عنه إلا لطارئ زائل، ثم يعود فيأخذ طريقه المرسوم: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [البقرة: 217].
وهؤلاء الكفار إن آمنوا بالله وعملوا بأحكام دينه فهم إخواننا، وإن نكثوا لما بايعوا عليه من الإيمان، وطعنوا في دين المسلمين فهم إذن أئمة الكفر، لا أيمان لهم ولا عهود، وعندئذ يكون القتال لهم لعلهم أن يتوبوا إلى الهدى: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 12].
إن قوة الجيش الإسلامي ومظهره وغلبته في الجهاد قد تَرُدّ قلوباً كثيرة إلى الصواب، وتريهم الحق الغالب فيعرفونه، ويعلمون أنه إنما غلب لأنه الحق، ولأن وراءه قوة الله، فيقودهم هذا كله إلى التوبة والهدى، لا كرهاً وقهراً، ولكن اقتناعاً بالقلب، بعد رؤية واضحة للحق الغالب، وقد وقع ذلك وما زال يقع: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصف: 4].
فالمعركة طويلة الأمد، ولم تكن بين المسلمين والمشركين بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى.
وإذا كان الإسلام لم يبدأ برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما ختم بهذه الرسالة، فما هو موقف الكفار والمشركين من كل رسول ومن كل رسالة؟.
(13/202)
وماذا فعل الله بهم جزاء كفرهم وعدوانهم للرسل؟ وماذا صنع المشركون مع نوح وهود وصالح، ومع إبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم؟.
وماذا فعلوا بالمؤمنين بهم في زمانهم؟ ثم ماذا صنع الكفار والمشركون مع محمد صلى الله عليه وسلم ؟.
وماذا فعلوا مع المؤمنين به كذلك إلى يومنا هذا؟.
إنهم لم يَرْقُبوا فيهم إلاً ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم.
وماذا صنع المشركون التتار بالمسلمين في بغداد؟.
إنها مأساة دامية اقترفها الوثنيون التتار في حق المسلمين، فقد سفكوا دماء المسلمين حتى صارت الجثث كالتلول، وأنتنت البلد من جيفهم، وتلوث الهواء، فحصل بسببه الوباء، وسرى في الهواء إلى الشام، ومات خلق كثير من تغير الجو، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء، والطعن والطاعون والمذلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وما حصل من الوثنيين الهنود عند انفصال باكستان في الوقت الحاضر، لا يقلّ شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد.
وأهل الكفر والشرك في كل زمان ومكان يرثون العداوة للمسلمين ممن سبقهم، ويحاربون المسلمين بكل ما يقدرون عليه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [البقرة: 217].
ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك؟.
لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن بضعة وعشرين مليوناً من المسلمين والمسلمات، وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق، وذلك عبر وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان.
وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى حتى الآن في كثير من بلاد الإسلام، وبلاد الكفار، ولولا أن الله تكفل بحفظ دينه وكتابه، والعصبة المؤمنة التي تحمله وتحكمه وتعمل بموجبه، لم تجد أثراً لمسلم ولا مسلمة.
(13/203)
كذلك فعلت يوغوسلافيا الشيوعية بالمسلمين فيها ما تقشعر له الأبدان فقد قتلت وأبادت منهم أكثر من مليون مسلم، ومن أعظم صور الإبادة والتعذيب الوحشي إلقاء المسلمين رجالاً ونساءً أحياء في مفارم اللحوم، ليخرجوا من الناحية الأخرى عجينة من اللحم والعظام والدماء، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
وكلما ابتعد المسلمون عن دينهم سلط الله عليهم من يذلهم ويؤدبهم حيث كانوا ومن كانوا، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 19].
فهل فوق هذا من عقوبة، وهل رأيت وحشية فوق هذه الوحشية؟.
إنه ليس عند الكفار للمسلمين إلا هذه العداوة، وهذه القسوة، وهذه الإبادة متى استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
وقد بين الله جل جلاله الأهداف النهائية للمشركين تجاه الإسلام والمسلمين إلى يوم الدين فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [النساء: 89].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 102].
وقال سبحانه: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [الممتحنة: 2].
وقال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [التوبة: 10].
فهذا وصف الله لهم:
عداوة مستمرة.. وإبادة بلا رحمة.. وطبيعة دائمة في حرب الإسلام والمسلمين بلا هوادة.. لا حالة مؤقتة عارضة.. إنه العداء العنيد.. والكيد الناصب.. والحرب الدائمة التي لم تفتر على مدار التاريخ.. وإنفاق الأموال.. وبذل الطاقات.. لضرب الإسلام في أي مكان وفي أي زمان.
(? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک) [الأنفال: 36].
(13/204)
إن الجاهلية بكل ما فيها من أحزاب الكفر لا ترضى عن الإسلام أن يكون له كيان مستقل... ولا تطيق أن يكون له وجود تراه.. وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها.. فكما لا يجتمع النور والظلام كذلك لا يجتمع الحق والباطل في مكان، لأن الإسلام إذا تميز بدولة ورجال ونظام أخافها، وهذا ما لا تطيقه الجاهلية، لذلك لا يطلب الكفار من الرسل مجرد أن يكفوا عن دعوتهم فحسب، بل يطالبون منهم أن يعودوا في ملتهم، وأن يندمجوا في المجتمع الجاهلي معهم، وأن يذوبوا فيه، فلا يكون لهم كيان مستقل، وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله، وما يرفضه الرسل ويأبونه، فما ينبغي للمسلم أن يعود إلى الظلام بعد النور الذي أكرمه الله به كما قال سبحانه: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [إبراهيم: 13-14].
وهذا دأب الطاغوت إذا أحس بهزيمته أمام العقيدة خرج شاهراً سيفه بالقوة المادية الغليظة، وعندما تسفر القوة المادية الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة، ولا مجال لحجة.
ولا يسلم الله الرسل وأتباعهم إلى الجاهلية، فالتجمع الجاهلي لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله، إلا أن يكون عمل المسلم وجهده لحساب التجمع الجاهلي، ولتوطيد جاهليته.
والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي، والتميع في تشكيلاته وأجهزته، هم ناس يجهلون أن كل فرد في المجتمع يعمل لحساب هذا المجتمع الشاذ.
لذلك لا يرتضي الرسل الكرام العودة في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [الأعراف: 89].
(13/205)
وهنا وبعد هذا التهديد من الكفار.. وبعد الثبات على الدين من المؤمنين.. ينزل عذاب الله.. ويحيط بالكافرين.. بضربة مدمرة قاضية لا تقف لها قوة البشر المهازل وإن كانوا طغاة متجبرين: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [إبراهيم: 13-14].
ولا يفصل الله بين المؤمنين والكفار إلا بعد مفاصلة المؤمنين للكفار، ورفضهم أن يعودوا لملة قومهم، وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم.. وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة.. ويتمايز الفريقان عقيدة ومنهجاً.. وبعد أن تبذل القوة المؤمنة كل طاقة تمكنها.
عندئذ يأتي وعد الله بالنصر على الأعداء.. ويدمر الطواغيت الذين كانوا يتهددون المؤمنين.. ويمكَّن للمؤمنين في الأرض.. فتقف القوة الصغيرة الهزيلة.. قوة الطغاة الظالمين في صف.. ويقف المؤمنون المتواضعون ومعهم قوة الله في صف.
فإذا دعا كلاهما بالنصر والفتح كانت العاقبة كما يجب أن تكون: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 15-17].
ولما كان التجمع الإسلامي إنما يأكل كل يوم من جسم التجمع الجاهلي في أول الأمر، وهو في دور التكوين، ثم بعد ذلك لا بدّ له من مواجهة التجمع الجاهلي ليتسلم القيادة منه، وإخراج الناس كافة من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده.
ومن أجل هذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة لدعوة الرسل الكرام، إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاجتياح، ومواجهة الدفاع عن الربوبية التي اغتصبها العباد، وهي من حق الله وحده.
لذلك واجهت الجاهلية الإسلام في معركة حياة أو موت، ومعركة بقاء أو زوال لا هوادة فيها، وأعداء هذا الدين من الكفار والمشركين يصفون القرآن الذي يعالج النفوس والعقول والقلوب، ويعالج أوضاع الحياة وسلوك الناس، وعلاقات المجتمع، وأحوال البشر في الماضي والحاضر والمستقبل، ويبين قصص الأولين، وعاقبة المؤمنين والكافرين، يصفونه بأنه أساطير الأولين.
(13/206)
والأساطير: هي الحكايات الوهمية الحافلة بالخرافة: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 24-25].
إن استكبارهم يمنعهم من الخضوع للحق والبرهان، وهذا سيؤدي بهم إلى حمل ذنوبهم، وشطر من ذنوب الذين يضلونهم بهذا القول، ويصدونهم عن الإيمان والقرآن، ويضاعف العذاب للكفار بما كفروا، وحملوا غيرهم على الكفر، وصدوهم عن سبيل الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?) [النحل: 88].
فالكفر فساد، والحمل عليه إفساد، وهؤلاء قد ارتكبوا جريمة كفرهم، وجريمة صد غيرهم عن الهدى، فضوعف لهم العذاب جزاءً وفاقاً، وذلك شأن عام مع جميع الأقوام.
والطغاة المتسلطون يهددون بالعذاب الغليظ، ويسلطونه على الجسوم والأبدان حين يعجزون عن قهر القلوب والأرواح كما قال فرعون للسحرة لما آمنوا: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [طه: 71].
إنه الاستعلاء بالقوة الغاشمة، قوة الوحوش في الغابة، القوة التي تمزق الأحشاء والأوصال، ولا تفرق بين إنسان يقرع بالحجة، وحيوان يقرع بالناب.
إن كفار مكة يظنون أن الدين كالتجارة، فهم على استعداد للتخلي عن كثير من تصوراتهم في مقابل أن يتخلى النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما يدعوهم إليه، وربه ينهاه عن ذلك بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القلم: 8-9].
فهي المساومة إذاً كما يفعلون في التجارة، وفرق كبير بين العقيدة والتجارة، فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها أبداً، فهم يريدون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك سب آلهتهم، وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاسماً في موقفه من دينه، لا يداهن فيه ولا يلين، وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانباً، وأحسنهم معاملة، وأبرهم بعشيرة، وأحرصهم على اليسر والتيسير، فأما الدين فهو الدين، وهو فيه عند توجيه ربه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 52].
(13/207)
ولم يساوم صلى الله عليه وسلم في دينه وهو أحرج المواقف في مكة، وهو محاصر في دعوته، وأصحابه القلائل يُتخطفون ويُعذبون ويُؤذَوْن في الله أشد الإيذاء وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة فينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين تأليفاً لقلوبهم، أو دفعاً لأذاهم.
وساوموه على أن يعبد ما يعبدون، وهم يعبدون ما يعبد، فحسم الله هذه المساومة المضحكة بقوله: (? ? ? ? ? پ پ پپ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [الكافرون: 1-6].
ولقد واجه الملأ من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل أذى، بالقول وبالفعل.. وعرضوا عليه عروضاً مغرية لعله أن يقبلها ويترك ما جاء به من الدين.. واتهموه تارة بالسحر.. وتارة بالكذب.. وتارة بالشعر.. وتارة بالكهانة.. وتارة بالجنون، ولكنه لم يبال بالعروض.. وصبر على السب والأذى.. ومضى يدعو إلى الله حتى أظهر الله دينه.. وجاء الحق.. وزهق الباطل.
والله سبحانه يأمر رسوله ( بأداء رسالته إلى البشرية.. وينهاه عن طاعة أحد، من هؤلاء الملأ المكذبين بالذات، ويصفه بصفاته المزرية المنفرة، وهو الوليد بن المغيرة، أحد كبار طغاة قريش، له مواقف مشهورة وكثيرة في الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتهديد أصحابه، والوقوف في وجه الدعوة، والصد عن سبيل الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القلم: 10-15].
وما أقبح ما يجزي إنسان نعمة الله عليه بالمال والبنين.. استهزاءً بآياته.. وسخرية من رسوله.. واعتداء على دينه.. وكفراً بالله ونعمه.
وما جزاء هذا الصنف العنيد المستكبر الأثيم: (? ? ? ?) [القلم: 16].
إنها القاصمة والعلامة المخزية التي يستأهلها عدو الإسلام، وعدو الرسول الكريم، لمثل هذه الهامات الشامخة، والكبرياء المنفوخة.
(13/208)
إنه العزيز الجبار القوي القهار يقول لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم خَلِّ بيني وبين هؤلاء الكفار المكذبين، المغترين بالمال والبنين، والجاه والسلطان، فالحرب معي، لا معك ولا مع المؤمنين، وهذا المخلوق عبدي، وأنا سأتولى أمره، وذرني لحربه، فأنا به كفيل، فسأملي لهم، وأجعل هذه النعمة فخهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [القلم: 44-45].
والله يمهل ولا يهمل، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وشأن المكذبين وأهل الأرض أجمعين أهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذا التدبير، ولكنه سبحانه يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان، وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم فارون، وإن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوإ مصير، وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 55].
إن حجج الإسلام ومبادئه بينة عادلة، دافعة تدفع جميع طوائف الكفر، ولذلك فهم لا يملكون إلا الإيذاء والقتل؛ لأن الإنسان حين يفقد حجته يلجأ إلى العنف، وطالما هو يملك الحجة فيستطيع أن يجادل ويخاصم.
ولا يلجأ إلى العنف أبداً ما دام قوياً بحجته وبرهانه، ولا يلجأ إلى العنف إلا ضعيف الحجة، ولذلك قال أصحاب القرية لرسلهم: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [يس: 18].
(13/209)
إن مواكب الكفر ورجاله لا تملك أي حجة أمام دين الله، وأمام حملة رسالته، ولكنهم خشية على شهواتهم، وحرصاً على أموالهم، وخوفاً على الجاه والسلطان الذي اغتصبوه ظلماً وعدواناً، وحتى لا يتساووا مع الناس في الحقوق والواجبات، هم يلجؤون دائماً إلى الإيذاء والعنف والقتل في مواجهة مواكب الإيمان، ويحاربونهم بكل وسيلة مشروعة وغير مشروعة، ما دام أنهم قد فقدوا المنطق والبرهان، وضاعت حجتهم: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [إبراهيم: 13، 14].
وهؤلاء الكفار ليس لهم قيمة ولا قوة ولا قدرة، وهم أقل من أن يُنزل الله عليهم قوة من السماء لتقضي عليهم، فهم لا يساوون شيئاً.
وهو سبحانه إن تركهم في غيهم في الدنيا فليس معنى ذلك أنه غير قادر عليهم، وليس مرجعه أنهم معجزون في الأرض، أو يساوون شيئاً أمام قدرة الله، بل مرجعه إلى أن الله خلق الإنسان وأعطاه حرية الاختيار في أن يؤمن أو لا يؤمن، ومشيئة الله سبحانه أن يترك الكافر يجادل ويكابر، وينذره ويرسل إليه الرسل ومواكب الإيمان، لا لأنه لا يقدر عليه، ولكن لأن الله جعله مختاراً، وله يوم يأتي فيه أجله، أو ينتهي عمره، فهو لا يساوي عند الله شيئاً، والله قادر أن يسلبه الحياة في أي لحظة كما قال سبحانه عن صاحب يس: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 28-30].
فالله خلق العباد، وقدر الآجال والأرزاق، وابتلاهم بالأعمال، فمنهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، ولولا هذه الآجال، وهذا الابتلاء لعاجلهم الله بالعقوبة كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 14].
ألا ما أعظم الكفر وأقبحه، ولذلك توعد الله أهله بأشد العقوبات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 161-162].
(13/210)
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 10].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [آل عمران: 12].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 91].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [الرعد: 31].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [آل عمران: 196-197].
وقال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [النساء: 56].
وقال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 168-169].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 36].
وإذا كانت هذه عقوبات الله للكفار، وليس لأحد بها من طاقة، فهل يعود الكافر إلى ربه ويتوب إليه؟.
(? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [الأنفال: 38].
وجميع أعمال الكفار غير مقبولة عند الله؛ لأنها مبنية على الكفر والتكذيب، لكن ما كان لله منها يجازَوْن به في الدنيا بنعمة الصحة والمال ونحو ذلك.
أما في الآخرة فلا نصيب لهم من أعمالهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 18].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أفْضَى إِلَى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» أخرجه مسلم(1).
وقد أبعد الله الكفار في الدنيا والآخرة من رحمته وكفى بذلك عقاباً: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [الأحزاب: 64-66].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2808).
(13/211)
والله سبحانه لا يغفر لمن أشرك به أحداً من خلقه، ويغفر ما دون ذلك من الذنوب والمعاصي كما قال سبحانه: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 48].
والكفر ضد الإيمان، وجميع الكفار أعداء للمؤمنين.
والكفر على أربعة أنحاء:
كفر إنكار.. وكفر جحود.. وكفر عناد.. وكفر نفاق.
وكل من لقي ربه بذلك أو بشيء من ذلك فهو كافر لا يغفر الله له، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
فأما كفر الإنكار فهو أن يكفر بقلبه ولسانه، ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [البقرة: 6].
وأما كفر الجحود فأن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه، فهذا كافر جاحد ككفر إبليس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [البقرة: 89].
وأما كفر العناد فهو أن يعرف بقلبه، ويقر بلسانه، ويأبى أن يقبل، ككفر أبي طالب.
وأما كفر النفاق فأن يكفر بقلبه، ويقر بلسانه، وهؤلاء أخطر الكفار على الإسلام، وأشدهم عقوبة يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 145].
والكفار لغلظ كفرهم، وكفرهم بالله وآياته وشرعه، لهم عذاب في الحياة الدنيا بالشقاء والنكد والظنك، ويوم القيامة يحشرون على وجوههم إلى جهنم عمياً لا يبصرون، وبكماً لا يتكلمون، وصماً لا يسمعون، كما قال سبحانه عنهم:
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [الإسراء: 97-98].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 34].
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يَا رَسُولَ ا?! كَيْفَ يُّحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «ألَيْسَ الَّذِي أمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَادِرًا عَلَى أنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6523)، ومسلم برقم (2806) واللفظ له.
(13/212)
ألا ما أعظم الكفر والشرك والنفاق.
إن الشرك لما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، كان أبغض الأشياء إلى الله وأكرهها له، وأشدها مقتاً لديه، ورتب الله عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نَجَسٌ، ومنعهم من قربان حرمه، وجعلهم أعداءه وأعداء ملائكته ورسله والمؤمنين، وأباح لأهل الإسلام أموالهم ونساءهم وأبناءهم.
لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، نسأل الله السلامة والعافية.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 8].
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 147].
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ?) [آل عمران: 53].
6- العدو السادس: أهل الكتاب
فقه عداوة أهل الكتاب
قال الله تعالى: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?) [البقرة: 109].
وقال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 82].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [المائدة: 51].
أهل الكتاب من اليهود والنصارى بلغ بهم الحسد أنهم ودوا لو يردون المؤمنين عن الإيمان، وقد سعوا في ذلك وأعملوا المكايد، فأمر الله المؤمنين بمقابلة من أساء إلينا منهم غاية الإساءة بالعفو عنهم والصفح حتى يأتي الله بأمره، ثم بعد ذلك أتى الله بأمره المؤمنين بجهادهم، فشفى الله أنفس المؤمنين منهم فقتلوا من قتلوا، واسْتَرَقّوا من اسْتَرقّوا، وأَجْلَوا من أَجْلَوا، كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [التوبة: 29].
والمشركون واليهود والنصارى كلهم أعداء للإسلام والمسلمين، لكن المشركين واليهود أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم سعياً في إيصال الضرر إليهم، وذلك لشدة بغضهم لهم بغياً وحسداً وعناداً وكفراً.
(13/213)
والنصارى أقرب الخلق إلى المسلمين وإلى ولايتهم ومحبتهم من اليهود والمشركين، وذلك لأن فيهم علماء زاهدين، وعباداً في الصوامع، والعلم مع الزهد والعبادة يلطف القلب ويرققه، ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة.
فلذلك لا توجد فيهم غلظة اليهود، ولا شدة المشركين.
وليس فيهم تكبر ولا عتو عن الانقياد للحق، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومحبتهم، والمتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر.
وهم إذا سمعوا ما أنزل الله إلى الرسول من القرآن أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له، بسبب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [المائدة: 83].
وقد نهى الله عباده المؤمنين عن تولي الكفار واليهود والنصارى؛ لأن هؤلاء أعداء المسلمين، يتناصرون فيما بينهم، ويتعاونون على ضرب الإسلام والمسلمين في كل زمان ومكان، فكيف يتولاهم المسلم؟.
وقد بين الله أحوال اليهود والنصارى، وأظهر صفاتهم، وكشف شرورهم ومكايدهم، ليحذرهم المسلم، ولا يركن إليهم، فهم أعداء الله حقاً.
وبين سبحانه بياناً شافياً ما عليه اليهود والنصارى من الكفر والظلم.. والكيد والمكر.. والغش واللبس.. والصد عن سبيل الله.. والإفساد في الأرض.. وغير ذلك من الصفات التي أوجبت لعنة الله لهم.. وغضبه عليهم.. وتمزيقهم كل ممزق.. وضرب الذلة والمسكنة عليهم.. وذلك بعد نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم.. واتباعهم أهواءهم.. وما تتلوه الشياطين عليهم.. ومن ذلك:
الكذب والافتراء كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [البقرة: 79].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ?) [آل عمران: 78].
ومنها كتمان ما أنزل الله من الحق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [آل عمران: 187].
(13/214)
وقال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 174].
ومنها تحريف كتب الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [النساء: 46].
ومنها نقض العهد والميثاق كما قال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 13].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [المائدة: 14].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 100].
ومنها الغرور والكذب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 111].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [البقرة: 80].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 18].
ومنها وصف الله بما لا يليق بجلاله كما قال سبحانه عن اليهود: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 64].
وقال سبحانه: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 30].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [آل عمران: 181].
ومنها الكفر بالله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 88].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک) [النساء: 150-151].
وقال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [المائدة: 72].
وقال سبحانه: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [المائدة: 73-74].
ومنها الكفر بما أنزل الله من كتب.. كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [البقرة: 89].
(13/215)
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [البقرة: 90].
ومنها تكذيب الرسل وقتلهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 70].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 87].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 61].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? [البقرة: 101-102].
والناس في سماع الحق أربعة أقسام:
الأول: وهو أعلاها من سمع الحق وقبله وانقاد له وهم المؤمنون كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 83-84].
الثاني: من امتنع عن سماع الحق وأعرض عنه وهم الكفار كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 26].
الثالث: من سمع الحق ولم يفقه المعنى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 22-23].
فهؤلاء والقسم الثاني لم يعلم الله في قلوبهم خيراً فيسمعهم سماع فقه وقبول.
الرابع: من سمع الحق وفقه لكنه لم يقبله كاليهود الذين قال الله فيهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [النساء: 46].
فهؤلاء كالقسم الثاني والقسم الثالث عرفوا الحق ولم يقبلوه فكانوا مغضوباً عليهم ملعونين وهذا جزاء من عرف الحق ولم يتبعه.
ومنها الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [البقرة: 85].
ومنها عدم الانقياد للهدى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 145].
ومنها الصد عن سبيل الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [آل عمران: 72].
(13/216)
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 161].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [التوبة: 34].
ومنها عبادة غير الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 31].
وقال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [المائدة: 116].
ومنها إيذاء المؤمنين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 186].
ومنها الإيمان بالباطل والدعوة إليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 51].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 44].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 135].
ومنها التضليل والحسد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 113].
وقال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [النساء: 54-55].
وقال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?) [البقرة: 109].
فهذه صفات أهل الكتاب، وهذه أخلاقهم، وإلى هذا الحد وصلت أحوالهم، وتردَّت أوضاعهم، فبين الله تبارك وتعالى أنهم بهذه الحال ليسوا على شيء حتى يعودوا إلى دينهم، ويؤمنوا بربهم، ويعملوا بأحكام دينهم، والدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
(? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 68].
(13/217)
والله سبحانه رؤوف بالعباد، يذكر أهل الكتاب بأعمالهم السيئة، ويلوِّح لهم بالتوبة والاستغفار، ويستعطف قلوبهم للإيمان بالله وحده، والإيمان برسله، والإيمان بكتبه، ويناديهم باسم الكتاب الذي فيه الهدى والنور تارة.. ويناديهم باسم النبي الصالح الذي ينتسبون إليه تارة؛ لعل القلوب القاسية أن تلين، والأرض المقفرة أن تُنبت، والعداوة أن تزول كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [البقرة: 40-42].
وقال سبحانه: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [البقرة: 122-123].
وقال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [البقرة: 44].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [آل عمران: 64].
وقال سبحانه: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 65].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ??) [آل عمران: 71].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 98].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 99].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 15].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [المائدة: 19].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [المائدة: 65].
وقال سبحانه: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [المائدة: 74].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 76].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [المائدة: 77].
وأهل الكتاب قسمان:
مؤمنون.. وكفار.
فالمؤمنون كما قال الله عنهم: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 113-114].
(13/218)
والكفار كما قال الله عنهم: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 78-79].
وأهل الكتاب كلهم إذا لم يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثته ويعملوا بأحكام الإسلام فهم كفار مستحقون للعقوبة في الدنيا والآخرة، وأعمالهم غير مقبولة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [آل عمران: 85].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [النساء: 47].
إن أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى يعلمون أن تجمع المسلمين على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين.
ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع، أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه، وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله، واستغلال ديارهم وأموالهم، لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها، وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد أصناماً تُعبد من دون الله:
تارة اسمها الوطن.. وتارة اسمها القوم.. وتارة اسمها الجنس.. وتارة اسمها المال.. وغير ذلك من الأصنام التي تتصارع فيما بينها داخل المجتمع الإسلامي الواحد، القائم على أساس العقيدة، المنظم بأحكام الشرعية، إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية.
وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القواعد الأساسية التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد كان هو المعسكر اليهودي الخبيث، الذي جرب سلاح القومية في تحطيم التجمع النصراني، وتحويله إلى قوميات سياسية، ذات كنائس قومية فارغة من العبودية.
وبذلك حطموا الحصار النصراني حول الجنس اليهودي.. ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول الجنس اليهودي: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [الصف: 8].
(13/219)
وكذلك فعل الصليبيون الوثنيون مع المجتمع الإسلامي، فقد أثاروا النعرات الجنسية، والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي، وأصبح العالم الإسلامي مسرحاً للقتل والتشريد، والفرقة والردة.
وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية ثم يرضى لهم بعد ذلك بأصنام الجنسيات والقوميات والأوطان وأمثالها.
وأهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين انحرفوا عن شريعة الله، يحاربون الإسلام، ويعادون المسلمين في كل زمان ومكان.
وهم من أجل ذلك يوجهون إليه جهوداً لا تكل.. وحملات لا تنقطع.. ويستخدمون في تحريفه عن وجهته كل الوسائل، وكل الأجهزة، وكل التجارب، وهم يسحقون سحقاً وحشياً كل من يدعو إليه ليكون منهج حياة كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها في جميع بقاع الأرض.
وهم يسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه.. يحرفون الكلم عن مواضعه.. ويحلون ما حرم الله.. ويميعون ما شرعه.. ويخدعون كثيراً من أهل العلم ليستنبطوا لهم الأدلة التي تبارك وتزكي ما هم عليه من انحراف وفساد.. ويشترون كثيراً من الأنفس الرخيصة التي احترفت العلم.. ويهيئون لها الفرصة.. ويخدعونها بالأموال والمناصب لتقول ما تشاء، وتفعل ما تشاء، وتنفذ كل ما يريدون باسم سماحة الدين، ولو كان يغضب رب العالمين ويهدم الدين.. ويضطهد من أجله خيار المؤمنين: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [البقرة: 79].
وهم كذلك يصورون الإسلام الذي يحكم الحياة في عصر الجمل أنه قد مضى ولا تمكن إعادته ويشيدون بعظمة هذا الماضي ورجاله ليخدروا مشاعر المسلمين ثم يقولون لهم:
(13/220)
إن الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة.. وعبادة.. لا شريعة ونظاماً.. وحسبهم فقط أن يفخروا بمجدهم السابق، وقالوا: الدين لله.. والوطن للجميع.. فمكان الدين في المساجد.. ومسرح الحياة يموج بالحريات والفواحش والمنكرات: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [البقرة: 85].
وهم يحاولون تغيير طبيعة المجتمعات، وتغيير طبيعة هذا الدين، حتى لا يجد هذا الدين قلوباً تصلح للهداية به.
فحولوا كثيراً من المجتمعات البشرية إلى قطيع غارق في وحل الزنا والفاحشة والفجور.. يتقلب في الشهوات.. ويرتع في سوق الرذيلة.. مشغول بلقمة العيش.. حتى لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد.. كي لا يفيق بعد اللقمة والفاحشة ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين.
وتجند لها القوى لتحصد كل نبتة تقف في طريقها باسم حرية الإنسان وحقوق الإنسان.
فيا له من تخطيط ماكر خبيث.. وما أجدر أهله بلعنة الله وغضبه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 59].
وما يفعله أهل الكتاب بالمسلمين كله شر، فماذا ينتظرهم من الشر والعقوبة (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک) [المائدة: 60].
وماذا جنى اليهود والنصارى من نقضهم الميثاق، وتخليهم عن دينهم، وصدهم عن سبيل الله، وكفرهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 64].
وقال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [المائدة: 78].
(13/221)
هكذا تحولت حياة اليهود والنصارى بعد ما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كفر وظلم.. وعداوة وبغضاء.. وكذب وحسد.. وأكل لأموال الناس بالباطل.. وصد عن سبيل الله.. وقتل للأنبياء والأولياء.. وسفك للدماء.. وجمع للأموال بكل وسيلة محرمة.. وتمرغ في الشهوات.. وإفساد في الأرض.. وإشعال للحروب.. واستذلال للأمم: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [البقرة: 217].
ولكن طبيعة هذا الدين ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية والأمة المسلمة القائمة بهذا الحق على قلة العدد وضعف العدة، ما تزال بفضل الله صامدة لعمليات القمع والوحشية التي يصبها أعداء الإسلام في صحن الإسلام.
والله غالب على أمره، محيط بخلقه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [الأعراف: 182].
فهؤلاء المكذبون الظالمون يستدرجهم الله من حيث لا يعلمون، وهم لا يؤمنون بأن كيد الله متين، إنهم يتولى بعضهم بعضاً، ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الأرض، وينسون قوة الله.
إنها سنة الله مع المكذبين.. ومع الظالمين.. ومع المجرمين.. ومع المفسدين.
يرخى لهم العنان، ويملي لهم في العصيان، ويذرهم في الطغيان، ويتركهم في الفساد، استدراجاً لهم في طريق الهلكة، وإمعاناً في الكيد لهم، ولكنهم غافلون، والعاقبة للمتقين الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.
والله تبارك وتعالى أنزل كتابه بالحق والهدى لتهدي به البشرية إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 52].
وأهل الكتاب من اليهود والنصارى إن لم يؤمنوا فعليهم أن يدفعوا الجزية ولا يكرهون على اعتناق الإسلام، فإن أبوا دفع الجزية وجب قتالهم كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [التوبة: 29].
(13/222)
فهم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، واليهود منهم قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله كما اتخذ النصارى المسيح رباً من دون الله.
فكلهم كفار مشركون.. خالفوا ما أمروا به من التوحيد لله.. وهم محاربون لدين الله، ومفسدون في الأرض: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 31].
وكثير من أحبارهم ورهبانهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، ولم يؤمن منهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا القليل خاصة النصارى كما قال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 199].
ولكن موقف هؤلاء الأفراد لا يمثل الغالبية من أهل الكتاب، خاصة اليهود الذين شنوا على الإسلام حرباً خبيثة، استخدموا فيها ألوان المكر والخديعة والوحشية، كما أنهم في الوقت ذاته أعرضوا عن الدخول في الإسلام، كما قال سبحانه: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [البقرة: 91].
وقد بين الله في القرآن حقيقة ما عليه أهل الكتاب، كما حكى عنهم أشنع الوسائل، وأبشع الطرق في حرب هذا الدين وأهله، وكشف للمسلمين أحوالهم ليحذروهم ويتقوهم فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 75].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 76].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [البقرة: 89].
فهذه أحوال اليهود والنصارى كشفها الله للمسلمين من أول يوم، وبيَّن ما هم عليه من فساد العقيدة، ومن الشرك بالله، ومن الكفر بآيات الله ورسله، وهذا لم يتغير، وهم باقون عليه إلى الآن.
(13/223)
أما الذي وقع فيه التعديل فهو أحكام التعامل مع أهل الكتاب، مرحلة بعد مرحلة حسب المصلحة.
فقد جاء زمان يقال فيه للمسلمين:
(ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?) [البقرة: 109].
ويقال لهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [آل عمران: 64].
ويقال لهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [العنكبوت: 46].
ثم أتى الله بأمره الذي وَكَلَ المؤمنين إليه، فوقعت أحداث عظام، وتعدلت أحكام، وجاءت مرحلة نزول الأحكام النهائية الأخيرة فيهم كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [التوبة: 29].
وموقف أهل الكتاب من المسلمين موقف العداوة والبغضاء، فأهل الكتاب والمشركون كلهم اجتمعوا على حرب الإسلام والمسلمين من أول يوم.
وقد ذكر الله سبحانه مواقف أهل الكتاب العدائية صريحة؛ لئلا يغتر بهم المسلمون، أو يطمئنوا إليهم.
فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 105].
وقال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?) [البقرة: 109].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 120].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 69].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [آل عمران: 72].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 100].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 44].
هذه هي الأهداف النهائية لأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين في كل مكان وزمان، فهل يحذر المسلمون من بطشهم وكيدهم وتضليلهم؟
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 57].
(13/224)
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [المائدة: 51].
وقد حارب اليهود الإسلام من أول يوم بالكيد والمكر والأذى، وما زالت تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله قائمة ومشتعلة حتى الآن.
لقد استقبل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولاً يعرفون صدقه، وديناً يعرفون أنه الحق.
استقبلوه بالدسائس والأكاذيب، والشبهات والفتن، يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود.
وشككوا في الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 146].
واحتضنوا المنافقين، وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في جو المسلمين، وزودوهم بالتهم الباطلة، والأكاذيب المفتراة.
وما فعلوه في حادث تحويل القبلة.. وما فعلوه في حادث الإفك.. وما فعلوه من الغدر برسول الله.. وما فعلوه من الغدر في كل مناسبة، ليس إلا صورة من هذا الكيد اللئيم.
فماذا قالوا في تحويل القبلة؟: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [البقرة: 142].
وماذا قالوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 101].
وما موقفهم من كتاب الله؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?) [آل عمران: 70-71].
وماذا فعلوا في صفوف المسلمين لتشكيكهم في دينهم؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [آل عمران: 72].
وماذا فعلوا من الكذب لتحريف كتاب الله، وصد المسلمين عنه؟.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ?) [آل عمران: 78].
(13/225)
وقد طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء كما قال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 153].
وقد تحرشوا بالمسلمين في المدينة، ونقضوا عهودهم مرة بعد مرة، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، وخيبر، وأَلَّبوا المشركين على المسلمين في الأحزاب، وكانوا أساس الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه -، وتفرق بعدها شمل المسلمين إلى حد كبير، وكانوا أساس الفتنة فيما وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
وقادوا حملة الوضع والدس في كتب التفسير والحديث والسيرة.
وكانوا من الممهدين لحملة الطغاة التتار على بغداد، وتقويض الخلافة الإسلامية.
وقادوا حملة القضاء على الخلافة الإسلامية في تركيا بتدبير ماكر خبيث.
وهم وراء كل كارثة تحل بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض.
وهم وراء كل حملة لسحق قادة الفكر الإسلامي، وطلائع البعث والنمو الإسلامي.
وهم حماة الأوضاع والأوطان التي تتولى إبادة المسلمين في كل مكان.
ذلك شأن اليهود: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 41].
فهل يستحقون بعد هذا الظلم والطغيان أن يكونوا قدوة للبشرية؟
وأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب وهم النصارى فلا يقل إصراراً على العداوة والحرب عن شأن اليهود، فحين أحست الكنيسة بخطورة الإسلام على ما صنعت هي بأيديها وسَمَّته المسيحية، وهو مُركّب من الوثنيات والأضاليل الممزوجة ببقايا مخرفة من كلمات المسيح، إلا وقامت في مواجهة هذا الدين الجديد.
فتجمعوا لحرب الإسلام في مؤتة.. ثم تجمعوا لضرب الإسلام مرة أخرى.. فكانت من أجل ذلك غزوة تبوك.. ثم كان جيش أسامة بن زيد - رضي الله عنه - إلى أطراف الشام لمواجهة تجمعاتهم التي تستهدف القضاء على الإسلام.
(13/226)
ثم اشتعل مِرْجل الحقد الصليبي منذ انتصار المسلمين في موقعة اليرموك الظافرة.. والتي أعقبها انتشار الإسلام في الشام والعراق، ومصر وأفريقيا.. ثم دخول الإسلام في الأندلس.. ثم تجلت عداوتهم ووحشيتهم في الأندلس عندما زحفت الصليبية الحاقدة على المسلمين في أسبانيا، وارتكبت من الوحشية في تعذيب المسلمين بما لم يعرف من قبل ولا يتصوره ذو عقل.. ثم كشرت عن أنيابها وبلغت ضراوتها ووحشيتها حينما هجم الصليبيون على الشرق الإسلامي، وأبادوا المسلمين في بيت المقدس في وحشية لا تعرف الرحمة، ولا تزال هذه الحرب الصليبية المسعورة تستخدم كافة الأسلحة، وكافة الطاقات لضرب الإسلام والمسلمين في كل مكان، تسفك الدماء، وتقتل الأبرياء، وتطارد الأتقياء: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [البقرة: 217].
فالكفار والمشركون.. واليهود والنصارى. كل هؤلاء مجمعون على حرب الإسلام والمسلمين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [البروج: 8-9].
وما يشعل هؤلاء حرباً على الإسلام والمسلمين إلا ويعقبها حرب أخرى من أولئك، وما وقعت معركة مع المشركين إلا وأعقبها معركة مع اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فغزوة بدر كانت في السنة الثانية مع المشركين.. ثم أعقبها مباشرة غزوة بني قينقاع من اليهود.. ثم كانت غزوة أحد مع المشركين في السنة الثالثة من الهجرة.. ثم أعقبها غزوة بني النضير من اليهود.. ثم كانت غزوة الأحزاب في السنة الخامسة.. ثم أعقبها مباشرة غزوة بني قريظة من اليهود وهكذا..
فأهل الكتاب لم يعودوا على دين الله بشهادة واقعهم، وشهادة اعتقادهم، فقد أمروا أن يعبدوا إلهاً واحداً فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، كما اتخذ النصارى المسيح ابن مريم رباً وإلهاً، وعبدوا الصليب.
(13/227)
وهذا منهم شرك، فهم إذن ليسوا مؤمنين بالله اعتقاداً، كما أنهم لا يدينون دين الحق واقعاً وعملاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 31].
وكثير من المسلمين اليوم انتهوا إلى ما انتهى إليه كفار وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولم يبق معهم من الدين إلا اسمه، وهذا ما يريده أعداؤهم، فقد هانوا على الله، وهانوا على أعدائهم، ونزلت بهم النكبات والكوارث، والمصائب والفتن، وصاروا محط الشفقة، ومهبط الإغاثة، وذلك كله بسبب إعراضهم عن موائد القرآن، وقعودهم على موائد الشيطان: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [النساء: 66-70].
إن أهل الكتاب لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الحق، وعبادة أرباب من دون الله، وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر.
إنما هم كذلك يعلنون الحرب على الدين الحق، ويسعون لإطفاء نور الله في الأرض، المتمثل في هذا الدين عقيدة وعبادة وشريعة، وفي الدعوة التي تنطلق به في الأرض.
فهم محاربون لنور الله، سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن، أو بما يحرضون به أتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله، والوقوف سداً في وجهه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [الصف: 8].
ولكن وعد الله حق في إتمام نوره بإظهار دينه ولو كره الكافرون، وهو وعد تطمئن به قلوب الذين آمنوا، فيدفعهم إلى العمل والمضي في الطريق، والصبر على الكيد والحرب من الأعداء، كما يتضمن الوعيد لهؤلاء الكافرين وأمثالهم على مدار الزمان.
فليطمئن المؤمنون لوعد الله بإظهار دينه، وليعلم الكفار أن الله حافظ لدينه:
(? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 33].
(13/228)
فقاعدة دين الله كله.. ودين الحق الذي أرسل الله به رسله.. هو الدينونة لله وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع. فأيما شخص، أو قوم لم يدينوا لله وحده في الاعتقاد، والشعائر، والشرائع، انطبق عليهم أنهم لا يدينون دين الحق.
فدين الله الذي قرر سبحانه أن يتمه هو دين الحق الذي أرسل به رسوله ليظهره على الدين كله، وهو متمثل في كل دين سماوي، جاء به رسول الله من عند الله من قبل.
ولقد تحقق الدين الحق على يد رسوله صلى الله عليه وسلم فترة طويلة من الزمان، وكان دين الحق أظهر وأغلب، وأظهره الله على الدين كله.
وكانت الأديان التي لا تخلص فيها الدينونة لله تخاف منه وترجف.
ثم تخلى أصحاب دين الحق عنه خطوة خطوة، بما أهملوه من أوامره، وبفعل الحرب الطويلة المدى، المنوعة الأساليب التي يشنها عليه أعداؤه من الكفار وأهل الكتاب سواء، ولكن هذه ليست نهاية المطاف، ووعد الله قائم ينتظر العصبة المسلمة التي تحمل راية الإسلام، وتمضي مبتدئة مما بدأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم : «بَدَأ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» أخرجه مسلم(1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أمَّتِي قَائِمَةً بِأمْرِ ا?، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهمْ أمْرُ ا? وَهُمْ عَلَى ذلِك» متفق عليه(2).
والقرآن في جداله مع أهل الكتاب يبين أن ما بأيديهم من الكتب لم يكن هو الكتاب الذي أنزله الله على أنبيائهم.
فمرة قال: (پ پ ? ? ?) [المائدة: 14].
والذين لم ينسوه كتموه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 146].
والذي لم يكتموه حرفوه كما قال سبحانه: (ھ ے ے ?) [المائدة: 13].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (145).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3641)، واللفظ له، ومسلم برقم (1037).
(13/229)
ثم جاءوا بأشياء من عندهم افتراءً وكذباً كما قال الله عنهم: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [البقرة: 79].
وقد حذرنا الله ورسوله من طاعة أهل الكتاب، وبين أنهم يريدون رد المؤمنين إلى الكفر، وأن من تولاهم فهو منهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 100-101].
ومن عصى الله وأطاع أهل الكتاب أضلوه، فخسر الدنيا والآخرة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً شِبْراً، وَذِرَاعاً ذِرَاعاً، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «مَنْ؟» متفق عليه(1).
وأهل الكتاب من اليهود والنصارى بعدما كفروا بربهم وكذبوا رسله.. وقتلوا أنبياء الله.. وصدوا عن سبيل الله.. وحرفوا كتاب الله.. ونبذوه وراء ظهورهم.. وكتموا الحق.. ونقضوا العهد.. وأكلوا أموال الناس بالباطل.. ووصفوا الله بما لا يليق به، هل يصلحون بعد هذا لقيادة البشرية ودعوتها إلى ربها؟.
وما بقي عندهم من الدين الحق الذي يدعون الناس إليه؟.
وهل يستحقون بعد هذا كله إلا اللعنة والعذاب الموجع؟
وهذا ما فعل الله بهم جزاء كفرهم وبغيهم: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 78-80].
وليس من حكمة الله أن يستعمل من كفر به وعصاه في حمل أمانة الدعوة إلى الله، وأن يحملها لعباده أمة ظالمة ملعونة، أو أمة تائهة ضالة.
فكانت رحمة الله لليشرية أن بعث إليها محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الحق إلى يوم القيامة: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 158].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7320)، واللفظ له، ومسلم برقم (2669).
(13/230)
وكل من رغب عن ملة إبراهيم فهو سفيه لا يصلح للقيادة كما قال سبحانه: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [البقرة: 130].
وقد رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم ( وابتدعوا اليهودية والنصرانية، وتركوا دين إبراهيم، وبدلوا دين الأنبياء، كما قال الله عنهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 135].
واليهود والنصارى ليسوا على ملة إبراهيم التي هي عبادة الله وحده، فهم إنما يعبدون الشيطان ويزعمون أنهم على ملة إبراهيم، فكذبهم الله بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 67].
فاليهود مغضوب عليهم؛ لأنهم عرفوا الحق ولم يعملوا به، بل عملوا بضده.
والنصارى ضالون عن الحق، مشركون يعبدون الله ويشركون به غيره.
وأما اليهود فلا يعبدون الله، بل هم معطلون لعبادة الله، مستكبرون عنها، كما قال الله عنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 87].
والنصارى مع شركهم بالله لهم عبادات كثيرة مبتدعة.
واليهود من أقل الأمم عبادة، وأبعدهم عن عبادة الله وحده؛ لأنهم متبعون أهواءهم عابدون للشيطان.
وجميع أعمال اليهود والنصارى بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حابطة باطلة، ولو عبدوا الله وحده لم تحبط أعمالهم.
وقبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يعبد الله من عبده بما أمره الله به فله أجره عند ربه، وأما من ترك عبادة الله واتبع هواه من أهل الكتاب فهو كافر.
