والقبض أقسام:
قبض تأديب.. وقبض تهذيب.. وقبض جمع.. وقبض تفريق.
وهذا كله يمنع صاحبه من الأكل، والشرب، والكلام، والانبساط إلى الأهل وغيرهم.
فقبض التأديب: يكون عقوبة على غفلة، أو خاطر سوء، أو فكرة رديئة.
وقبض التهذيب: يكون إعداداً لبسط عظيم شأنه يأتي بعده، فيكون القبض قبله كالتنبيه عليه، والمقدمة له، كما كان الغت والغط مقدمة بين يدي الوحي، وإعداد لوروده.
وهكذا الشدة مقدمة بين يدي الفرج، والبلاء مقدمة بين يدي العافية، والخوف الشديد مقدمة بين يدي الأمن.
وقد جرت سنة الله عزَّ وجلَّ أن هذه الأمور النافعة المحبوبة إنما يدخل إليها من أبواب أضدادها.
وأما قبض الجمع: فهو ما يحصل لقلب العبد حال جمعيته على الله من انقباضه عن العالم وما فيه، فلا يبقى فيه فضل ولا سعة لغير من اجتمع قلبه عليه.
وأما قبض التفرقة: فهو القبض الذي يحصل للعبد من تفرق قلبه عن الله، وتشتته عنه في الشعاب والأودية.
فأقل عقوبته ما يجده من القبض الذي يتمنى معه الموت.
وأما القبض في الحقائق:
فهو يتضمن قبض القلب عن غير الله إليه، وجمعيته بعد التفرقة عليه.
فالرب سبحانه حال بين خواص عباده وبين التعلق بالخلق، وصرف قلوبهم وهممهم وعزائمهم إليه، وهم الذي ادخرهم الحق اصطناعاً لنفسه جلَّ جلاله.
وهؤلاء على ثلاثة أقسام:
الأولى: فرقة قبضهم إليه قبض التوفي، فضن بهم عن أعين الناس، فسترهم عن العالمين وقاية لهم، وصيانة عن ملابستهم، فغيبهم عن أعين الناس فلم يطلعهم عليهم.
وهؤلاء هم أهل الانقطاع والعزلة عن الناس وقت فساد الزمان، وهذه الحال تحمد في بعض الأماكن والأزمات دون بعضها، وإلا فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من هؤلاء، فالعزلة تحمد في وقت، وتذم في وقت.(8/258)
الثانية: فرقة قبضهم بسترهم في لباس التلبيس، فهم مع الناس مخالطون لهم، والناس يرون ظواهرهم، وقد ستر الله حقائقهم وأحوالهم عن رؤية الخلق لها، فحالهم ملتبس على الناس لا يعرفونه.
إذا رأوا منهم ما يرون من أبناء الدنيا من الأكل والشرب، واللباس والمراكب، والنكاح وطلاقة الوجه قالوا هؤلاء من أبناء الدنيا.
وإذا رأوا منهم الجد والصبر والصدق، وحلاوة الإيمان، وحسن المعرفة بالله، وكثرة ذكره قالوا هؤلاء من أبناء الآخرة، فأخفاهم عن عيون العالم بذلك.
فهؤلاء يكونون مع الناس، والمحجوبون لا يعرفونهم، ولا يرفعون بهم رؤوساً، وهم من سادات أولياء الله، صانهم الله عن معرفة الناس كرامة لهم، لئلا يفتنوا بهم، وإهانة للجهال بهم فلا ينتفعون بهم.
فهذه الفرقة بينها وبين الأولى من الفضل ما لا يعلمه إلا الله، فهم بين الناس بأبدانهم وبين الرفيق الأعلى بقلوبهم، فإذا فارقوا هذا العالم انتقلت أرواحهم إلى تلك الحضرة.
فإن روح كل عبد تنتقل بعد مفارقة البدن إلى حضرة من كان يألفهم ويحبهم كما قال صلى الله عليه وسلم : «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ» متفق عليه (1).
الثالثة: فرقة قبضهم منهم إليه، وهذه الفرقة أعلى من الفرقتين قبلها، فالله عزَّ وجلّ قد ستر هؤلاء عن نفوسهم لكمال ما أطلعهم عليه، وشغلهم به عنهم، فهم في أعلى الأحوال والمقامات، وقلوبهم معه سبحانه لا مع سواه، قلوبهم عامرة بالأسرار والتعظيم، والذل والمحبة لمولاهم، وأرواحهم تحن إليه حنين الطيور إلى أوكارها، قد سترهم وليهم عنهم، وأخذهم إليه منهم.
والناس قسمان:
منهم من يجمع بين الإساءة والأمن.. ومنهم من يجمع بين الإحسان والخوف.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6168)، واللفظ له، ومسلم برقم (2640).(8/259)
وهذا القسم وجلون خائفون مشفقة قلوبهم، كل ذلك من خشية ربهم: خوفاً أن يضع عليهم عدله فلا تبقى لهم حسنة.. وسوء ظن بأنفسهم أن لا يكونوا قد قاموا بحق الله تعالى.. وخوفاً على إيمانهم من الزوال.. ومعرفة بربهم وما يستحقه من الإجلال والإكرام.
فهؤلاء يفعلون ما أمروا به بكل ما يقدرون عليه من صلاة وزكاة وصيام وحج وغير ذلك من أعمال البر، ومع هذا قلوبهم وجلة خائفة عند عرض أعمالها على الله سبحانه، والوقوف بين يديه أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ?? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 59-61].
35- فقه البسط
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الزمر: 22].
البسط: إرسال ظواهر العبد وأعماله على مقتضى العلم، ويكون باطنه مغموراً بالمراقبة والمحبة والأنس بالله، فيكون جماله في ظاهره وباطنه.
فظاهره قد اكتسى الجمال بموجب العلم، وباطنه قد اكتسى الجمال بالمحبة والرجاء، والخوف والمراقبة والأنس.
وقد جمع الله عزَّ وجلَّ بين جمال الظاهر والباطن في غير موضع كقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأعراف: 26].
والله تبارك وتعالى هو الذي يحيي قلوب أوليائه وأرواحهم بإكرامه، ولطفه وبسطه، وهؤلاء بسطهم الحق سبحانه على لسان رسوله، وبسطهم هو ما كان عليه أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام مع القريب والبعيد من سعة الصدر، ودوام البشر، وحسن الخلق، والسلام على من لقيه، والمزاح بالحق مع الصغير والكبير أحياناً، ولين الجانب.
وأهل البسط ثلاث طوائف:
فطائفة بسطت رحمة للخلق، جعل الله انبساطهم مع الخلق رحمة لهم كما قال سبحانه: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [آل عمران: 159].(8/260)
فالله عزَّ وجلَّ بسط هؤلاء مع خلقه ليقتدي بهم السالك، ويهتدي بهم الحيران، ويشفى بهم العليل، ويستضاء بنور هدايتهم ونصحهم، يقتدي بهم إذا سكتوا، وينتفع بهم إذا نطقوا.
فحركاتهم وسكناتهم، ونطقهم وسكوتهم لما كان بالله ولله وعلى أمر الله.. جذبت قلوب الصادقين إليهم، وهذا النور الذي أضاء على الناس منهم هو نور العلم والمعرفة.
والعلماء ثلاثة:
عالم استنار بنور العلم، واستنار به الناس، فهذا من خلفاء الرسل، وورثة الأنبياء.
وعالم استنار بنوره، ولم يستنر به غيره، فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصراً على نفسه، فبينه وبين الأول ما بينهما.
وعالم لم يستنر بنوره، ولا استنار به غيره، فهذا علمه وبال عليه، وبسطته للناس فتنة لهم، وبسطة الأول رحمة لهم.
وطائفة بسطت لقوة معاينتهم، وثبات مناظر قلوبهم، ورؤية ربهم في جميع أوقاتهم وأحوالهم.
وطائفة بسطت أعلاماً على الطريق، وأئمة للهدى، ومصابيح للسالكين، فهذه الفرقة أعلى مما قبلها؛ لأنها اتصفت بما اتصفت به الأولى من الأعمال، واتصفت بما اتصفت به الثانية من الأحوال.
وزادت عليهما بالنفع للسالكين، والهداية للحائرين، والإرشاد للطالبين، فاهتدى بهم الحائر، واستقام بهم المعوج، وأقبل بهم المعرض، وكمل بهم الناقص.
وهؤلاء هم خلفاء الرسل، وهم أولو البصر واليقين، فجمعوا بين البصيرة والبصر كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 24].
فلا يستوي من شرح الله صدره للإسلام فاتسع لتلقي أحكام الله، والعمل بها، قرير العين، مسرور القلب، ومن قلبه قاسٍ حجري لا يلين لكتابه، ولا يتذكر بآياته، ولا يطمئن بذكره: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الزمر: 22].
فما أعظم من شرح الله صدره للإسلام، وما أعظم ضلال من أعرض عن ربه ومولاه، ومَنْ كل السعادة في طاعته والإقبال عليه.
36- فقه الحزن
قال الله تعالى: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ??) [آل عمران: 139].(8/261)
وقال الله تعالى: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [فاطر: 34].
الحزن: هو الانخلاع عن السرور، وملازمة الكآبة، لتأسف على فائت، أو توجع لممتنع.
فالحزن هو بلية من البلايا التي نسأل الله كشفها ودفعها، وهو من عوارض الطريق، وليس من مقامات الإيمان، ولا من منازل السائرين إلى الله، ولهذا لم يأمر الله به في موضع قط، ولا أثنى عليه، ولا رتب عليه جزاءً ولا ثواباً، بل نهى عنه في غير موضع كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 127].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» أخرجه البخاري (1).
فالهم والحزن قرينان، وهو الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يستقبل فهو الهم.
فالحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المجادلة: 10].
فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التي يبتلى بها العبد بغير اختياره كالألم والمرض ونحوها.
وأما أن يكون الحزن عبادة مأمور بها فلا، ولكن يحمد في الحزن سببه، ومصدره، ولازمه، لا ذاته.
فإن المؤمن إما أن يحزن على تفريطه وتقصيره في طاعة ربه وعبادته، وإما أن يحزن على تورطه في مخالفته ومعصيته، وضياع أيامه وأوقاته.
وهذا يدل على صحة الإيمان في قلبه، وعلى حياته، حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه.
ولو كان قلبه ميتاً لم يحس بذلك، ولم يحزن، ولم يتألم، فما لجرح بميت إيلام، ولكن الحزن لا يجدي عليه فإنه يضعفه.
بل الذي ينفعه أن يستقبل السير، ويجد ويشمر، ويبذل جهده.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2893).(8/262)
وأخص من هذا الحزن حزن العبد على جزء من أجزاء قلبه، كيف هو خال عن محبة الله؟ وحزنه على جزء من أجزاء بدنه كيف هو منصرف في غير محاب الله؟
ويدخل في هذا الحزن كل معارض يشغل العبد عن ربه من خاطر، أو إرادة، أو شاغل من خارج.
فهذه المراتب من الحزن لا بدَّ منها في الطريق، ولكن الكيس لا يدعها تملكه وتقعده، بل يجعل عوض فكرته فيها فكره فيما يدفعها به.
فإن المكروه إذا ورد على النفس، فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه، وفي حصوله عن الفكرة في الأسباب التي يدفعها به، فأوردتها الحزن.
وإن كانت نفساً شريفة كبيرة لم تفكر فيه، بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها، فإن كان منه مخرج منه فكرت في عبودية الله فيه، وإن كان ذلك عوضاً لها من الحزن فلا فائدة في الحزن أصلاً.
ومن عرف الله أحبه ولا بدّ، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب.
فإنه لا حزن مع الله أبداً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر - رضي الله عنه - في الغار وحكاه الله في القرآن: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 40].
فدل هذا على أنه لا حزن مع الله، وإنما الحزن لمن فاته الله، فمن حصل له الله فعلى أي شيء يحزن؟ومن فاته الله فبأي شيء يفرح؟
(ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 58].
فمعرفة الله تعالى جلا نورها كل ظلمة، وكشف سرورها كل غمة، وزال بها كل حزن، وحصل بها كل فلاح وسعادة، فبذلك فليفرحوا.
وإنما أمر الله بالفرح بفضله ورحمته؛ لأن ذلك يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى وقوتها، وهذا فرح محمود.
أما الفرح بلذات الدنيا وشهواتها، أو الفرح بالباطل فإن هذا مذموم كما قال سبحانه عن قوم قارون أنهم قالوا له: (? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 76].(8/263)
وكما قال سبحانه في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل المناقض لما جاءت به الرسل: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [غافر: 83].
فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين لا نسبة بينها وبين جميع ما في الدنيا مما هو مضمحل زائل عن قريب.
37- فقه الإشفاق
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ?? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 57-61].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطور: 26-28].
الإشفاق: رقة الخوف، بصرف الهمة إلى إزالة المكروه عن الناس.
وهو خوف برحمة من الخائف لمن يخاف عليه بدوام الحذر، مقروناً بالترحم.
والإشفاق على ثلاث درجات:
الأولى: إشفاق على النفس أن تجمح إلى العناد، وتذهب إلى طريق الهوى والعصيان.
وإشفاق على العمل أن يصير إلى الضياع، فيخاف على عمله أن يكون لغير الله، وعلى غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويخاف أن يضيع في المستقبل إما بتركه، وإما بمعاص تفرقه وتحبطه.
وإشفاق على الناس من جهة مخالفة الأمر والنهي، مع نوع رحمة بملاحظة جريان القدر عليهم.
الثانية: إشفاق على الوقت أن يخالطه ما يفرقه عن الحضور مع الله عزَّ وجلَّ، وعلى القلب أن يزاحمه عارض إما فترة، وإما شبهة، وإما شهوة، وكل ما يعوقه عن ربه.
وإشفاق على اليقين أن يركن إلى سبب فيتعلق به دون ربه، فيقدح ذلك في يقينه.
الثالثة: إشفاق يصون سعي العبد عن العجب، فالعجب يفسد العمل كما يفسده الرياء.
وإشفاق يكف صاحبه عن مخاصمة الخلق التي تفسد الخُلق.
وإشفاق على إرادته مما يفسدها من الهزل واللعب.
فإذا صح للعبد عمله وخلقه وإرادته استقام سلوكه، وقلبه، وحاله.(8/264)
والمؤمنون مشفقون من خشية الله؛ لعلمهم بعظمته، وعلمه بكل صغيرة وكبيرة، ومشفقون من الساعة؛ لعلمهم بما تشتمل عليه من الجزاء والحساب، وخوفهم أن لا تكون أعمالهم منجية لهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الشورى: 18].
والظالمون لأنفسهم بالكفر والمعاصي خائفين وجلين مشفقين مما كسبوا؛ لعلمهم بعقوبة الله على كل جرم ومعصية: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 22].
38- فقه الخشية
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 28].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الملك: 12].
مقام الخشية لله تبارك وتعالى جامع لمقام المعرفة بالله، والمعرفة بحق عبوديته، فمتى عرف العبد ربه، وعرف حقه، اشتدت خشيته له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 28].
فالعلماء بالله وبأمره هم أهل خشيته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَا?! إِنِّي لأرْجُو أنْ أكُونَ أخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأعْلَمَكُمْ بِمَا أتَّقِي» أخرجه مسلم (1).
والعالم حقاً كل من خشي الله فأطاعه بفعل أوامره وترك نواهيه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 9].
ومن علامات معرفة الله الهيبة، فكلما ازداد العبد معرفة بربه ازدادت هيبته له، وخشيته إياه.
ومن عرف الله صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شي، وذهب عنه خوف كل مخلوق، وأنس بالله، واستوحش من غيره، وأورثته تلك المعرفة الحياء من الله، والتعظيم له، والإجلال والمراقبة، والمحبة والتوكل عليه، والإنابة إليه، والرضا به، والتسليم لأمره.
والله تبارك وتعالى لا يخشاه إلا العلماء، ولا يكون عالماً إلا من يخشاه، وما من عالم رباني إلا وهو يخشاه.
والعلم والخشية متلازمان، فإذا انتفى العلم انتفت الخشية، وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1110).(8/265)
والمراد بالعلماء الذين يخشون الله: هم الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وله الخلق والأمر، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
إن قلوب المؤمنين واجفة من خشية الله، طامعة راجية في فضل الله، متجهة إلى ربها بالطاعة، هذه الأرواح هي التي تؤمن بالله، وتعرف حقه، وقدره وعظمته: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [السجدة: 15].
هؤلاء إذا ذكروا بآيات الله خروا سجداً؛ تأثراً بما ذكروا به، وتعظيماً لله الذي ذكروا بآياته، وشعوراً بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل، تعبيراً عن الإحساس الذي لا يعبر عنه إلا تمريغ الجباه بالتراب، وسبحوا بحمد ربهم مع حركة الجسد بالسجود، وهم لا يستكبرون، فهي استجابة الطائع الخاشع المنيب الشاعر بجلال الله الكبير المتعال.
وهؤلاء: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [السجدة: 16].
فالمضاجع تدعوهم إلى الرقاد والراحة ولذة النوم، ولكن هذه الجنوب لا تستجيب؛ لأن لها شغلاً عن المضاجع اللينة، والرقاد اللذيذ، شغلاً بربها، شغلاً بالوقوف في حضرته، وبالتوجه إليه في خشية وفي طمع، يتنازعها الخوف والرجاء، الخوف من عذاب الله، والرجاء في رحمته، الخوف من غضبه، والطمع في رضاه، الخوف من خذلانه، والطمع في توفيقه.
وهذه الصورة المشرقة لهؤلاء المؤمنين يرافقها الإكرام الإلهي، والحفاوة الربانية بهذه النفوس العالية: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [السجدة: 17].
إنها حفاوة الله بهؤلاء القوم، وتوليه بذاته إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة مما تقرب به العيون.
هذا المذخور لا يطلع عليه أحد سواه، ويظل عنده مستوراً، حتى يكشف لأصحابه عنه يوم لقائه.(8/266)
والقرآن الكريم أحسن الحديث، والذين يخشون ربهم يتلقون هذا الذكر في وجل وارتعاش، تقشعر منه الجلود، ثم تهدأ النفوس، وتأنس قلوبهم بهذا الذكر كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [الزمر: 23].
وما ترتعش القلوب هكذا إلا حين تحركها إصبع الرحمن إلى الهدى والاستجابة والإشراق، والله يعلم من حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى أو بالضلال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الكهف: 17].
فهو سبحانه يضله بما يعلمه من حقيقته المستقرة على الضلال التي لا تقبل الهدى، ولا تجنح إليه بحال.
وأهل كرامته هم أهل خشيته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [البينة: 8].
وكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخافه ويخشاه: (? ? ? ? ? ?) [فاطر: 28].
فسبحان العزيز الذي بعزته قهر جميع الخلائق، الغفور الذي يغفر ذنوب التائبين، الشكور الذي يقبل القليل، ويجازي بالكثير.
والخشية خوف يشوبه تعظيم، وهي تألم القلب بسبب توقع مكروه في المستقبل، يكون تارة بكثرة الجناية من العبد، وتارة بمعرفة جلال الله وهيبته.
والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله تعالى، فهي خوف مقرون بمعرفة، وخوف مع تعظيم، ولذلك خص بها العلماء، أما الخوف فهو لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والوجل للمقربين.
فكل من كان بالله أعرف كان له أخوف، وله أخشى، ومنه أشفق: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [الأنبياء: 48،49].
39- فقه الغيرة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 33].(8/267)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا أحَدَ أغْيَرُ مِنَ الله، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلا شَيْءَ أحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ الله، وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ» متفق عليه (1).
الغيرة منزلة شريفة جداً، وهي نوعان:
غيرة من الشيء.. وغيرة على الشيء.
والغيرة على الشيء: هي شدة حرصك على المحبوب أن يفوز به غيرك.
والغيرة من الشيء: هي كراهة مزاحمته ومشاركته لك في محبوبك.
والغيرة باعتبار من يغار قسمان:
غيرة الحق تعالى على عبده.. وغيرة العبد لربه لا عليه.
فأما غيرة الرب على عبده فهى أن لا يجعله للخلق عبداً، بل يتخذه لنفسه عبداً، فلا يجعل له فيه شركاء متشاكسين، بل يفرده لنفسه، ويضن به على غيره، وهذا أعلى الغيرتين.
أما غيرة العبد لربه فنوعان:
فالتي من نفسه: أن لا يجعل شيئاً من أعماله وأقواله وأحواله وأوقاته وأنفاسه لغير ربه عزَّ وجلَّ.
والتي من غيره: أن يغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون، ولحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون، وغيرة العبد من نفسه أهم من غيرته من غيره، ولا أحد أغير من الله أبداً.
ولذلك لم يجعل الكفار أهلاً لفهم كلامه، ولا أهلاً لمعرفته، وتوحيده ومحبته، فجعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده حجاباً مستوراً عن العيون، غيرة عليه أن يناله من ليس أهلاً له كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 45].
والغيرة: هي عجز الغيور عن احتمال ما يشغله عن محبوبه، ويحجبه عنه ضناَ به أن يعتاض عنه بغيره، وأن يضيق ذرعه بالصبر عن محبوبه.
وهذا هو الصبر الذي لا يذم من أنواع الصبر سواه، والحامل له على هذا الضيق مغالاته بمحبوبه.
والغيرة على ثلاث درجات:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4634) واللفظ له، ومسلم برقم (2760).(8/268)
الأولى: غيرة العبد على ما ضاع عليه من عمل صالح، فهو يسترد ضياعه بأمثاله، ويجبر ما فاته من الأوراد والنوافل وسائر القرب بفعل أمثالها من جنسها وغير جنسها، فيقضي ما ينفع فيه القضاء، ويعوض ما يلزم فيه العوض، ويجبر ما يمكن جبره.
ويستدرك ما فاته من أداء الحقوق والواجبات، ويتدارك قواه ببذلها في الطاعة قبل أن تتبدل بالضعف، فهو يغار عليها أن تذهب في غير طاعة الله.
ويتدارك قوى العمل الذي لحقه الفتور عنه غيرة له وعليه.
الثانية: غيرة العبد على فوات الأوقات، فالوقت أعز شيء عليه، يغار عليه أن ينقضي بدون عمل صالح، فإذا فاته الوقت لا يمكن استدراكه البتة؛ لأن الوقت الثاني قد استحق واجبه الخاص، فإذا فاته وقت فلا سبيل له إلى تداركه، وهي غيرة قاتلة؛ لأن حسرة الفوت قاتلة، والاشتغال بالنوم على الوقت الفائت تضييع للوقت الحاضر، والوقت منقضٍ بذاته، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدت حسراته.
الثالثة: غيرة العبد على بصيرة غطاها ستر أو حجاب عن ربه، أو يتعلق برجاء من ثواب منفصل، ولم يتعلق بإرادة الله ومحبته، أو يلتفت إلى عطاء من دون الله فيرضى به، ولا ينبغي أن يتعلق إلا بالله، ولا يلتفت إلا إلى المعطي الغني الحميد، وهو الله وحده.
والغيرة غريزة تشترك فيها الرجال والنساء، بل قد تكون من النساء أشد.
وغيرة الله عزَّ وجلّ تكون من إتيان محارمه، فالمسلم الذي يطيع هواه وينقاد للشيطان ويقع في محارم الله فكأنه جعل لغيرة الله فيه شريكاً.
ولما كانت الطاعة خاصة بالله عزَّ وجلَّ، ويأبى أن يشاركه فيها غيره، كان ذلك مبعثاً لأن يستثير العاصي غضب مولاه، وغيرته عليه، وما ذلك إلا لأن ربه سبحانه لا يرضى لعبده المعصية كما لا يرضى لهم الكفر.
ومن ثم تكون الغيرة من جانب الله غيرة حقيقية على ما يليق بجلاله وكماله، ومن لوازمها كراهة وقوع العبد في المعاصي، وإشراكه غير الله في الطاعة.(8/269)
قال سعد بن عبادة - رضي الله عنه -: لَوْ رَأيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، والله لأنَا أغْيَرُ مِنْهُ، والله أغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أجْلِ غَيْرَةِ الله حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلا أحَدَ أحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ الله، وَمِنْ أجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ، وَلا أحَدَ أحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ الله، وَمِنْ أجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الله الْجَنَّةَ» متفق عليه (1).
40- فقه الثقة بالله
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 7].
وقال الله تعالى: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ??) [هود: 123].
الثقة بالله: خلاصة التوكل ولبه، كما أن سواد العين أشرف ما في العين، فالثقة كالروح، والتوكل كالبدن الحامل لها، ونسبتها إلى التوكل كنسبة الإحسان إلى الإيمان.
والثقة بالله على ثلاث درجات:
الأولى: أن يعلم الواثق بالله أن الله تعالى إذا حكم بحكم وقضى أمراً فلا مرد لقضائه، ولا معقب لحكمه.
فمن حكم الله به بحكم، وقسم له بنصيب من الرزق، أو الطاعة، أو العلم، أو غيره فلا بدَّ من حصوله له، ومن لم يقسم له ذلك فلا سبيل إليه البتة.
فإذا علم قعد عن منازعة الأقسام.
فما كان له منها فسوف يأتيه على ضعفه، وما لم يكن له منها فلن يناله بقوته، وبذلك يتخلص بالثقة بالله من قحة الإقدام، والجرأة على إقدامه على ما لم يحكم له به، ولا قسم له.
الثانية: درجة الأمن، وهو أمن العبد من فوت المقدور، فمن حصل له الإياس من منازعة الأقسام حصل له الأمن.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7416) واللفظ له، ومسلم برقم (1499).(8/270)
فمن عرف الله وعلم أن ما قضاه الله فلا مرد له البتة أمن من فوت نصيبه الذي قسمه الله له، وأمن من نقصان ما كتبه الله له، فيظفر بروح الرضا؛ لأن صاحب الرضا في راحة، ولذة وسرور.
فإن لم يحصل له هذا المقام ظفر بعين اليقين، وهو قوة الإيمان، فإن لم يحصل له هذا المقام حصل على لطف الصبر، وما فيه من حسن العاقبة.
الثالثة: شهود تفرد الرب تعالى بالبقاء، وتيقنه فراغ الرب عزَّ وجلَّ من المقادير، وسبق القدر بها، وبذلك يتخلص من المحن التي تعرض له، ويتخلص من الالتفات إلى الأسباب بقلبه، ويتخلص كذلك من طلب ما حماه الله تعالى عنه قدراً، فلا يتكلف طلبه وقد حماه الله عنه.
ويتخلص كذلك من تكلف الاحترازات، وشدة احتمائه من المكاره، لعلمه بسبق القدر بما كتب الله له منها، لكن يحتمي مما نهى الله عنه، وما لا ينفعه في طريقه.
وإذا كان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في جانب فاحذر أن تكون في الجانب الآخر، فإن ذلك يفضي إلى المشاقة والمحادة، ولا تستسهل هذا فإن مباديه تجر إلى غايته، وقليله يدعو إلى كثيره، وكن في الجانب الذي فيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الناس كلهم في الجانب الآخر، فإن لذلك عواقب هي أحمد العواقب وأفضلها، وليس للعبد بأنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته.
وأكثر الخلق إنما يكونون في الجانب الآخر، لا سيما إذا ضعف الإيمان، وقويت الرغبة أو الرهبة، فهناك لا تكاد تجد أحداً في الجانب الذي فيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
بل يعده الناس ناقص العقل، سيئ الاختيار لنفسه، وربما نسبوه إلى الجنون.
وذلك من مواريث أعداء الرسل، فإنهم نسبوهم إلى الجنون لما كانوا في شق وجانب، والناس في شق وجانب آخر.(8/271)
ولكن من وطن نفسه على ذلك فإنه يحتاج إلى علم راسخ بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يكون يقيناً له، ولا ريب عنده فيه، وإلى صبر تام على معاداة من عاداه، ولوم من لامه، ولا يتم ذلك إلا برغبة قوية في الله والدار الآخرة، بحيث تكون الآخرة أحب إليه من الدنيا، وآثر عنده منها، ويكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من الدنيا، وآثر عنده منها، ويكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما.
وهذا كله صعب في بادئ الأمر، فإن نفسه وهواه وشيطانه ومعاشريه من ذلك الجانب يدعونه إلى العاجل، فإذا خالفهم تصدوا لحربه، فإن صبر وثبت جاءه العون من ربه، وصار ذلك الصعب سهلاً.. وذلك الألم لذة.. فإن الرب شكور.. لا بدَّ أن يذيق عبده ووليه لذة تحيزه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ويريه كرامة ذلك.. فيشتد به سروره وغبطته.
ويبقى من كان محارباً له على ذلك، بين هائب له، ومسالم له، ومساعد وتارك له، ويقوي جنده، ويضعف جند العدو.
ولا يستصعب العبد مخالفة الناس، والتحيز إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولو كان وحده، فإن الله معه وإنما امتحن يقينه وصبره.
وأعظم الأعوان على هذا بعد عون الله التجرد من الطمع والفزع إلى غير الله،
فمتى تجردت منهما هان عليك التحيز إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
ويعين العبد على التجرد من الطمع والفزع التوحيد، والتوكل، والثقة بالله، وعلم العبد بأن الأمر كله لله، وأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، وليس لأحد مع الله شيء، بل الخلق كله والأمر كله بيد الله وحده لا شريك له: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأعراف: 54].
41- فقه التفويض
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [غافر: 44].(8/272)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأيْمَنِ، وَقُلِ: اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أمْرِي إِلَيْكَ، وَألْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأ وَلا مَنْجَى مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ» متفق عليه (1).
التفويض: أن يتبرأ العبد من الحول والقوة، ويفوض الأمر إلى الله.
والتوكل أوسع من التفويض، ولا يستقيم مقام التوكل إلا بالتفويض، فإنه إذا فوض أمره إلى الله اعتمد بقلبه كله عليه بعد تفويضه.
والتفويض على ثلاث درجات:
الأولى: أن يعلم العبد أنه لا يملك قبل عمله استطاعة، فلا يأمن من مكر، ولا ييأس من معونة، ولا يعول على نية.
فاستطاعة العبد بيد الله لا بيده، فهو مالكها دونه، إن لم يعطها له فهو عاجز، فهو لا يتحرك إلا بالله لا بنفسه، فكيف يأمن العبد المكر وهو محرَّك لا محرِّك.
يحركه من حركته بيده، فإن شاء ثبطه وأقعده مع القاعدين كما قال فيمن منعه هذا التوفيق: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 46].
فهذا مكر الله بالعبد، أن يقطع عنه مواد توفيقه، ويخلي بينه وبين نفسه، ولا يبعث دواعيه، ولا يحركه إلى مراضيه ومحابه.
وليس هذا حقاً على الله فيكون ظالماً بمنعه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل هو مجرد فضله الذي يحمد على بذله لمن بذله، وعلى منعه لمن منعه إياه، فلله الحمد على هذا وعلى هذا.
وإذا كان الله تبارك وتعالى هو الذي تفرد بخلقه ورزقه، وهو أرحم الراحمين فكيف ييأس من معونته له.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6311) واللفظ له، ومسلم برقم (2710).(8/273)
وكذلك لا يعول على نيته وعزمه ويثق بها، فإن نيته وعزمه بيد الله تعالى لا بيده، وهي إلى الله لا إليه، فلتكن ثقته بمن هي في يده حقاً، لا بمن هي جارية عليه حكماً.
الثانية: أن يرى ضرورته وفاقته وحاجته التامة إلى الله، فنجاته إنما هي بالله لا بعلمه ولا بعمله، فلا يرى عملاً منجياً، ولا يرى ذنباً مهلكاً، بل يرى فضل الله، وسعة مغفرته ورحمته.
ومشاهدة شدة ضرورته وفاقته إليه يوجب له أن لا يرى ذنباً مهلكاً، ويمنعه من اقتحام الذنوب المهلكة.
ولا يرى سبباً حاملاً، بل الحامل له هو الحق تعالى لا الأسباب التي يقوم بها، فإنه وإياها محمولان بالله وحده.
الثالثة: شهود تفرد الحق بملك الخلق والأمر، والحركة والسكون، والقبض والبسط، فيشهد حركات العالم وسكونه صادرة عن الحق تعالى في كل متحرك وساكن، فيشهد تعلق الحركة باسمه الباسط، وتعلق السكون باسمه القابض، فيشهد تفرده سبحانه بالبسط والقبض.
(? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 26،27].
42- فقه التسليم
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 65].
وقال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ??) [لقمان: 22].
التسليم لله نوعان:
تسليم لحكم الله الديني الشرعي.. وتسليم لحكم الله الكوني القدري.
فأما الأول: فهو تسليم المؤمنين العارفين.
وأما الثاني: فهو التسليم لحكم الله الكوني، وهي مسألة الرضا بالقضاء والقدر.
والتسليم للقضاء يحمد إذا لم يؤمر العبد بمنازعته ودفعه، ولم يقدر على ذلك كالمصائب التي لا قدرة له على دفعها.
وأما الأحكام والأحوال التي أمره الله بدفعها فلا يجوز له التسليم إليها، بل العبودية مدافعتها بأحكام أخر أحب إلى الله منها، كمدافعة قدر المرض بالعلاج، ومدافعة قدر الجوع بالطعام وهكذا.(8/274)
وليس في التسليم إلا علة واحدة، وهي أن لا يكون تسليمه صادراً عن محض الرضا والاختيار، بل يشوبه كره وانقباض، فيسلم على نوع إغماض.
فهذه علة التسليم المؤثرة فاجتهد في الخلاص منها.
والتسليم: هو الخلاص من شبهة تعارض الخبر، أو شهوة تعارض الأمر، أو إرادة تعارض الإخلاص، أو اعتراض يعارض الشرع والقدر.
وصاحب هذا التسليم هو صاحب القلب السليم، الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [الشعراء: 88،89].
والتسليم على ثلاث درجات:
الأولى: تسليم ما يزاحم العقول.
فإن التسليم يقتضي ما ينهى عنه العقل ويزاحمه، فإنه يقتضي التجريد عن الأسباب، والعقل يأمر بها، فصاحب التسليم يسلم إلى الله عزَّ وجلَّ ما هو غيب عن العبد، فإذا سلم لله لم يلتفت إلى السبب في كل ما غاب عنه.
والأوهام يسبق عليها أن ما غاب عنها من الحكم لا يحصل إلا بالأسباب، والتسليم يقتضي التجرد عنها، والعقل ينهى عن ذلك.
والتسليم ضد المنازعة، والمنازعة إما بشبهة فاسدة تعارض الإيمان، وإما بشهوة تعارض أمر الله عزَّ وجلَّ، أو إرادة تعارض مراد الله من عبده، أو اعتراض يعارض حكمته في خلقه وأمره، بأن يظن أن مقتضى الحكمة خلاف ما شرع، وخلاف ما قضى وقدر، فالتسليم التخلص من هذه المنازعات.
الثانية: تسليم العلم إلى الحال، بأن ينتقل من صورة العلم إلى المعاني والحقائق.
فينتقل من العلم إلى اليقين، ومن اليقين إلى عين اليقين، ومن علم الإيمان إلى ذوق طعم الإيمان وحلاوته، ومن علم التوكل إلى حاله وهكذا.
الثالثة: تسليم ما دون الحق إلى الحق، مع السلامة من رؤية التسليم.
فالحق سبحانه هو الذي سلم إلى نفسه ما دونه، فالحق سبحانه هو الذي سلمك إليه، فهو المسلم والمسلم إليه، وأنت آلة التسليم، فمن شهد هذا المشهد العظيم وجد نفسه مسلمة إلى الحق، وما سلمها إلى الحق غير الحق، فقد سلم العبد من دعوى التسليم ورؤية التسليم.(8/275)
«اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أمْرِي إِلَيْكَ، وَألْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأ وَلا مَنْجَى مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ». فَقُلْتُ أسْتَذْكِرُهُنَّ: وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أرْسَلْتَ. قَالَ: لا: «وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أرْسَلْتَ» متفق عليه(1).
43- فقه الرضا
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [النساء: 114].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِا? رَبّاً وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا» أخرجه مسلم (2).
الرضا: سكون القلب إلى فاطره ومعبوده ومحبوبه، ورضاه مما اختار الله له.
فهو راضٍ بمحبوبه.. راضٍ بما يناله من محبوبه.
ومن أعظم أسباب حصول الرضا:
أن يلزم العبد ما جعل الله رضاه فيه، فإنه يوصله إلى مقام ولا بدَّ.
والرضا يتحقق بثلاثة أمور:
باستواء الحالات عند العبد، وسقوط الخصومة مع الخلق، والخلاص من المسألة والإلحاح.
فالراضي الموافق تستوي عنده الحالات من النعمة والبلية في رضاه بحسن اختيار الله له؛ لأنه مفوض، والمفوض راضٍ بكل ما اختاره الله له.
ولأنه جازم بأن لا تبديل لكلمات الله ولا راد لحكمه، فالنعمة والبلية بقضاء سابق، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وهو عبد محض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار المحسن الناصح، بل يتلقاها بالرضا به وعنه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6311) واللفظ له، ومسلم برقم (2710).
(2) أخرجه مسلم برقم (34).(8/276)
ولأنه محب راضٍ بما يعامله به حبيبه، وهو جاهل بعواقب الأمور، وسيده أعلم بمصلحته وبما ينفعه، ولأنه لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه، وربه سبحانه يريد مصلحته، ويسوق إليه أسبابها.
ومن أعظم أسبابها ما يكرهه العبد، فإن مصلحته فيما يكره أضعاف أضعاف مصلحته فيما يحب.
ولأنه مسلم، والمسلم من قد سلم نفسه لله، ولم يعترض عليه في جريان أحكامه عليه، ولم يسخط ذلك.
ولأنه يعلم أن حظه من المقدور ما يتلقاه به من رضاً وسخط، وعلمه بأن قضاء الرب تعالى خير له، وعلمه أن تمام عبوديته في جريان ما يكرهه من الأحكام عليه.
فلا تتم عبوديته لربه إلا بالصبر والشكر، والتوكل والرضا، فليس الشأن في الرضا بالقضاء الملائم للطبيعة، إنما الشأن في الرضا المؤلم المنافر للطبع.
ولأنه يعلم أن رضاه عن ربه سبحانه في جميع الأحوال يثمر رضى ربه عنه.
فإذا رضي العبد عن ربه بالقليل من الرزق رضي ربه عنه بالقليل من العمل، ووجده أسرع شيء إلى رضاه إذا ترضاه وتملقه.
ولأنه عارف بربه حسن الظن به، وذلك يوجب له استواء الحالات عنده، ورضاه بما يختاره له سيده سبحانه.
ولأنه يعلم أن الرضا يوجب له الطمأنينة، وينزل عليه السكينة التي لا أنفع له منها، ومتى نزلت عليه السكينة استقام وصلحت حاله.
ومقامات الدين تدور على أربعة أمور:
الرضا بربوبية الله.. والرضا بألوهيته.. والرضا برسوله صلى الله عليه وسلم والانقياد له.. والرضا بدينه والتسليم له.
ومن اجتمعت فيه هذه الأربعة فهو الصديق حقاً.
فالرضا بربوبية الله يتضمن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه، والاستعانة به، والثقة به، والاعتماد عليه، والرضا بكل ما يفعله به.
والرضا بإلهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده، وخوفه ورجائه، والإنابة إليه، والتبتل إليه، وذلك يتضمن عبادته، والإخلاص له.
فالأول يتضمن رضا العبد بما يقدر عليه، والثاني يتضمن رضاه بما يؤمر به.(8/277)
وأما الرضا بنبيه رسولاً فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه.
فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة.
وأما الرضا بدينه، فإذا قال سبحانه أو حكم، أو أمر أو نهى، رضي كل الرضا، ولم يبق بقلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليماً ولو كان مخالفاً لمراد نفسه أو هواها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 65].
والرضا آخر التوكل، فمن رسخ قدمه في التوكل والتسليم والتفويض، حصل له الرضا ولا بدّ.
ورضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه، فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده، رضاً قبله أوجب له أن يرضى عنه، ورضاً بعده هو ثمرة رضاه عنه.
والرضا يفتح للعبد باب السلامة، فيجعل قلبه سليماً نقياً من الغش والدغل والغل، ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم.
والرضا عن الرب عزَّ وجلَّ في جميع الحالات يثبت الأقدام في مقام العبودية، والسخط يوجب التلون، ويفتح عليه باب الشك في الله وفي قضائه وقدره وحكمته وعلمه.
والرضا بالقضاء يوجب له السعادة، والتسخط على القضاء من أسباب الشقاوة.
والرضا يوجب للعبد أن لا ييأس على ما فاته، ولا يفرح بما أتاه، وذلك أفضل الإيمان.
والرضا بالقدر يفرغ القلب لله، والسخط يفرغ القلب من الله، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ صدره غنىً وأمناً وقناعة، وفرغ قلبه لمحبته.
والرضا يثمر الشكر الذي هو أعلى مقامات الإيمان، وينفي عنه آفات الحرص على الدنيا.
والرضا يخرج الهوى من قلب المؤمن، فالراضي هواه تبع لمراد ربه منه مما يحبه الله ويرضاه.
والرضا عن الله يثمر للعبد رضا الله عنه، والراضي متلق أوامر ربه الدينية والقدرية بالانشراح والتسليم.
والطاعات كلها أصلها من الرضا، والمعاصي كلها أصلها من عدم الرضا، وعدم الرضا يفتح باب البدعة، والرضا يغلق ذلك الباب عنه.(8/278)
ولو تأمل العبد جميع البدع لرآها ناشئة من عدم الرضا بالحكم الكوني، أو الديني، أو كليهما.
وما يقضيه الله ويقدره نوعان:
قضاء ديني.. وقضاء كوني.
فالديني: مأمورات، ومنهيات، ومباحات.
والكوني: إما نعماً ملذة، أو بلاياً مؤلمة.
والرضا يخلص العبد من مخاصمة الرب تعالى في أحكامه وأقضيته، وأصل مخاصمة إبليس لربه من عدم رضاه بأقضيته وأحكامه الدينية والكونية، فلو رضي لم يطرد ويلعن ويبعد.
وجميع ما في الكون أوجبته مشيئة الله، فهو موجب أسماء الله وصفاته، فمن لم يرضى بما رضي به ربه لم يرض بأسمائه وصفاته.
وكل قدر يكرهه العبد ولا يلائمه فلا يخلو من أمرين:
إما أن يكون عقوبة على الذنب، فهو دواء لمرض لولا تدارك الحكيم إياه بالدواء لترامى به المرض إلى الهلاك.
أو يكون سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه، فالمكروه ينقطع، وما ترتب عليه من النعمة دائم لا ينقطع.
فإذا شهد العبد هذين الأمرين انفتح له باب الرضا عن ربه في كل ما يقضيه ويقدره له.
وحكم الرب عزَّ وجلَّ ماضٍ في عباده، وقضاؤه عدل فيهم، قضى بالذنب وقضى بعقوبته، فالأمران من قضائه عزَّ وجلَّ، وهو أعدل العادلين في قضائه بالذنب، وفي قضائه بعقوبته.
أما عدله في العقوبة فظاهر، وأما عدله في قضائه بالذنب فإن الذنب عقوبة على غفلته عن ربه وإعراض قلبه عنه.
فإنه إذا غفل قلبه عن ربه ووليه استحق أن يضرب بهذه العقوبة.
ولا يقضي الله لعبده قضاءً إلا كان خيراً له، فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاءً وإن كان في صورة المنع، ونعمة وإن كان في صورة محنة، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية.
ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وكان ملائماً لطبعه، ولو عرف ربه لعد المنع نعمة، والبلاء رحمة.
فالراضي: هو الذي يعد نعم الله عليه فيما يكرهه أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه.(8/279)
وإذا علم العبد أن ربه عزَّ وجلَّ تفرد بالخلق، وتفرد بالاختيار والتدبير، وليس للعبد شيء من ذلك، فإن الأمر كله لله، فإذا عرف ذلك لم يكن له غير الرضا بمواقع الأقدار من ربه.
ورضا الله سبحانه عن العبد أكبر من الجنة وما فيها؛ لأن الرضا صفة الله، والجنة خلقه.
وهذا الرضا جزاء على رضا المؤمنين عنه في الدنيا.
ولما كان هذا الجزاء أفضل الجزاء كان سببه أفضل الأعمال كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 72].
والمحبة لله، والإخلاص له، والإنابة إليه، لا تقوم إلا على ساق الرضا، فالمحب راضي عن حبيبه في كل حالة.
والرب عزَّ وجلَّ شكور، إذا وصل إليه عمل عبده جمل به ظاهره وباطنه، وأثابه عليه من حقائق المعرفة والإيمان بحسب عمله.
وأعمال الجوارح تضاعف إلى حد معلوم محسوب، وأما أعمال القلوب فلا ينتهي تضعيفها، فهي دائمة متصلة، وإن توارى شهود العبد لها.
فالمحبة والرضا حال المحب الراضي لا تفارقه أصلاً، وصاحبها في مزيد متصل ولو فترت جوارحه.
والله عزَّ وجلَّ ينظر إلى القلوب والهمم والعزائم لا إلى صور الأعمال.
والرضا ثلاث درجات:
الأولى: الرضا بالله رباً.
الثانية: الرضا عن الله، وهو الرضا عنه في كل ما قضى وقدر.
فالرضا به متعلق بأسمائه وصفاته، والرضا عنه متعلق بثوابه وجزائه.
الثالثة: الرضا برضا الله، فيغيب برضى ربه عن رضاه هو.
(? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ?? ? ??) [الفجر: 27-30].
والمؤمن الموفق من باع نفسه وأرخصها وبذلها طلباً لمرضاة الله، ورجاءً لثوابه، فمن بذلها للعلي والوفي الرؤوف بالعباد، استحق رضاه، وفاز بجنته: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [البقرة: 207].
والرضا نوعان:
رضاً مشروع.. ورضاً غير مشروع.
والرضا المشروع نوعان:
أحدهما: الرضا بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، ويتناول ما أباحه الله من غير تعد إلى المحظور كما قال سبحانه: (? پ پ پ پ ? ? ??) [التوبة: 62].(8/280)
الثاني: الرضا بالمصائب كالفقر والرضى والذل، فهذا الرضا مستحب، فإن لم يكن فلا أقل من الصبر.
أما الرضا غير المشروع فهو الرضا بالكفر والفسوق والعصيان.
فلا يرضى العبد بذلك؛ لأن الله لا يرضاه، ولا يحبه كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الزمر: 7].
فهذا مع أن الله أراده وقدره فهو لا يحبه ولا يرضاه.
والمؤمن مأمور باتباع ما يحبه الله ويرضاه دون ما يقضيه ويقدره من الكفر والفسوق والعصيان، وأن يرضى بما أصابه من المصائب لا بما فعله من المعائب.
فهو من الذنوب يستغفر.. وعلى النعم يشكر.. وعلى المصائب يصبر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 17].
44- فقه الزهد
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 28].
وقال الله تعالى: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [طه: 131].
الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، وترك كل ما يشغل عن الله، وإسقاط الرغبة عن الشيء بالكلية، وسفر القلب من وطن الدنيا، وأخذه في منازل الآخرة بترك الحرام، وترك الفضول من الحلال.
وفضول الحلال إن شغلت العبد عن ربه فالزهد فيها أفضل، وإن لم تشغله عن الله، بل كان شاكراً لله فيها فحاله أفضل، والزهد فيها تجريد القلب عن التعلق بها، والطمأنينة إليها.
ومعنى الزهد هو انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، والزهد في الدنيا مقام شريف.
وحال الزهد يستدعي مرغوباً عنه، ومرغوباً فيه هو خير من المرغوب عنه، والمرغوب عنه شرطه أن يكون مرغوباً فيه بوجه من الوجوه.
فمن رغب عما ليس مطلوباً في نفسه لا يسمى زاهداً.
فتارك الحجر والتراب لا يسمى زاهداً، وإنما يسمى زاهداً من ترك الدراهم والدنانير لله.
وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيراً من المرغوب عنه.
وكل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا، وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو زاهد في الآخرة.(8/281)
فالأول رابح.. والثاني خاسر.. ولكن العادة جارية بإطلاق لفظ الزهد على من زهد في الدنيا.
وليس من الزهد بذل المال على سبيل السخاء واستمالة القلوب، وعلى سبيل الطمع، فذلك كله من محاسن العادات، ولا مدخل لشيء منه في العبادات.
وإنما الزهد أن تترك الدنيا لأجل الله، لعلمك بحقارة الدنيا ونفاسة الآخرة.
وقد يبذل الإنسان المال طمعاً في الذكر والثناء والشهرة بالسخاء، أو استثقالاً له لما في حفظه من المشقة.
والحاجة إلى التذلل للغير ليس من الزهد أصلاً، بل هو استعجال حظ آخر للنفس.
بل الزاهد حقاً من أتته الدنيا راغمة صفواً عفواً وهو قادر على التنعم بها من غير نقصان جاه، ولا فوات حظ للنفس، فتركها خوفاً من أن يأنس بها، فيكون آنساً بغير الله، ومحباً لما سوى الله، أو تركها طمعاً في ثواب الآخرة، فترك التمتع في أطعمة وأشربة الدنيا طمعاً في أطعمة وأشربة الآخرة.
فآثر جميع ما وعده الله به في الجنة على ما تيسر له في الدنيا عفواً صفواً، لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [طه: 131].
ويقتصر الزاهد في الدنيا على المهمات فيأخذ منها بقدر الحاجة وهي:
المطعم.. والملبس.. والمسكن.. والمنكح.. والمركب.. والمال.. والأثاث.
فأما المطعم فلا بدَّ للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه، ويستعين به على طاعة ربه، ويأكل في اليوم والليلة في النوع والمقدار والحال كما كان يأكل إمام الزهاد صلى الله عليه وسلم .
وأما الملبس فيلبس ما يدفع الحر والبرد، ويستر العورة، ويلبس في النوع والمقدار كلبسه صلى الله عليه وسلم .
وأما المسكن فيسكن بيتاً على قدر حاجته من غير زيادة، ولا زينة، ولا إسراف، وأما أثاث البيت فيكون بقدر حاجته، ولا يأنف من الدون من الأثاث.
والمنكح يقتصر منه على ما لا يشغله عن ربه، وطاعته، وذكره، وعبادته، والزواج من سنن المرسلين، فلا غنى له عنه إلا من علة.(8/282)
وأما المركب فيتخذ ما يحتاجه؛ لئلا يضطر إلى سؤال الناس، وليستعين به على طاعة الله، فيركب بقدر حاله كما فعل إمام أهل الزهد صلى الله عليه وسلم ، والمراكب تختلف فيركب ما تيسر بقدر حاله من دابة أو سيارة.
وأما المال والجاه فهو وسيلة إلى ما سبق، والزاهد من يزهد في ذلك، ولا يسعى لطلب المحل في القلوب، فإن زهده وعبادته تمهد له من المحل في القلوب ما يدفع به عنه الأذى ولو كان بين الكفار، فكيف وهو بين المسلمين.
وتوكله على ربه واستغناؤه بما في يده يغنيه عن الجمع والاستكثار، فلينفق لينفق الله عليه.
ومن علامات الزهد:
أن لا يفرح بموجود، ولا يحزن على مفقود كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 23].
وأن يستوي عنده ذامه ومادحه، فالأول علامة الزهد في المال، والثاني علامة الزهد في الجاه، وأن يكون أنسه بالله تعالى، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة، إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة: إما محبة الدنيا.. وإما محبة الله.
وهما في القلب كالماء والهواء في الإناء، فإذا دخل الماء خرج الهواء، فلا يجتمعان، وكذلك الأنس بالدنيا وبالله لا يجتمعان.
وأن تكون عبادته في الخفاء أقوى منها في العلانية.
وأن يستوي عنده التراب والذهب؛ لقوة توكله وزهده.
العطاء أحب إليه من الأخذ، غفور شكور، حليم صبور، عزيز كريم، خاشع القلب، دائم الذكر والفكر فيما يرضي الله.
ولا تتم رغبة العبد في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
الأول: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، ونقصها وخستها، وألم الكد فيها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف.
فطالب الدنيا لا ينفك من همّ قبل حصولها، وهمّ في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها وفراقها.(8/283)
الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بدّ، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، وما فيها من النعيم المقيم.
فإذا تم للعبد هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه، وكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل، واللذة الحاضرة، إلى الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل.
فإذا آثر العبد الفاني الناقص على الباقي الكامل كان ذلك:
إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل، وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان، وضعف العقل والبصيرة.
فالراغب في الدنيا، الحريص عليها، إما أن يصدِّق بأن ما هناك في الآخرة أشرف وأفضل وأبقى وإما أن لا يصدق.
فإن لم يصدق كان عادماً للإيمان رأساً.
وإن صدق ذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل، سيئ الاختيار لنفسه.
فإن إيثار الدنيا على الآخرة، إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، وما أكثر ما يكون منهما، وقد قال خالقها عنها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 26].
وقال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [الحديد: 20]
وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله، وطلب الآخرة، وقد توعد الله من لم يرج لقاء الله، ورضي بالدنيا، واطمأن بها، وغفل عن آيات ربه بالنار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ٹٹ) [يونس: 7،8].
والزهد في الدنيا أن تنزعها من قلبك وهي في يدك.
والذي يصحح هذا الزهد أربعة أمور:
الأول: علم العبد أن الدنيا فانية.
الثاني: علم العبد أن وراء الدنيا داراً أعظم منها وأفضل، وهي الآخرة.
الثالث: معرفة العبد أن زهده فيها لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها.
الرابع: علمه أن الذي خلقها ذمها وحذر منها فكيف يتعلق بها؟(8/284)
ومن أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهواته، وما يبقى على ما يفنى، وما يحبه الله على ما تحبه النفس.
والناس في الدنيا معذبون على قدر هممهم بها:
فالقلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها، وإذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد الآخرة.
وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [التوبة: 38].
وماذا يجدي نعيم ساعة مشوب بالكدر إذا كان ينتظره شقاء الأبد.
(? ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پپ) [الشعراء: 205-207].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحقاف: 35].
والزهد المشروع ثلاث درجات:
الأولى: الزهد في الشبهات بعد ترك المحرمات، وهو ترك ما يشتبه على العبد هل هو حلال أو حرام؟، حذراً من توجه عتب الله عليه، وأنفاً من نقصه عند ربه، وسقوطه من عينه، وسقوطه من أعين الناس؟.
الثانية: الزهد في الفضول من الطعام، والشراب، واللباس، والسكن، والمنكح.
فيكفيه البلغة، ويزهد فيما وراء ذلك؛ اغتناماً لتفرغه لعمارة وقته فيما يقرب إلى الله، أو يعينه على ذلك من مأكل ومشرب ونحوهما.
فإنه إذا أخذها بنية القوة على ما يحبه الله كانت من عمارة الوقت، فإن اللذة عند أهل العقول تذكر باللذة، والفرح يذكر بالفرح، والسرور يذكر بالسرور الأخروي.
فيزهد في الفاني، وينشط للباقي، ولا يلتفت إلى الدنيا في حالتي مباشرته لها وتركه، كالأنبياء والصديقين فهم الزاهدون حقاً، فهم زاهدون فيها وإن كانوا لها مباشرين.
الثالثة: الزهد في الزهد، فمن امتلأ قلبه بمحبة الله وتعظيمه لا يرى أن ما تركه لأجله من الدنيا يستحق أن يجعل قرباناً.(8/285)
فالدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فيستحي أن يذكره أو يعتد به، ويستوي عنده ترك ما زهد فيه وأخذه، إذ ليس له عنده قدر، فيكون زاهداً فيه في حال أخذه كما هو زاهد في حال تركه، إذ همته أعلى من ملاحظته أخذاً وتركاً لصغره في عينه، فمن استصغر الدنيا بقلبه واستوى أخذها وتركها عنده، لم ير أنه اكتسب بتركها الدرجات.
وكذلك يشاهد تفرد الله وحده بالعطاء والمنع، فما أخذه فهو مجرى لعطاء الله إياه، وما تركه فالله سبحانه وتعالى هو الذي منعه منه، فيطمئن بذلك عن شهود كسبه وتركه.
والزهد على أربعة أقسام:
أحدها: زهد فرض على كل مسلم وهو الزهد في الحرام، وهذا متى أخل به انعقد سبب العقاب.
الثاني: زهد مستحب، وهو درجات في الاستحباب بحسب المزهود فيه، وهو الزهد في المكروه، وفضول المباحات، والتفنن في الشهوات.
الثالث: زهد المشمرين في السير إلى الله، وهو نوعان:
أحدهما: الزهد في الدنيا جملة، وليس المراد إخلاء اليد منها وقعوده صفراً منها، وإنما المراد إخراجها من قلبه بالكلية، فلا يلتفت إليها، ولا يدعها تساكن قلبه وإن كانت في يده، فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك كحال الأنبياء والمرسلين والخلفاء الراشدين، فليس الزهد في المال، وإنما الزهد فراغ القلب عنه، ولقد كان سليمان صلى الله عليه وسلم في ملكه من الزهاد.
الثاني: الزهد في النفس، وهو أصعب الأقسام وأشقها، وأكثر الزاهدين إنما وصلوا إليه ولم يلجوه.
فالزاهد يسهل عليه الزهد في الحرام لسوء مغبته، وقبح ثمرته، وحماية لدينه، وإيثاراً للذة، والنعيم على العذاب، وأنفة من مشاركة الفساق والفجرة، وحمية من أن يستأسره عدوه.
ويسهِّل على الإنسان الزهد في المكروهات وفضول المباحات علمه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم، والنعيم المقيم.(8/286)
ويسهِّل عليه الزهد في الدنيا معرفته بما وراءها، وما يطلبه من العوض التام والمطلب الأعلى.
وأما الزهد بالنفس فهو ذبحها بغير سكين وهو نوعان:
أحدهما: أن تميتها فلا يبقى لها عندك من القدر شيء، فلا تغضب لها، ولا ترضى لها، ولا تنتصر لها، ولا تنتقم لها.
قد سبَّلت عرضها ليوم فقرها، فهي أهون عليك من أن تنتصر لها، أو تنتقم لها، أو تجيبها إذا دعتك.
وهذا هو عين حياتها وصحتها، ولا حياة لها بدون هذا البتة.
وهذه العقبة هي آخر عقبة يشرف منها الإنسان على منازل المقربين، ويخلص من سجون المحن والبلاء، وأسر الشهوات، وتتعلق بربها ومعبودها ومولاها الحق، فيا قرة عينها وسرورها بقربه، ويا بهجتها بالخلاص من عدوها، واللجوء إلى مولاها الحق، ومالك أمرها، ومتولي مصالحها.
الثاني: أن يبذل نفسه للمحبوب مولاه جملة، بحيث لا يستبقي منها شيئاً، بل يزهد فيها زهد المحب في قدر خسيس من ماله، قد تعلقت رغبة محبوبه به.
فهكذا زهد المحب الصادق في نفسه قد خرج عنها وسلمها لربه.
وجميع مراتب الزهد السابقة مبادٍ ووسائل لهذه المرتبة.
وإذا أراد الله بعبد خيراً أزهده في الدنيا، وفقهه في الدين، وبصره بعيوبه، والزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا لبس المرقعات.
45- فقه الورع
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الحشر: 7].(8/287)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمَى ا? فِي أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (1).
الورع: ترك كل شبهة، وترك ما لا يعنيك، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، من كل ما يخاف ضرره في الآخرة.
والورع على وجهين:
ورع في الظاهر.. وورع في الباطن.
فورع الظاهر أن لا يتحرك إلا لله، وورع الباطن هو أن لا تُدخل قلبك سواه.
والورع أول الزهد، بأن يتورع عن كل ما سوى الله، ويتوقى الحرام والشبه وما يخاف ضرره، حذراً وخوفاً من ربه.
والورع على ثلاث درجات:
الأولى: تجنب القبائح، وذلك بصون النفس وحفظها وحمايتها عما يشينها ويزري بها عند الله عزَّ وجلَّ، وعند ملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه.
ومن كرمت عليه نفسه صانها وحماها عن الرذائل والقبائح، ومن هانت عليه نفسه ألقاها في الرذائل وأطلق زمامها في القبائح.
وكذلك يوفر زمانه على اكتساب الحسنات، فإذا اشتغل بالقبائح نقصت عليه الحسنات التي كان مستعداً لتحصيلها.
وكذلك يصون إيمانه، فإن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
فالقبائح تسود القلب، وتطفئ نوره، والإيمان نور في القلب، والحسنات تزيد نور القلب، والسيئات تطفئ نور القلب وتقسيه.
فالمعاصي للإيمان كالمرض والحمى للقوة سواء بسواء.
__________
(1) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (52) واللفظ له، ومسلم برقم (1599).(8/288)
الثانية: حفظ الحدود، وذلك بترك كثير مما لا بأس به من المباح إبقاءً على صيانته، وخوفاً عليها أن يتكدر صفوها، ويذهب بهجتها.
فالأول يسعى في تحصيل الصيانة، وهذا يسعى في حفظ صفوها أن ينكدر، ونورها أن يطفأ بالتشمير للمراتب العالية، والترفع عن الدناءة.
وكذلك لا يقتحم الحدود، فالحدود هي النهايات، وهي مقاطع الحلال والحرام، فمن اقتحم ذلك وقع في المعصية، وقد نهى الله عن تعدي حدوده وقربانها، فالورع يخلص العبد من قربان هذه وتعدي هذه، وهو اقتحام الحدود.