وأما موسى وعيسى وأتباعهما على الحق فهم على ملة إبراهيم وهو إمامهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 68].
7- فقه جهاد الأعداء
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 6].
وقال الله تعالى: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 15].
أعداء الإنسان ستة:
ثلاثة في الداخل وهم:
النفس.. والشيطان.. وحب الدنيا.
وثلاثة في الخارج وهم:
الكفار والمشركون.. والمنافقون.. وأهل الكتاب
(13/231)
وإذا انتصر الإنسان على الأعداء في الداخل مكنه الله من الانتصار على الأعداء في الخارج، وإذا انهزم أمام أعدائه في الداخل سهل لأعدائه في الخارج السيطرة عليه، والتحكم بحياته كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [الحج: 40-41].
وجهاد هؤلاء الأعداء يكون بتحقيق الإيمان في النفوس، لتذوق طعمه وتتلذذ بحلاوته، فتنشط لطاعة الله، ويسهل عليها اقتحام المشاق، وبذل المحبوب للنفس، وحملها على ما يحب الله وإن كرهته النفس.
ويتم ذلك بحمل النفس على أن تعرف الله ربها بأسمائه وصفاته وأفعاله، وتعرف ما يحبه الله من الإيمان والعبادات والآداب والأخلاق، وتعرف ما يكرهه الله من الكفر والشرك والبدع والأخلاق السيئة، فإذا عرف العبد ما يحب الله فعله.. وإذا عرف ما يكره اجتنبه، ففاز برحمة الله ورضوانه وجنته:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 13-14].
وأما جهاد الشيطان فيكون بالاستعاذة بالله من شره، ومعرفة أنواع أسلحته التي يستخدمها في إغواء الناس وإفسادهم، وتنحصر في ثلاثة أنواع:
الشبهات.. والشهوات.. والتزيين.
فهو يقذف بالشهوات في نفس العبد، فيفجر كل طاقات غرائز الإنسان، ويشعل نار الفتنة التي لا سبيل إلى إخمادها إلا بالاتصال الفوري بالله وذكره: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [الأعراف: 201].
كما يرمي الشيطان بالشبهة في القلب فيثير الشكوك، ويحرك خواطر السيئة، فيصيب الإنسان بالحيرة والتردد، فيفتر العزم، ويقل العمل.
وعلاجه بالاستعاذة بالله من شره: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 36].
أما سلاح التزيين فهو أقوى أسلحته، وأشد أنواعه، وأكثرها فتكاً بالإنسان، فلدى الشيطان من القدرة ما يقلب به العجوز من النساء في عين ناظرها وكأنها حوراء، وتزيين الحرام من المآكل والمشارب والأقوال والأفعال ما يجعل الإنسان يقدم عليه، ويفرح به، ويؤثره على الحلال.
(13/232)
وحرب الشيطان تكون بردِّ كل شبهة يثيرها، وإبعاد كل شهوة يلقيها، وفعل كل طاعة يثقلها وينفر عنها، واجتناب كل معصية يدعو إليها.
والتفطن لكل طلاء وتزيين يحاول به الإيقاع في شراكه وحبائله.
وذلك كله بعد الاحتماء والالتجاء إلى الله بالاستعاذة بالله من شره، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
أما جهاد حب الدنيا وشهواتها، فالشيطان يستخدمها ليخدع الإنسان، ويجره إلى المعاصي عن طريق الشهوات، ثم يسوقه عن طريق الشهوات إلى المحرمات، ثم يوقعه في الكبائر لتكميل شهواته، ثم يشغله بالشهوات والمحرمات والكبائر عن أوامر الله، ثم يخرجه من الدين.
فالمسلم يأخذ من الشهوات المباحة حسب أمر الشرع، ويستخدمها في طاعة الله، وينفقها في مرضاة الله، ويجتنب الشهوات المحرمة مطلقاً، ويقبل على طاعة الله، ويجعل الدنيا وسيلة للآخرة.
وبهذا يتكون المجتمع الإسلامي القادر على تحمل أعباء جهاد الكفار والمشركين، والمنافقين وأهل الكتاب، فإن من لا يجاهد نفسه ولا ينتصر عليها لا يقدر على جهاد غيرها.
فيجاهد المسلم هؤلاء الأعداء في سبيل الله، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 39].
وقال سبحانه: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?) [التوبة: 73].
والجهاد للأعداء يكون بالدعوة إلى الله أولاً، فإن لم يؤمنوا فعلى أهل الكتاب أن يدفعوا الجزية، فإن أبوا فعلى المسلمين قتالهم.
أما الكفار والمنافقون فلا يُقبل منهم إلا الإسلام، فإن أبوا فعلى المسلمين قتالهم، فسبيل الله هي الجهاد، وطلب العلم، ودعوة الخلق به إلى الله.
واليهود والنصارى يعرفون أن هذا القرآن حق من عند الله، ويعرفون من ثم ما فيه من سلطان وقوة، وما فيه من خير وصلاح، وما فيه من طاقة دافعة للأمة التي تدين به، وبالأخلاق التي جاء بها، وبالشرائع التي سنها، ويحسبون كل حساب لهذا الكتاب وأهله.
(13/233)
ويعرفون حق المعرفة أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل هذا الدين، إنهم يعرفون ما فيه من حق، ويعرفون ما هم فيه من باطل، ويعرفون أن هذا الدين لا يمكن أن يهادن الجاهلية التي صاروا إليها.
ويعرفون جيداً أن هذا الدين لا يمكن أن يستعلي إلا على أنقاض الجاهلية التي هم عليها، ولا يمكن أن يكون الدين كله لله حتى تجلو الجاهلية عن هذه الأرض.
وهم يعلمون كل ذلك، ويدرسون هذا الدين دراسة دقيقة عميقة، وينقِّبون عن أسرار قوته، وعن مداخله إلى النفوس، ويبحثون بجد كيف يستطيعون أن يفسدوا القوة الموجهة في هذا الدين؟.
وكيف يلقون بالريب والشبه والشكوك في قلوب أهله؟ وكيف يحرفون الكلم عن مواضعه؟ وكيف يصدون أهله عن العلم الحقيقي به؟وكيف يحولونه من حركة دافعة تحطم الباطل والجاهلية، وتسترد سلطان الله في الأرض، وتطارد أعداءه، وتجعل الدين كله لله، إلى حركة ثقافية باردة.. وإلى بحوث نظرية ميتة.. وإلى جدل فقهي أو طائفي فارغ.. وإلى مسابقات وألغاز؟.
وكيف يفرغون مفهوماته وقواعده وأصوله في أنظمة وتصورات غريبة عنه، مدمرة له، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة؟
إنهم يدرسون هذا الدين دراسة عميقة فاحصة، لا لأنهم يبحثون عن الحقيقة، ولا لينصفوا هذا الدين.. كلاّ.
إنهم يقومون بهذه الدراسة العميقة لأنهم يبحثون عن مقتل لهذا الدين، ويبحثون عن منافذه ومساربه إلى الفطرة ليسدوها، ويبحثون عن أسرار قوته ليقاوموه منها، مستخدمين المنافقين والمغفلين في ذبحه.
ولو تمكنوا من الإجهاز عليه بالحديد والنار لفعلوا.. ولكنهم عجزوا فحاربوه بإثارة الشبهات حوله، والتشكيك به؛ لينفروا المسلمين منه، ويصدوا الناس عنه(? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [الصف: 8].
(13/234)
وأهل الكتاب يعرفون كل صغيرة وكبيرة في هذا الدين، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وهم يعلمون أن الهجوم الصريح على هذا الدين يثير حماسة الدفاع والمقاومة؛ لذلك يلجأ معظمهم إلى إزجاء الثناء لهذا الدين حتى ينوِّم المشاعر المتوفزة، ويخدِّر الحماسة المتحفزة.. وينال ثقة القارئ واطمئنانه، ثم يضع السم في الكأس، ويقدمها للجهال والمغفلين.
وأهل الكتاب يعلمون أن هذا القرآن منزل من الله بالحق، وما يزالون يعلمون أن قوة هذا الدين وقوة أهله إنما تنبثق عن هذا الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
ولا يزالون من أجل علمهم بهذا كله يحاربون هذا الدين، ويحاربون هذا الكتاب حرباً لا تهدأ، وأشد هذه الحروب التي يقوم بها أهل الكتاب وأشرسها هي تحويل الحاكمية عن شريعة هذا الكتاب إلى شرائع كتب أخرى من صنع البشر، وجعل غير الله حكماً، حتى لا تقوم لكتاب الله قائمة، ولا يصبح لدين الله وجود.
وإقامة ألوهيات أخرى في البلاد التي كانت الألوهية فيها لله وحده، يوم كانت تحكمها شريعة الله التي في كتابه، ولا تشاركها شريعة أخرى، ولا يوجد إلى جوار كتاب الله كتب أخرى تستمد منها القوانين والأنظمة، ويرجع إليها، ويستشهد بفقراتها وموادها كما يستشهد المسلم بكتاب الله وآياته، وقد صار ذلك الآن، وأصبح واقعاً لا يحتاج إلى دليل وأهل الكتاب من يهود ونصارى من وراء هذا كله، فهل يرضى بذلك عاقل سوى؟.
(ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الأنعام: 114].
ألا ما أخطر عداوة اليهود، إنهم الذين يقبعون وراء بيوت الأزياء، ووراء دكاكين التجميل، ووراء سعار العرى والتكشف، ووراء الأفلام والصور التي تقود هذه الحملة المسعورة.
(13/235)
إن هذه الأرباب تصدر أوامرها فتطيعها القطعان والبهائم العارية في أرجاء الأرض طاعة مزرية، إنهم يهود يقومون بإصدار أوامرهم على البهائم المغلوبة على أمرها، لتكون عارية ضالة مسرفة كافرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 100].
إنهم بلا شك يبلغون أهدافهم كلها من وراء إطلاق هذه الموجات المسعورة في كل مكان، أهدافهم من تلهية العالم كله بهذا السعار، وإشاعة الانحلال الجسدي والخلقي من ورائه، وإفساد الفطرة البشرية، وجعلها ألعوبة في أيدي مصممي الأزياء والتجميل.
هذا فضلاً عما تحققه هذه الألعوبة من تحقيق الأهداف الاقتصادية، وسحب أموال البشرية إلى جيوبهم من وراء الإسراف في استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة والتجميل، وسائر الصناعات التي تقوم على هذا السعار وتغذيه، فَوَاهٍ لهذه الأمة التي يعبث اليهود بأجسادها وأخلاقها، وينهبون أموالها وهي غافلة لاهية؟.
أخرجها اليهود من المساجد وساحات الجهاد، وميادين الدعوة، ومنابر التعليم إلى الأسواق وأماكن اللهو واللعب، وأسواق الرذيلة، وقاعات الرياضة والفن، وأغرقتهم في الأموال والشهوات.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 99].
وقد أكثر الله من ذكر أحوال بني إسرائيل مع أنبيائهم، فهي أكثر القصص وروداً في القرآن كله، وما ذلك إلا لتعتبر بهم هذه الأمة، ولا تقع فيما وقعوا فيه من الأخطاء الجسام، ومحاربة دين الله وقتل رسله، فبنو إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وما حولها، فقد كانوا حرباً على المسلمين منذ اليوم الأول لوصل الإسلام إليها.
(13/236)
وهم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة، وأمدوهم بوسائل الكيد للمسلمين، وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم الذين تولوا حرب الإشاعات والدس والكيد في الصف المسلم، كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة، وحول النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [آل عمران: 72].
وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة.
فلم يكن بدّ من كشفهم للمسلمين ليتقوهم ويحذروهم، وقد علم الله أنهم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله، كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله.
فعرض الله لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفاً، ووسائلهم كلها مكشوفة.
وبنو إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة طويلة، ووقعت الانحرافات في عقيدتهم، ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم، ووقع في حياتهم آثار هذا النقض، وهذا الانحراف.
فاقتضى هذا أن تُلم الأمة المسلمة وهي وارثة الرسالات كلها بتاريخ القوم، لتتقي مزالق الطريق، ومداخل الشيطان، وبوادر الانحراف.
وقد علم الله أن الأمد حين يطول على الأمم تقسو قلوبها، وتنحرف أجيال منها، وهذه الأمة سيمتد تاريخها إلى أن تقوم الساعة، فجعل سبحانه أمام أئمة هذه الأمة نماذج من العقابيل التي تُلم بالأمم، يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته.
وقد أنعم الله على أهل الكتاب بنعم كثيرة، واختارهم على العالمين في زمانهم، وأفاء عليهم من عطاياه كما قال سبحانه: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [المائدة: 20].
(13/237)
ولكن أهل الكتاب لم يشكروا النعمة، فنقضوا الميثاق، ونسوا الكتاب، وحرفوا الكلم عن مواضعه، ولجوا في المعاصي، فاستحقوا غضب الله ولعنته، وحق عليهم القول بسبب ما اقترفوا، وباءوا بغضب على غضب كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [المائدة: 78].
ثم كانت اللعنة الأبدية على جميع بني إسرائيل إلا الذين يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتبعون ما جاء به، وهذا حكم لا راد له، ولا معقب عليه( ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 167].
ونحن علينا القيام بطاعة الله ورسوله، وإبلاغ الدين للبشرية، والجهاد لإعلاء كلمة الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 78].
أما مراتب جهاد المنافقين فكما يلي:
الأولى: وعظهم وتخويفهم بالله عز وجل وبما أعد لهم من العذاب الأليم كما قال سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [النساء: 63].
الثانية: البراءة منهم وهجرهم وعدم موالاتهم ومقاطعة مجالسهم إن لم يتوبوا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 140].
الثالثة: عدم الرضا عنهم، أو قبول اعتذار من ثبت كذبه منهم، كما قال سبحانه( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [التوبة: 96].
الرابعة: عدم قبولهم في الأعمال والمناصب الدينية الهامة، لشدة خطرهم على الأمة كما قال سبحانه: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [التوبة: 83].
الخامسة: جهادهم كسائر الكفار باليد واللسان، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?) [التوبة: 73].
السادسة: تهديدهم بفضح خباياهم، ونفيهم وقتلهم، كما قال سبحانه(?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحزاب: 60. 61].
(13/238)
السابعة: عدم الصلاة عليهم، أو الاستغفار لهم، أو الترحم عليهم، كما قال سبحانه( ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 84].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [التوبة: 80].
الثامنة: قتل المنافق الذي ثبت نفاقه بالبينة الواضحة إن لم يتب، كما قال سبحانه(? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [التوبة: 52].
- - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الرابع عشر ... 2
فقه أعداء الإنسان ... 2
1- العدو الأول: النفس ... 4
1- فقه النفوس ... 4
2- آفات النفوس ... 12
1- آفة الغفلة ... 14
2- آفة الهوى ... 19
3- آفة الكبر ... 30
4- آفة العُجْب ... 45
5- آفة الغرور ... 48
6- آفة الكذب ... 57
7- آفة اللسان ... 61
8- آفة الرياء ... 68
9- آفة الحسد ... 78
10- آفة الغضب ... 86
2- العدو الثاني: الشيطان ... 91
1- فقه عداوة الشيطان ... 91
2- فقه تسليط الشيطان على الإنسان ... 103
3- فقه خطوات الشيطان ... 109
4- فقه كيد الشيطان للإنسان ... 116
5- إفساد الشيطان لأهل الأديان ... 129
5- ما يعتصم به العبد من الشيطان ... 145
3- العدو الثالث ... 151
1- الدنيا ... 151
1-فقه حقيقة الدنيا ... 151
2- فقه الفتن ... 158
3- فتنة الأموال والشهوات ... 170
4- فتنة الأهل والأولاد ... 185
4- العدو الرابع ... 189
1- المنافقون ... 189
1- علامات المنافقين ... 189
2- فقه عداوة المنافقين ... 197
5- العدو الخامس: الكفار والمشركون ... 206
فقه عداوة الكفار والمشركين ... 206
6- العدو السادس: أهل الكتاب ... 226
فقه عداوة أهل الكتاب ... 226
7- فقه جهاد الأعداء ... 248
(13/239)
موسوعة فقه القلوب (15)
الباب الخامس عشر
فقه الدنيا والآخرة
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الخامس عشر
فقه الدنيا والآخرة
1- فقه الدنيا والآخرة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 77].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 64].
الله تبارك وتعالى إذا أعطى عبده من الدنيا فينبغي أن يبتغي بها ما عند الله بالإحسان والصدقات، ولا يقتصر على مجرد نيل الشهوات واللذات، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، بل ينفق لآخرته، ويستمتع بدنياه استمتاعاً لا يثلم دينه، ولا يضر بآخرته.
وإقامة دين الله في الأرض يحقق الفلاح في الدنيا والآخرة على السواء، لا افتراق بين دين ودنيا.. ولا افتراق بين دنيا وآخرة.. فهو منهج واحد للدنيا والآخرة.. للدين والدنيا.. كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 65-66].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 96].
فالإيمان والتقوى كما يكفل لأصحابه جزاء الآخرة بثواب الجنة الحسن، كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا، ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة وَفْرة ونماء وكفاية.
فليس هناك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة، وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا، إنما هو طريق واحد تصلح به الدنيا والآخرة.
فإذا تنكبت الأمة هذا الطريق فسدت الدنيا، وخسرت الآخرة.
وهذا الطريق هو الإيمان والتقوى التي علامتها تحقيق المنهج الإلهي في النفس وفي الحياة الدنيا، وبذلك تصلح الحياة الدنيوية والحياة الأخروية.
إن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلاً عن الدنيا، ولا يجعل سعادة الآخرة بديلاً عن سعادة الدنيا.. ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا.
(14/1)
لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير كثير من الناس، بحيث اعتقدوا أنه لا سبيل للالتقاء بين الطريقين، فعلى الإنسان إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه، وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه، ولا سبيل للجمع بينهما في تصور ولا واقع.
وقد ساعد على هذا الفهم أن واقع الناس في هذا الزمان يوحي بهذا.
وحقاً إن أوضاع الحياة الجاهلية الضالة البعيدة عن الله، وعن منهجه في الحياة اليوم، تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، وتلزم واقعاً على الذين يريدون البروز في الدنيا والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلوا عن طريق الآخرة، ويتحللوا من الدين والأخلاق والآداب التي يحض عليها الدين.
وفي الوقت نفسه تُلزم الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة، والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع.. لماذا؟.
لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للشرع والدين والخلق، ولا مرضية لله سبحانه.
ورأت الأمة هذا ضربة لازب: فلا مفر منه، ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا والآخرة.
وهذا كله ليس بصحيح، فالعداء بين الدنيا والآخرة، والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، ليس هو الحقيقة التي لا تقبل التبديل، إنما ذلك عارض ناشئ من انحراف طارئ.
فالأصل في الحياة الإسلامية التي جاء بها الشرع أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة، وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 97].
وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة، كما أنه المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا.
(14/2)
وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض، كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي، ويكون ذلك إذا تم تحقيق منهج الله في الأرض.
فهذا المنهج وحده هو الذي يجعل العمل حسب أمر الله عبادة، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة.
والخلافة عمل وإنتاج، يتم بها تنفيذ أوامر الله في إصلاح الدنيا والآخرة، ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة وفق منهج وشريعته طاعة ينال العبد عليها ثواب الآخرة، ويظفر بخيرات الأرض التي سخرها له ربه.
فالإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض، ولا يستغل طاقات الأرض والكون المسخر له يعتبر عاصياً لله، ناكلاً عن القيام بالوظيفة التي خلقه الله لها، تاركاً للأسباب التي جعلها الله سبباً لصلاح دنياه.
كما أن التارك لفرائض وأركان الإسلام يكون عاصياً لربه، ناكلاً عن امتثال أوامره التي جعلها الله سبباً لصلاح آخرته.
فالذي يترك أسباب الكسب والمعيشة يكون معطلاً لرزق الله الموهوب للعباد، جافياً عنه، راضياً بما يلقمه الناس من فضلاتهم، ويقف ذليلاً بأبوابهم، وقد ترك الباب الذي فتحه الله ليكسب الدنيا والآخرة، وينشغل في معاشه عن أوامر الله وطاعته، وهكذا يخسر الآخرة؛ لأنه خسر الدنيا، وقد أمرنا الله بالقيام بأسباب الكسب للدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجمعة: 9-10].
وهذا الدين وسط يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق، فلا يفوِّت على الإنسان دنياه لينال آخرته، ولا يفوِّت عليه آخرته لينال دنياه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 134].
(14/3)
والدين الإسلامي يحتم على الفرد أن يبذل أقصى طاقته الجسمية العقلية في العمل والإنتاج، وأن يبتغي في العمل والإنتاج وجه الله، فلا يظلم ولا يغدر ولا يغش ولا يخون، ولا يأكل من سحت، ولا يأكل أموال الناس بالباطل، ولا يسرق ولا يختلس ولا يحتكر، مع الاعتراف لله بالملكية، وأداء حق الفقراء في ماله في حدود ما فرض الله عزَّ وجلَّ.
والإسلام يسجل للفرد عمله في هذه الحدود وفق شرع الله، عبادة يجزيه عليها بالبركة في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.
ويربط المنهج الإسلامي بين العبد وربه رباطاً أقوى بالشعائر التعبدية التي يفرضها الله عليه، يستوثق بهذا الرباط من تجدد صلته بالله في اليوم الواحد خمس مرات بالصلاة، وفي كل حين بكثرة الذكر، وفي العام الواحد ثلاثين يوماً بصوم رمضان، وفي العمر كله بحج بيت الله الحرام، وفي كل موسم أو في كل عام بإخراج الزكاة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 28].
ومن هنا نعلم قيمة الفرائض التعبدية في الإسلام، إنها تجديد للعهد مع الله على الارتباط والالتزام بمنهجه الكلي للحياة، وهي قربى إلى الله يتجدد منها العزم على النهوض بتكاليف هذا المنهج الذي ينظم أمر الحياة كلها: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 153].
وكذا يتجدد معها الشعور بعون الله ومدده على حمل التكاليف التي يتطلبها النهوض بهذا المنهج الكلي المتكامل، والتغلب على شهوات الناس وعنادهم وانحرافهم وأهوائهم حين تقف في الطريق.
وليست الشعائر التعبدية من صلاة وذكر وصيام وحج ونحوها أموراً منفصلة عن شئون العمل والإنتاج والتوزيع.
إنما الإيمان والتقوى، والشعائر التعبدية شطر المنهج المعين على أداء شطره الآخر.
إن الإسلام لا يقدم الآخرة بديلاً عن الدنيا ولا العكس، إنما يقدمها معاً في طريق واحد، وبجهد واحد، ولكنهما لا يجتمعان معاً في حياة الإنسان إلا إذا اتُّبع منهج الله وحده في الحياة.
(14/4)
وكذلك الإسلام لا يقدم الإيمان والعبادة والصلاح والتقوى بديلاً عن العمل والإنتاج والتحسين في واقع الحياة المادية، وليس هو المنهج الذي يَعِد الناس فردوس الآخرة، ويرسم لهم طريقه، بينما يدع الناس أن يرسموا لأنفسهم الطريق المؤدي إلى فردوس الدنيا.
فالعمل والإنتاج والتنمية، وتحسين واقع حياة الناس حسب أمر الله، وحسب توجيه شرعه، ذلك وظيفة وفريضة الخلافة في الأرض.
والإيمان والعبادات، والصلاح والتقوى، تمثل الضوابط والدوافع والحوافز لتحقيق منهج الله في الحياة حسب أمر الله ورسوله، وهذه وتلك مؤهلات الفردوس الأرضي والفردوس الأخروي معاً، والطريق هو الطريق، ولا تصادم بين الدين وبين الحياة الواقعية المادية، وأمر الله في هذه وهذه كله عبادة يتقرب بها العبد إلى الله، فالدين يستغرق ويشمل حياة الإنسان كلها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 162-163].
ولكن الناس لما شردوا عن منهج الله وشرعه، واتخذوا لهم مناهج أخرى معادية لمنهج الله، جاء هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وبين العبادة الروحية والإبداع المادي، وبين النجاح في الدنيا والنجاح في الحياة الأخرى حسب أمر الله (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [البقرة: 85].
وبسبب هذا الفصل جاء الشقاء والألم على الطرفين:
فمن أقبل على الدنيا وترك الدين يعيش في قلق وحيرة، وبشقاء قلب، وذلك من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته، إذا هم آثروا اطراح الدين كله على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والنجاح في الحياة.
وهؤلاء إن ملؤوا جيوبهم بالأموال إلا أنهم يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب ولا تطيق الفراغ والخواء، وهي جوعة لا يملؤها إلا الإيمان بالله.
(14/5)
وهم يؤدونها كذلك قلقاً وحيرة وشقاء قلب إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله، وحاولوا معها مزاولة الحياة وكسبها على غير منهج الله.
فتصادم العقيدة الدينية والخلق والسلوك الديني مع الأوضاع والقوانين المخالفة لمنهج الله، فيحصل بسبب ذلك الشقاء والتعب.
والبشرية اليوم تعاني ما تعاني من ذلك الشقاء، فقد صور لها الأعداء أن الدين لله، وأن الحياة للناس يفعلون فيها ما يشاؤون، وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة، ضريبة الشقاء والقلق، والحيرة والخواء؛ لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الكامل الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع، ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة بل ينسق.
ولا تخدعنا ظواهر كاذبة في فترة موقوتة، حين نرى أمماً لا تؤمن ولا تتقي، ولا تقيم منهج الله في حياتها، وهي موفورة الخيرات، كثيرة الإنتاج، عظيمة الرخاء.
إنه رخاء موقوت حتى تفعل السنن الإلهية الثابتة فعلها الثابت، وحتى تظهر آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي، والمنهج الرباني.
وقد حصل وظهر في صور شتى، ظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم، مما يجعل المجتمع حافلاً بالشقاء والأحقاد والخوف، وهذا بلاء على رغم الرخاء.
وظهر في الانحلال النفسي والخلقي، وظهر في القلق العصبي، والأمراض المنوعة التي اجتاحت العالم، وبخاصة أشدها رخاءً، مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال، ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج.
وظهر كذلك في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع كل لحظة، وقد بدأت بوادره، وهو خوف يضغط على أعصاب الناس فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية.
ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء التي حُرِمت أو حَرَمت نفسها من نعمة الإيمان.
وأخيراً.. يؤدي هذا الفصل بين الدين والدنيا في النهاية إلى الهلاك والدمار للأمم والشعوب.
(14/6)
فاتخاذ منهج للآخرة من عند الله، واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس، في حياة واحدة، ومجتمع واحد، كل ذلك يؤدي إلى التصادم المؤدي إلى الهلاك والدمار والاضطراب.
فدين الله عزَّ وجلَّ يقوم على الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله في الحياة، والقيام بالعمل والإنتاج للنهوض بالخلافة في الأرض.
وإذا اجتمعت هذه الأمور تحقق شرط الله لهذه الأمة، فأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا، وكُفِّرت عنهم سيئاتهم، ودخلوا جنات النعيم في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 96].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 65-66].
فالأساس هو الإيمان والتقوى، وتحقيق المنهج الرباني في الحياة الواقعية، وهذا يتضمن في ثناياه العمل والإنتاج، وسهولة استقامة الحياة، فضلاً على أن للصلة بالله مذاقها التي يسعد بها المرء في حياته.
والله تبارك وتعالى غني عن العالمين، فالإيمان والتقوى والعبادة والصلة بالله، وإقامة شريعة الله في الحياة، كل ذلك ثمرته للإنسان والحياة الإنسانية(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 6].
وإذا شدد المنهج الإسلامي على هذه الأسس والأصول فليس هذا معناه أن الله سبحانه يناله شيء من إيمان العباد وتقواهم وعبادتهم له، وتحقيق منهجه في الحياة، أو أن الله محتاج إلى ذلك، ولكن لأن الله جل جلاله رؤوف رحيم، يعلم أنه لا صلاح للبشرية ولا فلاح لها إلا بهذا المنهاج الإلهي الذي يسعدون به في الدنيا والآخرة.
(14/7)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي ! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي ! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي ! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبحر، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
فشرط الله قائم.. والطريق إليه معروف.. والوفاء بالشرط سهل لو كانوا يعقلون.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).
(14/8)
والحياة في الإسلام ليست هذه الفترة القصيرة التي تمثل عمر الإنسان، ولا هي هذه الفترة المحدودة التي تمثل عمر الأمة من الناس، كما أنها ليست هي هذه الفترة المشهودة التي تمثل عمر البشرية في هذه الحياة الدنيا.
بل الحياة واسعة تمتد طولاً في الزمان، فتشمل فترة الحياة الدنيا، وفترة الحياة الأخرى التي لا يعلم مداها وعظمتها ونعيمها إلا الله، وفترة الدنيا بالنسبة إليها كساعة من نهار.
وتمتد الحياة في المكان فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر داراً أخرى: جنة عرضها كعرض السماء والأرض، وناراً تسع الكثرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الحديد: 21].
وتمتد في العوالم فتشمل هذا الوجود المشهود إلى وجود مغيب لا يعلم حقيقته كلها إلا الله، ولا نعلم نحن عنه إلا ما أخبرنا الله به.
وتمتد الحياة في حقيقتها فتشمل هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا وإلى تلك المستويات الجديدة العالية الفائقة في الحياة الأخرى في الجنة وبعكس ذلك في النار.
وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست من مذاقات هذه الحياة الدنيا، ولا تساوي الدنيا بالقياس إليها جناح بعوضة.
إن الرغبة في الآخرة لا تعني إهمال الدنيا وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها، وتركها للطغاة والمفسدين تطلعاً إلى نعيم الآخرة، وإنما الدنيا مزرعة للآخرة، والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة، ورفع الشر والفساد عنها، ورد الاعتداء والظلم عن أهلها، وتحقيق الخير والعدل للناس جميعاً، كل أولئك هو زاد الآخرة.
والمسلم إنما يزاول هذه الحياة الدنيا وهو يعلم أنه أكبر منها وأعلى، ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا، خالصة له يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [الأعراف: 32].
(14/9)
ويجاهد المسلم لترقية هذه الحياة، وتسخير طاقاتها وقواها، وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة حين استخلفه الله فيها.
ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى، وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة، إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن ليس هناك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا، وأن الدنيا صغيرة زهيدة مؤقتة، ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى في الآخرة.
والله تبارك وتعالى كما اجتبى الرسل، وأرسلهم لهداية البشرية، كذلك هو سبحانه اجتبى هذه الأمة، وأعطاها مهمة الإشراف على الحياة البشرية وقيادتها إلى القمة السامقة بالدين الكامل، الذي يزين حياتها ويجملها في الدنيا والآخرة، ووعدهم على ذلك الجنة.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بإقامة الدين، ونهانا أن نكون عبيداً للدنيا، وقد فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فركبوها ولم تركبهم، وعَبَّدوها لله ولم تستعبدهم، وقاموا بالخلافة عن الله فيها بكل ما تقتضيه الخلافة عن الله من تعمير وإصلاح، ولكنهم كانوا يبتغون في هذه الخلافة وجه الله، ويرجون الدار الآخرة، فسبقوا أهل الدنيا في الدنيا، ثم سبقوهم كذلك في الآخرة، والدنيا وما فيها من النعيم بالنسبة للآخرة لهو ولعب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الأنعام: 32].
والإنتاج المادي النافع وفق منهج الله من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه.
والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو إليه الإسلام، ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص الإنسان وأخلاقه، كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية الملحدة أو المشركة.
فما أبعد ما بين الدارين؟.
دار يمكن أن تُطمس وتُحصد في لحظة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 24].
(14/10)
ودار النعيم والسلام التي نعيمها لا يزول والناس فيها مخلدون كما قال سبحانه(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 64].
إن للجهد في هذه الأرض ثمرته سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى، أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته المحدودة.
فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا، ويتمتع بها كما يريد في أجل محدود، ولكن ليس له في الآخرة إلا النار؛ لأنه لم يقدم للآخرة شيئاً، ولم يحسب لها حساباً.
فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا، ولكنه باطل في الآخرة، وحابط لا يقام له وزن كما قال سبحانه: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [هود: 15-16].
ونحن نشهد في هذه الأرض أفراداً وأمماً تعمل لهذه الدنيا وتنال جزاءها فيها، ولدنياها زينة وانتفاخ، وهذه سنة الله في هذه الأرض، وهؤلاء يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه، ونفوسهم تتطلع إلى الآخرة، وتراقب الله في الكسب والمتاع، فينالوا زينة الحياة الدنيا لا يبخسون منها شيئاً، وينالوا كذلك متاع الحياة الأخرى.
إن العمل للآخرة لا يقف في سبيل العمل للدنيا، بل إنه هو هو مع الاتجاه إلى الله فيه، ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره، ولا تنقص من آثاره، بل تزيد وتبارك الجهد والثمر، وتجعل الكسب طيباً، والمتاع به طيباً، ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة.
إن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها، فإن الله يعجل له خطة من الدنيا حين يشاء، ثم تنتظره في الآخرة جهنم عن استحقاق، مذموماً بما ارتكب، مدحوراً بما انتهى إليه من عذاب:
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 18].
(14/11)
فأهل الدنيا لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض، يتلطخون بوحلها ورجسها ودنسها، ويستمتعون فيها كالأنعام، ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات، ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم.
أما الذي يريد الآخرة فلا بدّ أن يسعى لها سعيها، فيؤدي تكاليفها، ويقيم سعيه لها على الإيمان، ثم يلقى التكريم في الآخرة، جزاء السعي الكريم في الدنيا: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 19].
إن الحياة للأرض، الحياة للدنيا، حياة تليق بالديدان والحشرات، والزواحف والهوام، والوحوش والأنعام، فأما الحياة الآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله.
على أن هؤلاء وهؤلاء إنما ينالون من عطاء الله، وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [الإسراء: 20].
والتفاوت بين الناس في الدنيا ملحوظ بحسب أسبابهم وأعمالهم واتجاهاتهم، فكيف يكون التفاوت بين الناس في الآخرة التي الدنيا بالنسبة لها كقطرة من بحر(? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الإسراء: 21].
فمن شاء التفاوت الحق، ومن شاء التفاضل الضخم، ومن شاء الدرجات العالية، فهو هناك في الآخرة، حيث الرقعة الفسيحة، والآماد الأبدية، والنعيم الفائق، والقصور الفاخرة: (? ? ? ? ?) [المطففين: 26].
والدنيا لها وظيفة.. والآخرة لها وظيفة.
فالدنيا دار الإيمان والعمل.. والآخرة دار الثواب والعقاب.
والدنيا صغيرة ناقصة.. والآخرة كبيرة كاملة.. فيها كمال النعيم وكمال العذاب، والدنيا فانية زائلة.. والآخرة دائمة باقية، والدنيا مكان اجتماع الخلق كلهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، أما في الآخرة فيتفرقون، المؤمنون في الجنة، والكفار والعصاة في النار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [الروم: 14-16].
ولهؤلاء نعيم وخلود بلا موت.. ولهؤلاء عذاب وخلود بلا موت.
(14/12)
والدنيا مكان الطاعات، ومهبط الرسالات، وزمان الأعمال الصالحة، وفيها بيوت الله، ومواطن الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها ساحات الجهاد في سبيل الله.. وفيها الآيات الدالة على عظمة الله وقدرته من سماء وأرض، وجبال وبحار، ونبات وحيوان، وإنس وجان، وليل ونهار، وحياة وموت: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [فصلت: 39].
وقال سبحانه: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [الروم: 22].
والمذموم من الدنيا كل حركة مخالفة لمنهج الله كالمعاصي والسيئات، وكفران النعم، وما أشغل الإنسان عن طاعة الله ورسوله من الأموال والأشياء، والأشخاص والأعمال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 14].
وجميع ما على وجه الأرض جعله الله زينة لهذه الدار فتنة للناس واختباراً من مآكل لذيذة، ومشارب مختلفة، وملابس طيبة، ومياه وبحار، وزروع وأشجار وثمار، ورياض وأزهار، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحو ذلك كما قال سبحانه(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الكهف: 7].
خلق الله كل ذلك ليبلوا خلقه أيهم أحسن عملاً.
فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها من نظر إلى ظاهر الدنيا دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، وغفلوا عن ربهم، ومعرفة شرعه والعمل به، فهؤلاء يتمتعون في الدنيا قليلاً، فإذا ماتوا عاقبهم الله بالنار( ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [آل عمران: 196-198].
وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها ما يستعين به على ما خلق له، ويجعل الدنيا منزل عبور لا محل حبور، فيبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل الموصل للجنة.
(14/13)
فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم وسرور، إذ نظر إلى باطن الدنيا حين نظر المغتر إلى ظاهرها، وعمل لآخرته حين عمل البطال لدنياه، فشتان ما بين الفريقين والمنزلين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [محمد: 12].
2- قيمة الدنيا والآخرة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الأنعام: 32].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ) [الأعلى: 16-17].
الله عزَّ وجلَّ جعل لكل شيء زينة ومقصداً، فالنبات له زينة وهي الأوراق والأزهار، ولكن المقصد الحبوب والثمار، والثياب لها زينة وهي الألوان والتفصيل، ولكن المقصد ستر العورة.
وكذلك الدنيا زينة، وكل ما عليها زينة، والمقصد الإيمان والأعمال الصالحة، والدنيا كلها زينة، والمقصد الآخرة، وكل من نسي المقصد تعلق بالزينة(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [الكهف: 7، 8].
والأنبياء والرسل وأتباعهم يشتغلون بالمقاصد، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأهل الدنيا يشتغلون بالزينات واللهو واللعب، ويغفلون عن المقصد، والله أمرنا أن نأخذ من الدنيا بقدر الحاجة، ونعمل للآخرة بقدر الطاقة، وإذا تعارضت في حياتنا الزينات والأشياء مع المقصد وهو عبادة الله وحده، والدعوة إلى الله، قدمنا ما يحب الله وهو عبادته، وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والجهاد في سبيله، ونشر دينه.
وقد خلق الله الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له كما قال سبحانه(? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الذاريات: 56-58].
وهذه الدنيا مكان تكميل محبوبات الله من الإيمان والأعمال الصالحة.
فقد خلق الله الإنسان وجعله يمر بمراحل وأزمنة وأمكنة وأحوال، وينتهي بالخلود إما في الجنة أو النار.
وهذه المراحل هي:
(14/14)
الأولى: بطن الأم: ومدة الإقامة فيها تسعة أشهر، والحكمة من البقاء فيها هذه المدة أمران: تكميل خلق الأعضاء الداخلية.. والأعضاء الخارجية، والإنسان في هذه المرحلة غير مكلف.
الثانية: دار الدنيا: والإقامة فيها أكثر من الإقامة في بطن الأم، والحكمة من البقاء فيها تلك المدة أمران: تكميل الإيمان، وتكميل الأعمال الصالحة، وإذا أكمل العبد لله فيها ما يحب أكمل الله له في الآخرة ما يحب، ثم يخرج من الدنيا مع عمله إلى الدار التي تليها.
الثالثة: دار البرزخ، وهي القبر، والقبر أول منازل الآخرة، ويبقى فيه الإنسان حتى يكتمل موت الخلائق، وتقوم الساعة، وهو على المؤمن روضة من رياض الجنة، وعلى الكافر حفرة من حفر النار، يبدأ فيه الجزاء، ثم ينتقل منه إلى دار الخلود، إما في الجنة أو النار.
الرابعة: الدار الآخرة، وفيها الإقامة المطلقة، والنعيم المطلق للمؤمنين والعذاب الأليم للكافرين، والحكمة من خلق هذه الدار تكميل الشهوات والملذات للمؤمنين جزاء أعمالهم الصالحة، وعقوبة الكفار والظلمة بأشد أنواع العذاب، كل حسب عمله كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [الانفطار: 13-15].
وقد بين الله عزَّ وجلَّ قيمة الدنيا بالنسبة للآخرة، وقيمة الآخرة بالنسبة للدنيا في كثير من آيات القرآن والسنة النبوية:
فقيمة الدنيا الذاتية: بينها الله سبحانه بقوله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 64].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ?) [فاطر: 5].
وقيمة الدنيا بالمساحة: بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (1).
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3250).
(14/15)
وقيمة الدنيا بالنقد: بينها النبي صلى الله عليه وسلم كما قال جابر - رضي الله عنه - مرَّ رَسُولَ ا? صلى الله عليه وسلم بِجَدْيٍ أسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأخَذَ بِأذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أيُّكُمْ يحب أنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟» فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: «أتُحِبُّونَ أنَّهُ لَكُمْ؟» قَالُوا: وَا?! لَوْ كَانَ حَيّاً كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لأنَّهُ أسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ: «فَوَا?! لَلدُّنْيَا أهْوَنُ عَلَى ا?، مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
وقيمة الدنيا بالوزن: بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ ا? جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» أخرجه الترمذي صلى الله عليه وسلم (2).
وقيمة الدنيا بالكيل: بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «وَا? مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ صلى الله عليه وسلم وَأشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ) فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (3).
أما قيمة الدنيا الزمنية: فقد بينها الله عزَّ وجلَّ بقوله: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [التوبة: 38].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2957).
(2) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي برقم (2320)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (943).
(3) أخرجه مسلم برقم (2858).
(14/16)
إن جميع ما أوتيه الخلق من الذهب والفضة، والطير والحيوان، والأمتعة والنساء، والبنات والبنين، والمآكل والمشارب، والجنات والقصور، وغير ذلك من ملاذ الدنيا ومتاعها، كل ذلك متاع الحياة الدنيا وزينتها، يتمتع به العبد وقتاً قصيراً، محشواً بالمنغصات، ممزوجاً بالمكدرات، ويتزين به الإنسان زماناً يسيراً للفخر والرياء، ثم يزول ذلك سريعاً، ويعقب الحسرة والندامة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 60].
فما عند الله من النعيم المقيم، والعيش الهني، والقصور والسرور خير وأبقى في صفته وكميته، وهو دائم أبداً.
فهل يستفيد الإنسان من عقله؟ ليعلم أي الدارين أحق بالإيثار؟.. وأي الدارين أولى بالعمل لها؟.
فإذا كان العقل سليماً، والقلب صافياً، آثر الآخرة على الدنيا، وما آثر أحد الدنيا إلا لنقص في عقله: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 61].
فهل يستوي مؤمن ساع للآخرة سعيها، قد عمل على وعد ربه له بالثواب الحسن الذي هو الجنة، وما فيها من النعيم العظيم، فهو لاقيه بلا شك؛ لأنه وعد من كريم صادق الوعد، لعبد قام بمرضاته، وجَانَبَ سخطه؟.
فهل يستوي هذا ومَنْ متَّعه الله متاع الحياة الدنيا، فهو يأخذ فيها ويعطي، ويأكل ويشرب، ويتمتع كما تتمتع البهائم، قد اشتغل بدنياه عن آخرته، لم ينقد لرب العالمين، ولم يهتد بسنن سيد المرسلين، فلم يقدم لنفسه خيراً، وإنما قدم على ربه بما يضره؟.
فليختر العاقل لنفسه ما هو أولى بالاختيار، وأحق الأمرين بالإيثار؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ) [الأعلى: 14-17].
3- فقه حب الدنيا
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 14].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ) [القيامة: 20-21].
حب الدنيا يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقَّر الله، وهي سجن المؤمن، وجنة الكافر.
(14/17)
وقد لعنها الله وأبغضها ومقتها إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للعنه ومقته وغضبه سبحانه.
ومن أحب الدنيا صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه، وإلى الدار الآخرة، فعكس الأمر، وقلب الحكمة، فانعكس قلبه، وانعكس سيره إلى وراء، وسار في الظلمات، وترك طريق الهدى والنور: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 72].
ومحبة الدنيا تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة؛ لأشتغاله عنه بمحبوبه.
والناس ها هنا مراتب:
فمنهم من يشغله محبوبه من الدنيا عن الإيمان وشرائعه.
ومنهم من يشغله عن الواجبات التي تجب عليه لله ولخلقه، فلا يقوم بها ظاهراً ولا باطناً.
ومنهم من يشغله حبها عن كثير من الواجبات والسنن.
وأقل درجات حب الدنيا أنه يشغل عن سعادة العبد، وهو تفريغ القلب لحب الله، ولسانه لذكره.
ومحبة الدنيا تضر بالآخرة ولا بدّ، كما أن محبة الآخرة تضر بالدنيا، ومحبتها تجعلها أكبر هَمٍّ للعبد.
ومحب الدنيا أشد الناس عذاباً بها، وهو معذب في دوره الثلاث: يعذب في الدنيا بتحصيلها، والسعي فيها، ومنازعة أهلها، ويعذب في البرزخ بفواتها والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً، فيعمل فيه الهم والغم والحزن والحسرة في روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض في جسمه.
ومن أحب الدنيا، وآثرها على الآخرة، فهو من أسفه خلق الله، وأقلهم عقلاً، إذ آثر الظل الزائل على النعيم الدائم، والدار الفانية على الدار الباقية، وباع حياة الأبد في أرغد عيش، بحياة إنما هي أحلام ونوم.
فالدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وهي دار ظعن ليست بدار إقامة،
مَنْ صح فيها هرم.. ومن استغنى فيها فُتن وطغى.. تُذل من أعزها.. وتُفقر من جمعها.. وهي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه.
(14/18)
وصاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، السار فيها غذاء ضار، وقد وُصِلَ الرخاء منها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالحزن، صفوها كدر، وعيشها نكد، وليس لها عند الله قدر ولا وزن.
وقد عرضت الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض الله خالقه، أو يرفع ما وضع ربه.
فزوى الله الدنيا عن الأنبياء والمرسلين والصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً،
فيظن المغرور بها القادر عليها أنه أُكرم بها، وشرفه الله بملكه لها، ونسي ما صنع الله بمحمد صلى الله عليه وسلم حين شد الحجر على بطنه، وأنه وهو سيد الخلق لم توقد النار في بيته الشهر والشهرين، فقطع حبالها، وأغلق أبوابها، وزهد بسلعها.
وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وما سكنت الدنيا في قلب عبد إلا ابتلي بشغل لا ينفك عناؤه، وأمل لا يدرك منتهاه، فالدنيا طالبة مطلوبة، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه.
والعاقل من رضي بيسير الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بيسير الدين مع سلامة الدنيا.
وشهوات الدنيا في القلب كشهوات الأطعمة في المدة، وسوف يجد الإنسان عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والفتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهت في المعدة غايتها، واستحالت إلى رجيع قذر.
ومَثَل اشتغال أهل الدنيا بنعيمها، وغفلتهم عن نعيم الآخرة، مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة في البحر، فأمرهم الملاَّح بالنزول لقضاء الحاجة، وحذرهم الإبطاء، وخوَّفهم ذهاب السفينة، فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة، فأخذ أوسع الأماكن وألينها، وأرفقها لمراده.
ووقف بعضهم في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وثمارها العجيبة، ويعجبه حسن أحجارها، وأصوات طيورها.
(14/19)
ثم حدثته نفسه بفوت السفينة، فأسرع فلم يجد فيها إلا مكاناً ضيقاً يجلس فيه.
وأكب بعضهم على تلك الأحجار الحسنة، والأزهار الجميلة، فحمل منها ما حمله، فلما جاء لم يجد في السفينة موضعاً فحمله على عنقه، وندم على أخذه، ثم ذبلت الأزهار، وتغيرت ريحها، وآذاه نتنها.
وهام بعضهم في تلك الفياض، ونسي السفينة، وأبعد في نزهته.
فهو تارة يشم الأزهار.. وتارة يأكل من الثمر.. وتارة يعجب من تغريد الطيور، وجريان الأنهار، وهو مع ذلك خائف من سبع يخرج، أو شوكة تدخل في قدميه، أو غصن يجرح بدنه ويخرق ثيابه.
فمن هؤلاء من لحق السفينة ولم يلق فيها موضع فمات على الساحل، ومنهم من شغله لهوه فافترسته السباع وهو غافل، ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك.
فهذا مثال أهل الدنيا، واشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم.
والعبد في هذه الدنيا مهاجر بعمله إلى ربه، والدنيا فانية زائلة، وهي كظل شجرة، والعبد فيها مسافر، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف استراح تحتها ثم راح وتركها، فلا يحسن به أن يبني تحتها داراً، ولا يتخذها قراراً، بل يستظل بقدر الحاجة ثم يواصل السير، كما قال صلى الله عليه وسلم : «مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» أخرجه الترمذي وابن ماجه صلى الله عليه وسلم (1).
والدنيا وما فيها من النعيم بالنسبة إلى الآخرة ونعيمها كالقطرة بالنسبة إلى البحر، وما في الدنيا من الأموال والأشياء لا يساوي شيئاً بالنسبة لما في الآخرة.
__________
(1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2377)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1931).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4109)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (2317).
(14/20)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَا? مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ صلى الله عليه وسلم وَأشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ) فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
ومهما كان في الدنيا من النعيم فبقاؤها محدود، وبهجتها قليلة، وهي سريعة الزوال كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [الحديد: 20].
لذا أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالمسابقة إلى الآخرة، والمسارعة إلى أعمالها كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [الحديد: 21].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [آل عمران: 133].
وكل إنسان في هذه الدنيا في إحدى منزلتين:
إما في منزلة الإيمان والتقوى والإصلاح وعمارة الآخرة بالأعمال الصالحة.
وأما في منزلة الكفر والفساد، والأكل والشره، وعمارة الدنيا الفانية.
فالإنسان إن لم تجده يعمل في هذه.. فتجده يعمل في الأخرى، وبين الرجلين في العمل كما بين الكوكب الغارب في الأفق والطامع منه.. وبين ذلك منازل متفاوتة.
والدنيا كالبحر الذي لا بدَّ للخلق كلهم من ركوبه ليقطعوه إلى الساحل الذي فيه دورهم وأوطانهم، ولا يمكن قطعه إلا في سفينة النجاة، وسفينة النجاة طاعة الله ورسوله.
وقد أرسل الله الرسل لتعرف الأمم اتخاذ سفن النجاة، وتأمرهم بعملها وركوبها، فنهض الموفقون وركبوا السفينة فوصلوا إلى محبوبهم ومرادهم.
وأما الحمقى من الناس فاستصعبوا عمل السفينة وركوبها، وقالوا نخوض البحر فإذا عجزنا قطعناه سباحة، وهم أكثر أهل الدنيا الذين خاضوا البحر، فلما عجزوا أخذوا في السباحة حتى أدركهم الغرق، وصار حظهم شقاء الأبد.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2858).
(14/21)
فهؤلاء الذين يعرضون على النار ويوبخون هناك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحقاف: 20].
فمن اطمأن إلى الدنيا.. واغتر بلذاتها.. ورضي بشهواتها.. وألهته طيباتها عن السعي للآخرة.. وتمتَّع بها تمتُّع الأنعام السارحة.. فهي حظه من الآخرة.. وسينال على ذلك أشد العقوبة لتكبره عن الحق.. وقول الباطل.. والعمل بالباطل.. والكذب على الله.
والدنيا متاع الغرور.. كم قتلت؟.. كم أهلكت من البشر؟.
ومثل الدنيا كمثل حب قد نثر على وجه الأرض، وجعلت كل حبة في فخ، وجعل حول ذلك الحب حب منثور، فجاءت إليه الطيور:
فمنها من قنع بالجوانب، ولم يرم نفسه في وسط الحب، فأخذ حاجته ومضى وسلم.
ومنها من حمله الشره على اقتحام معظم الحب ووسط الحب فوقع في الفخ، وقد انهمك كثير من الناس في الدنيا، وصاروا يقصدونها ويتهافتون فيها تهافت الفراش في النار لما يرى من ضوئها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمََا مَثَلِي وَمَثَلُ أمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ، فَأنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وكل أحد في هذه الدنيا ضيف، وماله عارية، فالضيف مرتحل، والعارية مؤداة.
والدنيا كمثل رجل هيأ داراً وزينها، ووضع فيها من جميع الآلات، ودعا الناس إليها، فكلما دخل ضيف أجلسه على فراش وثير، ووضع بين يديه أواني فاخرة، فيها من كل ما يحتاج إليه من الطعام والشراب، وأخدمه عبيده ومماليكه.
فعرف العاقل أن ذلك كله متاع صاحب الدار وملكه وعبيده، فاستمتع بتلك الآلات والضيافة مدة مقامه في هذه الدار، ولم يعلق قلبه بها، ولم يحدث نفسه بتملكها، بل اعتمد مع صاحب الدار ما يعتمده الضيف.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3426)، ومسلم برقم (2284) واللفظ له.
(14/22)
يجلس حيث أجلسه، ويأكل ما قدم له، ولا يسأل عما وراء ذلك؛ اكتفاء منه بعلم صاحب الدار وكرمه، وما يفعله مع ضيوفه، فدخل كريماً، وتمتع كريماً، وفارقها كريماً، ورب الدار غير ذام له.
وأما الأحمق فحدث نفسه بسكنى الدار، وحوز تلك الآلات إلى ملكه، وتصرف فيها بحسب شهوته وإرادته، فتخير المجلس لنفسه، وجعل يبدل وينقل الآلات، ويغير ما شاء، وكلما قدَّم إليه صاحب الدار شيئاً حدث نفسه بملكه، واختصاصه به دون غيره.
ورب الدار يشاهد ما يصنع، وكرمه يمنعه من إخراجه من داره، حتى إذا ظن أنه قد استبد بتلك الآلات، ومَلَك الدار، وتصرف فيها تصرف المالك الحقيقي، واستوطنها واتخذها داراً له، أرسل إليه مالكها عبيده.. فأخرجوه منها إخراجاً عنيفاً، وسلبوه كل ما هو فيه، ولم يصحبه من تلك الآلات شيء.
وحصل على مقت رب الدار، وافتضاحه عنده، وبين مماليكه وحشمه وخدمه، فيا لها من عبرة لمن كان له عقل يعقل به: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ?) [ق: 37].
ومثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً، فلا يزال يشرب حتى يقتله الماء المالح.
والدنيا كالظل للإنسان، لا يمكن أن يدركه ولو مشى الدهر كله.
والله عزَّ وجلَّ خلق الدنيا ليبتلي بها العباد، ولينظر من يركن إليها فتقتله، ومن يطيع الله ويتبع هداه فيسعد في الدنيا والآخرة.
ومَثَل ذلك كمثل ملك بنى داراً لم ير الناس ولم يسمعوا بمثلها، فلا أحسن ولا أوسع ولا أجمع لكل ملاذ النفوس منها، ونصب إليها طريقاً، وبعث داعياً يدعو الناس إليها، وأقعد على الطريق امرأة جميلة قد زُينت بأنواع الزينة، وأُلبست أنواع الحلل والحلى تشويقاً للناس إليها، وجُعل لها أعواناً وخدماً، وجُعل تحت يدها ويد أعوانها زاداً للمارين السائرين إلى الملك في تلك الطريق، وقال لها ولأعوانها: من غض طرفه عنك، ولم يشتغل بك عني، وابتغى منك زاداً يوصله إليّ فاخدميه وزوديه، ولا تعوقيه عن سفره إلي.
(14/23)
ومن مد إليك عينه، ورضي بك، وآثرك عليّ، فسوميه سوء العذاب، وأوليه غاية الهوان، واستخدميه واجعليه يركض خلفك ركض الوحش.
ومن يأكل منك فاخدعيه به قليلاً ثم استرديه منه، واسلبيه إياه كله، وسلطي عليه أتباعك وخدمك، وكلما بالغ في محبتك وتعظيمك وإكرامك فقابليه بضد ذلك حتى تتقطع نفسه عليك حسرات.
وإنما الدنيا كحوض كبير مُليء ماء، وجُعل مورداً للأنام والأنعام، فجعل الحوض ينقص على كثرة الوارد، حتى لم يبق منه إلا كدر في أسفله، قد بالت فيه الدواب، وخاضته الناس والأنعام، فما أسرع زوالها، ألا وإن الدنيا قد آذنَتْ ِبصَرْم، وَوَلّتْ حَذّاء، ولم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء.
وإذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يحمي الإنسان مريضه من الطعام والشراب، ومن أهان الدنيا كرمت عليه الآخرة، ومن أكرم الدنيا وأهلها هانت عليه الآخرة وأعمالها.
وحب الدنيا أصل كل خطيئة، والنساء حبائل الشيطان، والخمر جماع كل شر، والمال فيه داء كثير، إن سلم صاحبه من الفخر والخيلاء والطغيان، لم يسلم من أن يشغله إصلاحه عن ذكر الله عزَّ وجلَّ وأداء حقوقه.
وكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا، فجميع الأمم المكذبة للرسل والأنبياء.. إنما حملهم على كفرهم، وتسبب في هلاكهم حب الدنيا.
فإن الرسل لما دعوهم إلى الإيمان، ونهوهم عن الشرك والمعاصي التي كانوا يكسبون بها الدنيا، حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم.
وحب الدنيا يوقع العبد في الشبهات.. ثم في المكروهات.. ثم في المحرمات.. وطالما أوقع في الكفر والهلاك.
(14/24)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أبْشِرُوا وَأمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَا? لا الْفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أخَشَى عَلَيْكُمْ أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وخطيئة آدم صلى الله عليه وسلم إنما كان سببها حب الخلود في الدنيا، وذنب إبليس سببه الكبر وحب الرئاسة التي محبتها شر من محبة الدنيا وشهواتها، وبسببها كفر فرعون وهامان وجنودهما، وأبو جهل وقومه، واليهود وغيرهم.
والزهد في الدنيا والرئاسة هو الذي عمر الجنة بأهلها.
وحب الدنيا والرئاسة هو الذي عمر النار بأهلها.
فالدنيا خمر الشيطان، والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير.
وصاحب هذا السكر لا يفيق منه إلا في ظلمة اللحد.
وأقل ما في حب الدنيا أنه يلهي عن ذكر الله وطاعته، ومن ألهاه ماله عن ذكر الله فهو من الخاسرين، وإذا لهى القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان، فأزعجه إلى كل معصية، وصرفه حيث أراد.
والزهد في الدنيا ليس بتحريم الحلال ولا إضاعته، ولكن الزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليدين منها.
والرغبة في الدنيا أصل المعاصي الظاهرة والمعاصي الباطنة.
فهي أصل معاصي القلب من الحسد والكبر، والفخر والخيلاء، والتسخط والتكاثر، فهذا كله من امتلاء القلب بحبها لا من كونها في اليد.
وامتلاء القلب بها ينافي الشكر لله، ورأس الشكر تفريغ القلب لله منها ومن غيرها.
فسبحان الغفور الشكور، يطاع فيشكر، وطاعته من توفيقه وفضله، ويُعصى فيحلم، ومعصية العبد من ظلمه وجهله، يتوب إليه فاعل القبيح فيغفر له، حتى كأنه لم يكن قط من أهله.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3158) واللفظ له، ومسلم برقم (2961).
(14/25)
السعادة كلها في طاعته، والأرباح كلها في معاملته، والمحن والبلايا كلها في معصيته ومخالفته، فليس للعبد أنفع من شكره، والتوبة إليه.
فله الحمد على ما أعطى وما منع، وله الحمد على كل حال: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [فاطر: 34].
والدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان، وفيها حظ له، وهي الأرض وما عليها، فإن الأرض مسكن الآدمي، وما عليها مطعم ومشرب وملبس ومنكح ومركب، وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله تبارك وتعالى، فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح.
وقد وضع الله في الطباع تَوَقان النفس إلى ما يُصلحها.
فمن تناول منهما ما يصلحه على الوجه المأمور شرعاً يمدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنفه الشره وقع في الذم.
فليس للشره في تناول الدنيا وجه؛ لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل العبد عن طلب الأخرى، فيفوت المقصود.
ولا وجه كذلك للتقصير في تناول الحاجة؛ لأن الناقة لا تقوى على السير إلا بتناول ما يصلحها.
فالطريق السليم هي الوسطى، وهي أن يؤخذ من الدنيا ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك وإن كان مشتهى، فإن إعطاء النفس ما تشتهي عون لها، وقضاء لحقها، فهذا مما ينشطها للخير فلا يمنعها منه.
وإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم، والزهد فيه يكون، ومن ركن إلى الدنيا وأحرقته بنارها، فصار رماداً تذروه الرياح، والعاقل يرى أن نقصان بدنه ودنياه، ولذته وجاهه ورئاسته، إن زاد في حصول ذلك، وتوفيره عليه في معاده، كان رحمة به وخيراً له، وإلا كان حرماناً وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنة، أو ترك واجب ظاهر أو باطن.
فحرمان خير الدنيا والآخرة مرتب على هذه الأربعة.
وإذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله سبحانه حوائجه كلها.. وحمل عنه كل ما أهمه.. وفرّغ قلبه لمحبته.. واستعمل لسانه لذكره.. واستخدم جوارحه لطاعته.. وعمر أوقاته بامتثال أوامره.
(14/26)
وإن أصبح وأمسى والدنيا همه.. حمّله الله همومها وغمومها.. ووكله إلى نفسه.. فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق.. ولسانه عن ذكره بذكرهم.. وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وقضاء أشغالهم.. فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره.
والحياة الدنيا لعب ولهو حين تعاش لذاتها مقطوعة عن منهج الله فيها، والذي يجعلها مزرعة للآخرة، فالإيمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يخرجها عن أن تكون لعباً ولهواً، ويطبعها بطابع الجد، ويرفعها عن مستوى المتاع الحيواني إلى مستوى الخلافة الراشدة المتصلة بالملأ الأعلى كما قال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [محمد: 36].
والذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعاً إلى زمانها الذي هو الليل والنهار، المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله جعلهما خِلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكوراً كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الفرقان: 62].
وليس الذم راجعاً إلى مكان الدنيا، الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهاداً وسكناً ومعاشاً وفراشاً.
وليس الذم راجعاً إلى ما أودع الله فيها من الجبال والبحار، والزروع والأشجار، والمعادن والبهائم، فهذه كلها خلقها الله لمنافع العباد.
وليس الذم راجعاً إلى ما في الدنيا من تغير الأحوال من حر وبرد، وصيف وشتاء، وليل ونهار، ونور وظلام.
فذلك كله نعمة من نعم الله على عباده، ينتفعون به، ويعتبرون به، ويستدلون به على وحدانية الله وقدرته.
وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة على غير منهج الله ورسوله من كفر وشرك، وبدع وضلال، وسرقة وظلم، وقتل وفساد ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا رسوله.
فالدنيا لها حالتان:
تارة تكون فتنة تلهي صاحبها عن الله والدار الآخرة فهي مذمومة.
وتارة تكون زاداً إلى الآخرة، وعوناً للإنسان للاستقامة على الدين، فهي بهذا نعمة محمودة، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.
(14/27)
والإنسان محتاج إلى الدنيا فهي مطية الآخرة، ومحتاج إلى الدين لتكون حياته طيبة، وكما يحتاج الإنسان إلى ركوب السفينة حينما يدخل البحر، فيركب مدة يسيرة لينجو من الأمواج ثم يصل إلى الساحل.
وهكذا المسلم يحتاج إلى الدين ما دام حياً، فيؤمن بالله، ويمتثل أوامره مدة يسيرة لينجو من الغرق في بحر الكفر والشهوات، والشبهات والكبائر، والمحرمات والمكروهات، ويستمر على ذلك حتى يصل إلى الآخرة بسلام.
فبقاء الإنسان في الحياة بسيط، كأنه راكب سفينة من الساحل إلى الساحل الآخر، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [الأعراف: 24].
والله حكيم عليم خلق الدنيا.. وزيَّنها.. وأسكننا فيها.. وحذرنا منها، وخلق الآخرة.. وزينها بكل شيء.. ودعانا إليها.. ورغَّبنا فيها كما قال سبحانه: ( ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 77].
فالدنيا وقتها قصير، وأمرها حقير، وكبيرها صغير، وغاية أمرها يعود إلى الرياسة والمال.
وغاية ذي الرياسة أن يكون كفرعون الذي أغرقه الله في اليم انتقاماً منه.
وغاية ذي المال أن يكون كقارون الذي خسف الله به الأرض لما آذى نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم ، وجحد فضل مَنْ رزقه.
ولو أن الدنيا وما فيها ألقيت في مُلْك واحد من أهل الجنة لا تساوي حلقة ترمى في ميدان كبير، ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
ومن الحمق أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معاً، وإلى ثواب الدنيا وثواب الآخرة معاً، ثم يكتفي بطلب الدنيا، ويضع فيها همه، ويعيش كالحيوانات والدواب والشياطين.
بينما هو يملك أن يعيش كالإنسان، قدم يدب على الأرض، وروح ترفّ في السماء، وكيان يتحرك وفق أمر الله في هذه الأرض: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 134].
(14/28)
وقد نهى الله عزَّ وجلَّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يمد عينيه إلى ما متع به أهل الدنيا فيها؛ فتنة لهم واختباراً، وأخبره أن رزقه الذي أُعد له في الآخرة خير وأبقى من هذا الذي مُتعوا به فقال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [طه: 131].
وأخبر سبحانه أنه آتى رسوله صلى الله عليه وسلم السبع المثاني والقرآن العظيم، وذلك خير وأفضل مما متع به أهل الدنيا في دنياهم كما قال سبحانه( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 87-88].
وبناء الدنيا بالأموال والأشياء.. وبناء الآخرة بالإيمان والأعمال الصالحة.. ونعمت الدنيا التي تعين على طاعة الله.. ويعف بها الإنسان نفسه عن غيره.. ويواسي بها إخوانه المحتاجين.
وحب الدنيا رأس الخطايا ومفسد للدين من وجوه:
أحدها: أن الله لعنها وأبغضها ومقتها إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض لغضبه ومقته ولعنته.
والثاني: أن حب الدنيا يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقّر الله.
الثالث: أن العبد إذا أحب الدنيا صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال والطاقات التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة.
فهذا عَكَس الأمر، وقَلَب الحكمة، وتردى في السفول، وهذا الذي قال الله عنه( ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [هود: 15-16].
والدنيا في الحقيقة لا تذم لذاتها، وإنما يتوجه الذم إلى فعل العبد فيها، وهي قنطرة أو معبر إلى الجنة أو إلى النار.
ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة، والإعراض عن الله والدار الآخرة، فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها، وهو الغالب على اسمها، صار لها اسم الذم عند الإطلاق.
وإلا فالدنيا مبنى الآخرة ومزرعتها.. ومنها زاد الجنة.. وفيها اكتسبت النفوس الإيمان ومعرفة الله.. ومحبة الله وذكره وابتغاء مرضاته.
(14/29)
وخير عيش يناله أهل الجنة في الجنة إنما كان بما زرعوه فيها.. وفيها مساجد أنبياء الله.. ومهبط وحيه.. وبيوت عبادته.. ومصلى ملائكته.. ومتجر أوليائه.. وفيها اكتسبوا رحمة الله.. وربحوا فيها العافية.. وفيها قرة العيون، وسرور القلوب، وبهجة النفوس، ولذة الأرواح بذكر الله ومعرفته، وعبادته ومحبته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والأنس به، ولذة مناجاته، والإقبال عليه.. وفيها كلام الله ووحيه وهداه.
فالإيمان بالله، والطاعة لله ورسوله، وعبادة الله وحده لا شريك له، أفضل ما في هذه الدار، ودخول الجنة، والنظر إلى وجه الله جل جلاله، وسماع كلامه، والفوز برضاه، أفضل ما في الآخرة.
ففي الدنيا أفضل الأسباب، وفي الآخرة أفضل الغايات.
فهذا أفضل ما في هذه الدار.. وهذا أفضل ما في الدار الآخرة.
وقد بين الله عزَّ وجلَّ أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، وأن الباقيات الصالحات وهي الأقوال والأعمال الصالحة التي يبقى ثوابها.. ويدوم جزاؤها.. خير ما يؤمله العبد ويرجو ثوابه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 46].
وحذر الله عزَّ وجلَّ عباده أن تلهيهم أموالهم وأولادهم عن ذكره، وأخبر أن من فعل ذلك فهو الخاسر حقيقة، لا من قَلَّ ماله وولده في الدنيا كما قال سبحانه: ( ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [المنافقون: 9].
فالأموال والأولاد وإن كانت نعمة من الله فهي فتنة كذلك، لا تقرب الخلق إلى الله، وإنما يقربهم إليه تقوى الله وطاعته كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 37].
ولما كانت تلك أحوال الدنيا الفانية.. وتلك أحوال الدار الآخرة الباقية، فقد حذر الله عباده من آفات هذه الدار الدنيا بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 24].
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.
(14/30)
اللهم ر بنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا.. ولا مبلغ علمنا.. ولا إلى النار مصيرنا.. واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا.
4- فقه الحياة العالية
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الأنعام: 122].
وقال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 97].
الوحي حياة الروح، كما أن الروح حياة البدن كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ?) [الشورى: 52].
وسمي الوحي روحاً: لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح بالإيمان والعلم والهدى، وهي روح معرفة الله سبحانه وتوحيده ومحبته، وعبادته وحده لا شريك له،
ومن فقد هذه الروح فَقَدْ فَقَدَ الحياة النافعة في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فحياته حياة البهائم، وله المعيشة الضنك، وأما في الآخرة فله جهنم لا يموت فيها ولا يحيا.
ولكل عبد روحان:
روح يحيي بها الله قلب من شاء من عباده.. وروح يحيا بها البدن.. وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته.
قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 97].
فالحياة الطيبة حياة القلب ونعيمه.. وبهجته وسروره بالإيمان بالله ومعرفته ومحبته.. والإنابة إليه.. والتوكل عليه.
فلا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة.
وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح، فإنه ملكها، وهي منقادة له.
والحياة الطيبة تكون في الدور الثلاث:
في دار الدنيا.. ودار البرزخ.. ودار القرار في الجنة.
والمعيشة الضنك تكون كذلك في الدور الثلاث:
في دار الدنيا.. ودار البرزخ.. ودار القرار في النار.
(14/31)
فكل من جمع بين الإيمان والعمل الصالح أحياه الله حياة طيبة في الدنيا بطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، ورَزَقه رزقاً طيباً من حيث لا يحتسب، وجزاه في الآخرة بالجنة وما فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر( ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [السجدة: 17].
فيؤتيه الله بفضله ومنِّه في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة.
والحياة ضد الموت، ومراتب الحياة عشر:
الأولى: حياة الأرض بالنبات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 65].
الثانية: حياة النمو والاغتذاء، وهذه الحياة مشتركة بين النبات والحيوان الذي يعيش بالغذاء كما قال سبحانه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأنبياء: 30].
الثالثة: حياة الحيوان المغتذي بقدر زائد على نموه واغتذائه، وهي إحساسه وحركته، وهذه الحياة فوق حياة النبات، وهي متفاوتة، وتقوى وتضعف في الحيوان الواحد بحسب أحواله.
الرابعة: حياة الحيوان الذي لا يغتذي بالطعام والشراب كحياة الملائكة، وحياة الأرواح بعد مفارقتها لأبدانها، فإن حياتها أكمل من حياة الحيوان المغتذي.
ولهذا لا يلحقها كلال، ولا فتور، ولا نوم، ولا إعياء كما قال سبحانه عن الملائكة: (? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 20].
الخامسة: حياة العلم من موت الجهل:
فالجهل موت لأصحابه، والجاهل ميت القلب والروح وإن كان حي البدن، فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض.
وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة وملزومهما، فهذه القلوب لما لم تحس بالعلم والإيمان ولم تتحرك له كانت ميتة حقيقة.
السادسة: حياة الإرادة والهمة:
فضعف الإرادة والطلب من ضعف حياة القلب، وكلما كان القلب أتم حياة كانت همته أعلى، وإرادته ومحبته أقوى.
وأخس الناس حياة أخسهم همة، وأضعفهم محبة وطلباً، وحياة البهائم خير من حياته.
وحياة القلب: بدوام الذكر لله، وترك الذنوب.
(14/32)
فكما جعل الله حياة البدن بالطعام الطيب، وتجنب الخبيث، جعل حياة القلب بدوام ذكر الله والإنابة إليه، وترك الذنوب والمعاصيِ.
والغفلة الجاثمة على القلب، والتعلق بالرذائل والشهوات، يضعف هذه الحياة، ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت.
وعلامة موت القلب: إذا كان لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، ولا يرغب في الطاعات، ولا يبالي بالمحرمات.
والمؤمن حقاً: هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه، فأكثر الخلق يخافون موت أبدانهم ولا يبالون بموت قلوبهم، ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعية، وذلك من موت القلب والروح.
وإذا مات المؤمن موته الطبيعي كانت بعده حياة روحه بتلك العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والأحوال الفاضلة التي حصلت به بعد موته.
السابعة: حياة الأخلاق العالية، والصفات المحمودة، التي هي حياة راسخة للموصوف بها.
فحياة مَنن قد طُبع على الحياء والعفة، والجود والسخاء، والمروءة والوفاء ونحوها، أتم من حياة من يقهر نفسه ويغالب طبعه حتى يكون كذلك.
وكلما كانت هذه الأخلاق في صاحبها أكمل كانت حياته أقوى وأتم.
والحياء مشتق من الحياة، وأكمل الناس حياة أكملهم حياء، فإن الروح إذا ماتت لم تحس بما يؤلمها من القبائح فلا تستحي منها.
وكذلك سائر الأخلاق الفاضلة تابعة لقوة الحياة، وضدها من نقصان الحياة.
لذلك كانت حياة الشجاع أكمل من حياة الجبان، وحياة السخي أكمل من حياة البخيل، وحياة الذكي الفطن أكمل من حياة البليد.
ولهذا كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أكمل الناس حياة، حتى إن قوة حياتهم تمنع الأرض أن تبلي أجسامهم؛ لكمال أخلاقهم وتقواهم.
الثامنة: حياة الفرح والسرور وقرة العين بالله:
وحول هذه الحياة يدندن الناس كلهم، وأكثرهم قد أخطأ طريقها، وسلك طرقاً لا تفضي إليها، بل تقطعه عنها إلا أقل القليل.
وحرمها أكثرهم، وسبب حرمانهم إياها ضعف العقل والبصيرة.
(14/33)
وهذه المرتبة أعلى مراتب الحياة، ولكن كيف يصل إليها من عقله سُببي في بلاد الشهوات، وأَمَله موقوف على اجتناء اللذات، وسيرته جارية على أسوإ العادات، ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات، وهمة المحب وطاعته تتكرر وتتزايد حتى تستقر، وينصبغ بها قلبه، وإذا تعلقت روحه بحبيبه عمل بما يحب، فهو يتقرب إلى ربه حفظاً لمحبته له، واستدعاء لمحبة ربه له.
فيتقرب إلى ربه بأنواع التقرب إليه:
فقلبه للمحبة، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، والتعظيم.
ولسانه للذكر والحمد وتلاوة كلام حبيبه، وجوارحه للطاعات، فهو لا يفتر عن التقرب من حبيبه.
فَيَشرع المحب أولاً في التقرب بالأعمال الصالحة الظاهرة.. ثم يترقى من ذلك إلى حال التقرب، وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته بروحه وعقله وبدنه.. ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان.. فيعبد الله كأنه يراه.. فيتقرب إليه حينئذ من باطنه بأعمال القلوب من المحبة والإنابة، والتعظيم والإجلال، والخوف والخشية، فينبعث حينئذ من باطنه الجود ببذل الروح، والجود في محبة حبيبه بلا تكلف، فإذا وجد المحب ذلك فقد ظفر بحال التقرب وسره وباطنه، وإن لم يجده فهو يتقرب بلسانه وبدنه وظاهره فقط.
ووراء هذا القُرْب قرب آخر، عبَّر عنه أقرب الخلق إلى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405)، ومسلم برقم (2675) واللفظ له.
(14/34)
وكلما ذاق العبد حقيقة التقرب انتقل إلى ما هو أعلى منه.
وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية ولا مماسة، بل هو قرب حقيقي، والرب تعالى فوق سماواته على عرشه، والعبد في الأرض.
وملاك هذا الأمر: التقرب والانبعاث بالكلية إلى الحبيب وما يحب، ولا يزال العبد رابحاً على ربه أفضل مما قدم له.
وهذا التقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة، ومن لم يظفر بهذه الحياة العالية فحياته كلها هموم وغموم، وآلام وحسرات، فإن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، فإن همته فيها لا ترضى بالدون، وإن كان مهيناً خسيساً فعيشه كعيش أخس الحيوانات.
التاسعة: حياة الأرواح بعد مفارقتها الأبدان:
وخلاصها من هذا السجن وضيقه، فإن من ورائه فضاءً وروحاً، وريحاناً وراحة، نسبة هذه الدار إليه كنسبة بطن الأم إلى هذه الدار أو أدنى من ذلك.
ويكفي في طيب هذه الحياة مرافقة الرفيق الأعلى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ومفارقة الرفيق المؤذي النكد، الذي تنغص رؤيته ومشاهدته الحياة فضلاً عن مخالطته وعشرته.
والنفس لإلفها هذا السجن الضيق النكد زماناً طويلاً تكره الانتقال منه إلى ذلك البلد، وتستوحش إذا استشعرت مفارقته.
ولعمر الله إن من سافر إلى بلد العدل والأمن والخصب والسرور صبر في طريقه على كل مشقة، ومن قدم على الملك وجاءه بما يحبه أكرمه، ومن جاءه بما يسخطه عاقبه عليه.
العاشرة: الحياة الدائمة الباقية بعد طي هذا العالم وذهاب أهلها إلى دار الحيوان:
وهي الحياة التي شمر إليها المشمرون، وسابق إليها المتسابقون، والتي يقول من فاته الاستعداد لها: (? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [الفجر: 24-26].
والحياة السابقة كالنوم بالنسبة لهذه الحياة.
(14/35)
وإذا كانت حياة أهل الإيمان والعمل الصالح في هذه الدار حياة طيبة.. فما الظن بحياتهم في البرزخ، وقد تخلصوا من سجن الدنيا وضيقها؟.. فما الظن بحياتهم في دار النعيم المقيم الذي لا يزول، وهم يرون وجه ربهم عزَّ وجلّ َكرة وعشياً، ويسمعون كلامه كما قال سبحانه: (پ ? ? ? ? ? ? ?) [القيامة: 22-23].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وسبب تخلف النفس عن طلب هذه الحياة الباقية، وتعلقها بالحياة الفانية أمور:
الأول: ضعف الإيمان بالله، وضعف اليقين على وعد الله ووعيده، فالإيمان هو روح الأعمال، وهو الباعث عليها، والآمر بأحسنها، والناهي عن أقبحها.
وعلى قدر قوة الإيمان يكون أمره ونهيه لصاحبه، وتكون طاعة صاحبه ومعصيته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 93].
الثاني: جثوم الغفلة على القلب:
فإن الغفلة نوم القلب، ولهذا نجد بعض الناس أيقاظاً في الحس، نياماً في الواقع، فتحسبهم أيقاظاً وهم رقود، ضد حال من يكون يقظان القلب وهو نائم.
فالقلب إذا قويت فيه الحياة لا ينام إذا نام البدن.
وكمال هذه الحياة كان لنبينا صلى الله عليه وسلم ، الذي تنام عيناه وقلبه يقظان، ولمن أحيا الله قلبه بمحبته واتباع رسالته.
فالغفلة واليقظة يكونان في الحس والعقل والقلب، فمستيقظ القلب وغافله كمستيقظ البدن ونائمه.
والمقصود أن الغفلة هي نوم القلب عن طلب هذه الحياة التي لا خطر لها، وهي حجاب عليه، فإن كشف هذا الحجاب بالذكر، والا تكاثف حتى يصير حجاب معاص وذنوب صغار تبعده عن الله.
فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب كبائر توجب مقت الرب تعالى له وغضبه ولعنته.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (554)، ومسلم برقم (633) واللفظ له.
(14/36)
فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب بدع عملية يعذب فيها نفسه، ثم بدع قولية اعتقادية تتضمن الكذب على الله ورسوله.
فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب شك وتكذيب يقدح في أصول الإيمان، ثم يتمكن منه الشيطان وبعده ويمنيه، وتستولي عليه النفس الأمارة بالسوء، ويظفر سلطان الطبع والشهوات بسلطان الإيمان والأعمال.
فلما تم أسره وسجنه، وتولى الشيطان تدبير المملكة، استخدم جند الشهوات وارسلها فيها يسخط الله، واتخذ حجاباً من الهوى.
فحينئذ أغلق باب اليقظة، وفتح باب الغفلة.
فإذا اجتمعت هذه العساكر على القلب من ضعف الإيمان، وقلة الأعوان، والإعراض عن ذكر الرحمن، مع طول الأمل المفسد للإنسان كيف تكون حاله؟
فلا بدَّ للعبد من المجاهدة والتضحية بما يملك لتحصيل الإيمان وتقويته، وتحسين الأعمال وتنويعها، فإذا اجتمع للعبد قوة الإيمان، وحسن الأعمال، فتلك الحياة العالية التي دعا إليها الرسل، وهي الموصلة برحمة الله إلى الحياة العليا في الجنة.
والحياة العالية لها علامات.. والحياة السافلة لها علامات.
والحياة العالية ثلاثة أنواع:
الحياة الأولى: حياة العلم من موت الجهل:
ولهذه الحياة ثلاثة أنفاس:
نَفَس الخوف.. ونَفَس الرجاء.. ونَفَس المحبة.
فنفس الخوف مصدره مطالعة الوعيد، ومطالعة ما أعد الله لمن آثر الدنيا على الآخرة، وآثر المخلوق على الخالق، وآثر الهوى على الهدى، وآثر الغي على الرشاد.
ونَفَس الرجاء مصدره مطالعة وعد الله، وحسن الظن بالرب تعالى، ومطالعة ما أعد الله لمن آثر الله ورسوله والدار الآخرة، وحكَّم الهدى على الهوى، والوحي على الآراء، والسنة على البدعة والعادة.
ونَفَس المحبة مصدره مطالعة الأسماء والصفات، ومشاهدة نعم الله وآلائه، وفضله وإحسانه.
فإذا ذكر العبد ذنوبه تنفس بالخوف.. وإذا ذكر رحمة ربه وسعة مغفرته وعفوه تنفس بالرجاء.. وإذا ذكر جماله وجلاله وكماله وإحسانه وإنعامه تنفس بالحب.
(14/37)
والإنسان بسبب الجهل يظن أن سعادته وقيمته بما في يده من الأموال والأشياء، والله عزَّ وجلَّ َبعث الأنبياء ليبينوا للناس أن السعادة بالإيمان والأعمال الصالحة.
فأسباب السعادة في الداخل.. وكذلك أسباب الخسران في الداخل.
وبصلاح القلوب تصلح الدنيا والآخرة، وبفساد القلوب تفسد الدنيا والآخرة، وإذا فسدت القلوب فسدت الأعمال، ثم كان الخسران.
وإذا صلحت القلوب صلحت الأعمال، ثم كان الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
وجميع الأنبياء بعثهم الله بالإيمان والأعمال الصالحة التي تحقق السعادة في الدنيا والآخرة لكل إنسان، ولكل مجتمع، ولكل أمة كما قال سبحانه(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [العصر: 1-3].
وعلاقة القلوب بالله نور وهداية وسعادة، وعلاقة القلوب بغير الله ظلمة وضلال وفساد.
وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة باستعمال القلب والبدن، وكل عضو من أعضاء الإنسان للدين، ويتعلم طريقة استعمالها من النبي صلى الله عليه وسلم الفكر واللسان، والسمع والبصر، واليد والرجل.. وهكذا.
الحياة الثانية: حياة جمع القلب على الله، والتوجه إليه سبحانه:
فالقلب لا سعادة له، ولا فلاح ولا نعيم، ولا فوز ولا لذة، ولا قرة عين إلا أن يكون الله وحده هو غاية طلبه، ونهاية قصده، ووجهه الأعلى هو كل بغيته.
ولهذه الحياة القلبية ثلاثة أنفاس:
فَس الاضطرار.. وَفَس الافتقار.. ونَفَس الافتخار.
فنفس الاضطرار يكون بانقطاع أمله مما سوى الله، فيضطر حينئذ بقلبه وروحه، ونفسه وبدنه إلى ربه ضرورة تامة.
فهذا النفَس نَفَس مضطر إلى ما لا غنى عنه طرفة عين.
وضرورته إليه من جهة كونه ربه وخالقه، وفاطره وهاديه، وناصره وحافظه، ورازقه ومعينه ومعافيه، والقائم بجميع مصالحه.
ومن جهة كونه معبوده وإلهه وحبيبه الذي لا تكمل حياته ولا تنفع إلا بأن يكون هو وحده أحب شيء إليه.
(14/38)
وأما نَفَس الافتقار: فهو من نوع َفَس الاضطرار، وكأن نَفَس الاضطرار يقطع الخلق من قلبه، ونَفَس الافتقار يعلق القلب بربه.
وأما نَفَس الافتخار: فهو نتيجة هذين النَّفَسَين؛ لأنهما إذا صحا للعبد حصل له القرب من ربه والأنس به، والفرح به، وبالخِلَع التي خلعها ربه على قلبه وروحه، مما لا يقوم لبعضه ممالك الدنيا بحذافيرها.
فحينئذ يتنفس نفساً آخر يجد به من اللذة والراحة والانشراح ما يشبه نَفَسَ من جُعل في عنقه حبل ليُخنق به حتى يموت، ثم كُشف عنه، فتنفسَ نَفَسَ من أُعيدت عليه حياته، وتخلص من أسباب الموت.
والعبودية تنافي الافتخار، لكن العبد هنا لا يفتخر بذلك، ويختال على بني جنسه، بل هو فرح وسرور لا يمكن دفعه عن نَفْسه بما فتح عليه ربه ومنحه إياه، وخصه به، وأولى ما فرح العبد به فضل ربه عليه، فإنه تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويحب الفرح بذلك؛ لأنه من الشكر: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [يونس: 58].
ومن لا يفرح بنعمة المنعم لا يعد شكوراً، فهو افتخار بما هو محض منَّة الله ونعمته على عبده، لا افتخار بما من العبد، فهذا هو الذي ينافي العبودية لا ذاك.
الحياة الثالثة: حياة الوجود:
وهي حياة بالحق، وهي حياة الواجد.
وحياة الواجد أكمل مما قبلها لشرفها وكمالها بموجدها وهو الحق سبحانه، فمن حبي بوجوده فقد فاز بأعلى أنواع الحياة.
(14/39)
وحقيقة الحياة: الحياة بالرب تعالى لا الحياة بالنفس وأسباب العيش كما قال سبحانه في الحديث الإلهي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنَا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (1).
وبهذا يشهد العبد تفرد الرب تعالى بالربوبية والإلهية، والتدبير والقيومية، فلا يثبت لسواه قسطاً في الربوبية، ولا يجعل لسواه حظاً في الإلهية ولا في القيومية.
بل يفرده سبحانه بكل ذلك، وهذا النَّفَس يورثه الاتصال بربه في كل وقت، بحيث لا يبقى له مراد غيره، ولا إرادة غير مراده الديني الذي يحبه ويرضاه.
والمال والبنون حرث الدنيا، والإيمان والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يعطى الإنسان أحدهما، وقد يُّحرم منهما، وقد يجمعهما الله لأقوام.
وأَشْكر العباد أحبهم إلى الله، وأقربهم إليه.
فأقرب العباد إلى الله الملائكة، وهم درجات، وما منهم أحد إلا له مقام معلوم، وعمل مرسوم، وأعظمهم وأشرفهم إسرافيل وجبريل وميكائيل.
وإنما علو درجتهم لأنهم في أنفسهم كرام بررة: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التحريم: 6].
وقد أصلح الله بهم الأنبياء والرسل والبلاد والعباد، وهم أشرف المخلوقات.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6502).
(14/40)
ويلي درجتهم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فهم أخيار، وقد هدى الله بهم سائر الخلق، وأعلاهم رتبة محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي أكمل الله به الدين، وختم به النبيين.
ويليهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، فهم صالحون في أنفسهم، وقد أصلح الله بهم سائر الخلق، ودرجة كل واحد منهم بقدر ما أصلح من نفسه وأصلح من غيره.
ثم يليهم الحكام الذين يحكمون بالعدل؛ لأنهم أصلحوا دنيا الخلق، كما أصلح العلماء دينهم.
ثم يلي العلماء والحكام، المؤمنون الصالحون الذين أصلحوا دينهم وأنفسهم فقط، فلم تتم حكمة الله بهم بل فيهم.
ومن عدا هؤلاء همج رعاع.
إن ثمرة جهد الإنسان على الأشياء يجعل لها قيمة، فالطائرة والسيارة وما فيهما من المنافع نتيجة جهد الإنسان على الحديد، وكل سلعة تزداد قيمتها بقدر ما فيها من الصفات.
وكذلك الإنسان كلما اجتهد على أوامر الله، وجاءت فيه الصفات، صارت له قيمة عند الله، وتعلو درجته عند الله بقدر ما يحمل من الإيمان والأعمال والصفات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 75-76].
وإذا أراد الإنسان أن يعرف قيمته عند الله فلينظر بماذا أقامه؟.
هل هو ممن يجمع الحسنات، وينوع الطاعات، ويحفظ الأوقات بذكر الله وعبادته؟.. أم هو مشغول عن ذكر الله وعبادته بجمع الأموال والحطام، والتمرغ في الشهوات، وإضاعة الأوقات فيما يغضب الله، فاللهم: (ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفاتحة: 6-7].
وبمقدار الإيمان والتقوى.. وبمقدار البذل والتضحية.. وبمقدار الأخلاق العالية.. تعلو قيمة الإنسان عند الله في الدنيا والآخرة..
(14/41)
والكافر لا قيمة له عند الله؛ لخلو قلبه من الإيمان، وقعوده عن العمل الصالح، وخلوه من الصفات الطيبة، فلا قيمة له في الآخرة، لكن في الدنيا يأخذ قيمة مزيفة مؤقتة بحسب ما عنده، والله عزَّ وجلَّ جعل الفوز والفلاح والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة بامتثال أوامر الله سبحانه على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم :
في العبادات.. والمعاملات.. والمعاشرات.. والأخلاق..
أما الأموال والأسباب فالله عزَّ وجلَّ يعطيها من يحب ومن لا يحب، ولكن لا يعطي الله الدين إلا من يحب.
والأنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أفلحوا في الدنيا والآخرة مع قلة الأسباب أو عدمها.
ونمرود وفرعون وقارون وأمثالهم خسروا في الدنيا والآخرة مع وجود الأسباب من الملك والمال وغيرها.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الإسراء: 20-21].
وقد خلق الله الإنسان للأبد، فهو إذاً خلق ليبقى أبد الآباد، ولكنه يمر بمراحل وأمكنة وأزمنة، ثم ينتهي بالخلود في الجنة أو النار، وهو في كل ذلك يستفيد من خزائن الله في الدنيا والآخرة.