الثالثة: التورع عن كل داعية تدعو إلى شتات الوقت وإضاعته، فمن لم يكن الله مراده أراد ما سواه، ومن لم يكن هو وحده معبوده عبد ما سواه، ومن لم يكن عمله لله فلا بدَّ أن يعمل لغيره.
وهذا الورع يقتضي التورع عن كل حظ يزاحم مراد الله منك.
وملاك ذلك كله:
أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تقبل به كله على معاني القرآن وآياته وتدبرها، وفهم ما يراد منه وما نزل لأجله، والعمل بموجب ذلك، فهذه طريقة سهلة موصلة إلى الرفيق الأعلى.
ومراتب الورع ثلاث:
الأولى: واجبة، وهي الإحجام عن المحرمات.
الثانية: مندوبة، وهي البعد عن الشبهات.
الثالثة: فضيلة، وهي الكف عن كثير من المباحات، والاقتصار على أقل الضرورات.
وللورع مظاهر متعددة تختلف باختلاف أعضاء الإنسان ومصالحه:
فمنها الورع في النظر.. والورع في السمع.. والورع في الشم.. والورع في اللسان.. والورع في البطش.. والورع في الأكل.. والورع في البطن.. والورع في الفرج.. والورع في البيع والشراء.
وملاك الدين الورع.. وآفتة الطمع، والورع من أعلى مراتب الإيمان، وأفضل درجات الإحسان.(8/289)
وتمام الورع أن يعلم العبد خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فمن لم يعلم ذلك فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعاً، أو يدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع.
وملاك الدين الورع، وآفتة الطمع، وزينة العلم الورع، والحلم، والتوكل.
وأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه، والخوف من الله خوف الموحدين والصديقين، وهو ثمرة المعرفة بالله تعالى، والخوف من المعصية خوف الصالحين.
وكل من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته علم من صفاته ما هو جدير بأن يخاف من غير جناية، ولا يمكن أن يصل العبد إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته، والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر.
فمن عرف الله تعالى عرف أنه فعال يفعل ما يشاء ولا يبالي، ويحكم ما يريد ولا يخاف.
ومن أمارات المعرفة بالله حصول الهيبة وكمال الورع، والمؤمن إذا عرف ربه أحبه، وإذا أحبه أقبل إليه، وتورع عن كل ما لا يرضيه.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب التاسع ... 6
فقه العبودية ... 6
1- فقه حقيقة العبودية ... 6
2- فقه الإرادة ... 68
3- فقه الرغبة ... 72
4- فقه الشوق ... 74
5- فقه الهمة ... 77
6- فقه الطريق إلى الله ... 79
7- فقه السير إلى الله ... 84
8- فقه المحبة ... 87
9- فقه التعظيم ... 112
10- فقه الإنابة ... 117
11- فقه الاستقامة ... 122
12- فقه الإخلاص ... 150
13- فقه التوكل ... 157
14- فقه الاستعانة ... 170
15- فقه الذكر ... 174
16- فقه التبتل ... 186
17- فقه الصدق ... 188
18- فقه التقوى ... 193
19- فقه الغنى ... 206
20- فقه الفقر ... 219
21- فقه الصبر ... 234
22- فقه الشكر ... 271(8/290)
23- فقه التواضع ... 283
24- فقه الذل ... 286
25- فقه الخوف ... 288
26- فقه الرجاء ... 299
27- فقه المراقبة ... 307
28- فقه المحاسبة ... 311
29- فقه المشاهدة ... 317
30- فقه الرعاية ... 328
31- فقه الذوق ... 331
32- فقه الصفاء ... 333
33- فقه السر ... 336
34- فقه القبض ... 340
35- فقه البسط ... 344
36- فقه الحزن ... 347
37- فقه الإشفاق ... 350
38- فقه الخشية ... 352
39- فقه الغيرة ... 356
40- فقه الثقة بالله ... 359
41- فقه التفويض ... 362
42- فقه التسليم ... 364
43- فقه الرضا ... 367
44- فقه الزهد ... 374
45- فقه الورع ... 382(8/291)
موسوعة فقه القلوب (10)
الباب العاشر
فقه النبوة والرسالة
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب العاشر
فقه النبوة والرسالة
1- فقه الاصطفاء والاختيار
قال الله تعالى: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [آل عمران: 33].
وقال الله تعالى: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الحج: 75].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 68].
الله تبارك وتعالى خلق الخلق، وجعل لكل منهم كمالاً يختص به هو غاية شرفه، فإذا عدم كماله انتقل إلى الرتبة التي دونه، فإن عدم ذلك انتقل إلى ما دونه وهكذا.
حتى إذا عدم كل فضيلة صار كالشوك والحطب الذي لا يصلح إلا للوقود.
كالفرس إذا كمل أعد لمركب الملوك، وأكرم إكرام مثله.
فإن نقص قليلاً أعد لمن دون الملك، فإن نزل أعد لآحاد الأجناد، فإن تقاصر استعمل استعمال الحمار إما حول المدار، وإما لنقل الزبل، فإذا عدم ذلك استعمل استعمال الأغنام للذبح والإعدام، وهكذا الآدمي:
خلقه الله عزَّ وجلَّ ضعيفا ًجهولاً.
فإذا كمل وبلغ كماله ذروته صار صالحاً لاصطفاء الله له، فاتخذه رسولاً ونبياً فـ: (? ? ? ? ?) [الأنعام: 124].
فإن كان جوهره قاصراً عن هذه الدرجة صالحاً لخلافة النبوة رشحه لذلك وبلغه إياه، فإن كان قاصراً عن ذلك قابلاً لدرجة الولاية رشح لها، وإن كان ممن يصلح للعبادة والعمل دون المعرفة والعلم جعل من أهله، حتى ينتهي إلى درجة عموم المؤمنين.
فإن نقص عن هذه الدرجة ولم تكن نفسه قابلة لشيء من الخير أصلاً استعمل حطباً ووقوداً للنار والعياذ بالله: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 36].
والله عزَّ وجلَّ أكرم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، واجتباها واصطفاها، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وشرفها بأمور:(9/1)
فجعلهم الله أمة وسطاً.. وجعلهم شهداء على الناس.. واختار لهم أوسط جهات الاستقبال وخيرها وهي الكعبة.. واختار لهم سيد الأنبياء وأفضلهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم .. واختار لهم خير الأديان وهو الإسلام.. وأنزل عليهم خير الكتب وأحسنها وهو القرآن.. وأعطاهم وظيفة الأنبياء إلى يوم القيامة.. وهي الدعوة إلى الله.
والله عزَّ وجلَّ لا يستخدم لدينه والدعوة إليه إلا من يقدم نفسه، فمن علم الله منه الرغبة والطلب الصادق والتضحية استخدمه الله لدينه، وجعله سبباً لهداية الناس.
والعامل إنما يستخدمه صاحب العمل إذا قدم نفسه، أما المعرض فإنه لا يستخدم؛ لأنه ليس عنده الطلب.
والله عزَّ وجلَّ أعطى كل إنسان طاقات، وأمره أن يستخدمها للدين، فيجب أن نستخدم البدن لقضاء طلبات الدين، وهكذا.
وهذه الثلاثة (البدن والفكر والدعاء) استعملت الآن لقضاء طلبات الدنيا وعمارتها وتكميلها.
والله تبارك وتعالى يصطفي من خلقه ما يشاء، فاصطفى من الملائكة رسلاً، واصطفى للنبوة والرسالة من شاء من البشر، وهو أعلم حيث يجعل رسالته كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الحج: 75].
وبعد الاجتباء والاختيار والاصطفاء يربيهم الله ويبتليهم، ثم يبعثهم إلى الناس بالدين الحق.
فموسى صلى الله عليه وسلم اصطنعه الله لنفسه، واصطفاه على الناس بالرسالة والتكليم، ورباه على الإيمان والتوحيد، ثم أرسله إلى فرعون، ولكن تلقى قبل ذلك ثلاثة أنواع من التربية وهي:
التربية البدنية.. والتربية الأخلاقية.. والتربية الإيمانية.
فموسى صلى الله عليه وسلم رباه الله في قصر فرعون، وعاش حياة القصور، ورأى الإسراف في ألوان الطعام، وتعلم هناك التربية البدنية، ولذا لما ضرب القبطي ضربة قتله كما قال سبحانه: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 15].
وفقأ عين ملك الموت، ورفع الصخرة عن البئر وحده في مدين.(9/2)
وفي مدين رباه الله على حسن الأخلاق مع البهائم، ليتدرب على حسن الأخلاق مع الناس، فرعى الغنم عشر سنوات في مدين، وما من نبي إلا ورعى الغنم، وفي ذلك حكمة بالغة:
فمزاج الغنم الانتشار لتحصيل المنافع، وكذلك الداعي مزاجه الانتشار لنشر الهداية، ومزاج الراعي جمع الغنم على الماء والكلأ، ومزاج الداعي جميع الأمة على الدين والهدى.
ومزاج الراعي الصبر على الغنم، والشفقة عليها، والرفق بها، ورحمتها والعناية بها، وكذلك الداعي مزاجه الصبر على الأذى من الناس، والشفقة عليهم من عذاب الله، ورحمتهم والإحسان إليهم.
والراعي يورد الغنم أماكن الماء والعشب والكلأ، ويجنبها ما يتعبها ويشق عليها، وكذا الداعي مزاجه السير بالأمة في سبل النجاة والهدى، وإبعادها عن مواطن الهلكة والردى.
والبيئة مؤثرة، فالذي يرعى الإبل تأتي فيه صفة الكبر، والذي يرعى الغنم تأتي فيه صفة التواضع، لذلك الذي يكون في المسجد تأتي فيه صفة الملائكة الذين: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التحريم: 6].
ومزاج الراعي أنه يعيش جل وقته في خدمة الغنم وحفظها، وبذل المنافع لها، وكذلك الداعي يعيش كل وقته من أجل هداية البشر إلى الصراط المستقيم: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 128].
وفي طور سيناء علم الله موسى التربية الإيمانية بقسميها النظري والعملي.
فالنظري كما كلم الله موسى صلى الله عليه وسلم عند الشجرة، وبين الله له أنه الإله الذي لا إله غيره، وأمره بعبادته وطاعته، وأن الناس راجعون إلى ربهم، وسيحاسبهم على ما عملوا يوم القيامة، وحذره من ترك ما أمر به، ومن طاعة أهل الكفر والأهواء فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 12-16].
ثم علم الله موسى صلى الله عليه وسلم الإيمان عملياً فقال له: (? چ چ چچ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [طه: 17،18].(9/3)
فالله سبحانه أراد أن يعلم موسى صلى الله عليه وسلم معنى لا إله إلا الله عملياً، فأمره بإلقاء عصاه، فلما ألقاها جاءها أمر الله فوراً فتحولت بأمر الله إلى حية: (ڑ ڑ کک ک ک گ گ گگ) [طه: 19،20].
فأمره الله بإلقائها وهي نافعة، ثم أمره بأخذها وهي ضارة، تدريباً له على الإيمان وتمام الطاعة، ليعلم أن كل شيء بيد الله: (? ? ? ? ? ? ? ?ں) [طه: 21].
وآية أخرى يراها تجري عملياً ليعلم بها قدرة الله في التصرف في الأشياء وتبديل أحوالها فوراً: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [طه: 22].
ولما عرف حقيقة الإيمان نظرياً وعملياً أرسله الله إلى فرعون يدعوه إلى الله فقال له ولأخيه هارون عليهما الصلاة السلام: (? ? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [طه: 43،44].
فماذا قال موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 45].
فقال الله لهما: (? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 46].
فذهب موسى صلى الله عليه وسلم إلى فرعون بهذا اليقين، ودعاه إلى الله: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ) [القصص: 39،40].
فأهلكه الله وأغرقه وقومه في البحر، وأنجى الله موسى وبني إسرائيل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?چ چ چ چ?) [الشعراء: 65،66].
والله تبارك وتعالى هو الخلاق العليم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 68].
خلق سبحانه أكبر المخلوقات وأعظمها وأوسعها وهو العرش، واختاره فاستوى عليه بأعظم صفة وأوسعها وهي الرحمة، فاستوى جلَّ جلاله على أعظم المخلوقات بأوسع الصفات وهي الرحمة، كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑڑ) [طه: 5].
واختار قلب الإنسان ليكون محلاً لنظره سبحانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ» أخرجه مسلم (1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2564).(9/4)
فالعرش عظيم جداً، والقلب صغير جداً، فإذا كانت (لا إله إلا الله) في قلب الإنسان رجح بالسماوات والأرض، وصار ذلك القلب لائقاً بجلال الله، كما أن العرش لائق بجلال الله سبحانه لعظمته، وكماله، وخلوه من العيوب.
والله عزَّ وجلَّ يريد من عباده أن يزينوا قلوبهم بالإيمان، وأن تكون خالية من الشرك والعيوب، لتكون لائقة بنظر الله جل جلاله.
والله سبحانه ينظر إلى العمل الذي ينظف القلب، ويطهره من العيوب، ويمقت العمل الذي يلوث القلب ويفسده.
وقد أكرم الله هذه الأمة فجعلها خير أمة أخرجت للناس، وأعطاها وظيفة الأنبياء والرسل، وهي الدعوة إلى الله.
وجميع الأمم السابقة هي الآن في القبور تنتظر مجيء هذه الأمة، ورحمة بهذه الأمة جعلها الله خير الأمم وآخر الأمم؛ لئلا يطول عليها زمن الانتظار، وجعلها تعمل قليلاً، وتؤجر كثيراً.
وكشف الله لهذه الأمة أعمال وفضائح وأحوال الأمم السابقة مع أنبيائهم؛ لتتعظ وتعتبر بمن خالف أمر الله، وتقتدي بمن أطاع الله ورسله.
وستر عيوب هذه الأمة عن الأمم السابقة.
فما أعظم احتفاء الله بهذه الأمة.. وما أشد عنايته بها.. ! فمتى تشكر هذا التشريف والإكرام؟
والله جل جلاله كما اصطفى المؤمنين على سائر البشر، كذلك اصطفى بيت آل إبراهيم على سائر البيوت.
فهذا البيت المبارك المطهر أشرف بيوت العالم على الإطلاق، فقد جعل الله فيهم النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم نبي إلا من أهل بيته، وجعلهم أئمة يهدون بأمره إلى يوم القيامة.
فكل من دخل الجنة من أولياء الله بعدهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم، واتخذ منهم الخليلين إبراهيم ومحمداً عليهما الصلاة والسلام.
وجعل سبحانه صاحب هذا البيت وبانيه إماماً للعالمين كما قال سبحانه:
(ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 124].(9/5)
وأجرى جل جلاله على يديه بناء بيته العتيق، الذي جعله قياماً للناس، وقبلة لهم، وحجاً لهم إلى يوم القيامة، فكان ظهور هذا البيت وعمارته من أهل هذا البيت الأكرمين.
وأخرج سبحانه من أهل هذا البيت الأمتين العظيمتين، وهم أمة موسى صلى الله عليه وسلم وأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمة محمد تمام سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله سبحانه، وأبقى عليهم لسان صدق وثناء في العالم، فلا يذكرون إلا بالثناء عليهم، والصلاة والسلام عليهم.
وجعل سبحانه خلاص خلقه من شقاء الدنيا والآخرة على أيدي أهل هذا البيت، فلهم على الناس من النعم ما لا يمكن إحصاؤها ولا جزاؤها، ولهم المنن الجسام في رقاب الأولين والآخرين من أهل السعادة.
وسد سبحانه جميع الطرق بينه وبين العالمين فلم يفتح لأحد قط إلا من طريقهم وبابهم، وخصهم سبحانه بالعلم بما لم يخص به أهل بيت سواهم من العالمين.
فلم يطرق العالم أهل بيت أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكامه وأفعاله، وثوابه وعقابه، وشرعه ومواقع رضاه وغضبه، ومخلوقاته وملائكته منهم.
فسبحان من جمع لهم علم الأولين والآخرين، وخصهم بالدعوة إلى توحيد الله ومحبته، ومكن لهم في الأرض، واستخلفهم بها، وأطاع لهم أهل الأرض ما لم يحصل لغيرهم.
وأيدهم ونصرهم وأظفرهم بأعدائه بما لم يؤيد غيرهم.
ومحا بهم من آثار أهل الضلال والشرك والآثار التي يبغضها الله ويمقتها ما لم يمحه بسواهم.
وجعل عزَّ وجلَّ آثارهم سبباً لبقاء العالم وحفظه، فلا يزال العالم باقياً ما بقيت آثارهم في الأرض وشرائعهم.
وأظهر على أيديهم من بركات الدنيا والآخرة ما لم يظهره على يدي أهل بيت سواهم كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [النساء: 54].
ومن بركات الله تبارك وتعالى عليهم:(9/6)
أن أعطاهم ما لم يعط غيرهم.. فمنهم من اتخذه خليلاً كإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم ومنهم الذبيح كإسماعيل صلى الله عليه وسلم ومنهم الكليم كموسى صلى الله عليه وسلم ومنهم من آتاه شطر الحسن كيوسف صلى الله عليه وسلم ومنهم من آتاه ملكاً لم يؤته أحداً من العالمين كسليمان صلى الله عليه وسلم ومنهم من رفعه مكاناً علياً.. وفضلهم على العالمين.. ورفع الله العذاب العام عن أهل الأرض بهم وببعثتهم.. فأهلكت الأمم السابقة التي عصت بعذاب الاستئصال كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، فلما أنزل الله التوراة والإنجيل والقرآن رفع الله بها العذاب العام عن أهل الأرض، وأمر بجهاد من خالفهم، وجعل محمداً صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء والرسل، وجعل أمته خير الأمم، واختار منهم السابقين والأولين، واختار منهم أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، واختار لهم من الدين أكمله، ومن الشرائع أفضلها، ومن الأخلاق أزكاها.
واختار أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، ووهبهم من العلم والحلم ما لم يهبه لأمة سواها.
واختار سبحانه من الأماكن والبلاد والبقاع خيرها وأشرفها وهي البلد الحرام، وجعل فيها بيته المبارك، ومسجده الحرام، وجعله حرماً آمناً، لا يسفك فيه دم، ولا تعضد به شجرة، ولا ينفر له صيد، ولا يختلى خلاه، وجعل قصده مكفراً لما سلف من الذنوب، وسبباً لدخول الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ» متفق عليه (1).
وجعل الله سبحانه الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، فهو أفضل بقاع الأرض على الإطلاق، وهو في أم القرى، كما أن الفاتحة أم الكتاب.
والله سبحانه فضل بعض الأيام والليالي والشهور على بعض.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1773) واللفظ له، ومسلم برقم (1349).(9/7)
فخير الأيام عند الله يوم النحر يوم الحج الأكبر، وأفضل الليالي ليلة القدر، وأفضل الشهور شهر رمضان، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام.
والله تبارك وتعالى خلق جميع المخلوقات، واختار من كل جنس أطيبه، واختصه لنفسه، وارتضاه دون غيره، فإنه تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، ولا يحب إلا الطيب، ولا يقبل من الأقوال والأعمال والكلام والصدقات إلا الطيب.
فالطيب من كل شيء هو مختاره تعالى:
فله من الكلام الكلم الطيب، الذي لا يصعد إلى الله تعالى إلا هو، وهو أشد شيء نفرة عن الفحش في المقال، والتفحش في اللسان، والبذاء والكذب، وكل كلام خبيث.
ولا يحب من الأعمال إلا أطيبها وهي عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم .
واصطفى سبحانه من الكتب القرآن، واصطفى من الكلام أربعاً، وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وهو سبحانه أعلم بمن يشكره على نعمه فيختصه بفضله ويمن عليه ممن لا يشكره، فليس كل محل يصلح لشكره، واحتمال منته: (? ? ? ??) [الأنعام: 53].
وليس كل أحد أهلاً ولا صالحاً لتحمُّل رسالته، بل لها محال مخصوصة، لا تليق إلا بها، ولا تصلح إلا لها، والله وحده أعلم بهذه المحال: (? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 124].
وقد اختار الله عزَّ وجلَّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، واختار لهم أوسط القِبل وأفضلها، وهي الكعبة، وهم أوسط الأمم وخيارهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [البقرة: 143].
فاختار سبحانه أفضل القبل لأفضل الأمم، كما اختار لهم أفضل الرسل، وأفضل الكتب، وأفضل اللغات، وأخرجهم في خير القرون، وخصهم بأفضل الشرائع، ومنحهم خير الأخلاق، وأسكنهم خير الأرض، وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل، وموقفهم في القيامة خير المواقف، فهم على تل عالٍ والناس تحتهم.(9/8)
فسبحان من يختص برحمته من يشاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
فهذه الخصائص وغيرها من آثار رحمة الله وبركاته على أهل هذا البيت، وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نصلي على أهل هذا البيت كما صلى الله عليهم وملائكته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [الأحزاب: 56].
وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نطلب من الله تعالى أن يبارك عليه وعلى آله كما بارك على أهل هذا البيت المعظم في كل صلاة بقولنا: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» متفق عليه (1).
فجزى الله أهل هذا البيت عن بريته أفضل الجزاء، وزادهم في الملأ الأعلى تعظيماً وتشريفاً، وصلى الله وسلم عليهم صلاة دائمة لا انقطاع لها.
وهلا نتشبه بأهل هذا البيت، ونقتدي بهم، ونستن بسننهم؟.
وقد اتخذ الرب تعالى من الجنان داراً اصطفاها لنفسه، وخصها بالقرب من عرشه فهو سقفها، وهي الفردوس سيدة الجنان.
والله عزَّ وجلَّ يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من المخلوقات البشر، واختار من البشر المؤمنين، واختار الأنبياء والرسل من المؤمنين، واختار من الأنبياء والرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين إبراهيم ومحمداً عليهما الصلاة والسلام.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3370) واللفظ له، ومسلم برقم (406).(9/9)
واختار سبحانه من الملائكة جبريل.. واختار محمداً صلى الله عليه وسلم من البشر.. واختار من السموات العلا.. ومن البلاد مكة.. ومن الأشهر المحرم.. ومن الليالي ليلة القدر.. ومن أيام الأسبوع الجمعة.. ومن أيام العام يوم النحر ويوم عرفة.. ومن الليل ثلثه الآخر.. ومن الأوقات أوقات الصلوات الخمس: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 68].
والله حكيم عليم قسم بين العباد معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم، وهو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح له.
وهو سبحانه الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات بعلمه وحكمته.
وهو سبحانه أعلم بمواقع اختياره.
وكما خلق الله العباد وحده، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحاً، فكانوا صفوته من عباده، وخيرته من خلقه.
وهذا الاختيار دال على ربوبيته ووحدانيته، وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره.
والله عزَّ وجلَّ خلق السموات السبع، واختار العليا منها، وجعل فيها البيت المعمور، وجعلها مستقر المقربين من ملائكته، واختصها بالقرب من كرسيه وعرشه، وأسكنها من شاء من خلقه.
فلها مزية وفضل على سائر السموات، ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى.
وخلق سبحانه الكرسي وجعله محيطاً بالسموات والأرض: (? ? ? ?) [البقرة: 255].
وخلق سبحانه العرش، وجعله أكبر المخلوقات وأوسعها وأعلاها، واختاره من بين المخلوقات فاستوى عليه كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑڑ) [طه: 5].
وخلق سبحانه جنة الفردوس، وفضلها على سائر الجنان، وجعل عرشه سقفها، وغرسها بيده، واختارها لخيرته من خلقه.
وخلق سبحانه عالم الملائكة، واختار منهم المصطفين منهم على سائرهم كجبريل وميكائيل وإسرافيل.
فذكرهم سبحانه لكمال اختصاصهم واصطفائهم وقربهم من الله عزَّ وجلَّ.
فجبريل صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح.(9/10)
وميكائيل صاحب القطر الذي به حياة الأرض والنبات.
وإسرافيل صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه صعق من في السموات ومن في الأرض، فإذا نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون.
واختيار الرب تعالى لعبده نوعان:
أحدهما: اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا القسم غير ما اختار له سيده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الأحزاب: 36].
فاختيار العبد خلاف ما اختار الله له مناف لإيمانه وتسليمه، ورضاه بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً.
الثاني: اختيار كوني قدري كالمصائب التي يبتلي الله بها من شاء من عباده، فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه، ويدفعها ويكشفها، وليس في هذا منازعة للربوبية، وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر، فهذا القدر لا يسخطه الرب، بل يأمر به كما أمر بدفع قدر الجوع بالأكل، وقدر العطش بالشرب، وقدر المرض بالدواء.. وهكذا.
وأما القدر الذي لا يحبه ولا يرضاه، فهو قدر المعائب والذنوب، فالعبد مأمور بسخطها، ومنهي عن الرضا بها، ومطلوب منه التوبة منها.
فالحمد لله الذي أرسل إلينا أفضل رسله.. وأنزل علينا أحسن كتبه.. وشرع لنا أفضل شرائعه.. وجعلنا خير أمة أخرجت للناس.. وأعطانا وظيفة الأنبياء والرسل وهي الدعوة إلى الله.. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 110].
2- فقه النبوة والرسالة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [النحل: 36].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الحديد: 25].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجمعة: 2].(9/11)
الله تبارك وتعالى خلق الإنس والجن لعبادته، واختار الإنسان ليكون خليفة في الأرض، واختار للإنسان منهجاً لسير عليه وسماه الإسلام، وأرسل رسله إلى خلقه بذلك، وأمرهم أن يقولوا للناس شيئين:
الأول: أن يقولوا إن لهذا الكون رباًّ، ولهذا الكون إلهاً، ولهذا الكون خالقاً، ولهذا الكون آمراً، فجميع الأشياء والأمور بيد الله رب العالمين، فلا بد أن تؤمنوا به لتستفيدوا من خزائنه، وتسألونه حاجاتكم، أما نحن فما علينا إلا البلاغ، ونحن كغيرنا ليس بأيدينا شيء: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 188].
الثاني: أن يقولوا إن أردتم أن تستفيدوا من خزائن الله، خزائن الهداية والرحمة، وخزائن الأموال والأرزاق، وغيرها مما في خزائن الله، فعليكم أن تجعلوا حياتكم كحياة الأنبياء والرسل: إيمان وتوحيد، وعبادة ودعوة، وأخلاق حسنة.
وبذلك يكون الله معكم، وينصركم ويرزقكم، ويتولاكم ويعزكم كما فعل ذلك مع الأنبياء.
وإن أردتم أن يحبكم الله فاتبعوا رسله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [آل عمران: 31].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 71].
وأمر الله جميع الأنبياء والرسل بإقامة الدين في مجتمعاتهم وجمع الناس عليه كما قال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الشورى: 13].
وأمرهم بنقل فكر الناس من اليقين على المخلوق إلى اليقين على الخالق.. ومن اليقين على الأموال والأشياء إلى اليقين على الإيمان والأعمال الصالحة.. ومن الفكر في الدنيا إلى الفكر في الآخرة، ومن طاعة النفس والشيطان إلى طاعة الله ورسوله.. ومن عادات وتقاليد القبيلة إلى أحكام وآداب الشريعة.
وكل نبي أعطاه الله شيئين:
الدين.. والدعوة إلى الله.(9/12)
ثم أعطى الله محمداً صلى الله عليه وسلم ما أعطى الأنبياء جميعاً، لكن جعل رسالته لعموم البشرية، بل للإنس والجن، بل جعله رحمة للعالمين، وجعله خاتماً للرسل، وجعل أمته خير الأمم وآخرها، وأعطاها وظيفة الأنبياء والرسل، وأشرف الوظائف وأعلاها، وهي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 110].
وبنو آدم درجات: فمنهم العاقل والمجنون، والرشيد والسفيه، والمؤمن والكافر، وأعلاهم درجات الرسل ثم أتباعهم، ومهمة الأعلى أن يأخذ بيد الأدنى، فالأنبياء والرسل أرسلهم الله ليرفعوا البشرية من التشريعات البشرية السفلية إلى الإيمان والفضائل والتشريعات والأخلاق السماوية.
فإذا عكس البشر القضية وشد الأدنى الأعلى صار الجميع في المنحدر، وذلك ما يريده الشيطان وأتباعه.
وهذه الأمة أمة أمية، ونبيها أمي، والأمي كما ولدته أمه لم يأخذ ثقافته من مساويه بل أخذها من ربه الأعلى.
وإذا كان الله عزَّ وجلّ َقد حرم محمداً بالأمية من معطيات عقول البشر فقد وصله بالعلوية التي تعلم البشر، وتهدي البشر، وتملك البشر.
وأعداء الإسلام يعرفون هذا الدين، وهذا القرآن كما يعرفون أبناءهم.
يعرفون ما فيه من سلطان وقوة، وما فيه من خير وصلاح، وما فيه من أخلاق وآداب، وما فيه من سنن ونظام.
ويحسبون لهذا الكتاب ألف حساب، ويعلمون أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل الدين.
وهم يدرسون هذا الدين دراسة دقيقة ليعرفوا كيف يبني الرجال؟ وكيف تبنى الأخلاق؟ ليقوموا بتخريب هذا البناء، ويبحثوا عن مقتل لهذا الدين كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [البقرة: 217].
وقد اجتهدوا وبحثوا حتى خدعوا كثيراً من المسلمين، وحولوا الدين من حركة دافعة تحطم الباطل والجاهلية، وتجعل الدين كله لله.(9/13)
حولوه بعد جهود وتضحيات إلى حركة ثقافية باردة، وإلى بحوث نظرية ميتة، وإلى جدال فقهي أو طائفي فارغ، ومعلومات تصدع الرؤوس ولا تزكي القلوب وحولوا العقيدة إلى مفهومات وتصورات مدمرة له، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة مع أن أجنحتها وأخلاقها تكسر في كل لحظة، وفي كل ميدان، وفي كل بلد.
وفي النهاية ملؤوا فراغ العقيدة بتصورات أورثت الشك في دين الله، والإعراض عنه، وتجاوزه إلى غيره، وهبط أكثر المسلمين في القاع، لا في الزهد في الدين ونبذه فحسب، بل بتنفير الناس عنه بالأقوال والأفعال والصفات.
وقام في الأمة من بني جلدتنا ممن يتكلمون بألسنتنا من يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف، ويصد عن سبيل الله بلسانه وقلمه وحاله.
إن دور الأنبياء وأتباعهم إبلاغ دين الله، ولزوم هذا العمل، والصبر على مشاق الطريق.
أما هدى الناس أو ضلالهم فهو بيد الله وحده لا شريك له، وله سنة إلهية لا تتبدل، ولا يغير منها رغبة الرسول أو الداعي في هداية من يحب، كما لا يغير منها ضيقه ببعض من يعاند ويحارب ويؤذي كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 35].
إن شخصه لا اعتبار له في هذا الأمر، وحسابه ليس على عدد المهتدين، إنما حسابه على ما أدى وما صبر، وما التزم وما استقام كما أُمر، وأَمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس فهو العليم الحكيم: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [الأنعام: 39].
وجميع الخلق في قبضته، وهو أعلم بمن يصلح للهداية أو الضلالة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 35].
وصاحب الدعوة لا يجوز أن يعلق قلبه وأمله وعمله بالمعرضين عن الدعوة المعاندين لها، الذين لا تنفتح قلوبهم لدلائل الهدى، وموجبات الإيمان.(9/14)
إنما يجب أن يفرغ قلبه، وأن يوجه أمله وعمله للذين سمعوا واستجابوا، فهؤلاء في حاجة إلى بناء كيانهم لتزكو قلوبهم، ويتفقهوا في دينهم، وتصلح أخلاقهم، وهذا كله يحتاج إلى جهد بعد جهد الدعوة.
أما الواقفون على الشق الآخر فجزاؤهم بعد الدعوة الإهمال والإعراض، وحين ينمو الحق في ذاته، فإن الله يجري سنته كما قال سبحانه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [الأنبياء: 18].
وقد خلق الله بني آدم، وأخذ عليهم العهد: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 172].
وزودهم بالعقول، وفطرهم على التوحيد، ولكن الله قدر برحمته ألا يحاسبهم على ما فطرهم عليه من التوحيد، ولا على ما وهبهم من العقول.
بل أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فجعل برحمته الحجة عليهم الرسالة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [النساء: 165].
فعلم الله تبارك وتعالى أن الفطر والعقول لا تكفي وحدها للهدى دون رسول من الله.
وقد بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل والناس إذ ذاك أحد رجلين:
إما كتابي معتصم بكتاب مبدل، أو محرف، أو منسوخ، ودين دارس، بعضه مجهول، وبعضه متروك.
وإما أمي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من كوكب، أو وثن، أو قبر، أو تمثال، أو نار، أو غير ذلك مما زينه الشيطان وغرَّبه العباد، وقد آمن من هؤلاء أكثر ممن آمن من أهل الكتاب.
والنبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم كما قال صلى الله عليه وسلم : «أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأوَّلُ شَافِعٍ وَأوَّلُ مُشَفَّعٍ» أخرجه مسلم (1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2278).(9/15)
فقد أخذ الله الميثاق على جميع البشر أن يؤمنوا به، لكن ثواب من آمن به وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظم من ثواب الإيمان المجمل الذي أقرت به الأمم السابقة، فله عليه الصلاة والسلام نصيب من إيمان كل مؤمن من الأولين والآخرين، كما أن ضلال وغواية كل إنسان من الجن والإنس لإبليس منه نصيب، وعهد آدم عليه الصلاة والسلام وما بعده إلى ما قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يشبه زمن طفولة الإنسان، وزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن كمال الإنسان.
فجاء محمد صلى الله عليه وسلم بالدين الكامل الشامل الباقي إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 3]. فالمولود يخاط له ثوب صغير، وكلما زاد طوله يخاط له أكبر، فإذا اكتمل طوله يخاط له ثوب يبقى طوله إلى أن يموت.
وهكذا الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم صالح كامل، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه، باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يقبل الله ديناً سواه بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [آل عمران: 85].
وقد أرسل الله الرسل لهداية الكفار، وإصلاح من فسدت حياته من المسلمين، وقد بعث الله الأنبياء والرسل ليأمروا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [النحل: 36].
فمن آمن من الناس بما جاءت به الرسل حصلت له السعادة في الدنيا والآخرة، واستفاد من قدرة الله، فإن الله لما آمنوا به وأطاعوه أحبهم وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات.
فالاستفادة من المخلوقات يشترك فيها المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، لكن يمتاز المؤمن بحصول البركة في رزقه.
أما الاستفادة من قدرة الله فلها شرطان:
الإيمان.. والتقوى.
وهي خاصة بالأنبياء ومن آمن بهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].(9/16)
وقال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [غافر: 51، 52].
فنوح صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى الإيمان وعبادة الله وحده لا شريك له، ولم يؤمن به إلا القليل، فسأل ربه أن يهلك من استكبر وكفر فأغرقهم الله بالماء.
وكذا هود صلى الله عليه وسلم أهلك الله من لم يستجب له بالريح العقيم.
وموسى صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يهلك عدوه فرعون وقومه لما كذبوه فأغرقهم الله في البحر.
وقارون لما أعرض عن الدين واستغنى بماله خسف الله به وبداره الأرض.
وقوم لوط لما كذبوا لوطاً، وأصروا على فعل الفاحشة، قلب الله عليهم ديارهم، وحصبهم بحجارة من السماء.
وعطش أصحاب موسى صلى الله عليه وسلم فدعا الله فخرج لهم الماء من الحجر اثنتا عشرة عيناً.
ودعا صالح صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام فلم يؤمنوا فدعا عليهم فأخذتهم الصيحة مشرقين، فهلكوا جميعاً.
ومحمد صلى الله عليه وسلم عطش أصحابه فدعا الله فخرج لهم الماء من بين أصابعه، فشربوا منه.
وهكذا سائر الأنبياء والمؤمنين إنما يستفيدون من قدرة الله بالإيمان والأعمال الصالحة.
وقد أعطى الله تبارك وتعالى الأنبياء شيئين:
الدعوة.. والدعاء.
فالدعوة للبشر، والدعاء لله، فالحوائج تقضى بالدعاء وسؤال الرب الذي يملك كل شيء، وخزائنه مملوءة بكل شيء، بعد فعل الأسباب المشروعة، وأحياناً تقضى بالأموال والأسباب ابتلاءً للمؤمن، واطمئناناً للكافر.
وبالدعاء يأتي اليقين على الأعمال الصالحة.
فعندما يتأخر نزول المطر نصلي.. وعندما تكسف الشمس نصلي.. وعندما نريد النصر نصلي.. وهكذا في سائر الحوائج نتوجه إلى الله دائماً، ونسأله وندعوه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 153].
والمطلوب في كل عمل أن نقوم بالعمل على الطريقة التي ورد بها، فمن جاء بالعمل بدون طريقته لم يقبل.
والمطلوب في هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور:(9/17)
تعلم سننه.. وتعلم اليقين على سننه.. وتعليم الناس ذلك.
والله عزَّ وجلَّ جعلنا خير أمة أخرجت للناس، وأكرمنا بالدين الكامل، وشرفنا بالدعوة إليه.
وحتى نؤدي الأمانة، ونحقق مراد الله في عباده، يجب أن يكون قدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم ويتحقق ذلك بثلاثة أمور:
الأول: أن نتبعه صلى الله عليه وسلم في صورته وشكله.
الثاني: أن نتبعه في سيرته وعبادته، ومعاملاته، ومعاشراته، وأخلاقه.
الثالث: أن نتبعه في سريرته، وفي إيمانه بربه، ويقينه عليه، واستسلامه له، والتوكل عليه، والخشية منه، وتفويض الأمر إليه.
ونتبعه في الفكر والهم الذي في قلبه صلى الله عليه وسلم ، وهو همّ هداية الناس، ودعوتهم إلى الله، ورحمتهم والشفقة عليهم، حتى يخرجوا من الظلمات إلى النور: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 158].
والله سبحانه لما بعث الأنبياء صار الناس قسمين:
الأول: المؤمنون الذين آمنوا بالله، وأسسوا حياتهم على الغيب.
الثاني: الكفار الذين لم يؤمنوا، وأسسوا حياتهم على المشاهدات، فهؤلاء الحيوان خير منهم؛ لأن الحيوان يذكر الله، والكافر ميت لا يذكر الله، والحيوان يعرف إشارة صاحبه، والكافر لا يعرف أوامر خالقه ولا يؤمن بها.
والحيوان يعرف رزقه وما ينفعه ولا يأكل إلا الطيب، والكافر يأكل ما ينفعه وما يضره، ويغشي المحرمات بلا حياء، ويكفر بالنعم والمنعم بها: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 44].
وجميع الأنبياء والمرسلين دعوا الناس من الشرك إلى التوحيد.. ومن الكفر إلى الإيمان.. ومن المخلوق إلى الخالق.. ومن الأموال والأشياء إلى الإيمان والأعمال الصالحة.. ومن دار الفناء إلى دار البقاء.
فاجتهدوا على القلوب والأبدان لتكون حياة الناس مطابقة لحياة الأنبياء.
واجتهدوا على العيون حتى ترى ما يحب الله ورسوله.
واجتهدوا على الآذان حتى لا تسمع إلا ما يحب الله ورسوله.(9/18)
واجتهدوا على العقول حتى لا تفكر إلا فيما يحب الله ورسوله.
واجتهدوا على الأيدي حتى لا تفعل إلا ما يحب الله ورسوله.
واجتهدوا على الأقدام حتى لا تمشي إلا فيما يرضي الله ورسوله.
فعملهم العبادة، ووظيفتهم الدعوة، فعلينا الاقتداء بهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 90].
والنبي صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، وبعد بعثته لا بدَّ من اتباعه، ومن تبع غيره حتى لو كان نبياً يعد مخالفاً، وعمله غير مقبول كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [آل عمران: 85].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأَمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ، إِلا كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ» أخرجه مسلم (1).
وجميع الأنبياء قاموا بالدعوة إلى الله بين أقوامهم، فمنهم من آمن، ومنهم من لم يؤمن، ومنهم من استجاب، ومنهم من لم يستجب.
وسنة الله أنه بعد كل الجهود تظهر النتائج، فالله يظهر قدرته بعد تكميل الجهد، فالذين آمنوا بالرسل أنجاهم الله وأسعدهم في الدنيا والآخرة.
وأهلك الله كل من لم يؤمن بالرسل من الأمم السابقة تارة بالماء، وتارة بالريح، وتارة بالخسف.. وتارة بالصيحة.. وتارة بالحجارة.. كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [العنكبوت: 40].
وأساليب دعوة الأنبياء واحدة:
فأولاً: يعرضون أنفسهم وما جاءوا به على الناس، وإذا احتاجوا لعرض الدين على الناس أن يبذلوا أموالهم وأنفسهم بذلوها.
وثانياً: لا يسألون الناس على دعوتهم لهم شيئاً كما قال سبحانه عن كل رسول أنه قال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشعراء: 109].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (153).(9/19)
وثالثاً: إذا عارضهم الناس أو طردوهم أو شتموهم فلا يجاوبون جهالتهم بالجهالة، وإنما يصبرون عليهم ويدعون لهم بالهداية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 60].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» متفق عليه (1).
ورابعاً: أنهم يدعون الناس إلى الله بالشفقة والرحمة والتواضع واللين في جميع الأحوال.
وخامساً: أنهم يقومون بالدعوة إلى الله في جميع الأوقات ليلاً ونهاراً كما قال نوح: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [نوح: 5، 6].
ويدعون إلى الله في جميع الأحوال، حال الأمن وحال الخوف، وحال الصحة وحال المرض، وحال الإقامة وحال السفر.
والأنبياء والرسل هم أول من عرف منافع التوحيد والإيمان والطاعات، وأول من عرف مضار الشرك والكفر والمعاصي والبدع.
ولكمال معرفتهم بذلك يَغْشَون الناس لدعوتهم إلى الله في البيوت والأسواق، ويطرقون الأبواب، ويقطعون المسافات، ويصعدون الجبال، ويصبرون على كل ما يصيبهم في سبيل تنفيذ ما أمروا به.
ويرحمون الناس ويكرمونهم، ويبذلون من أجل ذلك أموالهم، والناس يؤذونهم ويسبونهم فيعفون عنهم، ويصبرون على أذاهم.
فالأنبياء يدعون الناس إلى ربهم بالرحمة واللين وحسن الخلق، وأهل الباطل ينشرون باطلهم بطريق الشدة والكبر والتسلط كما قال الشيطان لفرعون: أعلن للناس ليرهبوك ويرجوك: (? ? چ چچ) [النازعات: 24].
ثم أمره بقتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 4].
ثم سخر فرعون بموسى قائلاً ما حكى الله عنه: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [الزخرف: 52].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3477)، واللفظ له، ومسلم برقم (1792).(9/20)
فلما أوغل في العناد والاستكبار وآذى موسى وبني إسرائيل أغرقه الله في البحر وأغرق معه آله ووزراءه وجنوده وقومه، ويدخلهم النار يوم القيامة: (? ? ? ? ?? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [غافر: 45، 46].
وقارون بغى وبخل، وأفسد بنفسه وماله، مع ما أنعم الله عليه بكثرة الأموال والأشياء كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 76].
فهل استجاب للنصيحة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 76، 77].
كلا لم يستجيب وإنما: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [القصص: 78].
فلما نصحه قومه وأبى وبغى خسف الله به وبداره الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [القصص: 81].
فكل من سار على هدي الأنبياء سعد في الدنيا والآخرة، ومن مشى وراء الشيطان خسر في الدنيا والآخرة ولو كان ملكاً كما حصل لفرعون، ولو كان غنياً كما حصل لقارون.
وجميع الأنبياء والرسل رجال من البشر من أهل القرى، ليس فيهم امرأة ولا ملك ولا جني ولا أعرابي، اصطفاهم الله واجتباهم، وبعثهم من خيار قومهم على غاية الكمال في الخلقة البشرية والأخلاق الحسنة، وهم معصومون في تحمل الرسالة وإبلاغها، ومن كبائر الذنوب، وإن وقعت منهم صغيرة لا يقرون عليها، بل يسارع النبي إلى التوبة منها، وهم أكثر الخلق تعظيماً لله، وحمداً له، وتكبيراً له، واستغفاراً له، وهم أعرف الخلق بالله، وأكملهم إيماناً به، وأعظمهم توحيداً له، وأحسنهم طاعة له.
وقد يبعث الله نبياً وحده، أو رسولاً وحده، وقد يجمع الله بين بعثة نبيين أو نبي ورسول أو أكثر في زمن واحد.(9/21)
كما بعث سبحانه إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبعث في زمنه لوطاً صلى الله عليه وسلم ، وكما بعث يعقوب وابنه يوسف عليهما الصلاة والسلام في زمن واحد، وكما بعث موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام في زمن واحد، وكما بعث داود وابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام في زمن واحد، وكما بعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام في زمن واحد.
وبنو إسرائيل هم أولو العلم الأول، وأنزل الله إليهم التوراة فيها هدى ونور، وتفصيل كل شيء كما قال الله سبحانه عن موسى صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 145].
ولهذا كانت أمة موسى أوسع علماً ومعرفة من أمة المسيح، ولهذا لا تتم شريعة المسيح إلا بالتوراة وأحكامها.
فإن المسيح وأمته محالون في الأحكام عليها، والإنجيل مكمل لها، متمم لمحاسنها، وغالبه مواعظ وزهد وأخلاق وحض على الإحسان والاحتمال والصفح، ثم جاء القرآن الكريم جامعاً لمحاسن الكتابين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [المائدة: 48].
والشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم أعظم الشرائع وأكملها، فظهور نبوته تصديق لنبواتهم، وشهادة لها بالصدق كما قال سبحانه عنه: (? ? ہ ہ ہہ) [الصافات: 37].
فالرسل قبله بشروا به، وأخبروا بمجيئه، فمجيئه هو نفس صدق خبرهم، وعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق، واللاحق يصدق السابق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 6].
وموسى صلى الله عليه وسلم اصطنعه الله لنفسه، وخصه بكلامه، وكان موسى صلى الله عليه وسلم من أعظم خلق الله هيئة ووقاراً، وأشدهم بأساً وغضباً لله، وبطشاً بأعداء الله، وكان لا يستطاع النظر إليه.
وموسى صلى الله عليه وسلم كان في مظهر الجلال، ولهذا كانت شريعته شريعة جلال وقهر.(9/22)
فأمته أمروا بقتل نفوسهم، وحرمت عليهم الشحوم وذوات الظفر وغيرها من الطيبات، وحرمت عليهم الغنائم، وعجل لهم من العقوبات ما عجل، وحملوا من الآصار والأغلال ما لم يحمله غيرهم.
وعيسى صلى الله عليه وسلم كان في مظهر الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان، وكان لا يقاتل ولا يحارب، وليس في شريعته قتال البتة، والنصارى يحرم عليهم دينهم القتال، وهم به عصاة لشرعه، وليس في شريعتهم مشقة ولا آصار ولا أغلال، والرهبانية ابتدعوها ولم تكتب عليهم كما قال سبحانه:
(گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [الحديد: 27].
وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فكان في مظهر الكمال الجامع لتلك القوة، والعدل والشدة في الله، وهذا اللين والرحمة والرأفة.
وشريعته أكمل الشرائع فهو نبي الكمال، وشريعته شريعة الكمال، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات.
ولذلك جاءت شريعته بالعدل إيجاباً له، وبالفضل استحباباً، وبالشدة في موضع الشدة، وباللين في موضع اللين.
فيذكر سبحانه العدل ويوجبه، ويذكر الفضل والإحسان ويندب إليه.
وحرم صلى الله عليه وسلم على أمته كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع.
وكل ما حرمه الله على هذه الأمة رحمة لهم، وما حرمه على من قبلهم عقوبة لهم.
وجعلهم سبحانه خير أمة أخرجت للناس، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم قبلهم، وكمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله، وكمل في كتابه من المحاسن بما فرقها في الكتب قبله، وكمل في شريعته من المحاسن ما فرقه في الشرائع من قبله.
وجعل هذه الأمة شهداء على الناس، واصطفاهم على الأمم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 78].
وقد خلق الله سبحانه آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفة في الأرض.(9/23)
وحقيقة الخلافة أن يأمر الله الكائنات فتطيعه، فكما أطاع الله، الله يأمر الكائنات فتطيعه، يأمر البحار والجبال، والملائكة والرياح فتطيعه كما أطاع الله، كما سخر الله الماء لنوح فأغرق الله به أعداءه، وكما سخر نفس الماء فجعله سبباً لنجاة نوح ومن آمن معه.
وكما سخر البحر لموسى فانغلق اثني عشر طريقاً يابساً وفي وقت واحد وبماء واحد وبأمر واحد أغرق الله فرعون وقومه، وأنجى موسى ومن آمن معه.
وكما سخر الله لداود الجبال والطير تسبح معه، وألان له الحديد يفعل به ما يشاء.
وكما سخر الله لسليمان الريح عاصفة تجري بأمره، وعلمه منطق الطير، وسخر له الجن.
وأنزل الملائكة يقاتلون مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وأخرج الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم فشرب الناس وتوضؤوا منه، وغير ذلك مما أعطى الأنبياء وأتباعهم.
وحتى يكون الإنسان على بصيرة من أمره، ويعيش حياة مستقرة، هيأ الله له نظاماً شاملاً كاملاً، لم يتدخل فيه أحد من الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم وسماه الدين، واصطفى لذلك الرسل وبعثهم به، ليكونوا قدوة للناس، وحفظ حياتهم من تأثير الشياطين.
وهؤلاء الرسل يقولون للناس:
الأمور كلها بيد الله، ونحن ليس بأيدينا شيء، فآمنوا بربكم يسعدكم ويقضي حاجاتكم، ويقولون كذلك إن أردتم أن يكون الله معكم، وأن تستفيدوا من قدرته وخزائنه، فاجعلوا حياتكم مطابقة لحياتنا، فيكون الله معكم كما كان معنا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 128].
وقد أرسل الله تبارك وتعالى الرسل إلى الأمم بالحق:
فمنهم من قبل الحق ثم تركه واعتمد على الأسباب وهم اليهود، فهؤلاء في النار، ومنهم من قبل الحق ثم ضل عنه وهم النصارى، فهؤلاء في النار: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 68].
ومنهم من قبل الحق وأخذ بالأسباب وتوكل على الله، فهؤلاء في الجنة لكن يعذبون بقدر ما تركوا من الحق.(9/24)
ومنهم من قبل الحق وأخذ بالأسباب ودعا إلى الحق وتوكل على الله، فهؤلاء في أعلى المنازل في الدنيا والآخرة.
وكل نبي وكل رسول دعا قومه إلى لا إله إلا الله، وبشر قومه بالثواب لمن آمن، وبالعقاب لمن كفر، ولكن الهداية بيد الله وحده، وهو أعلم بمن يصلح لها.
فنوح صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله، ودعا ابنه إلى الإيمان، وقال له: (ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [هود: 42].
وكان عنده نسبتان:
نسبة الأبوة، ونسبة النبوة.
ولكن ابنه كنعان كفر فهلك، وإن كان عنده نسبة البنوة، وأبوه نبياً؛ لأنه فقد النسبة الأم، وهي نسبة الإيمان بالله.
فكان يقين ابنه على غير الله، على المشاهدات، على الجبل، فكان يرى عصمته ونجاته في الجبل، وكان اعتماده على الجبل لا على رب الجبل، فغرق هو والجبل بالماء كما أخبر الله عنه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 43].
وهكذا كل من لم يقبل دعوة الأنبياء والرسل لهم الغرق والدمار والهلاك والعذاب في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 59].
وبما أن الأمم السابقة من طلب منهم آية تدل على صدق المرسل إليهم أجيب إليها، فإن لم يؤمنوا بعدها عاجلهم الله بعذاب الاستئصال.
ولكون هذه الأمة هي الخاتمة حفظها الله من عذاب الاستئصال، وشرفها بالدين والبقاء، والدعوة إلى الله إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 110].
وقد بعث الله الأنبياء والرسل لهداية البشرية إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وليأتي فيهم طلب الهداية من الله ليستفيدوا من قدرته، ومن خزائن الله بالإيمان والتقوى.
وقد جعل الله وظيفة هذه الأمة وظيفة رسولها محمد صلى الله عليه وسلم ، التي ذكرها الله بقوله: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??)
[الأحزاب: 45-48].(9/25)
فوظيفة كل مسلم ومسلمة تنحصر في هذه المسائل العشر المذكورة في الآية.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة لكل مسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
فالنبي صلى الله عليه وسلم قدوة للبشرية كلها إلى يوم القيامة:
في الإيمان، والعبادات، والمعاملات، والمعاشرات، والأخلاق، وفي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله فهذه حياته صلى الله عليه وسلم :
جهد على النفس بالعبادة.. وجهد على الغير بالدعوة.
وقت للعبادة كما قال سبحانه: (? ?? ? ? پ پپ پ ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [المزمل: 1-4].
ووقت للدعوة كما قال سبحانه: (ھ ھے ے ?? ? ??) [المدثر: 1-3].
فمن قام بهذين الأمرين فاز.. ومن تركهما خسر.
قال الله تعالى: (?? ? ? ? پپ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [العصر: 1-3].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أحكام جميع الأحوال التي يمكن أن يمر بها الإنسان، أحياناً بقوله، وأحياناً بفعله، فلا تخلو حال من أحوال الإنسان من سنن وأحكام يسير عليها الإنسان وفق أمر الله.
أباً أو ابناً.. وزوجاً أو زوجة.. وعماً أو خالاً.. وأخاً أو قريباً.. رجلاً أو امرأة.. غنياً أو فقيراً.. مقيماً أو مسافراً.. صحيحاً أو مريضاً.. بائعاً أو مشترياً.. كبيراً أو صغيراً.. راعياً أو تاجراً.. مربياً ومرشداً.. عابداً أو زاهداً.. عالماً أو معلماً أو متعلماً.. ضيفاً أو مضيفاً.. داعياً أو مدعواً.
وغير ذلك من الأحوال التي جاء الشرع بأحكامها مفصلة كاملة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 89].
ودعوة الأنبياء وجهدهم على أقوامهم ونصحهم لأممهم إنما هو شفقة عليهم، لا يريدون به شيئاً من الدنيا ولا من الناس، يستفيدون من الله، ويفيدون عباد الله، ويبتغون الأجر من الله لا من غيره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 47].(9/26)
وبقدر أذى أممهم لهم تكون شفقتهم عليهم، وكلما زاد الأذى منهم توجهوا إلى الله ليرحم أممهم، ويتوب عليهم، ويهديهم، ويعتذرون عنهم بأنهم لا يعلمون كما حكى النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد الأنبياء أنه ضربه قومه فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» متفق عليه (1).
أوقاتهم كلها لله.. يجتهدون على الناس بدعوتهم إلى الله والعمل بشرعه.. ويجتهدون أمام ربهم ويسألونه الهداية لعباده.
في النهار يوجهون عباد الله إلى الله، ويدعونهم إليه.. وفي الليل يدعون ربهم لرحمة عباده وهدايتهم، ويدعون لهم ويستغفرون لهم.
ألا ما أجهل البشر، وما أشد عداوة الشيطان لهم؟.
الأنبياء يدعونهم إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، وهم تارة يسبونهم، وتارة يؤذونهم، وتارة يسخرون منهم، وتارة يطردونهم، وتارة يقتلونهم: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [المائدة: 74].
وكل نبي جاء بالدين.. وجاء بجهد الدين.
فمن آمن به فاز وأفلح.. ومن خالفه واستغنى بملكه أو ماله أو جاهه أو تجارته أو زراعته أو صناعته أهلكه الله كما فعل الله بقوم نوح وعاد وثمود، وكما فعل بقوم لوط، وكما فعل بفرعون وقومه.
فإن قام مخالف واحد أهلكه الله كقارون.
وإن قامت عائلة أهلك الله العائلة.. وإن قام جماعة أهلك الله الجماعة.. وإن قام قوم أهلك الله القوم.. وإن قامت دولة أهلك الله الدولة.. وهكذا.
فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة بالإسلام قال لهم: انظروا للأنبياء السابقين كيف كانت عاقبة مخالفيهم؟.
كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [النحل: 36].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3477)، واللفظ له، ومسلم برقم (1792).(9/27)
فكل من قام مخلصاً بالدين وجهد الدين أيده الله بنصره وحفظه، فإن خالفه وآذاه واحد أهلكه الله، وإن خالفه جماعة، أو عائلة، أو قوم، أو قرية، أو دولة أهلكهم الله وتولى تدميرهم، وأنجى أولياءه كما قال سبحانه: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 44].
والله تبارك وتعالى ينصر المؤمنين من هذه الأمة كما نصر الأنبياء السابقين الذين يقدمون الشكوى إلى رب العالمين، ويتوجهون إلى ربهم ليكشف ما بهم من ضر، وينجيهم من أعدائهم، فاستجاب لهم وأنجاهم، ونصرهم وخذل أعداءهم، وهذه سنة جارية في نصر أوليائه وخذلان أعدائه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 7-9].
وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله يقوم على الدعوة إلى الإيمان بالله أولاً، ثم الدعوة إلى القيام بالأعمال ثانياً.
وكان جهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة المكية لإدخال الإيمان في القلوب لتستعد لقبول الأعمال، وذلك بتعريف الناس بربهم، وذكر أسمائه وصفاته وأفعاله، وجلاله وجماله، وعظمته وكبريائه، ليعرفوه ويعظموه ويكبروه، فإذا عرفوه توجهوا إليه وحده دون سواه، وذكر آلائه ونعمه وفضله وإحسانه إلى الخلق ليشكروه ويحمدوه ويتوجهون إليه في قضاء حوائجهم.
وذكر قصص الأنبياء مع أممهم، وكيف نصر الله رسله وأولياءه، وخذل أعداءه وأهلكهم.
وفي الحياة المدنية كان حفظ الإيمان وزيادته بسبب قوة الأعمال، وقوة الجهد على النفس وعلى الغير، ففي مكة كانت قوة الاستعداد لفعل الأوامر، وفي المدينة كان تنفيذ الأوامر بالرغبة والمحبة والشوق كالعبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج ونحو ذلك، وكذلك الجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله، وحسن المعاملات والمعاشرات والأخلاق والآداب.(9/28)
فنزلت الأحكام في المدينة كالمطر، شاملة لكل أحوال الإنسان، واستقبلها الصحابة بإيمان تام، ويقين راسخ، وفرحوا بها، وتلذذوا بأدائها، وتنافسوا في المسارعة إليها، والإكثار منها، وسلموا أنفسهم لله بالإيمان والطاعة، ولرسوله بكمال الانقياد والامتثال فكانوا حقاً أعظم وأفضل نواة لخير أمة أخرجت للناس في كل شيء:
في الإيمان.. والعبادات.. والمعاملات.. والمعاشرات.. والأخلاق.
وبهذا رضي الله عنهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
وأهم أعمال الأنبياء والرسل العبادة والدعوة، والجولة على الناس لدعوتهم إلى الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتجول على الناس ويزورهم ويدعوهم إلى الله، ويتلو عليهم القرآن، ويعلمهم السنن والأحكام، ويطعم جائعهم، ويعود مريضهم، ويكرم ضيفهم، ويجيب سائلهم، ويكسو عاريهم، ويقبل هديتهم ويثيب عليها، ويشكر لمحسنهم، ويعفو عن مسيئهم، فصلوات الله وسلامه عليه عدد نجوم السماء وذرات الأرض، والحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه على ما من به علينا من بعثة هذا الرسول الرحيم بهذا الدين العظيم.
فهل من ذاكر؟، وهل من شاكر؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 164].
وقال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 128].
ولا تصلح أحوال البلاد والعباد إلا بالدين الذي أنزله الله شريعة للعباد، ولما بعث الله يوسف صلى الله عليه وسلم إلى بني إسرائيل في مصر أعطاه الله الملك، وصلحت أحوال بني إسرائيل.
ولما أعرضوا عن الدين ضعف إيمانهم وقلت أعمالهم، وفسدت معاشراتهم، وساءت أخلاقهم، فاستجلبوا بذلك غضب الله، فسلط عليهم فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم وهو أذل الناس.(9/29)
ولما اشتد أذاه وزاد طغيانه أرسل الله الداعي إلى الله نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الله، ويدعو بني إسرائيل، فدعاهم إلى الله فآمن بنو إسرائيل، وكفر فرعون وجنوده، فأغرق الله فرعون وجنوده، وأنجى الله موسى ومن آمن معه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک ک گ گ گ گ ? ??) [الذاريات: 38-40].
والله حكيم عليم جعل الرسل واسطة بينه وبين عباده في بيان الدين، وما أحل لهم، وما حرم عليهم.
وجعل العلماء واسطة بين الرسل وأممهم في إبلاغ العلم والهدى، فالرسل بلغت ذلك إلى أممهم، والعلماء بلغوا ذلك إلى من بعدهم، فالعلماء ورثة الأنبياء، ورثوا العلم وبلغوه إلى من بعدهم، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
والعالم الرباني: هو الذي يعمل بعلمه ويخشى الله ويتقيه، ويعلم الناس أمور دينهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [آل عمران: 79].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 9].
وأمراض القلوب أشد وأخطر من أمراض الأبدان؛ لأن غاية مرض البدن أن يفضي بصاحبه إلى الموت، وأما مرض القلب فيفضي بصاحبه إلى الشقاء الأبدي، ولا شفاء لهذا المرض إلا بالعلم الإلهي؛ ولهذا اصطفى الله الأنبياء والرسل، ورباهم وأرسلهم إلى الأمم بالهدى والعلم الإلهي الذي به صلاح العالم.
وكثير من الأفراد والشعوب والأمم يستغنون عن الأطباء، وأما العلماء بالله وأمره وشرعه فهم حياة الوجود وروحه، ولا يستغنى عنهم طرفة عين.
وحاجة القلب إلى العلم والإيمان أعظم من حاجة البدن إلى الطعام والتنفس والعلم للقلب، كالماء للسمك إذا فقده مات، ولهذا سماه الله شفاءً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [يونس: 57].
وتزكية النفوس بالإيمان والهدى أصعب من علاج الأبدان وأشد، ولا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريق الأنبياء والرسل.(9/30)
فتزكية النفوس البشرية مسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها وجعلها على أيديهم دعوة وتعليماً، وبياناً وإرشاداً، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجمعة: 2].
وقد شرع الله سبحانه التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال الصالحة كالحج، وقيام الليل، وبعد صلاة الفريضة، وبعد كمال الوضوء ونحو ذلك؛ لأن العبد لا بدَّ له من الغفلة، والنسيان والتقصير.
ولما كان إبلاغ الدين والجهاد في سبيله من أعظم وظائف الرسل، وقد قام بها النبي صلى الله عليه وسلم وأداها كما أمره ربه، شرع له الاستغفار عقيبها بعد أداء ما أمر به فقال له ربه: (? ? ? ? ?? ? ? ? چ چ چ چ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النصر: 1-3].
فأمره سبحانه أن يسبح بحمد ربه الذي خلقه وهداه واجتباه، وأعانه ووفقه حتى تمكن من أداء ما أمر به، وأن يستغفر ربه من كل ذنب ليلقى ربه طاهراً مطهراً من كل ذنب، فيقدم عليه مسروراً راضياً مرضياً عنه.
وقد بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ليس بمسلط عليهم ولا قهار لهم، ولم يبعث ليجبرهم على الإسلام أو يكرههم عليه، وإنما أمره ربه الذي أرسله أن يذكِّر بكلامه من يخاف وعيده، فهو الذي ينتفع بالتذكير، وأما من لا يؤمن بلقائه ولا يخاف وعيده ولا يرجو ثوابه فلا ينتفع بالتذكير كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [ق: 45].
وقد جرت سنة الله التي لا تتبدل أن العزة والغلبة والنصر والتمكين لرسله وأوليائه بالحجة والقهر.
فمن أمر منهم بالحرب نصره على عدوه، ومن لم يؤمر بالحرب أهلك الله عدوه كما أهلك قوم نوح بالماء، وقوم عاد بالريح، وقوم ثمود بالصيحة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المجادلة: 21].(9/31)
والله تبارك وتعالى له الخلق كله، وله الأمر كله، وكل شيء وقع في وقته الذي هو أليق الأوقات بوقوعه فيه كان أحسن وأنفع وأجدى، كما إذا وقع الغيث في أحوج الأوقات إليه، وكما إذا وقع الفرج في وقته الذي يليق به.
وجميع أقدار الرب تعالى على عباده واقعة في أليق الأوقات بها فـ: (? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 3].
وقالت الملائكة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [مريم: 64].
ومن رحمة الله العزيز الرحيم بعباده أن أرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
وكلما ضل الناس أو انصرفوا عن عبادة الله إلى غيره بعث نبياً يردهم إلى ربهم وخالقهم.
فبعث الله نوحاً صلى الله عليه وسلم أحوج ما كان الناس إلى بعثته.
وبعث سبحانه هوداً صلى الله عليه وسلم أحوج ما كان الناس إلى بعثته.
وبعث صالحاً صلى الله عليه وسلم أحوج ما كان الناس إلى بعثته.
وبعث سبحانه إبراهيم صلى الله عليه وسلم أحوج ما كان الناس إلى بعثته.
وبعث موسى صلى الله عليه وسلم كذلك، وبعث عيسى صلى الله عليه وسلم كذلك.
وبعث محمداً صلى الله عليه وسلم أحوج ما كان أهل الأرض إلى إرساله.
فهدى به من الضلالة، ودل الأمة على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، وكانت بعثته أعظم نعمة امتن الله بها على أهل الأرض قاطبة.
والله سبحانه خلق كل شيء، وأعطى كل موجود خلقه المختص به، ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال.
فهدى الحيوان إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره.. وهدى الجماد المسخر لما خلق له، فله هداية تليق به، ولكل نوع من الجماد والنبات والحيوان هداية تليق به.
فسبحان (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 50].
ومن تأمل بعض هدايته المبثوثة في العالم شهد بأنه الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم، وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسر نظر، وأول وهلة، وأحسن طريق وأخصرها.(9/32)
فإن من لم يهمل هذه الحيوانات والمخلوقات، ولم يتركها سدىً، ولم يتركها معطلة، بل هداها إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها، كيف يليق به أن يترك النوع الإنساني الذي هو خلاصة الوجود، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه، مهملاً ومعطلاً وسدىً، لا يهديه إلى أقصى كمالاته، وأفضل غاياته، بل يتركه معطلاً لا يأمره ولا ينهاه، ولا يثيبه ولا يعاقبه، هذا من أكبر المحال؟.
إن هذا لا يليق بجلال الله وحكمته، ويتعالى الله عنه، وقد نزه الله نفسه عن هذا الحسبان فقال: (ے ے ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 115، 116].
فمن لم يهمل أمر كل دابة في الأرض.. وأمر كل طائر في الجو.. وأمر كل حيوان يسبح في البحر.. بل جعلها أمماً وهداها إلى غاياتها ومصالحها.. كيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم وما يسعدكم في الدنيا والآخرة؟.
بل رحمكم فبعث إليكم رسله.. وأنزل عليكم كتبه.. لتحصل لكم الهداية.. وتتم عليكم النعمة كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?گ) [المائدة: 3].
والله عزَّ وجلَّ كما يحمي أنبياءه ورسله ويصونهم ويحفظهم، ويتولاهم وينصرهم، كذلك يبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم، وسخريتهم بهم، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم تارة ساحر، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وتارة كذاب، وآذوه وسبوه، وشتموه وسخروا منه، وكادوه وحاربوه وكذبوه.
وضربوا له أمثالاً، وهو أبعد خلق الله منها، وقد برأه الله منها، وقد علم كل عاقل أنها كذب وافتراء وبهتان: (? ? ? ?ٹ? ٹ ٹ ٹ?? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? چ چ چ چ ? ??? ? ? ? ??) [الحاقة: 38-43].(9/33)
وفي هذا الابتلاء بأذى الكفار للأنبياء والرسل ليستوجبوا كمال كرامته، وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس، فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة، فيمحقهم بسبب بغيهم وعدوانهم، فيعجل تطهير الأرض منهم، ويجعل العاقبة لرسله وأتباعهم، وليحصل لهم كمال اليقين على قدرة ربهم ونصره لرسله وأوليائه إذا فعلوا ما أمرهم الله به: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يوسف: 110].
وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بشريعة كاملة لعموم البشرية إلى يوم القيامة.
ولرسالته صلى الله عليه وسلم عمومان:
الأول: عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم فلا يخرج أحد من الناس بعد بعثته عن عموم رسالته البتة.
الثاني: عموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم التي بها صلاحهم في معاشهم ومعادهم، وأنه لا حاجة إلى أحد سواه البتة، وإنما حاجتنا إلى من يبلغنا عنه ما جاء به صلى الله عليه وسلم .
فمن لم يستقر هذا في قلبه لم يرسخ قدمه في الإيمان بالرسول، فما جاء به هو الكافي الذي لا حاجة بالأمة إلى سواه، وإنما يحتاج إلى غيره من قل نصيبه من معرفته وفهمه.
فبحسب قلة نصيبه من ذلك تكون حاجته.
وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدين الكامل، وتوفي صلى الله عليه وسلم وترك الأمة على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيع عنها إلا هالك، وتوفي صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وقد ذكر للأمة منه علماً، بل علمهم أحكام كل شيء، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، وشريعته كاملة، ما طرق العالم شريعة أكمل منها في بيان كل شيء.
فيجب على كل إنسان الإيمان بعموم رسالته في ذلك، كما يجب الإيمان بعموم رسالته بالنسبة إلى المكلفين عربهم وعجمهم، وإنسهم وجنهم.(9/34)
فكما لا يخرج أحد من الناس عن رسالته البتة، فكذلك لا يخرج حق من العلم والعمل عما جاء به.
ومن ظن أن شريعته ناقصة تحتاج إلى من يكملها فهو كمن ظن أن الناس بحاجة إلى رسول آخر بعده، وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك، فقد جاء صلى الله عليه وسلم بخير الدنيا والآخرة بحذافيره، ولم يجعل الله بهم حاجة لأحد سواه.
ولهذا ختم الله به ديوان النبوة، فلم يجعل الله بعده رسولاً؛ لاستغناء الأمة به عمن سواه، فصلوات الله وسلامه عليه.
ومن فضل الله ورحمته وإحسانه إلى هذه الأمة أن جعلهم خير أمة أخرجت للناس، وجعل الرسالة فيهم، واختار أفضل الرسل منهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجمعة: 2].
فالذي يتلوه عليهم هو الحق، وما أعظم فضل الله حين يخاطب الله العبيد بكلامه، يتلوه عليهم رسوله: (ٹ ٹ ? ? ??) [الحج: 65].
ولولا فضل الله ورحمته ما زكى من الخلق أحد، ولا تطهر ولا ارتفع، ولكن العزيز الكريم أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم يطهر أرواح الناس من لوثة الشرك، ودنس الجاهلية، ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات، فلا ترتكس أرواحهم في حمأة الرذيلة، ويطهر حياتهم بما جاء به من الدين من الظلم والبغي، ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب، وينشر فيهم العدل والإحسان.
ويعلمهم الكتاب والحكمة الذي به قوام حياتهم وعزتهم، وهو مادة التوجيه والإعلام والإرشاد.
والاستقامة على الحق والتواصي به أمر عظيم يتطلب الصبر، ويجعل الإنسان مشدود الأعصاب، مضطرب الفؤاد؛ لما يراه من كثرة الأعداء وقلة الناصر، وقلة ذات اليد.
فلا بدَّ من الصبر على الطاعات.. والصبر عن المعاصي.. والصبر على البلاء.. والصبر على جهاد الأعداء.. والصبر على بطء النصر.. والصبر على انتفاش الباطل.. والصبر على قلة الناصر.. والصبر على ثقلة العناد.. والصبر على السب والشتم والضرب والقتل.(9/35)
وقد أمر الله رسوله بالصبر على كل ذلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 60].
وأمر أمته كذلك بالصبر والمصابرة ليحصل لهم الفوز والفلاح كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 200].
وحين يطول الأمد قد يضعف الصبر أو ينفذ إذا لم يكن هناك زاد، ومن ثم أمرنا الله بالصلاة التي بها تتجدد الطاقة ويزيد الإيمان، فيمتد حب الصبر ولا ينقطع.
فلا بدَّ للإنسان الفاني الضعيف أن يتصل بربه الكبير، ويستمد منه العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة، حينما تواجهه قوى الشر الظاهرة والباطنة، وحينما يثقل عليه جهد الاستقامة بين دفع الشهوات، وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة مرة، وحينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة.
هنا لا بدَّ له من الاتصال بربه، فيتوجه القلب المتعب المكدود إلى خالقه، وهنا يستجيب الله لمن دعاه، ويؤيده ويثبته ويؤنسه، ولا يدعه يقطع الطريق وحده، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة، بل يمدهم بما ينفعهم حين ينفذ زادهم، ويوجههم للحصول على ذلك إلى أمرين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 153].
والدين الذي بعث الله به الأنبياء والرسل هو منهج الحياة الذي أراده الله للبشر، ونظام الحياة الذي يربط حياة الناس بمنهج الله.
فكل دين جاء به الرسل يقوم على أربعة أصول:
الأول: الإيمان بالله وحده لا شريك له، والتوجه إليه، والاستعانة به في جميع الأحوال.
الثاني: الشعائر التعبدية التي تربط المخلوق بخالقه كالصلاة ونحوها.
الثالث: الشرائع والأحكام التي تنظم حياة الناس وفق أمر الله.
الرابع: الأخلاق العالية التي تهذب النفوس، وتزكي القلوب.
فالدين الحق الذي يريده الله وأرسل به رسله يقوم على هذه الأصول الأربعة جميعاً، فلا يمكن أن ينفك الإيمان عن الشعائر التعبدية، عن الشرائع والأحكام، عن القيم الأخلاقية، في أي دين يريد أن يصرف حياة الناس وفق المنهج الإلهي.(9/36)
وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس وفي الحياة، ويخالف مفهوم الدين الذي أراده الله عزَّ وجلَّ.
فالدين تنظيم كامل وشامل لحياة الناس كلها، لا يقتصر على المشاعر الوجدانية وحدها، ولا يقتصر على العبادات والشعائر وحدها، ولا يقتصر على الجانب التهذيبي للأخلاق وحده، ولا ينفصل فيها الجانب التشريعي عن الجانب الروحاني التعبدي الأخلاقي.
وبدون هذه الأمور مجتمعة لا يكون دين على الإطلاق كما قال سبحانه محذراً من فعل بعضها وترك الآخر: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [البقرة: 85].
فتوحيد الرب وعبادته وطاعته، وطاعة رسوله، والتخلق بأخلاقه، واتباع الشرائع والسنن التي جاء بها، والدعوة إلى ذلك، والصبر عليه، هذا هو الصراط المستقيم، وما عداه عوج وضلال وانحراف كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الأنعام: 153].
وهذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يلتقط الفرد الإنساني، بل المجموعة الإنسانية، من أي مستوى؟ ومن أي درجة؟ ومن أي جنس؟.
ويرفعها لتدرج في مدارج العز والعلا، والأمن والطمأنينة، والسعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [آل عمران: 103].
والله عزَّ وجلَّ أرسل الرسل لهداية البشرية إلى الحق، ولتطاع بإذن الله، لا لمجرد الإبلاغ والإقناع كما قال سبحانه: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 64].
فإذا آمن الناس بالله فلا بدَّ أن يعملوا بدينه، ويتحاكموا إلى شرع الله ممثلاً في القرآن والسنة، ولا يكفي أن يتحاكموا إليه ليحسبوا مؤمنين، بل لا بدَّ أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 65].(9/37)
ولا بدَّ للمؤمنين أن يطيعوا الله، ويطيعوا الرسول، وأولي الأمر منهم، وترد المسائل التي تشكل إلى الله ورسوله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 59].
وكل نبي أرسله الله إلى قومه بسلطان مبين، فشريعة الله سلطان من الله، وكل شريعة غير شريعة الله ما أنزل الله بها من سلطان، وما جعل فيها من سطوة على القلوب، بل كلها عذاب وشقاء وإن لوحت بما تحبه النفوس، لذلك تستهين القلوب بالشرائع والقوانين التي يسنها البشر لأنفسهم، ولا تنفذها إلا تحت عين الرقيب، وسيطرة الجلاد القاسي، فأما شريعة الله فالقلوب تخضع لها، ولها في النفوس مهابة وخشية، وقد أرسل الله الأنبياء والرسل إلى أممهم يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويبشرونهم بما أعد الله للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان، وينذرونهم ما أعده الله للكافرين والعصاة من جحيم وغضب: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [النساء: 165].
وكل الأنبياء تلقوا الوحي من الله، وكلهم جاءوا بوحي واحد لهدف واحد: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [النساء: 163].
فهو موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من بني البشر، موكب من الأنبياء والرسل من شتى الأقوام والأجناس، وشتى البقاع والأرضين، في شتى الأوقات والأزمان.
لا يفرقهم نسب ولا جنس، ولا أرض ولا وطن، ولا لغة ولا لون، ولا وقت ولا زمن.
كلهم آت من ذلك المصدر الكريم، وكلهم يحمل ذلك النور الهادي، وكلهم يؤدي الإنذار والتبشير، وكلهم أرسله الله رحمة بالعباد، ليأخذ بزمام القافلة البشرية إلى ذلك النور.
سواء منهم من جاء لعشيرة، ومن جاء لقوم، ومن جاء لمدينة، ومن جاء لقطر، ثم من جاء للناس أجمعين وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وسيد المرسلين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 9].(9/38)
ولله الحجة البالغة الظاهرة البينة في الأنفس والآفاق، وقد أعطى الله البشر من العقول ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق، وكان ذلك كافياً ليؤمنوا بالله سبحانه، ولكنه سبحانه رحمة منه بعباده، وتقديراً لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها الله لهم وهي العقل، اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، يذكرونهم ويبصرونهم، ويحاولون استنقاذ فطرتهم، وتحرير عقولهم من غلبة الهوى، وركام الشهوات التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى، وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق كما قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : (? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 2].
فالله رؤوف بالعباد، اقتضت رحمته بالناس أن لا يؤاخذهم على الشرك والكفر حتى يرسل إليهم الرسل، على الرغم مما أودعه فطرتهم من الاتجاه إلى ربها، فقد تضل هذه الفطر بسبب البيئة.
وعلى الرغم مما أعطاهم من قوة العقل والإدراك، فالعقل قد يضل وينهزم تحت ضغط الشهوات.
وعلى الرغم مما في كتاب الكون المفتوح من آيات بينات، فقد تتعطل أجهزة الاستقبال كلها أو بعضها في كيان الإنسان.
لقد ناط الله تبارك وتعالى بالرسل والأنبياء مهمة استنقاذ الفطر مما ران عليها من ركام الشهوات، واستنقاذ العقول من الانحراف، واستنقاذ البصائر والحواس من الانطماس.
وجعل سبحانه العذاب مرهوناً بالتكذيب والكفر بعد البلاغ والإنذار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [النحل: 36].
وهذه الحقيقة كما أنها تصور رحمة الله بهذا الإنسان وفضله عليه، كذلك هي تدل على أن الفطرة والعقل والحواس والبصائر لا تعصم من الضلال، ولا تهدي إلى يقين، ولا تصبر على ضغط الشهوات ما لم تساندها العقيدة، وما لم يضبطها الدين.(9/39)
فالله جل جلاله إنما يرسل رسله رحمة بعباده، فهو الغني الذي له ما في السموات وما في الأرض، فهو غني عنهم، وعن إيمانهم به، وعبادتهم له، وإذا آمنوا وأحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 6].
كذلك تتجلى رحمته سبحانه في الإبقاء على الجيل العاصي الظالم المشرك وهو القادر على أن يهلكه، وينشئ جيلاً آخر يستخلفه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأنعام: 133].
فلا ينسى الناس كلهم أنهم موجودون بأمر الله، وأنهم باقون برحمة الله، وأن بقاءهم معلق بمشيئة الله، وأن ما في أيديهم من سلطان إنما خولهم الله إياه.
فما لأحد في نشأته ووجوده من يد، وما لأحد فيما أعطيه من السلطان من قدرة، وأنتم أيها الكفار لستم بمعجزين، إنكم في يد الله وقبضته، ورهن مشيئته وقدره، فلستم بمفلتين أو مستعصين، ويوم الحشر ينتظركم، وإنه لآت لا ريب فيه، ويوم ذاك لن تعجزوا القوي المتين: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 134].
وسنة الله عزَّ وجلَّ مع الناس حين تجيئهم الرسالة فيكذبون أن يأخذهم أولاً بالضراء والبأساء، لعل هذا يهز قلوبهم الغافية فتستيقظ وتستجيب، ولعل المصيبة إذا أصابتهم أخضعت نفوسهم فتضرعوا إلى الله، واستكانوا للحق فإذا لم تهزهم يد البأساء، وكلهم الله إلى الرخاء وهو أشد فتنة من البأساء، حتى تلتبس عليهم سنة الله ولا ينتبهوا لها، ثم يأخذهم بعد ذلك بغتة وهم لا يشعرون كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 94، 95].
وكل قوم يُنظرون حتى يجيء رسولهم فينذرهم ويبين لهم، وبذلك يستوفون حقهم الذي أوجبه الله على نفسه، بأن لا يعذب قوماً إلا بعد الرسالة، وبعد الإعذار لهم بالبيان، وعندئذ يقضي بينهم بالقسط حسب استجابتهم للرسول كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [يونس: 47].(9/40)
والأمر كله لله، وليس لأحد من الأمر شيء، وعلى الرسل والأنبياء والدعاة إبلاغ دين الله، والهداية بيد الله وحده، يسوقها لمن يستحقها ويطلبها، ويمنعها من لا يستحقها ولا يطلبها: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [فاطر: 8].
وجميع الأنبياء والرسل دعوا أقوامهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فمنهم من آمن، ومنهم من كذب.
وهؤلاء المكذبون لا يسكتون عن الحق وأهله، فيؤذون الرسل وأتباعهم، ويسبونهم ويسخرون منهم.
وبعد الإنذار الطويل، والتذكير الطويل، والتكذيب الطويل، لا بدَّ أن ينتصر الله لأوليائه من أعدائه.
فيتوجه النبي إلى قومه متحدياً لهم، متوكلاً على ربه، مستعيناً به وليس معه إلا الإيمان بربه، القوة التي تصغر أمامها القوى، وتتضاءل أمامها الكثرة، ويعجز أمامها التدبير.
إنه الإيمان بالله العزيز الجبار، الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المهيمنة على هذا الكون بما فيه.
وليس هذا التحدي غروراً ولا تهوراً ولا افتخاراً، إنه تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوة الهزيلة الفانية التي تتضاءل مهما كانت أمام أصحاب الإيمان كما قال الله لرسوله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 71].
قال نوح صلى الله عليه وسلم لقومه: إن كان الأمر بلغ منكم مبلغ الضيق، فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم، وتذكيري لكم بآيات الله، فأنتم وما تريدون، وأنا ماض في طريقي، لا أعتمد إلا على الله وحده فهو حسبي.
أما أنتم فأجمعوا أمركم، وخذوا أهبتكم متضامنين غير مترددين، ثم اقضوا إلي، ونفذوا ما عزمتم عليه بشأني، ولا تنظروني ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد.
فكل استعدادي هو اعتمادي على الله وحده دون سواه، فهو مولاي وناصري ممن بغى علي وآذاني، ولو كانوا جميع أهل الأرض فربي لهم بالمرصاد.
أرأيت قوة اليقين في قلوب الأنبياء؟.(9/41)
إنه التحدي الصريح المثير، الذي لا يقوله قائل إلا وهو مطمئن إلى ربه، مالئ يديه من قوته، واثق كل الوثوق من عدته، حتى ليغري خصومه بنفسه، ويثيرهم بمثيرات القول على أن يهاجموه.
فماذا كان مع نوح صلى الله عليه وسلم من القوة والعدد والعساكر؟.
إنه الإيمان الذي يصله بربه، الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
وأصحاب الدعوة إلى الله لهم أسوة برسل الله، وأنه ينبغي أن تمتلئ قلوبهم بالثقة بالله حتى تفيض، وإن لهم أن يتوكلوا على الله وحده، ويقفوا في وجه الطاغوت أياً كان.
ولن يضرهم الطاغوت إلا أذىً يسيراً ابتلاء من الله، لا عجزاً منه سبحانه عن نصرة أوليائه، ولا تركاً لهم ليسلمهم إلى أعدائه، ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف، ثم تعود الكرة للمؤمنين، ويحق وعد الله لهم بالتمكين كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 111].
والله سبحانه يقص قصة نوح وهو يتحدى قوة الطاغوت في زمانه، هذا التحدي الواضح الصريح: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 72].
إنه لا ينقص أجري بتوليكم وإعراضكم، فإن أجري على الله، ولن يزحزحني هذا عن عقيدتي، فقد أمرت أن أسلم نفسي كلها لله.
فماذا كان من أمر الله؟، وماذا حصل لنوح ومن آمن به؟، وماذا حصل لمن كفر به؟.
(? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ??) [يونس: 73].
وعجل الله سبحانه إعلان نجاة نوح والمؤمنين معه؛ لأن نوحاً والمؤمنين معه كانوا يواجهون خطر التحدي للكثرة الكافرة، فلم تكن النصرة مجرد إهلاك هذه الكثرة، بل كان قبلها نجاة القلة المؤمنة من جميع الأخطار، واستخلافها في الأرض تعيد تعميرها، وتجديد الحياة فيها على منهج الله فترة من الزمان.
هذه سنة الله في الأرض، وهذا وعده لأوليائه، ووعد الله آت لا محالة بنصر أوليائه وخذلان أعدائه.(9/42)
وقد تتوافر القوة لمن لا يحكمون شريعة الله في قلوبهم ولا في مجتمعهم، ولكنها قوة إلى حين، حتى تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة الله، وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين، إنما استندت إلى جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج.
وهذه وحدها لا تدوم؛ لأن فساد الحياة بالكفر والمنكرات والفواحش يقضي عليها بعد حين حتماً، فإذا تميزت الأمة المسلمة بدينها عن الأمة الكافرة، وتمايز الفريقان ووقف جند الرحمن أمام جند الشيطان، كانت قوة الله مع المؤمنين، والقوة الهزيلة مع المخلوقين.
فيحق وعد الله بنصر رسله وأوليائه مع أعدائه مع قلتهم وقلة عددهم، وكثرة عدوهم وكثرة أسلحتهم فـ: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [البقرة: 249].
وهود صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى قومه عاد، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له فقال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 50].
فأبوا وأصروا على كفرهم، واغتروا بما هم عليه من النعيم، وما وهبهم الله من القوة والبطش والغلظة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 53].
وبعد هذا لم يبق لهود إلا التحدي وإلا التوجه إلى الله وحده، والاعتماد عليه وحده، وإلا الوعيد والإنذار الأخير للمكذبين الظالمين، فماذا قال لهم؟ وبأي شيء واجه قوتهم؟.
(پ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [هود: 54، 55].
وإن الإنسان ليدهش حقاً لرجل فرد يواجه قوماً غلاظاً شداداً حمقى، فيسفه أحلامهم وعقيدتهم، ويقرعهم ويؤنبهم، ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي، ولا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريثون فيفتأ غضبهم.
إنه لأمر عجيب أن يقتحم هذا الاقتحام رجل فرد على قوم غلاظ شداد، ولكن الدهشة تزول عندما يعلم الإنسان أنه رسول الله، والله معه، والإيمان يملأ قلبه، وإذا كان الله معه فلماذا يخاف البشر؟.
إنه يقول بإيمان الواثق من ربه: (پ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [هود: 54، 55].(9/43)
ثم تجمعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون أن أحدها مسني بسوء، ثم كيدوني بلا تريث ولا تمهل، فما أبالي بكم جميعاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [هود: 56].
إن ربي ورب الخلائق قوي قاهر، وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها، ويقهرها بقوته قهراً.
فما خوفه من هذه الدواب؟، وما احتفاله بها؟
وإن توليتم فقد أديت واجبي لله، ونفضت يدي من أمركم لتواجهوا قوة الله سبحانه، ويستخلف ربي قوماً غيركم، يليقون بتلقي دعوته، ويستقيمون على هدايته بعد إهلاككم، ولا تضرونه شيئاً فما لكم به من قوة.
والله حافظ دينه وسننه ورسله وأولياءه من الأذى والضياع: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ??) [هود: 57].
فلما أصروا على كفرهم وعنادهم وتكذيبهم لرسولهم أنزل الله بهم عقوبته، فأرسل عليهم الريح العقيم التي ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [الحاقة: 6-8].
وحقت عليهم لعنة الله بسبب كفرهم واستكبارهم كما قال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 59، 60].
وقد بعث الله الأنبياء والرسل إلى أقوامهم وأممهم، فبلغوا ما أمرهم الله به، ثم توفاهم الله، وسوف يجمع الله يوم القيامة بين الرسل ومن أرسلوا إليهم، وسيسألهم جميعاً كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ ??) [الأعراف: 6، 7].
وسوف يجمع الله الرسل يوم القيامة ويسألهم ماذا أجبتم كما قال سبحانه: (?? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 109].
سوف يجمع الله هؤلاء الرسل الذين فرقهم في الزمان فيتتابعوا على مداره، وفرقهم في المكان فذهب كل إلى قريته، وفرقهم في الأجناس فذهب كل إلى قومه، وكلهم يدعون إلى الله بإذنه.
سيجمعهم الله على مشهد من الملأ الأعلى.. وعلى مشهد من الناس أجمعين..(9/44)
إنه الاستجواب الذي يراد به المواجهة.. مواجهة البشرية برسلها.. ومواجهة المكذبين من هذه البشرية خاصة برسلهم الذين كانوا يكذبونهم ليعلن في موقف الإعلان أن هؤلاء الرسل إنما جاءوا من عند الله بدين الله.
فيعلنون أمام ربهم الذي أرسلهم أنه أعلم بهم وبأممهم، وأعلم بمن أجابهم، وأعلم بمن عصاهم؟.
وسوف يسأل الناس كلهم يوم القيامة عن أمرين:
(? ہ ہہ) [القصص: 65].
(? ? ? ??) [الشعراء: 92].
وفي ختام الاستجواب كلمة الفصل من رب العالمين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 119].
واختيار الرسل للرسالة موكول إلى علم الله المحيط بمن يليق بهذا الأمر، فالرسالة أمر هائل خطير، أمر كوني من الرب لعبد من عباده، يتصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود، وتتصل فيه السماء بالأرض، والدنيا بالآخرة، ويتمثل فيه الحق الكلي في قلب بشر، وفي واقع الناس.
ويتجرد فيه الإنسان من حظ ذاته ليخلص لتحقيق مراد ربه، ويصبح موصولاً بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة.
ولا تتم هذه الصلة إلا إذا كان الإنسان صالحاً للتلقي المباشر الكامل بلا عوائق ولا موانع، فليس أي أحد يصلح للرسالة والنبوة.
والله وحده هو الذي يعلم أين يضع رسالته، ويختار لها الذات التي تصلح أن ترسل من بين كافة البشر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 124].
والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة هم أولاً لا يصلحون لهذا الأمر، وهم جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل، ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح.
وقد جعلها الله سبحانه حيث علم، واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم، وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم من لدن نوح حتى انتهت إلى محمد صلى الله عليه وسلم خير خلق الله، وخاتم النبيين: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ) [الحج: 75، 76].(9/45)
وحياة الرسل والأنبياء وأتباعهم مملوءة بالابتلاء، وذلك لتربية قلوبهم على اليقين والصبر، لتتوجه إلى الله في جميع الأحوال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل من أشد الناس بلاء؟ فقال: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
وكم تبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل وهم يواجهون الكفار والمشركين، وأهل الإصرار والجحود، والعمى وأهل العناد.
وتمر عليهم الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم أحد إلا القليل، وتكر الأعوام والباطل في قوته وكثرة أهله، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة.
إنها ساعات حرجة في حياة الرسل والباطل ينتفش ويطغى، ويبطش ويغدر، والرسل ينتظرون الوعد، فلا يتحقق لهم في هذه الأرض، فتهجس في خواطرهم الهواجس.
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه البشر في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة، في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يوسف: 110].
__________
(1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2398) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249).(9/46)
تلك سنة الله في الدعوات، لا بدَّ من الشدائد، ولا بدَّ من الكرب، حتى لا تبقى بقية من جهد، ولا بقية من طاقة، ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس، يجيء النصر من باب واحد من عند الله العزيز الحكيم، فينجو الذين يستحقون النجاة.. وينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين.. وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون.. ويحل بأس الله ونقمته بالمجرمين، فلا يحسبن أحد أن شأن الدعوة هين، وشأن الإيمان سهل، بل لا بدَّ من الابتلاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 214].
وذلك كي لا يكون النصر رخيصاً، فتكون الدعوات هزلاً، فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئاً، والأدعياء لا يتحملون تكاليف الدعوة، فلا بدَّ من الابتلاء والصبر في محل الشدائد التي لا يصمد لها إلا الصادقون، الذين لا يتخلون عن دعوة الله ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة.
إن الدعوة التي كلف الله وشرف بها الأنبياء وأتباعهم ليست تجارة قصيرة الأجل، قد تخسر فيتركها إلى أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة.
إن الذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة، ولا يقوم برحلة مادية قريبة الأجل.
إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال، ويملكون استخفاف العامة، ويملكون تأليب الأمة على الدعاة إلى الله باستثارة شهواتها، وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات.
ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف، وأنه لن ينضم إليها في أول الأمر الأقوام المستضعفة المستخفة الطائشة، إنما ينضم إليها الصفوة المختارة التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة.(9/47)
وهم وإن كانوا قلة فإن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق بعد جهاد يطول أو يقصر، وعندئذ فقط يدخل الناس في دين الله أفواجاً كما حصل ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبر الله عنه بقوله: (? ? ? ? ?? ? ? ? چ چ چ چ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النصر: 1-3].
وقد أرسل الله كل رسول بلسان قومه، ليتمكن من إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، وليبين لهم، وليفهموا عنه، فتتم الغاية من الرسالة.
وعلى الرسول البيان والبلاغ، أما ما يترتب على ذلك من هدى أو ضلال فلا قدرة له عليه، وليس خاضعاً لرغبته، إنما هو من شأن الله الذي وضع الله له سنة (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 56].
فمن سار على درب الضلال ضل، ومن سار على درب الهدى وصل، وهذا وذاك يتبع مشيئة الله التي شرعت سنته في الحياة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ) [إبراهيم: 4].
والرسول صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى الإسلام حتى عم الإسلام الجزيرة العربية، ومن ثم تكون مهداً يخرج منه حملة رسالة محمد إلى سائر بقاع الأرض في كل زمان.
والحقيقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث برسائله إلى خارج الجزيرة العربية يدعو إلى الإسلام تصديقاً لرسالته إلى الناس كافة، ولكن الذي قدره الله له حسب عمره البشري المحدود أن يبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم قومه بلسانهم، وأن تتم رسالته إلى البشرية كافة عن طريق حملة هذه الرسالة إلى أصقاع الأرض وقد كان.
فلا تعارض بين رسالته للناس كافة، ورسالته بلسان قومه في تقدير الله وفي واقع الحياة.
ومن رحمة الله بعباده أن جعل لكل قوم هاد منهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 164].(9/48)
ألا ما أعجب البشر، بدل أن يعتزوا باختيار الله لواحد منهم ليحمل رسالته إليهم، فإنهم لجهالتهم ينكرون هذا الاختيار، ويجعلونه مثار ريبة في الرسل المختارين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 94].
وما المانع أن يختار الله بشراً رسولاً، ويمن عليه ببعثته إلى الناس؟.
والرسل لا ينكرون بشريتهم، ولكنهم يوجهون الأنظار إلى منَّة الله عليهم في منحهم ما يؤهلهم لحمل الأمانة الكبرى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 11].
وهي منَّة ضخمة لا على أشخاص الرسل وحدهم، ولكن كذلك على البشرية التي تتشرف باختيار أفراد منها لهذه المهمة العظمى، مهمة الاتصال والتلقي من الملأ الأعلى، وهي منَّة كبرى على البشرية جمعاء.
إن الله تبارك وتعالى ربى الأنبياء على الإيمان والتقوى، فواجهوا الطغيان بالإيمان، وواجهوا الأذى بالصبر والثبات؛ لأنهم مطمئنون إلى ربهم متوكلون عليه، فما لهم بغيره من حاجة كما قال الرسل لأممهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 12].
إنها كلمة المطمئن إلى موقفه وطريقه، المالئ يديه من وليه وناصره، المؤمن بأن الله الذي يهدي السبيل لا بدَّ أن ينصر ويعين.
والقلب الذي يحس أن يد الله سبحانه تقود خطاه، وتهديه السبيل، هو قلب موصول بالله القوي العزيز، فلا يتردد في المضي في الطريق مهما كانت العقبات.
وماذا يهم المسلم حتى ولو لم يتم النصر في الدنيا، إذا كان هو قد ضمن هداية السبيل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
وماذا يخاف القلب الموصول بالله؟ وماذا يخيفه من أولئك العبيد لربه؟.(9/49)
وقد حاول المشركون في مكة فتنة الرسول صلى الله عليه وسلم عما أوحى الله إليه، ليفتري على ربه غيره وهو الصادق الأمين، ولكن الله عصم رسوله من الفتنة وثبته على الحق، ولو تخلى عنه سبحانه لركن إليهم فاتخذوه خليلاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 73-75].
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة يأخذونها.
ومن حملة الدعوة من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هيناً، فأصحاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما يطلبون تعديلات وتنازلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق، ولا ريب أن الانحراف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق.
والذي يقبل التسليم أول مرة لا يمكن أن يقف عند ما سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد.
إن كل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر، وليس فيها فاضل ومفضول، وليس فيها ضروري ونافلة، وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 43، 44].
وأصحاب السلطان يستدرجون الدعاة، فإذا سلموا في جزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة، ورفع السعر، ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها.
والتسليم في جانب ولو يسير من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها إنما هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الحق والدعوة، وهذا خلل كبير في الاعتقاد، فالله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون في دعوتهم، وفي جميع أمورهم، وهو نعم المولى ونعم النصير، فما حاجتنا إلى غيره؟.(9/50)
ومتى دبت الهزيمة في أعماق القلوب فلن تنقلب الهزيمة نصراً، لذلك امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بأن ثبته على ما أوحي إليه، وعصمه من فتنة المشركين له، ووقاه من الركون إليهم، ورحمه من عاقبة هذا الركون، وهو عذاب الدنيا والآخرة مضاعفاً، وفقدان المعين والنصير.
وعندما عجز المشركون عن استدراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض أي مكة، ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجراً، لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة، ولو أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنوة وقسراً لحل بهم الهلاك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [الإسراء: 76، 77].
وقد جعل الله عزَّ وجلَّ هذه سنة جارية لا تتحول؛ لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم الفوري.
وهذا الكون تصرفه بأمر الله سنن مطردة لا تتحول أمام اعتبار فردي، فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشاً بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل لحكمة يعلمها لم يرسل الرسول بالخوارق، ولم يقدر أن يخرجوه عنوة، بل أوحى الله إليه بالهجرة، ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول.
وصاحب الدعوة غني بربه، يعلم أن مولاه ناصره ولا بدّ، ولا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله، ولا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه لينصره ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله.
والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه إلا أن يكون السلطان وخدمه من جندها، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ??) [الإسراء: 80].(9/51)
والله تبارك وتعالى يربي أنبياءه ورسله ويبتليهم؛ لتزكو قلوبهم، ويستعدوا لأعباء الرسالة، سواء كان الابتلاء بتكذيب قومهم لهم وإيذائهم كما في قصة نوح وهود، وصالح وشعيب، وإبراهيم ولوط صلوات الله وسلامه عليهم.
أو كان الابتلاء بالنعمة كما في قصة داود وسليمان، أو كان الابتلاء بالضر كما في قصة أيوب، فلا بدَّ من الصبر على تكاليف الرسالة وأعباء الدعوة وانتظار نصر الله لأوليائه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 34].
وقد أرسل الله يونس صلى الله عليه وسلم إلى قرية نينوى فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه، فضاق بهم صدراً، وغادرهم مغاضباً، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم، ظاناً أن الله لن يضيق عليه الأرض فهي فسيحة، والأقوام متعددون، والقرى كثيرة.
وقاده غضبه إلى شاطئ البحر فوجد سفينة مشحونة فركب فيها مع الركاب، حتى إذا كانت في لجة البحر ثقلت، فقال ربانها إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق، فساهموا فجاء السهم على يونس، فألقوه فالتقمه الحوت مباشرة بأمر الله واستلمه وضيق عليه أشد الضيق.
فلما كان يونس في الظلمات، ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، نادى ربه كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 87].
إن الدعوة إلى الله هي أم الأعمال، وأجورها أعظم الأجور، فلا بدَّ لأصحابها أن يتحملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 60].
وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقاً ولكنه بعض تكاليف الرسالة، فلا بدَّ من الصبر والتأني والرفق والحلم مهما واجه الداعية من الإنكار والتكذيب والعتو والجحود: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 33].(9/52)
ولا بدَّ من استحياء القلوب بكل وسيلة، ولا بدَّ من محاولة العثور على العصب الموصل، ولمسة واحدة قد تحول الإنسان تحويلاً تاماً من الشر إلى الخير، ومن الظلام إلى النور: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 17].
إنه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب؛ لأن الناس لا يستجيبون لدعوته، فيهجر الناس، إنه عمل مريح قد يهدأ به الغضب، وتهدأ الأعصاب، ولكن أين هي الدعوة؟.
وما الذي عاد إليها من هجران المكذبين المعارضين؟.
إن الداعية أداة في يد الله، والله أرعى لدعوته وأحفظ، فليؤد هو واجبه في كل ظرف، وفي كل جو، والبقية على الله، والهدى هدى الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [الأنعام: 35، 36].
وقد أعطى الله عزَّ وجلَّ كل نبي قوتين:
قوة الدعوة.. وقوة الدعاء.
وبحسب قوة الدعاء والاستجابة والاستقامة تكون سرعة إجابة الدعاء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 89، 90].
فهم كانوا يسارعون في الخيرات فسارع الله في استجابة الدعاء الصادر منهم، وهم يدعون ربهم رغبة في رضوانه، ورهبة من غضبه، وقلوبهم وثيقة الصلة بالله، وهم خاشعون لا متكبرون ولا متجبرون.
بهذه الصفات وبهذا اليقين وبهذا العمل استحق زكريا وزوجه أن ينعم عليهما بالابن الصالح يحيى، فكانت أسرة مباركة تستحق رحمة الله ورضاه.
وأحب شيء إلى الأنبياء والرسل أن يجتمع الناس على الدعوة، وأن يدرك الناس ما جاءوا به من عند الله فيتبعوه، وأن يؤمنوا بربهم ويعبدوه.
ولكن العقبات في طريق الدعوة كثيرة، والرسل بشر أجلهم محدود، وهم يحسون هذا ويعلمونه، فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الكهف: 6].(9/53)
والله عزَّ وجلَّ يريد أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة، وفق موازينها الشرعية، ثم من شاء أن يؤمن، ومن شاء فليكفر، ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق.
فالاستقامة على أصول الدعوة كفيلة أن تثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم في نهاية المطاف.
ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات فرصة للكيد للدعوة، وإلقاء الشبهات حولها في النفوس.
ولكن الله سبحانه يحول دون كيد الشيطان، ويحكم الله آياته، فلا تبقى هناك شبهة كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [الحج: 52].
وسنة الله جارية في إرسال الرسل لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له منذ عهد نوح صلى الله عليه وسلم إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، كل قرن يستوفي أجله ويمضي، وكلهم يكذبون، فتأخذهم سنة الله في الهلاك، ويصيرون عبرة لمن بعدهم: (? ? ? ? ? پ پپ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 43، 44].
وجميع الأمم يشغلهم عما جاء به الرسول من الآيات البينات والدين القويم الاعتراض على بشرية الرسول، وعلى وضعه ومكانته بينهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [المؤمنون: 45-48].
وكما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 94، 95].
فاستهانوا بهما وكذبوهما لبشريتهما، فأما آيات الله التي معهما، وسلطانه الذي بأيديهما، فكل هذا لا إيقاع له في مثل تلك القلوب المطموسة، سببه انقطاع الصلة بين قلوب هؤلاء الكفار الكبراء المترفين وبين الوحي الإلهي الذي يصل الإنسان بخالقه الكريم.
ومن رحمة الله بالبشرية أن أرسل إلى كل قوم رسولاً منهم، ولكن كفار مكة اعترضوا عليه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 7، 8].(9/54)
إنه يمشي في الأسواق ليكسب رزقه، فهلا كفاه الله ذلك، وحباه بالمال الكثير من غير كد ولا عمل، أو ألقى إليه كنز يغنيه عن السعي، أو تكون له جنة يأكل منها، هذا ما قالوه.
والله سبحانه لم يرد للأنبياء أشياء تشغلهم عما أرسلهم الله به، فلم يرد لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون له كنز، ولا أن تكون له جنة؛ لأنه سبحانه أراد أن يكون قدوة كاملة لأمته.
ينهض بتكاليف رسالته العظيمة الهائلة، ويسعى في الوقت ذاته في طلب رزقه كما يسعى رجل من أمته.
وقد انهال المال بعد الهجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدع هذا المال يشغله أو يعطله عن إبلاغ رسالة ربه، فأنفقه في وجوه البر والخير، وكان فرحه بإنفاقه أعظم من فرح الآخذ له.
وكان صلى الله عليه وسلم كالريح المرسلة في جوده، وكان أجود ما يكون في رمضان، وذلك ليستعلي على فتنة المال، ويرخص من قيمته في النفوس.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كَانَ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم أجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم أجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ». متفق عليه (1).
والله قادر أن يجعل لرسوله الأموال والجنات والقصور والخزائن، ولكنه سبحانه شاء أن يجعل له خيراً من ذلك، وهو الاتصال بالله خالق كل شيء، ومالك كل شيء، ومعطي كل شيء، والشعور برعايته وإحاطته، وتذوق حلاوة ذلك الاتصال الذي لا تقاربه نعمة من النعم، ولا متاع صغر أو عظم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 10، 11].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6) واللفظ له، ومسلم برقم (2308).(9/55)
وفوق هذا فسنة الله في جميع الرسل أنهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، فهي سنة مقدرة مقصودة، لها غايتها المرسومة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 20].
وأي غرابة في أكل الطعام والمشي في الأسواق فهذه سنة الله في جميع البشر، فلا يعترض على ذلك إلا جاهل لا يدرك حكمة الله في تدبير خلقه، فليصبر من يثق بالله وحكمته ونصره، فالله ابتلى الرسل بأممهم، وابتلى الأمم بالرسل، وابتلى الأغنياء بالفقراء، وابتلى الفقراء بالأغنياء؛ ليعلم سبحانه من يصبر على هذا الابتلاء، وينفذ أمر الله فيه.
ولا بد للمسلم من الصبر، وبث الشكوى إلى من بيده مقاليد الأمور، وقد واجه الأنبياء والرسل من أذى البشر ما لا يطيقه إلا من ثبته الله وأعانه، من الكفر والتكذيب، والسخرية والاستهزاء، والضرب والأذى، والتحقير والتنفير، والصد والإعراض.
وقد حكى الله عن رسوله شكواه لقومه أنهم هجروا كتاب ربهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 30].
لقد هجروا القرآن الكريم، الذي أنزله الله على عبده لينذرهم ويبصرهم، هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم، إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه رداً، وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدى على نوره، وهجروه فلم يجعلوه منهج حياتهم.
وتلك سنة الله في جميع الرسالات، فلكل نبي أعداء يهجرون الهدى الذي جاءهم به، ويصدون عن سبيل الله، ولكن الله يهدي رسله وأتباعهم إلى طريق النصر على أعدائهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 31].
ولله الحكمة البالغة، فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها، ويطبعها بطابع الجد والحزم.(9/56)
وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعوات الزائفة، وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائغين منهم، فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المخلصة، التي لا تبتغي مغانم قريبة، ولا تريد إلا الدعوة خالصة تبتغي بها وجه الله تعالى.
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة، تسلك طرقاً ممهدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل، ووقعت البلبلة والفتنة، وتمزقت الأمة شيعاً وأحزاباً.
ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتماً مقضياً، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقوداً، فلا يكافح ويناضل إلا أصحاب دعوة الحق الجادون، الذين يؤثرون الدعوة والحق على كل شيء مهما كان.
فلا يثبت على الكفاح المرير والجهد المتواصل إلا أصلبهم عوداً، وأقواهم إيماناً، وأكثرهم تطلعاً إلى ما عند الله، واستهانة بما عند الناس، عندئذ تتميز دعوة الحق عن دعوة الباطل، وتمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها، وأولئك هم الأمناء عليها.
والذي يقع غالباً أن أكثر الناس يقف متفرجاً على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات، فإذا ثبت أهل الحق ومضوا في طريقهم، قالت الكثرة المتفرجة: إنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم إلا أن وراءها ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن، وعندئذ يتقدمون ليروا ما هو العنصر الغالي الثمين الذي يجاهد هؤلاء من أجله، ويقدمون له حياتهم.
وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجاً في هذا الدين بعد طول التفرج على الصراع.(9/57)
فمن أجل هذا كله جعل الله لكل نبي عدواً من المجرمين، وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين، فيصيبهم ما أصابهم وهم ماضون في الطريق، ولهم إحدى الحسنيين إما النصر، وإما الشهادة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [التوبة: 52].
إن بروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي، فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية:
فساد في القلوب.. وفساد في الأخلاق.. وفساد في النظم.. وفساد في الحكم.. وفساد في الأوضاع.
ووراء هذا الفساد العام الطام يكمن المجرمون المفسدون، الذين ينشؤون الفساد من ناحية، ويستغلونه من ناحية، والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد، وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء.
فأمر عادي أن يبرز المجرمون للأنبياء وللدعوات دفاعاً عن وجودهم، واستبقاءً للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه.
وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة، ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر، وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن، وكذلك المجرمون.
ولكن دعوة الحق تنتصر في النهاية؛ لأنها تسير وفق أمر الله، موافقة للفطرة: (? ? ? ? ?) [الفرقان: 31].
وهناك فئة من الناس يعاندون ويستهزؤون بالأنبياء والدعاة، والأنبياء لم يقصروا في الدعوة، ولم يقصروا في الحجة، إنما العلة فيهم أنفسهم، فهم يجعلون من هواهم إلهاً يعبدونه، ولا يرجعون إلى حجة أو برهان.
فهذا النوع من الناس غير قابل للهدى، وغير صالح لأن يتوكل الرسول بأمره، ولا أن يحفل بشأنه، وقد أشار الله إلى هؤلاء بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 43].(9/58)
ثم يخطو القرآن خطوة أخرى في تحقير هؤلاء الذين يعبدون هواهم، فيسويهم بالأنعام التي لا تسمع ولا تعقل، ثم يخطوة الخطوة الأخيرة فيدحرجهم من درجة الأنعام إلى درك أسفل وأحط كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 44].
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على دين الله الثابت، المستند على فطرة الله التي فطر الناس عليها فقال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 30].
فهذا الدين هو العاصم من الأهواء والشهوات والشبهات، وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين، وكلاهما من الله.
والله الذي خلق القلب البشري، هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه، والفطرة ثابتة والدين ثابت، لا تبديل لخلق الله، فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة، فطرة البشر وفطرة الوجود: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 30].
وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف، لا عجزاً عن حياة المتاع، فقد عاش حتى فتحت له الأرض، وكثرت الغنائم، ومع هذا فقد كان يمضي الشهر والشهران وما يوقد في بيوته نار، مع جوده بالصدقات والهبات والهدايا، ولكن ذلك كان اختياراً للاستعلاء على متاع الحياة الدنيا، ورغبة خالصة فيما عند الله، رغبة الذي يملك ولكنه يقف ويستعلي ويختار.
ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مكلفاً من عقيدته ولا من شريعته أن يعيش مثل هذه المعيشة التي أخذ بها نفسه وأهل بيته.
فلم تكن الطيبات محرمة في عقيدته وشريعته، ولم يحرمها على نفسه حين كانت تقدم إليه عفواً بلا تكلف، وتحصل بين يديه مصادفة واتفاقاً، لا جرياً وراءها، ولا تشهياً لها، ولا انشغالاً بها، ولا انغماساً فيها.(9/59)
ولم يكلف أمته أن تعيش عيشته التي اختارها لنفسه، إلا أن يختارها من يريد استعلاءً على اللذائذ والمتاع.
ولكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن نساءً من البشر، لهن مشاعر البشر، وعلى فضلهن وقربهن من ينابيع النبوة الكريمة، فإن الرغبة الطبيعية في متاع الحياة ظلت حية في نفوسهن، فلما رأين السعة والرخاء بعدما أفاض الله على رسوله والمؤمنين راجعن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر النفقة، فلم يستقبلها بالرضا والترحيب، إنما استقبلها بالأسى وعدم الرضا، إذ كانت نفسه ترغب أن تعيش فيما اختاره لها، متجردة من الانشغال بذلك الأمر.
وأن تظل حياته وحياة من يلوذ به على ذلك الأفق السامي، بالتحرر من هواتف شهوات هذه الأرض الرخيصة، وأن تظل القيم الإسلامية العالية ممثلة ومترجمة في بيت النبوة، الذي سيبقى منارة للإسلام والمسلمين حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
فنزلت آية التخيير لنسائه، فإما الحياة الدنيا وزينتها، وإما الله ورسوله والدار الآخرة كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 28، 29].
فاختارت نساؤه الله ورسوله والدار الآخرة اختياراً مطلقاً، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بارتفاع قلوب أزواجه إلى هذا الأفق السامي الوضيء.
ولمكانة أمهات المؤمنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن أزواجه، ومحل القدوة لنساء العالمين، ولهن حقوق وعليهن واجبات؛ تبعاً للمكان الذي هن فيه، يناسب مقامهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 30].
فالعذاب يضاعف للمقارفة ضعفين، كما أن الأجر يضاعف على الطاعة والقنوت ضعفين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 31].(9/60)
وهن لسن كأحد من النساء، عليهن واجبات في معاملة الناس، وفي عبادة الله، وفي بيوتهن، وأمهات المؤمنين أطهر نساء على وجه الأرض، ومن عداهن من النساء أحوج إلى هذه الوسائل والتوجيهات.
فللمؤمنات مكانة عالية بين نساء العالمين، فعليهن أن يوفين هذا المكان حقه، ويقمن فيه بما يقتضيه: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ??) [الأحزاب: 32-34].
فهذه حال سيد المرسلين، وهذه أوامر نسائه، وهذا ما ينبغي أن تكون عليه نساء المؤمنين بين نساء العالمين إلى يوم القيامة.
إن النبوة والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية وفق أمر الله، وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهاج الإلهي، النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به وهم بشر، فلا بدَّ أن يكون رسولهم من البشر؛ ليحقق نموذجاً من الحياة يملكون هم أن يتبعوه.
ومن ثم كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم معروضة لأنظار أمته، وقد سجل القرآن الكريم هذه الحياة بوصفها تلك الصفحة المعروضة لأنظار أمته على مدار السنين والقرون:
حياته الشخصية.. وحياته المنزلية.. وحياته الأسرية.. وعباداته ومعاملاته.. ومعاشراته وأخلاقه.. وجهاده وغزواته.. وأحواله في سفره وإقامته.. وصحته ومرضه..
وسننه في حال الأكل والشرب.. والنوم واليقظة.. واللباس والركوب.. والسلم والحرب.. والغنى والفقر.. وهكذا..
حتى خطرات قلبه سجلها القرآن لتطلع على كل ذلك الأجيال، وتقتدي بها، وتسير على هديها إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
وقد أرسل الله الرسل مبشرين من أطاع الله بالجنة، ومنذرين من عصى بالنار، فيا حسرة على العباد تتاح لهم فرصة الفوز والفلاح، وفرصة النجاة، فيعرضون عنها، وأمامهم مصارع الهالكين قبلهم، لا يتدبرونها ولا ينتفعون بها.(9/61)
ويفتح الله لهم أبواب رحمته بإرسال الرسل إليهم الحين بعد الحين، ولكنهم يجافون أبواب الرحمة، ويسيئون الأدب مع الله: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يس: 30].
إن في إهلاك المكذبين الأولين عظة لمن يتدبر، فما بال الإنسان يرى مصارع الظالمين المخزية، ثم يسير مندفعاً في ذات الطريق والغرور يملي له؟.
إن جميع الخلق عائدون إلى الله، وليسوا بمتروكين ولا مفلتين من حساب الله بعد حين: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ) [يس: 31، 32].
إن العجب من أن يكون الرسول بشراً قاله كل قوم، وتعللوا به منذ بدء الرسالات، وتكرر إرسال الرسل من البشر، وظل البشر مع هذا يكررون الاعتراض.
ومن البلاء أن يكون أوجب شيء وأقربه إلى أن يكون هو الذي كان دائماً موضع العجب، فأي سفه فوق هذا؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 94، 95].
فما المانع أن يكون الرسول من البشر، يدرك كيف يفكر الناس، ويعرف ما يستطيعه البشر وما لا يستطيعونه من جهد وعمل، يعيش بينهم، ويكون قدوة لهم، وتكون لهم فيه أسوة، وهم يحسون أنه واحد منهم، بشر منهم، من جيلهم خرج، وبلسانهم يتكلم، يعرفون لغته، ويفهمون عنه، ويتجاوبون وإياه.
ومن ثم لا تقوم بينه وبينهم جفوة لاختلاف جنسه، أو اختلاف لغته، أو اختلاف طبيعة حياته، أو تفصيلات حياته.
فلم العجب مما خلافه هو العجب: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [ص: 4].
والرسول صلى الله عليه وسلم شاهد على هذه البشرية التي أرسل إليها، يشهد أنه بلغها ما أمر به، وأنها استقبلته بما استقبلت به، وأنه كان منها المؤمنون، ومنها الكافرون، ومنها المنافقون، وكان منها الصالحون، ومنها المفسدون، فيؤدي الشهادة كما أدى الرسالة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 45-47].(9/62)
والمكذبون للرسل لهم طبيعة واحدة، وجبلة واحدة، يستقبلون بها الحق والرسل: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ?ٹ) [الذاريات: 52، 53].
وما تواصوا بشيء لأنهم لم يلتقوا، وإنما هي طبيعة الطغاة والطغيان وتجاوز الحق في كل جيل.
والله جل جلاله يوجه الأنبياء وأتباعهم ألا يحفلوا بهؤلاء المكذبين، وأن يستمروا بالتذكير مهما أعرض المعرضون، وكذب المكذبون: (ٹ ٹ ٹ ? ?? ? ? ? ? ??) [الذاريات: 54، 55].
فالتذكير هو وظيفة الأنبياء والرسل وأتباعهم، والهدى والضلال خارجان عن هذه الوظيفة، والأمر فيها لله وحده لا شريك له.
والله عزَّ وجلَّ أرسل رسله بالبينات والبراهين، وأنزل معهم الكتاب والميزان لتحقيق العبودية لله رب العالمين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الحديد: 25].
فكل الرسالات جاءت رحمة من رب العالمين لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزاناً ثابتاً ترجع إليه البشرية لتقويم الأعمال، والأحداث، والأشياء، والرجال، والنساء، وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء، واختلاف الأمزجة، وتصادم المصالح والمنافع.
ميزاناً عادلاً لا يحابي أحداً؛ لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع، ولا يحيف على أحد؛ لأن الله رب الجميع.
هذا الميزان هو الدين الذي أنزله الله، وأرسل به رسله، هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات التي تحيق بها في معترك الأهواء، والعواطف، والمنافسة، وحب الذات.
فلا بدّ من ميزان ثابت يؤوب إليه البشر، فيجدون عنده الحق والعدل والإنصاف بلا محاباة، ليقوم الناس بالقسط وفق مراد الله.(9/63)
وكما أنزل الله الكتاب والميزان، فكذلك أنزل الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، وهذه إشارة إلى الجهاد بالسلاح، والذين ينصرون الله ورسله بالغيب، إنما ينصرون منهجه ودعوته ودينه، أما الله سبحانه فلا يحتاج إلى نصر من أحد، فإن الله قوي عزيز.
والله تبارك وتعالى وكل الأنبياء والرسل بنشر الهداية والدعوة إلى الله كما وكل الشمس بالإنارة، ووكل السحب بنقل المياه وتوزيعها في العالم.
فوظيفة الرسل الدعوة إلى الله، وإقامة حياة الناس على منهج الله الذي أرسلهم به إليهم، ليعبد الناس كلهم إلهاً واحداً لا إله إلا هو كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [النحل: 36].
وهذه الأمة مكلفة بما كلف الله به الأنبياء والرسل، وقد شرفهم الله بالقيام بذلك، وأسوتهم الأنبياء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الممتحنة: 6].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يوسف: 108].
فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتأسى بإبراهيم والذين معه، فله فيهم أسوة تتبع، وسابقة تهدي، في الدعوة والعبادة، وإقامة الدين في الأرض.
ومن أراد من هذه الأمة أن يتولى عن هذا المنهج، من أراد أن يحيد عن طريق القافلة، من أراد أن يقصر عن الصراط المستقيم، من أراد أن ينسلخ من هذا النسب العريق، فما بالله من حاجة إليه، فهو سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 68].
وقد جاءت الرسالات الإلهية كلها بوحدانية الله، وخلقه لهذا الوجود، ورعايته وتدبيره لكل كائن في الوجود، ودعوة الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإقامة حياتهم على منهج الله.
وإنما جاء الانحراف عن العقيدة الإيمانية من أتباعها، فبدا أنها لم تأت بالتوحيد الخالص، أو لم تأت بهيمنة الله وتدبيره لكل كائن، فهذا كله من التحريف الطارئ لا من أصل الديانة.(9/64)
فدين الله واحد منذ أول الرسالات إلى خاتمة الرسالات، ويستحيل أن ينزل الله ديناً يخالف هذه القواعد.