أما بقية المخلوقات فيأتي عليها يوم يُقضى عليها فيه، ثم تنتهي إلا ما شاء الله بقاءه كالعرش والكرسي والجنة والنار ونحوها.
وكما خلق الله في الأرض الاستعداد لإنبات الزروع والأشجار، فكذلك خلق الله في الإنسان الاستعداد للعمل وإيصال المنافع إلى غيره.
وقد خلق الله الإنسان ليقوم ويتزين بالإيمان والأعمال الصالحة، ولم يخلقه ليستكثر من الأموال والأشياء، والشهوات.
فإنْ شَغَلَ الإنسان نفسه بهذه الأشياء عن المنعم الذي وهبه إياها فالله يسلطها عليه، ويجعلها سبباً في شقائه وهلاكه وخسارته في الدنيا والآخرة.
(14/42)
فالله عزَّ وجلَّ خلق الإنسان لمقصد عظيم وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وجعل ما في السموات وما في الأرض في خدمته؛ ليتمكن من أداء وظيفته، وجعل الدنيا له كالدابة؛ إن ركبها حملته إلى الآخرة، وإن حملها قتلته وعذبته.
وقد خلق الله كل شيء لحكمة ومقصد، فالطعام للأكل، والماء للشرب والهواء للتنفس، والحديد لمنافع الإنسان، وكذلك خلق الله الإنسان لحكمة ومقصد وهو عبادة الله وحده لا شريك له.
ومن اجتهد على شيء ظهرت نتيجته، فمن اجتهد على الحديد أخرج منه السيارات وسائر الأواني والمنافع.
وكذلك الإنسان إذا اجتهدنا عليه بالدعوة ظهر فيه بإذن الله الإيمان والأعمال الصالحة، والصفات العالية، وظهر فيه من المنافع له ولغيره ما لا يحصيه إلا الله في العبادة والدعوة والتعليم، وحسن المعاملات والأخلاق (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [البقرة: 138].
والحياة النافعة إنما تحصل للعبد بالاستجابة لله وللرسول كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 24].
فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات.
وأكمل الناس حياة أكملهم استجابة لله ورسوله، فكل ما جاء عن الله ورسوله هو الحياة، ومن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب استجابته، والحياة الطيبة في الجنة مبنية على كمال الحياة الطيبة في الدنيا.
والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة:
الأولى: حياة بدنه التي يدرك بها النافع والضار، ويؤثر ما ينفعه على ما يضره، ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك.
الثانية: حياة روحه وقلبه التي يميز بها بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهدى والضلال.
فيختار الحق على ضده، والهدى على الضلال.
وتفيد هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار، وقوة الإيمان، وقوة الحب للحق، وقوة الكراهة للباطل.
(14/43)
وكما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك من روحه، فيصير حياً بذلك النفخ، فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقي إليه وهو الوحي كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ?) [الشورى: 52].
فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول الملكي، والرسول البشري، فمن أصابه نفخ الرسول الملكي، ونفخ الرسول البشري، حصلت له الحياتان، وجمع الله له بين الحياة والنور.
ومن حصل له نفخ المَلَك دون نفخ الرسول، حصلت له إحدى الحياتين وفاتته الأخرى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الأنعام: 122].
وقد جعل الله عزَّ وجلَّ لكل إنسان حياتين:
حياة تبدأ من بطن أمه وتنتهي بالموت.. وحياة تبدأ بعد الموت عند البعث إلى حياة لا نهاية لها، المؤمن في الجنة، والكافر في النار.
وأعلى أنواع الحياة حياة الأنبياء والمرسلين، والتي هي خالصة لامتثال أوامر الله وطاعته وعبادته، والدعوة إليه، وكمال التوكل عليه، ثم يليهم أتباعهم وورثتهم ممن سار على هديهم واقتفى أثرهم.
فالقلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رئاسة أو صورة، وتعلق بالآخرة والاهتمام بها من تحصيل العدة، والتأهب للقدوم على الله عزَّ وجلَّ، فذلك أول فتوحه وتباشير أنواره.
فعند هذا يتحرك قلب المؤمن لمعرفة ما يحبه الله ويرضاه فيفعله ويتقرب به إليه، وما يسخطه منه فيجتنبه، وهذا عنوان صدق إرادته، فكل من أيقن بلقاء الله وأنه سائله لا بدَّ أن يتنبه لطلب معرفة معبوده والطريق الموصل إليه.
فإذا تمكن العبد في ذلك فتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة، فذلك يجمع عليه قوى قلبه وإرادته، وتُسد عليه الأبواب التي تفرق همه، فيأنس بها ويستوحش من الخلق.
(14/44)
ثم يفتح له باب حلاوة العبادة، فلا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب ونيل الشهوات، فإذا أدخل في الصلاة ودَّ أن لا يخرج منها.
ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه، وإذا سمعه هدأ قلبه كما يهدأ الصبي إذا أعطي الحلوى.
ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به، وعظمة جلاله وكماله وصفاته بحيث ينسيه ذلك كل ما سواه.
ثم يفتح له باب الحياء من الله، وهو أول مشاهد المعرفة، وهو نور يقذفه الله في القلب يريه ذلك النور أنه واقف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، فيستحي منه في جميع أحواله، ويُرزق عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى الملك العلي الأعلى كأنه يراه ويشاهده فوق سماواته، مستوياً على عرشه، ناظراً إلى خلقه، سامعاً لأصواتهم، فعند ذلك تزول عنه هموم الدنيا وما فيها، فهو في وجود والناس في وجود آخر، هو في وجود بين يدي ربه ووليه، ناظر إليه بقلبه، والناس في حجاب عالم الشهادة في الدنيا.
ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية، فيرى تصريف وتدبير جميع الكائنات والمخلوقات بيده سبحانه، فإن استمر على حاله واقفاً بباب مولاه، لا يلتفت عنه إلى غيره، وأنه لم يصل بعد، رُجي أن يفتح له فتح آخر هو فوق ما كان فيه.
ثم يبقى له وجود قلبي روحاني ملكي، فيبقى قلبه سابحاً في بحر من أنوار آثار الجلال، فتنبع الأنوار من باطنه كما ينبع الماء من العين، ويجد قلبه عالياً صاعداً إلى من ليس فوقه شيء، الذي هو مراد المؤمن وغاية مطلبه كما قال سبحانه(? ? ? ? ?) [النجم: 42].
فهذا لُباب التعبد، وهو سفر الآخرة الذي يقطع بالقلوب كما أن سفر الدنيا يُقطع بالأقدام.
(14/45)
ثم يرقيه الله سبحانه فيشهده أنوار الإكرام بعد ما شهد أنوار الجلال، فيستغرق في نور من أنوار أشعة الجمال، وفي هذا المشهد يذوق المحبة الخاصة الملهبة للقلوب والأرواح، فيبقى القلب مأسوراً في يد حبيبه ووليه المحسن إليه.
فهذا المحب قد ترقى في درجات المحبة على أهل المقامات، ينظرون إليه في الجنة كما ينظرون إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق، لعلو درجته، وقرب منزلته من ربه، فالمرء مع من أحب، ولكل عمل جزاء، وجزاء المحبة المحبة والقرب، فيا سعادة صاحب هذا القلب، ويا له من قلب مستغرق بما ظهر له من أشعة أنوار الجمال، وعظمة الجلال والكبرياء للواحد الأحد، والناس مفتونون ممتحنون بما يزول ويفني من الأموال والصور والرياسة، معذبون بذلك قبل حصوله، وحال حصوله، وبعد حصوله.
وأعلاهم مرتبة من يكون مفتوناً بالحور العين، أو عاملاً على تمتعه في الجنة بالأكل والشرب، والنكاح واللباس.
ومتى نصل نحن إلى هذه المرتبة العالية؟
إن التعلق بالحور العين وما في الجنة من نعيم بالنسبة للموثق بالسفليات درجة رفيعة، وإذا كانت الفتنة بالحور العين قاطعة عن المراد المحبوب لذاته وهو الله، فكيف تكون حالنا وقد قَدَّمنا محبوبات الدنيا على أوامر الله عزَّ وجلَّ؟.
وقد سأل موسى صلى الله عليه وسلم ربه عن أعلى أهل الجنة منزلة فقال: «أولَئِكَ الَّذِينَ أرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» قال: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ ا? عَزَّ وَجَلَّ(? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [السجدة:17] » أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (189).
(14/46)
وهل تليق هذه المنزلة العظيمة إلا بمن قَدَّم حب الله تعالى والشوق إليه على حب ما سواه، علماً بأن مَنْ نال مِنَ الله تعالى هذه المنزلة نال لا شك أعلى النعيم المخلوق من الحور والقصور وغيرها مما في الجنة.
فهذا العبد قد جرَّد المحبة لله وإن كان يريد من ربه خير الدنيا والآخرة، فهذه إرادة خالصة جذبت قلبه إلى ربه جملة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 28].
فهذه حقيقة التوحيد والإخلاص: انجذاب القلب إلى الله تعالى بالكلية.
وهذا العبد لا يزال ربه يرقيه طبقاً بعد طبق، ومنزلاً بعد منزل إلى أن يوصله إليه، ويمكن له بين يديه، أو يموت في الطريق فيقع أجره على الله.
فالسعيد كل السعادة من أقبل على ربه، ولم يلتفت إلى ما سواه، فالأنس به سبحانه أعلى من كل ما يرجوه العابد من نعيم الجنة، والعبد يُّحجب عن الله بقدر إرادته لغيره، وليس معنى هذا أن الإنسان لا يريد من الله، أو يحتقر ما عظمه الله من نعيم الجنة كالحور، والمآكل والمساكن وغيرها، وإنما المقصود أن لا يحتجب العبد عن إرادة ربه لذاته، ولو لم يكن هناك جنة ولا نار.
ولو لم يوجب محبة الله عزَّ وجلَّ إلا أنه خالق العبد ومالكه وسيده، فضلاً عن عظمة أسمائه وصفاته وجماله وجلاله.
والقلوب مفطورة على حب الصور الجميلة، لكن المسلم مأمور ومتعبد بغض بصره؛ لئلا تنتقش الصور في قلبه فيعكف عليها محبة تصرف قلبه عما خُلق له من النظر في الآخرة إلى خالق الجمال سبحانه.
فكل محبة لما سوى الله صرف لما هو حقه لغيره، وهي ألم في القلب يُعذَّب به؛ لانصرافه عن فطرته التي فُطر عليها من محبة إلهه الحق.
(14/47)
فأعلى نعيم الجنة رؤية الرب عزَّ وجلَّ ومحبته وحلول رضوانه، ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء كما قال صلى الله عليه وسلم : « يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
فهذا نعيم لا يشغل أهل الجنة عنه ولا يلهيهم ما بين أيديهم من النعيم المخلوق؛ لأن لذته أعظم مما هم فيه من النعيم.
وربهم من فوقهم يسلم عليهم، فينظر إليهم وينظرون إليه، وهو مستوٍ على عرشه الذي هو سقف الفردوس، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم.
فالنفوس الزكية العلية تعبد الله لأنه أهل أن يُعبد ويُجل، ويُّحَب ويُعظَّم، ويُّحمد ويوقر، فهو لذاته مستحق للعبادة.
ولا ينبغي للعبد أن يكون كأجير السوء إن أعطي أجرةً عَمِل، وإن لم يعط لم يعمل، فهذا عبد الأجرة لا عبد المحبة والإرادة.
فالعارفون عملهم على المنزلة والدرجة، والعمال عملهم على الثواب والأجرة، وشتان ما بينهما.
وليس المراد عيب سؤال الله الجنة، فالعبد محتاج لذلك، وإنما العيب أن يكون مبلغ العلم ومنتهي الإرادة والطلب هو الجنة المخلوقة، والغفلة والغَيْبَة عن حقيقة التعبد والتأله للملك الحق.
وحتى لا يكون التعبد فقط لإحسان الله إلى عبده سواء في الدنيا أو الآخرة، بل يكون لذات المعبود سبحانه.
والله سبحانه يطلع على قلوب العباد، فأي قلب رأى فيه غيره سلط عليه إبليس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [مريم: 83].
وكل من عرف الله تعالى طابت له الحياة، وصفا له العيش، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف كل مخلوق، وأنس بالله، وقرَّت عينه بالله، وقرَّت به كل عين، وقرت عينه بالموت.
ومن عرف الله لم يبق له رغبة فيما سواه، وأحبه على قدر معرفته به وخافه ورجاه ولهج بذكره، واشتاق إليه، واستحيا منه، وأجلَّه وعظمه على قدر معرفته به.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2835).
(14/48)
ومن أحب الدنيا حتى صارت أكبر همه فليوطن نفسه على تحمل المصائب.
ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث:
هم لازم.. وتعب دائم.. وحسرة لا تنقطع..
ذلك أن محب الدنيا لا ينال منها شيئاً إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه، فلو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثاً.
ومحب الدنيا كشارب الخمر، كلما ازداد شرباً ازداد سكراً.
وأسعد الناس في الدنيا والآخرة هم أهل الإيمان والتقوى، والإحسان والإخلاص، الذين لا يفعلون شيئاً إلا ابتغاء وجه ربهم الأعلى، لا يريدون سواه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الليل: 17-21].
وهؤلاء هم الأنبياء ومن سار على هديهم.
وصاحب التقوى لا ينبغي له أن يتحمل من الخلق ونعمهم ومننهم، وإن حمل منهم شيئاً بادر إلى جزائهم عليه؛ لئلا يبقى لأحد من الخلق عليه نعمة تُجزى، ليكون عمله كله لله وحده، لا يفعل ما يفعله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وحده لا شريك له.
أما من تطوِّقه نِعَم المخلوقين ومننهم، فإنه مضطر إلى أن يفعل لأجلهم، ويترك لأجلهم.
وكل ذي نعمة يمكن جزاء نعمته إلا نعمة الإسلام، فإنها لا يمكن المنعم بها عليه أن يجزي بها من دعاه إليها.
فلهذا من كمال الإخلاص أن لا يجعل العبد عليه مِنَّة لأحد من الناس، لتكون معاملته كلها لله ابتغاءه وجهه، وطلب مرضاته وحده.
وهذا الذي وعده الله برضاه بقوله: (? ? ?) [الليل: 21].
وإنما يتم ذلك بطاعة الله ورسوله كما قال سبحانه: ( ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [النساء: 69، 70].
5- أحوال الخلق في الدنيا
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [يونس: 7-8].
وقال الله تعالى: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 9].
الله عزَّ وجلَّ خلق الخلق فمنهم كافر ومنهم مؤمن كما قال سبحانه: ( ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [التغابن: 2].
(14/49)
والإنسان من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كتب له، والأيام والليالي مراحل لسفره، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر.
فالكيِّس الفطن من جعل كل مرحلة نصب عينيه، فيهتم بقطعها سالماً غانماً، فهو إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها هان عليه العمل.
ولا يزال هذا دأبه حتى يطوي مراحل عمره كلها فيحمد سعيه، ويبتهج بما أعده ليوم فاقته وحاجته.
والناس في قطع هذه المراحل قسمان:
القسم الأول: الذين قطعوها مسافرين إلى دار الشقاء، فكلما قطعوا مرحلة قربوا من تلك الدار، وبعدوا من ربهم، وعن دار كرامته، فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب، ومعاداة رسله وأوليائه ودينه: ( ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [الصف: 8].
فهؤلاء شرُّ خلق الله، وقد جعلت أيامهم ولياليهم مراحل يسافرون فيها إلى الدار التي خلقوا لها، واستعملوا بها، فهم مصحوبون فيها بالشياطين الموكلة بهم، يسوقونهم إلى منازلهم في النار سوقاً كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [مريم: 83].
والقسم الثاني: الذين قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام، وهم ثلاثة أصناف:
ظالم لنفسه.. ومقتصد.. وسابق بالخيرات بإذن الله.
وهؤلاء كلهم مستعدون للسير، موقنون بالرجعى إلى الله، ولكنهم متفاوتون في التزود، وتعبئة الزاد واختياره، وفي نفس السير وسرعته وبطئه كما قال سبحانه: ( ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ) [فاطر: 32].
وسعي العبد وحركته في هذه الحياة أربعة أنواع:
سعي لجلب نفع مفقود كالكسب... أو لحفظ موجود كالادخار.. أو لدفع ضرر لم ينزل كدفع الصائل.. أو لإزالة ضرر قد نزل كالتداوي من المرض.
(14/50)
والإنسان في الحقيقة متوجه من الدنيا إلى الآخرة، ومن عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن دار العمل إلى دار الجزاء، ومن الدار الفانية إلى الدار الباقية، ومن السعادة الجزئية أو الشقاوة الجزئية، إلى السعادة الكلية أو الشقاوة الكلية، فالخير كله بحذافيره في الجنة، والشر كله بحذافيره في النار، والناس قادمون على ربهم، ومجزيون بأعمالهم: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الغاشية: 25-26].
فسعيد وشقي.. ورابح وخاسر.. ومُكرم ومُهان.. كلٌّ حسب عمله.
فآخذ كتابه بيمينه.. وآخذ كتابه بشماله.. ففرح مسرور.. وشقي محزون.. فمسوق إلى الجنة.. ومسوق إلى النار.
( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [الروم: 14-16].
والناس في الدنيا فريقان:
المؤمنون.. والكفار..
فالإيمان له شُعب، ولأهله صفات، وأهله ثلاث درجات:
ظالم لنفسه.. ومقتصد.. وسابق بالخيرات.
والكفر له شعب، ولأهله صفات، وأهله درجات، وهم متفاوتون في الشقاء حسب أعمالهم، كما أن المؤمنين متفاوتون في النعيم حسب أعمالهم، وموعد الجميع يوم الفصل: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 105-108].
والنعيم والعذاب في الدنيا والآخرة مبني على العمل في الدنيا:
فمن آمن وعمل صالحاً فله السعادة في الدنيا والآخرة، ومن كفر بالله فله الشقاء في الدنيا والآخرة.
ولا بدَّ من معرفة حال هؤلاء السعداء ليقتدي العبد بهم.. ومعرفة حال هؤلاء الأشقياء ليحذر من سوء أعمالهم.
1- حال الأشقياء
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 161-162].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحقاف: 20].
الكفار والمشركون والمنافقون لاحظ لهم في الآخرة، وأما في الدنيا فهم: ( ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [محمد: 12].
(14/51)
وما أكثر هؤلاء الغاوين الضالين المتبعين إبليس اللعين، فهؤلاء كالأنعام التي فقدت العقول، حيث آثروا ما يفنى على ما يبقى، فلم يستفيدوا من عقولهم وأسماعهم وأبصارهم، بل هم أضل من البهائم السائمة.
فإن البهائم مستعملة فيما خلقت له، ولها أذهان تدرك بها مضرتها من منفعتها، فهي أحسن حالاً منهم.
وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له، ووهبهم الله الأفئدة والأسماع والأبصار لتكون عوناً لهم على القيام بأوامر الله، وحقوقه، فاستعانوا بها على معصية الله والصد عن سبيله، ومحاربة أوليائه ودينه، وغفلوا عن أنفع الأشياء وأحسنها من الإيمان بالله وطاعته وذكره.
فهؤلاء جديرون بأن يكونوا ممن ذرأ الله لجهنم وخلقهم لها، وهم بأعمال أهلها يعملون كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 179].
فهؤلاء أضل من الأنعام السائمة؛ لأن الأنعام يهديها راعيها فتهتدي، وتعرف طريق هلاكها فتجتنبه، وهؤلاء صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون، فكل حيوان بهيم فهو أهدى منهم: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 44].
وهؤلاء الكفار والمشركون والمنافقون تقع عليهم اللعنة من الله، ومن جميع الخليقة، لسعيهم في غش الخلق، وإفساد دينهم، وصدهم عن سبيل الله، وإبعادهم من رحمة الله، وإعراضهم عن دينه كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 161].
فهؤلاء يقطعون مراحل أعمارهم سائرين إلى دار الشقاء، متزودين غضب الرب سبحانه، ومعاداة كتبه ورسله وما بعثوا به، ومعاداة أوليائه، والصد عن سبيله، ومحاربة من يدعو إلى دينه، ومقاتلة الذين يأمرون بالقسط من الناس، وإقامة دعوةٍ غير دعوة الله التي بعث بها رسله لتكون الدعوة له وحده، والعبادة له وحده.
فقطع هؤلاء الأشقياء مراحل أعمارهم في ضد ما يحبه الله ويرضاه.
فما أعظم جرمهم.. وما أكبر خسارتهم.. وما أشد عقوبتهم..
(14/52)
فهم أشد الناس جرماً، فما أجدرهم بلعنة الله وغضبه وسخطه؟
فأي جرم أعظم من رد الحق والهدى الذي اختاره الله لعباده؟.
وأي جرم أعظم من قتل الأنبياء الذين حملوا الحق إلى البشرية والسخرية منهم، ورد ما جاءوا به؟.
وأي جرم أعظم من إيذاء وصد وقتل الذين يأمرون بالقسط والعدل من الناس ممن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، الذي حقيقته إحسان إلى المأمور ونصح له: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 21-22]
فاستحق هؤلاء بهذه الجنايات والكبائر أشد العقوبات، وهو العذاب المؤلم أشد الألم في النار للأبدان والقلوب والأرواح.
وبطلت أعمالهم بما كسبت أيديهم، وما لهم أحد ينصرهم من عذاب الله، ولا يدفع عنهم من نقمته مثقال ذرة: ( ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 36].
وإذا كان أكثر الأرض الآن يموج بالكفر والضلال والفجور.. والكفار يزيدون على ستة آلاف مليون نسمة.. ويموت منهم يومياً إلى النار أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان.. وهم غارقون في الشهوات والملذات.
فمن المسئول عن ترك هذا الوباء من الكفر والشرك والظلم والفساد ينتشر في البشرية؟.
إن الله عزَّ وجلَّ قد وكل الشمس بالإنارة، ووكلنا بنشر الهداية، والشمس قد أدت الأمانة وما زالت تؤديها.
فهل نحن أدينا أمانة الدعوة إلى الله، ليسمع الناس الحق الذي شرفنا الله بالدعوة إليه، فيهتدوا إليه، ويسعدوا به في الدنيا والآخرة، وينجو من عذاب الله يوم القيامة، ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
إن الإسلام هو الدين الحق، وهو حق واجب لكل إنسان، ومَنْعُ الإنسان حقه وعدم إيصاله إليه ظلم، والله لا يحب الظالمين، بل لعن الظالمين وتوعدهم بالعذاب كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 19].
وما أشقى حال الإنسان الذي سمع الحق ثم أعرض عنه وصدَّ عنه.
(14/53)
إن الله خلق الجبال العظيمة الصلبة العالية الراسية، وأخبر عنها أنه لو أنزل عليها كلامه لخشعت وتصدعت من خشية الله كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 21].
فوا عجبًا من مضغة لحم أقسى من هذه الجبال، تسمع آيات الله تتلى عليها، ويُذكر الرب جل جلاله فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب، فليس بمستنكَر على الله ولا يخالف حكمته أن يخلق لها ناراً تذيبها إذا لم تَلِنْ بكلامه وذكره وزواجره ومواعظه.
فمن لم يلن في هذه الدار قلبه، فإن أمامه المليِّن الأعظم في نار جهنم التي تذيب الأجسام الصلبة، والأحجار القاسية، والنفوس العاصية: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التحريم: 6].
وهؤلاء الأشقياء من الكفار والمشركين مصيرهم يوم القيامة إلى جهنم كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المدثر: 38-48].
فهذه أربع صفات أخرجت هؤلاء من زمرة المفلحين إلى زمرة الأشقياء الهالكين:
الأولى: ترك الصلاة، وهي عمود الإخلاص للمعبود.
الثانية: ترك إطعام المسكين، الذي هو من مراتب الإحسان إلى العبيد، فلا عبادة للخالق، ولا إحسان للمخلوق.
الثالثة: الخوض في الباطل.
الرابعة: التكذيب بالحق.
فلأجل هذا هم مخلدون في النار، فلا تنفعهم شفاعة الشافعين.
وكل واحدة من هذه الصفات موجبة للإجرام، مقتضية للعقوبة، ومجموعها يدل على غلظ الكفر، ويوجب أشد العقوبة.
فما أجهل هؤلاء بربهم ودينه، فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها كما قال سبحانه: ( پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المدثر: 49-51].
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
2- حال الظالم لنفسه
قال الله تعالى: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ) [فاطر: 32].
(14/54)
وقال الله تعالى: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [النساء: 110].
أورث الله تبارك وتعالى هذه الأمة الكتاب المهيمن على سائر الكتب، فمنهم الظالم لنفسه بالمعاصي التي هي دون الكفر.. ومنهم المقتصد الذي اقتصر على فعل الواجبات، وترك المحرمات.. ومنهم السابق بالخيرات، الذي سبق غيره في الأعمال الصالحة.
فكل هؤلاء الأصناف الثلاثة اصطفاه الله تعالى لوراثة الكتاب، وإن تفاوتت مراتبهم، وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من وراثته، حتى الظالم لنفسه، فإن معه أصل الإيمان، وعلم الإيمان، وأعمال الإيمان.
ووراثة الكتاب من أجلّ النعم وأفضلها على الإطلاق.
ومن تجرأ على المعاصي، واقتحم على الإثم، وظلم نفسه بحملها على معصية الله، ثم استغفر الله استغفاراً تاماً، يستلزم الإقرار بالذنب، والندم عليه، والإقلاع عنه، والعزم على أن لا يعود إليه، فهذا قد وعده الله الذي لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة.
فالسائرون إلى الله وإلى دار كرامته ظالمهم قطع مراحل عمره في غفلاته، وإيثار شهواته ولذاته على مراضي الرب وأوامره، مع إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لكن نفسه مغلوبة معه.. مأسورة مع حظه وهواه، وهو يعلم سوء حاله، ويعترف بتفريطه، وكثرة معاصيه، ويعزم على الرجوع إلى الله، كما قال آدم صلى الله عليه وسلم وزوجه حين ظلما أنفسهما بالأكل من الشجرة التي نهاهما ربهما عن الأكل منها: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [الأعراف: 23].
فلما علم الله منه حسن التوبة والندم على ما فعل ألقى إليه كلمات فتاب وتاب الله عليه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 37].
فهذا حال المسلم ينسيه الشيطان ذكر ربه، ويغفل فيعصي ربه ثم يتوب إلى ربه، فيتوب عليه؛ لأنه التواب الرحيم.
فالظالم لنفسه مقصر في الزاد، غير آخذ منه ما يبلغه المنزل، لا في قدره ولا في صفته، بل هو مفرط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود بما يتأذى به في طريقه.
(14/55)
وسيجد غب أذاه إذا وصل المنزل، بحسب ما تزود من ذلك الضار المؤذي.
والظالم لنفسه يستقبل مرحلة يومه وليلته، وقد سبقت حظوظه وشهواته إلى قلبه، فحرَّكَتْ جوارحه طالبة لها، فإذا زاحمتها حقوق ربه فتارة وتارة.
فمرة يأخذ بالرخصة.. ومرة يأخذ بالعزيمة.. ومرة يقدم على الذنب وترك الحق تهاوناً ووعداً بالتوبة.
فهذا حال الظالم لنفسه، مع حفظ التوحيد والإيمان بالله ورسوله، واليوم الآخر، والتصديق بالثواب والعقاب.
فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران.. والطاعات والمعاصي.. والحسنات والسيئات.. وهو للأغلب منهما.
فإذا ورد هذا العبد يوم القيامة ميز ربحه من خسرانه، وكان الحكم للراجح منهما، وحكم الله من وراء ذلك لا يعدم منه فضله وعدله.
والذين معهم أصل التوحيد والإيمان إذا خلطوا الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة من التجرؤ على بعض المحرمات، والتقصير في بعض الواجبات، مع الاعتراف بذلك، والرجاء بأن يغفر الله لهم، فهؤلاء عسى الله أن يتوب عليهم كما قال سبحانه: ( ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [التوبة: 102].
ومن مغفرته أن الظالمين المسرفين على أنفسهم، الذين قطعوا مراحل أعمارهم بالأعمال السيئة، إذا تابوا إليه وأنابوا ولو قبيل موتهم فإنه يعفو عنهم ويتجاوز عن سيئاتهم، ومن ندم منهم على ذنبه، واعترف به، ولم يتب توبة نصوحاً قبل موته، فإنه تحت الخوف والرجاء، وهو إلى السلامة أقرب.
فعلى المسلم أن يرفع السدود والحجب التي تحول بينه وبين الحق.
والسدود التي تحول بين المؤمن والحق أربعة:
المال.. والجاه.. والتقليد.. والمعاصي.
فيرفع حجاب المال بإنفاقه في سبيل الله إلا ما يحتاجه.. ويرفع حجاب الجاه بالبعد عن موضع الجاه بالتواضع والهرب من أسباب الذكر.. ويرفع حجاب التقليد بترك التعصب للمذاهب والأشخاص والأماكن.. ويرفع حجاب المعاصي بالتوبة، وهجر المعاصي، والخروج من المظالم.
3- حال المقتصد
(14/56)
قال الله تعالى: ( ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ) [فاطر: 32].
وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ ا? صلى الله عليه وسلم ، يَسْألُهُ عَنِ الإِسْلامِ، فَقال رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم : «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ». فَقال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قال: «لا، إِلا أنْ تَطَّوَّعَ». فَقال رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم : «وَصِيَامُ رَمَضَانَ». قال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قال: «لا، إِلا أنْ تَطَّوَّعَ». قال: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، قال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قال: «لا، إِلا أنْ تَطَّوَّعَ». فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَا? لا أزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أنْقُصُ، فقال رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم : «أفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
المقتصد: هو من اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ولم يشد مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، ولم يتزود ما يضره.
فهو سالم غانم، لكن فاتته المتاجر الرابحة، وأنواع المكاسب الفاخرة.
فهذا قد أدى وظيفة تلك المرحلة، ولم يزد عليها، ولا نقص منها، فلا حصل على أرباح التجار، ولا بخس الحق الذي عليه.
فإذا استقبل مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام، والصلاة التامة في وقتها بأركانها وواجباتها وشروطها، ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التي أذن الله فيها مشتغلاً بها، مؤدياً واجب الرب فيها، غير متفرغ لنوافل العبادات والأوراد والأذكار والتوجه.
فإذا حضرت الفريضة الأخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله، فهو كذلك سائر يومه، فإذا جاء الليل فكذلك إلى حين النوم، فيأخذ مضجعه إلى أن ينشق الفجر، فيصلي ويقوم إلى غذائه ووظيفته.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2678) واللفظ له، ومسلم برقم (11).
(14/57)
فإذا جاء الصوم الواجب قام بحقه، وإن كان له مال تجب فيه الزكاة أدى حق الله فيه من الزكاة الواجبة.
وكذلك الحج الواجب يؤديه كما أمر الله ورسوله.
وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط، ولا يظلمهم ولا يترك حقهم.
فالأبرار المقتصدون قطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله، وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه.
فهممهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة، واجتناب الأعمال القبيحة.
فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيام إلى الوضوء والصلاة كما أمره الله، فإذا أدى فرض وقته اشتغل بالتلاوة والأذكار المشروعة إلى حين تطلع الشمس، ثم ذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب المشروعة.
فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد، فأدى صلاته كما أمر، مكملاً لها بآدابها وأركانها وسننها، وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة، والحضور بين يدي الرب.
فينصرف من الصلاة وقد أثرت في قلبه وبدنه، وسائر أحواله، آثاراً تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه.
ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله، وقلة التكالب والحرص على الدنيا.
قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحببت إليه لقاء الله، ونفرته من كل قاطع يقطع عن الله والدار الآخرة، فهو مهموم مغموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة، فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه.
هذا وهم في ذلك كله مراعون في حفظ السنن، لا يُخِلُّون منها بشيء ما أمكنهم.
فيقصدون من الوضوء أكمله.. ومن الوقت أوله.. ومن الصفوف أولها، عن يمين الإمام، أو خلف ظهره.
ويأتون بعد الفريضة بالأذكار المشروعة، ثم يركعون السنة على أحسن الوجوه، هذا دأبهم في كل فريضة.
فإذا كان قبل غروب الشمس توافروا على أذكار المساء الواردة في السنة، نظير أذكار الصباح الواردة في أول النهار، لا يُخِلُّون بها أبداً.
(14/58)
فإذا جاء الليل كانوا فيه على منازلهم من مواهب الرب سبحانه التي قسمها بين عباده، فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم الواردة في السنة، فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يبلغه النوم وهو يذكر الله.
فهذا منامه عبادة وزيادة له في قربه من الله، فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى.
ومع هذا فهو قائم بحقوق العباد:
من عيادة المرضى.. وتشييع الجنائز.. وإجابة الدعوة.. والمعاونة لهم بالجاه والبدن والمال والنفس.. وزيارتهم وتفقدهم.
وقائم كذلك بحقوق أهله وعياله، فهو متنقل في منازل العبودية كيف نَقَلَه فيها الأمر، فإذا وقع منه تفريط في حق من حقوق الله بادر إلى الاعتذار والتوبة والاستغفار، وكده ومداواته بعمل صالح يزيل أثره، فهذه وظيفته دائماً.
وهؤلاء هم أصحاب اليمين الذين يستمتعون في الجنة بما لذ وطاب من النعيم المقيم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 27-40].
ومن أنفع ما للقلب: النظر في حق الله على العباد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ورحمته.
وإذا تأمل العاقل حال أكثر الناس وجدهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم.
ومن هنا انقطعوا عن معرفة الله، وحُجبوا عن معرفته، ومحبته، والأنس بمناجاته، ولذة عبادته، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.
فمحاسبة النفس هي نظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانياً.
وأفضل الفكر الفكر في ذلك، فإنه يُسيِّر القلب إلى الله، ويطرحه بين يديه خاضعاً ذليلاً منكسراً، ويحرك قلبه وجوارحه لطاعة مولاه، والمنافسة في الخيرات.
والناس في الفكر والإرادة أربعة أقسام:
(14/59)
الأول: من يريد الله لذاته، فهو مشغول بما يحبه ويرضيه دون سواه.
الثاني: من يريد الله، ويريد منه.
الثالث: من يريد منه، ولا يريده.
الرابع: من لا يريده، ولا يريد منه.
فآثر هؤلاء العبيد عند الله وأحبهم إليه وأقربهم منه الأول، لكمال معرفته بربه، فذاك العبد حقاً، العارف حقاً.
ويا ليتنا نسير بدرب العبد الثاني، والخوف علينا أن نسير بدرب العبد الثالث.
أما العبد الرابع فهو من الأشقياء الهالكين؛ لأنه أعرض عن ربه، وتعلق ببعض عبيده، فله يريد، ومنه يريد.
4- حال السابق بالخيرات
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 10-14].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 59-61].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [البقرة: 148].
السابقون في الدنيا إلى الإيمان والأعمال والخيرات هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات، وهم المقربون عند الله في جنات النعيم في أعلى عليين.
وهم الذين يعطون من أنفسهم مما أمروا به من كل ما يقدرون عليه من صلاة وزكاة، وصيام وحج، وطاعات وأعمال صالحة.
ومع هذا قلوبهم وجلة وخائفة عند عرض أعمالها على ربها، والوقوف بين يديه، خشية أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله، لكمال علمهم بربهم، وما يستحقه من أنواع العبادات.
فهؤلاء همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذاب الله، فكل خير سمعوا به، أوسنحت الفرصة إليه انتهزوه وبادروه، يسارعون إلى كل خير، ويسابقون في كل عمل صالح، وينافسون في كل ما يقربهم إلى الله( ? ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 61].
والأمر باستباق الخيرات أمر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الوجوه والأحوال، والمبادرة إليها في أول وقتها.
(14/60)
والخيرات تشمل جميع الطاعات والفرائض والنوافل من صلاة وصيام، وزكاة وصدقات، وحج وعمرة، وجهاد، ونفع خاص وعام.
والسابقون هم أعلى الخلق درجات، وأعلاهم مقامات.
والسابق بالخيرات همه في تحصيل الأرباح، وشد أحمال التجارات، لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسراناً أن يدخر شيئاً مما بيده ولا يتجر به، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأرباح تجارتهم، ويرى خسراناً بيناً أن يمر عليه وقت في غير متجر.
والسابقون بالخيرات نوعان: أبرار.. ومقربون.
وهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أهل اليمين وهم:
المقتصدون.. والأبرار.. والمقربون.
وأما الظالم لنفسه فليس من أصحاب اليمين عند الإطلاق، وإن كان مآله إلى أصحاب اليمين، كما أنه لا يسمى مؤمناً عند الإطلاق، وإن كان مصيره ومآله مصير المؤمنين بعد أخذ الحق منه.
والسابقون المقربون، السابقون بالخيرات، هم أفضل الخلق وأزكاهم، ونبأهم عجيب، ونحن نستغفر الله من وصف حالهم، وعدم الاتصاف به، ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها، عسى أن تشمر النفس للاقتداء بهم، والاتصاف بصفاتهم.
فالسابقون المقربون جملة أمرهم: أنهم قوم امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت قلوبهم محبة الله وخشيته، ومراقبته وإجلاله.
فَسَرَت المحبة في قلوبهم وأبدانهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، وقد أنساهم حبه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه.
قد استغنوا بحبه عن حب ما سواه، وبذكره عن ذكر ما سواه، وبخوفه ورجائه عن خوف ورجاء من سواه.
وصارت رغبتهم إليه.. وتوكلهم عليه.. ورهبتهم منه... وإنابتهم إليه.. وسكونهم إليه.. وانكسارهم بين يديه.. فلم يتعلقوا بشيء من ذلك بغيره.
فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همه عليه، متذكراً صفاته العلا، وأسمائه الحسنى، مشاهداً له في أسمائه وصفاته، قد انصبغ قلبه بمعرفته ومحبته.
(14/61)
فبات جسمه على فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد آوى إلى مولاه وحبيبه فآواه، وأسجده بين يديه خاضعاً خاشعاً، ذليلاً منكسراً من كل جهاته، فيا لها من سجدة ما أشرفها من سجدة.
وشتان بين قلب يبيت عند ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم، حتى دخل على ربه، فشاهد عز سلطانه، وعظمة جلاله، وعلو شأنه، وبهاء كماله، وهو مستو على عرشه.
يدبر أمر عباده، وتصعد إليه شؤون العباد، وتُعرض عليه حوائجهم وأعمالهم، فيأمر فيها بما يشاء، فينزل الأمر من عنده نافذاً كما أمر.
فيشاهد الملك الحق قيوماً بنفسه، مقيماً لكل ما سواه، غنياً عن كل ما سواه، وكل من سواه فقير إليه ( ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [الرحمن: 29].
ويرى ربه يغفر الذنوب، ويفرج الكروب، ويرحم المسترحمين، ويفك عانياً، وينصر ضعيفاً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويُميت ويُّحيي، ويُسعد ويُشقي، ويضل ويهدي، وينعم على قوم، ويسلب نعمته عن آخرين، ويعز أقواماً، ويذل آخرين.
ويشاهد الملك الرزاق يقسم الأرزاق ويجزل العطايا، ويمن بفضله على من يشاء من عباده، بيده اليمنى، وبيده الأخرى الميزان، يخفض به من يشاء، ويرفع به من يشاء، عدلاً منه وحكمة.
ويشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن، ليس له بواب فيستأذن، ولا حاجب ولا وزير ولا ظهير فيستعان به، ولا ولي من دونه فيشفع به إليه، ولا نائب عنه فيعرِّفه حوائج عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها.
أحاط سبحانه بالعباد وحوائجهم، ووسعها قدرة ورحمة وعلماً، فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جوداً وكرماً، ولا يشغله منها شأن عن شأن.
ولا تغلطه سبحانه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين.
(14/62)
«يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ.
يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ.
يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
فهو سبحانه الملك الغني الكريم، عليم بكل شيء، محيط بكل شيء، قدير على كل شيء، يفعل ما يشاء؛ لأراد لقضائه، ولا معقب لحكمه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 82].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).
(14/63)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: أَُْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَدُ الله مَلأى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ: أرَأيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (2).
واذا صارت أسماء ربه، وصفات ربه، مشهدا لقلبه، أَنْسَتْه ذكر غيره، وشغلته عن حب من سواه، وجذبت دواعي قلبه إلى حبه تعالى بكل جزء من أجزاء قلبه وروحه وجسمه.
فحينئذ يكون الرب سبحانه سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبه يسمع وبه يبصر، وبه يبطش، ربه يمشي.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4684) واللفظ له، ومسلم برقم (993).
(2) أخرجه مسلم برقم (179).
(14/64)
قال رسول الله (: «إِنَّ الله قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنَا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (1).
فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرشاً لمعرفة محبوبه ومحبته، ومعرفة عظمته وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأنه، فيا له من قلب من ربه ما أدناه، ومن قربه ما أحظاه، فهو ينزه قلبه أن يساكن سواه، أو يطمئن بغير مولاه.
فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان، وسجدت تحت العرش، وأبدانهم في فرشهم، تحن وتئن إلى الملأ الأعلى حنين الطيور إلى أوكارها.
فإذا استيقظ هذا القلب من أوكاره، صعد إلى الله بهمته وحبه، مشتاقاً إليه، طالباً له، محتاجاً إليه، عاكفاً عليه.
فحاله كحال المحب الذي غاب عنه محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بدَّ له منه، فهو آخر خطراته عند منامه، وأولها عند استيقاظه، فإذا استيقظ أحدهم وقد بدر إلى قلبه هذا الشأن، فأول ما يجري على لسانه ذكر محبوبه، والتوجه إليه، واستعطافه، والتملق بين يديه، والاستعانة به أن لا يخلي بينه وبين نفسه، وأن لا يكله إليها، فيكله إلى ضعة وعجز، وذنب وخطيئة.
بل يكلؤه كلاءة الوليد الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاَ، ولا موتاَ ولا حياة ولا نشوراً.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6502).
(14/65)
فإذا انتبه من نومه قال: «لا إلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لله، وَسُبْحَانَ الله، وَلا إلَهَ إلا الله، والله أكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بالله» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (1).
فأول ما يبدأ به إذا قام من النوم أن يقول: «الْحَمْدُ لله الَّذِي أحْيَانَا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
يقولها متدبراً لمعناها من ذكر نعمة الله عليه بأن أحياه بعد نومه الذي هو أخو الموت، وأعاده إلى حاله سوياً سليماً محفوظاً مما لا يعلمه، ولا يخطر بباله من المؤذيات والمهلكات والتي كلها تقصده بالهلاك والأذى، والتي من بعضها شياطين الإنس والجن.
فالذي يكلؤه ويحرسه في نومه ويقظته هو الله وحده، فليحمده على هذه النعمة:
( ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الأنبياء: 42].
ويتذكر أن الذي أعاده حياً سليماً بعد هذه الإماته قادر على أن يعيده بعد موتته الكبرى حياً كما كان.. ثم يقرأ: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران 190-200].
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (1154).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6314) واللفظ له، ومسلم برقم (2711).
(14/66)
ثم يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر، فيتوضأ حسب السنة، ثم يصلي صلاة التهجد كما ورد في السنة إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة.. صلاة محب محتاج، مخلص لمحبوبه، متذلل مفكر بين يديه، لا صلاة مدلٍ بها عليه، يرى أن من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيره، واستزاره وطرد غيره، وأكرمه وحرم غيره..
فهو يزداد بذلك محبة إلى محبته ويرى أن قرة عينه وحياة قلبه ولذته وسروره في تلك الصلاة، فهو يتملق لمولاه تملق المحب لمحبوبه، العزيز الرحيم، ويناجيه بكلامه، معطياً لكل آية حقها من العبودية، فتجذب قلبه وروحه آيات المحبة والود، وآيات الأسماء والصفات، وآيات الآلاء والإنعام والإحسان، وآيات الرحمة والرجاء والبر والمغفرة، وآيات وصف الجنة وما فيها من النعيم المقيم.
وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره، المائلين إلى سواه، وآيات وصف النار وما فيها من العذاب الأليم والنكال الشديد.
فإذا صلى ما كتب الله له، جلس مطرقاً بين يدي ربه، هيبة له وإجلالاً، واستغفره استغفار من قد تيقن أنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه.
فإذا قضى من الاستغفار وطراً، وكان عليه بعدُ ليل، اضطجع على شقه الأيمن مجماً لنفسه، مريحاً لها، مقوياً لها على أداء وظيفة الفرض، فيستقبله نشيطاً كأنه لم يزل نائماً طول ليلته لم يعمل شيئاً.
فإذا أذن المؤذن إلى صلاة الفجر تابعه في الأذان ثم صلى ركعتي الفجر وهما خير من الدنيا وما فيها، ويبتهل إلى الله ويدعوه بينها وبين صلاة الفجر، فالدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة.
ثم ينهض إلى صلاة الصبح قاصداً الصف الأول عن يمين الإمام، فإن فاته ذلك قصد القرب منه مهما أمكن، فإن للقرب من الإمام تأثيراً في سر الصلاة، خاصة صلاة الفجر، فقرآن الفجر يشهده الله وملائكة الليل، وملائكة النهار.
(14/67)
وليس المراد الشهادة العامة، فإن الله على كل شيء شهيد، بل المراد شهادة خاصة، وهي شهادة حضور ودنو متصل بدنو الرب جل جلاله، ونزوله إلى السماء الدنيا، آخر كل ليلة حتى يطلع الفجر.