لكن الرسالة الخاتمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم أوسع وأدق وأشمل وأكمل من كل تصور سابق في الشرائع الإلهية السابقة.
وهذا متفق مع طبيعة الرسالة ومهمتها الأخيرة، ومع الرشد البشري الذي جاءت هذه الرسالة لتخاطبه وتوجهه، وتنشئ فيه هذا التصور الكامل الشامل بكل مقتضياته وفروعه وآثاره؛ ليدرك القلب البشري بمقدار ما يطيق حقيقة الألوهية وعظمتها، ويشعر بالقدرة الإلهية، ويراها في آثارها المشهودة في الكون، ويعيش في مجال هذه القدرة، وبين آثارها التي لا تغيب عن الحس والعقل والإلهام، ويراها محيطة بكل شيء، مهيمنة على كل شيء، مدبرة لكل شيء، حافظة لكل شيء، ولا يندّ عنها شيء، سواء في ذلك القليل والكثير، والصغير والكبير، والجليل والحقير.
وأن يعيش القلب البشري في حساسية مرهفة، وخشية وخوف، وطمع ورجاء، وأن يمضي في الحياة معلقاً في كل حركة وكل خالجة بالله، شاعراً بقدرته وهيمنته، شاعراً بعلمه ورقابته، شاعراً بقهره وجبروته، شاعراً برحمته وفضله، شاعراً بقربه منه في كل حال، وأخيراً يشعر بالوجود كله متجهاً إلى خالقه، فيتجه معه مسبحاً بحمد ربه، فيشاركه تسبيحه، مدبراً بأمره وحكمته، فيخضع لشريعته وأوامره: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 1].
والله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجن: 26، 27].
فكل رسول عبد لله، وهذا وصفه في أعلى درجاته ومقاماته، وظيفته الدعوة إلى الله، أما الغيب فهو مختص بالله دون العالمين، لا يعلمه أحد إلا الله، فلا يظهر على غيبه أحداً، إلا ما يطلع عليه رسله، في حدود ما يعاونهم على تبليغ دعوته إلى الناس، فما كان ما يوحي به إليهم إلا غيباً من غيبه، يكشفه لهم في حينه، ويكشفه لهم بقدر، ويرعاهم وهم يبلغونه، ويراقبهم كذلك.(9/65)
فالرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته يطلعهم على جانب من غيبه هو هذا الوحي، موضوعه وأحكامه، وقصصه وأخباره، والملائكة الذين يحملونه، ومصدره، وحفظه في اللوح المحفوظ.
وهو سبحانه في الوقت ذاته يحيط هؤلاء الرسل بالأرصاد والحراس من الحفظة للحفظ والرقابة، يحمونهم من وسوسة الشيطان ونزغه، ومن وسوسة النفس وتمنيها، ومن الضعف البشري في أمر الرسالة، ومن النسيان أو الانحراف، ومن سائر ما يعترض البشر من النقص والضعف.
إنها الرقابة الدائمة الكاملة للرسول وهو يؤدي هذا الأمر العظيم.
إنه يتلقى التكليف بالبلاغ، ولا يملك إلا أن يؤدي ما أمره به ربه.
فالله عالم بكل ما لديه.. وكل ما في قلبه.. وكل ما حوله.. ليس متروكاً لنفسه.. ولا متروكاً لضعفه.. ولا متروكاً لهواه.. ولا متروكاً لما يحبه ويرضاه.
إنما هو الجد الصارم، والرقابة الدقيقة من ربه، فهو يعلم ما حوله من الحرس والرصد، ويعلم ما هو مسلط عليه من علم وكشف، ويعلم من يراقبه، ويعلم من يحصي عليه أقواله وأفعاله: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [المائدة: 67].
إنه موقف يثير العطف على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى كل مسلم، كما يثير الرهبة حول هذا الشأن الخطير.
حقاً إن إنذار البشرية وإيقاظها وتخليصها من الشر في الدنيا، ومن النار في الآخرة، وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان، إن ذلك كله واجب ثقيل شاق حين يناط بفرد من البشر مهما يكن نبياً رسولاً.
فالبشرية من الضلال والعصيان، والتمرد والانحراف، والعتو والعناد، والإصرار والاستكبار، يجعل من الدعوة أصعب شيء، وأثقل ما يكلفه إنسان في هذه الحياة لولا عون الله وتوفيقه.
ولكن الله يصطفي ويختار من يصلح لهداية البشرية، ويربيهم ويهديهم، ويوفقهم ويعينهم على حمل الأمانة العظمى.(9/66)
إن الله عزَّ وجلَّ يأمر رسوله بإنذار البشرية كافة، ويوجهه في خاصة نفسه بعد إذ كلفه نذارة غيره إلى تكبير ربه كما قال سبحانه: (ھ ھے ے ?? ? ??) [المدثر: 1-3].
كبر ربك وحده، فهو وحده الكبير الذي يستحق التكبير، فكل شيء، وكل أحد، وكل مخلوق، وكل قيمة، وكل كائن صغير، والله وحده هو الكبير، والسموات والأرض، والأجرام والأحجام، والأحداث والأحوال، كلها تتوارى وتنمحي في ظلال الجلال والكمال لله الواحد الكبير المتعال: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 22-24].
وهو توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم ليواجه نذارة البشرية ومتاعبها وأهوالها وأثقالها بهذا التصور، وبهذا الشعور، وبهذا النظر.
فيستصغر كل كيد، وكل قوة، وكل عقبة، وكل شخصية، وهو يستشعر أن ربه الذي دعاه ليقوم بهذه المهمة والنذارة هو الكبير الذي بيده كل شيء ومشاق الدعوة وأهوالها في حاجة دائمة إلى استحضار هذا التصور، وهذا الشعور.
ويوجهه ربه كذلك إلى التطهر كما قال سبحانه: (? ??) [المدثر: 4].
فالطهارة هي الحالة المناسبة للتلقي من الملأ الأعلى، وهي ألصق شيء بهذه الرسالة، وهي ضرورة لملابسة الإنذار والتبليغ.
ومزاولة الدعوة في وسط التيارات والأهواء تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث.
ويوجهه كذلك إلى هجران الشرك، وموجبات العذاب كما قال له سبحانه: (? ??) [المدثر: 5].
ويوجهه كذلك إلى إنكار ذاته، وعدم المن بما يقدمه من الجهد، أو استكثاره واستعظامه كما قال سبحانه: (? ? ??) [المدثر: 6].
وهو صلى الله عليه وسلم سيقدم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيقوم بالكثير من الجهد والتضحية والعناء، ولكن ربه يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدمه، ويستكثره ويمتن به.(9/67)
وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل فيها، فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه، بل حين لا تستشعره من الأصل؛ لأنها مستغرقة في الشعور بالله، شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه، فهو فضل يمنحها الله إياه، وعطاء يختارها له، ويوفقها لنيله.
وهو اختيار واصطفاء وتكريم، يستحق الشكر لله لا المن والاستكثار.
وأخيراً يوجهه الله إلى الصبر لربه كما قال له: (? ??) [المدثر: 7].
والصبر وصية الله لكل رسول، وهي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بهذه الدعوة.
فالصبر هو الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة، وهي الدعوة إلى الله، المعركة المزدوجة مع شهوات النفوس، وأهواء القلوب، ومع أعداء الدعوة الذين تقودهم شياطين الشهوات، وتدفعهم شياطين الأهواء، وهي معركة طويلة عنيفة، لا زاد لها إلا الصبر الذي يقصد فيه وجه الله.
ومنهج الله تبارك وتعالى الذي أرسل به رسله كلهم واحد، وهو الإيمان بالله وعبادته وحده لا شريك له، وإقامة الحق والعدل بين الناس.
وكان كل رسول يؤمن بمن قبله، ويوصي أمته أن ينصروا الرسول المقبل، وقد أخذ الله الميثاق على الأنبياء، وكان هذا الميثاق أن كل رسول يأتي في عصر رسول آخر يؤمن به كما حدث بالنسبة لإبراهيم ولوط مثلاً، فقد أرسلا في عصر واحد، هذا يعالج داءً، وهذا يعالج داءً آخر، وكان كل منهما مؤمناً بالآخر.
وإن لم يكن النبي الآخر في عصره أوصى أمته بالإيمان به ونصرته وطاعته.
فرسالة الله عزَّ وجلَّ للبشرية، في جوهرها واحدة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [النحل: 36].
وقال سبحانه: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 81].
فالدعوة إلى منهج الله واحدة منذ أول الخلق حتى نهايته، فلا يتعصب قوم لملتهم ولا لنبيهم؛ لأنهم جميعاً يبلغون عن إله واحد منهجاً واحداً.(9/68)
فموكب الرسل موكب واحد متلاحم متعاضد متكامل، ولا يجوز لنبي ولا تابع نبي أن يصادم دعوة الرسول الذي يأتي بعده، ما دام مصدقاً لما بين يديه، ومزيداً عليه، وبذلك يزداد موكب الإيمان ولا ينقص.
فرب الناس هو الله، وعدو المؤمنين هو الشيطان، والكفار في كل زمان ومكان.
فكل من تولى وأعرض عن الرسول الجديد الذي جاء مصدقاً لما معهم، ومبيناً لهم بعض الذي اختلفوا فيه، فهذا يكون قد حارب موكب الإيمان، وفرق المؤمنين، وفسق عن الإيمان وخرج عنه.
لذلك فكل من أعرض وأعطى ظهره للنبي الجديد يقول الله عنه: (? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 82].
والفسق هو الخروج عن منهج الله لعباده، وقد أوجب الله علينا أن نأخذ الكمال الإيماني من مواكب الرسل جميعاً.
وما من رسول أتى وهاجم منهج الرسول الذي قبله أو سفهه أو أنكره.
بل كل رسول من رسل الله جاء مصدقاً بمن قبله، مبشراً بمن بعده، فمن آمن بهذا الرسول، وكفر بمن قبله من الرسل، فإنما هو بهذا خارج عن منهج الله؛ لأن الرسالات السماوية في جوهرها واحد، وفي مصدرها واحد: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [البقرة: 136].
والحقيقة: أن رفض الإيمان بالرسول الجديد له أسباب، وهذه الأسباب هي التي تدفع الذين اعتنقوا منهج الرسول السابق من تصديق الرسول الجديد.
وهؤلاء قد حرفوا وبدلوا منهج رسولهم لفائدتهم، ووضعوا منه ما لم يأمر به الله، وما لم يقله رسوله، ثم نسبوه إلى الله افتراءً وكذباً.
وهذا التحريف والتبديل، هو الذي يمنعهم من اتباع الرسول الجديد؛ لأن الرسول الجديد جاء بمنهج حق، يجردهم من ميزات الدنيا التي وضعوها لأنفسهم ومصالحهم، ونسبوها إلى الله ظلماً وعدواناً: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [البقرة: 79].(9/69)
فهل هؤلاء من المؤمنين وهم يقدمون أكل الدنيا على الإيمان بالرسول الجديد؟ وهل يمكن أن يقال إن هؤلاء بقوا على إيمانهم، أم أنهم خرجوا عن منهج الله؟
والله سبحانه تكرم على البشرية بإنزال منهج يحيط بالإنسان في جميع أحواله، فلا تجد تصرفاً بشرياً إلا وله أمر من الله يستوعبه كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 89].
فمنهج الله الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم يحيط بحياة الإنسان إحاطة كاملة.. وفيه شفاء للبشرية، وحل مسائلها إلى يوم القيامة.
فلا أحد يترك منهج الله وخاتم رسله إلا أن يكون له غرض شخصي، منهج يوافق هواه، فيترك منهج السماء، ويتبع منهجاً وضعه البشر، ولكن لماذا؟
إن الإنسان عادة لا يحب أن يتبع مساوياً له، بل لا بد أن يكون الذي يتبعه أعلى منه؛ لأن عنده ما لا يملكه، فيتبعه للحصول عليه، ولكنه يتنازل عن هذا، ويتبع منهجاً بشرياً من مساو له، وذلك حين تتلاقى المصالح والأهواء، ويحلل الحرام، ويباح كل منكر، فحينئذ يتبع الإنسان منهج الإنسان.
فالأمم والشعوب حين تترك منهج الله، الذي هو عدل لا هوى فيه، والذي يعطي كل إنسان حقه، والذي هو أمن وأمان للجميع، حين تترك منهج الله وتتبع منهج البشر فذلك من هوى النفس: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 50].
ومن عناية الله ببني آدم وكمال رحمته بهم أن أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين، منهم من قص الله علينا أخبارهم، ومنهم من لم يقص علينا أخبارهم، وذلك ليعلم الناس أن هناك مواكب للرسل.
ومن رحمة الله بعباده أنه لم يرسل رسولاً واحداً فقط كما نور الكون كله بشمس واحدة فقط لماذا؟
لأن الله عزَّ وجلَّ لو أرسل رسولاً واحداً في أول البشرية بتعاليم من الله، ثم بعد ذلك تعاقبت الأجيال، وأخفى كل جيل جزءاً من رسالة الله لضاعت الرسالة كلها.(9/70)
ولجئنا يوم القيامة مجادلين بأن ما وصلنا عن الله سبحانه وتعالى هو غير ما أراده الله سبحانه، وهنا لا يكون الحساب عدلاً.
ولكن الله سبحانه وتعالى أرسل مواكب الرسل لتبين وتظهر ما حرف في الرسالات السابقة، وما أخفي عن الناس، وما نسي بقدم العهد.
وكل رسول يعالج الأدواء التي حدثت في زمنه، والانحراف عن منهج الله الذي حصل، وكان هناك أكثر من رسول في وقت واحد كإبراهيم ولوط، ويوسف ويعقوب، وموسى وهارون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ثم جاء الكتاب الخاتم وهو القرآن الكريم، الذي جاء به الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ، وتكفل الله بحفظه إلى يوم القيامة، ليصل إلى العباد كما أنزله الله، ليس فيه إخفاء ولا تحريف ولا تبديل.
كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?ں) [الحجر: 9].
وجميع الأنبياء جاءوا بدعوة التوحيد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 25].
أما شرائعهم فهي مختلفة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں) [المائدة: 48].
فكل إنسان بفطرته التي فطره الله عليها يستطيع أن يهتدي بعقله إلى أن هناك خالقاً لهذا الكون، وهو الله وحده، ولكنه لا يستطيع أن يعرف ما هي مرادات الله من خلقه؟ ولا كيف يعبد الله؟ ولا كيف يشكر الله على نعمه؟ ولا يعرف ما يحب الله؟ ولا ما يبغض الله؟.
ولا يعرف ما هو الجزاء على الطاعات والمعاصي؟ ولا اليوم الآخر، ولا الجنة ولا النار؟.
ولذلك أرسل الله الرسل لبيان ذلك كله كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [النحل: 44].
فالرسل أرسلهم الله سبحانه مبلغين لمنهج الله، مفصلين أحكام دينه، مبشرين من أطاعوه بالجنة، منذرين من عصوه بالنار، مثبتين للذين آمنوا أمام أحداث الدنيا وتقلباتها، وجعلهم أسوة للعباد في جميع أحوالهم ليقتدوا بهم، فمن اقتدى فقد اهتدى كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 158].(9/71)
وجاءت رسل الله لتبشر خلق الله برحمة الله، وإنعامه عليهم في الدنيا والآخرة.
فهو سبحانه بعد أن خلق لهم النعم في الدنيا، ثم خلقهم فيها، زادهم فضلاً على فضل بأن خلق لهم الجنة لينعموا بها في الآخرة، فهو سبحانه رحمان الدنيا والآخرة، ورسوله رحمة للناس في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گگ) [الانبياء: 107].
ومن رحمة الله تبارك وتعالى أن أرسل الرسل من البشر، يختارهم منهم، حتى يكون الرسول شهيداً على من أرسل إليهم يوم القيامة.
فإن قالوا إن هذا المنهج كلفنا ما لا نطيق، كانت هذه الحجة مردوداً عليها، فإن هذا المنهج طبقه بشر مثلكم، ولم يتحمل فوق ما يطيق، وكان مثلاً لكم تحتذون به، فالتكليف مناسب للمكلف به.
ولو أرسل الله إلى البشر ملكاً لقال الناس هذا ملك مخلوق من نور، ونحن مخلوقون من طين، وله قدرات فوق قدرتنا.
ولكن كون الرسول بشراً، وكونه من بين قومه، وكونه يطبق المنهج، يسقط حجة هؤلاء جميعاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 94،95].
والرسل تهدي إلى طريق الحق والهدى، وتبين للناس أحكام الدين وتهديهم إلى الطريق المستقيم، وتوضح لهم سبله كما قال سبحانه لرسوله: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [الشورى: 52،53].
أما قبول الناس للهدى والدين أو عدم قبولهم له فذلك بيد الله وحده، فهو الذي يعلم من يستحق الهداية ويطلبها فيسوقها إليه، ويعلم من لا يستحق ذلك ممن لا خير فيه فيصرفه عنها كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 56].(9/72)
ومدار السعادة في الدنيا والآخرة وعنوان الفلاح إنما يكون بطاعة الله ورسوله، وكل رسول مأمور أن يبلغ ما أرسل به إلى الناس بلاغاً تقوم به الحجة، وليس بيده من هداية الناس شيء، ولا من حسابهم شيء، وإنما يحاسبهم على أعمالهم من الطاعات والمعاصي عالم الغيب والشهادة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [التغابن: 12].
وهذا القرآن الكريم فيه كل ما يسعد العباد في الدنيا والآخرة، وبه يصلون إلى أعلى المقامات في الدنيا والآخرة، لما اشتمل عليه من العلوم الشريفة، والسنن والآداب، والأحكام والشرائع، والأخلاق العالية، والترغيب والترهيب، وأحوال اليوم الآخر، حتى يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
فما الذي دهى الأمة حتى أعرضت عنه، ونبذت أحكامه وسننه وشرائعه؟
إن هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه حق واجب لكل إنسان، فيجب إيصاله إليه ودعوته إليه، حتى لا تكون فتنة وفرقة وخلاف، ويكون الدين كله لله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
وقد جمع الله للأنبياء بين الصديقية والنبوة، كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [مريم: 41].
والصديق كثير الصدق، فهو الصادق في أقواله وأفعاله وأحواله، المصدق بكل ما أمر بالتصديق به، وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب، المؤثر فيه، الموجب لكمال اليقين، والعمل الصالح الكامل.
وجمع لهم بين النبوة والرسالة، فالرسالة تقتضي تبليغ كلام الرسل، وتبليغ ما جاء به من الشرع دقه وجله.
والنبوة تقتضي إيحاء الله إليه، وتخصيصه بإنزال الوحي إليه، فالنبوة بينه وبين ربه، والرسالة بينه وبين الخلق، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [مريم: 51].(9/73)
والنبي صلى الله عليه وسلم ولد يتيماً.. ونشأ مسكيناً.. وعاش فقيراً.. ومع ذلك أمره الله بأمر عظيم، وهو إبلاغ رسالة الله ودينه إلى الناس كافة، وما أعطي لإبلاغ ذلك شيئاً من الملك والأموال والأسباب؛ لأن معه معية الله ونصرته، التي أيد بها رسله.
فنصره الله على قوم يقينهم أن الفوز والفلاح في الأموال والدولة، ومعهم قوة الأسباب، ويقينهم أن قضاء الحاجات في أيدي الأوثان والأصنام.
ووقف أهل الأرض في وجهه، ولكن الله نصره عليهم مع قلة الأسباب؛ لأن النصر ليس بيد الأسباب، بل بيد الناصر وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [غافر: 51].
وقد نادى الله جميع الأنبياء والرسل بأسمائهم، ونادى محمداً صلى الله عليه وسلم بوصف النبوة والرسالة.
فنادى آدم صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 35].
ونادى إبراهيم صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: (پ پ پپ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصافات: 104،105].
ونادى موسى صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [القصص: 31].
ونادى عيسى صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [آل عمران: 55].
أما محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين، وأفضل الأنبياء والمرسلين فقد ناداه ربه بوصف النبوة والرسالة؛ تذكيراً له بعظمة الوظيفة التي أرسل بها.
فقال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [المائدة: 67].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ) [الأحزاب: 45،46].(9/74)
وقد خير الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبداً رسولاً أو ملكاً رسولاً، فاختار العبودية على الملك؛ لأنها أقرب إلى التواضع والافتقار، ولأنه إذا كان عبداً كان افتخاره بمولاه ومالكه، ويعظمه ويحمده ويثني عليه، ويتشرف بذكر أسمائه وصفاته، وآلائه ونعمه وإحسانه، وإذا كان ملكاً كان افتخاره بملكه وعبيده وأمواله.
فالعبودية لله أعظم صفة شرف له ولأتباعه، وليس عند العبد شغل أو عمل إلا امتثال أوامر سيده، وطاعته في جميع الأحوال.
ولذا قال الله عنه في مقام الوحي: (چ چ ? ? ??) [النجم: 10].
وفي مقام الإسراء: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الإسراء: 1].
وفي مقام التنزيل: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 1].
وجميع الأنبياء والرسل أرسلهم الله عزَّ وجلَّ بثلاثة أشياء، وهي:
الدعوة إلى الله.. وبيان الطريق الموصل إليه.. وبيان حال المدعوين بعد قدومهم عليه.
فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل أمة، على لسان كل رسول.
فعرَّف الرسل ربهم عزَّ وجلَّ بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفاً مفصلاً حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه، ويرونه يأمر وينهى، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويفعل ما يشاء.
وعرَّفوا الخلق بالطريق الموصل إلى ربهم، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه لرسله وأتباعهم، وهو امتثال أمره، واجتناب نهيه، والإيمان بوعده ووعيده، وعرَّفوهم بما لهم بعد الوصول إليه، وهو ما تضمنه اليوم الآخر من الجنة والنار، وما قبل ذلك من الحساب، والميزان، والحوض، والصراط.
فقعد شياطين الإنس والجن على رأس القاعدة الأولى، فحالوا بين القلوب وبين معرفة ربها، وسموا إثبات صفاته وعلوه فوق خلقه واستواءه على عرشه تشبيهاً وتجسيماً، فنفروا عنه من انخدع بمكرهم وكيدهم.
وترتب على ذلك الإعراض عن الله، وعن معرفة أسمائه وصفاته، والإعراض عن ذكره ومحبته، والثناء عليه بأوصاف كماله، وانصرفت قوى حبها وشوقها وأنسها إلى سواه.(9/75)
وجاء أهل الآراء الفاسدة، والأذواق المنحرفة، والعوائد الجاهلية، فقعدوا على رأس الطريق الموصل إلى الله، وحالوا بين القلوب وبين الوصول إلى نبيها، وما كان عليه هو وأصحابه، وعابوا من خالفهم في قعودهم عن ذلك، ورغب عما اختاروه لأنفسهم، فتركوا الإيمان والأعمال الصالحة، واشتغلوا بالأموال والأشياء، ورغبوا بالدنيا عن الدين، والعادات والتقاليد عن العبادات والسنن.
وجاء أصحاب الشهوات فقعدوا على رأس طريق المعاد، والاستعداد للجنة ولقاء الله، وعمروا الدنيا، واتبعوا الشهوات، وقالوا لا نبيع حاضراً بغائب، وقالوا للناس خلوا لنا الدنيا، ونحن قد خلينا لكم الآخرة.
فالإيمان بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وشهود القلب لذلك هو مبدأ الطريق ووسطه وغايته، وهو روح السالكين، والحادي بهم إلى الوصول، ومحرك عزماتهم إذا فتروا، ومثير هممهم إذا قصروا، فإن سيرهم إنما هو على الشواهد.
فمن لا شاهد له فلا سير له ولا طلب، وأعظم الشواهد صفات محبوبهم ونهاية مطلوبهم، وذلك هو العلم الذي رفع لهم في السير فشمروا إليه.
ولا يزال العبد في التواني والفتور والكسل حتى يرفع الله عزَّ وجلَّ له بفضله ومنِّه علماً يشاهده بقلبه فيشمر إليه، ويعمل عليه.
فسبحان من حال بين أعدائه وبين محبته ومعرفته، والسرور والفرح به، ورؤيته، والتمتع بخطابه في محل كرامته، ودار ثوا به، فلو رآها أهلاً لذلك لمنَّ عليها به، وأكرمها به، والله أعلم حيث يجعل كرامته، ويضع نعمته.
وقد شاء الله عزَّ وجلَّ برحمته وحكمته أن لا يأخذ الناس بعهد الفطرة، وهي معرفة ربهم، وأن لا يأخذهم بالآيات الكونية التي تدل على عظمة الله واستحقاقه الحمد، بل مع ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ إقامة للحجة، وإبلاغاً لدين الله سبحانه.
وأرسل الله الرسل لكل قوم، وفي كل أرض، فحيثما وجد الناس كانت رحمة الله معهم، وكان رسول الله بينهم: (? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 24].(9/76)
ثم بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گگ) [الأنبياء: 107].
فعموم العالمين حصل لهم النفع برسالته:
أما أتباعه فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة.
وأما أعداؤه المحاربون له فالدين عجل قتلهم، وموتهم خير لهم من حياتهم، فقد كتب عليهم الشقاء، فتعجيل موتهم خير من طول أعمارهم في الكفر. وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده، وهم أقل شراً بذلك العهد من المحاربين له، وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإسلام حقن دمائهم، وحفظ أموالهم، وجريان أحكام الإسلام عليهم في التوارث وغيره، وأما الأمم النائية عنه، فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، فأصاب كل العالمين النفع برسالته، فصلوات الله وسلامه على من بعثه الله رحمة للعالمين، فهو رحمة لكل أحد، لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة، وانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها ولم يقبلوها، ولكن نالهم من بركتها ما هو رحمة لهم وإن لم يزيدوه: (? ? ? ? ? ?) [غافر: 7].
3- حكمة تعدد بعث الرسل
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [النحل: 36].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [النساء: 165].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ژ ژ ڑ ڑ ک کک ک گ گ گ گ ? ? ? ?? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [الأنعام: 83-87].
إن الله تبارك وتعالى خلق البشر، واصطفى منهم رسلاً مبشرين ومنذرين، وأرسلهم إلى خلقه رحمة منه؛ ليكملوا ويسعدوا في الدنيا والآخرة، فأدوا ما أرسلوا به، وبلغوا البلاغ المبين واحداً بعد الآخر، الأول يبشر بالآخر، والآخر يصدق بالأول.
وقد أرسلهم الله عزَّ وجلَّ رحمة بعباده، ليأمروا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له، وإقرار منهج الله في الحياة وحده.(9/77)
هذا موكب الإيمان.. وهؤلاء رسله الكرام.. وهذا منهجه العدل.. إنه يواجه البشرية ويوجهها في رحلتها الطويلة على هذه الأرض.
يواجهها كلما التوت بها الطريق، وكلما انحرفت عن صراط الله المستقيم، وكلما تفرقت بها السبل، تحت ضغط الشهوات التي يقودها بها الشيطان من خطامها، ليرضي حقده وينفذ وعيده، ويمضي ببني آدم من خطام هذه الشهوات إلى جهنم.
ولكن رحمة الله جلَّ جلاله تدرك العباد كلما ضلوا، فإذا الموكب الكريم من رسل الله يواجه البشرية بالهدى، ويلوح لها بالنور، يبشرها بالجنة، ويحذرها من النار، ونزغات الشيطان الرجيم.
إن هذا الإنسان المزدوج الطبيعة، العجيب التركيب، ذو فطرة وعقل، وذو جسد وروح، خلقه الله قابلاً للهدى والضلال، والإيمان والكفر، يؤمن بربه، ويتعامل معه فيعرف أسماءه وصفاته، ومشيئته وقدره، وقدرته وجبروته، ورحمته وفضله.
ويتعامل مع الملأ الأعلى وملائكة ربه.. ويتعامل مع إبليس وقبيله.. ويتعامل مع هذا الكون المشهود.. ويتعرف على سنن الله فيه.. ويتعامل مع الأحياء في هذه الأرض.. ويتعامل مع بعضه البعض.. يتعامل مع هذه الآفاق وهذه العوالم بطبيعته تلك.
وفي هذا الخضم المتشابك من العلاقات والروابط يجري تاريخه، وتختلف أحواله، ويتلون سلوكه، وتختلف مشاربه، فهو بحاجة إلى الهدى والرشاد، والحفظ والإيمان، والتوفيق والسداد، وقد شهدنا تكريمه في الملأ الأعلى، وأمر الملائكة بالسجود له، والبارئ العظيم يعلن ميلاده، ويعلن خلافته في الأرض كما ذكر الله في كتابه.
وشهدنا ضعفه بعد ذلك، وكيف قاده منه عدوه الشيطان، وكان سبباً في خروجه من الجنة.
وشهدنا مهبطه إلى الأرض، وانطلاقه بشتى أنواع التعامل على ظهرها وقد أهبط الله آدم إلى هذه الأرض مؤمناً بربه، مستغفراً لذنبه مأخوذاً عليه عهد الخلافة أن يتبع ما يأتيه من ربه، ولا يتبع الهوى ولا الشيطان بعد ما ابتلاه الله في الجنة.(9/78)
ثم مضى به الزمن وتقاذفته الأمواج في الخضم، وتفاعلت تلك العوامل في كيان ذاته وفي الوجود من حوله، فإذا هو يدلف إلى الجاهلية.
إنه ينسى وقد نسي، إنه يضعف وقد ضعف، إن الشيطان يغلبه وقد غلبه، ولا بد من الإنقاذ مرة أخرى.
لقد هبط إلى الأرض مؤمناً مهتدياً تائباً موحداً، ولكن ها نحن نلتقي به ضالاً مفترياً مشركاً فماذا حصل؟.
لقد تقاذفته الأمواج في الخضم.. واجتمعت عليه الشياطين من كل جهة.. وداعبته الشهوات والمشتهيات في كل وقت.. فنسي وضل.
ولكن رحمة ربه لا تفارقه، فمن رحمة ربه ألا يتركه وحده، فيهلك بين هذه الأمواج العاتية، فأرسل إليه الرسل ترده إلى ربه الذي خلقه وصوره، وفطره على الإيمان والتوحيد.
فها هو موكب الإيمان يرفع أعلامه رسل الله الكرام من النبيين والمرسلين، ومنهم نوح وهود وصالح.. وإبراهيم ولوط وشعيب.. وإسماعيل وإسحاق ويعقوب.. ويونس وموسى وهارون.. وداود وسليمان وأيوب.. وزكريا ويحيى وعيسى.. ومحمد.. صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهذا الموكب الجليل الكريم يحاول بتوجيه الله وتعليمه إنقاذ الركب البشري من الضلال والهاوية التي يقوده إليها الشيطان وأعوانه من شياطين الإنس المستكبرين عن الحق في كل زمان.
فكم من صراع حصل بين الحق والباطل؟.
وكم من معارك وخصومات حصلت بين أهل الهوى وأهل الضلال؟.
وكم جرى بين الرسل الكرام وبين شياطين الجن والإنس من حروب وجدل وخصومات؟.
وكل ذلك من أجل سعادة الإنسان ونجاته وخلاصه في الدنيا والآخرة.
وفي الختام وبعد الإنذار والتذكير نشهد مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين في كل مرحلة.
إن البشرية تبدأ طريقها مهتدية مؤمنة موحدة، ثم تنحرف إلى جاهلية ضالة مشتركة، وذلك بفعل عوامل في ذات الإنسان، إلى جانب العوالم والعناصر التي يتعامل معها، والبيئة التي يعيش فيها.(9/79)
وهنا يأتي من الكريم الرحمن رسول يرد الناس إلى فطرتهم التي كانوا عليها، يردوهم إلى طاعة ربهم وعبادته قائلاً لقومه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 50].
وهذه الحقيقة الشرعية يقوم عليها الدين كله، ويتعاقب بها الرسل على مدار التاريخ، وعليها مدار سعادة الإنسان في كل زمان ومكان.
فكل رسول يجيء يقولها لقومه الذين اجتالتهم الشياطين عنها فنسوها وضلوا عنها، وأشركوا مع الله آلهة أخرى.
وعلى أساس ذلك تدور المعركة بين الحق والباطل، وعلى أساسها يأخذ الله المكذبين بها وينجي المؤمنين.
لقد جاءت الرسل رسولاً بعد رسول بالتوحيد الخالص، ليعرف الناس رب العالمين، ويتوجهوا له بالعبادة أجمعين.
مبينين الشعائر والشرائع التي أرسلوا بها للبشر كمنهج حياة من رب العالمين، معرفين لهم بمالهم بعد القدوم على الله يوم الدين.
وكل رسول جاء إلى قومه بعد انحرافهم عن التوحيد الذي تركهم عليه رسولهم الذي سبقه.
فبنوا آدم نشأوا موحدين لرب العالمين كما كانت عقيدة آدم وزوجه، ثم انحرفوا بفعل العوامل السابقة كما قال سبحانه في الحديث القدسي: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» أخرجه مسلم(1).
فلما جاء نوح صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى توحيد رب العالمين مرة أخرى فترة طويلة، فما آمن معه إلا قليل، ثم جاء الطوفان لما دعا عليهم فأهلك الله به المكذبين، ونجا المؤمنين، وعمرت الأرض بهؤلاء الموحدين لرب العالمين.
حتى إذا طال عليهم الأمد انحرفوا إلى الجاهلية كما انحرف من قبلهم، حتى إذا جاء هود أهلك الله المكذبين لرسوله بالريح العقيم وهكذا.
ولقد أرسل الله كل رسول إلى قومه ليقول لهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 50].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2865)(9/80)
ونصح كل رسول قومه، وحذرهم عاقبة ما هم عليه من الشرك والجهل والظلم، وفي كل مرة وقف الملأ من علية القوم وكبرائهم في وجه كلمة الحق هذه، ورفضوا الاستسلام لرب العالمين، وأبوا أن تكون العبودية لله وحده، وأبوا أن تكون الحياة على منهج الله وحده.
فصدع كل رسول في وجه هؤلاء الطواغيت، فانقسم قومه إلى مؤمنين وكفار، وعندئذ يجيء الفتح، ويفصل الله بين الأمة المهتدية والأمة الضالة، ويأخذ المستكبرين المكذبين، وينجي الطائعين المسلمين.
وما جرت سنة الله قط بفتح ولا فصل ولا نصر قبل أن ينقسم القوم الواحد إلى أمتين على أساس العقيدة، وقبل أن يجهر أصحاب العقيدة بعبوديتهم لله وحده، وقبل أن يثبتوا في وجه الطاغوت بإيمانهم، وقبل أن يعلنوا مفاصلتهم لقومهم والبراءة منهم.
وهذا ما بينه الله في القرآن في حكاية أحوال الرسل مع أممهم.. فمصارع المكذبين للرسل تجري على سنة لا تتبدل.. نسيان لآيات الله.. وانحراف عن طريقه.. إنذار من الله للغافلين على يد رسول.. استكبار عن العبودية لله وحده.. عدم الخضوع لرب العالمين.. اغترار بالرخاء.. واستهزاء بالإنذار.. واستعجال للعذاب.. طغيان وتهديد.. وإيذاء للمؤمنين.. وثبات للمؤمنين.. ومفاصلة على العقيدة.. ثم المصرع الذي يأتي وفق سنن الله بعد التبشير والإنذار.
وطاغوت الباطل لا يطيق مجرد وجود الحق، بل يتابع الحق ويطارده، وأهل الباطل لا يطيقون رؤية الحق يعيش، ولا رؤية جماعة تدين لله وحده، وتخرج من سلطان الطواغيت كما قال قوم شعيب: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأعراف: 88،89].
فالطواغيت لن يتركوا أهل الإيمان إلا أن يتركوا دينهم كلية ويعودوا إلى ملة الكفر، فلا بدَّ من الصبر، وخوض المعركة، وانتظار فتح الله بعد المفاصلة، ثم تجري سنة الله بعد ذلك بالفتح: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [الأعراف: 89].(9/81)
إن موكب الإيمان الذي يسير في مقدمته رسل الله الكرام سبقه موكب إيمان الخلائق في الكون كله: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأعراف: 54].
إن الإيمان بهذا الإله العظيم، الذي خلق السموات والأرض، والذي استوى على العرش، والذي تجري وتتحرك المخلوقات بأمره، والذي له الخلق والأمر كله، هو الذي يدعو إليه الرسل.
إن الدينونة لهذا الإله وحده هي التي يدعو إليها الرسل كافة، هي التي يدعون إليها البشرية كافة، كلما قعد لها الشيطان على صراط الله، فأضلها عنه، وردها إلى الجاهلية.
والله في القرآن الكريم يكثر من الربط بين عبودية هذا الكون لله ودعوة البشر إلى الاتساق مع الكون المطيع لربه، والذي يعيشون فيه، والإسلام لله الذي أسلم له الكون كله، والذي يتحرك مسخراً بأمره.
وفي ذلك ما يهز القلب البشري هزاً، ويستحثه من داخله على أن ينخرط في سلك الخلائق الطائعة لربها، ولا يكون هو وحده نشازاً في نظام الوجود كله.
إن رسل الله عزَّ وجلَّ لا يدعون البشرية لأمر شاذ، أو مستحيل، أو ضار، إنما يدعونهم إلى التوحيد الذي يقوم عليه الوجود كله، والمركوز في فطرة البشر.
إسلام الوجه لله... والإيمان به.. وعبادته وطاعته.. وتنفيذ أوامره.. مع الخلائق الأخرى: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [الحج: 18].
ومن سنة الله عزَّ وجلَّ في إرسال الرسل بعث كل رسول من قومه وبلسانهم؛ تأليفاً لقلوب الذين لم تفسد فطرهم، وتيسيراً على البشر في التفاهم والتعارف، وإن كان الذي فسدت فطرهم يعجبون من هذه السنة فلا يستجيبون، ويستكبرون أن يؤمنوا لبشر مثلهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ) [إبراهيم: 4].
ويطلبون أن تبلغهم الملائكة، وإن هي إلا تعلة، وما كانوا ليستجيبوا إلى الهدى مهما جاءهم من أي طريق.(9/82)
أرسل الله تبارك وتعالى نوحاً إلى قومه كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 59].
فكيف كان استقبال المنحرفين الضالين من قوم نوح لهذه الدعوة إلى التوحيد وماذا قالوا له؟ (چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 60].
دعاهم نوح صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله وحده، وإقامة منهج الله في الحياة، ليكون السلطان كله لله في حياة الناس كلها، قال لهم ذلك، وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه، ولكنهم رموا الداعي إلى الحق المبين بالضلال المبين، وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب أن من يدعوه إلى الهدى هو الضال، هكذا تنقلب الموازين، ويحكم الهوى، ويضل العباد بسبب إغواء الشيطان، وغياب دعوة الرسل، وغلبة حب الدنيا على الناس.
فماذا تقول الجاهلية اليوم عن المهتدين بهدي الله؟
إنها تسميهم الضالين، وتعد من يسقط منهم في الوحل والمستنقع الكريه بالرضا والقبول.
وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها؟
وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص؟
إنها تسمي ذلك كله تخلفاً وجموداً.
وماذا تقول الجاهلية لمن يترفع عن جنون اللعب، والفن، والحفلات الفارغة والملاهي؟
إنها تقول إنه جامد، مغلق على نفسه، وتنقصه المرونة والثقافة، وتحاول أن تجره إلى الوحل الساقط الهابط مع البهائم.
وينفي نوح عن نفسه الضلال، ويكشف لقومه عن حقيقة دعوته، فهو لم يبتدعها من أوهامه وأهوائه، إنما هو رسول رب العالمين، يحمل لهم الرسالة، ومعها النصح والأمانة، ويعلم من الله ما لا يعلمون: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [الأعراف: 61].
وأرسلت إليكم: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [الأعراف: 62].
وقد عجب هؤلاء الملأ أن يختار الله رسولاً من البشر من بينهم، ويحمله رسالة إلى قومه، وما من عجب في هذا الاختيار؟(9/83)
فإذا اختار الله من البشر رسولاً، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، فيتلقى هذا المختار عنه الحق، ويبلغه إلى خلقه ليسعدوا ويفلحوا فما العجب في ذلك؟
(? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [الأعراف: 63].
إن الفطرة حين تبلغ حداً معيناً من الفساد لا تتفكر ولا تتدبر، ولا تتذكر ولا تستجيب، ولا ينفع معها الإنذار ولا التذكير، وحينئذ تتحقق سنة الله في المكذبين المعرضين: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 64].
فبعماهم هذا كذبوا، وبعماهم لاقوا هذا المصير، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
وتمضي عجلة الزمن، وتتابع الأيام، فإذا نحن أمام عاد قوم هود، وقوم عاد من ذرية نوح والذين نجوا معه في السفينة، وكانوا يعبدون الله وحده.
فلما طال عليهم الأمد، وتفرقوا في الأرض، ولعب معهم الشيطان لعبة الغواية، وقادهم من شهواتهم وفق الهوى لا وفق شريعة الله، عاد قوم هود إلى الجاهلية مرة أخرى.
يستنكرون أن يدعوهم نبيهم إلى عبادة الله وحده من جديد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 65].
وقبيلة عاد كانوا بالأحقاف، وهي كثبان رملية على حدود اليمن، وقد أضلهم الشيطان كما أضل قوم نوح، فاغتروا بقوتهم ودنياهم واستكبروا في الأرض كما قال الله عنهم: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [فصلت: 15].
ولم يتدبروا، ولم يتذكروا، ما حل بقوم نوح صلى الله عليه وسلم من الغرق والهلاك.
وحذرهم نبيهم هود صلى الله عليه وسلم عافبة كفرهم.
وكأنما كبر على الملأ الكبراء من قومه أن يدعوهم واحد من قومهم إلى الهدى، وأن يستنكر منهم قلة التقوى، فراحوا يتهمونه بالسفاهة والكذب جميعاً في غير تحرج ولا حياد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 66].
فكشف لهم هود عن نفسه، وبين لهم العمل الذي أرسل به: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پپ) [الأعراف: 67، 68].(9/84)
وكلما جاء رسول ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم تعجب البشر من اختيار الله له من البشر.
وقد عجب قوم عاد من اختيار الله لهود صلى الله عليه وسلم نبياً لهم، كما عجب قوم نوح صلى الله عليه وسلم من قبل، فإذا هود صلى الله عليه وسلم يكرر لهم ما قاله نوح لقومه من قبل: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأعراف: 69].
ثم ذكرهم هود صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليهم من استخلافهم في الأرض من بعد قوم نوح صلى الله عليه وسلم ، وأعطاهم قوة في الأجسام، وقوة في السلطان والسيطرة فقال: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 69].
ونعمة هذا الاستخلاف، وهذه القوة والبسطة، تستوجب شكر النعمة، والحذر من البطر والكفر، واتقاء مصير المجرمين الغابرين.
ولكن الفكرة حين تنحرف لا تتفكر ولا تتدبر، ولا تتذكر، وهكذا أخذت الملأ العزة بالإثم، واختصروا الجدل، واستعجلوا العذاب استعجال من يستثقل النصح، ويهزأ بالإيمان والإنذار، فماذا قالوا لنبيهم هود: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأعراف: 70].
وهكذا استعجل القوم العذاب فراراً من مواجهة الحق، واتباعاً للهوى والشهوات، ومن ثم كان الجواب حاسماً وسريعاً، فأرسل الله عليهم الريح العقيم، التي تدمر كل شيء بأمر ربها، وبلغهم نوح عاقبة تكذيبهم: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک) [الأعراف: 71].
وجاءهم العذاب صريحاً بالهواء الذي لا يستغني عنه أحد كما جاء العذاب قوم نوح بالماء الذي لا يستغني عنه أحد: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 16].
لقد نزل بهم العذاب الذي لا دافع له، وغضب الله المصاحب له، وانتقم الله من هؤلاء المكذبين المعاندين، وأخزاهم في الدنيا والآخرة.
وأنجى الله هوداً ومن آمن به، وقطع دابر الكافرين، وتحقق النذير مرة أخرى بعد إذ لم ينفع التذكير، وطويت صفحة سوداء من صحائف المكذبين، وبقيت العاقبة للمتقين: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ??) [الأعراف: 72].(9/85)
وتتوالى الأيام، وتمر الدهور، فتأتي أمة أخرى، أغواها الشيطان وأضلها عن هدي ربها، وها هي ذي نكسة أخرى إلى الجاهلية، ومشهد من مشاهد اللقاء بين الحق والباطل، ومصرع جديد من مصارع المكذبين بعد الإنذار والتبليغ، إنهم ثمود قوم صالح صلى الله عليه وسلم ، دعاهم نبيهم صالح إلى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 73].
وقبيلة ثمود كانوا يسكنون الحجر وما حوله من أرض الحجاز بين المدينة وتبوك، وقد جاءهم صالح صلى الله عليه وسلم بآية بينة تدل على صدق نبوته، لعلهم إذا رأوها يؤمنون به فقال لهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 73].
ثم أخذ صالح صلى الله عليه وسلم بالنصح لقومه بالتدبر والتذكر والتفكر في مصائر الغابرين، والشكر لله على نعمة الاستخلاف بعد أولئك الغابرين قائلاً لهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [الأعراف: 74].
فآمنت طائفة من قوم صالح صلى الله عليه وسلم ، وكفرت طائفة، واتجه الملأ الذين استكبروا من قوم صالح إلى من آمن من الضعفاء بالفتنة والتهديد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 75].
فعاد الضعاف بالإيمان أقوياء، فقد سكب الإيمان بالله القوة في قلوبهم، فأعلنوا للمستكبرين أنهم مؤمنون بما جاء به صالح صلى الله عليه وسلم .
فأعلن الملأ المستكبرون عن موقفهم في صراحة تحمل طابع التهديد، على الرغم من البينة التي جاءهم بها صالح صلى الله عليه وسلم ، والتي لا تدع ريبة لمستريب: (? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الأعراف: 76].
ثم أتبعوا القول بالعمل، فاعتدوا على ناقة الله التي جاءتهم آية من عنده على صدق نبيه، والتي حذرهم نبيهم أن يمسوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم، ولكنهم عتوا وهددوا وطغوا: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 77].
فماذا كانت عاقبة المجرمين؟ وماذا نزل بهم من العذاب؟.(9/86)
(ں ں ? ? ? ??) [الأعراف: 78].
وهم إلى الآن في ديارهم جاثمون، أما صالح الذي كذبوه وتحدوه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ??) [الأعراف: 79].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [فصلت: 17،18].
وقال سبحانه: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الذاريات: 43-45].
وهكذا نزل عذاب الله بكل من طغى وبغى، وتجبر واستكبر، وكذب وتولى.
تارة بالماء.. وتارة بالريح.. وتارة بالرجفة، وتارة بالصاعقة.. وتارة بالصيحة (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [يونس: 44].
وهكذا طويت صفحة من صحائف المكذبين الظالمين، وحق النذير بعد التذكير على المستهزئين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [الشعراء: 158،159].
وتمضي عجلة الزمن، وتتوالى الأيام، فيأتي عهد إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيرسله الله إلى قومه داعياً إلى التوحيد، وكانوا يعبدون الأصنام من دون الله كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الأنبياء: 51،52].
فماذا قال له قومه: (? ? ? ? ??) [الأنبياء: 53].
فقال لهم: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 54].
فبماذا أجابوه: (? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 55].
فقال لهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 56].
فأقسم إبراهيم أنه سينتقل من المحاجة باللسان إلى تغيير المنكر بالفعل؛ ثقة بالله ودفاعاً عن دينه، فواجه قومه كلهم بقوله: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پپ) [الأنبياء: 57،58].
فلما رجعوا وجدوا أصنامهم التي يعبدونها مكسرة قطعاً إلا الأكبر منها: (? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 59-61].
فلما جاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ?چ) [الأنبياء: 62].
فماذا قال لهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم : (چ چ چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الأنبياء: 63-65].(9/87)
فلما أقروا بعجز أصنامهم وأنها لا تتمكن من الدفاع عن نفسها لا بالقول ولا بالفعل: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الأنبياء: 66،67].
فلما عجزوا عن محاجة إبراهيم أرادوا إظهار الغلبة بأي وجه كان، بالانتقام ممن فعل بأصنامهم ما فعل: (ے ے ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 68].
فتوجه إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلى ربه، فأمر الله النار فوراً أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم: (? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 69].
فأحبط الله كيدهم، وأنجى إبراهيم إلى الأرض المباركة في الشام، ورزقه إسحاق، ويعقوب نافلة، وجعل الجميع هداة ودعاة إلى دينه، يعبدون الله ويفعلون الطاعات، ويجتنبون ما نهاهم الله عنه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 70-73].
ثم جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من نسله، وشرفه ببناء البيت مع ابنه إسماعيل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 127].
وجعل سيد الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم من نسله، حيث دعا ربه بقوله: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 129].
وجعل ملته وشريعته ديناً يقتدى به من بعده، ولا يعرض عنه إلا من سفه نفسه كما قال سبحانه: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 130-132].
وفي زمن إبراهيم عاش لوط صلى الله عليه وسلم ، وقد أرسله الله إلى القرية التي كانت تعمل الخبائث فماذا قال لهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 80،81].
والإسراف الذي يدمغهم به لوط صلى الله عليه وسلم هو الإسراف في تجاوز منهج الله، المتمثل في الفطرة السوية، والإسراف في الطاقة التي وهبهم الله إياها؛ لأداء دورهم في امتداد البشرية ونمو الحياة.(9/88)
فإذا أراقوها في غير موضع الإخصاب فهي مجرد شهوة شاذة؛ لأن الله جعل لذة الفطرة الصادقة في تحقيق سنة الله الطبيعية.
ويتجلى الانحراف مرة أخرى في جوابهم لنبيهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 82].
إن فطرة الإنسان إذا انحرفت رأت الحق باطلاً، والباطل حقاً، والقذر نظيفاً، والخبيث طيباً، والنجس طاهراً.
من يتطهر يخرج من القرية إخراجاً، ليبقى فيها المدنسون الملوثون، إنها الجاهلية التي لا تطيق أن ترى المتطهرين، وترحب بأهل الأدناس والأقذار والنجاسة.
فماذا فعل الله بهؤلاء المفسدين؟، وماذا حل بديارهم؟.
(? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الحجر: 74].
رفعت ديارهم إلى السماء، ثم قلبت عليهم، وأتبعوا بحجارة من سجيل، وأمطروا مطراً مهلكاً، مع ما صاحبه من عواصف، فكان هذا المطر المغرق والماء الدافق لتطهير الأرض من ذلك الدنس الذي كانوا فيه، والوحل الذي عاشوا وماتوا فيه، وأنجى الله لوطاً وأهله إلا امرأته، ودمر العصاة الفاسقين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ٹٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 83،84].
ثم سارت عجلة الزمن فجاءت أمة أخرى، ولها صفحة من صحائف الأقوام المكذبة بما فيها من إنذار وتكذيب وإهلاك، وهم مدين الذين أرسل الله إليهم رسوله شعيباً، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [الأعراف: 85].
وقد جاءهم ببينة من ربه تثبت أنه مرسل من عند الله، ويدعوهم إلى توفية الكيل والميزان، والنهي عن الفساد في الأرض، والكف عن قطع الطريق على الناس، وعن فتنة المؤمنين عن دينهم كما قال شعيب لقومه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [الأعراف: 85،86].
وقوم شعيب كانوا مشركين بالله، لا يعبدون الله وحده، وكانوا لا يرجعون في معاملاتهم إلى شرع الله العادل، مع إفسادهم في الأرض، وقطع الطريق على سواهم.(9/89)
فبدأ شعيب بدعوتهم إلى عبادة الله وحده، وإقرار منهج الله وحده في حياتهم، ويذكرهم بنعم الله عليهم، ويخوفهم عاقبة المفسدين من قبلهم فيقول لهم:
(ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 86].
كذلك يطلب منهم العدل وسعة الصدر، فلا يفتنون المؤمنين عن دينهم الذي هداهم الله إليه، ولا يقعدون لهم بكل صراط مهددين لهم، وأن ينتظروا حكم الله بين الفريقين، إن كانوا هم لا يريدون الإيمان كما قال شعيب صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 87].
لقد دعا شعيب قومه إلى أعدل خطة، ووقف عند آخر نقطة، لا يملك أن يتراجع عنها خطوة، وهي الانتظار والتعايش بغير أذى، وترك كل وما اعتنق من دين.
ولكن الطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان بالله وجود في الأرض ممثل في جماعة من الناس لا تدين للطاغوت، بل تدين لله.
إن وجود جماعة مسلمة كهذه يهدد سلطان الطواغيت، حتى لو انعزلت هذه الجماعة في نفسها، وتركت الطواغيت لحكم الله حين يأتي موعده.
إن الطاغوت يفرض المعركة فرضاً على الجماعة المسلمة، إن وجود الحق في ذاته يزعج الباطل، وهذا الوجود ذاته هو الذي يفرض عليه المعركة مع الباطل: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 88].
فلما تلقى الملأ المستكبرون عرضه هذا بالتهديد بالإخراج من قريتهم، أو العودة في ملتهم صدع شعيب بالحق مستمسكاً بملته، كارهاً أن يعود في الملة الخاسرة التي أنجاه الله منها، واتجه إلى ربه سبحانه يدعوه ويستنصره: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [الأعراف: 88،89].
إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة كبرى مهما لاح فيها من السلامة والأمن، وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟.(9/90)
وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان؟ وفوق هذا فإن حكم الطواغيت يكلف الناس أموالهم التي لا يحميها شرع، كما يكلفهم أولادهم، إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات، والأخلاق الهابطة، والتقاليد الجاهلية، فوق ما يتحكم في طريقة حياتهم ذاتها، فيصبغهم باللون الذي يريد، ويذبحهم على مذبح هواه، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد والجاه لذاته.
ثم يكلفهم أعراضهم وشرفهم، فيتحكم الطاغوت في الفتيان والفتيات، ويمهد لهم أسباب الخنا والفجور تحت أي شعار؛ ليكسب محبة أرباب الشهوات، وقلوب مرضى القلوب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 50].
والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله إنما يعيش في وهم، أو يفقد الإحساس بالواقع، فلا بد من أمرين:
عبادة الله وحده.. واجتناب عبادة الطاغوت.
(? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [النحل: 36].
إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والمال والعرض، ومهما تكن تكاليف العبودية لله فهي أربح وأقوم، حتى بميزان هذه الحياة، فضلاً عن وزنها بميزان الله عزَّ وجلَّ الذي له ما في السموات وما في الأرض.
إن صلاح البشرية وفسادها متوقف على من بيده زمام أمرها من الأمراء والعلماء.
فهم الذين لهم الهيمنة كل الهيمنة على أزمة الأمور، وبيدهم السلطة المطلقة في تدبير شئون الإنسانية، وتتعلق بأذيالهم نفوس الأمة وآمالها، ويصوغون الحياة كما يحبون ولو كان يغضب الله ورسوله.
فإذا كان هؤلاء الزعماء ممن يؤمنون بالله ويرجون حسابه، فلا بد لنظام الحياة بأسره أن يسير على طريق من الخير والرشد والصلاح، وأن يعود الأشرار والفجار إلى كنف الدين، وهذه وظيفة الخليفة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [ص: 26].(9/91)
وأما إذا كانت سلطة الزعامة والإمامة بأيدي رجال انحرفوا عن الدين الحق، وعصوا الله ورسوله، واتبعوا الشهوات، وانغمسوا في الفجور والطغيان، فلا محالة أن يسير نظام الحياة تدريجياً ثم كلياً بقضه وقضيضه على البغي والعدوان، والفواحش والمنكرات، ويدب دبيب الفساد والفوضى في الأفكار والعلوم، والآداب والأخلاق، والمعاشرات والمعاملات، وتنمو السيئات ويستفحل أمرها، وماذا بعد الحق إلا الضلال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 50].
إن أول ما يطالب به الله عباده أن يدخلوا في عبودية الحق كافة، مخلصين له الطاعة والانقياد، وأن لا يكون لحياتهم منهج إلا ما أنزله الله تعالى، وجاء به رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 208].
ثم الإسلام يطالبهم مع هذا بإزالة الفساد في الأرض، واستئصال شأفة السيئات والمنكرات، الجالبة على العباد غضب الله وسخطه والفتنة.
كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104،105].
وهذه الغايات السامية من الاستقامة والدعوة والإصلاح لا يمكن أن يتحقق منها شيء ما دامت قيادة البشرية وتسيير شئونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال، وأتباع الحق وأنصاره مستسلمون لهؤلاء، منقادون لجبروتهم، قانعون بذكر الله وتلاوة كتابه في بيوتهم أو مساجدهم، منقطعون عن الدنيا وتدبير شئونها، راضون بما يتصدق عليهم هؤلاء الجبابرة من الأموال والإعانات، والتسهيلات والمسامحات، والشفاعات وقضاء الحاجات.
ومن هنا يظهر ما للإمامة الصالحة، وإقامة نظام الحق من أهمية كبرى تجعلها من غايات الدين وأسسه، ولذلك أوجب الله طاعة أولي الأمر الصالحين إذا حكموا وأمروا بما جاء عن الله ورسوله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 59].(9/92)
والمسلم لا يمكنه أن يبلغ رضا الله تعالى بأي عمل من أعماله إذا تناسى هذه الفريضة، وتقاعس عن القيام بها.
فإن غرض الدين الحقيقي وهدفه هو تحقيق العبودية لله رب العالمين في حياة البشرية كلها، وإقامة نظام الحق والإمامة الراشدة، وتوطيد دعائم الدين في الأرض كلها، حتى يكون الدين كله لله، وينسجم العالم البشري مع العالم الكوني كله في طاعة الله وعبادته سبحانه.
ولا يتم ذلك إلا وفق سنة الله بالدعوة إلى الله أولاً.. فإذا دخل الإيمان في قلوب البشر اشتاقت قلوبهم لمعرفة الأحكام.. وجاء عندهم الاستعداد لفعل الأوامر واجتناب النواهي.. فإذا حصل هذا وحقق البشر العبودية مكن الله لهم في الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ) [النور: 55].
ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ويؤمن بالله ورسوله لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل على البشرية، أو يقعد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة الدين الحق في العالم.
فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب فاعلم أنه مدخول في إيمانه، مرتاب في أمره، فكيف ينفعه عمل من أعماله بعد ذلك.
وكل من يؤمن بالله ورسوله ويدين دين الحق لا ينتهي عمله فإنه يبذل جهده لإفراغ حياته في قالب الإسلام فحسب، بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكفار والفجار والظلمة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، ويستعبدون البشر، حتى يتسلمه رجال ذو صلاح، ممن يتقون الله، ويرجون حسابه، ويقوم في أرض الله حكمه ودينه، وشرعه الذي ارتضاه لعباده، وأرسل به رسله، وبه صلاح الدنيا والآخرة.
إن الله تبارك وتعالى حين يدعو الناس إلى إقامة حكم الله وشرعه في الأرض، إنما يدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم، وتحرير رقابهم من العبودية للعبيد إلى عبودية الله وحده.(9/93)
كما يدعوهم لإنقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم.
إنه يكلفهم أعباء المعركة مع الطواغيت تحت رايته، لينقذهم من بلاء وشدائد أكبر وأكثر وأطول.
لذلك قالها شعيب صلى الله عليه وسلم مدوية حاسمة: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأعراف: 89].
وما أحسن أخلاق الأنبياء، وما أحسن آداب أنبياء الله ورسله، إن شعيباً صلى الله عليه وسلم لكمال إيمانه ويقينه على ربه، بقدر ما يرفع رأسه، وبقدر ما يرفع صوته في مواجهة طواغيت البشر من الملأ الذين استكبروا من قومه، بقدر ما يخفض هامته، ويسلم وجهه أمام ربه الجليل الذي وسع كل شيء رحمةً وعلماً.
إنه يفوض الأمر إلى ربه في مستقبل ما يكون من أمره وأمر المؤمنين معه.
ثم يدع شعيب طواغيت قومه وتهديدهم، ويتجه إلى وليه بالتوكل الواثق، يدعو ربه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق قائلاً: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [الأعراف: 89].
عندئذ توجه الملأ الكفار من قومه إلى المؤمنين به يخوفونهم ويهددونهم، ليفتنوهم عن دينهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [الأعراف: 90].
فالطواغيت يتوجهون أولاً إلى الداعية إلى الله ليسكتوه، ويصرفوه عن الدعوة إما بالأذى، أو بشغله بما يعطونه من الحطام ليكف عن الدعوة.
فإذا استعصم بربه وتمسك بإيمانه ولم يرهبه التخويف بما يملكه الطغاة من الوسائل والأسلحة تحولوا إلى الذين اتبعوه، يفتنونهم عن دينهم الحق بالوعيد والتهديد، ثم بالبطش والعذاب.
ولكن من سنة الله الجارية، أنه عندما يتمحض الحق والباطل، ويقفان وجهاً لوجه في مفاصلة كاملة، تجري سنة الله التي لا تتخلف، وهكذا كان لقوم شعيب: (? ہ ہ ہ ہ ھھ) [الأعراف: 91].
فكل نبي لم يؤمر بقتال يتولى الله تدمير أعدائه وإهلاكهم بما شاء، وهكذا عاقب الله قوم شعيب بالرجفة والجثوم، جزاء التهديد والاستطالة، وبسط الأيدي بالأذى والفتنة للمؤمنين.(9/94)
وطويت صفحة هؤلاء الكفار من أهل مدين، وباءوا بالهلاك والخسار والعذاب، وانفصلوا عن نبيهم شعيب صلى الله عليه وسلم ، ولم يندم ولم ييأس على مصيرهم الأليم بعدما أبلغهم ونصحهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 93].
وتوالى إرسال الرسل إلى البشرية، وكلهم يدعون إلى عبادة الله وحده، وإقامة الحياة على منهج الله وحده.
وأنشأ الله بعد هؤلاء المكذبين المعاندين قروناً آخرين، كل أمة في وقت مسمى، وأجل محدود، وأرسل إليهم رسلاً متتابعة لعلهم يؤمنون وينيبون، فلم يزل الكفر والتكذيب دأب الأمم العصاة والكفرة البغاة، كلما جاء أمة رسولها كذبوه وآذوه، مع أن كل رسول أوتي من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، فأهلك الله هؤلاء، ولم يبق منهم باقية وصاروا أحاديث يتحدث بأحوالهم من بعدهم، فكان ما أصابهم عبرة للمتقين، ونكالاً للمكذبين كما قال سبحانه:
(? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پپ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 42-44].
ولقد جاءت هؤلاء المكذبين رسلهم تدعوهم إلى عبادة الله وحده، وإلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، ولكنهم لم يفدهم هذا، ولا أغنى عنهم شيئاً، فلم يؤمنوا، فلما كذبوا رسلهم عاقبهم الله لردهم الحق: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الأعراف: 101].
وقد أخبر الله أن تلك الأمم التي أرسل الله إليها رسله أكثرهم لم يلتزم بوصية الله، ولم ينقَدْ لأوامر الله التي أرسل بها رسوله، بل اتبعوا أهواءهم، وأعرض أكثرهم عن هدي الله، ولم يستقم على دينه إلا القليل، ممن سبقت لهم من الله السعادة.
وأما أكثر الخلق فأعرضوا عن الهدى، واستكبروا عما جاءت به الرسل، فأحل الله بهم من العقوبات المتنوعة ما حل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 102].(9/95)
وبعد بعثة موسى صلى الله عليه وسلم ونزول التوراة رفع الله عذاب الاستئصال عن الأمم المكذبة، وشرع الله لرسله والمؤمنين بهم جهاد المكذبين المعاندين، ووعدهم النصر على أعدائهم بالإيمان والتقوى، والتوكل على الله، وإعداد ما يستطيعون من قوة، وقد فعل سبحانه فنصر أولياءه، وخذل أعداءه.
فقد ذكر الله الأمم المتتابعة على الهلاك، ثم أخبر أنه أرسل موسى بعدهم، وأنزل عليه التوراة فيها الهداية للناس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 103].
وقال سبحانه: (ک ک ک ک گ گگ) [المؤمنون: 49].
فبعد نزول التوراة على موسى صلى الله عليه وسلم بعد إهلاك فرعون انقطع الهلاك العام، وشرع جهاد الكفار بالسيف كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 43].
وموسى صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى عبادة الله وحده، وقد أرسله الله إلى فرعون، وإلى قومه بني إسرائيل، فآمن من قومه مَنْ آمن، وكفر من كفر، ولم يؤمن به إلا قليل على خوف من فرعون وملئه أن يفتنهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [يونس: 83].
وأما فرعون فأبى واستكبر وآذى موسى ومن آمن معه: فأهلكه الله بأن أغرقه وجنوده في البحر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک ک گ گ گ گ ? ??) [الذاريات: 38-40].
ثم أضل الشيطان من آمن بموسى، وفرقهم فاختلفوا، فلما أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن تبدلت حياتهم من السعادة إلى الشقاوة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 63].
وافترقت بنو إسرائيل من بعد موسى إلى طوائف:
فمنهم المتشددون في العبادة، ينكرون البدع، ويترخصون في حياتهم الشخصية، ويستمتعون بملاذ الحياة، ولا يعترفون بأن هناك قيامة.
وطائفة أخرى فيهم الزهد والتصوف، ينكرون على من قبلهم التشدد في العبادة، وجحدهم البعث والحساب، وفيهم غرور واعتزاز بالعلم والمعرفة.(9/96)
وطائفة ثالثة وهم السامريون، يدينون بالكتب الخمسة في العهد القديم المعروفة، بالكتب الموسوية، وينفون ما سواها.
وطائفة رابعة يعيشون في عزلة عن بقية طوائف اليهود، ويأخذون أنفسهم بالشدة والتقشف، كما يأخذون جماعتهم بالشدة والتنظيم.
وغير ذلك من الطوائف التي يجمعها البلبلة في الاعتقاد، والاختلاف في الأعمال، والتبديل والتحريف.
(ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 87].
وقد حذر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم من هذا الاختلاف وتلك الفرقة التي حصلت في أهل الكتاب بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104،105].
ولهذا الاختلاف والفرقة، وضلال بني إسرائيل، وإعراضهم عن الدين الحق، أرسل الله لهم عيسى صلى الله عليه وسلم ليردهم إلى الدين الحق، وإلى التوحيد الذي تركوه بعد موسى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 6].
فلما جاء عيسى لبني إسرائيل بالبينات الدالة على صدق نبوته وصحة ما جاءهم به: من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى ونحو ذلك من الآيات، قال لهم: قد جئتكم بالنبوة والعلم، ولأبين لكم صواب وجواب ما اختلفتم فيه من شريعة موسى صلى الله عليه وسلم ، فجاء عليه الصلاة والسلام متمماً ومكملاً لشريعة موسى صلى الله عليه وسلم ، ولأحكام التوراة، ومجدداً لما ترك منها.
وجاء بعض التسهيلات الموجبة للانقياد له وقبول ما جاءهم به، فدعاهم إلى عبادة الله وحده، وطاعته وامتثال أمره، واجتناب نهيه والإيمان برسالته وطاعته كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الزخرف: 63،64].(9/97)
فلما جاءهم عيسى بهذا اختلف الأحزاب من بينهم، كل قال بعيسى صلى الله عليه وسلم مقالة باطلة، ورد ما جاء به إلا من هدى الله من المؤمنين الذين آمنوا بالله وشهدوا له بالرسالة، وصدقوا ما جاء به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [الزخرف: 65].
لقد أرسل الله عيسى صلى الله عليه وسلم إلى بني إسرائيل ليبين لهم الذي يختلفون فيه، وقد اختلفوا في كثير من شريعة موسى، وانقسموا فرقاً وأحزاباً، ونقضوا العهد.
فدعاهم عيسى إلى تقوى الله وعبادته وطاعته فيما جاءهم به من عند الله، وجهر بكلمة التوحيد خالصة، وقال لهم: إن هذا صراط مستقيم، وجاء معه بشريعة التسامح والتهذيب الروحي، والعناية بالقلب البشري.
وكانوا ينتظرونه ليخلصهم مما كانوا فيه من الذل تحت حكم الرومان، وقد طال انتظارهم له، فلما جاءهم أنكروه وشاقوه، وهموا أن يصلبوه، وافتخروا بقتله كذباً وبهتاناً كما حكى الله عنهم: (ٹ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [النساء: 156-158].
أما المؤمنون من أهل الكتاب بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر فلهم كغيرهم من المؤمنين أجر عظيم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 162].
وطارد اليهود أتباع عيسى صلى الله عليه وسلم وآذوهم، ثم ذهب عيسى صلى الله عليه وسلم إلى ربه، حيث رفعه الله إليه، واختلف أتباعه من بعده شيعاً وأحزاباً:
بعضها يؤلهه.. وبعضها يقول هو ابن الله.. وبعضهم يقول: إن الله ثالث ثلاثة: أحدهم المسيح بن مريم، وضلوا عن الهدى، وفعلوا ما استحقوا به الكفر والضلال وغضب الله وسخطه.
وضاعت كلمة التوحيد الخالصة التي جاء بها عيسى صلى الله عليه وسلم ، وضاعت دعوة الناس إلى الإيمان بربهم وعبادته مخلصين له الدين: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [الزخرف: 65].(9/98)
وهكذا انحرفت عقيدة النصارى، وصار أكثرهم كفاراً مشركين بالله كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [المائدة: 72].
وقال سبحانه: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [المائدة:73، 74].
ثم بين الله قول الحق في المسيح بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 75،76].
وضل الناس عن الهدى والإيمان والتوحيد الذي جاء به الأنبياء بسبب الاختلاف والفرقة، والتحريف والتبديل، والكفر والشرك من أهل الكتاب، الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، ونقضوا العهد والميثاق، فلما فعلوا ذلك أنكر الله عليهم فقال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 98].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 99].
ثم أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالتوحيد الذي جاء به الرسل من هذه الأمة، وما زال بحمد الله باقياً صافياً، وإن كان حوله فرق ضالة عنه، وعالم آخر من البشرية لم يسمعه، وهذا الدين للبشرية كافة كما قال سبحانه لرسوله: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 158].
إن الله تبارك وتعالى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم نقل النبوة والرسالة من ذرية إسحاق إلى ذرية إسماعيل، ممثلة في الرسالة الأخيرة ورسولها، والأمة المسلمة التي تتبع منهجه، والرسالة الأخيرة التي أرسل الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم إلى البشرية كافة هي امتداد لأمر مقرر مطرد من قديم كما قال سبحانه: (? پ پ پ پ ? ? ? ? ??) [الشورى: 3].
فمصدر الوحي واحد، فالموحي لجميع الأنبياء هو الله العزيز الحكيم، والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان صلوات الله وسلامه عليهم.(9/99)
وهذه الحقيقة حين تستقر في قلوب المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه من الدين، ووحدة مصدره، وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي وهو العلي العزيز الحكيم.
كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين، أتباع الوحي في كل زمان ومكان، فهذه أسرتهم تمتد جذورها في شعاب الزمن.
وهذا الإله الذي يوحي وحده إلى الرسل جميعاً: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [الشورى: 4].
فكل ما في السموات وما في الأرض من شيء فهو لله، لا يشاركه فيه أحد سواه، وهو العلي العظيم، فليس هو الملك فحسب، ولكنه ملك العلو والعظمة على وجه التفرد كذلك.
وإذا استقر هذا في القلوب عرف الناس إلى أين يتجهون فيما يطلبون لأنفسهم من خير، ومن رزق، ومن كسب.
إن الله جل جلاله مالك هذا الكون كله يصرفه كيف يشاء، وله الكبرياء والعظمة، والعزة والجبروت، والجلال والجمال، وهو العلي العظيم.
وتكاد السموات تتفطر من روعة العظمة التي تشعر بها لربها، ومن زيغ بعض أهل الأرض: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [الشورى: 5].
والسموات هي هذا الخلق الهائل العظيم المرفوع الذي نراه يعلونا حيثما كنا على ظهر هذه الأرض.
هذه السموات يكدن يتفطرن من فوقهن من خشية الله وعظمته وعلوه، وإشفاقاً من انحراف بعض أهل الأرض، ونسيانهم لهذه العظمة والكبرياء التي يحسها ضمير هذا الكون فيرتعش وينتفض، ويكاد ينشق من أعلى مكان فيه.
والملائكة أهل طاعة مطلقة، وهم أولى الخلق بالطمأنينة، ولكنهم دائبون في تسبيح ربهم؛ لما يحسون من علوه وعظمته، ولما يخشون من التقصير في طاعته وحمده، بينما أهل الأرض لجهلهم ينكرون ويكفرون ويشركون وينحرفون، فتشفق الملائكة من غضب الله عزَّ وجلَّ، ويروحون يستغفرون لأهل الأرض مما يقع في الأرض من معصية وتقصير في حق هذا الإله الذي يجمع إلى العزة والحكمة العلو والعظمة، ثم المغفرة والرحمة.(9/100)
أما مركز القيادة الجديدة، وموضع الرسالة الأخيرة، فهو أم القرى مكة المكرمة، وأنزل سبحانه القرآن بلغتها العربية لأمر يعلمه ويريده، والله أعلم حيث يجعل رسالته: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [الشورى: 7].
لقد جاء الإسلام رحمة من الله لينقذ البشرية كلها مما وقعت فيه من انحلال وفساد واضطهاد، وجاهلية عمياء، في كل مكان معمور من الأرض.
فقد حرفت شريعة الله التي جاء بها أنبياء بني إسرائيل من قبل اليهود والنصارى، وبدلت وأقصيت من حياة الناس.
وجاء القرآن الكريم ليهيمن على حياة البشرية، ويقودها في الطريق إلى الله على هدىً ونور كما قال الله لرسوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 48].
وهكذا جاء القرآن عربياً لينذر أم القرى ومن حولها، فلما خرجت الجزيرة العربية من الجاهلية إلى الإسلام وخلصت كلها للإسلام، حملت الراية الإسلامية إلى جميع جهات الأرض، وقدمت الرسالة الجديدة والشريعة السمحة للبشرية جمعاء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
أما الجهة التي يرجع إليها عند الاختلاف فهي هذا الوحي الذي (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ??) [فصلت: 42].
القرآن الذي أنزل الله فيه حكمه القاطع وقوله الفصل في أمر الدنيا والآخرة، وأقام للناس به المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم ومعاشهم وأخلاقهم، وبيَّن لهم هذا كله بياناً شافياً.
وجعل سبحانه هذا القرآن كتاباً جامعاً شاملاً لحياة البشر، فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله حاضر بين في هذا الوحي الذي أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لتقوم الحياة على أساسه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 10].(9/101)
والدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الذي بعث الله به جميع رسله، وهو الإسلام، فالرسالة واحدة، يحملها للبشرية رسول بعد رسول كما قال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الشورى: 13].
وإذا كان الذي شرعه الله من الدين للمسلمين المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم هو ما وصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ففيم يتقاتل أتباع موسى، وأتباع عيسى؟ وفيم يتقاتل أتباع موسى وعيسى مع أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ؟. وفيم يتقاتل من يزعمون أنهم على ملة إبراهيم من المشركين مع المسلمين؟.
ولم لا يجتمع الكل ليقفوا تحت الراية الواحدة التي يحملها رسولهم الأخير؟.
ولم لا يتحدوا لينفذوا الوصية الواحدة الصادرة للجميع؟.
(ڑ ڑ ک ک ک ک) [الشورى: 13].
ولكن المشركين في أم القرى ومن حولها وهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم وقفوا من هذه الدعوة موقفاً آخر: (گ گ گ ? ? ?) [الشورى: 13].
والتفرق الذي وقع مخالفاً لتلك الوصية التي أوصى الله بها رسله لم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ولكن عن علم، وقع بغياً وظلماً وحسداً: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الشورى: 14].
تفرقوا تحت تأثير الأهواء الجائرة، والشهوات الباغية، ولو أخلصوا لعقيدتهم واتبعوا منهجهم ما تفرقوا، ولقد كانوا يستحقون أن يأخذهم الله بعذاب أخذاً عاجلاً جزاء بغيهم وظلمهم وتفرقهم، ونقضهم العهد والميثاق.
ولكن كلمة سبقت من العزيز الرحيم لحكمة أرادها بإمهالهم إلى أجل مسمى، ولولا هذه الكلمة لقضي بينهم، فحق الحق، وبطل الباطل، وانتهى الأمر في هذه الحياة الدنيا، ولكنهم مؤجلون إلى يوم الوقت المعلوم.(9/102)
فأما الأجيال الذين ورثوا الكتاب من بعد أولئك الذين تفرقوا واختلفوا من أتباع كل نبي فقد تلقوا عقيدتهم وكتابهم بغير يقين جازم؛ لوجود الخلاف والشك، والغموض والحيرة بين شتى المذاهب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 14].
وما هكذا تكون العقيدة، فالعقيدة يجب أن تكون راسخة في القلب، ظاهرة على الجوارح، شاملة لمنهج الحياة.
ولقد جاءت على أيدي الرسل ليعرف الناس طريقهم إلى الله، ويتوجهوا إليه، ويقودوا من وراءهم من البشر من غير تردد ولا ضلال ولا ارتياب.
فأما حين تصبح العقيدة موضع شك، ومثار ريبة، وأهلها اشرأبوا وشكوا، فهم غير صالحين لقيادة أحد، وهم أنفسهم حائرون.
وعند هذا الحد يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم.
فرسالة الله التي تقود البشرية إلى النور والهدى والسعادة في الدنيا والآخرة قد آلت إلى اختلاف بين أتباعها، والذين جاءوا من بعدها تلقوها في ريبة وشك، ولا تستقيم معها قيادة راشدة، وكذلك كان حال أتباع الرسل يوم جاء هذا الدين الجديد.
فالدين الذي جاء به الرسل صار فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المنافقين والمحرفين، حتى فقد شكله، وروحه، وطعمه، وريحه، فلو بُعث أصحابه الأولون لم يعرفوه، وأصبحت معاقل الإسلام، وأماكن التوحيد والإيمان، ومهود العلم والحضارة، مسرحاً للفوضى والانحلال والاختلال، وسوء النظام، وعسف الحكام، واختفت السنن، وظهرت البدع.
وشغلت الأمة بنفسها لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، وأفلست في معنوياتها، ونضب معين حياتها، لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي، ولا نظاماً ثابتاً من الحكم البشري.
وصار العالم يسير على شفا جرف هار من الفوضى والتمزق؛ لأن الذي ينظم حياة الأمة جفاه أهله، فانهارت حياتهم، وأظلمت ديارهم، وصارت مسرحاً للعابثين والدجالين والظالمين.(9/103)
وصارت الأمم والقبائل والشعوب تتحارب وتتناحر، ويأكل بعضها بعضاً، فلا دين يحكمهم، ولا شريعة تعدل بينهم.
أما النظم التي حرفها أهل الكتاب من اليهود والنصارى فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام، وغاب الدين الحق من حياة الأمة فتاهت في الظلمات، وغرقت في بحر الشهوات.
وبين مظاهر هذا الفساد الشامل العام الطام.. فالله لا يترك خلقه بلا دين ينظم حياتهم.. ويصلهم بربهم.. ويجمع كلمتهم.. ويوحد صفوفهم.
فأكرم الله البشرية كلها ببعثه هادياً جديداً، يهدي الأمة إلى الصراط المستقيم هو محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء والمرسلين، الذي أرسله الله رحمة للعالمين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 164].
فإن أتباع الرسل قبله قد تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم، ولأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم كانوا في شك منه مريب.
لهذا وذاك.. ولانتشار الفساد والظلم والفواحش.. وللتبديل والتحريف في الكتب المنزلة السابقة.. ولخلو مركز القيادة البشرية من قائد مؤمن راشد ثبت مستيقن يعرف طريقه إلى الله، ويوجه الناس إليه.. لذا أرسل الله الكريم الرحيم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالرسالة الأخيرة الكاملة إلى الناس كافة إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [سبأ: 28].
ووجه الله تبارك وتعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الأمر، وأمره أن يدعو، وأن يستقيم على دعوته، وأن لا يلتفت إلى الأهواء المصطرعة حوله، وحول دعوته الواضحة المستقيمة، وأن يعلن تجديد الإيمان بالدعوة إلى التوحيد التي شرعها الله للنبيين أجمعين فقال لهم سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 15].(9/104)
إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء، القيادة الحازمة المستقيمة على منهج الله، تدعو إلى الله على بصيرة، وتستقيم على أمر الله دون انحراف، وتنأى عن الأهواء المنحرفة التي تهب من هنا وهناك.
إنها الرسالة السماوية الأخيرة التي جاء بها سيد الخلق لخير أمة أخرجت للناس، وأنزل عليها القرآن العظيم، وجعله مهيمناً على سائر الكتب قبله، فيه تبيان كل شيء، وتفصيل كل شيء.
فجاءت هذه الرسالة العامة المباركة لتعلن وحدة الرسالة، ووحدة الكتاب، ووحدة المنهج والطريق، وترد الإيمان إلى أصله الثابت، وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [البقرة: 137،138].
جاءت هذه الرسالة لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر، وجاءت لتهيمن فتحقق العدالة في الأرض، وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات، ليؤمن الناس بربهم، ويعبدونه لا يشركون به شيئاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 25].
والله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الكامل، وربى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بهذا الدين، وأقام الجماعة المسلمة التي تهيمن وتقود البشرية بعد وفاته بهذا الدين، ولهذه الجماعة المختارة التي سوف تتحمل المسؤولية صفات وخصائص تكون بها صالحة للقيادة العملية للبشرية، وأهم هذه الصفات: الإيمان.. والتوكل على الله.. واجتناب كبائر الإثم والفواحش.
والمغفرة عند الغضب.. والاستجابة لله ولرسوله.. وإقامة الصلاة.. والشورى الشاملة.. والإنفاق مما رزق الله.. والانتصار من البغي.. والعفو.. والإصلاح.. والتواصي بالحق.
هذه أهم مقومات الأمة المسلمة التي سوف تتحمل أمانة الدين بعد نبيها صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.(9/105)
إن في هذه الأرض متاعاً جذاباً براقاً، وهناك أرزاق وأولاد، وشهوات ولذائذ، وجاه وسلطان، وهناك نعم آتاها الله لعباده في الأرض هبة خالصة من الكريم المنان، لا تتعلق بطاعة ولا معصية، ولكن هذا كله ليس له قيمة ثابتة باقية، إنما هو متاع زائل، متاع محدود الأجل، لا يرفع ولا يخفض، ولا يعد بذاته دليل كرامة عند الله أو مهانة، ولا يعتبر بذاته علامة رضاً من الله أو غضب: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الشورى: 36].
فما عند الله خير في ذاته، وأبقى في مدته، ومتاع الحياة الدنيا زهيد بالنسبة إلى ما عند الله في الآخرة، والعطاء في الدنيا والآخرة كله من عند الله، ومن فضله وإحسانه.
هذا ما يجب أن يعلمه الذين آمنوا، فعن طريق الإيمان بالله ينشأ الإدراك لحقيقة هذا الوجود، ومن ثم ينسق المسلم حركته مع حركة هذا الوجود الكبير سامعاً مطيعاً لربه، ولا ينحرف ولا يشذ عن طاعة ربه.
ويمضي مع الوجود كله إلى بارئ الوجود في طاعة وسلام واستسلام، وهذه الصفة لازمة لكل إنسان، ولكنها ألزم ما تكون للجماعة المسلمة التي تقود البشرية وتهديها إلى بارئ الوجود.
وقيمة الإيمان كذلك الطمأنينة النفسية، والثقة بالطريق، وعدم الحيرة أو التردد أو الخوف أو اليأس.
وهذه الصفات لازمة للأمة التي سوف تقود البشرية إلى ربها.
وقيمة الإيمان التجرد كذلك من الهوى والأغراض والمصالح، إذ يصبح القلب متعلقاً بهدف أبعد من ذاته، ويحس أن ليس له من الأمر شيء، إنما هي دعوة إلى الله، وهو فيها أجير عند الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 47].
وهذا الشعور ألزم ما يكون لمن توكل إليه مهمة القيادة، كي لا يقنط إذا أعرض عنه الشارد أو المعاند من البشر، أو أوذي في الدعوة، ولا يغتر إذا ما استجابت له الأمة، أو دانت له الرقاب، فإنما هو أجير.(9/106)
ولقد آمنت العصبة الأولى من المسلمين إيماناً كاملاً أثر في نفوسهم وأخلاقهم وسلوكهم تأثيراً عجيباً، وأثر في غيرهم ممن عاصرهم، وما زال يؤثر فيمن بعدهم، وكانت صورة الإيمان في النفوس البشرية قد بهتت وغمضت حتى فقدت تأثيرها في أخلاق الناس وسلوكهم.
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشأ صورة للإيمان حية مؤثرة فاعلة، تصلح بها هذه العصبة للقيادة التي وضعت على عاتقها مسؤولية: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [آل عمران: 110].
فالإيمان الذي تلقته هذه الأمة من نبيها حل جميع عقد الشرك والكفر؛ فانحلت العقد كلها، وجاهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم جهاده الأول فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي، وانتصر الإسلام على الجاهلية في البداية، فكان النصر حليفه في كل معركة، وقد دخل هؤلاء الصفوة الأخيار في السلم كافة بقلوبهم وأرواحهم وجوارحهم كافة.
لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى، ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الأحزاب: 36].
حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم، بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم، وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة، لا تجزعهم مصيبة، ولا تبطرهم نعمة، ولا يشغلهم فقر، ولا يطغيهم غنىً، ولا تلهيهم تجارة، ولا تستخفهم قوة، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم.
أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأحسنها أخلاقاً، وأزكاها نفوساً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة شرعه، وإبلاغ دينه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَسُبُّوا أصْحَابِي، فَلَوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أحُدٍ ذَهَبًا، مَا بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3673) واللفظ له، ومسلم برقم (2541).(9/107)
وقال صلى الله عليه وسلم : «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم» متفق عليه(1).
وكان علمهم بالله قبل ذلك باهتاً، وكانوا قبل ذلك يسجدون للأصنام والأوثان، وكانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل، وتنازل عن مملكته لأناس خلع عليهم خلعة الربوبية، فأخذوا بأيديهم أزمة الأمور، وتولوا إدارة المملكة، وتدبير شئونها، وتوزيع أرزاقها، وهكذا زين لهم الشيطان سوء أعمالهم.
فكانت ديانتهم سطحية طافية، ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم، ولا تأثير لها في أخلاقهم وسلوكهم.
وكان إيمانهم بالله، وإحالتهم خلق السموات والأرض إلى الله، لا يزيد على جواب تلميذ قيل له: من بنى هذا القصر؟
فيسمي ملكاً من الملوك دون أن يخافه أو يخضع له، فكان دينهم عارياً عن الخشوع لله، ودعائه، وهيبته، وما كانوا يعرفون عن الله ما يولد عظمته في قلوبهم، ولا ما يحببه إليهم، فكانت معرفتهم مبهمة غامضة، قاصرة مجملة، لا تبعث في نفوسهم هيبة، ولا محبة، ولا عبادة.
فانتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة عميقة واضحة روحية، ذات سلطان على النفس والروح، والقلب والجوارح، ذات تأثير في الأخلاق والسلوك، وذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها.
آمنوا بالله الذي خلق كل شيء، المالك لكل شيء، وله الخلق والأمر، وعلموا أنه يثيب على الطاعة الجنة، ويعاقب على المعصية بالنار، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وبيده مقاليد الأمور في السماء والأرض.
وظهر منهم من روائع الإيمان واليقين، وقوة الصبر والشجاعة، ما حير العقول، ولا يزال موضع حيرة ودهشة إلى الأبد، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق بالله سبحانه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2652) واللفظ له، ومسلم برقم (2533).(9/108)
وكان هذا الإيمان قوة باعثة، ومدرسة خلقية ونفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية: من صرامة إرادة، وقوة نفس، ومحاسبتها والإنصاف منها، وكان أقوى وازع عرف التاريخ يزجر النفس عن الزلات والسقطات.
فإذا سقط الإنسان سقطة أو زلّ زلة حيث لا تراقبه عين، ولا يعلم به أحد، تحول هذا الإيمان نفساً لوامة، عنيفة، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بجرمه، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة، ويتحملها مرتاحاً مطمئناً؛ تفادياً من سخط الله، وعقوبة الآخرة.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ فقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي زَنَيْتُ، فَأعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: «أبِكَ جُنُونٌ؟». قَالَ: لا، قَالَ: «فَهَلْ أحْصَنْتَ». قَالَ: نَعَمْ، فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» متفق عليه(1).
وكان هذا الإيمان الذي أكرمهم الله به حارساً لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته، يملك نفسه أمام المطامع والشهوات الجارفة، وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراه أحد، وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحداً.
وكل ذلك ثمرة الإيمان ومراقبة الله، واستحضار علمه في كل مكان وزمان.
وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من الأخلاق والسلوك والأفعال، والشرك، والظلم والفساد، لا يخضعون لسلطان، ولا يقرون بنظام، يسيرون على الأهواء، ويركبون العمياء، ويخبطون خبط عشواء.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6815) واللفظ له، ومسلم برقم (1691).(9/109)
فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها، واعترفوا لله بالملك والسلطان، والأمر والنهي، والتحليل والتحريم، بالعبودية لله، والطاعة المطلقة لله ورسوله، واستسلموا لربهم، وأصبحوا عبيداً لا يملكون مالاً ولا نفساً، ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يأذن الله به ويسمح به.
لا يحاربون ولا يصالحون إلا بإذن الله، ولا يرضون ولا يسخطون ولا يعطون ولا يمنعون، ولا يَصِلون ولا يقطعون إلا بإذن الله وفق أمره.
هذا الإيمان الذي انطبع في قلوب الجماعة التي اختارها الله لقيادة البشر ودعوتها بهذه العقيدة.
ومن مقتضيات هذا الإيمان التوكل على الله، فالإيمان بالله وحده يقتضي التوكل عليه وحده دون سواه، وهذا الشعور ضروري لكل مؤمن، كي يقف رافع الرأس، لا يحني رأسه إلا لله، مطمئن القلب بالله، لا يرجو ولا يرهب أحداً إلا الله.
فهذا هو التوحيد في أكمل صوره، إيمان بالله وأسمائه وصفاته، ويقين أنه لا يستطيع أحد في هذا الوجود أن يفعل شيئاً إلا بمشيته، وأنه لا يقع شيء إلا بإذنه، ومن ثم يقصر توكله على ربه، ولا يتوجه المؤمن في فعل ولا ترك لمن عداه، وطهارة القلب ونظافة السلوك من كبائر الإثم والفواحش أثر من آثار الإيمان الصحيح، وضرورة من ضرورات القيادة الراشدة.
وما يبقى قلب على صفاء الإيمان ونقاوته وهو يقدم على كبائر الذنوب والمعاصي ولا يتجنبها، وما يصلح قلب للقيادة وقد فارقه صفاء الإيمان، وطمسته المعصية، وذهبت بنوره السيئات.
ولقد ارتفع الإيمان في قلوب تلك العصبة المؤمنة حتى بلغت في سلوكها وأخلاقها وأعمالها ما تحار فيه العقول، وتأهلت بذلك لقيادة البشرية قيادة غير مسبوقة ولا ملحوقة.
والله سبحانه يعلم ضعف الإنسان، فجعل الحد الذي يصلح به للقيادة والذي ينال معه ما عند الله هو اجتناب كبائر الإثم والفواحش، لا صغائر الآثام والذنوب كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ??) [الشورى: 37].(9/110)
ورحمة الله واسعة، فتسع ما يقع من الإنسان من هذه الصغائر؛ لأنه أعلم بطاقته، وهذا فضل من الله، وسماحة ورحمة بهذا الإنسان، وذلك يوجب الحياء من الله، فالسماحة تخجل، والعفو يثير في القلب الكريم معنى الحياء من العفو.
ومن صفات تلك العصبة المختارة أنهم إذا ما غضبوا يغفرون، وتأتي هذه الصفة بعد الإشارة الخفية إلى سماحة الله مع الإنسان في ذنوبه وأخطائه، فتحبب في السماحة والمغفرة بين العباد.
والله عزَّ وجلَّ لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولا يحملها فوق طاقتها، فهو يعلم أن الغضب انفعال بشري ينبع من فطرته، وهو ليس شراً كله، فالغضب لله ولدينه وللحق والعدل مطلوب وفيه الخير.
ومن ثم لا يحرم الغضب لذاته، ولا يجعله خطيئة، ولكنه في الوقت ذاته يدعوه ربه إلى أن يغلب غضبه، وأن يغفر ويعفو، ويحسب له هذه صفة مثلى من صفات الإيمان المحببة.
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني، قال: «لا تَغْضَبْ». فَرَدَّدَ مِرَاراً، قَالَ: «لا تَغْضَبْ» أخرجه البخاري(1).
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يغضب لنفسه قط، إنما كان يغضب لله، فإذا غضب لله لم يقم لغضبه شيء، ولكن هذه درجة عالية، لم يكلف الله نفوس المؤمنين إياها وإن كان يحببهم فيها، إنما يكتفي منهم بالمغفرة عند الغضب، والعفو عند القدرة، ما دام الأمر متعلقاً بالأشخاص.
ومن صفاتهم الاستجابة لربهم في كل أمر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [الشورى: 38].
فأزالوا العوائق التي تقوم بينهم وبين ربهم، تلك العوائق الكامنة في النفس التي تمنع الوصول إلى ربها، وما يقوم بين النفس وربها إلا عوائق من نفسها، عوائق من شهواتها ونزواتها.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6116).(9/111)
فإذا خلصت من هذا كله، وجدت الطريق إلى ربها مفتوحاً وموصولاً، وحينئذ تستجيب بلا عائق، ولا تقف أمام كل تكليف بعائق من هوى يمنعها أو شهوة تقعدها، وهذه هي الاستجابة، ومن صورها: (وأقاموا الصلاة) وللصلاة في هذا الدين مكانة عظمى، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي صورة الاستجابة الأولى لله، وهي الصلة بين العبد وربه، وهي مظهر المساواة بين العباد في الصف الواحد ركعاً وسجداً لله، لا يرتفع رأس على رأس، ولا تتقدم رِجل على رِجل، ولا يعلو صوت على صوت.
ومن صفات هؤلاء الأخيار: أن أمرهم كله شورى بينهم، فقد تحملوا مسؤولية الدين، وإقامة الدين، والعمل بالدين، وتعليم الدين، والدعوة إلى الدين، وكل هذه أمور عظام تحتاج إلى عقول تفكر وتشاور، ثم تسمع وتطيع، ثم تباشر العمل في الميدان، فالشورى طابع الجماعة الإسلامية التي أمرها الله بإبلاغ دينه، وتوجيه العباد إلى ربهم، إن الشورى طابع ذاتي للحياة الإسلامية، وسمة مميزة للجماعة الإسلامية المختارة لهداية البشرية وقيادتها.
والشورى من ألزم وأهم صفات القيادة والدعوة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في أمر الدين ونشره، وقد أمره ربه بذلك كما قال سبحانه: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [آل عمران: 159].
أما شكل الشورى فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان، فالنظم الإسلامية كلها ليست أشكالاً جامدة، وليست نصوصاً حرفية، إنما هي قبل كل شيء روح ينشأ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب، وتكيف الشعور والسلوك بهذه الحقيقة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والبحث في أشكال الأنظمة والأحكام الإسلامية دون الاهتمام بحقيقة الإيمان الكامنة وراءها لا يؤدي إلى شيء، فلا بدَّ من الإيمان أولاً، والعمل الصحيح ثانياً: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110].(9/112)
ولا بدَّ للمسلم من الإنفاق فيما يرضي الرب تبارك وتعالى؛ تطهيراً للقلب من الشح، واستعلاء على حب المال، وثقة بما عند الله، وكل هذه ضرورية لاستكمال معنى الإيمان، فإن الدين بذل وترك من أجل مصلحة الدين، وأمر ونهي، وحب وبغض في الله.
والدعوة كفاح، فلا بدَّ من التكافل في هذا الكفاح وجرائره، ولهذا كان من صفاتهم: (? ? ? ?) [البقرة: 3].
وكان التكافل بين تلك الصفوة المختارة كاملاً، بحيث لا يبقى لأحد مال متميز كما حدث في أول العهد المدني بهجرة المهاجرين من مكة، ونزولهم على إخوانهم الأنصار في المدينة، فأكرموهم وأضافوهم ابتغاء وجه الله، فلما هدأت حال الأمة، وضعت الأسس الدائمة للإنفاق في الزكاة، فالإنفاق في عمومه سمة من سمات الجماعة المؤمنة المختارة للقيادة بهذه الصفات العالية.
ومن صفاتهم الكريمة: صفة الانتصار من البغي، وعدم الخضوع للظلم، وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس، لتكون خير أمة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتغشى أوساط الناس، وممالك الدول، وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل كما قال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھھ) [الشورى: 39].
فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي، وأن تدفع العدوان الجائر الذي يهلك الحرث والنسل رحمة بالعباد.
وأَمْرُ المؤمنين بكف أيديهم عمن يؤذيهم من الكفار في مكة أَمْرٌ عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصيلة، وله أسبابه الخاصة، إلى جانب ما فيه من تربية المسلمين على الصبر.
ولقد كانت هناك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي منها:(9/113)
أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم يصدر عن هيئة مسيطرة، إنما هو تعذيب فردي، فالذين يؤذون من أسلم هم غالباً خاصة أهله، ولم يكن أحد يجرؤ على إيذائه، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب أن تقع معركة في كل بيت بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد، والمسالمة كانت أقرب إلى إلانة القلوب من المخاشنة.
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة ونجدة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى والظلم، وصبر المسلمين على الأذى كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين، وهذا ما حصل في حادث الشعب، وحصر بني هاشم فيه، فقد صارت النخوة ضد هذا الحصار، ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة من الظلم والجور.
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف، وأعصاب متوفزة لا تنفع لنظام.
والتوازن في الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوفز الدائم، وإخضاعها لهدف وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب، مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة، وعلى كل مغنم، فلهذه الاعتبارات وأمثالها اقتضت سياسة المسالمة والصبر في مكة، مع تقرير الطابع الأساسي من أول يوم بالانتصار ممن بغى واعتدى.
ويؤكد هذه القاعدة: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 40].
مقابلة السيئة بالسيئة كي لا يتبجح الشر ويطغى حين لا يجد رادعاً يكفه عن الإفساد في الأرض، فيمضي وهو آمن مطمئن.
هذا هو الأصل مع استحباب العفو ابتغاء وجه الله، وإصلاح النفس من الغيظ، وهو استثناء من تلك القاعدة.
والعفو لا يكون إلا مع المقدرة على جزاء السيئة بالسيئة، فهناك يكون للعفو وزنه ووقعه في إصلاح المعتدي والمسامح سواء.
فالمعتدي حين يشعر بأن العفو جاء سماحة، ولم يجيء ضعفاً يخجل ويستحي،
والقوي الذي يعفو تصفو نفسه وتعلو، فالعفو عندئذ خير لهذا وهذا، ولا كذلك عند الضعف والعجز.(9/114)
أما العفو عند العجز فهو شر يُطمع المعتدي، ويذل المعتدى عليه، وينشر البغي والفساد في الأرض.
والذي ينتصر بعد ظلمه، ويجزي بالسيئة السيئة، ولا يعتدي، ليس عليه من جناح، وهو يزاول حقه المشروع، فما لأحد عليه من سلطان، ولا يجوز أن يقف في طريقه أحد.
إنما الذين يجب الوقوف في طريقهم هم الذي يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 41،42].
إن الأرض لا تصلح وفيها ظالم لا يقف له الناس؛ ليكفوه ويمنعوه من ظلمه، وفيها باغ يجور ولا يجد من يقاومه ويقتص منه.
والله عزَّ وجلَّ يتوعد الظالم الباغي بالعذاب الأليم، ولكن على الناس كذلك أن يقفوا له، ويأخذوا عليه الطريق.
أما حين يكون الصبر والسماحة مع المقدرة استعلاءً لا استخذاءً، وتجملاً لا ذلاً فهو محمود: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 43].
هذه أهم صفات المؤمنين التي ترسم طابعاً مميزاً للجماعة التي تقود البشرية بعد نبيها، وترجو ما عند الله وهو خير وأبقى ( ژ ژ ڑڑ) [الشورى: 36].
ألا ما أعظم فضل الله على عباده، أية رعاية؟، وأية رحمة؟ وأية مكرمة؟، وأية عناية بهذا الإنسان من الرب الكريم؟.
إن الله تبارك وتعالى العلي الكبير، الغني الحميد، يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان، فيوحي إليها الوحي، ويرسل إليها الرسل لإصلاح أمرها، وإنارة طريقها، ورد شاردها، وهي وغيرها أهون على الله من البعوضة على الإنسان حين تقاس إلى ملكه العريض الواسع الذي لا يحيط به سواه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [الشورى: 52].
فهذا الكتاب العزيز، الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم نور خالص تخالط بشاشته القلوب التي يشاء الله لها أن تهتدي به بما يعلمه من حقيقتها، ومن مخالطة هذا النور لها.(9/115)
والرسول صلى الله عليه وسلم واسطة لتحقيق مشيئة الله بما يعلمه بما في قلوب عباده، فهو يهدي إلى الصراط المستقيم الذي تلتقي عنده المسالك؛ لأنه الطريق إلى المالك الذي له ما في السموات وما في الأرض، والذي تصير الخلائق كلها إليه وتلتقي عنده، وهو يقضي فيها بأمره.
وهذا النور يهدي إلى طريقه الذي اختار للعباد أن يسيروا فيه.. ليصيروا إليه في النهاية مهتدين طائعين.
وقد وكل الله للقيادة الجديدة للبشرية ممثلة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة أمانة قيادة البشرية إلى الصراط المستقيم كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [الشورى: 52،53].
ألا ما أعظم هذه الأمانة.. وما أشد تبعاتها.. وما أعظم أجر من أداها.. وما أسعد البشرية التي تقبلها.
إن الله عزَّ وجلَّ بعث كل رسول بكلمة التوحيد، ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد من أول يوم نزل فيه آدم صلى الله عليه وسلم إلى الأرض.
عرفتها على لسان نوح وهود وصالح وغيرهم من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم الذين لم يتصل لهم عقب يقوم على هذه الكلمة ويعيش بها ولها.
ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعد إبراهيم، فلما عرفتها على لسان إبراهيم ظلت متصلة في أعقابه، وله أكبر قسط في إقرار هذه الكلمة في الأرض، وإبلاغها إلى الأجيال من بعده عن طريق ذريته وعقبه: (ک گ گ گ گ ? ??) [الزخرف: 28].
ولقد قام بها من بعده رسل كان منهم ثلاثة من أولي العزم وهم: موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم.
ولم يبعث الله نبياً بعد إبراهيم إلا من ذريته ونسله، وأوصى بها إبراهيم بنيه من بعده كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 132].(9/116)
وقام عليها من بعده رسل من نسله يتصلون لا ينقطعون، حتى كان آخرهم وسيدهم وأفضلهم ابنه الأخير من نسل إسماعيل، وأشبه أبنائه به، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، محمد صلى الله عليه وسلم ، قائل كلمة التوحيد في صورتها الأخيرة الكاملة الشاملة للبشرية كافة.
تلك الكلمة: (لا إله إلا الله) التي تجعل الحياة كلها تدور حول هذه الكلمة، وتجعل لها أثراً في كل نشاط للإنسان وكل تصور.
فهذه هي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه، هذه هي تأتي إلى هذا الجيل على لسان واحد من عقبه، فكيف يستقبلها من ينتسبون إلى إبراهيم وإلى ملة إبراهيم؟.
لقد بعد بهم العهد.. ومتعهم الله جيلاً بعد جيل.. حتى طال عليهم العمر.. ونسوا ملة إبراهيم.. وأصبحت كلمة التوحيد فيهم غريبة منكرة.. واستقبلوا صاحبها أسوأ استقبال.
وقاسوا الرسالة السماوية بالمقاييس الأرضية فاختل في أيديهم كل ميزان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ں ں ? ?? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [الزخرف: 29،30].
وفرق كبير بين الحق والسحر، وإنما هي دعوى، وكفار قريش هم أول من يعلم بطلانها، وما كان كفار وكبراء قريش ليغيب عنهم أنه الحق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 33].
وقد اعترضوا على اختيار الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي أرسله الله إليهم حاملاً الحق والنور كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 31].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذؤابة قريش، ثم من ذؤابة بني هاشم، وهم في العلية من العرب، كما كان معروفاً بحسن الخُلق، والصدق، والأمانة قبل بعثته، قد جمع المجد من أطرافه.(9/117)
ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن زعيم قبيلة، ولا رئيس عشيرة، في بيئة تعتز بمثل هذه القيم القبلية، والله أعلم حيث يجعل رسالته، ولقد اختار الله لها من يعلم أنه لها أهل، ولعله سبحانه لم يشأ أن يجعل لهذه الرسالة سنداً من خارج طبيعتها، ولا قوة من خارج حقيقتها، فاختار لها رجلاً ميزته الكبرى حسن الخلق، وهو من طبيعة هذه الدعوة، وسمته البارزة التجرد لعمله، وهو من حقيقة هذه الدعوة.
ولم يختره زعيم قبيلة، ولا رئيس عشيرة، ولا صاحب جاه، ولا صاحب ثراء، كي لا تلتبس قيمة واحدة من هذه القيم الأرضية بهذه الدعوة النازلة من السماء، ولكي لا تزدان هذه الدعوة بحلية من حلي هذه الأرض ليست من حقيقتها في شيء.
ولكي لا يكون هناك مؤثر مصاحب لها خارج عن ذاتها المجردة، ولكي لا يدخلها طامع، ولا يتنزه عنها متعفف.
فلما اعترضوا على اختيار العليم الخبير لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم رد عليهم القرآن مستنكراً هذا الاعتراض على رحمة الله واختياره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 32].
وكانت قيادة البشرية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لبني إسرائيل، فالله خالق البشر وحده، وهو الذي يشرع لهم وحده، ويرسل لهم من شاء وحده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [الجاثية: 16].
فكانت فيهم التوراة شريعة الله.. وكان فيهم الحكم لإقامة شريعة الله.. وكان فيهم النبوة بعد رسالة موسى وكتابه للقيام على الشريعة والكتاب.. وكثر فيهم الأنبياء وتتابعوا فترة طويلة.. فكانت مملكتهم، ونبواتهم في الأرض المقدسة الطيبة.. الكثيرة الخيرات بين النيل والفرات.. وفضلهم الله على أهل زمانهم بطبيعة الحال، وكان مظهر هذا التفضيل الأول اختيارهم للقيادة بشريعة الله، وإيتائهم الكتاب والحكم والنبوة، وآتاهم الله شريعة بينة فاصلة حاسمة، لا غموض فيها ولا لبس، ولا عوج ولا انحراف، ولم يكن هناك ما يدعو إلى الاختلاف.(9/118)
وما حصل الخلاف بين بني إسرائيل عن غموض في الأمر، ولا عن جهل بالحكم، إنما كان ذلك عن تحاسد بينهم، ونزاع وظلم، مع معرفة الحق والصواب، وكان الواجب أن يشكروا هذه النعم التي أنعم الله بها عليهم، ويقوموا بها على أكمل الوجوه، وأن يجتمعوا على الحق الذي بينه الله لهم، ولكنهم عكسوا الأمر، فعاملوها بعكس ما يجب.
وافترقوا فيما أمروا بالاجتماع عليه على الرغم مما منّ الله عليهم به من العلم الموجب لعدم الاختلاف، وإنما حملهم على الاختلاف والتفرق البغي والظلم من بعضهم على بعض: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الجاثية: 17].
وبذلك انتهت قيادتهم في الأرض، وبطل استخلافهم وأمرهم بعد ذلك إلى يوم القيامة.
ثم كتب الله تبارك وتعالى الخلافة في الأرض لرسالة جديدة ورسول جديد، يرد إلى شريعة الله استقامتها، ويحكم شريعة الله لا أهواء البشر في حياة البشرية جمعاء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [الجاثية: 18،19].
وهكذا يتمحض الأمر:
فإما شريعة الله.. وإما أهواء الذين لا يعلمون.. وليس هناك من فرض ثالث.. ولا طريق وسط بين الشريعة الإلهية، والأهواء البشرية.. وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء.
فكل ما عدا شريعة الله هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون.
وكل ما جاء به القرآن الكريم وكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم (? ? ? ? ? ? ??) [الجاثية: 20].
فهذا الكتاب العظيم فيه تبيان كل شيء، فيه الهداية والإنارة، فهو بذاته بصائر كاشفة، وهو بذاته هدى، وهو بذاته رحمة.
وحين يستيقن القلب ذلك يعرف طريقه إلى ربه، وعندئذ يصبح القرآن له نوراً وهدى ورحمة بهذا اليقين.(9/119)
إن الله عزَّ وجلَّ يعرض على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أحوال الأمم السابقة مع رسلهم، وهو الذي انتهت إليه أمانة الدعوة إلى الله في الأرض كلها إلى آخر الزمان، ووكلت إليه هداية البشرية إلى ربها في العالم كله إلى يوم القيامة.
واضطلع بأكبر عبء كلفه رسول، يعرض عليه بالتفصيل أحوال الأنبياء مع أممهم؛ ليرى في حياة الأنبياء الرحمة بالخلق، والإحسان إليهم، والعفو عنهم، والشفقة عليهم، والصبر على أذاهم، واللطف بهم.
ويرى كذلك جهد الأنبياء وتضحيتهم من أجل إعلاء كلمة الله، وإقرار حقيقة الإيمان في الأرض، وتوجيه الخلق إلى عبادة ربهم.
ويطلع منها على عناد البشرية أمام دعوة الحق، وفساد القيادة الضالة، وغلبتها على القيادة الراشدة، ثم رحمة الله بعباده بإرسال الرسل تترى كلما فسدت أحوال البشر، وضلوا عن طريق الإيمان والهدى كما قال سبحانه: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 44].
وتعرض تلك الأحوال العجيبة كذلك على الأمة المسلمة عامة، فهي الوارثة لدعوة الله في الأرض بعد رسولها صلى الله عليه وسلم ، وللمنهج الإلهي المنبثق من هذه الدعوة؛ لترى صور الجهاد والكفاح، والتربية والدعوة، والإصرار والثبات من جميع الأنبياء والمرسلين؛ لأقرار حقيقة الإيمان في الأرض.
كما ترى فيها عناية الله بالقلة المؤمنة، وإنجائها من الهلاك الشامل في ذلك الحين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يوسف: 110].
وتعرض آيات القرآن كذلك تلك الأحوال على الكفار والمشركين ليروا فيها مصير أسلافهم المكذبين، ويدركوا نعمة الله عليهم في إرساله إليهم رسولاً رحيماً بهم، لم يدع عليهم بالهلاك الشامل، وذلك لما يقدره من الرحمة بهم إلى حين.
حقاً: (ٹ ٹ ? ? ??) [الحج: 65].(9/120)
نِعَم الله تنزل على خلقه كل آن.. ورسله تتوالى عليهم.. وكتبه تنزل عليهم.. وآلاؤه معروضة عليهم، وهم يقابلون ذلك بالعناد والإعراض والاستكبار، والله يمهلهم لعلهم يتوبون ويرجعون إليه.
ترى هذه البشرية كلها تساوي تلك العناية الكريمة من الله، المتجلية في استقرار إرادته سبحانه في إرسال رسله تترى بعد العناد والإعراض والاستكبار من هذا الخلق الضعيف الهزيل؟.
ثم تلك الجهود الموصولة منذ عهد نوح، وتلك التضحيات النبيلة التي لم تنقطع على مدار التاريخ من رسل يُكفر بهم، أو يُستهزأ بهم، أو يُّحرقون بالنار، أو يُنشرون بالمناشير، أو يَهجرون الأهل والديار من أجل إعلاء كلمة الله؟.
وما بذله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه من جهود قل أن يثبت لها أحد، ثم تتوالى الجهود المضنية، والتضحيات المذهلة من القائمين على الدعوة من بعده في كل أرض، وفي كل جيل؟.
والجواب: نعم.
فإن استقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض، وإقامة منهجه في حياة الناس، يساوي كل هذا الجهد، وكل هذا الصبر، وكل هذه المشقة، وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين في كل زمان ومكان.
فالحياة بدون الإيمان وبدون شريعة الله ضلال وظلام، وفساد وطغيان، وبغي وعدوان، وظلم وفسق، وشقاء وعناء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 164].
ولا تسعد البشرية ولا تستقيم حياتها إلا باتباع منهج الله، وتحكيم شرعه في جميع الأمور، ونبذ ما سواه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الأنعام: 153].
فإذاً لا بدَّ من أداء الأمانة، والقيام بالوظيفة؛ ليبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ويدخل الإيمان كل بيت، وكل قلب، ويسمع الناس كلام ربهم، ويذكروه بألسنتهم، ويطيعوه ويعبدوه وحده لا شريك له (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].(9/121)
ولا بدَّ من جهد بشري لإقرار حقيقة الإيمان في عالم الإنسان، هذا الجهد اختار الله له صفوة من عباده هم الأنبياء والرسل، وقلة مختارة من أتباعهم هم المؤمنون الصادقون.
اختارهم عزَّ وجلَّ لإقرار حقيقة الإيمان في الأرض، وهي أمانة لا بدَّ أن يؤدوها.. فنعم الرجال.. ونعم العمل.. ونعم الجزاء.
إن هذه الحقيقة العظيمة أكبر من الإنسان ذاته، ومن أرضه وسمائه، ومن كل هذا الكون الكبير، وقد أثبت الواقع التاريخي المتكرر أن النفس البشرية لم تبلغ إلى آفاق الكمال المقدر لها بأية وسيلة كما بلغتها باستقرار حقيقة الإيمان بالله فيها.
وأن الحياة البشرية لم ترتفع إلى هذه الآفاق بوسيلة أخرى كما ارتفعت بهذه الوسيلة، وأن الفترات التي استقرت فيها هذه الحقيقة في الأرض، وتسلم أهلها قيادة البشرية كانت قمة سامقة في التاريخ، بل كانت حلماً أكبر من الخيال، ولكنه متمثل في واقع بحياة الناس.
وقد تحقق هذا المستوى العالي من الحياة والأخلاق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونالوا بذلك رضا ربهم، ورضوا عنه، وجزاهم على تلك الطاعة والعبودية الجنة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
إنه لا يمكن أن ترتقي البشرية ولا أن ترتفع عن طريق علم، أو فلسفة، أو فن، أو مذهب، أو نظام إلى المستوى الذي وصلت إليه عن طريق استقرار حقيقة الإيمان بالله في نفوس الناس، وحياتهم، وأخلاقهم.
وحين فقدت البشرية قيادة المؤمنين الصادقين لم ينفعها شيء من ذلك كله، بل انحدرت إلى أقل من مستوى البهائم الضالة.(9/122)
بل انحدرت قيمها وأخلاقها، وموازينها وإنسانيتها، كما غرقت في الشقاء النفسي، والحيرة الفكرية، والأمراض العصبية، على الرغم من تقدمها الحضاري في سائر الميادين، وتمرغها في الشهوات في كل حين، وستعرض البشرية، وما زال أكثرها معرضاً عن الهدى ودين الحق، كما أعرضت عن دعوة نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد وغيرهم من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [يوسف: 103،104].
وستذهب مع القيادات الضالة المضلة، الظالمة الكافرة، وستعذب الدعاة إلى الحق أنواعاً مختلفة من العذاب، وتنكل بهم ألواناً من النكال ابتلاءً من الله، ليعلم الله الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 35].
ستفعل ذلك كما ألقت إبراهيم في النار، ونشرت زكريا بالمنشار، وسخرت واستهزأت، وكفرت وكذبت بالأنبياء والرسل على مدار التاريخ.
ولكن دين الله باق، والدعوة إلى الله لا بدَّ أن تمضي في طريقها كما أراد الله؛ لأنها الحل الوحيد لفلاح وسعادة البشرية إلى يوم القيامة، وهي كرامة الله للبشرية جمعاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 164].
وحسن الخلق أحسن ما يتحلى به البشر، وأعظم ما يؤثر في النفوس، فالمقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم إليه، وسكنت نفوسهم لديه، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان حسن الأخلاق، رحيماً كريماً، يتجاوز عن ذنوبهم، ويعفو عن إساءتهم، ويصفح عن زلاتهم، ويخصهم بوجوه البر والشفقة، والإكرام والإجلال.
فلهذا وجب أن يكون الرسول أحسن الناس أخلاقاً، ليؤثر في قلوب الناس، ولأنه محل قدوة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كما وصفه الذي خلقه وأرسله بقوله: (? ? ? ںں) [القلم: 4].(9/123)
وقوله سبحانه: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [آل عمران: 159].
والنبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، بعثه الله رسولاً إلى الثقلين الإنس والجن، والإنس والجن كانوا متعبدين بشرائع الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 130].
وعلى هذا فيكون اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالبعثة إلى الثقلين هو اختصاصه بالبعثة إلى جميعهم لا إلى بعضهم، ومن قبله كان يُبعث إلى طائفة مخصوصة منهم.
والجن كالإنس مثابون معاقبون حسب أعمالهم، وهم مأمورون بالشرائع في الدنيا، ولذلك استحقوا الدرجات في الآخرة حسب أعمالهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحقاف: 19].
والرسل مأمورون بإبلاغ ما أرسلوا به إلى الناس، فهم يتلقون الوحي من الله، ويبلغونه للناس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [الأنعام: 19].
وكلام الله إلى البشر يتم بواحدة من ثلاث:
الأولى: الوحي الذي يلقيه الله في النفس مباشرة، فتعرف أنه من الله عزَّ وجلَّ.
الثانية: أن يكلم الله النبي من وراء حجاب كما كلم الله موسى صلى الله عليه وسلم .
الثالثة: أن يرسل الله رسولاً وهو الملك، فيوحي بإذن الله ما يشاء إلى الرسول بإحدى الطرق الآتية:
إحداها: ما كان يلقيه الملك جبريل في رَوْع الرسول وقلبه من غير أن يراه.
الثانية: أن يتمثل الملك للرسول رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول، كما كان يأتيه على صورة دحية الكلبي أحد الصحابة.
الثالثة: أن يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليه، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى أن راحلته من شدته لتبرك به إلى الأرض.(9/124)
الرابعة: أن يرى الملك في صورته التي خلقه الله عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين:
مرة في الأرض.. ومرة عند سدرة المنتهى في السماء كما قال سبحانه: (ڑ ک ک کک گ گ گگ ? ? ??) [النجم: 13-15].
فهذه صور الوحي وطرق الاتصال بالأنبياء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [الشورى: 51،52].
4- حكمة موت الرسل
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [آل عمران: 144].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 34،35].
الله تبارك وتعالى أحكم الحاكمين، يخلق ما يشاء ويختار، يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويكرم ويهين، ويهدي ويضل.
خلق السموات والأرض، وخلق الليل والنهار، وخلق الشمس والقمر.
وخلق الملائكة والشياطين، وخلق الإنس والجن، وخلق الطير والحيوان، وخلق الجماد والنبات.
ومن مخلوقاته عزَّ وجلَّ ما يبقى إلى أجل ثم يموت كالبشر.. ومنها ما أبقاه إلى يوم القيامة كالشيطان وذريته.. ولله في ذلك حكم منها:
أن الله عزَّ وجلَّ جعل الشيطان محنة للعباد، يخرج به الطيب من الخبيث، ووليه من عدوه، فأبقاه سبحانه ليحصل الغرض المطلوب بخلقه.
ومنها أن حكمته جل وعلا اقتضت بقاء أعدائه الكفار في الأرض إلى آخر الدهر، ولو أهلكهم البتة لتعطلت الحكم الكثيرة في إبقائهم، وكما امتحن الله به آدم صلى الله عليه وسلم امتحن به أولاده من بعده.
ومنها أن الشيطان لما كان لا نصيب له في الآخرة وقد سبق له طاعة وعبادة جزاه بها في الدنيا بأن أعطاه البقاء فيها إلى آخر الدهر، ولكنه استغل هذا البقاء لإفساد العباد وإضلالهم كما قال الله عنه: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ??) [ص: 79-83].(9/125)
ومنها أن إبقاء الشيطان لم يكن كرامة في حقه، فإنه لو مات لكان خيراً له، وأخف لعذابه، وأقل لشره، ولكنه لما غلظ ذنبه بالإصرار على المعصية، ومخاصمة من ينبغي التسليم لحكمه، وإضلال عباده، كانت عقوبة الذنب أعظم عقوبة، فأُبقي في الدنيا، وأُملي له؛ ليزداد إثماً على إثم ذلك الذنب، فيستوجب العقوبة التي لا تصلح لغيره، فيكون رأس أهل الشر في العقوبة كما كان رأسهم في الشر والكفر.
فكل عذاب ينزل بأهل النار يبدأ به فيه، ثم يسري منه إلى أتباعه عدلاً ظاهراً وحكمة بالغة.
ومنها أن الله سبحانه علم أن في ذرية آدم من لا يصلح لمساكنته في داره، ولا يصلح إلا لما يصلح له الشوك والروث فأبقاه له، فكأنه قال له: هؤلاء أصحابك وأولياؤك فاجلس في انتظارهم، وكلما مر بك واحد منهم فشأنك به، فلو صلح لما مكنتك منه، فأنا ولي الصالحين وأنت ولي المجرمين: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 99،100].
وأما إماتة الأنبياء والمرسلين فلم يكن ذلك لهوانهم على الله، ولكن ليصلوا إلى محل كرامته، ويستريحوا من نكد الدنيا وتعبها، ومقاساة أعدائهم وأتباعهم.
وموت الأنبياء والرسل أصلح لهم وللأمة:
أما هم فلراحتهم من الدنيا، ولحوقهم بالرفيق الأعلى في أكمل لذة وسرور، لا سيما وقد خيرهم ربهم بين البقاء في الدنيا واللحاق به.
وأما الأمم فيعلم أنهم لم يطيعوهم في حياتهم خاصة، بل أطاعوهم بعد مماتهم كما أطاعوهم في حياتهم، وأن أتباعهم لم يكونوا يعبدونهم، بل يعبدون الله بأمرهم ونهيهم، والله هو الحي الذي لا يموت، فكم في إماتتهم من حكمة ومصلحة لهم وللأمم.