يصلي الصلاة في أول وقتها بخشوع قلب، كاملة الشروط والأركان والواجبات والسنن.
فإذا فرغ من صلاة الفجر أقبل بكليته، على ذكر الله والتوجه إليه بالأذكار المسنونة بعد كل فريضة، يداوم عليها، ويجعلها ورداً له لا يخل بها أبداً.
ثم يزيد عليها مما ورد من أذكار الصباح ما شاء، أو قراءة القرآن، ويجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسناً.
فإذا طلعت قام متضرعاً إلى ربه، سائلاً إياه أن يكون ضامناً عليه، متصرفاً في مرضاته بقية يومه.
فلا يفعل شيئاً إلا في مرضاة ربه، من دعوة إلى الله، وتعليم لعباده، أو نفع وخدمة للمسلمين، أو اشتغال بنوافل العبادات، وإن كان من الأفعال الطبيعية قلبه عبادة بالنية، وقَصَدَ الاستعانة به على مرضاة ربه، فتكون عاداته عبادات.
ويقدم في كل وقت ما نفعه أعم على غيره، فيقدم الدعوة والتعليم على النوافل، ويؤخر العمل الانفرادي من أجل العمل الاجتماعي كما قال سبحانه وتعالى( ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [يوسف: 108].
وقال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [آل عمران: 79].
وقال سبحانه: ( ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [آل عمران: 80].
فإذا جاء فرض الظهر بادر إليه مؤدياً للسنة الراتبة قبله، مكملاً له، ناصحاً فيه لمعبوده، فهو لايبغي مجهوداً، بل يبذل مقدوره كله في تحسينه وتزيينه، وإصلاحه، وإكماله، ليقع موقعاً من محبوبه، فينال به رضاه عنه، وقربه منه.
أفلا يستحي العبد من ربه ومولاه ومعبوده، أن لا يكون في عمله هكذا، وهو يرى المحبين في أشغال محبوبيهم من الخلق، كيف يجتهدون في إيقاعها على أحسن وجه وأكمله لتسرّهم.
والله يحب من عبده إذا عمل عملاً أن يتقنه ظاهراً وباطناً.
(14/68)
ومن أنصف نفسه، وعرف أعماله، استحى من الله أن يواجهه بعمله، أو يرضاه لربه، وهو يعلم من نفسه أنه لو عمل لمحبوب له من الناس لبذل فيه نصحه، ولم يدع من أجل حُسْنه شيئاً إلا فعله: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الكهف: 7].
فهذا حال هذا العبد مع ربه في جميع أعماله، إحسان للعمل، واستغفار بعد العمل؛ لأنه يعلم أنه لا يوفي هذا المقام حقه، فهو دائماً يستغفر الله عقيب كل عمل صالح.
قال الله تعالى: ( گ گ گ ?) [الذاريات: 18].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثاً.
وفي الحج: ( ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 199].
فصاحب هذا المقام مضطر إلى التوبة والاستغفار في جميع أحواله، فلا يزال مستغفراً تائباً، وكلما كثرت طاعاته، كثرة توبته واستغفاره، وجماع الأمر في ذلك إنما هو بتكميل عبودية الله في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات الله، وكمال عبودية العبد موافقة لربه في محبة ما يحب، وبذل الجهد في فعله، وموافقته في كراهة ما يكره، وبذل الجهد في تركه.
وهذا إنما يكون من النفس المطمئنة لا للأمارة ولا للوامة، فهذا كمال من جهة العمل والإرادة، وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة في معرفة الأسماء والصفات والأفعال، له شهود خاص مطابق لما جاء به الرسول ( لامخالف له، قائم بأحكام العبودية التي تقتضيها كل صفة بخصوصها.
وهذا سلوك الأكياس، الذين هم خلاصة العالم.
فالسير إلى الله عن طريق الأسماء والصفات شأنه عجيب، وفتحه عجيب، صاحبه قد سبقت له السعادة، وهو مستلق على فراشه، غير تعب ولا مكدور، ولا مشرد عن وطنه.
فهو ساكن لا يُرى عليه آثار السفر، وقد قطع المراحل والمفاوز.
فالسائرون إلى الله قسمان:
سائر قد ركبته نفسه فهو حاملها، يعاقبها وتعاقبه، ويجرها وتهرب منه، ويخطو بها خطوة أمامه، فتجذبه خطوتين إلى ورائه، فهو معها في جهد، وهي معه كذلك.. فمتى يصل مثل هذا؟
(14/69)
وسائر قد ركب نفسه، وملك عنانها، فهو يسوقها كيف يشاء؟ وأين شاء؟ ومتى شاء؟.
لا تلتوي عليه ولا تنجذب، ولا تهرب منه، بل هي معه كالأسير الضعيف، في يد مالكه وآسره، فهي منقادة معه حيث قادها، تسير به وهو ساكن راكب على ظهرها.. فما أسرع وصول هذا، وشتان بين المسافِرَين، ومن شأن هؤلاء القوم أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذي يخالف تدبيره تعالى واختياره.
بل قد سلموا إليه سبحانه التدبير كله، فلا يزاحم تدبيرهم تدبيره، ولا اختيارهم اختياره، لتيقنهم أنه الملك الحق، القاهر القابض على نواصي الخلق، المتولي تدبير أمر العالم كله، وتيقنهم مع ذلك أنه الحكيم في أفعاله، الذي لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة.
( ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [هود: 56].
فلم يُدخلوا أنفسهم معه في تدبيره لملكه وتصريفه أمور عباده، بِلَوْ كان كذا كان كذا، ولا بعسى ولعل، ولا بليت وأتمنى.
بل ربهم أعظم وأجل في قلوبهم من أن يعترضوا عليه أو يتسخطوا تدبيره، أو يتمنوا سواه، وهم أعلم به، وأعرف بأسمائه وصفاته من أن يتهموه في تدبيره، أو يظنوا به الإخلال بمقتضى حكمته وعدله.
بل هذا العبد ناظر بعين قلبه إلى بارئ المخلوقات وفاطرها، ناظر إلى إتقان صنعه، مشاهد لحكمته فيه، وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر، وعوائدهم ومألوفاتهم.
وعيب المخلوقات وتنقصها بمنزلة العيب لصانعها وخالقها؛ لأنها صُنْعه وأَثَر حكمته، وهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه، وهو أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين، وله في كل شيء حكمة.
( ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 14].
فالمؤمن لا يعيب إلا ما عابه الله، ولا يذم إلا ما ذمه الله، وإذا سبق إلى قلبه ولسانه عيب ما لم يعبه الله، وذم ما لم يذمه الله تاب إلى الله منه، كما يتوب صاحب الذنب من ذنبه.
( گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [النساء: 110].
(14/70)
فالعبد يستحي من ربه أن يكون في داره، وهو يعيب آلات تلك الدار وما فيها، فيقول: لوكان كذا مكان كذا لكان خيراً، أو يشاهد الملك الحق يولي هذا ويعزل هذا، ويعطي هذا ويَحْرِم هذا، فيقول: لو وُلِّي هذا المكان فلان لكان خيراً ولو عُزل هذا المتولي لكان أولى، ولو عوفي هذا، ولو أغنى هذا... وهكذا.
فكيف يكون مقت الملك لهذا المعترض، وإخراجه من قربه؟
فوا عجباً.. كيف ينازع العبد ربه منازعة جاهل عاجز ضعيف، ليس له من الأمر شيء؟. وهو مع ذلك ينازع الله ربوبيته وحكمته وتدبيره، ولا يرضى بما رضي الله به، ولا يسكن عند مجاري أقداره، بل هو عبد ضعيف فقير مسكين جاهل ظالم في مجموع حالاته فيرى نفسه غنياً، ويرى نفسه عارفاً محسناً.
فما أجهله بنفسه.. وربه.. وما أتركه لحقه.. وما أشد إضاعته لحظه.
ولو أحضر العبد رشده لرأى ناصيته ونواصي الخلق كلهم بيد الله سبحانه، يرفعها ويحفضها كيف يشاء؟ وقلوبهم بيده يقلبها كيفما يشاء؟ يقيم منها ما يشاء ويزيغ منها ما يشاء، لكمال علمه ورحمته وحكمته.
ويرى نفسه عبداً لربه، تُقَلِّبه وتُصرِّفه يد القدرة، مستسلم لله، ينظر بقلبه إلى مولاه الذي حرَّكه، مستعين به في أن يوفقه إلى ما يحبه ويرضاه، عينه في كل لحظة شاخصة إلى حق مولاه المتوجه عليه لربه يؤديه في وقته على أكمل أحواله.
فهؤلاء إذا وردت عليهم أقداره التي تصيبهم بغير اختيارهم، قابلوها بمقتضاها من العبودية، وهم فيها على ثلاث مراتب:
إحداهما: الرضى عنه فيها، والمزيد من حبه والشوق إليه، وهذا ناشيء من مشاهدتهم للطفه فيهم، وبره وإحسانه العاجل والآجل، ومن مشاهدتهم حكمته فيها، ونصبها سبباً لمصالحهم.
الثانية: شكره عليها كشكره على النعم، وهذا فوق الرضا عنه بها، فهاتان مرتبتان لأهل هذا الشأن.
الثالثة: للمقتصدين، وهي مرتبة الصبر التي إذا نزل منها نزل إلى اليأس والجزع، الذي لا يفيد إلا فوات الأجر وتضاعف المصيبة.
(14/71)
ولما كانت الحياة الدائمة مبنية على الحياة الفانية، بما فيها من عمل فمن آمن وعمل صالحاً فله الجنة، ومن كان بضد ذلك فله النار، أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالتجارة الرابحة فقال سبحانه: ( ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصف 10-13]
وقد استجاب أكثر الخلق للشيطان، فأشغلهم وخدعهم بالتجارة الخاسرة عن التجارة الرابحة التي أرسل الله بها الأنبياء، وكفى بذلك عقوبة ( ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 20].
والهدف والغاية من حياة الإنسان ثلاثة أمور وهي:
عبادة الله عز وجل.. والدعوة إلى الله.. والخلافة في الأرض.
يشتغل العبد بذلك كل وقته، ويجعل جزءاً يسيراً لكسب المعاش بعد معرفة أحكام العمل، كما قال سبحانه: ( ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجمعة: 10].
والشهوات مطلقة غير محدودة، وطلب الشهوات من الإنسان مطلق أيضاً غير محدود، فما يكاد يفرغ من شهوته إلا وتشتاق نفسه إلى شهوة أخرى.
ولو اجتمع الإنس والجن لتكميل شهوة إنسان واحد ما قدروا، وإنما تكميل الشهوات بيد الله عزَّ وجلَّ.
فالإنسان تصوره ضعيف، فلا يستطيع أن يكمل شهواته حسب معرفته، إنما يكملها ربه الذي خلقه، وعلم ما ينفعه وما يضره، فأعطاه في الدنيا منها القليل الذي يصلحه، وفي الآخرة يكملها الله لأوليائه في الجنة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فالإنسان في هذه الحياة، بسبب جهله، وقصور معرفته يريد تكميل شهواته والاستمتاع بها الآن.
فيريد الآن أن يأكل أحسن شيء.. ويريد أن يشرب أحسن شيء.. ويريد أن يسكن أحسن شيء.. ويريد أن يلبس أحسن شيء.. ويريد أن يركب أحسن شيء حسب معرفته.
(14/72)
ولكن الله الذي خلقه أعلم منه، وحكمة الله أن يأخذ من الشهوات بقدر حاجته، ويصوم عن تكميل الشهوات إلى غروب شمس حياته، وبعد ذلك له في الجنة النعيم المقيم: ( ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [السجدة: 17].
وأوامر الله عزَّ وجلَّ ليس لها حد.. وشهوات الإنسان ليس لها حد.. فمن قدم أوامر الله وأكملها.. وضحى بشهواته من أجلها.. أكرمه الله بالجنة وأكمل شهواته فيها.. ومن أكمل محبوبات الله في الدنيا من الإيمان والأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة.. أكمل الله له محبوباته في الآخرة.
فأين من ينافس في أعمال الآخرة؟ وأين من يسابق في الخيرات، ليحصل على أعلى الدرجات في الجنات؟
إننا نرى جهد الدنيا مهماً جداً، ولذلك وظائف الدنيا عليها إقبال مع أن أجورها قليلة، ولا تحقق إلا متعة قليلة وهمية.
أما وظائف الدين فلا إقبال عليها بسبب ضعف الإيمان، مع أن أجورها عظيمة، وتحقق متعة وسعادة في الدنيا والآخرة.
وعادة الملك أن يعطي الجائزة الكبيرة، والهدية الكبيرة بنفسه، أما الجائزة الصغيرة، والهدية الصغيرة، فيأمر أحد الخدم أن يعطيها من يريد.
وهكذا أسباب الدنيا من الأموال والأشياء والمناصب، كلها صغيرة، فيعطيها الله عن طريق الأسباب.
أما الدين والجنة وما فيها من النعيم، فهو كسب عظيم وكبير، يعطيه الله من علم أنه يستحق ذلك في نفسه.
فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنه لا يعطي الدين إلا لمن يحب.
والله عز وجل ابتلى كل إنسان بطريقين:
طريق الإيمان والأعمال الصالحة، وطريق الأموال والشهوات، والإنسان الفائز من يقضي حياته بطريق الإيمان والأعمال الصالحة، ويأخذ من الأموال والشهوات بقدر الحاجة، والخاسر بضد ذلك.
واليهود والمشركون أحرص الناس على الحياة، كما قال سبحانه عنهم ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [البقرة: 96].
ولماذا يحرصون على الحياة؟
(14/73)
لأنهم يعلمون أن ما قدموه من عمل لا يجعل لهم نصيباً في الآخرة، وعندئذ يكونون قد خسروا الدنيا بالموت الذي طلبوه، وخسروا الآخرة بالعمل السيئ الذي قدموه.
فهم لا يحبون الموت، بل يحرصون على الحياة أياً كانت، ولا يهم أن تكون حياة كريمة، ولا حياة مميزة على الإطلاق.
إنهم يريدون أي حياة... حياة حشرات، أو حياة بهائم... أو حياة سباع... أو حياة عقارب... أو حياة شياطين.
وأعلى أنواع الحياة حياة الأنبياء والمرسلين، ثم من سار على هداهم من الصديقين والشهداء والصالحين، الذين حياتهم خالصة لامتثال أوامر الله وطاعته وعبادته: ( ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [النساء 69-70].
والله سبحانه إذا رقَّى عبده بالتدريج نوَّر باطنه وعقله بالعلم، فرأى أنه لا خالق سواه، ولا يملك الضر والنفع والعطاء والمنع غيره، وأنه لا يستحق أن يعبد سواه، وكل معبود سواه فباطل.
ثم إذا رقاه الحق سبحانه درجة أخرى فوق هذه أشهده عود المفعولات إلى أفعاله سبحانه، وعود أفعاله إلى أسمائه وصفاته، وقيام صفاته بذاته، فيضمحل شهود غيره من قلبه.
ثم إذا رقاه درجة أخرى أشهده قيام العوالم به وحده بإقامته لها، وإمساكه لها. فإنه سبحانه يمسك السموات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ويمسك البحار أن تغيض أو تفيض على العالم، ويمسك الطير في الهواء صافات ويقبضن.
ويمسك القلوب الموقنه أن تزيغ عن الإيمان، ويمسك أرواح الحيوان أن تفارقه إلى الأجل المحدود، ويمسك على الموجودات وجودها، ولولا ذلك لاضمحلت وتلاشت.
والكل قائم بأفعاله وصفاته التي هي من لوازم ذاته، فهو سبحانه مستغن عن كل ما سواه، وما سواه فقير إليه بالذات.
(14/74)
فهذا العبد يشهد ربه منفرداً بالقيومية والتدبير، والخلق والرزق، والعطاء والمنع، والنفع والضر، ويرى جميع المخلوقات محل جريان أحكام الرب عليها، لا يملك شيئ منها لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
ومع هذا فهو ساع في طلب الوصول إليه، بالواجبات والنوافل حسب أمره وشرعه، ويشهد ألوهية الله فيتعلق به وحده دون سواه، ويحبه وينيب إليه، ويتوكل عليه، ويفرده بالمحبة والخوف، والرجاء والتعظيم والإجلال.
فهذه أعلى مقامات المؤمنين، وأحسن درجات المحسنين، قال سبحانه: ( ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [الأنفال 2-4].
ولهؤلاء السابقين في الجنه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [الواقعة 10-26].
وهذا السابق بالخيرات ما سبق إليها إلا بتوفيق الله تعالى ومعونته، فينبغي له أن يشتغل بشكر الله تعالى على ما أنعم عليه به، كما قال سبحانه وتعالى( ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ) [فاطر: 32].
فالظالم لنفسه.. والمقتصد.. والسابق بالخيرات.. هؤلاء الذين ورثوا الكتاب، وهم الذين اصطفاهم الله لوراثة الكتاب.
وبعرض متاجر الأقسام الثلاثة يتبين للعبد من أي التجار هو؟
أما جزاء الذين أورثهم الله كتابه فهو:
( چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فاطر: 33].
وهم متفاوتون في هذا النعيم حسب أعمالهم، ودرجاتهم حسب قوة إيمانهم، وحسن أعمالهم وتنوعها.
فإذا تم نعيمهم، وكملت لذاتهم وسرورهم حمدوا الله على كمال النعيم:
( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [فاطر: 34].
فلا حزن يعرض لهم بسبب نقص في جمالهم، ولا في طعامهم، ولا في شرابهم، ولا في لذاتهم، ولا في أجسادهم، ولا في دوام لبثهم، فهم في نعيم ما يرون عليه مزيداً.
(14/75)
فله الحمد حيث غفر لنا الزلات، وقَبِل منا الحسنات وضاعفها، وأعطانا من فضله، ما لم تبلغه أعمالنا ولا أمانينا.
وأوصلنا إلى دار المقامة التي يرغب الإنسان في الإقامة فيها، لدوامها وكثرة خيراتها، وتوالي مسراتها، وزوال كدورتها.
وذلك كله بفضله وكرمه لا بأعمالنا، فلولا فضله لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من كمال النعيم، حيث لا نصب ولا تعب.
( ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 35].
إن عظيم الهمة يستخف بالمرتبة السفلى من معالي الأمور، ولا تهدأ نفسه إلا حين يضع نفسه في أسمى منزلة، وأقصى غاية، في كل عمل محمود.
والناس أصناف:
فمنهم من يشعر بأن فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همته، فهذا يسمى عظيم الهمة.
ومنهم من فيه الكفاية لعظائم الأمور ولكنه يبخس نفسه، فيضع همه في أدنى الأمور وصغائرها، فهذا يسمى صغير الهمة.
ومنهم المتواضع الذي لا يكفي لعظائم الأمور، ويشعر أنه لا يستطيعها، وأنه لم يخلق لمثلها، فيجعل همته وسعيه على قدر استعداده.
ومنهم من لا يكفي للعظائم، ولكنه يتظاهر بأنه قوي عليها، وهذا يسمى فخوراً، والله لا يحب كل مختال فخور.
والقرآن الكريم يملأ النفوس بعظم الهمة والمسابقة إلى الخيرات، وهذا العظم هو الذي قذف بأولياء الله ذات اليمين وذات الشمال، فأتوا على قلوب مملوءة بالكفر والظلم، وجاهدوها حتى امتلأت بالإيمان والعدل.
وأتوا على عروش كانت ظالمة فنسفوها، ورفعوا فيها لواء العدل والأمن، وأتوا على عقول كانت ضالة ففجروا فيها أنهار العلوم تفجيراً.
فلله ما أعظم هذه الهمم، وما أشرف هذه النفوس الأبية.
ومجالات وأقسام علو الهمة كثيرة، يجمعها ست صفات هي:
طلب العلم... وحسن العبادة.. وحسن الاستقامة.. والبحث عن الحق... والدعوة إلى الله.. والجهاد في سبيل الله.
(14/76)
فعلو الهمة في طلب العلم يتمثل في الغيرة على الوقت أن ينفَقَ في غير فائدة، وحرص لايشفي غليله إلا بأكواب طافحة من كل علم، وغوص في البحث عن نفائس العلوم، وألسنة مهذبة لا تقع في لغو ولا مهاترة؛ لأنها مشغولة بالحق الذي أشغلها عن الباطل.
إن معالي الأمور وعزة المسالك محفوفة بالمكاره، والعلم أرفع مقام تطمح إليه الهمم، وأشرف غاية تتسابق إليها الهمم.
أما علو الهمة في العبادة والاستقامة فلها أقوام فقهوا عن الله أمره، وعرفوا حقيقة الدنيا، فاستوحشوا من فتنها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وارتفعت همتهم عن سفاسفها، وعرفوا الآخرة، فتعلقت قلوبهم بها، فلا تراهم إلا قوامين صوامين، ذاكرين شاكرين، مسبحين مستغفرين.
فما أعلى همتهم في التوبة والاستقامة، وما أقوى عزيمتهم في العبادة والإخبات، والذكر والدعاء.
وأما البحث عن الحق فما أكثر المهتدين الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق، وما فيه من أحكام، فَمَنَّ الله عليهم وأعطاهم ما سألوا، وحقق لهم ما أرادوا، كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [العنكبوت: 69].
وأما علو الهمة في الدعوة إلى الله، فمن أعظم ما يهتم به الداعية هداية قومه، وبلوغ الجهد في النصح لهم، والصبر على مشاق الدعوة، حتى تبلغ الغاية التي يريد الله أن تبلغها.
وقد كان الرسل الكرام على رأس قائمة عالي الهمة في هذا المجال، وكان أولو العزم منهم في الذؤابة.. بذلاً.. وصبراً.. وتضحية، وكان سيدنا محمد ( في ذلك الغاية العظمى، والمثل الأعلى الذي ينبغي أن يحذو حذوه كل داعية إلى الله عزَّ وجل، إذ لم يكن همه هداية قومه أو العرب فحسب، بل العالم كافة، وخاطب ملوك العالم ورؤساءه ليدخلوا في دين الإسلام.
(14/77)
والجهاد في سبيل الله يحتاج إلى رجال عالي الهمة، وقد ضرب رسول الله ( المثل الأعلى في هذا المجال فلم يكن أحد في وقت القتال أقرب إلى العدو منه، وكان أصحابه رضي الله عنهم مثلاً في الشجاعة والإقدام اقتداء به.
فما أحوج المسلمين اليوم إلى هذه الروح الوثابة، والهمة العالية؛ لتجاهد ضد أعداء الله، وأعداء الدين الحق، وتطهر الأرض من دَنَس أعداء الله ورسوله ودينه، وتنشر الفضيلة والحق في العالم.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
اللهم فقهنا في الدين واهدنا الصراط المستقيم، واجعلنا من عبادك المخلصين، ودعاتك الصادقين، وحزبك المفلحين.
( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ?) [آل عمران: 53].
6- فقه الغربة
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 116].
وقال النبي (: «إِنَّ الإِسْلامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
الغربة ثلاثة أنواع:
الأولى: غربة أهل الله، وأهل سنة رسول الله ( بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله ( أهلها، وهي الغربة التي تكون في مكان دون مكان، وزمان دون زمان، وبين قوم دون قوم.
وأهل هذه الغربة هم أهل الله حقاً، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسول الله (، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به.
فهذه الغربة لا وحشة على أهلها لا في الدنيا ولا في الآخره، فوليهم الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداهم أكثر الناس وجفوهم.
ومن هؤلاء الغرباء مَنْ ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (146).
(14/78)
«رُبَّ أشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأبْوَابِ، لَوْ أقْسَمَ عَلَى ا? لأبَرَّهُ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
والمؤمن حقاً في الدنيا كالغريب، لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال، وله حال.
ومن صفات هؤلاء التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله تعالى ورسوله (.
وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً، وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم، فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم، وهم النُّزَّاعُ من القبائل.
تغربوا عن قبائلهم وعن بلادهم فراراً بدينهم، وإعلاء لكلمة ربهم.
فطوبى لهؤلاء الغرباء الذين يَصْلحون إذا فسد الناس، ويُصْلحون ما أفسد الناس: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحزاب: 39].
والإسلام الحق اليوم هو أشد غربة منه في أول الإسلام، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة.
فالإسلام الحقيقي غريب جداً، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس، فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون.
فأهل الإسلام في الناس غرباء.. والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء.. وأهل العلم في المؤمنين غرباء.. وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع غرباء.. والداعون إليها، الصابرون على أذى المخالفين أشد هؤلاء غربة.
ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً، فمن أراد أن يسلك هذا الصراط المستقيم فليوطِّن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه، وطعنهم في سيرته، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه، كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع نبيه وإمامه صلى الله عليه وسلم .
فما أشد حال أهل هذه الغربة؟
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2622).
(14/79)
وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنين وسبعين فرقة، ذات أتباع ورئاسات وولايات ومناصب، ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول (، فالواحد من هؤلاء الغرباء غريب في أمور دنياه وآخرته، لا يجد من الناس مساعداً ولا معيناً فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدعة، داع إلى الله ورسوله بين دعاة أهل الأهواء والبدع، وآمر بالمعروف وناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر، والمنكر لديهم معروف، والهدى ضلالة، والضلالة هدى.
الثانية: غربة مذمومة، وهي غربة أهل الباطل وأهل الفجور بين أهل الحق، فهي غربة بين حزب الله المفلحين.
فهؤلاء وإن كثروا فهم غرباء على كثرة أصحابهم، أهل وحشة على كثرة مؤنسيهم.
الثالثة: غربة مشتركة، فإن الناس كلهم في هذه الدار غرباء، فإنها ليست لهم بدار مقام، ولا هي الدار التي خلقوا لها، كما بين ذلك النبي (: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (1).
والاغتراب أمر يشار به إلى الانفراد عن الأكفاء، فكل من انفرد بوصف شريف دون أبناء جنسه فإنه غريب بينهم؛ لعدم مشاركته أو لقلته.
ولما كانت الغربة هي الانفراد، والانفراد إما بالجسم وإما بالقصد والحال، وإما بهما، كان الغريب غريب جسم، وغريب قلب وإرادة، أو غريباً بالاعتبارين.
فالغربة على ثلاث درجات:
غربة عن الأوطان.. وغربة الحال.. وغربة الهمة.
فالغربة الأولى غربة بالأبدان.
والثانية: غربة بالأفعال والأحوال، والمراد به العالم بالحق العامل به الداعي إليه، وهذا من الغرباء الذين طوبى لهم، فهو صاحب صدق واخلاص بين أهل الكذب والنفاق.
والثالثة: غربة بالهمة، وهي غربة طلب الحق سبحانه.
فإن همة العارف حائمة حول من يعرف، فهو غريب بين أبناء الآخرة، فضلاً عن أبناء الدنيا، لا يشغله عن مطلوبه ومحبوبه شاغل إلا ما ارتضاه محبوبه.
7- فقه الموت
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6416).
(14/80)
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجمعة: 8].
وقال الله تعالى: ( ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 185].
الموت: تغير حال الإنسان، وانتقال من دار إلى دار.
والروح باقية بعد مفارقة الجسد، إما معذبة أو منعمة، ومفارقتها للجسد معناه: خروج الجسد عن طاعتها، وسكونه عن الحركة بفقدها، فإن الأعضاء والجوارح آلات للروح تستعملها.
والروح بنفسها تَعْلم الأشياء من غير إعلام، ولذلك قد يتألم بنفسه بأنواع الغم والحزن والكمد، ويتنعم بأنواع الفرح والسرور، وكل ذلك لا يتعلق بالأعضاء.
فكل ما هو وصف للروح بنفسها فيبقى معها بعد مفارقة الجسد، وما هو لها بواسطة الأعضاء يتعطل بموت الجسد إلى أن تعاد الروح إلى الجسد عند البعث.
وكل أعضاء الإنسان آلات والروح مستعملة لها، والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها على الروح.
والإنسان في الحقيقة هو الروح المدرك للعلوم والآلام واللذات، وذلك لا يموت ولا ينعدم، ومعنى الموت انقطاع تصرفه عن البدن، وخروج البدن على أن يكون آلة له، فحقيقة الإنسان نفسه وروحه وهي باقية.
والموت أشد ما يحاول الإنسان أن يروغ منه، أو يبعد شبحه عن خاطره، ولكن أنى له ذلك، والموت طالب لا يمل الطلب، ولا يبطئ الخطى، ولا يخلف الميعاد: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجمعة: 8].
والنفس البشرية ترى الحق كاملاً وهي في سكرات الموت، تراه بلا حجاب، وتدرك منه ما كانت تجهل، وما كانت تجحد، ولكن بعد فوات الأوان، حين لا تقبل توبة، ولا ينفع إيمان، قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [ق: 19].
والمؤمن يكشف له بعد الموت من سعة جلال الله، ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن الضيق، كالمحبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف، لا يبلغ طرفه أقصاه.
ونسبة سعة الآخرة إلى الدنيا كنسبة سعة الدنيا إلى الرحم وأعظم.
والناس في هذه الدنيا ثلاثة:
(14/81)
إما منهمك في الدنيا وإما تائب مبتدي، وإما عارف منته.
فالغافل المنهمك في الدنيا، لا يذكر الموت، وإن ذكره فيذكره للتأسف على دنياه، ويشتغل بمذمته، وإن ذُكِّر به كرهه، ونفر منه، فهذا يزيده ذكر الموت من الله بعداً؛ لجهله وسوء عمله.
وأما التائب: فإنه يكثر من ذكّر الموت، لينبعث من قلبه الخوف والخشية، فيفي بتمام التوبة، وربما يكره الموت خوفاً من الموت قبل التوبة، وإصلاح الزاد.
فهذا معذور في كراهة الموت؛ لأنه ليس يكره الموت ولقاء الله، وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، كالذي يتأخر على لقاء الحبيب مشتغلاً بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه، فلا يعد كارهاً للقائه.
وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له، لا شغل له سواه.
وأما العارف: فإنه يذكر الموت دائماً؛ لأنه موعد لقائه لحبيبه والحبيب لا ينسى قط موعد لقاء حبيبه، فهو مستعد كل وقت في كمال زينته بإيمانه وطاعته للقاء محبوبه.
وهذا غالباً إما أن يكره الموت ليكمل استعداداته وزينته للقاء ربه، وإما أن يستبطيء مجيء الموت، ويحب مجيئه، ويتخلص من دار العاصين، وينتقل إلى جوار رب العالمين.
والموت هادم اللذات، وخطره عظيم، وما بعده أفظع منه، وغفلت الناس عنه بسبب قلة ذكرهم له، وقلة فكرهم فيه.
ومن يذكره من الناس لا يذكره بقلب فارغ، بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا، فلا ينجع ذكر الموت في قلبه.
فالطريق النافع أن يفرِّغ العبد قلبه عن كل شيء إلا عن ذكر الموت، الذي هو بين يديه، وأقرب من شراك نعله إليه، فإذا باشر ذكر الموت قلبه فيوشك أن يؤثر فيه.
وعند ذلك يقل فرحه وسروره في الدنيا، وينكسر قلبه.
وأنجع طريق فيه أن يكثر من ذكر أقرانه، الذين ماتوا قبله، فيتذكر صورهم في مناصبهم، وقصورهم وأحوالهم، ثم يتذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب، وكيف محا التراب الآن حُسْن صورهم؟.
وكيف تقطعت أوصالهم في قبورهم؟.
وكيف خرست ألسنتهم، وصمت أذانهم، وعميت أبصارهم؟
(14/82)
وكيف أرملوا نساءهم، وأيتموا أطفالهم، وقسمت أموالهم؟.
وكيف خلت منهم دورهم ومساجدهم ومجالسهم؟
وماذا قالوا؟ وماذا قيل لهم؟ وماذا عملوا؟ وماذا وجدوا؟.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الغاشية: 25، 26].
فما أعظم الخطب، وما أشد الكرب هناك حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. قال الله تعالى: ( ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 185].
وطول الأمل في الدنيا داء وبلاء وشقاء، وسببه أمران:
الجهل.. وحب الدنيا.
فأما الجهل: فهو أن الإنسان قد يعول على شبابه فيستبعد قرب الموت مع الشباب، وليس يعلم أن الموت في الشباب أكثر.
وقد يستبعد الموت لصحته ويستبعد الموت فجأة، ولا يدري أن ذلك غير بعيد، وإن كان بعيداً فالمرض فجأة غير بعيد، والموت يطلب الإنسان كما يطلبه رزقه.
قال النبي (: «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» أخرجه ابن ماجه صلى الله عليه وسلم (1).
وأما حب الدنيا: فهو أنه إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها، وعلائقها وضيعاتها، وأرباحها ومكاسبها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، ومكدر أنسها ونعيمها، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه.
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (2144)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1743).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (2607).
(14/83)
والإنسان مشغوف بحب الدنيا والأماني الباطلة، فلا يزال يلهو ويلعب، ويبني ويهدم، ويجمع ويفرق، ويسعى لتكميل الشهوات واللذات، ويسوِّف ويؤخر التوبة، ويظل عاكفاً على عمارة ما أمر بتخريبه والإعراض عنه، وعلى تخريب ما أمر بتعميره والاستكثار منه، وما يلزم لها من الإيمان والطاعات ولا يزال كذلك حتى تخطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسراته وتتحقق خسارته.
فما أعظم خسارة هؤلاء، قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 51].
وقال الله تعالى: ( ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [مريم: 59].
وإذا عرفنا سبب كراهية الموت، وأنه الجهل، وحب الدنيا، فلا بدَّ للسلامة والنجاة مما بعد الموت، من معرفة العلاج، والشروع في التداوي قبل حلول الأجل.
أما الجهل: فيُدفع بالفكر والتأمل، وبسماع الحكمة من القلوب الزاكية الطاهرة، وبذلك يعلم العبد أن عمله الصالح في الدنيا لا بدَّ له من جزاء وثواب في الآخرة، ولا يتم ذلك إلا بعد الموت، فالموت باب النعيم للمتقين، وباب الشقاء للمجرمين.
وأما حب الدنيا فهو الداء العضال الذي أعيى الأولين والآخرين علاجه، فإخراجه من القلب شديد، ولا علاج له إلا بالإيمان بالله واليوم الآخر، وما فيه من عظيم العقاب لمن عصى الله، وجزيل الثواب لمن أطاعه.
ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا.
وإذا رأى العبد حقارة الدنيا ونفاسة الآخرة استنكف أن يلتفت إلى الدنيا كلها، ولو أعطي ملك الارض من المشرق إلى المغرب، فإن حب العظيم هو الذي يمحو من القلب حب الحقير.
فما أعظم الموت، وما أعظم الغفلة عنه، فكم من الخلق جاءهم الموت في وقت لم يحتسبوا
أما من كان مستعداً فقد فاز فوزاً عظيماً، وأما من كان مغروراً بطول الأمل فقد خسر خسراناً مبيناً.
فما أعظم الموت، وما أشد سكراته.. وما أعظم هول ما بعده.
(14/84)
ولو لم يكن بين يدي العبد كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها، لكان جديراً بأن ينغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره.
والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، وأكبر مجالس اللهو، فانتظر أن يدخل عليه جندي فيضربه بخمس خشبات لتكدرت عليه لذته، وفسد عليه عيشه، وهو في كل نَفَس يدخل عليه ملك الموت وهو عنه غافل.
فما لهذا سبب إلا الجهل والغرور.
والمشروع عند الموت من صورة المحتضر هو الهدوء والسكينة، ومن لسانه أن يكون ناطقاً بالشهادة، ومن قلبه أن يكون حَسَن الظن بالله تعالى.
ويستحب أن يذكر للمحتضر محاسن أعماله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه.
ثم يُغسَّل الميت ويصلَّى عليه، ثم يُدفن، ويبقى في قبره منتظراً يوم البعث، ويظل في قبره منعماً أو معذباً حسب عمله، ثم يبعث وينتقل إلى دار القرار في الجنة أو النار.
كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ?) [الروم: 14].
وليس معنى الموت انتهاء الحياة وانتهاء المشاكل، بل معناه انتقال الإنسان من حياة صغيرة قصيرة حقيرة فانية إلى حياة أبدية طويلة، إما في سعادة، أو في شقاء. فمعناه نهاية الحياة والأحوال الفانية، وبداية الحياة والأحوال الأبدية.
فالله كتب على جميع الكائنات الموت والفناء، ولكن الإنسان خُلق للبقاء، لكنه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، ومن دار إلى دار، حتى يستقر في دار المقام في الجنة أو النار.
والإنسان إذا مات وفارق الحياة لا يستطيع أن يأخذ معه من الأموال شيئاً، ولو أخذ كل ذهب الدنيا معه لكان كالتراب بالنسبة لنعيم الجنة.
فكل ما في الدنيا لا يساوي ثواب حسنة واحدة يوم القيامة، والإنسان إذا مات يذهب بالأعمال إلى الآخرة، وبعد الموت إما أن تنتهي المشكلة ويدخل الجنة، أو تبدأ المشكلة ويدخل النار.
فالناس لا بدَّ لهم من السجن:
(14/85)
فمن دخل السجن في الدنيا، وامتثل أوامر الله إلى أن تنتهي مدة سجنه بالموت أدخله الله الجنة، وأطلق شهواته فيها، فالدنيا بصغرها وضيقها كالسجن للمؤمن الذي ينتظر الخروج منها إلى الجنة، وهي كالجنة بالنسبة للكافر الذي سينتقل منها إلى السجن المؤبد في نار جهنم كما قال النبي (: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
ومن أطلق شهواته في الدنيا، ولم يمتثل أوامر الله، عاقبه الله في السجن يوم القيامة، وقيد شهواته وجوارحه، وعذبه في نار جهنم.
فالناس رجلان: إما خارج من السجن.. وإما ذاهب إلى السجن.
وحياة الإنسان في الدنيا قصيرة، ولها بداية ولها نهاية، وحياة الإنسان في الآخرة مؤبدة لها بداية ولا نهاية لها.
وقد فرغ الله إلى كل عبد من خمس:
من عمله.. وأجله.. ورزقه.. وأثره.. ومضجعه.
ومهما عاش الإنسان فإنه سيموت، ومهما أحب من الأشياء فإنه سيفارقها، ومهما عمل من الأعمال فإنه سيلاقيها ويحاسب عليها.
وقد خلق الله الإنسان، وجعله محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، محدود القدرة.
وكل يوم، وكل ليلة، وكل لحظة تمر بالإنسان فهو يزداد من الدنيا بعداً ومن الآخرة قرباً، فوا عجباً لهذا الإنسان.. إن على أَثَره طالباً لا يفوته، وقد نُصب له علم لا يجوزه، فما أسرع ما يبلغ العلم، وما أوشك أن يلحقه الطالب.
وقد أخفى الله عزَّ وجلَّ علم الساعة، ومعرفة الآجال؛ رحمة بالعباد.
فلو عرف الإنسان مقدار عمره، فإن كان قصير العمر لم يهنأ بالعيش، وإن كان طويل العمر فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي، ويقول إذا قرب الوقت أحدثت التوبة.
وهذا مذهب لا يرتضيه المخلوق فكيف يرتضيه الخالق؟.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2956).
(14/86)
فلو أن عبداً من عبيدك عمل على أن يسخطك أعواماً، ثم يرضيك ساعة واحدة إذا تيقن أنه صائر إليك لم تقبل منه، ولم يفز لديك بما يفوز به مَنْ همه رضاك في كل أوقاته.
وكذا سنة الله عزَّ وجلَّ أن العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم تنفعه التوبة كما قال سبحانه: ( چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [النساء: 17].
وأوحش ما يكون الناس في ثلاثة مواطن:
يوم يولد الإنسان فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه فيصرخ.
ويوم يموت، فيرى قوماً لم يكن عاينهم من قبل.
ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم.
والأجل أجلان:
أجل مطلق لا يعلمه إلا الله، فهذا لا يتبدل ولا يتغير.
وأجل مقيد، وهو ما في صحف الملائكة، فإن الله أمر الملك أن يكتب للعبد أجلاً، وقال إن وصل رحمه زدته كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر.
فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المنافقون: 11].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأنْ يُنْسَأ لَهُ فِي أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
والأجل قسمان:
أحدهما: أجل كل عبد الذي ينقص به عمره.
الثاني: أجل القيامة العامة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5985) واللفظ له، ومسلم برقم (2557).
(14/87)
فأجل الموت قد يعلمه الله لمن شاء من عباده كالملائكة الذين يكتبون رزق العبد وأجله وعمله كما قال (: «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأجَلُهُ، وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
أما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا الله عز وجل كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 2].
فوقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا غيرهما من المخلوقات.
والله يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة، فإذا وصل العبد رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب.
والله عزَّ وجلَّ قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم قدر مقادير الخلق حين خلقهم وأوجدهم، ثم يقدر في ليلة القدر ما يكون في ذلك العام.
وكذلك يقدر الله خلق كل إنسان في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة كذلك، ثم يكون مضغة كذلك، ثم ينفخ فيه الروح، ويبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات:
بكتب رزقه.. وأجله.. وعمله.. وشقي أو سعيد.
وإذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظمها.
ثم إذا ولد قُدِّر مع ولادته كل سنة ما يلقاه في تلك السنة، وهو ما يقدر ليلة القدر.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم(3332)، واللفظ له، ومسلم برقم (2643)
(14/88)
ونظير هذا: عرض أعمال العباد على الله، فيعرض عمل الأسبوع يوم الإثنين والخميس كما قال صلى الله عليه وسلم : «تُعْرَضُ أعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ، يَوْمَ الإثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا، أوِ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
ويعرض عمل النهار في آخره، وعمل الليل في آخره، ويرفع عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار.
فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض الأسبوعي في الإثنين والخميس، والعرض فيه أخص من العرض السنوي في شعبان، ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله، وعرض على الله، وطويت الصحف، وهذا عرض آخر، ثم تعرض الخلائق كلها على الله يوم القيامة كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [الكهف: 48].
وتعرض جهنم على الكفار كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ??) [الكهف: 100].
ومن الناس من أحب الموت.. ومنهم من كرهه، إما لضعف محبته لله.. وإما لكونها مشوبة بحب شيء من الدنيا.. أو لأنه يرى ذنوبه فيحب أن يبقى ليتوب.. ومنهم من يرى نفسه في ابتداء مقام المحبة فيكره عجلة الموت قبل أن يستعد للقاء الله تعالى.. فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال المحبة.
والإحياء والإماتة أمران مكروران في كل لحظة، معروضتان لحس الإنسان وعقله، وسر الحياة والموت لا يعلمه إلا الله الذي خلق الموت والحياة، ولذلك وصف إبراهيم صلى الله عليه وسلم ربه بالصفة التي لا يشاركه فيها أحد، ولا يستطيعها أحد كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [البقرة: 258].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2565).
(14/89)
فلما قال الكافر صلى الله عليه وسلم أنا أحيي وأميت) عَدَل إبراهيم عن هذه السنة الكونية الخفية إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية، وعدل عن طريقة العرض المجرد إلى طريقة التحدي، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويجادل في الله، ليريه أن الرب وحده هو مصرف هذا الكون كله، وهو رب الناس المشرع لهم فقال: ( ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) وتلك حقيقة مكرورة مرئية يومية، معلومة لكل أحد.
فماذا حصل؟.
( ک گ گ گ) فالتحدي قائم، والأمر ظاهر، ولا سبيل إلى سوء الفهم أو الجدال أو المراء.
وكان التسليم أولى، والإيمان أجدر، ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق أمسك بالذي كفر، ولم يهده الله إلى الحق؛ لأنه لم يلتمس الهداية، ولم يرغب في الحق، وظل ظالماً: ( گ ? ? ? ? ?) [البقرة: 258].
وهذا مثل للضلال والعناد يتزود به الدعاة إلى الله في مواجهة المنكرين.
والإحياء والإماتة، وطلوع الشمس من المشرق آيتان عظيمتان معروضتان للبصائر والأبصار بلا تكلف، يسهل الاهتداء بهما في مسألة الإيمان على أي مخلوق، وإذا كان عمر الإنسان محدوداً، والأجل مكتوباً، فلتنظر نفس ما قدمت لغد؟، ولتنظر نفس ماذا تريد؟.
أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان، وأن تحصر همها كله في هذه الأرض؟
أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى، وإلى حياة أكبر من هذه الدنيا؟.
( گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [آل عمران: 145].
وشتان بين حياة وحياة، وشتان بين اهتمام وإهمال.
فالذي يعيش لهذه الأرض وحدها، ويريد ثواب الدنيا وحدها، إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام والبهائم، ثم يموت خاسراً في موعده المضروب بأجله المكتوب.
أما الذين يدركون نعمة الإيمان فيحيون حياة الإنسان الذي كرمه الله، واستخلفه، وأعلى مكانه، فيرتفعون عن مدارج الحيوان، ويشكرون الله على تلك النعمة، وينهضون بتبعات الإيمان، ثم يموت هذا الإيمان رابحاً مطمئناً في موعده المضروب، وأجله المكتوب.
(14/90)
وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت وهي لا تملكه، إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه، وتملك فيه اختيار الدنيا أو الآخرة، وتنال في الآخرة جزاء ما تختار.
والله عزَّ وجلَّ وحده هو الذي يحيي ويميت، فبيده إعطاء الحياة، وبيده استرداد ما أعطى، وكل شيء بأجل مسمى.
وللناس آجال لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم، أو في ميادين طلب الرزق، أو ميادين الغزو، وعنده الجزاء بعد ذلك، هذا اعتقاد المؤمن.