والأنبياء من البشر، والله عزَّ وجلَّ لم يخلق البشر في الدنيا على خلقة قابلة للدوام، بل جعلهم خلائف في الأرض، يخلف بعضهم بعضاً، فلو أبقاهم لفاتت المصلحة والحكمة في جعلهم خلائف، ولضاقت بهم الأرض.(9/126)
فالموت كمال لكل مؤمن، ولولا الموت لما طاب العيش في الدنيا، ولا هناء لأهلها بها، فالحكمة في الموت كالحكمة في الحياة فسبحان (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 2].
وشعور الإنسان بأن الشيطان عدوه، وأنه حي راصد لحركاته يثير ذلك في نفس الإنسان الحذر من الفخ الذي ينصبه الشيطان للإنسان.
وقد جعل الإسلام المعركة الرئيسية بين الإنسان والشيطان، ووجه قوى المؤمن كلها لكفاح الشيطان والشر الذي ينشئه في الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [فاطر: 6].
والشيطان قد أعلن الحرب على بني آدم، ولا نجاة للإنسان إلا بالوقوف تحت راية الله وحزبه في مواجهة الشيطان وحزبه، وهي معركة دائمة لا تضع أوزارها إلى يوم القيامة؛ لأن الشيطان لا يمل هذه الحرب التي أعلنها منذ لعنه الله وطرده، فعلى المؤمن أن لا يغفل عنها، ولا ينسحب منها، وهو يعلم أنه إما أن يكون ولياً لله، وإما أن يكون ولياً للشيطان.
ومن كان الله مولاه أفلح ونجا، ومن كان الشيطان مولاه خسر وهلك: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 119].
والأنبياء والرسل من البشر، وسنة الله في البشر أن يعيش الإنسان إلى أجل، ثم إذا بلغ أجله مات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 34،35].
وقد فرغ الله إلى كل إنسان من البشر من خمسة:
من أجله.. ورزقه.. وأثره.. وعمله.. وشقي أو سعيد.
والأنبياء والرسل جاءوا برسالة من ربهم وبلغوها للناس، فإذا ماتوا بعد البلاغ فإن الدين والهدى الذي جاءوا به باق في الأمة تعمل به، وتعلمه وتدعو إليه، والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
5- فقه الدعوة إلى الله
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يوسف: 108].
وقال الله تعالى: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فصلت: 33].(9/127)
وقال الله تعالى: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 125].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104].
الله تبارك وتعالى بمنِّه وفضله شرَّف هذه الأمة وأكرمها بالدين، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، واصطفاها واجتباها من بين الأمم، وأعطاها وظيفة الأنبياء والرسل، وهي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104].
وعلى كل مسلم ومسلمة واجبان:
إصلاح نفسه بالعبادة.. وإصلاح غيره بالدعوة، ولا يتم ذلك إلا بالعلم والإيمان، فمن قام بهما فاز، ومن أخل بواحد منهما خسر كما قال سبحانه: (?? ? ? ? پپ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [العصر: 1-3].
والمسلم عبد لله وحده، وليس عند العبد عمل إلا امتثال أوامر سيده.
وأوامر الله عز وجل تدور على أربعة أصول:
الدعوة إلى الله.. والعبادة.. وتعلم الدين وتعليمه، وأعمال البر التي تكون سبباً لمحبة الناس للدين وللداعي إليه.
والدعوة إلى الله هي أم الأعمال، وبسبب الدعوة يدخل الناس في دين الله أفواجاً، ووقت المسلم كله في امتثال أوامر ربه في العبادة والدعوة:
ففي النهار قيام بالدعوة كما قال سبحانه: (ھ ھے ے ?? ? ??) [المدثر: 1-3].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? چچ چ چ ? ? ? ??) [المزمل: 7،8].
شبه الدعوة بالسباحة، فلو غفل السباح عن الحركة يغرق، وكذلك الداعي إذا غفل عن الدين والدعوة غرق في شئون الدنيا.
وفي الليل يقوم بالعبادة والدعاء أمام ربه كما قال سبحانه: (? ?? ? ? پ پپ پ ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [المزمل: 1-4].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پپ) [الإنسان: 26].
ففي الليل جهد أمام الله بالدعاء والبكاء والتضرع، وتعظيم الرب وتسبيحه، والاستغفار من الذنوب، وشكر المنعم، وطلب العون والهداية له ولغيره.(9/128)
وفي النهار جهد على عباد الله بالدعوة بتكبير الرب ليعظموه، وبذكر نعمه وآلائه ليشكروه، وبذكر وعده ليرغبوا في طاعته وعبادته، وبذكر وعيده ليحذروا من معصيته.
والله عزَّ وجلَّ أرسل الرسل وأنزل الكتب ليظهر الحق ويبطل الباطل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [التوبة: 33].
والله قادر على إظهار الحق وإبطال الباطل بلا جهد أحد، ولكنه سبحانه وكل الرسل وأتباعهم بالهداية، كما وكل الشمس بالإنارة، والأرض بالإنبات، والسحب بحمل الغيث وتفريقه في البلاد، فجعل سبحانه الدعوة سبباً للهداية وشرف بها الإنسان.
فإذا جاهد الرسل وأتباعهم بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا أوقاتهم وجاههم، وضحوا بشهواتهم ومحبوباتهم من أجل الدين، أظهر الله الحق، وأبطل الباطل، ونصر أولياءه، وخذل أعداءه.
والدعوة إلى الله رسالة كل مسلم، وهو فيها أجير عند الله، يبلغ دين ربه، ويتوكل عليه وحده، وينال أجره منه وحده.
وهذا الشعور ألزم ما يكون لمن تُوْكل إليه مهمة القيادة، كي لا يقنط إذا أعرض عنه مَنْ علم الله أنه لا يصلح، أو أوذي في الدعوة، ولا يغتر إذا استجابت له الجموع، وأنصت له الناس، أو دانت له الرقاب، فإن هذا كله بإذن مالكه، وإنما هو أجير، وأجره على من أرسله وأمره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الشعراء: 145].
والمسلم إذا قام بالدعوة حصلت له الهداية، وحصل له الأجر وإن لم يستجب له الناس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
ولا بدَّ أن تتوفر في الداعي صفات الإيمان والتقوى ليؤثر في غيره، ويكون الله معه، كالفرشاة لا بدَّ أن تمتلئ بالصبغ أولاً، ثم يصبغ بها الجدار، وحينئذ تكون سبباً لتلوينه، وتغيير صورته، وكالمال فمن ليس في جيبه مال لا يستطيع الإنفاق على غيره.
فكذلك الداعي لا بدَّ أن تكون فيه صفات الإيمان والتقوى، فمن ليس عنده إيمان ولا تقوى ولا أعمال كيف ينشر ما لا يملك؟(9/129)
وقد تكفل الله لمن يبلغ دينه في مشارق الأرض ومغاربها بكل ما يحتاج من الطعام والشراب، والسكن والمركب، والأجر والحفظ في الدنيا والآخرة، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ» متفق عليه(1).
والدعوة إلى الله تكون بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 125].
والموعظة الحسنة:
هي التذكير بفضل الله على عباده.. والتذكير بعظمة الله وجلاله.. والترغيب في العمل الصالح لنيل الدرجات العلى من الجنة.. والترهيب من النار للنجاة من عذابها.
وساحة الإيمان والتقوى مملوءة بكل خير، وبكل بر، وبكل عمل صالح يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وساحة الكفر والشرك مملوءة بكل شر، وبكل إثم، وبكل معصية، وبكل فاحشة، وبكل ظلم ونحو ذلك مما يبغضه الله ورسوله.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما قام بالدعوة إلى الله انحلت العقدة الكبرى، عقدة الشرك والكفر، ولما انحلت هذه العقدة الكبرى، انحلت العقد كلها.
وهكذا جاهد الرسول صلى الله عليه وسلم جهاده الأول، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي لكل واحد من أصحابه.
فلما آمنوا دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم، لا يشاقون الرسل بعد ما تبين لهم الهدى، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى، ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر ونهى.
والداعي إلى الله من ذا يخيفه؟ وماذا يخيفه إذا كان الله معه؟.
فحين أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 45،46].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2442) ومسلم برقم (2580) واللفظ له.(9/130)
والداعي يقوم بالدعوة والبلاغ، وليس له من أمر الهداية والضلالة شيء، فالله يعلم من يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله، فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا، فلا مبدل لما شاء: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [الزمر: 23].
والسموات والأرض أكبر من خلق الناس، قالتا لربهما أتينا طائعين، وهذا الخلق الصغير من البشر الذي يدب على الأرض مع سائر الدواب الطائعة..
يأكل من رزق الله.. ويسكن في أرض الله.. ويكفر بالله.. ويعارض رسل الله.. ويسخر بهم.. ويستهزئ بآيات الله.
فماذا يكون جزاء هذا الكفر والإعراض والاستهزاء والاستكبار؟.
(ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 13].
وماذا ينتظر هؤلاء من العقوبات؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 34].
وهذا الإنذار المخيف يناسب شناعة الجرم وقبح الذنب من الإنسان.
والسنن الكونية لها أصول وأهداف، والسنن الشرعية كذلك لها أهداف وأصول.
فالشجرة لها زينة وهي الأوراق والأزهار، ولكن المقصد من الشجرة الثمرة، والشجرة إنما جاءت من البذرة، والبذرة لا بدَّ لها من بيئة، وهي الأرض والماء والهواء والضوء، وبعد ذلك تظهر الشجرة، ثم تكون الثمرة.
وكذلك الإنسان زينة قلبه بالإيمان، وزينة جسده بالأعمال الصالحة، ورضى الله هو الغاية والمقصد من الدين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
وذلك لا يكون إلا بطاعة الله ورسوله، وذلك لا يتم إلا بالإيمان، والإيمان لا يأتي إلا بالدعوة، ولا بدَّ للإيمان من بيئة صالحة يزداد فيها الإيمان، وتحفظه من النقصان، تتمثل فيها أوامر الله من العبادة، والدعوة، والتعليم، واتباع السنن النبوية، والآداب الإسلامية، والتحلي بالأخلاق الكريمة، وكل ما يرضي الله ورسوله.
فكمال الآدمي وسعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة بخمسة أمور:(9/131)
الأولى: الدعوة إلى الله.. ثم يأتي الإيمان.. ثم تأتي طاعة الله ورسوله.. ثم يأتي رضى الله عنه.. ثم دخوله الجنة.
وإذا أهملنا الدعوة إلى الله ضعف الإيمان.. وإذا ضعف الإيمان رغبت النفس في معصية الله ورسوله.. وإذا عصى العبد الله ورسوله غضب الله عليه.. وإذا غضب الله أنزل عقوبته بمن عصاه، وعقوبته سبحانه للعصاة والكفار الشقاء في الدنيا، والنار في الآخرة.
والداعي إلى الله يدعو الناس على اختلاف طبقاتهم إلى الاستقامة على الدين، وتنفيذ أوامر الله فيما هم فيه:
فيقول للحكام كونوا كنبي الله سليمان لتدخلوا الجنة، ولا تكونوا كفرعون فتدخلوا النار.
ويقول للوزراء كونوا كيوسف صلى الله عليه وسلم لتدخلوا الجنة، ولا تكونوا كهامان فتدخلوا النار.
ويقول للتجار كونوا كتجار المهاجرين لتدخلوا الجنة، ولا تكونوا كقارون وقوم شعيب فتدخلوا النار.
ويقول لأهل الزراعة كونوا كالأنصار لتدخلوا الجنة، ولا تكونوا كقوم سبأ فتدخلوا النار.
ويقول للعامة والخاصة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 59].
والمسلم يحترم المسجد؛ لأنه بيت الله، ومحل أداء فرائض الله، وكذلك الفقير نحترمه ونكرمه؛ لأنه محل صدقاتنا وزكاتنا فلا نحقره.
وهكذا الكافر والمشرك والعاصي هؤلاء عبيد الله، ولهم حق الرحمة والدعوة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحقر أحداً أن يبلغه رسالة ربه، فالمسلم يرى الكافر غريقاً ويجتهد عليه لعل الله أن يرحمه وينقذه من النار.
والشفقة والرحمة أعظم سلاح أعطيه الأنبياء والرسل كما قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : (ک ک گ گ گگ) [الأنبياء: 107].
والشفقة والرحمة لخلق الله تكون وتنمو بكثرة الجهد للدين حتى تصبح كالأمواج في البحار بعضها فوق بعض، فتنبعث أمواج الشفقة والرحمة بقدر الجهود والتضحيات على خلق الله سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 128].(9/132)
وإذا كان مسؤولية أهل الدنيا تفقد الملك والأموال والأشياء والفكر فيها، وحسن رعايتها، والقيام عليها، فمسؤولية أهل الدين:
هي تفقد الإيمان والأعمال الصالحة.. وكيف تأتي فينا وفي حياة الناس.. وكيف يتحقق مراد الله من عباده فيعبدوه وحده لا شريك له.. وكيف يتحقق مراد الخلق من ربهم فيتوجهوا إليه في جميع حوائجهم لينالوا رضاه، ويفوزوا بجنته، وينجوا من عذابه... وتعريف الناس بربهم وخالقهم.. وما هو حقه عليهم؟... ولماذا خلقهم؟... وماذا يريد منهم؟... وبيان طريق السعادة وطريق الشقاوة... وتعريف الخلق بما يحب ربهم ليفعلوه... وتعريفهم بما يبغض ليجتنبوه... وتعليمهم الآداب الإسلامية... وحسن المعاشرات وأحسن الأخلاق... وتعريفهم بنعم الله ليشكروه... وتعريفهم بأسمائه وصفاته، وأفعاله وخزائنه ليعظموه ويحمدوه ويسألوه.. وإخبار الناس بما أعد الله من الكرامة لمن أطاعه.. وما أعد من العذاب لمن عصاه.
وكيف يقضي الإنسان حياته على طريقة الأنبياء والمرسلين، لا على طريقة البهائم والشياطين.
وتعريف الناس بالطريق الموصل إلى الله... وما لهم بعد القدوم على الله يوم القيامة.
وأُمر الناس بتكميل محبوبات رب العالمين في الدنيا من الإيمان، والطاعات والعبادات، والمعاملات، وحسن المعاشرة، وحسن الأخلاق، حتى يكمل الله لهم في الآخرة ما يحبون من المطاعم والمشارب والمساكن والملابس والأزواج والحور.
فمسؤولية كل فرد من المسلمين عظيمة، ووظيفته كبيرة، وعمله مستمر دائم ما دام حياً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يوسف: 108].
ومكانة المسلم عند الله عظيمة، وحياته عند الله غالية؛ لأنه مؤمن بالله، ويقيم أمر الله، ويعبد الله، ويدعو إلى الله، ولذا توعد الله من قتل مؤمناً بغير حق متعمداً بأشد العقوبات كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ??)
[النساء: 93].(9/133)
وبحسب المكانة تكون المسؤولية، ويكون المقام عند الله، فمكانة المسلم عظيمة، ومسؤوليته كذلك عظيمة.
ولا أحب عند الله من المسلم الذي يدعو الناس إلى ربهم، ويحببهم إليه، ويردهم إليه كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فصلت: 33].
فأعظم الواجبات بعد الإيمان والتقوى الدعوة إلى الله في مشارق الأرض ومغاربها حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
لذا فواجبنا جميعاً رجالاً ونساءً.. كباراً صغاراً.. العامة والخاصة.. الأغنياء والفقراء.. والسادة والعبيد.. والعرب والعجم.. أن نقوم بالدين، ونستقيم عليه، ونقيم الدين وندعو إليه في العالم حتى يكون الدين كله لله، وينعم الناس بهذا الدين الكامل الذي رضيه الله لهم، وأرسل به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
والدعوة إلى الله.. ونشر الدين.. وهداية البشرية إلى ما يسعدها في الدنيا والآخرة عمل عظيم وكبير.. يحتاج إلى فكر مستمر.. وعمل دائب.. وهم مذيب.. وسير الأقدام.. وإيلام الأبدان.. وبذل الأموال.. والتضحية بالأنفس والأوقات والشهوات.. والصبر على المشاق.. وتحمل الأذى.. وذلك كله من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه في الأرض، وإزالة الباطل.
وهذا العمل العظيم جزاؤه عند الله عظيم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [التوبة: 88،89].
وبداية الفكر والعمل:
أن نجتهد أولاً على أنفسنا حتى تكون حياتنا مطابقة لحياة النبي صلى الله عليه وسلم في سره وسيرته، وعباداته ومعاملاته، ومعاشراته وأخلاقه، وسائر أحواله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
فالمقصود صفات الرسول لا ذات الرسول، وأعمال الرسول لا ذات الرسول، والناس يتأثرون من الصفات والأخلاق، لا من الأبدان والذوات.(9/134)
فكل إنسان له ذات، لكن ليس مع كل إنسان الصفات والأخلاق العالية، وإنما فضل الله المسلم على غيره بالإيمان والأعمال الصالحة والصفات العالية، لا بالذات أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الجاه، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الحجرات: 13].
والصفات التي يحبها الله، والأعمال التي يحبها الله، والأقوال التي يحبها الله، أظهرها الله في الأنبياء، وأكملها في حياة سيد الأنبياء والمرسلين، فعلينا التخلق بها، ودعوة الناس إليها.
فإذا جاءت فينا الصفات والأعمال التي يحبها الله كان الله معنا، وإذا كان الله معنا فما نحتاج لأحد سواه، فلا نرجو إلا إياه، ولا نخاف إلا منه، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نستعين إلا به، ولا نسأل إلا إياه، وهو مولانا وناصرنا: (? ? ? ??) [الحج: 78].
ثم ننظر ونتفكر في العالم البشري.. وفي العالم الإسلامي.. وفي العالم الجاهلي.. لنعرف حجم العمل.. وحجم التقصير.. ونعلم مساحة الكفر.. ومساحة الإسلام.. ومقدار العدل.. ومقدار الظلم.. وحجم الصلاح.. وحجم الفساد في الأرض، ونضع العالم بين أيدينا وأمام أعيننا، ونجعل ذلك همّ قلوبنا، وشغل أبداننا، فنحن مسؤولون عن إبلاغهم الدين ومأمورون به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أوْعَى لَهُ مِنْهُ» متفق عليه (1).
وقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وهذا الدين رحمة للعالمين، وهو حق لكل إنسان في العالم، لا بدَّ من أدائه إليه وإيصاله له، واسماعه إياه، ودعوته إليه.
إن حجم المسؤولية كبير واسع، طويل الأمد، فلا بدَّ من الفكر والعلم والعمل، وتصور أحوال الأمم في الأرض:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (67)، واللفظ له، ومسلم برقم (1679).(9/135)
فكم قارة في العالم؟.. وكم بلد في العالم؟.. وكم مدينة في العالم؟.. وكم قرية في العالم؟.. وكم بيت في العالم؟ وكم إنسان في العالم؟.. وكم كافر في العالم؟.. وكم مسلم في العالم؟..
وكم جاهل في العالم؟.. وكم غافل في العالم؟.. وكم ضال في العالم؟.. وكم تائه في العالم؟.. وكم محتار في العالم؟.
وكم مشرك في العالم؟.. وكم مبتدع في العالم؟.. وكم مطيع لله في العالم؟.. وكم عاص لله في العالم؟..
وكم ظالمٍ في العالم؟.. وكم من مظلوم في العالم؟.. وكم من فاسق في العالم؟.
وكم داعٍ إلى الحق في العالم؟.. وكم داعٍ إلى الباطل في العالم؟.. إن هذه الأمم والشعوب والأفراد، والقارات والمدن والقرى، كلها تحتاج إلى رسالتين:
الأولى: (لا إله إلا الله) لإصلاح قلوبها بالإيمان واليقين والتوحيد.
الثانية: (محمد رسول الله) لإصلاح أبدانها وعباداتها ومعاملاتها ومعاشراتها وأخلاقها، فلا بدَّ من الحركة والقيام والجهد والتضحية والسير في الأرض لنعرف حجم المرض الكبير الذي تفشى في البشرية، وهو الشرك والكفر والمعاصي والفواحش، والإثم والبغي والظلم والفساد.
ثم نقوم فوراً بعلاج هذا الداء الذي عمَّ وطمَّ، بالدعوة إلى الله، ليعود الناس إلى ربهم، ويتوبوا إليه، ويؤمنوا به وحده لا شريك له.
فقد جاء الباطل في حياة الأمة لأنهم تركوا الدعوة إلى الله، فجاءهم من يدعوهم إلى الباطل، ويقول لهم إن السعادة والنفع والضر في المخلوقات والأشياء، وأن المخلوق يفعل ما يريد، وله أن يقضي حياته كالبهائم كيف شاء، وهذه دعوة الباطل، وهي توجب غضب الرب، وتمنع نزول النصر، وتسبب الشقاء، وتحول بين المرء والسعادة.
أما دعوة الحق فهي أن نعلم أن الله هو الخالق وحده، وهو الفعّال لما يشاء، وهو الذي بيده كل شيء، وما سواه مهما كان ليس بيده شيء، فله سبحانه الخلق والأمر وحده، لكن الله عزَّ وجلَّ يفعل من وراء الأسباب.(9/136)
فذاته وقدرته سبحانه مغيبة وراء الأسباب ابتلاء وامتحاناً، وبسبب ضعف الدعوة ضعف الإيمان فجاء اليقين على المخلوقات والأسباب، وصار تعامل الناس معها بدون اللجوء إلى الله سبحانه، فأصابهم بسبب ذلك التعب والشقاء.
فكل من لم يرض بالتوجه إلى رب الأسباب وكله الله إلى الأسباب وأذله بها، ثم عاقبه على ذلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 44].
فالله عزَّ وجلّ هو الفعال وحده لا شريك له، ولكنه أخفى قدرته وراء الأسباب امتحاناً وابتلاءً للعباد.
فالله عزَّ وجلَّ بحكمته وعلمه يفعل ما يشاء، ويظهر ما يشاء، ويخفي ما يشاء، وقد أظهر سبحانه أربعاً، وأخفى أربعاً:
أظهر المخلوقات وأخفى نفسه.. وأظهر الدنيا وأخفى الآخرة.. وأظهر قيمة الأشياء.. وأخفى قيمة الأعمال.. وأظهر الأبدان والأجساد وأخفى الأرواح والعقول.
والأمة إذا تركت الدعوة إلى الله أصيبت بآفتين: ذهاب الدين من حياتها تدريجياً حتى لا يبقى منه إلا بعض الشعائر والآداب.. وصار اليهود والنصارى أئمتها في أمور حياتها كلها.
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما عرفوا حقيقة الإيمان، وقاموا بالدعوة، صار إمامَهم إمُام الهدى محمد صلى الله عليه وسلم في جميع أحوالهم، فسعدوا وأسعدوا، فرضي الله عنهم ورضوا عنه.
وكل إنسان يملك ثلاثة جواهر:
النفس.. والمال.. والوقت..
وقد جاد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الثلاثة، وبذلوها للدين، لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله.
وبجهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه خرج كثير من الناس من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن البدعة إلى السنة، ومن الضلال إلى الهدى، ومن غضب الله إلى رحمة الله ورضاه.
وجهد الدعوة لا يؤتي ثمرته حتى يكون حسب ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من فكر وقول، وعمل وأخلاق.(9/137)
فأول ما دعا عليه الصلاة والسلام إلى الله اجتهد على ثلاثة أصناف من الناس: الرجال، والنساء، والأطفال.
فأول من استجاب له من الرجال أبو بكر - رضي الله عنه -.
وأول من استجاب له من النساء خديجة رضي الله عنها.
وأول من استجاب له من الأطفال علي - رضي الله عنه -.
فآمنوا بالله ورسوله، ولازموا رسول الله يتعلمون منه، ويقتدون به، وأول ما انتقل إليهم منه جهد الدعوة قبل العبادة، فقاموا به خير قيام قبل نزول الأحكام.
وما قاموا به هو ما تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان واليقين وذلك بالدعوة إلى الله لنقل فكر الناس من اليقين على المخلوق إلى اليقين على الخالق وحده.. ومن اليقين على الأموال والأسباب إلى اليقين على الإيمان والأعمال الصالحة.. ومن العادات والتقاليد الجاهلية.. إلى السنن والأحكام الشرعية.. ومن عمارة الدنيا إلى عمارة الآخرة.. ومن الشرك والكفر.. إلى الإيمان والتوحيد..
وأهم أعمال الأنبياء والرسل الدعوة إلى الله، بالجولة على الناس وزيارتهم، وغشيانهم في مجالسهم وبيوتهم لدعوتهم إلى الله.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغشى الناس في مجالسهم، ويذكرهم بالله، ويدعوهم إليه، ويتلو عليهم القرآن.
وكان صلى الله عليه وسلم يتجول في سوق ذي المجاز على الناس ويقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ الله تُفْلِحُوا» قَالَ: وَأَبُو جَهْلٍ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ لِتَتْرُكُوا آلِهَتَكُمْ وَتَتْرُكُوا اللاَّتَ وَالْعُزَّى. قَالَ: وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم . أخرجه أحمد(1).
وفعل فِعْله أصحابه في مكة، وفي المدينة، وفي الحضر والسفر، وفي الليل والنهار، وفي البيوت والأسواق.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (16603)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.(9/138)
وأمر الله موسى وهارون عليهما السلام أن يذهبا إلى فرعون لدعوته إلى الله بقوله: (? ? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [طه: 43،44].
وكان همُّ النبي صلى الله عليه وسلم تغيير فكر الناس من الشرك إلى التوحيد.. وتغيير القلوب.. وتغيير اليقين.. وتغير العمل.. وتغيير البيئة.. وتكميل الإيمان والأعمال الصالحة.
وليس همه تغيير الأشياء، ولا جمع الأشياء، ولا الفكر في الأشياء، ولا اتباع الشهوات والملذات.
وقد أمر الله عزَّ وجلّ رسوله بأربعة أشياء:
أن يتعلم الوحي.. وأن يعمل به.. وأن يعلمه.. وأن يقيم الناس عليه.
وهذه المسؤوليات انتقلت إلينا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبالدعوة يأتي الإيمان، وإذا جاء الإيمان جاءت الرغبة في الأعمال والطاعات، والنفرة من المعاصي والمنكرات، ولما ضعف الإيمان والعمل بالدين في عهد نوح أرسل الله نوحاً صلى الله عليه وسلم ، فلما دعا الناس إلى الله جاء الإيمان والدين، فلما مات ضعف الإيمان ثم ضعفت الأعمال، وبقي العلم وحده فجاء الكفر.
وهكذا كلما ضعف الإيمان والعمل بعث الله رسولاً يدعو الناس إلى ربهم، والعمل بشرعه، وهكذا بعث الله رسولاً بعد رسول، حتى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين فدعا إلى الله فجاء الإيمان والدين في الأمة، ومن أول يوم أقام الأمة على الإيمان والدعوة إلى الله.
ووضع الشيء في غير موضعه ظلم، والتصرف في ملك الغير بغير إذنه ظلم، وعدم أداء الأمانة ظلم، والمسلم عليه حق وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وله حق وهو دخول الجنة إذا أدى حق الله، وعليه واجب وهو الدعوة إلى الله، فالمسلم ميدانه الدعوة إلى الله، فإذا لم يستعمل نفسه في ميدانه ولم يؤد الأمانة فهو ظالم لنفسه ولغيره، والله لا يحب الظالمين.
وجهد الداعي إلى الله نوعان:
جهد على الكافر حتى يأتي عنده الإيمان.(9/139)
وجهد على المسلم ضعيف الإيمان ليقوى إيمانه، وتحسن أعماله، فإذا زاد إيمانه جاءت عنده الرغبة في الأعمال الصالحة كلها من عبادة، ودعوة، وتعليم، وحسن خلق وغيرها.
والدعوة إلى الله على منهاج النبوة واجبة على كل مسلم بحسب ما لديه من الإيمان والعلم الشرعي، يدعو إلى الله، ويحيي السنن، ويميت البدع، وينصر الحق، ويخذل الباطل، ويكون قدوة لغيره، يفعل الخير ويدعو إليه، وينتهي عن الشر ويحذر منه.
أما من يملك قسطاً من الحماس مع خلو من الفقه الشرعي، أو يقول فسد الزمان ويدعو إلى العزلة، أو من قعد يبكي وصلح في نفسه وأعرض عن آلام أمته، أو من رمى الناس بالكفر ويأس من الإصلاح، أو من قنع من الإسلام بالزهديات، وكف عن النزول في الساحات، وغشيان الناس في أماكنهم وأسواقهم، فهؤلاء وأمثالهم ومن في حكمهم بحاجة إلى دعوة وعودة إلى منهج النبوة؛ ليزول عنهم الخطر، وتنتفع الأمة بهم.
أما من أعرض عن الدعوة وركض وراء المال والجاه، واتبع الشهوات وأضاع الأوامر، فهؤلاء نعوذ بالله من شرورهم.
والدعوة والعبادة والتعليم أهم أعمال الدين، وحتى تكون مقبولة عند الله لا بدَّ أن تقوم على المحبة والإخلاص والمتابعة، فيجب دعوة الناس إليها باللين والرفق والحكمة من غير تنفير، حتى تنشرح لها صدورهم، وترغب فيها نفوسهم، وتتحرك بها جوارحهم.
وجميع الأمة عمال يعملون في دار الملك إلى أجل مسمى، فليحذروا معصيته في قصره، ومخالفة أمره في مملكته، فإن أخذه أليم شديد: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [هود: 102].
ومن أهم أصول الدعوة:
أن يجعل المسلم هدفه في الدنيا عبادة الله، والدعوة إلى دينه، فيصلح نفسه بأوامر الله ورسوله، ويدعو الناس إلى ذلك.(9/140)
وأن يختار في إبلاغ دين الله لعباده الطرق النبوية التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرف أصحابه عليها، وعلمهم إياها، وأمرهم بها، من بذل المال والنفس والوقت لنشر دين الله، والتضحية بكل ما يملك من أجل إعلاء كلمة الله.
وفي القرآن والسنة خيرات كثيرة، وكنوز مختلفة، وسير عبقة للأنبياء، فيأخذ الداعي منها ليفلح في دعوته، وأن يستمر في إبلاغ الدين والعمل به وتعليمه في أي حال ومهما كانت الأحوال، في الليل والنهار، وفي حال العسر واليسر، وفي حال الصحة والمرض، وفي حال الأمن والخوف، في البيت والسوق، وفي حال الإقامة والسفر، ولا تؤثر عليه التغيرات والتقلبات الجوية والمكانية والاجتماعية، ولا يعبأ بأي عارض أو معرض، أو كائد أو حاسد، فإن الله معه يسمع ويرى، وهو حامل رسالة الله إلى خلقه، فليؤد الرسالة، ويبلغ ما أمر به، والله يعصمه من الناس: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [المائدة: 67].
وأن يستمر في دعوته، ويبلغ دين الله، ولا يأخذ على ذلك أجراً من أحد، فقد تكفل الله بأجرته، فعليه الصبر وانتظار العقبى الحسنة.
وأن يجعل هذا الدين والعمل به والدعوة إليه مقصد حياته، ويواصل العمل حتى يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، فلا تفلت منه لحظة في غير طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 162،163].
إن كل ما يراه الإنسان من ظاهرة التمسك بالكتاب والسنة، وحسن الاستقامة، والرغبة في الدين لدى بعض الناس، إنما ذلك ثمرة جهود العلماء والدعاة المخلصين، فلا نكتفي بالفرح والنظر إلى هذه الثمار الطيبة فحسب، بل يجب أن نقوم نحن بزرع بساتين جديدة كما فعلوا حتى يعم الإسلام أقطار الأرض، فتلك أمانة تحملناها، وحق علينا يجب أداؤه لكل إنسان، حتى يكون الدين كله لله.(9/141)
فالمسلم لو صام نهاره، وقام ليله، وقرأ القرآن كله في يوم، وتصدق بآلاف الريالات يومياً، فإنه لا يصل بعمله الفردي هذا إلى درجة ما يصل إليه الدعاة من الأجر والثواب.
فالدال على الخير كفاعله، حيث ينال هؤلاء الدعاة أجور المدعوين الذين اعتنقوا الإسلام، أو رغبوا فيه واستقاموا عليه بتبليغهم إياه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم (1).
فالدعاة مشاركون في أجور مئات الألوف من المصلين، والصائمين، والمجاهدين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في أنحاء العالم من غير أن ينقص من أجور المدعوين شيء.
وكما أن الله أمر بعبادته بقوله: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [البقرة: 21].
فكذلك أمر سبحانه بالدعوة إلى دينه بقوله: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 125].
فكما أن العبادة أمر الله فكذلك الدعوة أمر الله، وكل منهما يجب أداؤه، فالدين خطوتان:
خطوة للعبادة.. وخطوة للدعوة.. وحركة في إصلاح النفس.. وحركة في إصلاح الغير.
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وإحسان منه لعباده، ولا يستطيع أحد أن يؤدي شكر هذه النعمة، فإن عمل العبد ينقطع بعد موته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» أخرجه مسلم(2).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2674).
(2) أخرجه مسلم برقم (1631).(9/142)
ولكن الداعي إلى الله يستمر أجره وثوابه ما بقي وتناسل من دعاهم إلى الله إلى يوم القيامة، ولذلك قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فصلت: 33].
وكثير من المسلمين اليوم تركوا الدعوة إلى الله؛ لأنهم صاروا قانعين بالعمل الصالح، فنشأ من ذلك أن ضعف إيمانهم، ثم قلت طاعاتهم، وكثرت معاصيهم، حتى خرج بعضهم من الدين بالكلية، وتمرغ في الشهوات، وأعرض عن أوامر الله وشرعه، كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ??) [مريم: 59].
والفرق بيننا وبين الصحابة ر ضي الله عنهم، أن الصحابة لما آمنوا رأوا الدين غالياً جداً، ورأوا الدنيا رخيصة جداً، فقدموا أوامر الدين على أوامر الكسب، واشتغلوا بزيادة الإيمان والأعمال الصالحة، فغزوا ورزقهم الله، وفتح لهم بركات السماء والأرض، ورضي الله عنهم، ورضوا عنه.
واجتهدوا وبذلوا أنفسهم وأموالهم لإعلاء كلمة الله ونشر دينه، فزاد إيمانهم، ونزلت الهداية على أهل الأرض.
وكثير من المسلمين اليوم رأوا الدنيا غالية جداً، والدين رخيصاً جداً، فقدموا أوامر الكسب على أوامر الدين، واشتغلوا عما أراد الله منهم من الإيمان والأعمال الصالحة بما قسم لهم من الأرزاق، فحصل لهم الشقاء والتعب والذلة، بسبب الإقبال على المخلوق والإعراض عن الخالق وعن أوامره.
وأفضل الأوامر (ے ??) [المدثر: 2].
وبه يحيا الدين كله، والدعوة على الله أم الأعمال، وأوامر الدعوة إلى الله أول الأوامر، وأوامر الكسب آخر الأوامر، وإذا تعارض الأمران في وقت قدمنا أوامر الدعوة على أوامر الكسب.
والصحابة رضي الله عنهم لما قدموا أوامر الجهد والدعوة على أوامر الكسب نقصت الأموال والأشياء، وبالمقابل زاد الإيمان وزادت الأعمال الصالحة.
ونحن لما قدمنا أوامر الكسب على أوامر الدعوة جاء أمران:(9/143)
زادت الأموال والأشياء.. ونقص الإيمان والأعمال الصالحة، والصحابة لما قاموا بالدعوة إلى الله امتلأت قلوبهم بالإيمان وامتلأت بيوتهم بالأعمال الصالحة، وخلت من كثرة الأموال والأشياء، وانتشر الخير في العالم.
ونحن لما تركنا الدعوة إلى الله، امتلأت بيوتنا بالأموال والأشياء، وأقفرت من الأعمال الصالحة إلا من رحم الله، وانتشر الشر في العالم، وأقبل الناس على سنن اليهود والنصارى يعملون بها ويدعون إليها.
وبسبب ترك الدعوة إلى الله ضعف الإيمان، ثم ضعف العمل بأوامر الدين، فجاء فينا صفتان من صفات اليهود والنصارى:
الأولى: الاهتمام بجمع الأموال، وهذا فيه تشبه باليهود الذين غضب الله عليهم ولعنهم.
الثانية: الاهتمام بتكميل الشهوات، وهذا فيه تشبه بالنصارى الذين ضلوا عن الحق وأضلوا الناس عنه، فغضب الله عليهم ولعنهم.
والجهد موجود ومستمر إما للدنيا وإما للدين، وسبب الخسران الجهد في غير محله، واتباع الهوى وترك الهدى، وتقديم ما يفنى على ما يبقى، وإيثار الدنيا على الآخرة.
وطريق الحق له علامات منها:
المشي فيه بالمكاره.. وإثارة الشبهات والشكوك حول من يمشي فيه.. والاستهزاء به.. والسخرية منه.. وسب وشتم من يمشي فيه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ??) [الذاريات: 52].
ومنها الابتلاء بالسراء والضراء.. والشدة والرخاء.. ليعلم الله الصادق من الكاذب.. ويعلم هل يشغله ذلك عن الحق والعمل به والدعوة إليه والصبر عليه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 2،3].
ونشر الدين يتم بقول اللسان.. وحركة القدم.. وكتابة القلم.. وحسن العمل.. وحسن الأخلاق.. وبذل المال والنفس والوقت من أجل الدين.. وحسن التدبير.. وكثرة الدعاء.. وقوة اليقين..
وجهد الداعي نوعان:(9/144)
جهد على فاسد الأخلاق، وهذا سهل، وأهله أسرع انقياداً كمن يجتهد على الفساق ومن يزني أو يسرق أو يشرب الخمر ونحوهم من أهل الشهوات بالترغيب في الجنة وما فيها من الشهوات، والترهيب من النار، وبيان عظمة الله، وذكر آلائه ونعمه ونحو ذلك، فإن القلوب تلين بالتذكير والوعظ فتقلع عن المعاصي، وتقبل على الطاعات، وترغب في التوبة.
وجهد على فاسد الفكر، وهذا يحتاج إلى جهد أقوى كالجهد على أصحاب الأفكار الرديئة، وأهل الشبهات والأهواء ونحوهم.
فعلى جميع المسلمين أن يقوموا بالدعوة إلى الله في جميع أوساط الناس، ويدعونهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والرحمة والشفقة، في جميع الأوقات، وفي سائر الأقطار.
ويجتهدوا في دعوة سائر الناس:
الراغبين والطالبين.. والشاردين والمعرضين.. والغافلين والجاهلين، ولا نشغل أنفسنا بمن يعارضنا ويؤذينا، بل ندعو الله لهم، ونحسن الظن بهم، ونرفق بهم، ونكون البيئة الصالحة التي تظهر فيها الأعمال والصفات والأخلاق وهم يأتون إليها، وإن يرد الله بهم خيراً يأت بهم كما جاءت الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة منقادة طائعة راغبة في الإسلام من كل مكان.
والله تبارك وتعالى يعلمنا بالمخالفين والمعارضين حسن الصبر، والتوجه إلى الله، فالبيئة المخالفة تربي الداعي وتزكي قلبه، وكلما زادت المعارضة زاد التوجه إلى الله والاستعانة به، والتوكل عليه، فتأتي نصرة الله كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف من التكذيب فدعا ربه فاستجاب له.(9/145)
قالت عائشة رضي الله عنها: يَا رَسُولَ ا?، هَلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قال: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِيَالِيلَ بْنِ عَبْدِكُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إِلا وَأنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقال: إِنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ، لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قال: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وأنا مَلَكُ الْجِبَالِ، وقَدْ بَعَثَني رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأمْرِكَ، مِمَّا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأخْشَبَيْنِ؟ فَقال لَهُ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم : بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» متفق عليه(1).
والداعي يدعو الناس إلى الله حتى يعبدوا الله وحده لا شريك له.
والعالم يعلم الناس كيف يعبدون الله، ويعرفهم بما أمر الله به من الطاعات ويرغبهم فيه، ويحذرهم عما نهى الله عنه من المعاصي والمحرمات.
والدعوة إلى الله أعظم واجبات الدين، ولذلك فهي واجبة على كل مسلم ومسلمة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3231)، ومسلم برقم (1795) واللفظ له.(9/146)
وبدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل المسائل والأحكام؛ لأنها مسؤولية الأمة. وأعظم وظائف الدين:
الفتوى.. والتذكير.. والدعوة.
فالإفتاء: مسؤولية العلماء، فمن علم حكماً أفتى به.
والتذكير: وهذا واجب على كل مسلم لإخوانه المسلمين كما قال سبحانه:
(? ? ? ? ??) [الذاريات: 55].
والدعوة: وهذه واجبة على كل مسلم لعموم الناس.
والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة بالدين الكامل لا ببعضه، بالإيمان والأعمال الصالحة، بالعبادة والدعوة، بالعلم والعمل.
فالعابد فقط جهده على نفسه، وعنده عاطفة إنكار المنكر، والداعي جهده على نفسه وعلى غيره، وعنده عاطفة تغيير المنكر، ونقل حياة الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن المعاصي إلى الطاعات، ومن طاعة هواه ونفسه إلى طاعة ربه ورسوله.
والله عزَّ وجلَّ اجتبى هذه الأمة من بين الأمم، وتوَّجها بتاج الانبياء وهو الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وكثير من الناس رمى هذا التاج، وتَوَّج نفسه بتاج اليهود والنصارى، جمع الحطام واتباع الشهوات.
والواجب على كل مسلم أن يتعلم شيئين:
جهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو الدعوة.. وحياة النبي صلى الله عليه وسلم وهي الدين الكامل.
وإذا كانت الدعوة موجودة في الأمة، وحياة النبي صلى الله عليه وسلم ليست موجودة، فلا يكون في الدعوة فلاح، ولا تنزل هداية ولا نصر.
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون للناس إذا دعوهم إلى الله: كونوا مثلنا؛ لأن حياتهم كانت مثل حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك رضي الله عنهم وجعلهم نواة خير أمة أخرجت للناس.
فهم خير القرون وخير الناس للناس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 110].(9/147)
وهذا الفساد في الأمة سببه ترك جهد الدعوة، الذي يزيد الإيمان ويحرك الجوارح للطاعات، ويحجزها عن المحرمات، ويكون سبباً لنزول الهداية على الخلق، فإذا قامت الدعوة ظهر الحق، وبطل الباطل، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وصار من الصالحين مصلحون، ومن الفجار أبرار، ومن الغافلين ذاكرون.
ومدار جهد الأنبياء والمرسلين يقوم على أمرين:
كيف يكون الله معنا.. وكيف الله يدخلنا الجنة.
وللحصول على هذين الشيئين كان الأنبياء يقومون بأمرين:
الأول: تعليق القلوب بالله، وذلك بالإيمان بالله سبحانه.
الثاني: تعليق الأجساد بالله، وذلك بالعمل الصالح.
فالعمل الصالح لا ينفع إلا إذا كانت هناك علاقة بالله، وهي الإيمان، والإيمان لا ينفع إذا لم تظهر ثمرته على الجوارح، وهي العمل الصالح الذي جاء به الأنبياء، والأنبياء لا يدعون الناس لترك الأموال والأشياء، بل يدعونهم لاستعمالها حسب أمر الله ملكاً، أو جاهاً، أو مالاً، أو عملاً، وسليمان عليه الصلاة والسلام جعل الله على كرسيه جسداً يدبر ملكه فتنة، فلم يتوجه إلى الأسباب، ولكن توجه إلى الله واستغفر وأناب مع أن عنده الملك والمال، فأعطاه الله ما طلب منه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [ص: 34-39].
وإذا قمنا بهذين الأمرين الإيمان والأعمال الصالحة فالله عزَّ وجلَّ يعطينا كل شيء، البركة والعزة والخلافة، فالصحابة رضي الله عنهم لما سلموا القلب والجسد لله رضي الله عنهم وأعزهم، وجعل الأموال والممالك تحت أقدامهم.
وكما أن للعبادات أصولاً وأوامر، فكذلك للدعوة إلى الله أصول وأوامر ومن أصول الدعوة:
أولاً: أن ندعو كل إنسان إلى الله غنياً أو فقيراً، حاكماً أو محكوماً، ذكراً أو أنثى، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة، وحسن القول، وحسن الخلق، وإنزال الناس منازلهم.(9/148)
ثانياً: ندعو إلى الله في كل مكان، في المدن والقرى، وفي الأسواق والبيوت وغيرها.
ثالثاً: نقوم بالدعوة إلى الله في كل وقت ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً، فالعبادة كالصلاة والصيام والحج لها أوقات، لكن الدعوة مشروعة كل وقت، وفي كل مكان، ولكل جيل.
رابعاً: نقوم بالدعوة في جميع الأحوال، في حال الأمن والخوف، وفي حال الشدة والرخاء، وفي حال الغنى والفقر وهكذا، ولا نأخذ على ذلك أجراً لأن أجرنا على الله.
خامساً: نقوم بالدعوة إلى الله بصفة الإحسان فنتحلى بأحسن الصفات وندعو الناس إلى أحسن الصفات، ولا نسأل الناس أجراً كالشمس طبعها النور، وتعطي الناس النور بلا أجر.
سادساً: ندعو الناس إلى الدين بالشفقة والرحمة، ونتحمل منهم كل أذى في سبيل إعلاء كلمة الله كالأم تعطي ابنها اللبن وتتحمل منه كل أذى.
وإذا قام الداعي بالدعوة إلى الله بهذه الأصول تعرض للأذى، فعليه أن يصبر ويعفو، ولا يغضب ولا يجادل، ويكون هيناً ليناً رحيماً، ولا يكون فظاً غليظ القلب لئلا ينفر منه الناس.
ويكون قدوة حسنة في صورته وسيرته وسريرته، يقلل من جهد الدنيا، ويكثر من جهد الدين، يدعو إلى الله وإلى القيام بأوامر الله وإلى طاعة الله ورسوله، ويكون أسبق الناس إلى ذلك.
يعرض دعوته على الناس مع التواضع، ولا يحقر أحداً من الناس، ويدعو للناس بالهداية، ويحب للناس ما يحب لنفسه، يدعو الناس إلى الإيمان والأعمال الصالحة ويكون أسبقهم إليها، وأحسنهم أداء لها ومحافظة عليها.
وكما أن للوضوء نواقض وللصلاة نواقض وللإسلام نواقض فكذلك للدعوة إلى الله نواقض.
منها: الرياء وعدم الإخلاص... ومنها بيع كلام الله ورسوله بالوظيفة أو الأجرة.. ومنها الدعوة إلى النفس وحب الشهرة.. ومنها حمية الجاهلية والعصبية كمن يدعو إلى حزب أو طائفة أو جماعة ولا يقبل الدعوة من غيره، والله أمرنا أن ندعو إليه، ولا ندعو إلى غيره.(9/149)
وكل من ترك أصول الدعوة، ودعا على هواه، ابتلي بخمسة أشياء: تزكية النفس.. الحرص على الجاه والمنصب.. احتقار الآخرين.. النظر في عيوب الدعاة إلى الله.. الإنفاق على شهواته وعدم الإنفاق على الدين.
وعبادة الله والدعوة إلى الله أهم الأوامر بعد الإيمان، فمن قام بهما حفظه الله وأسعده وجعله سبباً لهداية العالم.
وإبراهيم صلى الله عليه وسلم ترك ذريته بوادٍ غير ذي زرع ليقيموا الصلاة، حيث أسباب الموت موجودة، وأسباب الحياة مفقودة، فحفظهم الله وأخرج من هذه الذرية سيد الأولين والآخرين، وخير أمة أخرجت للناس كما قال إبراهيم: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 37].
والله عزَّ وجلَّ أخفى في المجاهدة الهداية، وحصول البركات، والرزق الحلال، والحفاظة، والترقي في الدين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
وكل عمل له بداية ونهاية كالصلاة بدايتها التكبير ونهايتها التسليم، وكذلك الدعوة، فكما أن المسلم عليه الصلاة إلى أن يموت، فكذلك عليه الدعوة إلى الله إلى أن يموت.
فالعبادة أعظم الأعمال، والدعوة أم الأعمال كلها، فإذا قامت الدعوة نزلت الهداية، وجاءت العبادات والمعاملات، والمعاشرات والأخلاق العالية، وحصلت السعادة للعباد في الدنيا والآخرة.
لقد اجتهد شياطين الإنس والجن على هذه الأمة ليحولوا بينها وبين ربها ودينها ومصدر عزها، فضربوها بثلاثة معاول:
الأول: طرد حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسننه من حياة المسلمين، وترغيبهم في حياة اليهود والنصارى الذين غضب الله عليهم ولعنهم، وحياة البهائم الضالة، والشياطين المضلة الملعونة، وإشغالهم بالشهوات عن الأوامر.
الثاني: طرد جهد النبي صلى الله عليه وسلم من حياة الأمة، ومحاربة العلماء والدعاة إلى الله، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، واتهامهم والتضييق عليهم، والقضاء عليهم، وإماتة جهدهم حسياً ومعنوياً.(9/150)
الثالث: إحياء ومساندة الدعوة إلى الباطل، وإلى زينة الدنيا، وإلى تكميل الشهوات، وإلى جمع الأموال بأي وسيلة، وإلى الإنفاق على النفس لا على الدين، وإضاعة الأوقات والأموال في اللعب واللهو، وإشغالهم بتكميله وتحسين المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمراكب.
هذا جهد الباطل على الحق في كل زمان ومكان، وبسبب ترك الدعوة نال الأعداء ما نالوه من إفساد أحوال المسلمين وإضلالهم وصرفهم عن دينهم.
والأم إذا فر منها ابنها تضطرب حتى يعود إليها، ونحن لا بدَّ أن نتفكر ونجتهد ونعمل لتعود الأمة إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم ودينه وشرعه، وإلى جهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله.
والابن إذا كان مريضاً اضطرب أبواه حتى يشفى، وإذا أصيب جميع الأولاد بمرض خطير فماذا تكون حال أبويهم؟.
لقد ابتلي كثير من المسلمين بمرض ترك الدين، وترك الدعوة إليه، فكيف يأتي عندنا الهم والفكر والعمل لإعادة الأمة لجهد الدعوة إلى الله، وإحياء أوامر الله في جميع الأمة، وفي جميع شعب الحياة؟.
والأمة الآن أصابتها أمراض خطيرة وكبيرة وكثيرة جداً، غيرت صورتها وبدلت سعادتها شقاء، وأمنها خوفاً، وعزها ذلاً، فلا بدَّ من الدعوة والدعاء في جميع الأوقات والأحوال حتى تعود الأمة إلى الله وإذا قامت الأمة بالدعوة إلى الله ظهر الحق، وانتشرت الفضائل في العالم، وإذا تركت الأمة الدعوة واشتغلت بالدنيا ظهر الباطل وانتشرت الرذائل في العالم.
والخير والشر الموجودان في العالم إنما هما ثمرة حركة الناس في العالم رجالاً ونساءً، إن تحركوا بخير انتشر الخير في العالم، وإن تحركوا بشر انتشر الشر في العالم.
وكثير من المسلمين يعرفون أحكام الدين، ولا يعرفون أوامر جهد الدين وهي الدعوة؛ لأنهم يشعرون أنهم غير مسئولين ولا مكلفين بالدعوة، وإنما هي واجب العلماء منهم.(9/151)
وهذا من الجهل الذي عمَّ وطمَّ، وانتشر بسببه كل شر وبلاء وفساد، فإن الدعوة واجبة على كل مسلم كما أن الصلاة واجبة على كل مسلم.
كما أن أوامر الصلاة لا تتغير فكذلك أوامر الدعوة لا تتغير، وقد أكمل الله لنا ذلك وبينه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وسلاح الدعوة الأخلاق العالية، فنكرم كل أحد، ونتحمل الأذى من كل أحد، ولا نجرح أحداً، وندعو لكل أحد بالهداية، وندعو جميع طبقات الأمة إلى الإسلام، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام:
فأسلم أبو بكر من الرجال، وعلي من الصغار، وزيد من الموالي، وخديجة من النساء، وشعر كل واحد من هؤلاء أنه مسئول عن الدعوة إلى الله من أول يوم.
فأبو بكر - رضي الله عنه - اجتهد على الخواص والأغنياء فدعاهم إلى الله فأسلم منهم ستة من العشرة المبشرين بالجنة.
وعلي - رضي الله عنه - اجتهد على أقرانه، وعلى الزائرين إلى الحرم لأنه من أهل البيت.
وزيد بن حارثة - رضي الله عنه - اجتهد على أقرانه من العبيد والمماليك.
وخديجة رضي الله عنها اجتهدت على النساء، فأسلم على يديها فاطمة بنت الخطاب التي كانت سبباً في إسلام أخيها عمر، وأسلمت على يديها سعدى بنت كريز التي كانت سبباً في إسلام عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وكلاهما من الخلفاء الراشدين، ومن العشرة المبشرين بالجنة.
وإذا بذلنا للدين ما نستطيع، الله يرزقنا وييسر لنا ما لا نستطيع، كما أنزل الملائكة يقاتلون مع المؤمنين في بدر، وأرسل الريح والجنود على الأحزاب، ونصر أولياءه وخذل أعداءه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [الأحزاب: 25].
وكما نتفكر لحل مسائل الدنيا، كذلك يجب أن نتفكر لحل مسائل البشرية في الدنيا والآخرة، وإخراجها من الظلمات إلى النور، وهدايتها إلى الصراط المستقيم الموصل إلى النعيم المقيم.(9/152)
وكلما جاءت علينا الأحوال والمسائل والمشاكل في مجال الدعوة لا ننظر إلى الأحوال، بل نتوجه إلى الله بالدعاء، ونقدم الشكوى إليه، فهو الذي بيده تغيير الأحوال، وبيده النصر والتمكين.
وننظر مع ذلك إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا فعل في تلك الحال؟، وبماذا أمر؟.
كما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم الكفار في بدر في قلة من المؤمنين، وقلة من العدة، ومخالفة الأحوال، فنصره الله وخذل أعداءه وأمده بجند من الملائكة وكما أنفذ أبو بكر جيش أسامة مع مخالفته للأحوال التي أعظمها موت النبي صلى الله عليه وسلم .
وكما أخرج أبو بكر الجيوش لحرب المرتدين مع مخالفته في الظاهر لتلك الأحوال.. وهكذا..
وقبل ذلك وعلى ذلك سار الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم، فالله مع الأنبياء وأتباعهم يحفظهم ويؤيدهم وينصرهم.
فالنمرود لما جمع الحطب لإحراق إبراهيم صلى الله عليه وسلم وألقاه في النار، كان مع إبراهيم كمال الإيمان والتقوى، فلم يلتفت للنار ومن أشعلها، بل توجه إلى الله الذي بيده كل شيء أن ينجيه، فأنجاه الله من النار، ولم يتوجه إلى الأسباب والمخلوقات، بل توجه إلى الله مباشرة، فوجه الله النار بأمره مباشرة أن تحفظه ولا تضره كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 68،69].
والامتحان الآخر: أن الله أمر إبراهيم أن ينقل بعض أسرته، هاجر وابنها إسماعيل إلى مكة، ويضعهم بوادٍ غير ذي زرع حيث أسباب الهلاك موجودة، وأسباب الحياة مفقودة لأمر يريده الله، فامتثل إبراهيم أمر ربه، وأسكنهم بواد غير ذي زرع، وراح وتركهم فحفظهم الله، وساق الناس إليهم، وأنبع الماء لهم، وجبى لهم الثمرات من كل مكان.
وأكرم سبحانه خليله إبراهيم بأن جعله إماماً للناس، وجعله أمة في العبادة والدعوة، وجعل الأنبياء من بعده من ذريته، فهو أب الأنبياء وخليل الرحمن: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 37].(9/153)
والامتحان الثالث: أن الله عزَّ وجلَّ أمر إبراهيم لما بلغ ابنه إسماعيل السعي أن يذبحه كما قال سبحانه: (? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? پ پ پپ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الصافات: 101-106].
فاستسلم إبراهيم لذبح ابنه، وسلم إسماعيل رقبته للذبح، وكان قضاء الله أن يباشر الأب ذبح الابن؛ لأعلان كمال الطاعة والانقياد لأمر ربه مع مخالفته للطبيعة والأحوال.
فحفظه الله وحفظ ابنه وأبقى إسماعيل، وأخرج من نسله سيد المرسلين، وبعثه رحمة للعالمين.
فما أعظم هذا البلاء، وما أعظم تلك الطاعة.. وما أعظم ذلك التسليم والانقياد لأمر الله.
والله عزَّ وجلَّ أعطى الأنبياء الدين وجهد الدين، وأعطى محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته الدين وجهد الدين.
وأول الأوامر بعد التوحيد والإيمان هي أوامر الدعوة في مكة، ثم جاءت أحكام ومسائل الدين في المدينة..
وتفصيل أصول الدعوة والدعاة إلى الله من النبيين والمرسلين، وما واجهوه من أقوامهم فصله الله في القرآن، وهو من أول ما نزل، وهو غالب سور القرآن.
وتفصيل أحكام الدين بينها النبي صلى الله عليه وسلم وفصلها في السنة النبوية بعد الهجرة إلى المدينة كأحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحوها.
وأول الشهداء شهداء الدعوة في سبيل الله كما حصل لسمية وياسر وغيرهم في مكة قبل الهجرة وقبل مشروعية القتال في سبيل الله.
فالتوحيد والإيمان والعبادة والدعوة هي أعظم حقوق الله على عباده فيجب تذكيرهم بهذه الحقوق جميعاً في جميع الأوقات، وفي جميع الأماكن، وفي جميع الأحوال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يوسف: 108].
وأعظم أصول الدعوة:
نفي المخلوق واثبات الخالق الذي بيده كل شيء.
ونفي جميع الطرق وإثبات طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال والأعمال.(9/154)
وتوجيه الناس من الدنيا إلى الآخرة.. ومن العادات والتقاليد إلى السنن النبوية.. ومن تكميل الأموال والشهوات إلى تكميل الإيمان والأعمال الصالحة.. ومن محبوبات النفس إلى محبوبات الرب.. ومن جهد الدنيا إلى جهد الدين.. ومن جهد غير الرسول إلى جهد الرسول صلى الله عليه وسلم .
وندعو إلى الله بيقين النبي صلى الله عليه وسلم على ذات الله وأسمائه وصفاته.
ونجتهد على الناس بنية النبي صلى الله عليه وسلم لهداية العالم كله إلى يوم القيامة.
ونقوم في جميع الأحوال بأعمال النبي صلى الله عليه وسلم حيثما كنا.
ونؤدي جميع الأعمال بطريقة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا نفعل إلا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر به أو أقره أو شرعه.
فإذا فعلنا ذلك وقمنا بالدعوة بهذه الأصول الأربعة:
يقين النبي.. ونية النبي.. وأعمال النبي.. وطريقة النبي.
جاء الابتلاء من الله لتكميل تربية العبد، وامتحان صدقه وصبره كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الجوع والخوف والأذى، والسب والشتم والاستهزاء، والمكر والكيد وغير ذلك.
فلما صبروا لله واستقاموا على دينه، وتوكلوا على ربهم، وامتثلوا أوامره، بدل الله أحوالهم، وأذهب عنهم الجوع والخوف والمرض، وأعزهم ونصرهم، واستخلفهم في الأرض، وخذل أهل الباطل، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأكمل الله الدين، وأتم النعمة كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 3].
فخلف هذه الأمور الأربعة من العباد.. أربع كرامات من رب العباد وهي:
نصرة الله عزَّ وجلَّ.. والتمكين في الأرض.. ونزول الهداية.. والفوز بالجنة والنجاة من النار.
فدين الإسلام عند الله عظيم، ومكانة المسلم كذلك عند الله عظيمة.
ومسؤولية المسلم تجاه الدين عظيمة، والواجب على كل مسلم ومسلمة أربع مسؤوليات:
تعلم الدين.. والعمل بالدين.. وتعليم الدين.. وإبلاغ الدين.(9/155)
فتعلم الدين والعمل بالدين للإنسان نفسه، ليعرف المسلم شرع ربه، ويقوم بامتثال أوامر الله ورسوله، ويؤدي ذلك بعلم، وتعليم الدين والتذكير بمواعظه لعموم المسلمين ليفعلوا الطاعات ويجتنبوا المعاصي.
وإبلاغ الدين حق واجب على المسلم يؤديه لعموم الناس ليدخلوا في الدين وتقوم عليهم الحجة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
وجهد النبي صلى الله عليه وسلم كان على الكفار ليهتدوا ويدخلوا في الإسلام، وعلى المؤمنين بالتذكير والتعليم والوعظ ليستقيموا على أوامر الله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 125].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ??) [الذاريات: 55].
وجهدنا الآن ينبغي أن يكون على المسلمين أولاً لتكون حياتهم كحياة الأنبياء والصحابة، وأخلاقهم كأخلاق الأنبياء والصحابة، ويقينهم كيقين الأنبياء والصحابة، وهذا تذكير لا تبليغ.
فإذا قامت الأمة على الجهد، واستقامت على أوامر الله، وجاءت فيها الصفات التي يحبها الله، والأعمال التي أمر بها الله، سهل عليها تبليغ الدين للناس كافة بالأقوال والصفات والأعمال كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فصلت: 33].
وبسبب ترك الدعوة حلت بالمسلمين المصائب، وكثرت المعاصي، وظهرت فيهم صفات اليهود والنصارى، فارتد بعضهم عن الإسلام، وولى الدين ظهره، واتبع سنن اليهود والنصارى الذين حذرنا الله منهم بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 100، 101].
وأول ما خرج من الأمة اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته.. ثم خرجت طاعة الله ورسوله، وجاءت طاعة النفس والشيطان والكفار.. ثم خرج الدين من حياة جمهور كبير من المسلمين.(9/156)
والنبي صلى الله عليه وسلم أول ما علم الأمة بعد التوحيد والإيمان أوامر الجهد للدين والدعوة إليه في مكة من أول يوم، ثم علمهم في المدينة بعد الهجرة أحكام الدين.
ولكن الأمة الآن نسيت وتركت الجهد للدين، وجهلت أوامر الجهد التي فصلها الله في القرآن في قصص الأنبياء، وبينها الرسول عملياً ففقدت الدين وأقبلت على الدنيا:
تجمع الأموال.. وتتمرغ في الشهوات.. وتضيع الأوقات باللهو واللعب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 44].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أصول دعوة الكفار بالترتيب: الدعوة إلى الله.. فإن لم يستجيبوا طالبناهم بالجزية.. فإن أبوا قاتلناهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «... ِإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ (أوْ خِلالٍ)، فَأيَّتُهُنَّ مَا أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلامِ، فَإِنْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ، إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أبَوْا أنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ ا? الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلا أنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أبَوْا فَاسْتَعِنْ بِا? وَقَاتِلْهُمْ» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1730).(9/157)
والصحابة رضي الله عنهم كانت أمامهم الدعوة إلى الله أصالة، فإذا لم يقبل الناس الدعوة طالبوهم بدفع الجزية، فإن أبوا قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ثم جاء بعد من قدم القتال على الدعوة فخاف الملوك والكفار، ورفعت النصرة من الله، فتوجهت القلوب إلى الأسباب والأشياء، وصار المسلمون كالكفار في الاعتماد على الأسباب فغلب من أسبابه أقوى.
وصار المسلمون الآن أذلة لتغير اليقين والترتيب وكثرة المعاصي والذنوب، وقوة أسباب الأعداء، ولا يرفع الله عنهم هذا الذل حتى يرجعوا إلى الدين ويستقيموا عليه ويدعوا إليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
ومسؤولية الأنبياء وأتباعهم أعظم مسؤولية، فالرؤساء والعامة يتفكرون للأحوال الدنيوية وحلها قبل الموت.
بينما فكر الأنبياء كيف تصلح أحوال البشرية كلها قبل الموت وبعد الموت.
وإذا كان العالم سبب لبقاء أعمال الدين، فإن الداعي سبب لبقاء الدين، فبسبب ترك تعليم الدين انتشرت في الأمة البدع، وعم الجهل، وصار كثير من المسلمين يقترف المحرمات، ويترك الطاعات، ويعبد الله على جهل وضلال، فهذا تقصير العالم.
وبسبب ترك الدعوة حلت بالأمة عقوبات ومصائب، وتسلط أهل الشر والباطل، فأقفلت كثير من المساجد، والتي لم تقفل عطلت عن أعمال المسجد من العبادة والدعوة والتعليم، وبقيت مكاناً تؤدى فيها الصلاة ثم تقفل.
وملئت الأسواق بالسلع، وأماكن اللهو بالملاهي، وأماكن اللعب بالألعاب، وغشى الناس أسواق الفساد والشهوات وأماكن اللهو واللعب، واشتغلوا بالدنيا عن الدين، رجالاً ونساءً، ليلاً ونهاراً.
وخلت كثير من المساجد من جهد الدعوة إلا ما رحم ربك، فأغلقت إلا لصلاة فريضة، ولما خلت المساجد من الأعمال تبعتها البيوت فصارت خالية من الأعمال إلا ما رحم ربك، مملوءة بالأشياء المباحة والمحرمة التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.(9/158)
خلت المساجد من حلقات الذكر والتعليم، والشورى والتفكر لهداية البشرية، وخلت البيوت كذلك وجلس الناس مجالس الغيبة والنميمة.. واللهو واللعب.. وتكميل شهوات النفس.
وتشاوروا ماذا يأكلون؟، وماذا يبنون؟، وماذا يعملون؟، وكم يربحون؟.
وصاروا يتعلمون ما يقيمون به دنياهم، وتتلمذ كثير منهم على أيدي من غضب الله عليهم ولعنهم من اليهود والنصارى، فجاؤوا بحياة اليهود والنصارى وأفكارهم وأعمالهم، ووضعوها في صحن الإسلام وسفرته، ودعوا الناس إليها باسم العلم، فقعد الناس عليها وهم مطمئنون، يتلذذون بطعمها وحلاوتها، ولو كانت تغضب الله، وتوجب لعنته، وتجلب سخطه، وتسبب عقوبته: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 78، 79].
وصار الفكر والعمل عند هؤلاء بالإجماع كيف تزيد الأموال والأشياء، لا كيف يزيد الإيمان والأعمال، وماذا يريد الناس لا ماذا يريد الله.
وصارت حياة اليهود والنصارى وسائر الكفار تنقل إلينا، بل تفرض علينا، وحياتنا وديننا لا تنقل إليهم، ولا تعرض عليهم.
وبدأ كثير من المسلمين يخرجون من الدين بسبب ضعف الإيمان واليقين، وقلة العلماء والدعاة والمصلحين، والكفار ينفرون من الدين، فزادت الدنيا ونقص الدين، وتعلق كثير من الناس بالمخلوق، وأعرضوا عن الخالق ودينه وشرعه.
وإذا قامت الدعوة فتحت أبواب الدخول في الدين، وإذا فقدت الدعوة فتحت أبواب الخروج من الدين، وبدأ يخرج اليقين من الإيمان والأعمال، إلى اليقين على الأموال والأسباب والأشياء.
وإذا قامت الدعوة إلى الله فتحت مداخل الخير كلها، فيدخل الإيمان واليقين والإخلاص، ويدخل الصبر والعفو والإحسان، وتدخل الرحمة والشفقة والتقوى، ويدخل الكفار والعصاة في الهداية والطاعة.. ويجتمع الناس على الحق والهدى.(9/159)
وإذا لم تقم بالدعوة فتحت مداخل الشر كلها، فيدخل كل شر بكل لون، في كل وقت، ولكل نفس، وإذا دخل كل شر خرج كل خير، فيخرج من الإنسان كل شيء جميل.
يخرج الإيمان واليقين والتقوى، والأعمال الصالحة، والأخلاق الحسنة، حتى في النهاية يخرج الناس من دين الله أفواجاً كما دخلوه أفواجاً.
والفقه في الدين والإنذار بالدعوة متلازمان، ومن غلب هذا على ذاك، أو ترك هذا من أجل ذاك، فقد ضل عن الصواب، وكان كمن له رِجلٌ أطول من الأخرى، فلا يستقيم له المشي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 122].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 15].
والله تبارك وتعالى بحكمته ابتلى عباده الذين يدعون إلى الله بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع، وله من الكلام والدعوة ما يناسبه:
الأول: من عرف الحق فعاداه حسداً وبغياً كاليهود، أو عرف الحق وضل عنه كالنصارى كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [البقرة: 109].
الثاني: الرؤساء وأهل الأموال، الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم، لما يعلمون أن الحق يقيدهم بأوامره، ويمنعهم من كثير مما أحبوه وألفوه، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 50].
الثالث: الذين نشأوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم، يظنون أنهم على حق وهم على باطل، وهؤلاء هم الأكثرون: (? ? ? ?? ? ? ? ??) [الصافات: 69، 70].
وهؤلاء: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [البقرة: 170].
والدعوة إلى الله كما أنها مسئولية الأمة كلها فهي كذلك حاجة الأمة كلها، فالدعوة إلى الله سبب للهداية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
والدعوة إلى الله أمان للأمة من العذاب والهلاك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 117].(9/160)
وكما أن العبادة أمر الله يجب امتثاله من كل مسلم كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [البقرة: 21].
فكذلك الدعوة أمر الله يجب القيام به من كل مسلم كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 125].
وعلى الداعي حين يقوم بالدعوة إلى الله أن يتعرف على المدعوين، وأن يراعي أحوالهم، فالله سبحانه جعل مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، والناس ثلاثة أقسام:
الأول: من إذا عرض عليه الحق اعترف به واتبعه، فهذه يدعى بالحكمة بحسن بيان الحق ومقاصد الشرع.
الثاني: من إذا سمع الحق اعترف به، لكنه لا يسرع لقبوله والعمل به، فهذا يحتاج مع البيان إلى الموعظة الحسنة بالترغيب في الجنة، والتحذير من النار، ليعلم ثواب الطاعات فيقبل عليها، ويعلم عقوبة المعاصي فيحذر منها، وينشرح صدره للعمل الصالح.
الثالث: من إذا عرض عليه الحق لا يعترف به ولا يقبله، بل يرده بالشبهات، فهذا يجادل بالتي هي أحسن حتى تزول شبهته.
وقد بين الله ذلك كله بقوله سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 125].
والدين لا ينتشر ولا يحفظ إلا بأمرين:
الدعوة إلى الله.. والجهاد في سبيل الله.
فالدعوة أولاً لعموم الناس، ثم الجهاد في سبيل الله لمن عاند وأبى إلا الكفر أو آذى المسلمين أو اعتدى عليهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
وهذا واجب المسلمين في كل زمان ومكان، فاتباع المهاجرين والأنصار ليس فقط بأداء العبادات وترك المحرمات.
بل يكون مع ذلك الاقتداء بهم في الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 39، 40].
وجميع طبقات الأمة محتاجون إلى الدعوة إلى الله:
فالكفار والمشركون يُدعون إلى الدخول في الإسلام والخروج من الكفر.(9/161)
والمبتدعة والعصاة يُدعون إلى الله ببيان أحكام الدين الصحيحة، والترغيب في الأعمال الصالحة، والترهيب من الأعمال السيئة لعلهم يتوبون.
والعباد يحتاجون إلى الدعوة ليزيد إيمانهم، ولتحسن أعمالهم، ولتتحرك قلوبهم لدعوة غيرهم.
والعلماء يحتاجون إلى الدعوة ليعملوا بعلمهم، وينشروا علمهم في الأمة.
وعامة المؤمنين يدعون إلى الله ليزيد إيمانهم ويكمل، فيتوبوا من ذنوبهم، ويحسنوا أعمالهم، ويحفظوا إيمانهم لئلا ينقص.
فليس أحد يستغني عن الدعوة إلى الله والتذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح والإرشاد، لا المؤمن ولا الكافر، ولا العالم ولا الجاهل، ولا المطيع ولا العاصي.
وكل يدعو بحسب حاله.. وكل يُدعى بحسب حاله.
وإذا قمنا بالدعوة إلى الله يجب أن نخرج من قلوبنا عاطفة الانتقام من الناس مهما فعلوا بنا وآذونا.
فالمريض إذا زاد مرضه واشتد أحياناً يضرب الطبيب الذي يعالجه، والطبيب يشفق عليه ويواصل علاجه، ويسهر من أجله.
وهكذا أعداء الأنبياء وأعداء المسلمين بسبب شدة مرضهم وجهلهم يسبون الأنبياء والدعاة والمسلمين ويؤذونهم ويقاتلونهم، والأنبياء وأتباعهم كلما زاد الأعداء في أذاهم زادوا شفقة عليهم، ودعوا الله لهم: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [آل عمران: 159].
ولما كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس تَوَّجها الله بتاجين:
أحدهما: صفة الأمة: وهو تاج الإيمان، والعبادات، والمعاملات والمعاشرات والأخلاق.
الثاني: عمل الأمة: وهو تاج الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصح للخلق.(9/162)
والأمة إذا تركت الدين فقد قطعت صلتها بالله، وأحلت بنفسها عقاب الله.. وإذ تركت الدعوة إلى الله خرج الدين من حياتها، وجاء الفساد في الأمة وفي العالم كله.. وانتشر الظلام مكان النور.. والشرك مكان التوحيد.. والمعاصي مكان الطاعات.. وأوجب ذلك غضب الله وسخطه ولعنته كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 78، 79].
وإن آفة أهل العلم والدعوة حين يقصدون بعملهم غير وجه الله من طلب مال أو جاه أو منصب، فحينئذ يصبح الدين حرفة وتجارة خاسرة لا عقيدة حارة دافعة.
فهنا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ويهملونه، وينهون عن الشر ويقتحمونه، فهؤلاء قد ضلوا وأضلوا، وهم يحسبون أنهم على شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 16].
وكثير من المسلمين يجهل أنه مكلف بالدعوة إلى الله، وبعضهم اكتفى بالعبادة عن الدعوة، وبعضهم اشتغل بالعلم وتعليمه، وبعضهم يؤدي العبادات، وجل وقته للشهوات، وبعضهم ليس معه من الدين إلا اسمه فلا عبادة ولا دعوة، والناس في ذلك طبقات ودرجات، ولكي يعرف كل إنسان ربه ودينه وأعمال رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويعرف أنه مسؤول عن الدين ونشره في العالم، ولكي يعود إلى ربه ويتوب إليه، ويحب دينه، ويرى جهد رسوله، لا بدَّ من تكوين بيئة صالحة يرى فيها المسلم أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم : من العبادات والدعوة والتعليم والآداب والسنن القولية والفعلية، وحسن المعاشرات والأخلاق.(9/163)
فإذا دخل في هذه البيئة الصالحة زاد إيمانه، وتغير فكره، وحسنت أعماله، وأقبل على الطاعات، وترك المعاصي، وصار عابداً داعياً، معظماً لربه، ممتثلاً لأوامره، شاكراً لنعمه، محسناً إلى خلقه، كما حصل ذلك كله في المدينة في المسجد النبوي، وفي بيوت النبي، وفي بيوت أصحاب النبي، فكل من دخل تلك الأماكن تأثر بما فيها من الإيمان والأعمال، واكتسب السنن والأحكام والآداب، فعمل بها داعياً إليها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?چ) [التوبة: 119].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 122].
ولا بدَّ من التدرج في إيصال هذه الأصول لكل إنسان، ولكل جاهل، ولكل ضال، ولكل عاص، ولكل معاند، ولكل مستكبر، فلما تكونت بيئة الإيمان والأعمال الصالحة في المدينة جاءت الوفود تعلن إسلامها وطاعتها لله ورسوله، ثم دخل الناس في دين الله أفواجاً.
وعودة الناس إلى الدين والعمل به والدعوة إليه لها أصول، ويتم ذلك بما يلي:
التأليف.. ثم التعريف.. ثم التكليف.
فنؤلف قلوب الناس بالثناء عليهم، وذكر محاسنهم، وإنزالهم منازلهم، ونهدي لهم ما يحبون، ونكرمهم ونحترمهم ونوقرهم، وبذلك يحبوننا، فيسمعون كلامنا، ويتأثرون بصفاتنا، ويرغبون في ديننا.
ثم نبين لهم عظمة الله، وعظمة أسمائه وصفاته ليعظموه، ثم نبين كثرة نعمه على عباده، وجميل إحسانه إليهم، خاصة هذا الدين الذي منَّ الله به على عباده، ليشكروه ويطيعوه ليزيدهم من فضله.
ثم نبين حاجة البشرية الماسة للدين ليسعدوا في الدنيا والآخرة ثم نبين فضائل الدعوة إلى الله، وفضل الخطوات في سبيل الله، وجهود الأنبياء في نشر دين الله، ونرغب الناس في جهد الأنبياء.
فإذا عرف الناس ذلك جاءت عندهم الرغبة في العمل بالدين والدعوة إليه، والصبر على ذلك.(9/164)
فإذا قام المسلم بالدعوة إلى الله زاد إيمانه، ونزلت الهداية على العباد، وجاءت عنده الرغبة في التضحية في سبيل الله بنفسه وماله، وأوقاته وشهواته، وبلده وأولاده، وكل ما يملك كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [التوبة: 88، 89].
ثم تأتي في قلبه رحمة الناس، والشفقة عليهم، والإحسان إليهم، والدعاء لهم، ثم يرى عياناً مظاهر رحمة الله لعباده، وفضله عليهم.
وأهم أصول دعوة الأنبياء التي تنزل بسببها الهداية:
الإيمان واليقين، والتقوى والإخلاص، والاستقامة على أوامر الله، والتوكل على الله، والصبر على كل أذى، والعفو والصفح، والرحمة والشفقة، وامتثال أوامر الله في جميع الأحوال، والقيام بالدعوة إلى الله، وعدم سؤال الناس الأجرة عليها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يدعون إلى الله بالعزة؛ لعلمهم أن الله معهم وهو مولاهم، ويمشون بالانكسار والتواضع؛ لعلمهم أن الهداية بيد الله وأنهم لا يملكون شيئاً، ويرحمون الناس ويشفقون عليهم، ويرفقون بهم، لعلهم يهتدون فينجون من عذاب الله؛ لأنهم يعلمون ما لا يعلمون.
ولم يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم في معالجة تقاليد الجاهلية من خمر وزنى وميسر وربا من أول الأمر؛ لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة، فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها جهد ضائع.
وإنما بدأ صلى الله عليه وسلم من شهادة أن (لا إله إلا الله).
وطالت فترة إنشاء لا إله إلا الله في القلوب حتى بلغت ثلاثة عشر عاماً في مكة، تم فيها تعريف الناس بإلههم الحق، وتعبيدهم له، وتطويعهم لسلطانه، وتذكير الناس بنعم الله على عباده، وبيان ثواب أهل الطاعة، وعقاب أهل المعصية، واطمأنت القلوب وأسلمت نفسها لله.(9/165)
حتى إذا خلصت نفوسهم لله، وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله، وجاءت فيهم محبة الله ورسوله ودينه، واستعدت نفوسهم للطاعة وتنفيذ أوامر الله، بدأت التكاليف بما فيها الشعائر التعبدية وتفصيل أحكامها وأوقاتها ومقاديرها في المدينة.
وعندئذ بدأت تنقية رواسب الجاهلية في العبادات والمعاملات والمعاشرات والأخلاق.
بدأت في الوقت الذي يأمر الله بأمر فيطيع العباد بلا جدال، بل نزلت أوامر الدين في المدينة كالمطر فاستقبلوها بالطاعة التامة، وتلذذوا بأدائها وتنفيذها، وقالوا سمعنا وأطعنا لله ورسوله؛ لأنهم أسلموا وجوههم لله، فلا يختارون إلا ما اختاره الله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الأحزاب: 36].
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف: إما مؤمن.. وإما كافر.. وإما منافق يظهر الإسلام ويبطن الكفر، بخلاف ما كانوا وهو بمكة، فلم يكن هناك منافق، ولم يكن من المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في المدينة في قبائل الأنصار.
فإن مكة كانت قبل الفتح بيد الكفار وهم زعماؤها، فلا يؤمن ويهاجر إلا من هو مؤمن، والمدينة آمن بها أهل الشوكة والزعامة، فصار للمؤمنين بها عزة ومنعة بالأنصار، فمن لم يظهر الإسلام من الكفار انكشف أمره، وبطل كيده ومكره، فظهر النفاق، واحتاج المنافقون إلى إظهار الإيمان وشعائره مع أن قلوبهم لم تؤمن: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 101].
وجميع العبادات مركبة على الرخص، فبدل الوضوء التيمم عند الحاجة، والفطر بدل الصيام في السفر، وقصر الصلاة وجمعها في السفر، والصلاة للمريض قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب.. وهكذا.
(? ? ? ?? ? ? ? ??) [الشرح: 5، 6].(9/166)
أما الدعوة فهي مركبة على العزيمة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 78].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 52].
وحاجة البشرية للدين أعظم من حاجتهم للطعام والشراب، بل أعظم من الهواء والتنفس؛ لأنهم بفقد الهواء والتنفس يفقدون الحياة الدنيا، وبفقد الدين يخسرون الدنيا والآخرة، وأي خسران فوق هذا؟
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 119].
فلا بدَّ من الانتشار في الأرض لإبلاغ دين الله، ونشر السنن والأحكام بين الناس، ومقاتلة من يصد عن سبيل الله، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.. كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 41].
ومن أجل ذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله في كل مكان، وعرض دعوته وما جاء به من الدين على أهل مكة.. وأهل الموسم.. وأهل الطائف.. وأهل المدينة.. وأنذر الناس كافة.. والعالمين قاطبة. وجاهد بنفسه، وغزا بنفسه، وأرسل البعوث والسرايا لإعلاء كلمة الله ونشر دينه، وقمع المعتدين، ودفع عدوان الظالمين. وكذلك فعل الصحابة معه، ومن بعده، فساروا في مشارق الأرض ومغاربها دعاة إلى الله، مبلغين دين الله، معلمين سنن رسول الله، مجاهدين في سبيل الله، لا يخافون في الله لومة لائم.
ومضوا في هذا السبيل داعين إلى الله، مجاهدين في سبيل الله، في مشارق الأرض ومغاربها، حتى مات أكثرهم في غير مكان مولده، فعلوا ذلك كله امتثالاً لأمر ربهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].(9/167)
فعقبة بن نافع مات في الجزائر.. وأبو لبابة في تونس.. وأبو أيوب الأنصاري في أسطنبول.. وأبو طلحة الأنصاري في جزائر الروم.. وقثم بن عباس في سمرقند.. وقتيبة بن مسلم الباهلي في فرغانة.. وعبدالرحمن الغافقي في فرنسا.. والنعمان بن مقرن في نهاوند.. وعلي بن أبي طالب في الكوفة.. والبراء بن مالك في تستر.. والحارث بن هشام في اليرموك.. وأبو عبيدة في الأردن.. وعبدالله بن رواحة في مؤتة.. وخالد بن الوليد في حمص.. وسلمان الفارسي في المدائن.. وبلال في دمشق.. وأنس بن مالك في البصرة.. وجعفر بن أبي طالب في مؤتة.. وعبدالرحمن بن سمرة في خراسان.. وعمرو بن العاص في مصر.. وشرحبيل بن حسنة في الأردن.. وسهيل بن عمرو في الشام، وغير هؤلاء كثير.
والعباس بن عبدالمطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم له عشرة أبناء، سبعة منهم قبورهم في بلاد شتى وولادتهم في مكة:
الفضل في الشام.. وعبدالله في الطائف.. وعبيدالله في اليمن.. وقثم في سمرقند.. وعبدالرحمن ومعبد في إفريقيا.
وحج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أكثر من مائة ألف، فلما قال لهم: «لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أوْعَى لَهُ مِنْهُ» متفق عليه(1).
خرجوا بأموالهم وأنفسهم لإعلاء كلمة الله، ونشر دين الله، وإزاحة الباطل من الأرض، وما دفن منهم في المدينة إلا ما يقارب عشرة آلاف، والباقون ماتوا مجاهدين مسافرين مبلغين لدين الله في أنحاء الأرض، فرضي الله عنهم أجمعين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [التوبة: 88، 89].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (67) واللفظ له، ومسلم برقم (1679).(9/168)
وكانت الدعوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة اجتماعية على كل فرد كالعبادة، ثم بقيت العبادة اجتماعية، وتحولت الدعوة إلى أفراد من الأمة، واقتصرت على قلة من الناس، فتأثرت عقيدة الأمة، وفسد يقينها، واهتز أمنها، وكثرت جراحها.
فضعف الإيمان.. وبسبب ضعف الإيمان ضعفت الطاعات.. ثم ضعف العلم والذكر والتذكير.. ثم تأثرت الأخلاق.. ثم تغيرت المعاشرات.. وساءت المعاملات.. وتغيرت النيات.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد من التأثر والنقص والضعف، بل أخذ مكان كل صفة ضدها عند كثير من المسلمين:
فكان مكان قوة الإيمان ضعف الإيمان.. ومكان قوة الأعمال ضعف الأعمال.. ومكان حسن الأخلاق سوء الأخلاق.. ومكان الدعوة إلى الله الدعوة إلى الأموال والأشياء.. ومكان جهد الدين جهد الدنيا.
حتى ظهر في الأمة من يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف على كافة المستويات.
وركب أكثر الأمة مراكب اللهو واللعب والغفلة والاشتغال بالدنيا كما هو واقع صريح في العالم الإسلامي، فضلاً عن العالم الجاهلي.
واقتحم كثير من المسلمين المعاصي والفواحش علانية بلا مبالاة ولا خوف ولا حياء.
فهل تُترك هذه الجراح تنزف المعاصي والذنوب والكبائر التي تغضب الله وتسبب سخطه، وتوجب لعنته، وتحل بنا نقمته؟ وهل تترك الأمة تسير وراء الشياطين والمجرمين بلا هدى إلى جهنم؟.
وإذا كان العالم الآن ما يقارب سبعة مليارات إنسان، أكثرهم بلا إيمان ولا هدى، ويموت منهم يومياً أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان إلى جهنم؛ لأنهم كفار يعيشون كالبهائم والشياطين بلا هدى.
فمن المسئول عن هؤلاء؟، ومن المسئول عن التقصير في دعوتهم إلى الله؟، وماذا خسرت البشرية لما قصرنا في إبلاغها الدين؟ إن مسؤولية البشرية كافة يتحملها المسلمون كافة، فقد اجتباهم الله، وأكمل لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، وأخرجهم للناس بأعظم دين، وأشرف وظيفة كما قال سبحانه:
(? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [آل عمران: 110].(9/169)
إن لكل مسلم أخوين:
أخ في الدين والنسب وهو المسلم.. وأخ في النسب لا في الدين وهو الكافر، ولكل منهما حق عليه.
فحق المسلم النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وحق الكافر دعوته إلى الله، والعمل بشرع الله.
والدعوة إلى الله واجبة على كل فرد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، بل هي أول واجب وأعظم واجب بعد الإيمان والعبادة على جميع الأمة وفي جميع الأحوال لكل الناس، فمن تركها وشغل نفسه بغيرها فهو آثم مقصر في وظيفته، ومسؤول عن تقصيره.
والله عزَّ وجلَّ يحتج على الحكام والملوك إذا تركوا الدعوة بسليمان عليه الصلاة والسلام، فلم يشغله ملكه عن الدعوة إلى ربه.
ويحتج سبحانه على الفقراء إذا تركوا الدعوة بمحمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
ويحتج على الأغنياء إذا تركوا الدعوة إلى الله بأغنياء الصحابة كأبي بكر وعمر، وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم.
ويحتج على المرضى إذا تركوا الدعوة إلى الله بأيوب صلى الله عليه وسلم .. وهكذا.
والناس مختلفون في قدراتهم ووظائفهم فمنهم الملك، ومنهم الوزير، ومنهم التاجر، ومنهم الطبيب، وهذه الوظائف الصغرى وقتها قليل، ومنافعها محدودة، فلا تعطى كل الوقت وكل الفكر وكل العمل.
أما الوظيفة الكبرى لكل مسلم ومسلمة مهما كان فهي مركبة من أمرين:
الأول: عبادة الله.. الثاني: الدعوة إلى الله.
ففي الأولى إصلاح النفس.. وفي الثانية إصلاح الغير.
وكل عمل فيما سوى ذلك فهو خسران محقق على صاحبه كما قال سبحانه: (?? ? ? ? پپ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [العصر: 1-3].
فهاتان النسبتان لازمتان لكل مسلم ومسلمة في جميع الأحوال.
وقد قسم الله الغني الكريم أرزاق العباد، وجعل لها أسباباً دينية ودنيوية تنال بها، فطلب المعاش وكسب الرزق لا مانع منه، بل هو فريضة بعد أداء فرائض الدين.
ولكن نقوم بالكسب بجوارحنا، ونعتمد على الله في حصوله بقلوبنا، فإن الله هو الرازق الذي لا رازق سواه.(9/170)
فنقوم بالكسب وفي قلوبنا دائماً العبودية لله، بامتثال أوامر الله في التجارة، والدعوة إلى الله في كل وقت.
فالإسلام حق لكل فرد في الأمة، والناس محتاجون إليه، ولا بدَّ من عرضه عليهم، فالإسلام لكي يقبله الناس لا بدَّ من إحسان عرضه على الناس في مساجدهم وبيوتهم وأسواقهم عن طريق العبادات.. وحسن المعاملات.. وجميل المعاشرات.. وحسن الأخلاق.
وبيان عظمة ربهم وجلاله ليعظموه.. وذكر نعمه وآلائه ليشكروه.. وتذكيرهم بإحسانه وفضله ليحبوه ويحمدوه.. وبيان شرعه وأحكامه ليتقربوا به إليه.. وذكر منازل أهل الطاعة في الجنة ليقبلوا على الطاعات.. وذكر منازل أهل المعصية في النار ليحذروا معصيته.
وبيان الفضائل والسنن والآداب قولياً وعملياً ليعبد الناس ربهم على بصيرة.. ويقبلوا على طاعته محبين له معظمين له.
وعلينا أن نتكلم مع الناس حسب عواطفهم وحاجتهم لا حسب عواطفنا، فكل من لزم عملاً أو سلك طريقاً هو في الغالب مقتنع به خيراً كان أو شراً.
فالكافر والعاصي يبين له حسن عمله، ويبين له الأحسن منه، ويذكر بمحاسنه وجميل أفعاله، ويكرم ويدعى له، ويذكر بربه ونعمه.
وبمثل هذه الأخلاق ينشرح صدره، ويتأثر قلبه، وينفتح عقله، فيستعد لسماع الحق وقبوله والعمل به والدعوة إليه: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [فاطر: 8].
وهل الدعوة إلا توجيه الناس إلى ربهم ودينه بالتي هي أحسن.. ونقلهم بالحكمة والرحمة من الشرك إلى التوحيد.. ومن الكفر إلى الإيمان.. ومن الباطل إلى الحق.. ومن القبيح إلى الحسن.. ومن الحسن إلى الأحسن.
فالدعوة أم الأعمال، والعبادة من ثمراتها، والعبادة خاصة بالنفس، والدعوة عامة للبشرية، ولذلك بين الله أصول الدعوة في القرآن مفصلة؛ لأنها وظيفة الأمة الكبرى.(9/171)
ولكن يعرض للداعي إلى الله عقبات تعوقه أو تثبطه أو تقطعه، فلا بدَّ من معرفتها، ومعرفة علاجها، والحذر منها، وهي خطوات الشيطان التي يسلكها ليضل الخلق عن الحق، ويصرفهم عن الدين.
فأولاً إذا قام الداعي بالدعوة إلى الله جاءه العدو الألد (اليأس) ففتت من همته لما يراه من سعة مساحة الكفر، وكثرة الطغاة والعصاة.
وعلاجه بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 17].
ثم يشن (حب الظهور) هجومه، فيهوي بضرباته على رأس الهمة ويطرحها على الأرض، فيحترق العمل لفقده الإخلاص.
وعلاجه بقوله سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 8].
ثم يبرز إلى الميدان مفسد الأعمال وهادم البنيان(داء الاستعجال)، فتنقلب الأعمال على عقبيها لعدم استوائها ووضعها في غير محلها. وعلاجه بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 200].
ثم يتصدى للدعوة (الرأي الشخصي المستبد) الذي يبدد أعمال الإنسان وأعمال الجماعة، ويسبب رفع نصرة الله عنهم، وتمكين الأعداء منهم.
ثم يبرز (التفكير الانفرادي) فيهتم بنفسه، ويهمل غيره، فلا يتماسك له بناء، ولا تثمر له شجرة، وإنما خير الناس أنفعهم للناس وعلاج ذلك كله بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 2].
ثم يخرج إلى الساحة عدو آخر ماكر وهو (التقليد) فيجد الفرصة سانحة لتقليد الكسالى والقاعدين، وبه يقصم ظهر الهمة، فيكثر القاعدون، فتتراكم الظلمات، وتزداد الجهالات، وتنبت البدع، وتختفي السنن.
وعلاجه بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 41].
ثم يلوح العدو الغدار وهو (التسويف) الناجم عن العجز وفقدان الثقة بالنفس، فينشأ معه تأجيل الأعمال الصالحة الأخروية من اليوم إلى الغد، ثم ينسيه الشيطان إياها.
وعلاجه بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [آل عمران: 133].(9/172)
ثم يدخل الساحة العدو الملحد وهو (التدخل فيما هو موكول أمره إلى الله).
وعلاجه بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 15].
فليس للعبد أن يتأمر على سيده، وإنما واجبه تنفيذ أوامر سيده وطاعة مولاه.
وأخيراً يقبل داء (حب الراحة والدعة) الذي هو أم المصائب وعلاجه بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ??) [النجم: 39-41].
وهذه الدار دار المجاهدة والعمل، والناس في جهاد إما لدينهم وإما لدنياهم، وأحسن الجهاد ما ثمرته كبيرة نافعة باقية، وهو الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
وإذا كان الداعي يدعو الناس إلى الله، فالعالم يعلم الناس كيف يعبدون الله، وكما أن كل مسلم مأمور بالعبادة، فهو كذلك مأمور بالدعوة.
والناس محتاجون إلى الداعي الذي يدعوهم إلى الله، وإلى العالم الذي يعلمهم أحكام دينهم.
والفرق بين الدعوة والإفتاء:
أن الفتوى خاصة بمن اختارهم الله لذلك من العلماء والفقهاء الذين مكنهم من العلم بالسنن والأحكام، وأعطاهم القدرة على الحفظ، ووفقهم للفقه في الدين، فهؤلاء العلماء يعلمون الناس، ويجيبون من سأل عن الأحكام ومشكلات المسائل.
وكثير من الصحابة كانوا يخافون من الفتوى ويتدافعونها مع غزارة علمهم وكمال معرفتهم بدينهم، ولم يكن فيهم مفت إلا قلة كابن عمر وابن عباس، وعلي ومعاذ، وابن مسعود رضي الله عنهم.
أما الدعوة إلى الله فهي عامة لكل فرد من الأمة رجالاً ونساءً، فالدعوة لعموم الناس، والنصيحة لعموم المسلمين، والفتوى خاصة بالعلماء.
ومن الناس من اختلط عليه الأمر فظن أن الدعوة خاصة بالعلماء والفتوى مباحة لكل أحد، وهذا بلاء عظيم، وقول على الله بلا علم، وذلك قرين الشرك، بل هو أخطر منه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 33].(9/173)
فلنسأل القرآن لينكشف الصواب، ويتميز الحق من الباطل.
ففي الفتوى نسأل العلماء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 43].
والدعوة وظيفة كل فرد من الأمة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يوسف: 108].
والعبادة واجبة على كل فرد من الأمة كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [البقرة: 21].
فعلينا القيام بثلاثة أمور:
الأول: أن نجعل حياتنا تابعة لحياة النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني: أن نقوم بجهد النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله لعموم البشرية.
الثالث: أن نقيم الأمة على جهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو الدعوة إلى الله، كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على ذلك من أول يوم.
والدعوة إلى الله وإن كانت إحساناً للبشرية، فهي في نفس الوقت حقهم الذي يجب إيصاله إليهم وإبلاغهم إياه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
والأمة لما تركت الدعوة إلى الله ضعف فيها الإيمان، وقلت الطاعات، وكثرت المعاصي، وجاء فيها صفتان من صفات اليهود والنصارى:
الأولى: الاهتمام بجمع الأموال بأي وسيلة، وفي كل وقت، وشغل الفكر والبدن بذلك كاليهود الذين لعنهم الله.
الثانية: الاهتمام بتكميل الشهوات وإضاعة الأوامر، وشغل الفكر والبدن بذلك كالنصارى الذين ضلوا عن الحق.
وكان الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين:
أمة الإجابة وهم المسلمون.. وأمة الدعوة وهم الكفار.
ثم أقبل كثير من المسلمين على الدنيا بسبب ترك الدعوة فصار الناس على ثلاثة أقسام:
أمة الإجابة وهم المسلمون.. وأمة نيابة وهم المسلمون الذين يقومون بالدعوة.. وأمة دعوة وهم الكفار.
فالواجب الآن أن نجتهد على من ترك وظيفة الدعوة من المسلمين، حتى يكون الجميع أمة نيابة، ثم نجتهد على أمة الدعوة وهم الكفار إذا ظهرت صفات الإسلام وعباداته وأخلاقه في المسلمين، والتي هي سبب للهداية.(9/174)
والله تبارك وتعالى جعل هذا الدين العظيم أمانة عندنا نقوم به وندعو إليه، فلا بدَّ من حفظ هذه الأمانة، وأدائها إلى أهلها، ووضعها في أماكنها، وهي قلوبنا وقلوب الناس، وأبداننا وأبدان الناس.
ومن فضل الله عزَّ وجلَّ على هذه الأمة أن أكرمها بوظيفة الدعوة إلى الله في جميع الأوقات، وفي جميع الأماكن، ولكل الناس، فبالدعوة يزيد الإيمان، ويقوى اليقين، وتكثر الطاعات، وتقل المعاصي، وتزيد الأجور، ويهتدي الناس، ويزيد الخير، ويقل الشر، وتصلح أحوال البشرية في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 70،71].
ومن أجل ذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالدعوة إلى الله في جميع الظروف والأحوال.
في حال العسر واليسر.. وفي حال الأمن والخوف.. وفي حال الشدة والرخاء.. وفي حال الحر والبرد.. وفي حال الصحة والمرض.. وفي حال السفر والإقامة.. وفي حال الغنى والفقر.
فحين مات عم النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب وزوجته خديجة في مكة لم يترك الدعوة، بل ضاعف الجهد والعمل، وهاجر من أجل الدين إلى المدينة مع تهديد قريش له، وسعيهم في قتله.
وماتت ابنته رقية في المدينة، وهو يجاهد في سبيل الله في غزوة بدر، وقتل عمه حمزة بين يديه في أحد، وجرح في وجهه وكسرت رباعيته في أحد، وقتل سبعون من أصحابه بين يديه في أحد.
ورمى المنافقون زوجته عائشة بالفاحشة، فما منعه كل ذلك عن القيام بالدعوة.
وقبل ذلك قال الكفار عنه صلى الله عليه وسلم ساحر كذاب، وتارة شاعر، وتارة مجنون.. وطردوه وسبوه وآذوه.. ومكروا به، وكادوه، وسخروا منه.. ثم عزموا على قتله.. ليموت الدين الذي جاء به كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [الأنفال: 30].
والله عزَّ وجلَّ يثبته ويطمئنه ويؤيده، ويأمره بالصبر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 60].(9/175)
وتوالت عليه تلك المصائب وغيرها، ولكن همّ الدين، وإقامته ونشره وإبلاغه شغله عن تلك المصائب، فأظهر الله دينه، وكانت العاقبة له وللمؤمنين به، فصلوات الله وسلامه على أنبياء الله ورسله، الذين بعثهم الله رحمة للعالمين، فبلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وصبروا على كل ما أصابهم في سبيل إعلاء كلمة الله، ونشر دينه، أولئك رسل الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 39].
وكل من قام بالدعوة إلى الله، وغشى الناس في بيوتهم وأسواقهم داعياً ومعلماً للناس فالله يستخدمه لدينه، ويجعله سبباً لهداية العالم، وبجهده يتغير العالم كما تغير بجهد الأنبياء.
فتحيا الفرائض والأوامر.. وتحيا السنن والآداب في حياة الناس.. ويحيا في الأمة الشعور بمسئولية الدين.. وتصلح عباداتهم ومعاملاتهم.. وتصلح معاشراتهم وأخلاقهم.. وتصلح بيوتهم وأسواقهم.. وتدخل السنن.. وتخرج البدع.. وتتهيأ القلوب للحق.. ويحصل فيها الاستعداد لجميع أعمال الدين.. ويرزق الله الداعي قوة اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته.. ويجعل أعمال الدين كلها محبوبة لديه.. ويرى نصرة الله معه.. ويطوي بساط الباطل من حوله.. ويجعل له المحبة في قلوب الناس، ويكتب له مثل أجور كل من دعاه واهتدى بسببه إلى يوم القيامة وتحصل له الهداية، وتنزل بسببه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
فأي خير؟.. وأي بركات؟.. وأي منافع تحصل للدعاة والمدعوين بسبب الدعوة إلى الله؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
وكم الأرباح التي يحصل عليها الدعاة إلى الله؟.
وكم حجم الخسارة التي يخسرها من ترك وظيفة الدعوة إلى الله؟.
وكم ينجو من البشرية من النار ببركة الدعاة إلى الله؟.
وكم يقع في النار من البشر بسبب ترك الدعوة إلى الله؟.(9/176)
إن الله عزَّ وجلَّ فطر عباده على التوحيد، ولكن الشياطين جاءتهم فاجتالتهم عن دينهم، وزينت لهم سوء أعمالهم، وبسبب ترك الدعوة إلى الله ضلوا وأضلوا، فلا بدَّ من بذل كل جهد ليعود الناس إلى ربهم وفاطرهم.
إن الكافر والعاصي كالغريق لا بدَّ له من عمليتين:
الأولى: إخراجه من الماء.. والثانية: إخراج الماء منه.
وكذلك الكافر والعاصي نخرجه من البيئة الفاسدة إلى البيئة الصالحة التي فيها الإيمان والأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة، فإذا دخل الإيمان في قلبه، وجاءت عنده محبة الإيمان والأعمال الصالحة عالجناه بإخراج الشهوات وحب الدنيا من قلبه، ثم نزكيه بالإيمان ولزوم البيئات الصالحة التي يسهل فيها فهم الدين، وحب الدين، والعمل بالدين.
والحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يؤثر في قلوب الناس إذا توفرت له ثلاث قوى:
قوة دافعة وهي الإيمان.. وقوة ضابطة وهي العلم.. وقوة جاذبة وهي العمل الصالح وحسن الخلق.
وينتشر الحق بين الناس بصنفين من الناس:
الأول: أناس مؤمنون يضحون بأموالهم وأنفسهم، ويتركون ديارهم وأعمالهم وأهلهم، وكل ما يملكون، ويخرجون لإعلاء كلمة الله.
الثاني: أناس مؤمنون يبذلون أموالهم وأوقاتهم وكل ما يملكون من أجل إعلاء كلمة الله.
أناس يتركون لله.. وأناس يبذلون لله.. فالأولون المهاجرون.. والآخرون الأنصار.. فالبذل والترك.. علامة الصدق.. وتاج التضحية، فأولئك وأولئك بالإيمان والبذل والترك من أجل إعلاء كلمة الله رضي الله عنهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
وكمال شخصية الداعي إلى الله تتطلب التحلي بأحسن الأخلاق والصفات، ليكون سبباً في محبة الناس للدين، ومن ثم دخولهم فيه، فضلاً عن محبة الله لذلك.(9/177)
وقد بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم متمماً لمكارم الأخلاق كما قال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ صَالِحَ الأَْخْلَاقِ» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد (1).
ومن أهم تلك الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الداعي إلى الله:
أولاً: اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فيتيقن أن الله معه يؤيده وينصره ويحفظه، واليقين التام بصلاحية دعوته، وأهمية نشرها بين الناس.
بل يرى أن عدم عرضها على الناس، وحملهم عليها جناية عليهم، وخيانة لهم.
واليقين على أنها السبيل الوحيد لسعادة الأمة، وحل مشاكل العالم، وبها تحيا السنن والأوامر الشرعية.
وبذلك الشعور يصبح قادراً على التفاني في سبيل نشرها، والتضحية بكل ما يملك من أجلها كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 15].
ثانياً: حسن الأخلاق، والقدوة الحسنة في العبادات والمعاملات، والمعاشرات والأخلاق كالرحمة والشفقة، والصدق والصبر، والعفو والحلم، والجود والإكرام، والرفق والحياء، والتواضع، والعدل والإحسان، ومقابلة السيئة بالحسنة كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [فصلت: 34، 35].
ثالثاً: الاهتمام بالروح، وذلك بالتجافي عن الدنيا وحطامها وشهواتها، والإقبال على النفس وتطهيرها وتزكيتها بذكر الله، وفعل الطاعات محبة لله وتعظيماً له، وتضرعاً إليه، واجتناب المحرمات طاعة لأمره.
رابعاً: الشجاعة: وهي نوعان:
الأول: شجاعة القلب التي تحمله على أن لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يهاب أحداً سواه كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [آل عمران: 175].
__________
(1) حسن: أخرجه أحمد برقم (8952).
وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (276)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (45).(9/178)
الثاني: شجاعة العقل التي تحمله على أن يجاهر برأيه، ويصرح بعقيدته، ويصدع بالحق الذي يؤمن به ويدعو إليه، ويعيش من أجله، ويضحي بنفسه وماله وكل ما يملك من أجله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الحجر: 94].
والدعوة إلى الله كما هي وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم هي كذلك وظيفة الأمة، ولهم به قدوة في الدعوة كما لهم به قدوة في العبادة وقد بذل الرسول صلى الله عليه وسلم جهده في إبلاغ الدين، ونشر الرسالة، فلم يدع وسيلة للدعوة إلا استفاد منها، ولا سبيلاً إلا سلكها، ولا فرصة سانحة إلا شق طريقه إليها، ولا مناسبة إلا كان له نصيب فيها.
فلم يذر قريباً إلا عرض عليه الإسلام.. ولا بعيداً إلا شد الرحال إليه.. يدنو البعيد بهمته.. وتذلل الصعاب لعزيمته.. يحدوه الأمل فيجد في العمل.. لا يكل ولا يمل.
لا يثنيه تجهم قريب.. ولا صدود بعيد.. ولا سخرية شامت.. ولا كيد حاسد.. ولا ظلم مستكبر.. ولا أذى باغ.. ولا طغيان جبار.
عرض صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل.. واجتمع بوفودها في المواسم.. ودعا عامتهم وخاصتهم إلى الإسلام بالرحمة والشفقة، واللطف واللين.. ولم يأل جهداً ولم يدخر وسعاً.. حتى ظهر أمر الله.. وعز الإسلام وأهله.. وقامت دولته.. وقويت شوكته.. وكملت شرائعه.. ورفعت أعلامه.
وأقوى سلاح الدعوة وأبلغها أثراً وأعظمها نفعاً رحمة الناس، والرفق بهم واللين معهم، ليقبلوا الدين، ويعملوا بأحكامه، ففرعون أشد خلق الله طغياناً وكفراً.. وظلماً وكبراً.. وقال ما لم يقله إبليس، نازع الله في الربوبية فقال: (? ? چ چچ) [النازعات: 24].
ونازع الله في الألوهية فقال: (چ چ چ ? ? ?) [القصص: 38].
وادعى ما لا يملك وكفر بنعمة الله فقال: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [الزخرف: 51، 52].
واستكبر ورد أمر الله كما قال الله عنه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [القصص: 39].(9/179)
ومع هذا كله جاء أمر الله لموسى وهارون بدعوته إلى الله بالقول اللين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [طه: 43، 44].
والدعوة إلى الله على منهج الأنبياء والمرسلين سبب لإقامة الدين في حياة الأمة وقبولها له، وتأثرها به.
أما إقامة الدين في حياة الأمة عن طريق الحكومة أو الأموال أو القوة لا عن طريق الدعوة، فهذا من أساليب الشياطين واليهود الذين يسعون في الأرض فساداً كما خرجوا على عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بالسيف، ومنذ ذلك الوقت والسيف يعمل في المسلمين لا في أعداء المسلمين.
وحصل للمسلمين ولعلماء ودعاة المسلمين من الأذى والسجن والطرد والقتل بسبب هذا الفكر ما يندى له الجبين، وما زال يحصل، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ?? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النساء: 66-70].
ولما كان الكفار يعلمون أن المسلمين إذا قاموا بالدعوة إلى الله انتشر الدين في العالم، وسلبوا ملكهم ومكانتهم، فقالوا أشغلوا جميع المسلمين في أنحاء الأرض بالأموال والشهوات حتى ينصرفوا عن الدعوة، وتبقى الدنيا في أيدينا نلعب فيها وبمن فيها كيف نشاء.
وأشغلوا بعضهم ببعض من أجلها، وأوقدوا نار الحرب بينهم من أجلها، وأخذوا أموالهم وأعطوهم أسلحة يهلك بها بعضهم بعضاً من أجل الدنيا.
ولذلك الكفار لا يعبأون بمساجد المسلمين ما دامت لا أعمال فيها، ولا يبالون بعلوم المسلمين ما داموا لا يعملون بها، ولا يهتمون بعبادة المسلمين ما دامت لا روح فيها.
إنما همهم كيف يحولون بين المسلمين وبين الدعوة إلى الله، وكسر مفتاح الدين الذي يفتح الله به القلوب والبلدان.(9/180)
ولذلك اجتهد الأعداء في تكوين بيئة استثمار الأموال، وبيئة الشهوات، في كل مكان، وفي كل مدينة، وفي كل قرية، وفي كل شارع، وفي كل بيت، حتى يشغلوا الناس بالأموال والشهوات، ويستغنوا ويلهوا بها عن الإيمان والأعمال الصالحة.
وقد فعلوا ذلك، وصار واقعاً يشهده الطير والحيوان والإنسان، وتغير فكر كثير من المسلمين، ثم تغيرت عواطفهم، ثم تغيرت أعمالهم، ثم تغيرت طريقة حياتهم، وصار أئمتهم اليهود والنصارى لا الأنبياء والصالحين، يسيرون خلفهم ولو كان إلى جهنم.
وصار المسلم معرضاً للأخلاق السيئة في سمعه وبصره وشكله وسائر جوارحه، وقام سوق الباطل في صحن الإسلام وبساطه.
والحل: أن نقوم بالدعوة إلى الله في كل مكان، ونكوِّن البيئة الصالحة، بيئة الإيمان والإعمال الصالحة كما كوَّنوا البيئة الفاسدة، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وإذا غيرنا ما في قلوبنا غير الله جوارحنا وحركها بطاعته والدعوة إلى دينه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 11].
ومن اشتغل بوظيفة الكناسين لا يطمع براتب السلاطين، وهكذا المسلم يعطل الأوامر ويترك الدعوة إلى الله ويطمع بمرافقة الأنبياء في الجنة والعزة في الدنيا.
وقلب الداعي إلى الله يجب أن يكون مملوءاً رحمة وإيماناً وعلماً كما كان قلب النبي صلى الله عليه وسلم كذلك.
فحين آذاه أهل الطائف وسبوه وضربوه وطردوه لم ينتقم منهم، بل دعا لهم ودعا لقريش أن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله ويعبده وهكذا الداعي إلى الله يصبر إذا شُتم وأوذي، ويتحمل إذا طُرد وسُلب ماله، ولا يتأثر إذا سجن وأهين، ولا تأتي في قلبه عاطفة الانتقام، بل تزداد في قلبه الشفقة والرحمة على العباد.
والداعي إلى الله كالشمس التي تأخذ النور من خزائن الله وتؤدي ثلاث وظائف:(9/181)
فهي متحركة بهذا النور على الدوام من المشرق إلى المغرب.. وهي تقوم بتوزيع جميع ما تأخذ من الله على جميع الخلق.. وهي تعطي النور ولا تأخذ أجراً مقابل النور.
فكذلك الداعي يأخذ العلم من الكتاب والسنة وذلك من خزائن الله، ويقوم بالدعوة ليلاً ونهاراً.. ويدعو جميع الناس إلى التوحيد والإيمان، ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.. ويدعو إلى الله ولا يأخذ من الناس أجراً لأن أجره على الله كما قال كل رسول لقومه: (چ چ چ چ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الشعراء: 143-145].
والدعوة كالطعام نحتاجه كل يوم، فالطعام لحفظ البدن وزيادة نموه، والدعوة لحفظ الإيمان وزيادته، وأما الجهاد فهو كالدواء نحتاجه عند الضرورة لإزالة الضرر والظلم عنا وعن الناس، فإذا زال الضرر عدنا إلى الدعوة التي يزيد بها الإيمان، وتنزل بسببها الهداية على الخلق.
وجهاد اللسان حسن لذاته وهو الدعوة إلى الله، وتعليم الناس أمور دينهم، وجهاد السنان وهو القتال حسن لغيره، وذلك لما يفضي إليه من حفظ الدين وأهله، وقمع المعتدين، وتمحيص المؤمنين من المنافقين، ومعرفة الصادقين من الكاذبين، واتخاذ الشهداء، وإزالة الظلم عن الخلق، وإقامة الحق مكان الباطل كما قال سبحانه: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 193].
والله تبارك وتعالى خلق الجن والإنس لعبادته، وخلقهم للطاعة حتى تنتشر طاعة الله في العالم على طريقة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتكون التصرفات في الأنفس والأموال صحيحة في العالم، ولا يتم هذا المقصود العظيم إلا بالدعوة إلى الله.
وهذا الدين والجهد من أجله أمانة أمرنا الله بأدائها، فنستقيم على الدين، وندعو الناس إليه بالرحمة والشفقة وحسن الخلق، ونجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله بأموالنا وأنفسنا.(9/182)
وعندئذ ينزل الله البركات في أموالنا وأنفسنا، ثم تأتي التيسيرات في حياتنا، ثم تنزل الهدايات فيصير العدو بسبب الدعوة صديقاً كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [آل عمران: 103].
وإذا تركنا الدعوة إلى الله جاءت العداوة والمصائب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [المائدة: 14].
واشتغل الناس بالأموال والأشياء والدعوة إليها بدل العمل بالسنن والدعوة إليها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 44].
والحق حتى تظهر حقائقه له طلبات، فإن لم توجد طلباته بقي الحق ولكن لا تظهر حقائقه.
فإذا بذلنا الأنفس والأموال حسب مقتضى الحق لإعلاء كلمة الله فالله ينزل الحقائق ويظهرها فوراً.
فيصير العدو صديقاً.. والكافر مؤمناً.. والمبغض محباً.. والعاصي مطيعاً.. والظالم عادلاً.. والداعي إلى الشر داع إلى الخير.
فالدين أمانة، والله أعطانا هذه الأمانة، وأمرنا بإيصالها إلى أهلها وحسن تعهدها.
فأولاً نجتهد على أنفسنا حتى يأتي الدين في حياتنا، ثم نتحرك للدين لنشر الهداية في العالم حتى ينتشر الخير في العالم.
فعلينا مسئولية أنفسنا، ومسئولية غيرنا، وبالقيام بهذه المسئوليات الله يصلح العالم كما أصلح الله أحوال الأمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث زال الفساد، وزالت الجاهلية، وزال الشرك بسبب جهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وكل داعٍ لا تكون حياته مطابقة لدعوته فالله لا يستخدمه، ولا يجعله سبباً لهداية الناس وإن ارتفع صوته وعلا صيته.(9/183)
والداعي إلى الله لا بدَّ أن يصبر على الأذى، ويرفق بمن خالفه ويدعو له، فالذين عادوا النبي صلى الله عليه وسلم وآذوه لما صبر عليهم، ودعا لهم، ورفق بهم، آمنوا ثم هاجروا ثم قاتلوا الكفار الذين فيهم آباؤهم وأبناؤهم، ثم كادوا أن يتقاتلوا على وضوئه صلى الله عليه وسلم لشدة محبتهم له وللدين الذي جاء به.
ومن أعطاه الله الدين وكلفه بنشره والمحافظة عليه فتلك مسئولية عظمى وأجرها عظيم، ولكنه سيحاسب عليها، ويسأل عن أدائها كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ ??) [الأعراف: 6، 7].
وصاحب الدكان إذا أغلق دكانه حصل نقصان في البلد، والداعي إذا ترك الدعوة حصل نقصان في الدين، ومشى ألوف من الناس كل لحظة إلى نار جهنم، فكم حصل بترك الدعوة من الخسران له ولغيره؟.
وكم ذهب إلى النار من الخلق بسبب تأجيل البلاغ أو القعود عنه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
والعبادة لا تسمى عبادة ولا تكون مقبولة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة ولا تكون مقبولة إلا مع الطهارة.
فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا جاء في الصلاة أبطلها.
فمن دعا غير الله طالباً منه ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب خير أو دفع شر فقد أشرك في عبادة الله، وحبط عمله كما قال سبحانه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 65].
وكان الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين:
الأول: كفار أشقياء كلهم ليس فيهم سعيد كعبدة الأوثان والمجوس.
الثاني: منقسمون إلى سعيد وشقي، وهم اليهود والنصارى والصابئون.
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ النوعين بقوله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ) [البقرة: 62].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 17].
فذكر سبحانه ست أمم:(9/184)
اثنتان شقيتان، وهما المجوس والمشركون، وأربع منقسمة إلى شقي وسعيد، حيث وعد أهل الإيمان والعمل الصالح منهم بالأجر كما خصهم في الآية الأولى.
فعلم أن الصابئين فيهم المؤمن والكافر، والسعيد والشقي، وهذه أمة قبل اليهود والنصارى، وهم نوعان:
صابئة حنفاء.. وصابئة مشركون.
وهذه الأديان الستة لا يقبل منها بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلا واحد، وهو الدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لعموم البشرية إلى يوم القيامة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [آل عمران: 85].
والداعي الحق هو من شرح الله صدره للإسلام ونور قلبه بالإيمان، وليس له همّ في الحياة إلا أن يستقيم على أوامر الله، وأن يدل البشرية إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة بدعوتهم إلى الله، والسير على منهج الأنبياء والمرسلين.
وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس، ليتطلع إليها البشر في مكانها العالي، ويمدوا أبصارهم من الحياة الفانية المحدودة إلى الحياة الباقية المطلقة.
فحياة المسلم حسب أمر مولاه لها لون خاص، ولها هدف خاص، ولها أجر خاص.
فهي إيمان وعمل، وجهاد وكفاح، ومحنة وابتلاء، وصبر وثبات، وذلك كله من أجل إعلاء كلمة الله، وتوجه إلى الله وحده في جميع الأحوال؛ لأنه الذي يملك كل شيء، وبيده خزائن كل شيء.
ثم يجيء الرضا من الله.. ثم يجيء النصر.. ثم يجيء النعيم، هكذا سنة الله التي قد خلت في عباده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفتح: 23].
والداعي إلى الله مبارك أينما كان، يبذل كل خير، ويتحمل كل أذى.
فهو كالأرض يُطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح، وكالغيث أينما حل نفع، وكالشمس يهتدي الناس بنور علمه، وكالسراج يحرق نفسه ليضيء للناس.
والذي يدعو إلى الله وإلى سنة رسول الله مخلصاً يجعله الله سبباً لجمع الأمة كلها على الدين.(9/185)
والذي يدعو إلى نفسه وإلى طريقته أو إلى جماعته يمزق الأمة كلها، ويجعلها فرقاً وأحزاباً متناطحة، يفني بعضها بعضاً كالمشركين الذين حذرنا الله منهم بقوله: (? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 31، 32].
والدعوة إلى الله مركبة من عدة أعمال كالطعام الذي يقدم للناس مركب من عدة أشياء، وهكذا الدعوة إلى الله مركبة من عدة أشياء، ليست كلاماً فقط، فيها الإيمان.. والعبادات.. والمعاملات.. والمعاشرات.. والأخلاق.. وفيها التعليم.. وفيها الشورى.. وفيها الجولات والزيارات.. وفيها الدعاء والذكر.
فإذا وجدت هذه الأشياء فالدعوة تنبت ثم تثمر ثم تتسع، ثم يظهر الحق، ويزول الباطل، ويكون الدين كله لله.
والدعوة إلى الله تجمع الأمة على الهدى كالروح تجمع البدن والجوارح على الحياة، فإذا خرجت الروح أنتن الجسد وتمزق، وكذا الدعوة إذا خرجت من حياة الأمة فسد المجتمع وتمزق.
والدعوة إلى الله وظيفة الأمة، ولذلك كانت من أول يوم، فلم يكن هناك فاصل زمني بين الإيمان والدعوة، بينما كان هناك فاصل زمني طويل بين الإيمان ونزول الأحكام والفرائض.
فأبو بكر دعا إلى الله من أول يوم فجاء بستة من العشرة المبشرين بالجنة مع أن أحكام الدين لم تنزل إلا بعد ثلاثة عشر عاماً في المدينة.
وخديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهدت على النساء من أول يوم قبل نزول الأحكام.
فقد اجتهدت على فاطمة بنت الخطاب فأسلمت، وكان في صحيفتها عمر، واجتهدت على سعدى بنت كريز خالة عثمان فأسلمت، وكان في صحيفتها عثمان، وكلاهما من الخلفاء الراشدين.
واجتهدت على سمية أول شهيدة في الإسلام فأسلمت، واجتهد على أم الفضل فأسلمت، وغيرهن.
فجهد الرجال مع جهد النساء قام في وقت واحد.
وكما أن أبا بكر سبق الأمة في كل شيء، فكذلك خديجة سبقت نساء الأمة في كل شيء.(9/186)
سبقتهن في الإيمان.. وسبقت في الدعوة.. وسبقت في الإنفاق في سبيل الله، وهي أول من سمع القرآن.. وهي أول من جاءها سلام مخصوص من الله عزَّ وجلَّ.. وأول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم .. وهي أول أزواجه وأم أولاده.. وهي من أكمل النساء.. وأول من بشر ببيت في الجنة.
والدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم ومسلمة، والواجب إلزام الكفار بالإسلام إذا كانت لا تؤخذ منهم الجزية؛ لأن الإسلام فيه سعادتهم ونجاتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة وهم يجهلون ذلك.
فإلزام الإنسان بالحق الذي فيه الهدى والسعادة خير له من الباطل، وكما يلزم الإنسان بالحق الذي عليه لبني آدم ولو بالسجن أو الضرب، فإلزام الكفار بتوحيد الله، والإيمان به، والدخول في الإسلام أولى وأوجب؛ لأنه حق الله على عباده فيجب على كل فرد أداؤه.