أما الكفار فلفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون، لا يرون إلا الأسباب الظاهرة؛ بسبب انقطاعهم عن الله، وعن قدره الجاري في الحياة.
فعلة القتل أو الموت أو الحياة كلها بيد الله سبحانه، والموتى والقتلى إنما يلبون النداء، وهو استيفاء الأجل، ونداء المضجع.
وقدر الله وسنته في الحياة والموت كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 156].
وقال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 78].
على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل، فهذه ليست نهاية المطاف، بل هناك حياة أخرى، ونعيم أعلى خير مما فيه أهل الدنيا: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 157].
وكل الخلق بعد الموت راجعون إلى الله، محشورون إليه على كل حال، سواء ماتوا على فرشهم، أو ماتوا وهم يضربون في الأرض، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان، وما لهم مصير سوى هذا المصير، والتفاوت إنما يكون في النية والعمل الصالح، أما النهاية فواحدة، موت أو قتل، في الموعد المسمى.
وهناك إما مغفرة من الله ورحمة... أو غضب من الله وعذاب.
وبهذا اليقين تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة، وحقيقة قدر الله، وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر.
(14/91)
وإلى ما وراء القدر من حكمة.. وما وراء الابتلاء من جزاء: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المنافقون: 11].
والله جل جلاله هو القاهر فوق عباده، وهم تحت سيطرته وقهره، فهم ضعاف في قبضة هذا السلطان، لا قوة لهم ولا ناصر، وكل نَفَس من أنفاسهم بقدر.
خلقهم الله لعبادته، وأرسل إليهم رسلاً يحفظونهم، ورسلاً آخرين يدعونهم إلى الله، ورسلاً آخرين يقبضون أرواحهم، وكل يؤدي رسالته حسب أمر ربه: ( ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الأنعام: 61].
وسَيُرد الخلق كلهم بعد الموت إلى ربهم ومولاهم الذي أنشأهم وأطلقهم للحياة ما شاء، ثم مردهم إليه عندما يشاء، ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب.
فهو وحده يحكم.. وهو وحده يحاسب.. وهو لا يبطئ في الحكم.. ولا يمهل في الجزاء: ( چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأنعام: 62].
فلا بدَّ للناس أن يستيقنوا أن الله محاسبهم ومجازيهم على أساس شريعته هو لا شريعة غيره، وأنهم إن لم ينظموا حياتهم، ويقيموا معاملاتهم كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم وفق شريعة الله في الدنيا، فإن هذا سيكون من أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله عزَّ وجلَّ.
وأنهم سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا إلهاً في الأرض، ولكنهم اتخذوا من دونه أرباباً متفرقة، وأشركوا مع الله غيره من خلقه.
والأمر كله لله، وسنة الله ماضية لا تتخلف، وأَجَله الذي أَجَّله لا يستعجل لكل حي، ولكل فرد، ولكل أمة: ( ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 49].
والآجال كالأرزاق كلها بيد الله، والأسباب والأمراض ستار وراءه قدرة الله.
والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي، هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود.. وقد ينتهي بالهلاك المعنوي، هلاك الهزيمة والضياع.. وهو ما يقع للأمم إما لفترة تعود بعدها للحياة.. وإما دائماً فتضمحل، وتنمحي شخصيتها، وتنتهي إلى اندثارها كأمة، وإن بقيت كأفراد.
(14/92)
وكل أولئك وفق سنة الله التي لا تتبدل مصادفة ولا ظلماً.
فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا، والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها.
والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها، والرسول يدعوها لما يحييها، لا بمجرد الاعتقاد فقط، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة، والحياة وفق المنهج الذي شرعه الله لها، والشريعة التي أنزلها، وإلا جاءها الأجل وفق سنة الله كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 24-25].
والحياة والموت حادثان يقعان في كل لحظة، وليس إلا الله وحده يملك الحياة والموت: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [المؤمنون: 80].
فالبشر كلهم أعجز وأقل من بث الحياة في حشرة واحدة، وأعجز من سلبها عن حي من الأحياء، فالذي يملك ويهب الحياة هو الذي يعرف سرها، ويملك أن يهبها ويستردها.
والبشر قد يكونون سبباً لإزهاق الروح، لكن تجريد الحي من حياته بيد الله وحده، والذي يملك اختلاف الليل والنهار هو الله وحده، وهو سنة كونية كسنة الموت والحياة.. هذه في النفوس والأجساد.. وتلك في الكون والأفلاك.
وكما يسلب الحياة من الحي فيعتم ويهمد، كذلك هو يسلب الضوء من الأرض فتعتم وتسكن.
فسبحان الخالق المالك الذي يملك وحده تصريف هذا الكون الهائل، وهذه الأحياء المبثوثة من نبات وحيوان، وطير وإنسان.
وقد وكل الله عزَّ وجلَّ ملك الموت بقبض جميع الأرواح كما قال سبحانه( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 11].
ولملك الموت أعوان من الملائكة كما قال سبحانه: ( ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 50-51].
إن أمر النشأة الأولى ونهايتها، أمر الحياة والموت، كل ذلك بيد الله وحده، وهو أمر مألوف وواقع في حياة الناس، فكيف لا يصدقون أن الله خلقهم.
(14/93)
إن ضغط هذه الحقيقة على الفطرة أضخم وأثقل من أن يقف له الكيان البشري، أو يجادل فيه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [الواقعة: 57-59].
إن دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يُوْدِع الرجل ما يُمْني رحم المرأة، ثم ينقطع عمله وعملها، وتأخذ يد القدرة الإلهية في العمل وحدها في هذا الماء المهين، تعمل وحدها في خلقه وتنميته، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه، حتى يكون خلقاً آخر، حتى يكون بشراً سوياً له سمع وبصر، وقلب وروح، وعقل وإدراك، ورأس ولسان، وأيد وأقدام.
يأكل ويشرب.. ويضحك ويبكي.. ويقوم ويقعد.. وينام ويستيقظ: ( گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 12-16].
هذه هي البداية، أما النهاية فهي الموت الذي ينتهي إليه كل حي، إنه قدر الله، ومن ثم لا يفلت منه أحد، وهو حلقة في سلسلة النشأة التي لا بدَّ أن تتكامل: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [الواقعة: 60-62].
والله الذي قدر الموت هو الذي قدر الحياة، قدّر الموت على أن ينشئ أمثال من يموتون، حتى يأتي الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا، فإذا انتهت عند الأجل الذي سماه كانت النشأة الأخرى: ( ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 20].
والله سبحانه القادر على كل شيء، وله القدرة المطلقة التي لا تتقيد بقيد، وهذه حقيقة يطبعها القرآن في قلب المؤمن، فيعرفها ويتأثر بمدلولها، ويعلم أنه حين يركن إلى ربه، فإنما يركن إلى قادر يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [الحج: 6-7].
فعلى الإنسان أن يستعد للموت ويكثر من ذكره، والاستعداد للموت يكون بالتوبة من المعاصي، وإيثار الآخرة، والخروج من المظالم، والإقبال على الله بالطاعات، واجتناب المحرمات.
(14/94)
وعلى المسلم أن يتذكر دائماً أن الموت فيه فراق العمل والحرث للآخرة، لا على أنه فراق للأهل والأحباب ولذات الدنيا، فهذه نظرة قاصرة تزيده حسرة وألماً.
أما النظرة الأولى: فتبعثه ليستعد ويزيد في عمل الآخرة، والإقبال على الله.
والمسلم لا يتمنى الموت، إن كان محسناً لعله أن يزداد إحساناً، وإن كان مسيئاً لعله أن يتوب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّياً لِلْمَوْتِ فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ أحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْراً لِي» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وحياة الإنسان خطوات إلى الآخرة، وأنفاس معدودة منصرمة، كل نَفَس منها يقابله آلاف الآلاف من السنين في دار البقاء.
والعبد منساق بزمنه إلى دار النعيم أو إلى دار الجحيم، وبقاؤه في الدنيا كساعة من النهار، فما أولى العاقل أن لا يصرف منها نَفَساً، إلا في أحب الأمور إلى الله، فلو صرفه فيما يحبه وترك الأحب لكان مفرطاً، فكيف إذا صرفه فيما لا ينفعه؟ وكيف إذا صرفه فيما يمقته عليه ربه؟.
وسيُسأل كل إنسان عما قدم وأخر.. وعن كل طاعة عملها.. وعن كل معصية فعلها.. وعن كل فاحشة اقترفها.
وسيرجع الناس إلى ربهم يوم القيامة، وسيحاسبهم على كل ما عملوه.. وكل ما أسروه وأعلنوه.. وكل ما جمعوه وفرقوه.. وكل ما حفظوه وضيعوه كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الغاشية: 25-26].
8- فقه البعث والحشر
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 51-53].
وقال الله تعالى: ( ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [يونس: 45].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6351) واللفظ له، ومسلم برقم (2680).
(14/95)
وقال الله تعالى: ( ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التغابن: 7].
ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى، وهي نفخة الفزع والموت، ثم ينفخ النفخة الثانية، وهي نفخة البعث والنشور كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الزمر: 68].
فإذا نفخ في الصور نفخة البعث خرج الناس من الأجداث والقبور ينسلون إلى ربهم، ويسرعون للحضور بين يديه، الأولون والآخرون، والإنس والجن، ليحاسبوا على أعمالهم، ثم يساقون حسب أعمالهم، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فسبحان الله ما أعظم هذا المَلَك، إسرافيل بنفخة واحدة منه يصعق أهل السماء وأهل الأرض إلا من شاء الله، وبنفخة أخرى يحيا جميع الخلق، ويخرجون من قبورهم قيام ينظرون.
وإذا كانت هذه قوة نفخته، فكيف بقوة بدنه؟.. وكيف تكون قوة خالقه الذي خلقه وَأَمَره؟.
وما أعظم ما يقرع سمع سكان القبور من شدة نفخ الصور، فإذا صيحة واحدة تنفرج بها القبور عن رؤوس الموتى، فيثورون دفعة واحدة.
فَتَوَهَّم نفسك معهم، وقد وَثَبْتَ متغير الوجه، مُغْبَرَّ البدن، مضطرب الفؤاد، مبهوتاً من شدة الصعقة، شاخص العين نحو النداء، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي طال فيها بلاؤهم، وقد أزعجهم الفزع والرعب، فضلاً عما هم فيه من الهموم والغموم، وشدة الانتظار لعاقبة الأمر.
وبهذه النفخة يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم يلبث الخلق بعد النفخة الأولى أربعين سنة، أو شهراً، أو يوماً.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ» قَالُوا: يَا أبَا هُرَيْرَةَ! أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أبَيْتُ، قَالُوا: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أبَيْتُ؟ قَالُوا: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أبَيْتُ «ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ».
(14/96)
ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الزمر: 68].
ثم انظر كيف يساقون بعد البعث والنشور حفاة عراة غرلاً إلى أرض المحشر، أرض بيضاء، وقاع صفصف، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، لا ترى فيها ربوة يختفي الإنسان وراءها، ولا وهدة ينخفض عن الأعين فيها، بل هي صعيد واحد لا تفاوت فيه، يساقون إليه زمراً، فسبحان من جمع الخلائق على اختلاف أصنافهم من أقطار الأرض إلى أرض المحشر، لا يتخلف منهم أحد: ( ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [الكهف: 47].
فأحضر قلبك، وانظر إلى صورتك وأنت واقف هناك عارياً ذليلاً، متحيراً بهوتاً، وجلاً خائفاً، منتظراً لما سوف يجري عليك وعلى غيرك من القضاء بالسعادة، أو الشقاوة الأبدية.
يستقبلك يوم عظيم شأنه.. ترى فيه السماء قد انفطرت.. والكواكب من هوله انتثرت.. والنجوم قد انكدرت.. والشمس قد كورت.. والجبال قد سيرت.. والبحار قد سجرت.. والجحيم قد سعرت.. والجنة قد أزلفت.. يوم تبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات.. يوم تحمل فيه الأرض والجبال فتدك دكة واحدة.. يوم ترجّ فيه الأرض رجّاً.. وتبسّ الجبال بسّاً.. يوم يكون فيه الناس كالفراش المبثوث.. يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت.. وتضع كل ذات حمل حملها: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 2].
يومٌ لا يُسأل أحد عن ذنبه من إنس ولا جان، ولا يُسأل فيه عن ذنوبهم المجرمون، بل يؤخذ فيه بالنواصي والأقدام: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [آل عمران: 30].
يوم تعلم فيه كل نفس ما قدمت وأخرت.
والناس بعد هذه الأهوال يساقون إلى الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم.
(14/97)
فتأمل حالك أمامه.. وما يحل بك من الفزع إذا رأيت الصراط ودقته.. ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته.. والناس يتعاوون فيها ويبكون.. ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها.. وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك.. واضطراب قلبك.. وتزلزل قدمك.. وثقل ظهرك بالأوزار والذنوب.
فكيف حالك عند عبور الصراط.. وأنت ترى الخلائق بين يديك يزلون ويتعثرون.. وتتناولهم زبانية النار بالكلاليب والخطاطيف.. وأنت تراهم ينتكسون على وجوههم في النار.. وتعلو أرجلهم.. والنار تغلي بهم.. تشوي وجوههم.. وتحرق أجسادهم.. وتقطع أمعاءهم.
فيا له من منظر ما أفظعه.. ومرتقى ما أصعبه.. ومجاز ما أضيقه.. وهول ما أفزعه.
فانظر إلى حالك وأنت تعبر الصراط وتزحف عليه.. وأنت مثقل الظهر بأوزارك.. تلتفت يميناً وشمالاً إلى الخلق وهم يتهافتون في النار.
والزعقات بالويل والثبور قد ارتفعت إليك من قعر جهنم، لكثرة من زل عن الصراط من الخلائق.
فكيف بك لو زلت قدمك.. ووقَعْتَ في قعر جهنم.. ووقع بك ما كنت تخافه.. وأنت تنادي يا ليتني قدمت لحياتي.. يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً... يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً.. يا ليتني كنت تراباً.. يا ليتني كنت نسياً منسياً.
فكيف ترى أيها العبد عقلك الآن.. وهذه الأخطار بين يديك.. فإن كنت غير مؤمن بذلك فما أطول مقامك مع الكفار في دركات جهنم؟.
وإن كنت مؤمناً وعنه غافلاً فما أعظم خسرانك وطغيانك؟.
وتأمل في أحوال الخلائق وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها وأهوالها ينتظرون حقيقة أنبائها، وشفاعة شفعائها، إذا أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات لهب، وأظلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيراً وشهيقاً.
فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب، وجاءت الزبانية بمقامع من حديد، لتأخذ كل مجرم إلى العذاب الشديد، فينكسونه في قعر جهنم ويقولون له: ( ژ ژ ڑ ڑ ک) [الدخان: 49].
(14/98)
وأسكن أهل النار داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، يوقد فيها السعير، ويسقى فيها الحميم، يحشرون إليها عمياً وبكماً وصماً.
ويكبون فيها على وجوههم، مغلولين مقرنين في الأصفاد.
النار من فوقهم ومن تحتهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم.. تغلي بهم النار كغلي القدور، ولهم مقامع من حديد تهشم بها جباههم.. فيتفجر الصديد من أفواههم.. وتتقطع من العطش أكبادهم.. وتسقط من الإحراق لحومهم وشعورهم.
كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [النساء: 56].
وهم في تلك الأهوال والمواقف صمُّ بكمٌ عميٌ.. يبكون ويصيحون.. وهم يمشون في النار على وجوههم.. لا يسمعون ولا يبصرون ولا يتكلمون.. قد غُلَّت أيديهم إلى أعناقهم.. وجُمع بين نواصيهم وأقدامهم.
طعامهم الزقوم، والصديد، والضريع.. وشرابهم الحميم والغساق وفرشهم من نار.. ولباسهم من نار: ( ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 19-22].
فما أعظم هذه الأحوال والأهوال، وما أشد حسرات أهل النار.
فهل نقبل هذا الإنذار، ونستعد لذلك الموقف الرهيب؟.
( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [مريم: 39].
وهذه الدار التي عَرَفْت همومها وغمومها وشدة عذابها، تقابلها دار أخرى، وهي دار النعيم، ودار السلام، دار المتقين.
ومن لم يدخل هذه الدار استقر لا محالة في الدار الأخرى.
وقد وعد الله تبارك وتعالى أهل طاعته وعبادته بدخول الجنة فقال: ( ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 57].
فتفكر في أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم.
في وجوههم نضرة النعيم.. يسقون من رحيق مختوم.. ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق.. يحلون فيها أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير.
متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل والماء واللبن، محفوفة بالغلمان والولدان كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 19].
(14/99)
يطوف عليهم في تلك الجنان ولدان مخلدون بأكواب وأباريق، وكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين، وجنانهم مزينة بالحور العين للتنعم والاستمتاع.. لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان.. كأنهن الياقوت والمرجان... كأمثال اللؤلؤ المكنون.. خيرات حسان.. يمشين في درجات الجنان.. عليهن من الحرير الأبيض وفاخر اللباس ما تتحير فيه الأبصار.. مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ والمرجان.
عطرات آمنات من الهرم والبؤس.. حور مقصورات في الخيام.. قاصرات الطرف عين.
يطوف على أهل الجنة ويخدمهم ولدان مخلدون كأمثال اللؤلؤ المكنون.. وأهلها جالسون على منابر الياقوت الأحمر.. في خيام واسعة من اللؤلؤ... وغرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها.. وبسطهم من العبقري الأخضر.
وهم في الجنة خالدون.. في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. ينظرون فيها إلى وجه الرب الملك الكريم: ( پ ? ? ? ? ? ? ?) [القيامة: 22-23].
فهم عباد مكرمون.. وفيما اشتهت أنفسهم خالدون.. لا يخافون فيها ولا يحزنون.. وهم من ريب المنون آمنون.. فهم فيها يتنعمون.. ويأكلون من ألوان الطعام.. ويشربون من أنهار الخمر والعسل والماء واللبن.
ويسكنون في جنة أرضها المسك والكافور.. وبناؤها لبنة من فضة، ولبنة من ذهب.. وحصباؤها اللؤلؤ والمرجان.. وترابها الزعفران والدر والياقوت.. ( ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الغاشية: 8-16].
فيا له من نعيم ما أكمله.. ويا له من سرور ما أعظمه.. ويا له من خير ما أدومه.. فليسعد بذلك ويهنأ به من آمن بالله رباً.. وبالإسلام ديناً.. وبمحمد ( رسولاً: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 25].
يا حسرة على العباد.. كيف يفرطون في هذا النعيم المقيم والملك الكبير؟.
(14/100)
إن الواحد من أهل الجنة عنده من القصور والمساكن، والغرف المزينة المزخرفة، والخيام الفخمة الواسعة، ما لا يدركه الوصف ولديه من البساتين الزاهرة، والثمار الدانية، والفواكه اللذيذة والرياض الزاهرة، والأنهار الجارية، ما يأخذ القلوب، ويفرح النفوس، ويبهر العقول.
وعنده من الزوجات اللاتي هن في غاية الجمال والحسن والإحسان، الجامعات لجمال الظاهر والباطن، الخيرات الحسان، ما يملأ القلب سروراً ولذة وحبوراً.
وحوله من الولدان المخلدين، والخدم المؤبدين، ما به تحصل الراحة والطمأنينة، وتتم لذة العيش، وتكمل الغبطة.
وفوق ذلك كله الفوز برضى الرب الرحيم، وسماع كلامه، ولذة قربه، والابتهاج برضاه، والخلود الدائم، وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت وحين. كما قال سبحانه: ( ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 72].
فيا له من نعيم ما أتمه وما أكمله، ويا له من مُلك ما أوسعه؟
( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 20-22].
فهذه حال العباد يوم القيامة، وهذه مساكنهم، وهم بحسب أعمالهم إليها راجعون( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [الروم: 14-16].
إن التكاثر في الأموال والأولاد واتباع الشهوات شغل أهل الدنيا، وألهاهم عن الله والدار الآخرة، حتى حضرهم الموت وهم غافلون عما به فوزهم وفلاحهم: ( ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [التكاثر: 1-8].
فيا حسرة من شغله التكاثر عن ربه إذا عاين تكاثره هباءً منثوراً.. وعلم أن دنياه التي كاثر بها إنما كانت خداعاً وغروراً.. ووجد عاقبة تكاثره عليه لا له.. وخسر هنالك تكاثره.. وبدا له من الله ما لم يكن في حسابه.
(14/101)
وصار تكاثره الذي شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه، فعذب بتكاثره في دنياه، ثم عذب به في البرزخ، ثم يعذب به في يوم القيامة: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [آل عمران: 30].
فلم يفز مِنْ تكاثره إلا بأن صار من الأقلِّين، ولم يحظ به من علوه به في الدنيا إلا بأن صار مع الأسفلين.
فيا له من تكاثر ما أقله.. ومن غنى جالب لكل فقر.. وخير تُوُصِّل به إلى كل شر، يقول صاحبه إذا انكشف عنه غطاؤه.. يا ليتني قدمت لحياتي، وعملت فيه بطاعة الله قبل وفاتي: ( ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 99-100].
فهذا المفرط سأل ربه الرجعة ليستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه، وسلطانه وقوته، وأملاكه وأسبابه، فيقال له كلا، لا سبيل لك إلى الرجعى؛ لأن الله يعلم أنه لو رجع فإن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحاً لو أجيب، وإنما ذلك شيء يقوله بلسانه لا بقلبه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 28].
وكل أحد من مسلم وكافر سوف يسأل عن نعيمه الذي كان فيه في الدنيا هل ناله من حلال أم حرام؟ فإذا تخلص من هذا السؤال سئل سؤالاً آخر: هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم على معصيته؟.
فالأول سؤال عن كسبه، والثاني سؤال عن محل مصرفه.
والنفوس الشريفة العلوية إنما تكاثر بما يدوم نفعه، وما تزكو به وتكمل، وتصير مفلحة، فلا تحب أن يكثرها غيرها في ذلك، وينافسها في هذه المكاثرة، ويسابقها إليها.
فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد، وضده تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم من المراكب والمساكن، والمطاعم والمشارب ونحوها، فهذا تكاثر مُلْهٍ عن الله والدار الآخرة، وهو صائر إلى غاية القلة.
فعاقبة هذا التكاثر قِلّ وفقر، وحرمان وأحزان.
(14/102)
إن أمر البعث هو دائماً مشكلة العقيدة عند كثير من الأقوام، منذ أن أرسل الله رسله للناس يأمرونهم بعبادة الله وحده، ويخوفونهم حساب الله يوم البعث والحساب.
فالمشركون من قريش أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ( ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 38].
فهم يقرون بوجود الله، ولكنهم ينفون عنه بعثه الموتى من القبور، يرون هذا البعث أمراً عسيراً بعد الموت والبلى، وتفرق الأوصال والأشلاء.
وغفلوا عن الخلق الأول مَنْ خلقه؟: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ق: 15].
وغفلوا عن قدرة الرب؟
( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 81].
فما أجهل الإنسان بنفسه؟ وما أجهله بربه؟
( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [يس: 77-79].
والله سبحانه هو القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء، وجميع ما في الكون تحت قهره وأمره: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 82-83].
وحكمة الله في البعث:
أن هذه الدنيا لا يبلغ أمر فيها تمامه، فالناس يختلفون حول الحق والباطل.. والهدى والضلال... والخير والشر.
وقد لا يفصل بينهم فيما يختلفون فيه في هذه الأرض، ولا يحل بهم عذابه الفاصل في هذه الدار، حتى يتم الجزاء في الآخرة، ويبلغ كل أمر تمامه هناك، أهل الجنة في كمال النعيم.. وأهل النار في كمال العذاب، وللأمر حكمته: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 39].
والأمر بعد ذلك هين كغيره على الله كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 40].
وقد جعل الله الدنيا دار تكميل الإيمان والأعمال، والآخرة دار تكميل الشهوات واللذات، ومن لم يأت بالإيمان، والأعمال الصالحة دخل النار المشتملة على كمال العذاب والآلام: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 13-14].
والدور التي يمر بها العبد أربع:
(14/103)
الدار الأولى: بطن الأم، وحكمة بقائه هنا تكميل الأعضاء الداخلية والخارجية.
الثانية: دار الدنيا، وحكمة بقائه هنا تكميل الإيمان والأعمال الصالحة.
الثالثة: دار البرزخ، وحكمة بقائه هنا انتظار يوم القيامة، وهو بحسب حاله، المؤمن في نعيم، والكافر في عذاب.
الرابعة: دار القرار في الجنة أو النار، وهذه آخر منازله.
وقد جعل الله لكل دار أحكاماً تخصها، وركب هذا الإنسان من بدن وروح، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعاً لها، وأحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعاً لها، وجعل أحكام يوم القيامة من النعيم والعذاب على الأبدان والأرواح معاً.
والبعث: هو إحياء الموتى حين ينفخ في الصور النفخة الثانية، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً غير مختونين، ويبعث كل عبد على ما مات عليه، فيبعثون ويحشرون للحساب والجزاء كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 51-53].
وأول من ينشق عنه القبر محمد صلى الله عليه وسلم .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأوَّلُ شَافِعٍ وَأوَّلُ مُشَفَّعٍ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
وجميع الخلائق تحشر إلى ربها يوم القيامة كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [مريم: 93-95].
ويحشر الناس يوم القيامة على أرض بارزة بيضاء، ليس فيها عَلَم لأحد كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [الكهف: 47].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2278).
(14/104)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يُّحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أرْضٍ بَيْضَاءَ، عَفْرَاءَ، كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ، لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ لأحَدٍ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
ويحشر الناس جميعاً يوم القيامة حفاة عراة غرلاً.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يُّحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ ا?! النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ فقَالَ (: «يَا عَائِشَةُ! الأمْرُ أشَدُّ مِنْ أنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
ويحشر المؤمنون إلى ربهم وإلى الجنة وفداً مكرمين في موكب كريم.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ?) [مريم: 85].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 73].
ويحشر الكفار والمشركون على وجوههم عمياً وبكماً وصماً إلى النار.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 97-98].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصافات: 22-23].
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يَا رَسُولَ ا?! كَيْفَ يُّحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فقَالَ: «ألَيْسَ الَّذِي أمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَادِرًا عَلَى أنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (3).
ويساقون إلى جهنم عطاشاً زرقا:
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [مريم: 85-86].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [طه: 102].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6521)، ومسلم برقم (2790) واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6527)، ومسلم برقم (2859) واللفظ له.
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4760)، ومسلم برقم (2806) واللفظ له.
(14/105)
فالحشر الأول لجميع الخلق من القبور إلى الموقف، والحشر الثاني من الموقف إلى الجنة أو النار.
فعند الحشر الأول الكفار يسمعون ويبصرون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشر الكفار عمياً وبكماً وصماً.
فلكل موقف حال يليق به.
ويحشر الله يوم القيامة الدواب والبهائم والوحوش والطيور، ثم يحصل القصاص بين الدواب، فيقتص للشاة الجماء من القرناء نَطَحَتْها، فإذا اقتص لبعضها من بعض قيل لها كوني تراباً.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الأنعام: 38].
ويجمع الله الخلائق بعد بعثهم في ساحة واحدة في عرصات القيامة، وذلك لفصل القضاء، حفاة عراة غرلاً، فتدنو الشمس في ذلك اليوم، ويذهب العرق سبعين ذراعاً، ويعرق الناس على قدر أعمالهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تُدْنَى الشَّمْسُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ».
قَالَ سُلَيْمُ بنُ عَامِرٍ: فَوَا?! مَا أدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أمَسَافَةَ الأرْضِ، أمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ.
قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا».
قَالَ وَأشَارَ رَسُولُ ا? ( بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2864).
(14/106)
وإذا حُشر الناس إلى ربهم يوم القيامة، وبلغ العناء منهم مبلغاً عظيماً لشدة الهول، وعظمة الكرب، وصعوبة الموقف، رغبوا إلى ربهم في أن يحكم بينهم، فإذا طال موقفهم، وعظم كربهم، ذهبوا إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند ربهم ليفصل بينهم، ثم يجيء الله جل جلاله لفصل القضاء بين عباده كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفجر: 21-23].
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن المبدأ والمعاد.. والقيامتين الصغرى والكبرى.. والعالمين الأكبر وهو عالم الآخرة.. والأصغر وهو عالم الدنيا.. والدارين الجنة دار السعداء، والنار دار الأشقياء.. وفصَّل سبحانه في كتابه خلق الإنسان، وكيف يقضي حياته، وبيَّن أحواله عند وفاته، ويوم معاده.
والله سبحانه يعيد جسد الإنسان بعينه الذي أطاع وعصى، فينعمه ويعذبه بحسب عمله، كما ينعم الروح التي آمنت بعينها، ويعذب التي كفرت بعينها.
وهو سبحانه العليم بما تنقصه الأرض من لحوم البشر وعظامهم وأشعارهم، والقادر على جمعها وتحصيلها بعد تفرقها، وتأليفها خلقاً جديداً، ثم بعثها يوم القيامة.
بل مع كل نَفَس سائق يسوقها إلى المحشر، وشهيد يشهد عليها بما عملت كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ?) [ق: 20].
وبراهين المعاد في القرآن تقرر ثلاثة أصول:
أحدها: تقرير كمال علم الرب كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [يس: 77-79].
الثاني: تقرير كمال قدرة الرب كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 81-82].
الثالث: كمال حكمة الرب كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجاثية: 21].
ولكن الكفار لا يؤمنون بالرب.. ولا يؤمنون بالدين الحق.. ولا يؤمنون بالبعث.. ولذلك اختلط عليهم الأمر، فهم في أمر مريج آل بهم إلى الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة.
(14/107)
فما أجهلهم بربهم.. وما أسفه عقولهم.
( ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [ق: 5-8].
وقد وكل الله تعالى إ بكل إنسان قريناً من الملائكة يكتب عمله، فإذا كان يوم القيامة قال الملك: يا رب هذا هو الشخص الذي وُكِّلت به، وهذا عمله الذي أحصيته عليه في الدنيا، كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?) [ق: 23-26].
يا حسرة على العباد كم ضيعوا من الأوقات في غير طاعة الله.. ويا خيبة الكفار في ذلك اليوم العصيب.
فسبحان الرب الملك العظيم، العزيز الجبار، الغني الحليم، الذي له الخلق والأمر، وله التصريف والتدبير في الكون كله، في السماء والأرض، وفي الدنيا والآخرة.
خلق الملائكة المقسِّمات أَمْر الله الذي أُمِرت به بين خلقه كما قال سبحانه( ? ? ?) [الذاريات: 4].
ومن أعظم المقسمات لأوامر الرب في خلقه:
جبريل: الذي يَقْسِم الوحي بأمر ربه إلى الرسل، ويقسم العذاب وأنواع العقوبات على من خالف الرسل.
وميكائيل: الذي يقسم القطر والبرد والثلج والنبات والأرزاق بأمر الله.
وإسرافيل: الذي يقسم الأرواح على أبدانها عند النفخ في الصور بأمر الله.
وملك الموت: الذي يقسم المنايا بين الخلق بأمر الله.
وكل حركة في السموات والأرض من حركات الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحاب، والنبات، والحيوان، فهي ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسموات والأرض كما قال سبحانه عنهم: ( ے ے ?) [النازعات: 5].
وذلك كله يدل على كمال قدرة الرب.. وكمال علمه.. وكمال حكمته.. وكمال عنايته بخلقه.. وكمال رحمته لهم.
وإبداء الخلق وإعادته دليل ظاهر مكرور يدل على المبدأ والمعاد، الذي نزلت به كتبه سبحانه، وأخبرت به جميع رسله.
وذلك مشهود في الدنيا عياناً:
(14/108)
في إبداء الليل والنهار وإعادتهما.. وفي إبداء الزمان وإعادته الذي هو حاصل بسير الشمس والقمر.. وفي إبداء النور وإعادته في القمر.. وإبداء النبات والحيوان وإعادتهما.. وإبداء فصول السنة وإعادتها.. وإبداء ما يحدث في تلك الفصول وإعادته.
أو ليس القادر على ذلك كله بقادر على أن يحيي الموتى يوم القيامة: ( ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [الأحقاف: 33].
9- فقه الحساب
قال الله تعالى: ( ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [البقرة: 284].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الغاشية: 25-26].
إن الله تبارك وتعالى يحاسب الخلائق في الآخرة، ويجازيهم على ما عملوا من خير أو شر في الدنيا: ( ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [الأنعام: 160].
والشياطين يهيِّجون الكفار إلى المعاصي، فهم مسلَّطون عليهم بسبب كفرهم، وهم ممهلون إلى أجل قريب، وكل شيء من أعمالهم محسوب عليهم ومعدود كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [مريم: 83-84].
فيا ويل من يعدّ الله عليه ذنوبه، وأعماله، وأنفاسه، ويتتبعها، ليحاسَبَ الحساب العسير عليها.
إن الذي يحس أن رئيسه في الأرض يتتبع أعماله وأخطاءه يفزع ويخاف، ويعيش في قلق وحسبان، فكيف بالله المنتقم الجبار؟.
( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 105].
وكل إنسان محاسب على عمله وحده، وكل نفس لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، وكلٌّ سوف يحمل حِمْلَه وحده، لا يعينه عليه أحد، ومن يتطهر فإنما يتطهر لنفسه، وهو الكاسب وحده دون سواه، والأمر كله صائر إلى الله: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 18].
(14/109)
إن شعور كل فرد بأنه مجزي بعمله، لا يؤاخَذ بكسب غيره، ولا يتخلص هو من كسبه، عامل قوي في يقظته لمحاسبة نفسه قبل أن تحاسَب، مع التخلي عن كل أمل خادع في أن ينفعه أحد بشيء، أو أن يحمل أحد عنه شيئاً.
كما أنه عامل مطمئن، فلا يقلق الفرد خيفة أن يؤخذ بجريرة غيره، ما دام قد أدى واجبه في النصح للجماعة.
كذلك لن ينفعه صلاح الجماعة إذا كان هو بذاته غير صالح، وكل يحمل أثقاله ويمضي في طريقه حتى يقف أمام الميزان: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [الأنبياء: 47].
وإلى الله المصير، فهو المحاسب والمجازي، فلا يذهب عمل صالح، ولا يفلت عمل سيئ، ولا يوكل الحكم إلى غير الله ممن يميلون أو ينسون أو يهملون.
إن كل شيء يقع في هذا الوجود إنما يقع وفق مشيئة الله، وهذا حق.
ولكن من مشيئة الله أن جعل للإنسان قدرة على اختيار الهدى أو اختيار الضلال، وكلفه اختيار الهدى، وأمره به، ورضيه له كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [الحجرات: 7-8].
فالله عزَّ وجلَّ خلق الإنسان قابلاً لهذا وهذا، فكل إنسان قابل للهدى والضلال، والخير والشر، ولا يتجه إلى هذا أو هذا إلا بمشيئة الله كما قال سبحانه( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التكوير: 27-29].
وحساب العباد كلهم سيقع على ما اختاروا في الدنيا من الحق أو الباطل كلهم: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الغاشية: 25-26].
وقال سبحانه في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).
(14/110)
والله جل جلاله القوي القادر، القهار الجبار، الكبير المتعال، يَفْرَغ يوم القيامة لحساب هذين الخلقين الضعيفين: الجن والإنس، وفي وعيد وانتقام كما قال سبحانه( ? ? ? ? ?) [الرحمن: 31].
يا لَلْهول المرعب المزلزل، الذي لا يثبت له إنس ولا جان، ولا تقف له الجبال الرواسي.
والله سبحانه ليس مشغولاً فيفرغ، ولا يشغله شأن عن شأن في خلقه وتدبيره.
فهذا الوجود كله أنشأه الله بكلمة واحدة صلى الله عليه وسلم كن) فيكون على ما أراد.
وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر كما قال سبحانه( ? ? ? ? ? پ پ) [القمر: 50].
فكيف تكون حال الثقلين، والله يفرغ لهما وحدهما، ليتولاهما بالحساب والانتقام من كل مجرم، والإكرام لكل مؤمن.
( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 48-49].
ولا يستطيع أحد أن يفر من الله، فكل الكون ملكه، وكل أحد في قبضته، وكل عبد ناصيته بيده، وكل أحد سيقف للحساب، وينال جزاء عمله.
وأنى للإنس والجن أن يَنْفُذُوا، أو يهربوا من ملك الله: ( ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرحمن: 33].
وفي يوم القيامة مواقف شتى:
منها ما يُسأل فيه العباد.. ومنها ما لا يُسألون فيه عن شيء.. ومنها ما تجادل فيه كل نفس عن نفسها.. وما يلقى به التبعة على شركائها.. ومنها ما لا يسمح فيه بكلمة ولا جدال ولا خصام.
فهو يوم طويل مديد.. وكل موقف من مواقفه هائل مشهود.
وهنا موقف لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرحمن: 37 – 39].
وذلك حين تُعرف صفة كل فرد وعمله، فيؤخذ كلٌّ إلى داره: ( ? ? ? ? ? پ پ) [الرحمن: 41].
أما أهل الجنة فيساقون وفداً مكرمين إليها كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 73-74].
ويوم القيامة، وبعد الحساب يكون الناس ثلاثة أقسام:
(14/111)
أصحاب الميمنة... وأصحاب المشأمة.. والسابقون المقربون.
قال الله تعالى في أقسام الناس يوم القيامة: ( ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 7-11].
أما بيان قدرهم عند الله.. وتفصيل ما أعد الله لهم.. وتعديد أنواعه.. فهو يختلف بحسب عملهم.
فأعلاهم: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [الواقعة: 10-26].
فهؤلاء عدد محدود، وفريق منتقى، كثرتهم في الأولين، وقلَّتهم في الآخِرِين، وهم في ذلك النعيم الكامل، جزاء ومكافأة على حسن عملهم في الدنيا.
أما أصحاب اليمين فهم فريق آخر في الجنة دون السابقين الأولين، وهم ثلة من الأولين، وثلة من الآخِرِين كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?) ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 27-40].
وأما الفريق الثالث فهم أصحاب الشمال، أصحاب النار كما قال سبحانه( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ?) [الواقعة: 41-56].
والله عزَّ وجلَّ يدعو عباده المؤمنين إلى التقوى، والنظر فيما أعدوه في الدنيا للآخرة قبل القدوم عليها بقوله: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 18].
فالتقوى تجعل القلب يقظاً، حساساً، شاعراً بالله في كل حالة، وتجعله خائفاً متحرجاً مستحيياً أن يطَّلع عليه الله في حالة يكرهها.
والتقوى تُذكِّر العبد بربه، وتفتح أمامه صفحة أعماله، بل صفحة حياته.
فيمد ببصره في سطورها كلها يتأملها، وينظر رصيد حسابه.
(14/112)
ونظر العبد ماذا قدم لغده كفيل بأن يوقظه إلى مواضع الضعف، ومواضع النقص، ومواضع التقصير في حياته، مهما يكن أسلف من خير، وبذل من جهد، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً، ونصيبه من البر ضئيلاً.
إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبداً، ولا يكف عن النظر والتقليب.
وكما يدعو الله عباده إلى اليقظة والتذكر، ومحاسبة أنفسهم، كذلك يحذرهم من نسيانه بقوله: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [الحشر: 19].
إن الذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته، والقصد من خلقه.
وهذا النسيان لربه مرض في القلب ينشأ عنه نسيانه لنفسه، فلا يدخر لها زاداً للحياة الطويلة الباقية، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد.
فأي خسارة تحل بالإنسان إذا تمرغ في الدنيا بما يسخط الله، وغفل عن الآخرة، ورحل إليها بزاد إلى النار؟.
وتُعرض الخلائق كلها على الله يوم القيامة كما قال سبحانه: ( ک گ گ گ گ ? ?) [الحاقة: 18].
والكل مكشوف من الخلق:
فكل إنسان مكشوف الجسد.. مكشوف النفس.. مكشوف القلب.. مكشوف العمل.. مكشوف المصير.. وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار.
وتتعرَّى النفوس تعرِّي الأجساد.. وتبرز الغيوب بروز الشهود.. ويتجرد الإنسان من حيطته، ومن مكره، ومن تدبيره، ومن شعوره، ويفتضح منه ما كان حريصاً على أن يستره حتى عن نفسه.
وما أقسى الفضيحة على الملأ.. وما أخزاها على عيون الجموع.
أما عين الله فكل خافية مكشوفة لها في كل آن، ويوم القيامة كل شيء بارز في الكون كله، والأرض مدكوكة مسوَّاة لا تَحجب شيئاً، والسماء منشقة واهية لا تحجب شيئاً، والأجساد معراة لا يسترها شيء، والنفوس كذلك ليس من دونها ستر، وليس فيها سر.
(14/113)
ألا إنه لأمر عصيب.. أعصب من دك الأرض والجبال، وأشد من تشقق السماء، وقوف الإنسان عريان الجسد، عريان النفس، عريان المشاعر، عريان الحياة، عريان العمل، ما ظهر منه وما استتر.
إنه يقف أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله من الإنس والجن والملائكة، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [الحاقة: 13-18].
ألا ما أشد هذه الحال التي سيقف فيها كل إنسان وهو عريان الجسد والقلب، والنية والشعور، عريان من كل ساتر.
كيف به وهو كذلك تحت عرش الجبار؟.. وأمام الحشد الزاخر بلا ستار؟.
ألا إنه لأمر أَمَرّ من كل أَمْر ومن كل مر..
وبعدئذ يعرض مشهد الناجين والمعذبين كأنه حاضر تراه العيون: ( ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحاقة: 19-24].
فهذا مشهد الناجي في ذلك اليوم العصيب، وهو ينطلق في فرحة غامرة بين الجموع الحاشدة، تملأ الفرحة جوانحه، وتغلبه على لسانه فيهتف: ( ں ں ? ?) [الحاقة: 19].
أما مشهد المعذبين الهالكين فقد ذكره الله بقوله: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحاقة: 25-37].
فهذا مشهد الخاسر الذي عرف أنه مؤاخذ بسيئاته، وأن العذاب مصيره، فيقف في هذا المعرض الحاشد الحافل وقفة المتحسر الكسير الكئيب.
ثم يصدر الأمر من العلي الأعلى، فيتحرك الوجود كله على هذا المسكين الصغير الهزيل، ويبتدره المكلفون بالأمر من كل جانب، كلهم يبتدر هذه النطفة الصغيرة المكروبة المذهولة.
إنه قد خلا قلب هذا الإنسان من الإيمان بالله، والرحمة بالعباد، فلم يعد هذا القلب يصلح إلا لهذه النار، وذلك العذاب، فهو مَسْخٌ من الكائنات لا يساوي الحيوان، بل لا يساوي الجماد.
(14/114)
فكل شيء مؤمن يسبح بحمد ربه موصول بمصدر وجوده، أما هو فمقطوع من الله، مقطوع من الوجود المؤمن بالله.
ثم يعلن الله عن تكملة جزاء ذلك الشقي عن جرمه: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحاقة: 35-37].
وكل نفس عليها من أمر الله رقيب كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ?) [الطارق: 4].
وما من نفس إلا عليها حافظ يراقبها، ويحصي عليها، ويحفظ عنها، وهو موكل بها بأمر الله، فالنفس مستودع الأسرار والأفكار، وهي التي يناط بها العمل والجزاء.
إن الناس ليسوا متروكين يفعلون كيف شاؤوا بلا رقيب، إنما هو الإحصاء الدقيق المباشر، والحساب المبني على هذا الإحصاء الدقيق المباشر: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ق: 18].
فالنفس ليست في خلوة أبداً وإن خلت، فهناك الحافظ الرقيب عليها، حين تنفرد من كل رقيب، وتتخفى عن كل عين، وتأمن من كل طارق.
هناك الحافظ الذي يكشف كل غطاء، وينظر إلى كل مستور.
والحساب يكون على ما يرتكبه الإنسان من المعاصي، سواء كانت بأمر النفس، أو بإغواء الشيطان، ولا يكون الحساب على أمور جبرية لا يملك الإنسان فيها حق الاختيار، فالقهر يُسقط الحساب عن البشر، وإبليس لا يستطيع أن يقهر أحداً على المعصية، ولكنه يغريه ويزين له، فإذا استجاب سقط، وإذا استعان بالله نجا وسلم.
والشيطان لا يستطيع أن يقودك إلى الشر رغماً عنك، ولكن باختيارك يوقعك في إغرائه، واستجابتك له.
فالحساب يتم على أمر اختياري تستطيع أن تفعله أو لا تفعله بإرادة منك، وهنا يكون الحساب عدلاً؛ لأنك أنت الذي اخترت.
وكيد الشيطان ضعيف، لماذا؟.
لأن الله معك يمنعك منه إن استعنت به، ولأن أمر الشيطان عَرْض وإغراء، لا قهر ولا إجبار، ولو كانت نفسك قوية لاستطعت أن تتغلب عليه.
وإبليس لا يستطيع أن يرغم أحداً على عمل، ولا يملك الحجة الصحيحة للإقناع بالإثم.
(14/115)
ولكن المسألة أنه يملك النفس الضعيفة، ويستطيع أن يغريك أو يوهمك بشيء كاذب، حتى إذا ارتكبته وجدت النتيجة غير ما قال.
والتهافت على الدنيا يدفعنا إلى أن لا نتنبه لكيد الشيطان، فيغفل الإنسان، فيدخل الشيطان ويغري الإنسان بالمعصية كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [فاطر: 6].
وجميع ما في السموات والأرض ملك لله عزَّ وجلَّ، وعبيد له، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
هو الذي خلقهم ورزقهم ودبر أمورهم، ووفقهم لمصالحهم الدينية والدنيوية.
وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه، وقد أمرهم بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، وسيحاسبهم على ما أسروه وما أعلنوه.
فيغفر لمن يشاء ممن أتى بأسباب المغفرة، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره كما قال سبحانه: ( ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [البقرة: 284].
والله تبارك وتعالى حُكْمه العدل، وقضاؤه القسط، يضع لعباده يوم القيامة الموازين العادلة، التي يبين فيها مثاقيل الذر، وتوزن بها الحسنات والسيئات، فلا تُظلم نفس مسلمة أو كافرة شيئاً، فلا يزاد في سيئاتها، ولا يُنقص من حسناتها كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [الأنبياء: 47].
والله عزَّ وجلَّ سريع الحساب يعلم جميع أعمال العباد، حافظ لها، مثبت لها في الكتاب، عالم بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها، عالم بمستحقها، موصل للعمال جزاءها مهما كانت: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 49].
فلا يخشى المجرمون أن الله يعذبهم بذنوب لم يعملوها، ولا يحسبون أنه يُضيع من أعمالهم شيء، أو ينسى منها مثقال ذرة، بل كل ذرة من خير أو شر معدودة مكتوبة معروضة على من عملها كما قال سبحانه: ( ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [الزلزلة: 7-8].
(14/116)
ويجمع الله عزَّ وجلَّ جميع الخلائق للحساب في ساحة واحدة في عرصات القيامة حفاة عراة غرلاً، فتدنو الشمس منهم في ذلك اليوم كمقدار ميل كما قال صلى الله عليه وسلم : «تُدْنَى الشَّمْسُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ».
قَالَ سُلَيْمُ بنُ عَامِرٍ: فَوَا?! مَا أدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أمَسَافَةَ الأرْضِ، أمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ.
قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا».
قَالَ وَأشَارَ رَسُولُ ا? ( بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
ويجيء الله عزَّ وجلّ َيوم القيامة لفصل القضاء، فتشرق الأرض بنور ربها، وتخشع الخلائق لهيبة الله وعظمته وجلاله كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ?) [الفجر: 22].
وقال سبحانه: ( ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?) [طه: 108]. وإذا حشر الناس إلى ربهم يوم القيامة، واشتد كربهم لطول العناء والانتظار، وشدة الأهوال، رغبوا إلى ربهم أن يحكم فيهم، فإذا طال موقفهم وعظم كربهم ذهبوا إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند الله ليفصل بينهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2864).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4712)، ومسلم برقم (194) واللفظ له.
(14/117)
ثم يفصل الله بين الناس، ويحاسبون على أعمالهم، فتعطى الكتب، وتوضع الموازين، ويحاسب كل فرد، فآخذ كتابه بيمينه إلى الجنة، وآخذ كتابه بشماله إلى النار( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 75].
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟.
قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْواً». قُلْنَا: لا.
قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا».
ثُمَّ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَيَذْهَبُ أصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأصْحَابُ الأوْثَانِ مَعَ أوْثَانِهِمْ، وَأصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله، مِنْ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ.
ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لله صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ.
ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لله صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ.
(14/118)
حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله، مِنْ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا.
قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأوْهُ فِيهَا أوَّلَ مَرَّةٍ. فَيَقُولُ: أنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أنْتَ رَبُّنَا، فَلا يُكَلِّمُهُ إِلا الأنْبِيَاءُ.
فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لله رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقاً وَاحِداً.
ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، وَمَا الْجَسْرُ؟.
قَالَ: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عَقِيفة، تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْباً، فَمَا أنْتُمْ بِأشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ، قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مَنْ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ.
(14/119)
وَإِذَا رَأوْا أنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فِي إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ الله تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأخْرِجُوهُ، وَيُّحَرِّمُ الله صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ.
فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا.
ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا.
ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا».
قَالَ أبُو سَعِيدٍ: فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَؤُوا: ( ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [النساء: 40].
«فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ أقْوَاماً قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، قَدْ رَأيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ، وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أبْيَضَ.
(14/120)
فَيَخْرُجُونَ كَأنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ أهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
فما أشد تلك الأهوال، وما أعظم ذلك الموقف بين يدي الله: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [الانشقاق: 6-12].
والحساب يوم القيامة عام لجميع الخلق إلا من استثناهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم سبعون ألفاً من هذه الأمة يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب كما قال النبي (: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ». قَالُوا: مَنْ هُمْ؟ يَا رَسُولَ ا?! قال: «هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (2).
والمحاسبون يوم القيامة صنفان:
أحدهما: من يحاسب حساباً يسيراً وهو العرض.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ أحَدٌ يُّحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا هَلَكَ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، ألَيْسَ قَدْ قَالَ الله تَعَالَى: ( چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) ]ٍٍالانشقاق: 7-8]. فَقَالَ رَسُولُ الله (: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا عُذِّبَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (3).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7439) واللفظ له، ومسلم برقم (183).
(2) أخرجه مسلم برقم (218).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6537) واللفظ له، ومسلم برقم (2876).
(14/121)
الثاني: من يحاسب حساباً عسيراً، ويُسأل عن كل صغيرة وكبيرة، فإن صدق فبها ونعمت، وإن حاول الكذب أو الكتمان فإنه يختم على فمه، وتستنطق جوارحه كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ) [يس: 65].
والكفار يحاسبون وتعرض عليهم أعمالهم يوم القيامة توبيخاً لهم، وهم متفاوتون في العذاب، فعقاب من كثرت سيئاته، أعظم من عقاب من قلت سيئاته، ومن له حسنات منهم يخفف عنه العذاب لكنه لا يدخل الجنة.
وأول من يحاسب من الأمم يوم القيامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأول ما يحاسب عليه المسلم يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله.
وجميع الكفار والمنافقين لا تقبل قُرَبُهم وطاعاتهم، لفقدها شرطها وهو الإيمان كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 18].
وكل إنسان سوف يسأل ويحاسب على الأمانة التي تحملها، وقد حذرنا الله عزَّ وجلَّ من خيانة الأمانة كما قال سبحانه: ( ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 27].
فمن أدى الأمانة استحق من الله الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها استحق من الله العقاب الوبيل، وصار خائناً لله وللرسول ولأمانته.
والأمانة هي الشيء الذي يجب أن يُّحفظ، ثم يؤدى إلى صاحبه.
والأمانة ثلاثة أقسام:
الأول: أمانة العبد مع ربه، وهي ما عُهِد إليه حفظه، والقيام به من الإيمان بالله، والاستقامة على دينه، وتعليم دينه، والدعوة إليه، وامتثال جميع أوامره، واستعمال قلبه وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه، وهذه أعظم الأمانات التي يجب أداؤها.
والطاعات كلها من الأمانة، فمن أداها فقد أدى الأمانة، والمعاصي كلها من الخيانة، فمن فعلها فقد خان الأمانة، وخان الله عزَّ وجلَّ.
الثاني: أمانة العبد مع الناس، كرد الودائع إلى أهلها، وإيفاء المكيال والميزان، ونصح الخلق، وعدم غشهم، وحفظ السر، ونحو ذلك مما يجب أداؤه للناس والحكام.
(14/122)
ومنه عدل الأمراء مع الرعية.. وعدل العلماء مع العوام بتعليمهم الأحكام التي تُقوِّي إيمانهم، وتصلح بها عباداتهم، وإرشادهم إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وترغيبهم في الخير، وتحذيرهم من الشر.
الثالث: أمانة الإنسان مع نفسه، بأن لا يختار إلا ما هو الأصلح له والأنفع له في الدين والدنيا.
فلا يُقْدِم على عمل يضره في دنياه وآخرته، كأن يتوقى أسباب الأمراض والأوبئة، ويغتنم عمره في اكتساب مرضاة الله بالقيام بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى ربه.
فيغتنم شبابه قبل هرمه.. وصحته قبل سقمه.. وغناه قبل فقره.. وفراغه قبل شغله.. وحياته قبل موته.
10- فقه درجات الآخرة
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ??) [الأنعام: 132].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الإسراء: 21].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 75].
لا يدخل أحد الجنة بعمله، ولكن برحمة الله كما قال صلى الله عليه وسلم : «لَنْ يُدْخِلَ أحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ». قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «لا، وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ الْمَوْتَ: إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ أنْ يَزْدَادَ خَيْراً، وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وتوزع الدرجات في الآخرة على حسب الحسنات، والسيئات التي يعملها الإنسان في الدنيا.
وتتفاوت درجات الناس في الآخرة كما يتفاوتون في الدنيا.
والناس في الآخرة على أربع درجات:
الفائزون.. والناجون.. والمعذبون.. والهالكون.
ومثال ذلك كأن يستولي ملك من الملوك على إقليم من الأقاليم ليقيم فيه العدل بين أهله.
فهذا الملك العادل له مع أهل هذا الإقليم أربعة أحوال:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5673) واللفظ له، ومسلم برقم (2816).
(14/123)
فهو لا يقتل منهم إلا الجاحد المعاند في أصل الولاية.
ولا يعذب إلا من قصر في خدمته مع الاعتراف له بالملك.
ولا يخلِّي إلا معترفاً له بالملك ولم يقصر.
ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة.
وكل واحد من هؤلاء الأقسام متفاوت في النعيم والعذاب، وعبور الصراط حسب أعمالهم وأحوالهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ! سَلِّمْ، سَلِّمْ».
قِيلَ: يَا رَسُولَ ا?! وَمَا الْجِسْرُ؟ قال: «دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ وَحَسَكٌ، تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ، كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وأما اختلاف العذاب بالشدة فلا نهاية لأعلاه، وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب، كما أن الملك قد يعذب بعض المقصرين في الأعمال بالمناقشة في الحساب ثم يعفو، وقد يضرب بالسياط، أو يعذب بغيرها من أنواع العذاب.
وأهل السعادة متفاوتون في النعيم كذلك على حسب أعمالهم في الدنيا.
فالمؤمن إذا أدى الفرائض واجتنب الكبائر، ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لا يصر عليها فيشبه أن يعفى عنه كما قال سبحانه: ( گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [النساء: 31].
وهذا إما أن يُلحق بالمقربين، أو بأصحاب اليمين، وذلك بحسب إيمانه ويقينه، فإن قل أو ضعف دنت منزلته، وإن زاد أو قوي علت منزلته.
والمقربون يتفاوتون بحسب تفاوت معرفتهم بالله تعالى.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7439)، ومسلم برقم (183) واللفظ له.
(14/124)
ودرجات العارفين في معرفة الله، ومعرفة عظمته، ومعرفة آلائه، ومعرفة دينه لا تنحصر، بل هي متفاوتة؛ لأن بحر المعرفة لا ساحل له، وإنما يغوص فيه الغواصون بقدر قواهم:
فأعلى درجات أصحاب اليمين أدنى درجات المقربين.
فهذا حال من أدى الفرائض واجتنب الكبائر.
أما من ارتكب كبيرة أو كبائر:
فإن تاب توبة نصوحاً قبل موته التحق بمن لم يرتكب تلك الكبيرة؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وإن مات قبل التوبة فأمره خطير، فربما يكون إصراره على الذنب سبباً لسوء خاتمته، وعذاب الميت من غير توبة يكون بحسب قبح الكبائر، ومدة الإصرار، وتنوع الكبائر.
ثم ينزل البُلْهُ المقلدون الجنة، وينزل العارفون المستبصرون أعلى عليين.
والله قد يعفو عن العاصي وإن كثرت سيئاته الظاهرة، وقد يغضب على المطيع وإن كثرت طاعاته الظاهرة، فإن الاعتماد على التقوى، والتقوى في القلب، وأحوال القلب قد تخفى على صاحبه فكيف على غيره.
وفي الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ آمَنَ بِا? وَبِرَسُولِهِ، وَأقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقّاً عَلَى ا? أنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ ا?، أوْ جَلَسَ فِي أرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا». فَقالوا: يَا رَسُولَ ا?، أفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ ا?، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -أَرَاهُ-فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (1).
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2790).
(14/125)
والله عزَّ وجلَّ بمنه وكرمه يرفع المؤمنين من ذرية العبد إلى درجته وإن كانوا دونه في العمل كما قال سبحانه: ( ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [الطور: 21].
وأما الناجون: ونعني بالنجاة السلامة، وهم قوم لم يَخْدِموا فَيُخلع عليهم، ولم يُقصروا فيعذبوا.
ويشبه أن يكون هذا حال المجانين، وأولاد الكفار، والذين لم تبلغهم الدعوة ونحوهم.
فلم يكن لهم معرفة ولا جحود، ولا طاعة ولا معصية، ويصلح أن يكونوا أهل الأعراف.
وأما الفائزون فهم العارفون، وهم المقربون السابقون، وهؤلاء الذين لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 10-12].
فسبحان الله ماذا ينتظر هؤلاء من المساكن الواسعة، والقصور الفاخرة، وألوان الطعام والشراب، والنعيم المقيم: ( ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [السجدة: 17].
وهم متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم حسب معرفتهم بالله، وحسب أعمالهم الصالحة.
ويتفاوت الناس يوم القيامة في الدرجات والأحوال، والثواب والعقاب، بحسب الأعمال، وبحسب الإيمان والكفر، وبحسب الطاعات والمعاصي، ومن ذلك أن خِفَّة حِمْل العبد على ظهره وثقله إذا قام من قبره، فإنه بحسب خفة وزره وثقله، إن خف خف، وإن ثقل ثقل.
واستظلال العبد بظل العرش يوم القيامة، وبروزه للحر والشمس بحسب أعماله:
فمن استظل في هذه الدار بالإيمان والأعمال الصالحة، استظل يوم القيامة في ظل الرحمن.
ومن كان ضاحياً هنا للشرك والمعاصي ضَحَى هناك وبرز للحر الشديد.
(14/126)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ ا?، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي ا?، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
ومن طال وقوفه في الصلاة ليلاً ونهاراً، وقام للدين، وتحمل لأجله المشاق، خف عليه الوقوف في ذلك اليوم وسهل عليه.
ومن آثر الراحة والدعة والبطالة طال عليه الوقوف هناك، واشتد عليه.
وثِقَلُ ميزان العبد يوم القيامة بحسب إيمانه وأعماله الصالحة، واتباعه للحق، والصبر عليه، ومجاهدته من أجله.
والمشي على الصراط يوم القيامة يكون في السرعة والبطء حسب سرعة السير على الصراط المستقيم في الدنيا.
فأسرع الناس سيراً هنا أسرعهم سيراً هناك، وأثبتهم هنا أثبتهم هناك كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [إبراهيم: 27].
والخلق في الآخرة متفاوتون بحسب أعمالهم.. فأهل الجنة والثواب وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة فإن بينهم من الفرق ما لا يعلمه إلا الله، مع أنهم كلهم قد رضوا بما آتاهم مولاهم، وقنعوا بما حباهم.
وأهل النار والعقاب متفاوتون بحسب أعمالهم، فلا يجعل قليل الشر منهم ككثيره، ولا التابع كالمتبوع، ولا المرؤوس كالرئيس.
فالله يجازي كلاً بحسب عمله، وبما يعلمه من مقصده: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?) [الأنعام: 132].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1423) واللفظ له، ومسلم برقم (1031).
(14/127)
والناس في الآخرة متفاوتون في النعيم والعذاب كما تفاوتوا في الدنيا بالعمل.
فالأرواح الطيبة السفلية في الأرض تكون في الجنة مجاورة للأرواح الطيبة العلوية، وفوق ذلك مجاورة ملك الملوك في داره، وتمتعهم برؤية وجهه، وسماع كلامه، ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم.
أما الأرواح الخبيثة السفلية فلا يمكن أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية في مقام الصدق بين الملأ الأعلى.
فلا يليق بذلك الرفيق الأعلى، والمحل الأسمى، والدرجات العلى، روح سفلية أرضية قد أخلدت إلى الأرض، وعكفت على ما تقتضيه طبائعها مما تشارك فيه الحيوان البهيم.
بل قد تزيد على الحيوان البهيم، فلا فرق بينهما وبين البهائم والحمير والكلاب والبقر إلا بانتصاب القامة، ونطق اللسان، والأكل باليد، وإلا فالقلب والطبع على شاكلة قلوب هذه الحيوانات وطباعها.
بل طباع هذه الحيوانات خير من طباع هؤلاء وأسلم وأقبل للخير.
ولهذا جعلهم الله شر الدواب كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [الأنفال: 22].
فلا يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق، وبين شر البرية وشر الدواب في دار واحدة، يكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب: ( ? ? ? ?) [القلم: 35].
وقال سبحانه: ( ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 18-20].
فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء والأعمال إلا بأعلاها وأفضلها، وأحمدها عاقبة.
والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار.
فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة، ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجلّ.
والنفس الخبيثة بضد ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها من الأرواح والأعمال.
(14/128)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
والناس يوم القيامة صنفان:
سعداء.. وأشقياء.
والسعداء قسمان:
السابقون المقربون.. وأصحاب اليمين.
فهذه درجاتهم في الآخرة كما قال سبحانه: ( ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 7-12].
فالسابقون في الدنيا إلى الإيمان، هم السابقون إلى الجنان، والسابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون يوم القيامة إلى الجنات فالناس في الآخرة ثلاثة أقسام كما هم عند الموت كذلك ثلاثة أقسام كما قال سبحانه عن الإنسان بعد خروج روحه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 88-96].
فهذه مراتب الناس عند القيامة الصغرى حال القدوم على الله:
مقرب له الروح والريحان، وجنة النعيم.
ومقتصد من أصحاب اليمين له السلامة، فهو سالم غانم.
وظالم بتكذيبه وضلاله فله نزل من حميم، وتصلية جحيم.
ودرجة النبوة.. والصديقية.. والربانية.. ووراثة النبوة.. وخلافة الرسالة.. تلك هي أفضل درجات الأمة في الدنيا والآخرة.
ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كل من عَلِمَ بتعليمهم وإرشادهم أو عَلَّم غيره شيئاً من ذلك كان لهم مثل أجره ما دام ذلك جارياً في الأمة على آباد الدهور والأزمان.
قال الله تعالى: ( ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [النساء: 69-70].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3336)، ومسلم برقم (2638).
(14/129)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
فكم ينزل بعمل هؤلاء من البركات والهدايات؟.
وكم يُكتب لهم من الأجور والحسنات؟.
تلك والله المكارم والمغانم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
ودخول كفار الإنس والجن النار بعدل الله، ودخول مؤمني الإنس والجن بفضل الله ورحمته، فرحمته سبحانه سبقت غضبه.
والفضل أغلب من العدل، ولهذا لا يدخل النار إلا من عمل أعمال أهل النار، وأما الجنة فيدخلها من آمن وعمل صالحاً، ويدخلها من لم يعمل خيراً قط، بل ينشئ الله لها أقواما يسكنهم إياها من غير عمل عملوه، ويرفع بها درجات العبد من غير سعي منه، بل بما يصل إليه من دعاء المؤمنين، وصلاتهم، وصدقتهم، وأعمال البر التي يهدونها إليه، بخلاف أهل النار، فإن الله لا يعذب فيها أحداً بغير عمل أصلاً.
فمسيء الجن والإنس في النار بعدل الله، وبما كانوا يكسبون.
ومحسنهم في الجنة بفضل الله، وبما كانوا يعملون.
والجميع متفاوتون في الدرجات والكرامات والعقوبات بحسب أعمالهم: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?) [الأنعام: 132].
11- طبقات الخلق في الآخرة
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [الروم: 14-16].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 106-107].
الدنيا دار الإيمان والعمل والآخرة دار الثواب والعقاب، والدنيا داء الفناء.. والآخرة دار البقاء.
والإنس والجن يوم القيامة طبقات.. ومنازلهم في الجنة درجات.. وفي النار دركات.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2674).
(14/130)
وطبقات المكلفين يوم القيامة ثمان عشرة طبقة:
الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل.
وهذه الطبقة هي العليا على الإطلاق، فأكرم الخلق على الله، وأخصهم بالزلفى لديه رسله، وهم المصطفون من عباده الذين سَلَّم عليهم في العالمين كما قال سبحانه: ( ? ? ? ?) [الصافات: 181].
فالله عزَّ وجلَّ اختص رسله بوحيه، وجعلهم أمناء على رسالته، وواسطة بينه وبين عباده، وخصهم بأنواع كراماته:
فمنهم من اتخذه خليلاً كما قال سبحانه: ( ں ں ? ? ?) [النساء: 125].
ومنهم من كلمه تكليماً كما قال سبحانه: ( ? چ چ چ چ) [النساء: 164].
ومنهم من رفعه مكاناً علياً كما قال سبحانه عن: ( ? ? ? ?) [مريم: 57].
ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 253].
فهؤلاء الرسل أقرب الخلق إليه وسيلة، وأرفعهم عنده درجة، وأحبهم إليه، وأكرمهم عليه، وخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد بفضل الله على أيديهم.
ولم يجعل الله لعباده وصولاً إليه إلا من طريقهم، ولا دخولاً إلى جنته إلا خلفهم، ولم يكرم أحداً من خلقه بكرامة إلا على أيديهم.
وبالرسل عُرف الله، وبهم عُبد وأُطيع، وبهم حصلت محابه تعالى في الأرض من الإيمان والتقوى، والعبادات والطاعات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله.
والأنبياء والرسل درجات، وأعلاهم منزلة أولو العزم من الرسل، وهم المذكورون في قوله سبحانه: ( ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الشورى: 13].
وأفضل أولي العزم سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم .
فهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق، وعليهم تدور الشفاعة، حتى يردوها إلى أفضلهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم .
(14/131)
الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم، وقد ذكر الله منهم في القرآن من الأنبياء والرسل خمسةً وعشرين، ومنهم من لم يقص الله علينا أخبارهم، ولا نعلم أسماءهم فنؤمن بهم إجمالاً كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 78].
الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والنبي: هو من أوحى الله إليه بشرع سابق ليُعْلِم من حوله من أصحاب ذلك الشرع ويجدده، وهم درجات كما قال سبحانه: ( ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 55].
والرسول: من أوحى الله إليه بشرع وأمره بإبلاغه إلى من لا يعمله، أو يعلمه ولكنه خالفه.
فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسول.
ولم تخل أمة من رسول يبعثه الله تعالى بشريعة مستقلة إلى قومه، أو نبي يوحي إليه بشريعة مَنْ قبله ليجددها، كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [النحل: 36].
الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل.
وهؤلاء هم خلفاء الرسل في أممهم، وهم القائمون بما بُعثوا به علماً وعملاً، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم.
وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسل والأنبياء، وهي مرتبة الصديقية، ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء فقال سبحانه: ( ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [النساء: 69-70].
وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول وأمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه، وهم حملة دينه إلى الناس، وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
وهؤلاء أفضل درجات الأمة بعد الأنبياء والمرسلين.
ولو لم يكن من فضلهم وشرفهم إلا أن كل من علم وعمل بتعليمهم وإرشادهم، أو علَّم غيره شيئاً من ذلك كان له مثل أجره على آباد الدهور.
(14/132)
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مبيناً فضل الدعوة إلى الله: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَأخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ ا? فِيهِ، فَوَا? لأنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (2).
وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ سَنَّ فِي الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أجْرُهَا، وَأجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (3).
فيا لها من مرتبة ما أعلاها، ومنقبة ما أجلها، وحلة ما أجملها، أن يكون المرء في حياته مشغولاً ببعض أشغاله، أو في قبره صار أشلاء ممزقة، وأوصالاً متفرقة، وصحف حسناته متزايدة، تملى بالحسنات كل وقت، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3701) واللفظ له، ومسلم برقم (2406).
(2) أخرجه مسلم برقم (1631).
(3) أخرجه مسلم برقم (1017).
(14/133)
فكم اهتدى بسبب هؤلاء؟.. وكم زال من البدع بسبب تعليمهم السنن؟.. وكم تعلّم من الناس بسبب تعليمهم؟.. وكم زال من ظلمات الجهل بسبب توجيههم وإرشادهم؟.. وكم حصل من الخير على أيديهم؟.. وكم رفع عن الأمة من البلاء والعقوبات بسبب نصحهم؟
ولهذا رفع الله مقامهم بين العالمين فقال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المجادلة: 11].
الطبقة الخامسة:.. أئمة العدل وولاته.
وهؤلاء هم الذين تُؤْمَن بهم السبل، ويستقيم بهم العالم، ويستنصر بهم الضعيف، ويذل بهم الظالم، ويأمن بهم الخائف، وتقام بهم الحدود، ويُدفع بهم الفساد، ويقام بهم حكم الكتاب والسنة، ويُدفع بهم شر الأعداء.
الذين يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويجاهدون في سبيل الله، وتطفأ بهم نيران البدع والضلالة.
وهؤلاء الذين تُنصب لهم منابر من نور عن يمين الرحمن يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ، عِنْدَ ا?، عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1827).
(14/134)
وهم أحد الأصناف السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: الإمَامُ، الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي ا? اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال إنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أخْفَى حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
فلما كان الناس في ظل عدلهم في الدنيا كانوا في ظل عرش الرحمن يوم القيامة، ظلاً بظل جزاءً وفاقاً.
فيا لها من مرتبة ما أشرفها، ومنزلة ما أعلاها، أن يكون الوالي أو الإمام على فراشه، والناس يعملون بالخير، ويتلون القرآن، وتقوم سوق البر والأعمال الصالحة في كل مكان، وكل زمان، في كل مدينة، وكل قرية، وكل بيت، وكل مسجد، وكل سوق، وكل ذلك يكتب في صحائف حسناته، وتزداد كل وقت، ما دام يعمل بعدله، وما دام ناصحاً لرعيته.
وأين هذا من الإمام الغاش لرعيته الظالم لهم، الذي قد حرّم الله عليه الجنة، وأوجب له النار.
الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله.
وهؤلاء هم جند الله الذين يقيم بهم دينه، ويدفع بهم بأس أعدائه، ويحفظ بهم دينه، وهم الغزاة الذين يقاتلون أعداء الله ليكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا.
قد بذلوا أنفسهم في محبة الله ونصر دينه، وهم شركاء لكل من يحمونه في أعمالهم التي يعملونها، وإن باتوا في ديارهم.
ولهم مثل أجور من عَبَدَ الله بسبب جهادهم وفتوحهم، فإنهم كانوا هم السبب فيه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (660) واللفظ له، ومسلم برقم (1031).
(14/135)
وقد حث الله عزَّ وجلَّ عباده المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، ورغبهم فيه، وأجزل لهم الأجر عليه فقال سبحانه: ( ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصف: 10-11].
وقد أثنى الله عزَّ وجلَّ على عمار المساجد بالصلاة والطاعات بقوله( ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?) [التوبة: 18].
وأخبر سبحانه أنه لا يستوي عنده عمَّار المسجد الحرام بالطواف والاعتكاف والصلاة وسقاية الحاج، لا يستوون هم وأهل الجهاد في سبيل الله بقوله سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 19-22].
فهذه الدرجات الثلاث هي درجات السبق:
درجة العلم والدعوة.. ودرجة العدل.. ودرجة الجهاد.
وبها سبق الصحابة رضي الله عنهم، وأدركوا مَنْ قبلهم، وسبقوا مَنْ بعدهم فهم السبب في وصول الإسلام إلينا.. وهم السبب في تعليم كل خير وهدى تُنال به السعادة والنجاة.. وهم أعدل الأمة فيما ولوه.. وهم أعظمهم جهاداً في سبيل الله.
والأمة تنعم في آثار علمهم وعدلهم وجهادهم إلى يوم القيامة، فلا ينال أحد منهم مسألةَ علمٍ نافع إلا على أيديهم، ولا يسكن بقعة من الأرض آمناً إلا بسبب جهادهم وفتوحهم، ولا يحكم إمام بعدل وهدى إلا كانوا هم السبب في وصوله إليهم.
فلهم من الأجور بقدر أجور الأمة إلى يوم القيامة، مضافاً إلى أجر أعمالهم.
فسبحان من يختص برحمته وفضله من يشاء: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان.
(14/136)
وهم أهل الإحسان إلى الناس بأموالهم على اختلاف حاجاتهم ومصالحهم من تفريج كرباتهم، ودفع ضروراتهم، وكفايتهم في مهماتهم، فهم أحد الصنفين في قوله صلى الله عليه وسلم : «لا حَسَدَ إلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
ومعناه: لا ينبغي لأحد أن يغبط أحداً على نعمة، ويتمنى مثلها إلا أحد هذين، وذلك لما فيهما من منافع، النفع العام، والإحسان المتعدي إلى الخلق، فهذا ينفعهم بعلمه، وهذا ينفعهم بماله، والخلق كلهم عباد الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعباده.
وهذان الصنفان أنفع الناس لعباد الله، ولا يقوم أمر الناس ولا يعمر العالم إلا بهما.
وقد مدح الله أهل الإنفاق في سبيل الله، وأثنى عليهم، وبين عظمة أجورهم فقال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 274].
وقال سبحانه: ( چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [البقرة: 261].
فهذه الطبقات الأربع من طبقات الأمة، هم أهل الإحسان والنفع المتعدي وهم:
العلماء والدعاة.. وأئمة العدل.. وأهل الجهاد.. وأهل الصدقة وبذل الأموال في مرضاة الله.
فهؤلاء ملوك الآخرة.. وصحائف حسناتهم متزايدة.. تملى بها الحسنات وهم في بطون الأرض.. ما دامت آثارهم في الدنيا.
فيا لها من نعمة ما أجلها، وكرامة ما أعظمها، والله يختص برحمته من يشاء، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، والله عليم حكيم.
الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه كالصلاة، والحج والعمرة، وقراءة القرآن، والصيام، والاعتكاف، والذكر وغير ذلك، مع القيام بأداء فرائض الله عليه.
فهذا قد جاهد في تكثير حسناته.. وملء صحيفته.. وإذا عمل خطيئة تاب منها إلى الله.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (73) واللفظ له، ومسلم برقم(816).
(14/137)
فهذا على خير عظيم، وله ثواب أمثاله من أعمال الآخرة، ولكن ليس له إلا عمله، فإذا مات طويت صحيفته.
فهذه طبقات أهل الربح والحظوة عند الله تبارك وتعالى.
الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة.
وهي طبقة من يؤدي فرائض الله، ويجتنب محارم الله، مقتصراً على ذلك لا يزيد عليه ولا ينقص منه، فلا يتعدى ما حرم الله عليه، ولا يزيد على ما فرض الله عليه.
فهذا من المفلحين إن صدَّق بضمان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد ضمن الله لهؤلاء تكفير سيئاتهم إذا أدوا فرائضه، واجتنبوا الكبائر، فإن فعلوها وتابوا منها لم يخرجوا عن طبقتهم.
قال الله تعالى: ( گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [النساء: 31].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الصَّلوات الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب، وهؤلاء قوم أسرفوا على أنفسهم، وغَشَوْا كبائر ما نهى الله عنه، ولكن الله رزقهم التوبة النصوح قبل الموت.
فهؤلاء ناجون من عذاب الله كما قال سبحانه: ( چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [النساء: 17].
الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
فعملوا حسنات وسيئات، ولَقُوا الله مصرين عليها غير تائبين منها، لكن حسناتهم أغلب من سيئاتهم.
فهؤلاء أيضاً ناجون فائزون كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الأعراف: 8-9].
الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم.
فهؤلاء منعتهم حسناتهم من دخول النار، ومنعتهم سيئاتهم من دخول الجنة، وهم أهل الأعراف كما قال سبحانه: ( چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الأعراف: 46].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (233).
(14/138)
فهؤلاء قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيوقفهم الله على سور عال بين الجنة والنار، فيقفون هناك حتى يقضي الله فيهم بما يشاء، ثم يدخلهم الجنة بفضله ورحمته.
وما تقدم من الطبقات هم أهل الجنة الذين لم تمسهم النار.
الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية.
وهؤلاء قوم مسلمون خفت موازينهم، ورجحت سيئاتهم على حسناتهم فغلبتها السيئات.
فهؤلاء يدخلون النار، فيكونون فيها على مقدار أعمالهم السيئة، فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه.. ومنهم من تأخذه النار إلى أنصاف ساقيه.. ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه.. وهكذا.
فيبقى هؤلاء في النار على قدر أعمالهم، ثم يخرجون منها، فينبتون على أنهار الجنة، فيفيض عليهم أهل الجنة من الماء حتى تنبت أجسادهم، ثم يدخلون الجنة إذا هُذِّبوا ونُقُّوا وطُهِّروا من الذنوب.
وهم الطبقة الذين يخرجون من النار بشفاعة الشافعين، وهم الذين يأمر الله سيد الأنبياء مراراً أن يخرجهم من النار بما معهم من الإيمان.
الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان.
وهؤلاء أصناف:
منهم من لم تبلغه الدعوة بحال، ولا سمع بها بخبر.
ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئاً ولا يميز.
ومنهم الأصم الذي لا يسمع شيئاً أبداً.
ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا، وأما أطفال المسلمين فهم في الجنة.
وأهل هذه الطبقة يمتحنون في عرصات القيامة، ويُرسَل إليهم هناك رسول، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار.
وبناء على هذا يكون بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار.
(14/139)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أَربعةٌ يَومَ القِيامةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئاً، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ، فَأَمَّا الأَْصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئاً، وَأَمَّا الأَْحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإْسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّي لَقَدْ جَاءَ الإسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئاً، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، قال: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْداً وَسَلَاماً وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا» أخرجه أحمد صلى الله عليه وسلم (1).
الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق.
وهؤلاء قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسوله.
وهؤلاء المنافقون في الدرك الأسفل من النار؛ لغلظ كفرهم، وعظيم خطرهم كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 145].
وإنما كان أهل هذه الطبقة وهم المنافقون في الدرك الأسفل من النار لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، ووصل إليهم من معرفة الدين وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً، وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ورسوله من غيرهم، ولهذا قال الله فيهم: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المنافقون: 3].
الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته.
وهؤلاء هم أئمة الكفر الذي كفروا وصدوا عن سبيل الله، يصدون عباد الله عن الدخول في دين الله بالترغيب والترهيب.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (16302) انظر السلسلة الصحيحة رقم (1434).
(14/140)
فهؤلاء عذابهم مضاعف، ولهم عذابان:
عذاب بالكفر.. وعذاب بصد الناس عن الدخول في الإيمان كما قال سبحانه( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?) [النحل: 88].
فكما أن للداعي إلى الهدى مثل أجور من اتبعه فكذلك للداعي إلى الضلال مثل آثام من اتبعه، واستجاب له.
ولا ريب أن هذا يتضاعف ويتزايد بحسب من اتبعه، وضل به، ولهذا كان فرعون وقومه في أشدالعذاب؛ لعظيم جرمهم وفسادهم كما قال سبحانه( ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [غافر: 46].
فهؤلاء رؤساء الكفار استحقوا أشد العذاب لغلظ كفرهم.. وصدهم عن سبيل الله.. وعقوبتهم من آمن بالله.. فليس عذاب الرؤساء في النار كعذاب أتباعهم.
ولهذا كان عدو الله إبليس أشد أهل النار عذاباً؛ لأنه إمام كل كفر وشرك وشر، فما عصي الله إلا على يديه وبسببه، ثم الأخبث فالأخبث من نُوَّابه في الأرض ودعاته.
والكفر يتفاوت.. فكفر أغلظ من كفر.. وظلم أعظم من ظلم.. ومعصية أغلظ من معصية.
وكما أن الجنة درجات فكذلك النار دركات، ولكل عامل جزاؤه، ولا ظلم لأحد حين يحكم الله يوم القيامة: ( ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 40].
ويغلظ الكفر من حيث العقيدة كمن جحد رب العالمين وكفر به، ولم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ويغلظ من حيث عناد الإنسان وضلاله وكفره على بصيرة بعد معرفة الحق كقوم ثمود، وقوم فرعون، وكفر أبي جهل، وكفر اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم .
ويغلظ كذلك من جهة السعي في إطفاء نور الله، وصد عباده عن دينه بما تصل إليه قدرته.
فهؤلاء أشد الكفار جرماً، وأشدهم عذاباً، وليس عذاب مَنْ دونهم ممن جهل الحق، ولم يؤذ المؤمنين، ولم يصد عن سبيل الله كهؤلاء، فمن الكفار من تجتمع في حقه الجهات الثلاث ومنهم اثنتان، ومنهم واحدة، وعلى حسب غلظ الكفر يكون العذاب.
الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة.
(14/141)
فهؤلاء بمنزلة الدواب، يعبدون ما يعبد آباؤهم: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [البقرة: 170].
فهم لا يحاربون المسلمين ولا يؤذونهم، لكنهم لا يتبعونهم، فهؤلاء كفار جاهلون، ومن قبلهم كفار معاندون.
والمقلد الذي تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه يختلف عن المقلد الذي لم يتمكن من ذلك بوجه.
والقسمان واقعان في الوجود:
فالمتمكن المعرض مفرط، تارك للواجب عليه، ولا عذر له عند الله.
أما العاجز عن السؤال والعلم، الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضا:
أحدهما: مريد للهدى مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة.
الثاني: معرض لا إرادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه.
ففرق بين عجز الطالب، وعجز المعرض.
فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً، فهم في النار جميعاً، الذين اتَّبعوا، والذين اتُّبِعوا، كما قال سبحانه عن الأتباع أنهم قالوا: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [الأعراف: 38].
الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن.
والجن منهم المؤمن والكافر، والبَرّ والفاجر كما قال سبحانه إخباراً عنهم: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجن: 14، 15].
وكفار الجن في النار كما قال سبحانه: ( ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 13].
فالجن مكلفون بشرائع الأنبياء، يجب عليهم طاعتهم كما يجب على الإنس، ومؤمنهم في الجنة، وكافرهم في النار، وهم مكلفون بالشريعة الإسلامية، مأمورون منهيون، مثابون ومعاقبون.
فالمحسن منهم في الجنة كالإنس، والمسيء في النار كالإنس كما حكى الله عن مؤمنيهم أنهم قالوا: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجن: 13].
فهذه طبقات المكلفين من الثقلين: الجن والإنس في الدار الآخرة، وكل طبقة منها لها أعلى، وأدنى، ووسط، وهم درجات عند الله:
(14/142)
( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحقاف: 19].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء: «ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا ألْوَانٌ لا أدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ، وَإذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «إنَّ أحَدَكُمْ إذَا مَاتَ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ، وَإنْ كَانَ مِنْ أهْلِ النَّارِ فَمِنْ أهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
( ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [الأعراف: 23].
اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
اللهم إنا نسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك الدرجات العلى من الجنة.
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك.. وبعفوك من عقوبتك.. وبك منك لا نحصي ثناءً عليك.. أنت كما أثنيت على نفسك.
12-دار القرار
قال الله تعالى: ( ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 72].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 68].
الله تبارك وتعالى خالق كل شيء.. خلق الدنيا والآخرة.. وخلق الجنة والنار.. وجعل الجنة دار أوليائه.. وجعل النار دار أعدائه.
وجعل الدنيا دار تكميل الإيمان والأعمال.. وجعل الجنة دار تكميل الشهوات واللذات.. وجعل النار دار العذاب والعقوبات.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (349) واللفظ له، ومسلم برقم (163).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1379)، واللفظ له، ومسلم برقم (2866).
(14/143)
خلق سبحانه الجنة وجعلها داراً للثواب لمن آمن به وأطاعه.
وخلق النار وجعلها داراً للعقاب لمن كفر به وعصاه.
وجعل الخير كله بحذافيره في الجنة، ففيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
نعيم برؤية الرب الرحيم، وسماع كلامه، ورضوانه، ونعيم بما أعده الله لعباده المتقين من المساكن والقصور، وألوان الطعام والشراب، والحور العين، والجنات والبساتين.
وجعل سبحانه العذاب كله بحذافيره في النار، فكل شر وبلاء وعذاب وعقاب جمعها الله للكفار والعصاة في النار.
وقَسَّم سبحانه العذاب والنعيم في الآخرة على الأبدان والأرواح.
فللأبدان نعيم.. وللأرواح نعيم.. وكذلك للجسد عذاب وللروح عذاب.
فمن نعيم الجسد كل ما تشتهيه الأنفس، وتلتذ به من الطعام والشراب، وثمرات النخيل والأعناب، ومن الشراب أنهار الخمر والعسل واللبن والماء.
ومن نعيم الروح رؤية الرب جل جلاله ورضاه والقرب منه.
ومن عذاب الجسد ما يعذَّب به أهل النار من النار التي تحرق أجسامهم، والحميم الذي يقطِّع أمعاءهم، والطعام الكريه المر الذي تعافه النفوس من الزقوم والغسلين والضريع.
ومن الشراب الماء الحميم، والصديد الكريه كما قال سبحانه: ( ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 16، 17].
وتعذب أرواحهم بالصَّغار والإهانة، وتحجب أبصارهم عن رؤية الله، وعذاب الاحتجاب عن الله، وإهانته لهم، وغضبه عليهم وسخطه، والبعد عنه، أعظم عليهم من التهاب النار في أجسامهم وأرواحهم كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [المطففين: 15، 16].
والدنيا دار العمل، والآخرة دار الجزاء، لكن لا ينقطع العمل والسؤال إلا بعد دخول دار القرار: في الجنة أو النار.
أما في البرزخ، وعرصات القيامة فلا ينقطع ذلك كسؤال الملكين الميت في قبره، ودعوة الخلائق إلى السجود لله يوم القيامة، وامتحان المجانين، ومن مات في الفترة.
(14/144)
ثم يحكم الله بين العباد حسب إيمانهم وكفرهم وأعمالهم، فريق في الجنة.. وفريق في السعير.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [الحج: 56، 57].
وقال الله تعالى: ( ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [الشورى: 7].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [الروم: 14-16].
وسيكون الحديث عن الجنة وعن النار من كتاب مَنْ خلقها وخلق ما فيها، وخلق أهلها، وهو الله سبحانه.
ومن سنة مَنْ دخلها، ووطئت أقدامه أرضها، وهو محمد صلى الله عليه وسلم على ضوء ما ورد في القرآن الكريم، والسنة الصحيحة.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الجنة دار النعيم، والنجاة من النار دار الجحيم، إنه سميع مجيب.
1- صفة الجنة
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 25].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [النساء: 122].
الله تبارك وتعالى جعل الدنيا دار الإيمان والعمل والابتلاء، وجعل الآخرة دار الثواب لمن أطاعه، ودار العقاب لمن عصاه.
وجعل الجنة دار أوليائه، وجعل النار دار أعدائه.
فالجنة طيبة طاب نعيمها، فهو باق لا يبيد، وهو صاف عن كل شوب، لا يمازجه كدر، ولا يعرض له عطب ولا عفن.
ومن أجل أن الجنة طيبة، كانت دار الطيبين، فلا يدخلها إلا من صلح وطاب من الخَلْق كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 32].
وقال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 73].
* أسماء الجنة:
الجنة واحدة في الذات، متعددة الصفات، وهي اسم لدار النعيم المطلق الكامل، وهذه أشهر أسمائها:
(14/145)
1- دار السلام: لأن أهلها سالمون من كل مكروه، لا يمسهم فيها نَصَب ولا وَصَب، ولا هم ولا حزن، فهي دار السلام من كل بلية وآفة ومكروه كما قال سبحانه( چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 127].
وهو سبحانه السلام الذي سلَّمها من الآفات والنقص، وسلَّم أهلها من كل آفة ونقص، السلام الذي يسلِّم على أهلها كما قال سبحانه: ( ٹ ٹ ? ? ? ?) [يس: 58].
وتسلم عليهم الملائكة كما قال سبحانه: ( ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [الرعد: 23، 24].
وتحية أهلها السلام كما قال سبحانه: ( ? ? ? ?) [إبراهيم: 23].
وكلام أهلها كله سلام، لا لغو فيها، ولا فحش، ولا باطل: ( ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [الواقعة: 25، 26].
2- جنة المأوى: التي يأوي إليها الأبرار من عباد الله كما قال سبحانه( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 19].
3- دار الخلد: لأن أهلها خالدون فيها أبداً، لا يظعنون عنها أبداً كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [الفرقان: 15].
4- دار المقامة: التي يقيم فيها أهلها أبداً، لا يموتون ولا يتحولون منها أبداً كما قال سبحانه حكاية عن أهلها: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 34، 35].
فأهلها يرغبون في الإقامة فيها لكثرة خيراتها، ودوام مسراتها، وكمال نعيمها: ( ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 108].
5- جنة عدن: فأهلها باقون فيها مقيمون كما قال سبحانه: ( ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [ص: 49، 50].
6- دار الحيوان: فهي دار الحياة التي لا موت فيها أبداً، وهي دار الحياة الدائمة التي لا تفنى ولا تنقطع ولا تبيد كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 64].
(14/146)
ففي الجنة الحياة الكاملة التي من لوازمها أن تكون أبدان أهلها في غاية القوة، وقُوَاهم في غاية الشدة؛ لأنها أبدان خلقت للحياة الدائمة، وأن يكون فيها كل ما تكمل به الحياة، وتتم به اللذات من مفرحات القلوب، وشهوات الأبدان من المآكل والمشارب، والملابس والمناكح، والمراكب والمساكن، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
7- جنة الفردوس: وهو أعلى الجنة وأفضلها، والفردوس هو البساتين التي تجمع كل ما في البساتين من الأشجار.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 107، 108].
8- جنات النعيم: التي فيها كل نعيم ظاهر وباطن كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [لقمان: 8].
9- المقام الأمين: الذي يأمن فيه الإنسان من كل سوء وآفة ومكروه، الذي جمع صفات الأمن كلها، فهو آمن من الزوال والخراب، وأنواع النقص، وأهله آمنون من الخروج والنغص والنكد.
قد جمع الله فيه أمن المكان بقوله: (? ? ? ? ? ?) [الدخان: 51].
وأمن الطعام بقوله: ( ھ ھ ھ ے ے ?) [الدخان: 55].
فلا يخافون انقطاع الفاكهة، ولا سوء عاقبتها ومضرتها، ولا يخافون الخروج من الجنة، ولا يخافون الموت فهم خالدون في النعيم أبداً.
* مكان الجنة:
أما مكان الجنة فهو في السماء كما قال سبحانه: ( ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [النجم: 13-15].
وسدرة المنتهى فوق السماء، ينتهي إليها ما ينزل من عند الله فيُقبض منها، وينتهى إليها ما يُعرج به من الأرض فيُقبض منها.
وقال الله تعالى: ( ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [الذاريات: 22].
(14/147)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا الله لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَألْتُمُ الله فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (1).
* عدد أبواب الجنة:
عدد أبواب الجنة ثمانية.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 73].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبْوَابٍ، فِيهَا باب يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لا يَدْخُلُهُ إِلا الصَّائِمُونَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ يَتَوَضَّأ فَيُبْلِغُ صلى الله عليه وسلم أوْ فَيُسْبِغُ) الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ ا? وَرَسُولُهُ، إِلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا شَاءَ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (3).
* أسماء أبواب الجنة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ ا?، نُودِيَ مِنْ أبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ ا? هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ».
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (7423).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3257) واللفظ له، ومسلم برقم (1152).
(3) أخرجه مسلم برقم (234).
(14/148)
فَقال أبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: بِأبِي أنْتَ وَأمِّي يَا رَسُولَ ا?، مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا؟. قال: «نَعَمْ، وَأرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
* سعة أبواب الجنة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
وعن عتبة بن غزوان - رضي الله عنه - قال: ذُكِرَ لَنَا أنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (3).
*الأيام والأوقات التي تفتح فيها أبواب الجنة في الدنيا هي:
يوم الإثنين.. ويوم الخميس.. وإذا دخل رمضان.. وعند الوضوء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «تُفْتَحُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الإثنَيْن، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِا? شَيْئًا، إِلا رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (4).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1897) واللفظ له، ومسلم برقم (1027).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4712)، ومسلم برقم (194) واللفظ له.
(3) أخرجه مسلم برقم (2967).
(4) أخرجه مسلم برقم (2565).
(14/149)
وقال صلى الله عليه وسلم : «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ يَتَوَضَّأ فَيُبْلِغُ صلى الله عليه وسلم أوْ فَيُسْبِغُ) الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ ا? وَرَسُولُهُ، إِلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا شَاءَ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (2).
وأهل الجنة إذا دخلوا الجنة، لم تغلق أبوابها عليهم.. بل تبقى مفتحة كما هي كما قال سبحانه: ( گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [ص: 50، 51].
فتبقى أبواب الجنة مفتحة؛ لأنها دار أمن لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب.. ولكي يتبوأ أهل الجنة منها حيث شاؤوا.. ويذهبون ويجيئون متى شاؤوا.. وتدخل عليهم الملائكة منها كل وقت بالتحف والألطاف من ربهم.. ويدخل عليهم منها ما يسرهم كل وقت.
* أول من يدخل الجنة:
وأول من يدخل الجنة سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «آتِي باب الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أنْتَ؟ فَأقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أمِرْتُ لا أفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (3).
وقال صلى الله عليه وسلم : «أنَا أكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأنَا أوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (4).
وأول الأمم تدخل الجنة أمته صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري يرقم (3277) واللفظ له، ومسلم برقم (1079).
(2) أخرجه مسلم برقم (234).
(3) أخرجه مسلم برقم (197).
(4) أخرجه مسلم برقم (196).
(14/150)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
فهذه الأمة أسبق الأمم خروجاً من الأرض.. وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف.. وأسبقهم إلى ظل العرش.. وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم.. وأسبقهم إلى الجواز على الصراط المستقيم.. وأسبقهم إلى دخول الجنة.. وأول من يدخل الجنة من هذه الأمة أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -.
وأول زمرة يدخلون الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ، وَلا يَتْفِلُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ، أمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأُلُوَّةُ -الألنْجُوجُ، عُودُ الطِّيبِ -وَأزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
وقال صلى الله عليه وسلم : « لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا، أوْ سَبْعُ مِائَةِ ألْفٍ صلى الله عليه وسلم لا يَدْرِي أبُو حَازِمٍ أيَّهُمَا قال) مُتَمَاسِكُونَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لا يَدْخُلُ أوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (3).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (876)، ومسلم برقم (855) واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3327) واللفظ له ومسلم برقم (2834).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6543)، وأخرجه مسلم برقم (219) واللفظ له.
(14/151)
ويسبق الفقراء الأغنياء في دخول الجنة.
وتختلف مدة السبق بحسب أحوال الفقراء والأغنياء، فمنهم من يسبق بأربعين سنة، ومنهم من يسبق بخمسمائة سنة، كما يتأخر مكث العصاة في النار بحسب جرائمهم، لكن لا يلزم من سبق الفقراء في الدخول ارتفاع منازلهم على الأغنياء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ فُقَرَاءَ المهاجرين يَسْبِقُونَ الأغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأرْبَعِينَ خَرِيفًا» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
وقال صلى الله عليه وسلم : « يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ خَمْسُ مِائَةِ عَامٍ». أخرجه أحمد والترمذي صلى الله عليه وسلم (2).
* صفة وجوه أهل الجنة:
أما صفة وجوه أهل الجنة فهي:
بيضاء.. ناعمة.. ناضرة.. مسفرة.. ضاحكة.. مستبشرة.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 107].
وقال الله تعالى: ( ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک) [الغاشية: 8-10].
وقال الله تعالى: ( پ ? ? ? ? ? ? ?) [القيامة: 22، 23].
وقال الله تعالى: ( ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المطففين: 22-24].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ?) [عبس: 38، 39].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لا تَبَاغُضَ بَيْنَهُمْ وَلا تَحَاسُدَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (3).
* درجات الجنة:
وهي من الكثرة والتفاوت بحيث لا يعلم عظمها وتباهيها إلا الله عزَّ وجلَّ، ودرجات الجنة بعضها فوق بعض.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2979).
(2) صحيح: أخرجه أحمد برقم (8521)، وأخرجه الترمذي برقم (2354).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3254) واللفظ له ومسلم برقم (2834).
(14/152)
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الإسراء: 21].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 75، 76].
وقال الله تعالى: ( ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [الأنفال: 2-4].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 163].
وأهل الجنة متفاضلون في تلك الدرجات:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الأُفُقِ، مِنَ الْمَشْرِقِ أوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ». قالوا: يَا رَسُولَ ا? تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قال: « بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِا? وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ ا?، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -أُرَاهُ-فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (2).
وقال صلى الله عليه وسلم : «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ، فَيَقْرَأُ وَيَصْعَدُ بِكُلِّ آيَةٍ دَرَجَةً، حَتَّى يَقْرَأَ آخِرَ شَيْءٍ مَعَهُ» أخرجه أبو داود والترمذي صلى الله عليه وسلم (3).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3256) واللفظ له ومسلم برقم (2831).
(2) أخرجه البخاري برقم (2790).
(3) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (1464) واللفظ له، والترمذي برقم (2914).
(14/153)
* أعلى درجات الجنة:
أعلى درجات الجنة هو الفردوس:
فهو أوسط الجنة.. وأعلاها.. وسقفه عرش الرحمن.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ ا?، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -أُرَاهُ-فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (1).
وأعلى منزلة في الجنة هي الوسيلة:
وهي التي خص الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم .. وسميت وسيلة؛ لأنها أقرب الدرجات إلى العرش.. فهي أقرب الدرجات إلى الله عزَّ وجلَّ.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ ا?، وَأرْجُو أنْ أكُونَ أنَا هُوَ، فَمَنْ سَألَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَة» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (2).
* أعلى أهل الجنة منزلة وأدناهم منزلة:
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2790).
(2) أخرجه مسلم برقم (384).
(14/154)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَألَ مُوسَى رَبَّهُ: مَا أدْنَى أهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قال: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! كَيْفَ؟ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأخَذُوا أخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أتَرْضَى أنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ، رَبِّ! قال: رَبِّ! فَأعْلاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قال: أولَئِكَ الَّذِينَ أرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» قال وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ ا? عَزَّ وَجَلَّ: ( ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [السجدة: 17]» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ آخِرَ أهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنَ النَّارِ، رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْواً، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ: الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَارٍ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
* عدد صفوف أهل الجنة:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (189).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7511) واللفظ له ومسلم برقم (186).
(14/155)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُْمَمِ» أخرجه الترمذي وابن ماجه صلى الله عليه وسلم (1).
* سعة الجنة وعلوها:
الجنة واسعة المساحة، عالية المكان.
قال الله تعالى: ( ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [الغاشية: 8-11].
وقال الله تعالى: ( گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الحديد: 21].
وأهل الجنة متفاضلون في القصور.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 20].
وقال الله تعالى: ( ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [العنكبوت: 58].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 20].
* أكثر أهل الجنة:
أكثر أهل الجنة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أتَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الْجَنَّةِ؟». قال قُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالَ: «أتَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أهْلِ الْجَنَّةِ». فَقُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالَ: « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنِّي لأَرْجُو أنْ تَكُونُوا نِصْفَ أهْلِ الْجَنَّةِ وَذَاكَ أنَّ الْجَنَّةَ، لا يَدْخُلُهَا إِلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أنْتُمْ فِي أهْلِ الشِّرْكِ إِلا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ، أوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَحْمَرِ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2546)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2065).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4289)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3462).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6528)، ومسلم برقم (221) واللفظ له.
(14/156)
وقال صلى الله عليه وسلم : «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُْمَمِ» أخرجه الترمذي وابن ماجه صلى الله عليه وسلم (1).
فقد رجا صلى الله عليه وسلم أن تكون أمته شطر أهل الجنة فأعطاه الله رجاءه.. ثم زاده إلى الثلثين.. وفضل الله واسع.. والله ذو الفضل العظيم.
* عدد الجنات:
الجنات كثيرة لا يعلم عددها إلا الله عزَّ وجلَّ.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 14].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأم حارثة، وكان قد استشهد ابنها في غزوة بدر: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأعْلَى» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (2).
والجنات مع كثرتها ترجع إلى أصلين:
الأول: جنتان من ذهب، آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وهاتان الجنتان للمقربين.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ?) [الرحمن: 46].
الثاني: جنتان من فضة، آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وهاتان الجنتان لأصحاب اليمين.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ?) [الرحمن: 62].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (3).
* صفة استقبال أهل الجنة:
وأما صفة استقبال أهل الجنة:
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2546)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2065).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4289)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3462).
(2) أخرجه البخاري برقم (2809).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4878) واللفظ له، ومسلم برقم (180).
(14/157)
فإن الملائكة وخزنة الجنة تستقبل المؤمنين بالبشر والثناء والسلام.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 73].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [الرعد: 23، 24].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [الأنبياء: 103].
* من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَأجدُ النَّبِيَّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْعَشَرَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، هَؤُلاءِ أُمَّتِي؟ قَالَ: لا، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ، قَالَ: هَؤُلاءِ أُمَّتُكَ، وَهَؤُلاءِ سَبْعُونَ ألْفاً قُدَّامَهُمْ لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ، قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: كَانُوا لا يَكْتَوُونَ، وَلا يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «وَعَدَنِي رَبِّي سُبْحَانَهُ أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه الترمذي وابن ماجه صلى الله عليه وسلم (2).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6541) واللفظ له، ومسلم بر قم (220).
(2) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2437)، صحيح سنن الترمذي رقم (1984).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4286)، وهذا لفظه، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3459).
(14/158)
وقال صلى الله عليه وسلم : «لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفاً، أوْ سَبْعُمِائَةِ ألْفٍ -لا يَدْرِي أبُو حَازِمٍ أيُّهُمَا قَالَ -مُتَمَاسِكُونَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، لا يَدْخُلُ أوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَالْبَدْرِ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
* صفة أرض الجنة وبناء قصورها:
قال الله تعالى: ( ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 72].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 20].
وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء قال: «ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أتَى بِي السِّدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا ألْوَانٌ لا أدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ اُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قلنا يا رسول الله.. الجنة ما بناؤها؟ قال: «لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الأَذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ وَتُرْبَتُهَا الزَّعْفَرَانُ مَنْ دَخَلَهَا يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ وَيَخْلُدُ لَا يَمُوتُ لَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ» أخرجه أحمد والترمذي صلى الله عليه وسلم (3).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6554) واللفظ له، ومسلم برقم (219).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3342)، واللفظ له، ومسلم برقم (163).
(3) صحيح: أخرجه أحمد برقم (8043)، وأخرجه الترمذي برقم (2526) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2050).
(14/159)
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال: «دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ، مِسْكٌ خَالِصٌ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «بَيْنَا أنَا نَائِمٌ رَأيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقالوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا». فَبَكَى عُمَرُ وَقال: أعَلَيْكَ أغَارُ يَا رَسُولَ ا?. متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
* صفة خيام أهل الجنة:
وهذه الخيام غير الغرف العالية، والقصور الفخمة، بل هي خيام في البساتين، وعلى شواطئ الأنهار.
قال الله تعالى: ( ? ? ٹ ٹ ٹ) [الرحمن: 72].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً، مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلاً، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ، فَلا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (3).
* صفة استلام قصور الجنة:
وأهل الجنة يوم القيامة يعرفون مساكنهم كما يعرفون بيوتهم في الدنيا.
قال الله تعالى: ( ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [محمد: 5، 6].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2928).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3242) واللفظ له، ومسلم برقم (2395).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4879)، ومسلم برقم (2838) واللفظ له.
(14/160)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا، أذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ؛ لأحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (1).
* صفة فرش أهل الجنة:
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?) [الرحمن: 54].
وقال الله تعالى: ( ں ں ?) [الواقعة: 34].
صفة البسط والنمارق:
قال الله تعالى: ( چ چ چ چ ? ? ?) [الرحمن: 76].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الغاشية: 13-16].
* صفة أرائك الجنة:
وهي الأسرة عليها الكلل أو الكراسي ذات الوسائد.
قال الله تعالى: ( ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?) [المطففين: 22، 23].
وقال الله تعالى: ( ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [الإنسان: 13].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 55، 56].
* صفة سرر أهل الجنة:
وسرر أهل الجنة عالية.. مصفوفة.. موضونة.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ں) [الغاشية: 13].
وقال الله تعالى: ( چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [الطور: 20].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 15، 16].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 47].
* صفة حلي أهل الجنة ولباسهم:
حلي أهل الجنة رجالاً ونساءً الذهب والفضة.. واللؤلؤ.. والزبرجد.. ولباسهم الحرير.. وثياب خضر من سندس وإستبرق.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 23].
وقال الله تعالى: ( چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فاطر: 33].
وقال الله تعالى: ( ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 31].
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2440).
(14/161)
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 21].
وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم خليل الرحمن:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أوَّلَ الْخَلائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (1).
* صفة أواني أهل الجنة:
أواني أهل الجنة من الذهب والفضة في صفاء القوارير.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?) [الواقعة: 17، 18].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 71].
وقال الله تعالى: ( ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [الإنسان: 15، 16].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
* صفة إكرام أهل الجنة:
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ?) [مريم: 85].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 73].
وتدخل عليهم الملائكة من كل باب تحييهم بالسلام، وتكرمهم بالتُّحَف والهدايا كما قال سبحانه: ( ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [الرعد: 23، 24].
* صفة خدم أهل الجنة:
وأهل الجنة رجالاً ونساء يخدمهم ولدان مخلدون.. لا يهرمون ولا يتغيرون.. كأنهم لؤلؤ منثور.. ومن حسنهم وبهائهم كأنهم لؤلؤ مكنون.. يدورون عليهم بالخدمة وقضاء الحاجات في جميع الأوقات.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?) [الواقعة: 17، 18].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 19].
وقال الله تعالى: ( ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?) [الطور: 24].
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6526).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7444)، ومسلم برقم (180).
(14/162)
* أول طعام يأكله أهل الجنة:
سأل عبدالله بن سلام - رضي الله عنه - النبي صلى الله عليه وسلم ما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ فقال: «زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (1).
وجاء حبر من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. فقال اليهودي: فَمَنْ أوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟ قال: «فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ». قال الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قال: «زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ». قال: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ قال: «يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أطْرَافِهَا». قال: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قال: «مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا». قال: صَدَقْتَ. متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
* صفة طعام أهل الجنة:
طعام أهل الجنة كل ما لذ وطاب من أنواع الفواكه.. وأنواع اللحوم النضيجة.. وغيره مما لا عين رأت.. ولا أذن سمعت.. ولا خطر على قلب بشر.. يطاف به عليهم بصحاف من ذهب وفضة.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 70، 71].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [الرعد: 35].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?) [الواقعة: 20، 21].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحاقة: 24].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [يس: 57].
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3329).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6520) واللفظ له، ومسلم برقم (2792).
(14/163)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلا يَتْفُلُونَ وَلا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ». قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ: «جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
وجاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَقَالَ لأَِصْحَابِهِ: إِنْ أَقَرَّ لِي بِهَذِهِ خَصَمْتُهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «حَاجَةُ أَحَدِهِمْ عَرَقٌ يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ مِثْلُ رِيحِ الْمِسْكِ فَإِذَا الْبَطْنُ قَدْ ضَمُرَ» أخرجه أحمد والنسائي صلى الله عليه وسلم (2).
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ قال: «ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللهُ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ فِيهَا طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ قَالَ عُمَرُ إِنَّ هَذِهِ لَنَاعِمَةٌ قَالَ رَسُولُ ا? ( أَكَلَتُهَا أَحْسَنُ مِنْهَا» أخرجه أحمد والترمذي صلى الله عليه وسلم (3)
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2835).
(2) صحيح: أخرجه أحمد برقم (19269)، وقال الأرنؤوط: حديث صحيح.
وأخرجه النسائي في السنن الكبرى برقم (11478).
(3) حسن صحيح: أخرجه أحمد برقم (13306).
وأخرجه الترمذي برقم (2542)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2063).
(14/164)
.
وجاء أعرابي فقال يا رسول الله أسمعك تذكر شجرة في الجنة لا أعلم في الدنيا شجرة أكثر شوكاً منها -يعني الطلح- فقال رسول الله (: «فَإنَّ اللهَ يَجْعَلُ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ مِثْلَ خِصْيَةِ التَّيْسِِ المَلْبُودِ -يعني المخصي- فيها سَبْعُونَ لَوْناً مِنَ الطَّعَامِِ لا يُشْبِهُ لَوْنُهُ لَوْنَ الآخَر» أخرجه الطبراني صلى الله عليه وسلم (1).
* صفة شراب أهل الجنة:
يشرب أهل الجنة من أنهار الماء الصافي.. وأنهار اللبن.. وأنهار الخمر.. وأنهار العسل.. والرحيق المختوم.. والشراب الممزوج تارة بالكافور.. وتارة بالزنجبيل.. وتارة صِرْفاً من غير ممزوج.
يطوف به عليهم ولدان مخلدون.. بأكواب وأباريق من ذهب وفضة.
قال الله تعالى: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [محمد: 15].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ) [الإنسان: 5، 6].
وقال الله تعالى: ( ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 17، 18].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المطففين: 25-28].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصافات: 45-47].
فيمزج الشراب لأصحاب اليمين.. ويشربه المقربون صِرْفاً من غير مزيج.
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 17-19].
والملائكة والخدم قَدَّروا الكأس على قَدْر رِيِّ الراغبين فيه.. فلا يزيد عليه فَيُثقل الكف.. ولا يَنقص فتطلب النفس الزيادة.
قال الله تعالى: ( ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [الإنسان: 15، 16].
__________
(1) صحيح: أخرجه الطبراني في الكبير (7: 130)، وفي مسند الشاميين (1: 282).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (2734).
(14/165)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الآخِرَةِ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ» أخرجه الترمذي وابن ماجه صلى الله عليه وسلم (2).
* صفة أشجار الجنة وثمارها:
أشجار الجنة.. وفواكه الجنة.. كثيرة متنوعة.. مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والأحجام.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 14].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المرسلات: 41، 42].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ں ں ? ? ?) [ص: 51].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ) [النبأ: 31، 32].
وقال الله تعالى: ( ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرحمن: 52، 68].
وقال الله تعالى: ( ھ ھ ھ ے ے ?) [الدخان: 55].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 27-33].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحاقة: 20-24].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5426) واللفظ له، ومسلم برقم (2067).
(2) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3361) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2677).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4334)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3498).
(14/166)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا كَأنَّهُ قِلالُ هَجَرَ، وَوَرَقُهَا كَأنَّهُ آذَانُ الْفُيُولِ، فِي أصْلِهَا أرْبَعَةُ أنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَسَألْتُ جِبْرِيلَ فَقال: أمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأمَّا الظَّاهِرَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلاَّ وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ» أخرجه الترمذي صلى الله عليه وسلم (3).
* صفة أنهار الجنة:
وأنهار الجنة كثيرة منوعة.. أنهار من ماء غير متغير لا بمرارة ولا بكدورة، بل هو أعذب المياه وأصفاها.. وأطيبها ريحاً.. وألذها شرباً.
وأنهار من لبن لم يتغير طعمه بحموضة ولا غيرها.. وأنهار من خمر لذة للشاربين.. وأنهار من عسل مصفى من شمعه.
وأنهار الجنة تجري على وجه الأرض في غير أخاديد.. وهي أنهار مطَّردة دائمة الجريان.. تجري بأنواع مختلفة من الأشربة.. بينها من التفاوت في الطعم والشكل ما لا يعلمه إلا الله.. تَفَجَّر من جبال المسك، حصباؤها اللؤلؤ، وطينتها المسك الأذفر، إحدى حافتيها اللؤلؤ، والأخرى الياقوت.
قال الله تعالى: ( ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [محمد: 15].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3207) واللفظ له، ومسلم برقم (162).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6553) واللفظ له، ومسلم برقم (2828).
(3) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2525)، صحيح سنن الترمذي رقم (2049).
انظر صحيح الجامع رقم (5647).
(14/167)
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القمر: 54، 55].
وقال الله تعالى: ( گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [البروج: 11].
وقال الله تعالى: ( ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [الكوثر: 1، 2].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «بَيْنَمَا أنَا أسِيرُ فِي الْجَنَّةِ، إِذَا أنَا بِنَهَرٍ، حَافَتَاهُ قِباب الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ، الَّذِي أعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِيبُهُ، أوْ طِينُهُ، مِسْكٌ أذْفَرُ» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلا يَظْمَأُ أبداً» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ، كُلٌّ مِنْ أنْهَارِ الْجَنَّةِ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (3).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا الله لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَألْتُمُ الله فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (4).
* صفة عيون الجنة:
وعيون الجنة كثيرة.. مملوءة بما لذ وطاب من أنواع الشراب، ويفجرها عباد الله متى شاءوا.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 45].
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6581).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6579) واللفظ له، ومسلم برقم (2292).
(3) أخرجه مسلم برقم (2839).
(4) أخرجه البخاري برقم (7423).
(14/168)
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ) [الإنسان: 5، 6].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المطففين: 27، 28].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ?) ( ? ? ? ?) [الرحمن: 50، 66].
وقال الله تعالى: ( ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 17، 18].
* صفة نساء أهل الجنة:
عرائس الجنة.. وخيراتها الحسان.. كأنهم البدر ليلة التمام.. قاصرات الطرف على أزواجهن.. فلا يطمحن إلى غيرهم؛ لحسنهم عندهن.. وقَصَرْنَ طَرْفَ أزواجهن عليهن.. فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن.
فهن حور حسان قد بلغن الكمال في الحسن والجمال.. فلا يرى فيهن عيب ولا نقصان وكملت محاسنهن حتى ليحار الطرف فيهن من رقة الجلد.. وصفاء الألوان.. حتى ليرى مخ سوقهن من وراء ثيابهن.. ويرى الناظر وجهه في خد إحداهن كما ترى الصورة في المرآة: ( ? ? ? ?) [الرحمن: 58].
ولا تسل عن جمال العيون.. ففيها كل السحر والفتون.. قد زانها الحور.. شدة بياض في شدة سواد: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصافات: 48، 49].
وهن حمر الخدود.. فخدودهن أصفى من لون الورد.. وثغورهن كأنها اللؤلؤ المنضود.. وأجسامهن تكاد تتفجر شباباً وصحة وامتلاء.. فهي بيضاء باكرها النعيم.. وجرى ماؤه في غصنها الناعم الرخيم.
وقدها كالغصن الرطيب في حسن القوام.. ونساء الجنة كلهن كواعب ونواهد.. ثدياها قد بعدا عن بطنها فليسا بلاصقين فيه.
وأما أعناقهن فذات طول وجمال.. في بياض واعتدال.. فهن مثل كؤوس الفضة.. وكفاهما ألين من الزبد مجسّاً.. وأنعم من الحرير ملمساً.
وأما ريحها فنوافح المسك.. يفوح أريجه من فمها وثيابها، حتى يتضوع به المكان من حولها طيباً ومسكاً.
وأما جسمها فأشد نعومة من الحرير.
وأما اللون ففي صفاء الياقوت في بياض المرجان: ( ? ? ??) [الرحمن: 58].
(14/169)
وأما كلامها فيسلب اللب بحسن أنغامه.. وجمال تطريبه الذي يفوق كل لحن.. وكل صوت.. قد كمل حسنها وجمالها.. فهي أحسن شيء صورة.. وكملت خلائقها فلا يصدر عنها إلا كل جميل من عفة وشرف.. وطاعة للزوج.. وتحبب إليه.. وقَصْرٍ للطرف عليه.. ومناجاته بأحب الكلام إليه.. الشمس تجري في محاسن وجهها.. والليل تحت ذوائب شعرها الأسود الجميل.. قد جمعت ملاحة الصورة.. وطيب الرائحة.. وحسن المودة.. وحسن التبعل والتغنج.
ونساء الجنة أعراب.. أسنانهن متماثلة.. بنات ثلاث وثلاثين سنة.. وهي سن الشباب والنضارة: ( ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [الواقعة: 35-38].
ونساء الجنة كلهن أبكار.. وكل منهن لا يفتض بكارتها إلا محبوبها الذي اختصه الله بها كما قال سبحانه: ( ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [الرحمن: 56].
ويعطى الرجل من أهل الجنة قوة مئة رجل من أقوى أهل الدنيا في الجماع.. وكلما جامعها عادت بكراً ولذة أحسن من ذي قبل.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل يا رسول الله: هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَصِلُ في اليَوْمِ إلى مائة عَذْراءَ» أخرجه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في صفة الجنة صلى الله عليه وسلم (1).
وأهل الجنة متفاوتون في عدد نسائهم بتفاوت درجاتهم.. ولكل واحد منهم زوجتان من الحور العين.
__________
(1) صحيح: أخرجه الطبراني في الأوسط برقم (5263)، وأبو نعيم في صفة الجنة برقم (373).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (367).
(14/170)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى أضْوَإِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، وَمَا فِي الْجَنَّةِ أعْزَبُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
ونساء أهل الجنة مطهرات من الحيض والنفاس.. والبول والغائط.. والقذر والأذى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 15].
ونساء أهل الجنة في غاية الحسن والجمال، فهن خَيِّرات الصفات، والأخلاق والشيم، حسان الوجوه والعيون كما قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 22-24].
وقال الله تعالى: ( ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرحمن: 56-58].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الرحمن: 70-72].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «.. وَلَوْ أنَّ امْرَأةً مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أهْلِ الأرْض لأضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (2).
* صفة عطور وروائح الجنة:
وذلك يختلف باختلاف الأشخاص وتفاوت درجاتهم ومنازلهم.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3246)، ومسلم برقم (2834) واللفظ له.
(2) أخرجه البخاري برقم (2796).
(14/171)
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ، وَلا يَتْفِلُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ، أمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأُلُوَّةُ -الألنْجُوجُ، عُودُ الطِّيبِ- وَأزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ عَامًا» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (2).
وفي لفظ: «وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» أخرجه الترمذي وابن ماجه صلى الله عليه وسلم (3).
* صفة غناء أزواج أهل الجنة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ أزواجَ أهلِ الجنَّةِ لَيغنِّين أَزواجَهنَّ بِأَحسنِِِ أَصْواتٍ سَمِعَها أحَدٌ قَطّ، إنّ ممّا يُغنِّينَ بِهِ:
نحنُ خيرُ الحِسَانِ.. أَزواجُ قَومٍ كِرامٍ.. يَنظرنَ بقرَّةِ أَعيَان.
وإنَّ ممَّا يُغنِّينَ بِهِ:
نَحنُ الخَالِداتُ فَلا يمتنَه.. نَحنُ الآمِناتُ فَلا يَخَفنَه.. نحْْنُ المُقيمَاتُ فَلا يَظعنَّه. أخرجه الطبراني في الأوسط صلى الله عليه وسلم (4).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3327) واللفظ له، ومسلم برقم (2843).
(2) أخرجه البخاري برقم (3166).
(3) صحيح: أخرجه الترمذي يرقم (1403)، صحيح سنن الترمذي رقم (1132).
وأخرجه ابن ماجه برقم (2687)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (2176).
(4) صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4917)، انظر صحيح الجامع رقم (1561).
(14/172)
* صفة جماع أهل الجنة:
وجماع النساء في الجنة منزه عن المذي والمني والضعف.. وفيه أكمل لذة.. يعطى الرجل قوة مائة رجل في الجماع.. ويفضي إلى مائة عذراء.. وجماع النساء في الجنة لا يوجب غسلاً.. ولا يعقبه كسلاً.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 55، 56].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَ الرَّجلَ مِن أَهْلِِ الجَّنةِ لَيُعْطَى قُوَّةَ مائةِ رَجُلٍ في الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالشَّهوةِ وَالجِمَاعِ» أخرجه الطبراني والدارمي صلى الله عليه وسلم (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الرَّجلَ ليَصِل في اليومِ إلى مائةِ عَذْراء» أخرجه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في صفة الجنة صلى الله عليه وسلم (2).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً، مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلاً، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ، فَلا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (3).
صفة الحمل والولادة في الجنة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِذَا اشْتَهَى الْمُؤْمِنُ الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ، كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا يَشْتَهِي» أخرجه أحمد والترمذي صلى الله عليه وسلم (4).
طول أهل الجنة:
__________
(1) صحيح: أخرجه الطبراني في الكبير (5: 178)، وهذا لفظه.
وأخرجه الدارمي برقم (2721)، وانظر صحيح الجامع رقم (1627).
(2) صحيح: أخرجه الطبراني في الأوسط برقم (5263)، وأخرجه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (373)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (367).
(3) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (4879)، ومسلم برقم (2838) واللفظ له.
(4) صحيح: أخرجه أحمد برقم (11079).
وأخرجه الترمذي برقم (2563)، صحيح سنن الترمذي رقم (2077).
(14/173)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قال: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْمَلائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُّحَيُّونَكَ، تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقال: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقالوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ ا?، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ ا?، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
* دوام نعيم أهل الجنة:
إذا دخل أهل الجنة الجنة تلقتهم الملائكة.. وبشرتهم بما في الجنة من النعيم المقيم بشرى لم يسمعوا بمثلها قط.. فلهم في الجنة نعيم بلا بؤس.. وصحة بلا سقم.. وأمن بلا خوف.. وحياة بلا موت.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [الرعد: 35].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يُنَادِي مُنَادٍ، إِنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا فَلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فَلا تَمُوتُوا أبَدًا» وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فَلا تَهْرَمُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فَلا تَبْأسُوا أبَدًا». فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 43]» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (2).
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قيل يا رسول الله: هَلْ يَنَامُ أهْلُ الجَنَّةِ؟، قَال: «لا، النَّومُ أَخُو المَوْتِ» أخرجه البزار صلى الله عليه وسلم (3).
* رفع ذرية المؤمن في درجته:
يرفع الله ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل.. لتكمل سعادته بهم.. ويزداد سروره بقربهم.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3326) واللفظ له، ومسلم برقم (2841).
(2) أخرجه مسلم برقم (2837).
(3) صحيح: أخرجه البزار برقم (3517) -كشف الأستار- انظرالسلسلة الصحيحة رقم (1087).
(14/174)
قال الله تعالى: ( ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [الطور: 21].
* صفة سوق الجنة:
وفي الجنة سوق لا بيع فيه ولا شراء.. يأخذ منه المرء ما شاء بلا عوض ولا ثمن.. نصبته الملائكة لأولياء الله وحزبه.. فيه من التحف والهدايا.. وما تحبه النفوس مما لا عين رأت.. ولا أذن سمعت.. ولا خطر على قلب بشر.
وهو سوق تعارف بين أهل الجنة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا، يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أهْلِيهِمْ وَقَدِ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالاً، فَيَقُولُ لَهُمْ أهْلُوهُمْ: وَا?! لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً، فَيَقُولُونَ: وَأنْتُمْ، وَا?! لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
* صفة ملك وقصور الجنة:
الله تبارك وتعالى يكرم أولياءه في الجنة بملك كبير من الجنان والقصور والخدم.. تعظمهم الخدم.. ولا تدخل الملائكة عليهم إلا بإذن.. وكل أهل الجنة ملوك.. لأنهم كانوا في الدنيا عبيداً للملك.. فلما قدموا عليه مَلَّكهم وخلدهم.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 20، 22].
وقال الله تعالى: ( ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 72].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 20].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2833).
(14/175)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الأفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ)». قَالُوا: يَا رَسُولَ ا?! تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ، لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! رِجَالٌ آمَنُوا بِا? وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
فالواحد من أهل الجنة عنده من القصور والمساكن والغرف المزخرفة ما لا يدركه الوصف.. ولديه من البساتين الزاهرة.. والفواكه اللذيذة.. والثمار الدانية.. والأطعمة الفاخرة.. والرياض المعجبة.. والطيور المطربة.. والأنهار الجارية ما يأخذ القلوب ويفرح النفوس.
وعنده من الزوجات الجامعات لحسن الظاهر والباطن.. والحور العين.. والخيرات الحسان.. ما يملأ القلب سروراً ولذة وحبوراً.
وحوله من الخدم المؤبدين.. والولدان المخلدين.. ما به تحصل الراحة والطمأنينة.. وتتم لذة العيش.. وتكمل الغبطة.
وعلاوة على ذلك كله الفوز برؤية الرب الرحيم.. وسماع كلامه.. ولذة قربه.. والابتهاج برضاه.
فسبحان الملك الحق المبين.. الذي لا تنفد خزائنه.. ولا يقل خيره.. فكما لا نهاية لأوصافه.. فلا نهاية لبره وإحسانه وإكرامه.
* صفة ظلال الجنة:
ظلال الجنة ظليلة ممدودة.. لكنها لا تحمي من حر ولا شمس.. إذ لا حر ولا شمس هناك كما قال سبحانه: ( ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 13، 14].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 57].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [الرعد: 35].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ) [الواقعة: 27-30].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3256)، ومسلم برقم (2831) واللفظ له.
(14/176)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، لا يَقْطَعُهَا، وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: ( ک ک گ) [الواقعة:30]» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
* أعظم نعيم الجنة:
النعيم في الجنة قسمان:
نعيم برؤية الخالق عزَّ وجلَّ.. وسماع كلامه.. وحلول رضوانه.. وهذا أعلى النعيمين.. وهو نعيم القلوب والأرواح.
والآخَرُ نعيم بالاستمتاع بما في الجنة من اللذات والشهوات، مما لا عين رأت.. ولا أذن سمعت.. ولا خطر على قلب بشر.. وهو نعيم الأبدان.
فسبحان من تفضل على عباده بهذا وهذا.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ?) [ق: 35].
وقال الله تعالى: ( پ ? ? ? ? ? ? ?) [القيامة: 22، 23].
وقال الله تعالى: ( ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?) [المطففين: 22، 23].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «أنَّ نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ ا? (: يَا رَسُولَ ا?! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ رَسُولُ ا? (: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟». قَالُوا: لا يَا رَسُولَ ا?!.
قال: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟» قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ ا?!، قال: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4881) واللفظ له، ومسلم برقم (2826).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (806)، ومسلم برقم (182) واللفظ له.
(14/177)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِذَا دَخَلَ أهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قال يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ ألَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قال: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ، يَا أهْلَ الْجَنَّةِ! فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ، رَبَّنَا! وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى؟ يَا رَبِّ! وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: ألا أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ! وَأيُّ شَيْءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَدًا» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
* صفة نعيم الجنة:
في الجنة من النعيم واللذات والشهوات، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت.. ولا خطر على قلب بشر.
قال الله تعالى: ( ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 69-73].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الدخان: 51-56].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 12-22].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (181).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6549)، ومسلم برقم (2829) واللفظ له.
(14/178)
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ ? ? ? ? ?) [الواقعة: 10-26].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 27-40].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، أعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأتْ، وَلا أذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر».
مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ ا?: ( ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [السجدة:17]. متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
* ذكر وكلام وتحية أهل الجنة:
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 74].
وقال الله تعالى: ( ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [يونس: 10].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [الواقعة: 25، 26].
* سلام الرب على أهل الجنة:
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ پ پ ?) [الأحزاب: 44].
وقال الله تعالى: ( ٹ ٹ ? ? ? ?) [يس: 58].
* أهل الجنة:
الجنة دار كل مؤمن ومؤمنة.
قال الله تعالى: ( ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 82].
وقال الله تعالى: ( ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [النساء: 69].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (2).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3244)، ومسلم برقم (2824) واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم برقم (2865).
(14/179)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا أخْبِرُكُمْ بِأهْلِ الْجَنَّةِ» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (: «كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أقْسَمَ عَلَى ا? لأبَرَّهُ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
فكل من آمن بقلبه.. وعمل الصالحات بجوارحه.. فهو من أهل الجنة.
ووصف الله أعمال الخير بالصالحات.. لأن بها تصلح أحوال العبد.. وأمور دينه ودنياه.. وحياته الدينية والأخروية.. ويزول بها عنه فساد الأحوال.. فيكون بذلك من الصالحين الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.
* أكثر أهل الجنة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا النِّسَاءَ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
* آخر من يدخل الجنة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ آخِرَ أهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنَ النَّارِ، رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْواً، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ: الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَارٍ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (3).
* دخول الجنة:
المؤمنون يدخلون الجنة برحمة الله، وليس عمل العبد مستقلاً بدخولها بل هو سبب.. فدخول الجنة برحمة الله والنجاة من النار بعفو الله.. واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال الصالحة.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [النساء: 124].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4918)، ومسلم برقم (2853) واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3241) واللفظ له، ومسلم برقم (2737).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7511) واللفظ له، ومسلم برقم (186).
(14/180)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ)» قَالُوا: وَلا أنْتَ؟ يَا رَسُولَ ا?! قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَاعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى ا? أدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
* الأذان الذي يؤذن به مؤذن الجنة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يُنَادِي مُنَادٍ، إِنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا فَلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فَلا تَمُوتُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فَلا تَهْرَمُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فَلا تَبْأسُوا أبَدًا». فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف:43]» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (2).
وقال صلى الله عليه وسلم : «إِذَا دَخَلَ أهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قال يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ ألَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قال: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (3).
* عظمة نعيم الجنة:
في الجنة فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخلد من النعيم.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [السجدة: 17].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 71].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6464)، ومسلم برقم (2818) واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم برقم (2837).
(3) أخرجه مسلم برقم (181).
(14/181)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قُولُ الله تَعَالَى: أعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ: مَا لا عَيْنٌ رَأتْ، وَلااُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ »، فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: ( ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [السجدة:17]» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
* آخر من يدخل الجنة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ آخِرَ أهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنَ النَّارِ، رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْواً، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ: الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَارٍ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (3).
خلود أهل الجنة:
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [البينة: 7، 8].
وقال الله تعالى: ص( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 108].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3244) واللفظ له، ومسلم برقم (2824).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3250) واللفظ له، ومسلم برقم (1881).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7511) واللفظ له، ومسلم برقم (186).
(14/182)
وقال صلى الله عليه وسلم : «إِذَا صَارَ أهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أهْلَ الْجَنَّةِ لا مَوْتَ، وَيَا أهْلَ النَّارِ لا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحاً إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أهْلُ النَّارِ حُزْناً إِلَى حُزْنِهِمْ» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (1).
* جنة الدنيا:
في الدنيا روضتان من رياض الجنة، إحداهما ثابتة، والأخرى متجددة في الزمان والمكان والأشخاص.
قال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [الانفطار: 13، 14].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (2).
وقال صلى الله عليه وسلم : «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا» قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «حِلَقُ الذِّكْرِ» أخرجه أحمد والترمذي صلى الله عليه وسلم (3).
* سيدة الجنان:
الله عزَّ وجلَّ يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من المخلوقات عرشه واستوى عليه، واختار من الملائكة جبريل، واختار من البشر محمداً صلى الله عليه وسلم ، ومن السموات العليا، ومن البلاد مكة، ومن الأشهر المحرم، ومن الأيام يوم الجمعة، ومن الليالي ليلة القدر، ومن الأوقات أوقات الصلاة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6548) واللفظ له، ومسلم برقم (2850).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1196)، ومسلم برقم (1391).
(3) حسن: أخرجه أحمد برقم (12551)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (1391).
وأخرجه الترمذي برقم (3510)، صحيح سنن الترمذي رقم (2787).
(14/183)
كذلك الله سبحانه اختار من الجنان داراً اصطفاها لنفسه، وجعل عرشه سقفها، وغرسها بيده، واختارها لخيرته من خلقه، وهي جنة الفردوس التي خصصها الله بالقرب منه.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 107].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا الله لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَألْتُمُ الله فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري صلى الله عليه وسلم (1).
2- صفة النار
قال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [النساء: 56].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 14].
الله تبارك وتعالى خلق الجنة وجعلها داراً للثواب لمن آمن به وأطاعه.. وخلق النار وجعلها داراً للعقاب لمن كفر به وعصاه.
وجعل سبحانه الخير والنعيم كله بحذافيره في الجنة.. وجعل الشر والعذاب كله بحذافيره في النار.
والنار هي دار العذاب التي أعدها الله للكفار والمنافقين والعصاة في الآخرة.
والنار واحدة في الذات، متعددة في الصفات.
* أشهر أسماء النار:
للنار أسماء كثيرة بحسب ما فيها من ألوان العذاب، وهذه أشهر أسمائها:
النار: كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 14].
جهنم: كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 140].
الجحيم: كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? پ پ پ) [المائدة: 10].
السعير: كما قال سبحانه: ( ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?) [الأحزاب: 64].
الهاوية: كما قال سبحانه: ( چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [القارعة: 8-11].
سقر: كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القمر: 48].
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (7423).
(14/184)
الحطمة: كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [الهمزة: 4-6].
لظى: كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المعارج: 15-17].
دار البوار: كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [إبراهيم: 28-29].
* مكان النار:
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? پ پ) [المطففين: 7].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [التين: 4-6].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «.. وأمَّا الكَافرُ فَإذَا قُبضتْ نَفسُهُ، وذَُهِبً بهَا إلى بَابِ الأَرْضِ، يَقولُ خَزنَةُ الأَرْضِ: مَا وَجَدْنا رِِيحاً أنتنَ منْ هذهِ، فتبلغُ بهَا إلى الأَرضِ السُّفلَى» أخرجه الحاكم وابن حبان صلى الله عليه وسلم (1).
فالجنة تحت العرش.. فوق السماء السابعة.. والنار تحت الأرض السابعة.. قد جمعت بين الضيق والسفول.
* عدد أبواب النار:
أبواب النار سبعة.. وكل باب أسفل من الآخر.. ولكل باب من أبواب النار جزء مقسوم من أهلها بحسب أعمالهم.
قال الله تعالى: ( ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [الحجر: 43، 44].
وأبواب النار مغلقة على أهلها:
فمع الحرارة البليغة في النار.. أهلها محبوسون فيها.. قد يئسوا من الخروج منها.
قال الله تعالى: ( ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [الهمزة: 5-9].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 20].
* مجيء النار في عرصات القيامة:
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفجر: 21-23].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ ألْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (2).
* قعر النار:
__________
(1) صحيح: أخرجه الحاكم برقم (1304).
وأخرجه ابن حبان برقم (3013)، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح.
(2) أخرجه مسلم برقم (2842).
(14/185)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ ا? صلى الله عليه وسلم ، إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «تَدْرُونَ مَا هَذَا؟». قَالَ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: « صلى الله عليه وسلم هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الآنَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حُجْزَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى عُنُقِهِ» أخرجه مسلم صلى الله عليه وسلم (2).
* وقود النار:
وقود النار يوم القيامة الناس والحجارة العظيمة.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التحريم: 6].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [الأنبياء: 98].
* قوة حرارة النار:
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 97].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «نَارُكُمْ هَذِهِ، الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ، جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ». قَالُوا: وَا?! إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، يَا رَسُولَ ا?! قَالَ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا» متفق عليه صلى الله عليه وسلم (3).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2844).
(2) أخرجه مسلم برقم (2845).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3265)، ومسلم برقم (2843) واللفظ له.
(14/186)