ولأن فيه سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، إلا إذا كانوا من أهل الكتاب كاليهود والنصارى ونحوهم كالمجوس، فهؤلاء جاء الشرع بأنهم يخيرون على الترتيب:
إما الإسلام.. أو دفع الجزية.. أو القتال.
وأما غيرهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار في الجزيرة ولم يقبل منهم إلا الإسلام كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 5].
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ كل مسلم ومسلمة بإبلاغ الدين كما أمرهم بالعمل بالدين بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم كل مسلم ومسلمة بتبليغ البشرية عنه ولو آية كما قال صلى الله عليه وسلم : «بلغوا عني ولو آية» أخرجه البخاري (1).
وتبليغ دينه وسننه إلى الناس أفضل من تبليغ السهام إلى نحور الأعداء؛ لأن الضرب بالسهام يجيده كثير من الناس، وأما تبليغ السنن والأحكام فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3461).(9/187)
وقد دعا صلى الله عليه وسلم لمن بلغ عنه ولو حديثاً بقوله: «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» أخرجه أبو داود والترمذي(1).
والمسلم يدعو إلى الحق، والشيطان يدعو إلى الباطل، والشيطان عدو للإنسان، فيجب أن يكون الإنسان عدواً للشيطان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [فاطر: 6].
وأعظم ما يدعو إليه الشيطان أن يحول بين بني الإنسان وبين الإسلام، فإن لم يستطع حال بينه وبين الدعوة والجهاد في سبيل الله بأربع خطوات وهي:
التردد.. ثم التربص.. ثم التثاقل.. ثم القعود.
فالتردد: بأن يجعله شاكاً محتاراً في دينه وفي عمله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [التوبة: 45].
ثم التربص: وهو التعلق بما سوى الله ودينه من محبوبات النفس كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 24].
ثم التثاقل: وهو التكاسل والميل إلى الدعة والسكون كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [التوبة: 38، 39].
ثم القعود عن الدعوة والجهاد في سبيل الله، وهو نتيجة ما سبق كما قال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 46].
والأمة لما تركت الدعوة إلى الله والدعوة إلى الإيمان والأعمال الصالحة ابتليت بالدعوة إلى الدنيا وإلى الأموال وإلى الأشياء.
فصارت تعرف قيمة المال ولا تعرف قيمة الإيمان.. وتعرف قيمة الأشياء ولا تعرف قيمة الأعمال.. وتعرف قيمة الدنيا ولا تعرف قيمة الآخرة.. وتعرف قوة المخلوق ولا تعرف قوة الخالق.. وتعرف شهوات النفس ولا تعرف أوامر الرب.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (3660) صحيح سنن أبي داود رقم (3108).
وأخرجه الترمذي برقم (2657) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2140).(9/188)
فجاءت بسبب ذلك المصائب والعقوبات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
والإيمان فضل من الله، وهو قضية اقتناع بعد البيان والإدراك، وليس قضية غصب وإكراه وإجبار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 256].
وقد جاء الدين يخاطب الإدراك البشري كله بكل قواه وطاقاته في غير قهر حتى بالخوارق المادية التي قد تلجئ مشاهدها إلجاءً إلى الإذعان.
وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد، أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع.
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه، وإن كان الواجب إلزامه بما ينفعه وما فيه نجاته وسعادته شفقة عليه ورحمة به.
والإيمان هو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخاه ويحرص عليه، والكفر هو الغي الذي يجب على الإنسان أن ينفر منه ويتقي أن يوصم به.
وحقاً فما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان، وما توفره من السعادة في الدنيا والآخرة وما تمنحه للإدراك البشري من تصور واضح، وما تزجيه للقلب البشري من طمأنينة وسلام، وما تثيره في النفس من رغبات في كسب الأجور، وما تحققه في الأمة من نظام سليم.
ما يتدبر الإنسان هذه النعم الكبرى إلا ويجد فيها الرشد والفلاح الذي لا يرفضه إلا سفيه يترك الرشد إلى الغي.
فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد، وحرية الدعوة إلى العقيدة الراشدة، إنما يسلبه إنسانيته ابتداءً.
والإسلام أفضل الأديان وأكملها وأشملها، وهو أفضل منهج رضيه الله للمجتمع الإنساني ينادي بأن لا إكراه في الدين، ويبين لأصحابه قبل غيرهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين.(9/189)
ولكن عليهم نشره وبيانه، وترغيب الناس فيه، وتحذيرهم من مخالفته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 256].
وكل مسلم مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين، شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء، وتؤيد الخير الذي يحمله للبشر.
ولكنه لا يمكن أن يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين.
صورة يراها الناس فيرون فيها مثلاً رفيعاً يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود، وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من نظم.
ويجعل من الدين قاعدة حياته ونظام مجتمعه، ويسعى لبقائه وتمكينه ونشره.
ويؤثر الموت في سبيله على الحياة في ظل مجتمع آخر لا يحكم بأمر الله في حياة البشرية، فذلك شهادة بأن هذا الدين خير من الحياة ذاتها، وهي أعز ما يحرص عليها الأحياء.
وعهد المؤمن هو ابتداء مع ربه، ومتى قام الرسول بإبلاغه فقد انتهت مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وانعقدت البيعة مع الله، فهي باقية في عنق المؤمن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكذلك كل أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم .
فلا بدَّ لكل مسلم أن يؤدي هذه الشهادة العظيمة للدين مسموعة مرئية، حية ناطقة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ?) [آل عمران: 53].
ومن لم يؤد هذه الشهادة لدينه فكتمها فهو آثم قلبه، وكاتم لما أمره الله ببيانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 283].
فأما إذا ادعى الإسلام ثم سار في نفسه غير سيرة الإسلام، أو قام بها في نفسه ولكنه لم يؤدها في المجال العام، ولم يجاهد لإقامة منهج الله في الحياة إيثاراً للعافية، وإيثاراً لحياته على حياة الدين، فقد قصر في شهادته، وأدى شهادة ضد هذا الدين.
شهادة تصد الآخرين عنه وتنفرهم منه، نسأل الله السلامة والعافية: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [يونس: 85].(9/190)
وواجب الأنبياء وأتباعهم بيان الحق للناس، وترغيبهم فيه، ودعوتهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، ومجادلة المعارضين والمعاندين بالتي هي أحسن.
فإذا ظهر الحق جلياً وأبى المخالف إلا المكابرة والعناد دعي هؤلاء إلى المباهلة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 61].
فيبتهل الجميع إلى الله أن ينزل لعنته على الكاذب من الفريقين.
وما كانت البينة هي دائماً التي يحتاج إليها من يصدون عن هذا الدين، إنما هي المصالح والمطامع والأهواء التي يصد الناس عن اتباع الحق الواضح الذي لا خفاء فيه، وتقديم الهوى على الهدى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 83].
فالكفار والمعاندون يجدون في الإسلام من الحق الواضح ما يدعو إلى الإيمان، غير أنهم يكفرون لا لنقص في الدليل ولكن للهوى والمصلحة: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 33].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [النمل: 14].
والبشر كلهم إلى فناء، والدين إلى بقاء، ومنهج الله في الحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه للناس من الرسل والدعاة على مدار الزمن.
ومحمد صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، جاء ليبلغ رسالة الله إلى خلقه، فإن مات أو قتل فالله باق لا يموت، وكلمته باقية لا تموت.
وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي أو الداعية الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [آل عمران: 144].
فالدعوة والدين أقدم من الداعية، وأكبر من الداعية، وأبقى من الداعية، فدعاتها يجيئون ويذهبون وتبقى هي على مدى الأجيال والقرون، ويبقى أتباعها موصولين بالذي أرسل بها الرسل، وهو سبحانه باق يتوجه إليه المؤمنون في كل حال.(9/191)
ومن انقلب على عقبيه فإنما هو الخاسر، وانقلابه لن يضر الله شيئاً، فالله غني عن الناس وعن إيمانهم، وسيلقى جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله، وتفسد الحياة والأخلاق، وتعوج الأمور كلها، ويذوق الناس وبال مخالفتهم شرع الله في الدنيا قبل الآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [النساء: 115].
أما الذين يعرفون مقدار نعمة الدين الذي منحهم الله إياه فيشكرون الله عليه باتباعه، فيسعدهم به جزاء على شكرهم في الدنيا والآخرة.
وحين أشيع أن محمداً صلى الله عليه وسلم قتل في أحد أراد الله أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يصلهم بالله مباشرة، وأن يجعل ارتباط المسلمين بالله مباشرة.
فهم وإن مات محمد أو قتل فهم بايعوا الله على طاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، والثبات على دينه بعد موته، وإبلاغه للناس.
وكلما همت الأمة أن تتحرك وتوسع هذا الدين وتحاول تحقيق منهج الله في الأرض كلما تجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة من المنافقين والمشركين وأهل الكتاب.
أحياناً في أصول الدعوة.. وأحياناً في أهل الدعوة.. وأحياناً في أصول الدين وشرائعه.. وذلك لتمزيق أوصالها.. وتشويه أهدافها.. وبعثرة جهودها.
والله عزَّ وجلَّ يوجه المؤمنين لمعرفة أعداء الدين الراصدين له في الزمان والمكان، ويبث في القلوب الطمأنينة إلى وعد الله.
فتعرف حين تناوشها الذئاب بالأذى، وحين تعوي حولها بالدعاية، وحين يصيبها الأذى والابتلاء والفتنة، أنها سائرة على طريق الحق، ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى، والادعاء الباطل عليها، وإسماعها ما يكره وما يؤذي.
وتلزم الصبر والتقوى، ويصغر عندها الابتلاء والأذى كما قال سبحانه:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 186].(9/192)
وقد يدخل بين المسلمين من يريد الكيد لهم، ويندس في صفوفهم منافقون، وعلى المسلم أن يعلم أن عين الله على هذه الطوائف التي تبيت وتكيد وتمكر بالمسلمين، والله لهم بالمرصاد: (? ? چ چ چچ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [الزخرف: 79، 80].
وشعور المسلمين بذلك يثبت المؤمن، ويسكب في قلبه الطمأنينة إلى أن هذه الطائفة لن تضرهم، فليأخذهم بظواهرهم، وليعرض ويتغاضى عما يبدو منهم، والله كافيه منهم: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ) [النساء: 81].
ثم يرشد القرآن هؤلاء بتدبر القرآن ليروا ما فيه من تكريم الإنسان والعناية به كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [النساء: 82].
والله عزَّ وجلَّ أمرنا بدعوة الناس إلى الله، وهيأ الفرصة لأهل الكتاب أن يدخلوا في الدين.
فأعطاهم الفرصة أن يعيشوا في المجتمع الإسلامي تحت راية الإسلام وهم على دينهم سوى جزيرة العرب، وجعل طعامهم حلاً للمسلمين، وطعام المسلمين حلاً لهم كذلك، وذلك ليتم التزاور والتضايف، والمؤاكلة والمشاربة، وليظل المجتمع كله في جو من البر والسماحة.
وجعل العفيفات من نساء أهل الكتاب وهن المحصنات بمنزلة المحصنات من نساء المسلمين، يحل الزواج منهن كنساء المسلمين إذا أعطيت لهن أجورهن بالنكاح الشرعي.
وهذا وذاك يدل على سماحة الإسلام مع المخالفين له، وتهيئة الفرصة للدخول في الإسلام حين تتم الخلطة، فيروا أخلاق الدين وسننه عملياً، فيرغبوا فيما نفروا عنه، بعد أن يعرفوه ويروه والله حكيم عليم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 5].
وقال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [الممتحنة: 8، 9].(9/193)
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ما أنزل إليه كاملاً كما قال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [المائدة: 67].
هكذا يبلغ كل ما أنزل إليه، لا يستبقي منه شيئاً، ولا يؤخر منه شيئاً مراعاة للظروف، أو تجنباً للاصطدام بأهواء الناس، أو واقع المجتمع.
وإن لم يفعل فما يكون قد بلغ، فليصدع بكلمة الحق والله يتولى حمايته وعصمته من الناس، ومن كان الله له عاصماً فماذا يملك له العباد المهازيل؟.
إن كلمة الحق، كلمة (لا إله إلا الله) يجب أن تبلغ كاملة فاصلة من أول يوم، وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء، وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل، لا بدَّ أن يصدع بها الداعي لتصل إلى القلوب في قوة ونفاذ كما قال سبحانه لرسوله: (? ? ?? ? پ پ پپ) [الكافرون: 1، 2].
وكلمة الحق في العقيدة حين يصدع بها الداعي تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى، وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة.
والقوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة لا يعني الخشونة والفظاظة، بل أمر الله رسوله بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولا تعارض في ذلك فوسيلة التبليغ شيء، والمادة المبلغة شيء آخر، فقد وصف الرسول الكفار بصفتهم، وفاصلهم في الأمر، وبين أنهم على الباطل المحض، ودعاهم إلى الحق المحض.
وأمره ربه عزَّ وجلَّ أن يقول لأهل الكتاب أنهم ليسوا على شيء من الدين والإيمان، بل ليسوا على شيء أصلاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 68].
لأن الدين ليس كلاماً يقال باللسان.. ولا كتباً تقرأ وترتل.. وليس صفات تورث وتدعى.
إنما الدين منهج حياة، منهج يشمل العقيدة في القلب، والعبادة الممثلة في الشعائر، والعبادة التي تتمثل في إقامة نظام الحياة كلها على أساس هذا المنهج الإلهي.(9/194)
ولما لم يكن أهل الكتاب يقيمون الدين على قواعده هذه كُلِّف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يواجههم بأنهم ليسوا على دين، وليسوا على شيء أصلاً من هذا القبيل، حتى يمتثلوا أوامر الله التي جاءت في كتبه المنزلة.
ومواجهة الكفار بهذه الحقيقة ستؤدي إلى أن تزيد كثيراً منهم طغياناً وكفراً، وعناداً ولجاجاً، ولكن هذا لم يمنع من مواجهتهم بها، وألا يأسى على ما يصيبهم من الكفر والطغيان، والضلال والشرود، بسبب مواجهتهم بها.
وأن حكمته سبحانه تقتضي أن يصدع بكلمة الحق، وأن تترتب عليها آثارها في النفوس البشرية فيهتدي من يهتدي عن بينة، ويضل من يضل عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 64].
والله عزَّ وجلَّ يبين للداعي بهذا منهج الدعوة، ويطلعه على حكمة الله في هذا المنهج، ويسلي قلبه عما يصيب الذين لا يهتدون، إذا هاجتهم كلمة الحق فازدادوا طغياناً وكفراً، فهم يستحقون هذا المصير البائس؛ لأن قلوبهم لا تطيق كلمة الحق، ولا خير في أعماقها ولا صدق.
فمن حكمة الله أن تواجه بكلمة الحق ليظهر ما كمن فيها وما بطن، ولتجهر بالطغيان والكفر، ولتستحق جزاء الطغاة والكفار.
وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن الله ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس إلا إذا أبلغهم عن الله، ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة، ووصف لهم ما هم عليه من الباطل بلا مجاملة ولا مداهنة، فهو قد يغرهم ويخدعهم ويضرهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شيء، وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه، وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تماماً غير ما هم عليه.
فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [الأنفال: 42].(9/195)
والتلطف في دعوة الناس إلى الله ينبغي أن يكون في الأسلوب الذي يبلغ به الداعية لا في الحقيقة التي يبلغهم إياها، فالحقيقة يجب أن تبلغ إليهم كاملة، أما الأسلوب فيكون بالحكمة والموعظة الحسنة.
وإذا رأينا اليوم رأينا أهل الكتاب هم أصحاب الكثرة العددية وأصحاب القوة المادية، وأصحاب الكلمة المسموعة.
ورأينا كذلك أصحاب الوثنيات يعدون بمئات الملايين في الأرض.
ورأينا أصحاب المذاهب المادية لهم أعداد كثيرة، وقوى مدمرة.
وكلمة هؤلاء وهؤلاء وأولئك مسموعة نافذة.
وبالمقابل نرى المسلمين ليسوا على شيء؛ لأنهم لا يقيمون كتاب الله المنزل إليهم، وليس لهم كلمة مسموعة فضلاً عن أن تكون نافذة.
فما أعظم الأمر وما أخطره إذا ساد الظلام مكان النور، والباطل مكان الحق، والرذيلة مكان الفضيلة.
إن واقع الناس كله ليس بشيء ما لم يقم على دين الله، وواجب صاحب الدعوة هو واجبه، لا تضره كثرة الضلال، ولا ضخامة الباطل، وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة أنهم ليسوا على شيء كذلك ينبغي أن تستأنف بمثل ذلك، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وطريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره، ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره الله وفق علمه وحكمته، وهو غيب لا يعلم موعده أحد إلا الله.
والمشقة في هذا الطريق مركبة من أمرين:
الأول: التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر، إلى جانب الحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة في كل مكان.
الثاني: الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه وعرف طعمه وحلاوته، والحماس للحق والرغبة في استعلائه.
والداعية عليه أن يقوم بالدعوة ويصبر على الأذى، وليس عليه أن يبعث الموتى ويهديهم فذلك من شأن الله، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن نصر الله آت قريب لا ريب فيه، ولكنه يجري وفق سنة الله، وبقدر الله.(9/196)
وكما أن سنة الله لا تستعجل، وكلماته لا تتبدل، من ناحية مجيء النصر في النهاية، فكذلك هي لا تتبدل ولا تستعجل من ناحية الموعد المرسوم.
والله سبحانه لا يعجل النصر؛ لأن الأذى والتكذيب يلحق بالدعاة، ولو كانوا هم الرسل.
فإن استسلام صاحب الدعوة لربه، وتسليم نفسه لقدر الله بلا عجلة، وصبره على الأذى بلا ملل، ويقينه في العاقبة بلا شك، كل ذلك مطلوب من وراء تأجيل النصر إلى موعده المرسوم.
وعلى الداعي إبلاغ الدين للناس كافة، والصبر على المشاق.
أما هدى الناس أو ضلالهم فهو خارج عن حدود واجبه وطاقته، والهدى والضلال يتبعان سنة إلهية لا تتبدل.
وبيت الله عزَّ وجلَّ في مكة أول بيت وضع للناس، ليعبدوا الله فيه وحده بلا شريك، ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض، ولم تكن دعوة عامة من قبل، وإليه يحج المؤمنون بهذه الدعوة، ليعودوا إلى البيت الذي خرجت منه الدعوة والهداية: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [آل عمران: 96].
والداعي إلى الله لا ينبغي أن يعلق قلبه وأمله وعمله بالمعرضين عن الدعوة المعاندين لها، فهؤلاء جزاؤهم الإهمال والإعراض بعد الدعوة والبلاغ.
وإنما يجب على الداعي أن يفرغ قلبه، وأن يوجه أمله وعمله للذين سمعوا واستجابوا وأقبلوا: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 28].
فهؤلاء في حاجة إلى بناء كيانهم كله بالدين الذي دخلوا فيه، لتمتلئ قلوبهم بالإيمان، وتتحرك جوارحهم بالأعمال الصالحة، وتظهر فيهم أحسن الأخلاق، ولا تترك مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة.
وحين ينمو الحق في ذاته فإن الله يجري سنته، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
والطبيعة التي خلق الله الناس بها أن كل من عمل عملاً فإنه يستحسنه ويدافع عنه.
فإن كان يعمل الصالحات استحسنها ودافع عنها، وإن كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنها، هذه طبيعة في الإنسان.(9/197)
فعلى الداعي أن يدرك ذلك، فلا يسب آلهة المشركين، فإن سب آلهتهم لا يؤدي بهم إلى الهدى، ولا يزيدهم إلا عناداً وكفراً.
فما للمؤمنين وهذا الذي لا جدوى وراءه، بل قد يجرهم إلى سماع ما يكرهون من سب ربهم الجليل: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 108].
وسنة الله جارية أن يقوم الرسول أو الداعي بالدعوة إلى الله، فيستجيب للدعوة أناس يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة في أرض الدعوة، فمنهم من يفتن ويرتد، ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه فيقضي نحبه شهيداً، ومنهم من ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق، وهؤلاء يفتح الله عليهم، ويجعل منهم ستاراً لقدره، ويمكن لهم في الأرض تحقيقاً لوعده بنصر من ينصره والتمكين له في الأرض.
ليقيم مملكة الله في الأرض، وينفذ حكم الله في عباده على هذه الأرض، ويحقق مراد الله في عباده.
وليس على الرسل إلا البلاغ المبين، وليس عليهم هداية الناس، فالله وحده هو الذي يملك الهداية، وسواء حقق الله وعده لرسله من مصير القوم، أو أدركهم الأجل قبل تحقيق وعد الله، فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته وهي البلاغ، وحسابهم بعد ذلك على الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 40].
وبذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله.. فليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر.. وليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس.. ولا أن يستعجلوا وعيد الله للمكذبين.. ولا أن يستعجلوا وعد الله للمهتدين.. وليس لهم أن يقولوا دعونا كثيراً فلم يستجب لنا إلا القليل.. ولقد صبرنا طويلاً فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء.
إن عليهم إلا البلاغ، أما حساب الناس في الدنيا والآخرة فهذا ليس من شأن العبيد إنما هو من شأن الله وحده.(9/198)
والبلاغ هو القاعدة الكبرى في نشر هذا الدين، وهو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل الدعاة من بعده، وعمل الأمة قاطبة، وهذا البلاغ أول مراتب الجهاد وأعلى ذروته.
وإذا اتجه الناس إلى الإيمان وعبادة الله وحده فإن الجاهلية لا بدَّ أن تواجه الدعاة إلى الله المبلغين لدينه بالإعراض والتحدي، ثم بالإيذاء والمكافحة، ومن ثم تجيء مرحلة الجهاد في سبيل الله في حينها نتاجاً طبيعياً للتبليغ الصحيح لا محالة، فينصر الله أولياءه، ويخذل أعداءه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 31].
والقرآن الكريم يبين جميع أصول الدعوة، ويقرر أنها دعوة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله وأجره على الله.
يدعو بالحكمة والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يأمرهم بالتكاليف قبل استعداد النفوس لأدائها بالإيمان واليقين.
ويختار الطريقة التي يخاطبهم بها، وينوع في هذه الطريقة تارة ببيان عظمة الله وجلاله.. وتارة ببيان نعمه وآلائه.. وتارة بالترغيب بالجنة.. وتارة بالترهيب من النار.. وتارة بدعوة العقول إلى النظر في الآيات الكونية.. وتارة بالنظر في الآيات الشرعية.. وتارة بإثارة العاطفة لتعظم العظيم، وتحمد الكريم، وتستحي من العزيز الكريم فلا تعصي له أمراً.. ولا تقترف جرماً.. وهكذا.
والدعوة بالموعظة الحسنة التي تدخل القلوب برفق، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية، وتشحن النفوس بالغضب والعناد.
فالرفق في الموعظة والتلطف بالناس كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ.(9/199)
كما تكون الدعوة بالجدل بالتي هي أحسن إذا لزم الأمر، بلا تحامل على المخالف، ولا ترذيل له، ولا تقبيح لعمله، حتى يطمئن المدعو إلى الداعي، ويشعر أنه ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق.
فالنفوس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة، فهي تعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها.
والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذا الكبرياء، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، ورأيه محترم، وقيمته كريمة: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 125].
ولكي يطامن الداعي من حماسته واندفاعه يشير القرآن إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله، وهو الأعلم بالمهتدين، فلا ضرورة للجاجة في الجدل، والتكلف في القول، إنما هو البلاغ والبيان، والأمر بعد ذلك لله: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?ں) [الأنعام: 39].
هذا هو منهج الدعوة السليم ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والموعظة الحسنة، والجدل بالحجة والبرهان.
فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة وعلى دينهم فإن الأمر يتغير كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 126].
فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازاً لكرامة الحق، ودفعاً لغلبة الباطل، على أن لا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع فالإسلام دين العدل والرحمة.
والدفع عن الدعوة يحفظ لها كرامتها وعزتها، فلا تهون في نفوس الناس، والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد، والله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها، والمؤمنون بالله خير الناس، وهم لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله.
ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض، وتحقيق العدل بين الناس، وقيادة البشرية إلى الطريق القويم.
فكيف ينهضون بهذا كله وهم يهانون فلا يعاقبون، ويعتدى عليهم فلا يردون.(9/200)
ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل فالإسلام يدعو إلى العفو والصبر حتى يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان، وحين يكون العفو فيها والصبر أعمق أثراً.
فأما إذا كان الصبر والعفو يهينان الدعوة ويرخصانها فالقاعدة الأولى هي الأولى والأجدر.
وعلى الداعي ألا يحزن إذا رأى الناس معرضين لا يهتدون، فإنما عليه واجبه يؤديه، والهدى والضلال بيد الله وحده، يمضيه وفق سنته في فطرة النفوس واستعدادها.
وعليه ألا يضيق صدره بمكرهم وكيدهم وحيلهم فإنما هو داعية لله والله حافظه من كل مكر وكيد، فعليه بالصبر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 127، 128].
وقد يقع الأذى على الداعي لامتحان صبره، ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه، ولكن العاقبة مضمونة ومعروفة: (? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 128].
ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون له، ويمكرون به.
إن الذين يؤمنون بالله وبما جاء به الرسل لا يقفون عند حد الإيمان، بل يكونون دعاة له، ويحاولون أن يجذبوا غيرهم إلى الهداية، وأن يجادلوا الكفار بالحجة عسى أن يؤمنوا بالله.
فالمسلم يقوم بالدعوة إلى الله، فإذا اهتدى الكفار والعصاة كان له أجران:
أجر لبيان الطريق المستقيم، واستمرار البلاغ عن الله لعباده.
وأجر على من اهتدى من الكفار أو تاب من العصاة.
وموكب المؤمنين مستمر في نشر الهداية بعد الرسل كما قال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [يس: 20، 21].
والناس يسبون صاحب الدنيا ويذمون بضاعته، لكنه صابر لم يغلق دكانه، يتحمل منهم كل شيء من أجل أن يكسب من ورائهم.
وكذلك الداعي إلى الله إذا لم يتحمل الناس فإنه لا يكون سبباً لهدايتهم، فالصبر والعفو، والإحسان والتواضع، والرفق والحلم، والرحمة والشفقة، كل هذه أبواب عظيمة يدخل منها الناس إلى الإسلام.(9/201)
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية أول مرة، ورجع كثير من الناس إلى الجاهلية التي كانوا عليها، فأشركوا مع الله أرباباً أخرى تصرف حياتهم بشرائعها البشرية، وقوانينها الأرضية.
ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد للدخول فيه، إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والعبودية، وتلقى منهج الحياة كله من الله وحده لا شريك له، ونبذ كل ما سواه بالدعوة إلى الله كما بينها الله ورسوله، أما الذين ينفقون أموالهم في البحوث النظرية، وفي الأحكام الفقهية التي لا مقابل لها من الواقع، فنحسب أنهم لو أنفقوا هذه الأوقات في إعادة إنشاء المجتمع المسلم الذي أن كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لنشأ عن ذلك دخول فئات في هذا الدين من جديد كما دخل الناس فيه أول مرة.
وينشأ عن ذلك خلافة راشدة، ومجتمع مسلم، ثم يحتاج هذا المجتمع معرفة الأحكام التي تنظم علاقته بربه، كما يحتاج إلى معرفة الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه، وعلاقاته مع غيره.
إن الإسلام كما يأمر بالصبر والانتظار، فهو كذلك يأمر بإعداد القوة والحركة والجهاد لإعلاء كلمة الله.
فلا يمكن أن يقف كامناً منتظراً طول الأمد، عقيدة مجردة في نفوس أصحابه، تتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم.
بل لا بد له مع ذلك أن يواصل الخطى لإنشاء مجتمع إسلامي متميز، يكون واقعاً مشهوداً في الحياة، وأن يزيل العوائق التي تمنعه من إقامة شرع الله في أرضه.
وما أكثر المهزومين في هذا الزمان أمام الواقع البائس لكثير من المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا اسمه.
وأمام الهجوم الماكر على أصل الجهاد في الإسلام من أعدائه.(9/202)
فهؤلاء يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهرباً من الحقيقة التي يقوم عليها الانطلاق الإسلامي في الأرض لتحرير الناس كافة من عبادة العباد، وردهم جميعاً إلى عبادة الله وحده، وتحطيم الطواغيت والقوى التي تقهرهم على عبادة غير الله، والتحاكم إلى غير شرعه.
فيقولون إن الله يقول: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 61].
ويقول: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 190].
وأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد صلح الحديبية مع المشركين، وعقد معاهدة مع يهود المدينة ومشركيها، ولا عليه أن يعبد بقية البشر ما يعبدون من دون الله، ما دام هو آمناً في سربه.
وهذا سقوط تمليه الهزيمة أمام الواقع البائس، وأمام القوى المعادية للإسلام، والتي لا طاقة لهم بها، وذلك سوء ظن بالإسلام، وسوء ظن بالله سبحانه.
فهذه النصوص السابقة التي يلجأون إليها نصوص مرحلية، تواجه واقعاً معيناً، وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة، وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية؛ لأن واقعها يقرر مناسبتها.
ولكن ليس معنى هذا أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين.
إنما على الأمة أن تسعى في تحسين ظروفها، وإزالة العوائق من طريقها، حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في هذه القضية.
فالنصوص الأخيرة تقول: (? ? ? ? ? پ پ پ پ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [التوبة: 1، 2].
وتقول في شأن الكفار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 36].
وتقول في شأن أهل الكتاب: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [التوبة: 29].(9/203)
فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون تحقيق هذه الأحكام، فهم الآن مؤقتاً غير مكلفين بتحقيقها، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها، حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة فيما بعد حين يستطيعون تنفيذها، ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية.
والمؤمنون والدعاة إلى الله قد يجدون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة، وتجبر الطاغوت، وفسد أكثر الناس، وهنا يرشدهم الله إلى الحل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 87].
اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها ما أمكن، وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة على نفسها لتطهر وتزكو حتى يأتي وعد الله.
واعتزال معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد، تمتثل فيها أوامر الله، وتحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح.
إن وجود القلة المؤمنة في الأرض شيء عظيم في ميزان الله تعالى، شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية التي تعارضها وتؤذيها.
كما يستحق منه سبحانه أن يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو، وترث الأرض، وتعمرها حسب أمر الله.
إن هذه العصبة المسلمة التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها، والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة، كما تعاني الأذى والمطاردة، والتعذيب والتنكيل، والسحق والقتل، إنها تستحق أن يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة.
وما عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها، وأن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه، وأن تصبر حتى يأتي الله بأمره، وأن تثق أن وليها قدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه لا يمكن أن يترك أولياءه إلى أعدائه إلا فترة الإعداد والابتلاء، وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن الله سينصرها ويمكن لها بلا ريب، فالله حكيم يربي بالبلاء الداعي والمدعو معاً.(9/204)
لقد دعا نوح صلى الله عليه وسلم إلى ربه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا القليل، وعندما لجأ نوح إلى ربه، والقوم يطاردونه ويزجرونه، ويفترون عليه، ويسخرون منه، ويكذبونه كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [القمر: 9، 10].
عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه مغلوب، ويدعو ربه أن ينتصر لعبده المغلوب، والله يسمعه ويراه، ويرى ما يفعل به، عندئذ أطلق الله القوى الكونية الهائلة، وأرسل جندياً من جنوده ليكون في خدمة ونصرة عبده المغلوب: (? ? ? ? ?چ چ چ چ ? ? ? ? ? ??) [القمر: 11، 12].
إن هذه العصبة المؤمنة غالية عند الله، وقد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون، وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء، وأهلك كل حي، ومكن لها في الأرض.
وبينما كانت تلك القوى الكونية تزاول عملها في إهلاك القوم المكذبين كان الله مع رسوله وعباده المؤمنين المغلوبين: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [القمر: 13، 14].
فهل يتعظ بذلك الطرفان المؤمن والكافر: (گ گ گ گ ? ??) [القمر: 15].
لقد طوى الطوفان المكذبين من قوم نوح، واستبعدوا من الحياة ومن رحمة الله سواء، ولم يبق على الأرض من الكافرين دياراً.
والمؤمنون أنجاهم الله، واستخلفهم في الأرض، تحقيقاً لوعده سبحانه، وسنته التي لا تتبدل: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ) [هود: 48].
وتلك سنة الله في كل من ترك الهدى واتبع الهوى وكذب الرسل: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک گ گ گ گ ? ? ? ??) [الفرقان: 37-39].
إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى الله.
كما لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية، فيظن أن الله تاركه لهذه القوى وهو عبده المنتسب إليه، الذي يستنصر به، وهو يؤدي رسالته إلى خلقه.(9/205)
وإن قوى الجاهلية والكفر تملك من قواها ما تخيف به الناس، ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله التي تملك الكون وما فيه، فالقوى ليست متكافئة ولا متقاربة.
وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله كما لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله، والله مع المؤمنين المتقين يكلؤهم وينصرهم كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [غافر: 51، 52].
والذين يسلكون السبيل إلى الله عليهم أن يؤدوا واجبهم كاملاً بكل ما في طاقتهم من جهد، ويستقيموا على أوامر الله، ثم يدعون الأمور لله في طمأنينة وثقة بالله.
وعندما يغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين الذي بيده كل شيء، وأن يجأروا إليه بالدعاء كما جأر عبده الصالح نوح: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [القمر: 10-14].
وكما جأر محمد صلى الله عليه وسلم بالدعاء يوم بدر، واستغاث بربه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 9، 10].
فالمسلم يبذل ما يملك من جهد وطاقة، ويستقيم على أوامر الله، ويتوكل على ربه، ويتوجه إليه وحده، ثم ينتظر فرج الله القريب: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الأنبياء: 76، 77].
وإبراهيم لما دعا قومه إلى الله فلم يستجيبوا وأرادوا إحراقه بالنار دعا ربه وتوجه إليه، فلما ألقوه في النار وجه الله أمره إلى النار: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 69، 70].
ويونس لما دعا ربه في ظلمات البحر لينجيه من الكرب استجاب الله له كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [الأنبياء: 87، 88].
والدعوة إلى الله هي استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيها الصدق والبساطة، والاستقامة والحرارة لنشر الهداية.(9/206)
فمتى استشعر القلب حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في قلبه، فلم يطق عليها سكوتاً: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [يس: 20، 21].
فالداعي إلى الله لا يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله، ويرى الجحود والفجور، ويرى الظلم والطغيان والفساد.
فهذا الرجل سعى بالحق الذي استقر في قلبه، وتحرك في شعوره، وسعى به إلى قومه ناصحاً لهم، وهم يكذبون ويهددون.
جاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفهم عن البغي، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشك أن يصبوه على المرسلين.
والذي يظهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولكنها العقيدة الحية تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة ناصحاً لقومه: (? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [يس: 20، 21].
إن الذي يدعو هذه الدعوة وهو لا يطلب أجراً ولا يبتغي مغنماً إنه لصادق، وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفاً من الله؟.
وما الذي يدفعه إلى حمل همّ الدعوة ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة، والتعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم، وهو لا يجني من ذلك كسباً، ولا يطلب منهم أجراً.
ثم يتحدث عن نفسه هو، وعن أسباب إيمانه فيقول: (? ? ? ? ? ? ? ??) [يس: 22].
ما الذي يحيد بي عن عبادة ربي؟.
فالفطرة مجذوبة إلى الذي فطرها تتجه إليه أول ما تتجه، فلا تنحرف عنه إلا بدافع آخر خارج على فطرتها، وهو يحس كذلك أن المخلوق يرجع إلى الخالق في النهاية، كما يرجع كل شيء إلى مصدره الأصيل، فلم لا أعبد الذي فطرني، والذي إليه المرجع والمصير، فمن حقه أن يعبدوه ولا يعبدوا معه غيره.
ثم يقرر الداعي في وجه قومه المكذبين المهددين قائلاً لهم: (? ? ? ??) [يس: 25].
قال ذلك لأن صوت الفطرة في قلبه أقوى من كل تهديد، ومن كل تكذيب، فهذا الداعي جزاؤه الجنة: (? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [يس: 26، 27].(9/207)
فأما الطغيان الذي واجهه فكان أهون على الله من أن يرسل عليه الملائكة لتدمره فهو ضعيف، فما كانت إلا صيحة واحدة صرعت القوم، وأخمدت أنفاسهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [يس: 28، 29].
فما أعظم جهل العباد بربهم، وما أشد تكذيبهم لرسله: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ) [يس: 30-32].
إن الدعوة إلى التوحيد التي بعث الله بها رسله كما أن لها أنصاراً، فلها كذلك أعداء يقلبون الحقائق، ويقاومون أهلها، ويوهمون الناس أن وراء هذه الدعوة خبيئاً غير ظاهرها، وأنهم هم الكبراء العالمون ببواطن الأمور، المدركون لما وراء هذه الدعوة من خبئ.
ولهذا يعجبون من دعوة التوحيد الخالصة؛ لأنها خطر عليهم: (? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [ص: 5].
فلا يغتر الناس بهذه الدعوة، فليس ما جاءوا به هو الدين الحق، إنما هو شيء آخر يراد من وراء هذه الدعوة، شيء ينبغي أن يدعه الناس لأربابه، ولمن يحسنون فهم المخبآت، فليطمئن الناس؛ لأن الكبراء ساهرون على مصالحهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [ص: 6].
ثم يموهون على الناس بأنهم يعرفون الدين، وأنهم أحرص على مصالحهم، وأن ما جاء به هؤلاء ليس التوحيد الذي يعرفه الناس من قديم: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [ص: 7].
هكذا قالت قريش، فعقيدة التثليث قد شاعت عند النصارى، وأسطورة العزير قد شاعت عند اليهود، وهما منحرفتان عن التوحيد الخالص: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 30].
فكفار قريش كانوا يقولون ما سمعنا بهذا التوحيد المطلق لله عند أهل الكتاب.
والله عزَّ وجلَّ بعث الأنبياء وأرسل الرسل بأمرين:
بالدعوة والعبادة.. بالهداية والاستقامة.
وكلهم سار في هذا الطريق، وكلهم عانى، وكلهم ابتلي، وكلهم صبر.
وكان الصبر هو زادهم جميعاً، وطابعهم جميعاً، كل حسب درجته في سلم الأنبياء والمرسلين.(9/208)
لقد كانت حياتهم صلوات الله وسلامه عليهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات، مفعمة بالآلام، وحتى السراء كانت ابتلاء، وكانت محكاً للصبر على النعماء، بعد الصبر على الضراء، وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال.
وقد اختار الله لهم هذه الحياة وإنها لكذلك، فحياتهم صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية، لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات؟، وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض؟، وكيف تتجرد من الشهوات والمغريات من أجل الله؟، وكيف تخلص لله، وتنجح في امتحانه، وتختاره على كل شيء سواه؟.
ثم لتقول للبشرية في النهاية قولاً عملياً صريحاً: هذا هو الطريق إلى الاستعلاء والعلو بالحق الذي يريده الله، هذا هو الطريق إلى الله دعوة واستقامة وصبر: (ہ ہ ہ ہ ھھ) [هود: 49].
وعلى المؤمنين بالرسل وأتباعهم مثل ذلك الصبر والتقوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 200].
إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله في مواجهة التواءات النفس البشرية وجهلها، واعتزازها بما ألفت، واستكبارها أن يقال إنها كانت على ضلالة، وحرصها على شهواتها، وعلى مصالحها، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد، كل البشر أمامه سواء.
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق، ولكن شأنه عظيم: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فصلت: 33].
إن كلمة الدعوة هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات، فتصبح الدعوة خالصة لله، ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ والبيان.(9/209)
ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض، أو بالإنكار أو بسوء الأدب، فهو إنما يتقدم بالحسنة، ويرجو من ربه الحسنى، فليس له أن يرد بالسيئة، فالصبر والتسامح وعدم مقابلة الشر بالشر يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء، ومن الجماح إلى اللين، ومن العداوة إلى المحبة: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [فصلت: 34، 35].
وبذلك ينقلب الهياج إلى وداعة، والغضب إلى سكينة، والتبجح إلى حياء، والاستكبار إلى تواضع، والشدة إلى سماحة.
غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد، حتى لا يصدر الإحسان في نفس المسيء ضعفاً.
ودفع السيئة بالحسنة والسماحة والصبر درجة عظيمة لا يلقاها كل إنسان، فهي في حاجة إلى الصبر، وهي كذلك حظ موهوب يتفضل به الله على عباده الذين يحاولون فيستحقون: ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [فصلت: 35].
والغضب قد ينزغ، وقد يلقي الشيطان في الروع قلة الصبر على الإساءة، وضيق الصدر عن السماحة، وحينئذ لا بدَّ من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم الذي يستغل الغضب فينفذ منه إلى قلب الإنسان: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [فصلت: 36].
والداعي إلى الله لا يطلب من الناس أجراً على الهدى الذي ينتهي بهم إلى نعيم الجنة، وينأى بهم عن عذاب النار، إنما هي مودته وحبه لهم لقرابتهم منه، وحسبه ذلك أجراً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 23].
فما أعظم فضل الله على عباده، ليس هو مجرد تناول الأجر على الهداية، بل إنها الزيادة والفضل، ثم هي بعد هذا كله المغفرة والشكر.
والله غفور شكور يشكر عباده، ويعظم لهم الأجور، وهو الذي وهبهم التوفيق على الإحسان، ثم هو يزيد لهم الحسنات، ويغفر لهم السيئات، ويشكر لهم بعد هذا وذاك.
فيا للجود والفيض، والمعروف والإحسان، الذي يعجز الإنسان عن معرفته ومتابعته فضلاً عن شكره.(9/210)
والله تبارك وتعالى يوجه عباده المؤمنين والدعاة إلى الله ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله، مع المخالفين المحرومين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ??) [الجاثية: 14].
هذا توجيه كريم من الكريم للذين آمنوا ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله، تسامح المغفرة والعفو، وتسامح الكبر والارتفاع، وتسامح القوة والاستعلاء.
فالذين لا يرجون أيام الله مساكين، يستحقون العطف أحياناً، لحرمانهم من ذلك النبع الصافي، نبع الإيمان بالله، والطمأنينة إليه، والاحتماء بركنه، وحرمانهم كذلك من المعرفة الحقيقية بالله، وبأسمائه وصفاته وأفعاله.
والمؤمنون الذين يملكون كنز الإيمان وذخره، ويتمتعون برحمته وفيضه، أولى بالمغفرة لما يبدو من أولئك المحرومين من نزوات وحماقات هذا من جانب.
ومن جانب آخر ليترك هؤلاء المؤمنون الأمر كله لله يتولى جزاء المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ويحسب لهم العفو والمغفرة عن الإساءة في سجل الحسنات.
وكل عائد إلى الله، وهناك الجزاء على العمل: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [الجاثية: 15].
وبذلك يتسع صدر المؤمن، ويرتفع شعوره، ويحتمل الإساءة الفردية المتكررة، والنزوات الحمقاء من الجاهلين والمطموسين في غير ضعف وفي غير ضيق، فهو أكبر وأفسح وأقوى.
وهو حامل مشعل الهدى للتائهين المحرومين من النور، وحامل بلسم الشفاء للمحرومين من النبع، وهو مجزي بعمله لا يصيبه من وزر المسيء شيء، والأمر لله في النهاية، وإليه المرجع والمآب والحساب والعقاب: (? ? ?? ? ? ? ??) [الغاشية: 25، 26].
والنبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وقد أوصاه ربه بالصبر والثبات في جميع الأحوال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 60].
وقد سبقته تجارب النبيين أجمعين في حقل الرسالة، ليكون هو صاحب الحصاد الأخير، وصاحب الرصيد الأخير، وصاحب الزاد الأخير، فيعينه هذا على عبئه الثقيل الكبير.(9/211)
عبء هداية البشرية جميعها.. وعبء هداية الأجيال كلها.. لا جيل واحد ولا قرن واحد كما كانت مهمة الرسل قبله، وعبء إمداد البشرية بعده بكل أجيالها وكل أقوامها بمنهج دائم ثابت صالح لتلبية ما يجدّ في حياتها من أحوال وأوضاع وتجارب.
إن مشقة الدعوة هي مشقة الصبر لحكم الله حتى يأتي موعده في الوقت الذي يريده بحكمته.
وفي طريق الدعوة مشقات كثيرة:
مشقات التكذيب والتعذيب.. ومشقات الالتواء والعناد.. ومشقات انتفاش الباطل وانتفاخه.. ومشقات افتتان الناس بالباطل المزهو المنتصر فيما تراه العيون.. ثم مشقات إمساك النفس عن هذا كله.. ولزومها الحق راضية مستقرة مطمئنة إلى وعد الله الحق.. لا ترتاب ولا تتردد في قطع الطريق مهما كانت مشقات الطريق.
وهو جهد ضخم مرهق يحتاج إلى عزم وصبر ومدد من الله وتوفيق، وبذلك أوصى الله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل قبله بقوله:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحقاف: 35].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 34، 35].
ومن رحمة الله تبارك وتعالى أن جعل مواكب الإيمان، ومواكب الدعوة، مستمرة دائماً تذكر الناس بربهم، وتعرفهم بمنهج الله، وتحثهم عليه، وترغبهم فيه، وتعلمهم إياه.
فأساس المنهج الإيماني، أن يواجه الداعي الناس بالدعوة إلى الله، ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له كما في قصة أصحاب القرية: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يس: 14].
أما موكب الإيمان في سورة الكهف فإنهم لم يواجهوا قومهم، بل هربوا بدينهم وفروا بعيداً عن الكفار كما قال الله عنهم: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?ں) [الكهف: 10].
هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم الله هدى، إنما هم يمثلون المنهج الإيماني واستمراره.
فهل في هذا تناقض؟.(9/212)
يبقى الإنسان مرة يجادل.. ومرة يهرب ويفر بدينه؟.
والجواب: أن هذا عين الحكمة، فالحكمة في المثلين واحدة وإن اختلف الأسلوب.
فالله سبحانه يريد أن يبقي المنهج الإيماني مواجهاً للكفار، مجادلاً لهم حتى آخر لحظة، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد من المنهج الإيماني إذا واجه قوة ستقضي عليه أن يستسلم ويتركها تقضي عليه، إنما عليه أن يفر بدينه إلى مكان آخر، ثم يعود مرة أخرى بعد أن يكون قد قوي واستطاع المواجهة.
والله عزَّ وجلَّ لا يريد من الدعاة إلى الله أن يهربوا من المجتمع، أو أن يعتزلوا، بل لا بدَّ أن يبقوا وأن يقولوا كلمة الحق، وأن تظل الدعوة مستمرة كما في قصة صاحب يس: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [يس: 20].
والله سبحانه في سورة الكهف قد حدد شرطين لا ثالث لهما ليفر الإنسان بدينه إلى مكان آخر، ويبدأ بالدعوة من جديد بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 20].
فالفتية المؤمنون إذا بقوا فإنهم سيواجهون أحد أمرين:
إما أن يرجموهم علناً أمام الناس، ويقتلوهم على رؤوس الأشهاد، وفي هذه الحالة ينتهي موكب الإيمان من هذه البلدة.
وإما أن يجبروهم علناً على أن يعودوا إلى عبادة الأصنام، وفي هذه الحالة فالمؤمنون الذين يكتمون إيمانهم سيقتدون بهم، ويرتدون عن الإيمان كما ارتدوا هم، وتلك فتنة، وبذلك يتوقف موكب الإيمان فترة.
فالأساس والأصل استمرار موكب الإيمان بالمواجهة، أو المحافظة عليه حتى يقوى ثم يعود: (? ? ? ? ? ??) [الكهف: 13].
هؤلاء الفتية وجدوا أن بقاءهم في المجتمع الكافر سيعرضهم لأحد شيئين:
إما أن يقتلوا ويحرم المنهج ممن يدعو إليه، وفي هذه الحالة قتلهم لا يفيد المنهج؛ لأن المنهج محتاج لموكب إيماني يتحرك به.
وإما أن يكرهوا على الكفر فيصبحوا فتنة للذين آمنوا، ودعاة إلى الكفر والإلحاد، وفي هذه الحالة يحرم المنهج الإيماني من حاملين له، ومؤمنين به، ودعاة له.(9/213)
وفي هذه الحالة لا بدَّ أن يفروا بدينهم إلى مكان آخر، ليعودوا مرة أخرى وهم أكثر قوة، فحين آذى الكفار النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله اختفى في الغار، ثم هاجر إلى المدينة، ثم عاد فاتحاً للبلد التي أخرجته، وأراد أهلها قتله.
وموكب الإيمان في الإسلام لا يهمل أمور الدنيا ويتركها، بل هو يأخذ بأسباب الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الجمعة: 9].
ولما كان الاشتغال بالتجارة والمكاسب مظنة الغفلة عن ذكر الله أمر الله بالإكثار من ذكره كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجمعة: 10].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [الفتح: 29].
وبذلك يعلم المؤمن أن موكب الإيمان يسعى دائماً إلى مواجهة الكفر والإلحاد بالحجة والبرهان، وأن هذا الموكب الإيماني لا يتوقف أبداً، وأن الكفار لعجزهم عن الحجة والبرهان والإقناع يلجأون إلى القوة والعنف.
وهؤلاء الكفار ليسوا بمعجزين في الأرض، فالله إذا تركهم في غيهم فلأنه كتب على نفسه أن يترك الإنسان مختاراً أن يؤمن أو يكفر، وليس لقوتهم وعلو شأنهم، والله قادر على أن ينصر دينه دون معونة أحد من البشر، وأن يهدي الناس جميعاً بلا دعوة أحد، ولكن مواكب الإيمان رحمة من الله سبحانه لعباده المؤمنين ليثيبهم بها في الآخرة، ويرفع درجاتهم، ويدخلهم الجنة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 6].
والدعاة بين البشر صنفان:
دعاة إلى الحق.. ودعاة إلى الباطل.
فدعاة الحق هم الأنبياء والرسل وأتباعهم من المؤمنين الذين يدعون إلى الله، ودعاة الباطل هم إبليس وذريته وأتباعه من شياطين الإنس والجن.
وهؤلاء.. وهؤلاء.. كلهم قائمون بالدعوة إلى يوم القيامة.
هؤلاء يدعون إلى الجنة.. وهؤلاء يدعون إلى النار.
حتى إذا بلغ الأجل، واكتمل من شاء الله من عدد أهل الجنة، وعدد أهل النار، انقطع الميلاد والنسل.(9/214)
وقد علم الله من يصلح للجنة والكرامة.. وعلم من يصلح للنار والإهانة، ولكن لإقامة الحجة أرسل الله رسلاً من الإنس والشياطين إلى هؤلاء وهؤلاء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [النحل: 36].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [مريم: 83].
واصطفى الله سبحانه من الناس من يدعو إليه من الأنبياء والرسل وأتباعهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 23، 24].
وجعل من أهل الشر من يدعو إلى النار كما قال سبحانه في آل فرعون: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [القصص: 41].
وقال سبحانه عن الكفار: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [البقرة: 221].
فإبليس وذريته باقون دعاة إلى الباطل، إلى النار، إلى يوم القيامة.
أما الرسل والأنبياء فماتوا، وختمهم الله بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمات، ولكن الله جعل أمته خير أمة أخرجت للناس نائبة عنه، ومبلغة لدين الحق إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يوسف: 108].
فللحق دعاة.. وللباطل دعاة.. وللجنة دعاة.. وللنار دعاة.. وللدنيا دعاة.. وللآخرة دعاة.. (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [الروم: 14-16].
فلينظر العبد من أي الدعاة هو؟.. وعلى أي طريق يسير؟.. وإلى أي دار يعمل ويدعو؟.
إن الواجب على الأمة أن تتعلم حياة النبي، وجهد النبي صلى الله عليه وسلم في آن واحد.
والدين خطوتان: خطوة للعبادة، وخطوة للدعوة، ولا بدَّ لكل مسلم أن يخطوهما.
ونشر الدين يحتاج إلى خطوات المجتهدين.. وبكاء الخاشعين.. ومداد العلماء.. ودماء الشهداء.. وأخلاق الأتقياء.
وبسبب ترك الدعوة إلى الله ضعف الإيمان، وصارت الأمة تخاف من بطش الرؤساء والأمراء، ولا تخاف من بطش الله.(9/215)
والمطلوب من المسلم استعمال جميع الصلاحيات والطاقات لنشر الهداية والدعوة إلى الله، ولكن الأعداء جعلوا الرجل والمرأة ماكينات للاستمتاع والشهوات، والله يريد منهما أن يكونا محلاً للإيمان والأعمال الصالحة، ونشر الهداية.
ومزاج المسلم الطاعة، وكل مشاكل العالم جميعها تعود إلى عدم الطاعة، والطاعة لا تأتي إلا بالإيمان، والإيمان لا يأتي إلا بالدعوة.
وكثير من الناس في العبادة كالصلاة يحرص على الصف الأول، وفي الدعوة لم يفكر أن يمشي خطوة فضلاً عن خطوات والتضحية بالأموال والأوقات، فمتى يظهر الحق ويزول الباطل، وتظهر الفضائل وتدبر الرذائل، وأحوال أكثر المسلمين هكذا؟.
ومتى تفتح أبواب الهداية وأكثر المسلمين قعود عن الدعوة إلى الله، مشغولون بالدعوة إلى الأموال والأشياء؟.
وبسبب ترك الدعوة إلى الله حرمنا الحزن على الكفار، ثم حرمنا الحزن على العصاة، ثم انتقلت إلينا صفاتهم.
ولما كانت الأمة قائمة بالدعوة إلى الله كان كل يوم يظهر الحق، ويزهق الباطل، ويدخل الناس في الدين، وبسبب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة دخل الناس في دين الله أفراداً، وبعد كمال التضحية دخلوا في دين الله أفواجا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?? ? ? ? چ چ چ چ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النصر: 1-3].
والصحابة رضي الله عنهم خرجوا من مكة إلى المدينة لنشر الهداية، وتعليم الدين، ونحن نخرج من بيوتنا وديارنا لطلب الدنيا وإكمال الشهوات، ولا نخرج لنشر الهداية، وإبلاغ الدين، وتعليم أحكامه، فكيف نكون رحمة للعالمين؟.
إن رحمة الله لنا مشروطة برحمة جميع خلق الله.
والمطلوب من المسلم أن يعيش حياته تحت أوامر الله، لا تحت هواه وشهواته، فللدين أوامر، ولجهد الدين أوامر، وكلاهما مطلوب من المسلم، فالصلاة من الدين ولها أوامر، والدعوة إلى الله من الدين ولها أوامر.(9/216)
فعلى المسلم أن يقوم بالدعوة بكل قوة.. وبكل طاقة.. وفي كل وقت.. لكن مع هذا يدعو الله.. ويستغفر الله.. ويتوكل على الله.
وإذا قامت الدعوة على الأصول الشرعية جاء الإيمان والتقوى، وحسن الخلق، ونزلت الهداية والرحمة على الأمة.
والله عزَّ وجلَّ أعطانا الاستعداد الكامل للقيام بالدعوة والعبادة كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن أكثر المسلمين ترك الدعوة إلى الله؛ لأنه صار قانعاً بالعمل الصالح.
ونشر الدين.. ونصرة الدين.. وإظهار الدين.. وحفظ الدين.. كل ذلك بيد الله وحده، لكن نحن مأمورون بالدعوة والجهد للدين.
فالعابد فقط ميدانه نفسه.. والداعي ميدانه كل الناس.. والبحر لا يقارن بالقطرة، والجبل لا يقارن بالذرة، والشمس لا تقارن بالشمعة.
ومن العجب أننا نقطع صلاة الفريضة لإنقاذ نفس من السقوط في حفرة أو بحر أو نار، وهذا واجب، لكننا تركنا ما هو أعظم منه، وهو ترك ملايين البشر يتردون في أودية الكفر والفسوق والعصيان في كل لحظة، ويذهبون إلى نار جهنم بعد موتهم.
والصحابة لما قدموا جهد الدين على جهد الدنيا جاءت المنافع والبركات والفتوحات، ونزلت الهدايات، ونحن لما قدمنا جهد الدنيا على جهد الدين جاءت إلينا الذلة، وحلت بنا المصائب، وانتشرت فينا المعاصي.
ولحل مشاكل الأمة يجب علينا سؤال القرآن والحديث لنأخذ العلاج منهما، لكن المصيبة أن الذي بيده كل شيء أكثر الناس معرضون عنه، غير مستعدين للتعامل معه، وطاعة أوامره: (? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الانشقاق: 20، 21].
إن الأمة إذا لم تسلك طريق الأنبياء والمرسلين لم يبق لها إلا حياة البهائم والطواغيت والشياطين.
إن الداعي إلى الله إذا قام بالدعوة حصل له لأجر والهداية وإن لم يستجب الناس، فإن استجابوا له فله مثل أجرهم: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].(9/217)
إن وظيفة الدعوة إلى الله كوظيفة الملك، وبقية الوظائف كوظيفة الخدم، والمصيبة أن أكثر الناس اشتغل بوظيفة الخدم عن وظيفة الأنبياء والمرسلين، ويطمع مع ذلك بمنازل الأنبياء والصديقين.
ومن المؤسف حقاً أن الإنسان يجتهد في معرفة استخدام كل آلة؛ لأنه يعرف قيمتها ومنافعها، ولا يعرف كيف يستخدم نفسه الاستخدام السليم الذي يرضي به مولاه، وذلك لجهله بخالقها وقيمتها ومنافعها وما أعده الله لها.
ومحبة الدنيا تخرج من القلب عظمة الله وعظمة الدين، وإذا قمنا بجهد الدعوة جاءت في قلوبنا عظمة الله وعظمة دينه، وسهل علينا امتثال أوامر الله عزَّ وجلَّ، ولا يستطيع الداعي إخراج عظمة غير الله من قلوب الناس حتى يخرج عظمة غير الله من قلبه.
وقد يضعف إيمان أهل الحق فيرون الباطل له صولات وجولات، ويعظم ذلك في نفوسهم، لما يرونه من بطش أهل الباطل، وشدة إعراضهم، وتتابع أذاهم للمؤمنين.
وهنا لا بدَّ للمؤمنين من الصبر والدعاء، ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى الكفار، وأمره أن يتعوض عن ذلك ويستعين عليه بالتسبيح بحمد ربه ليحصل له الرضا من ربه، ويطمئن قلبه، وتقر عينه بعبادة ربه، كما قال سبحانه: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [طه: 130].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?چ چ چ چ ? ? ?? ? ? ? ? ??) [الحجر: 97-99].
والدعوة إلى الله أعظم وظائف المسلم، ولا بدَّ عند القيام بها من الحكمة، فيؤخذ الناس باللين والرفق لا بالشدة والعنف، فالنبي صلى الله عليه وسلم تلين في الدعوة، وبسبب لينه في صلح الحديبية صار الأمان والاختلاط بين المسلمين والمشركين.
فرأى المشركون في المسلمين صفات جذبتهم إلى الدين:
الإيمان.. والعبادات.. والمعاملات.. والمعاشرات.. والأخلاق.
فدخلوا في الإسلام طائعين راغبين.(9/218)
ففي السنة السادسة من الهجرة كان صلح الحديبية، والمسلمون منذ تسع عشرة سنة كانوا لا يزيدون على ألف وخمسمائة إلا قليلاً، وبعد الصلح دخل الناس في دين الله أفواجاً.
فكان فتح مكة بعد سنتين في السنة الثامنة من الهجرة والمسلمون يزيدون على عشرة آلاف، ثم بعد سنتين في السنة العاشرة عام غزوة تبوك كان المسلمون أكثر من ثلاثين ألفاً.
ثم بعد سنة في السنة الحادية عشرة حج مع النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين أكثر من مائة وعشرين ألفاً من المسلمين.
ولما أكمل الله أصول الدين وأحكامه.. وأصول الدعوة وأحكامها.. حمَّل الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة مسئولية الدين في حجة الوداع، وأمرهم بأن يبلغ الشاهد منهم الغائب، ثم قبض الله رسوله بعد كمال الدين وتمام النعمة ودخول الناس في دين الله أفواجاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?? ? ? ? چ چ چ چ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النصر: 1-3].
وبقيت على الأمة من بعده مسئوليات أربع:
تعلم الدين.. والعمل بالدين.. وتعليم الدين.. والدعوة إلى الدين.
والداعي إذا ذهب إلى الأمصار والقرى للدعوة إلى الله حصلت بسببه مصلحتان:
الأولى: مصلحة الداعية بوجود البيئة التي يزيد فيها إيمانه، وتحسن أعماله، وتعينه على امتثال أوامر الله.
الثانية: مصلحة الأمة بوجود بيئة الإيمان والعلم والأعمال، فيتأثرون بها، ويرون أحوالها ويستفيدون من مواعظها.
وجهد الدعوة يمشي ويعطي ثماره بستة أمور:
باليقين والتوكل.. والهدوء والتدرج.. والتيسير والتبشير.. والرفق واللين.. والإلفة والمحبة.. والتوقير والإكرام.
ولا بدَّ من الحكمة في دعوة البشر، والحكمة لا تأتي إلا بالطلب الصادق من العبد، وحزنه على معاصي البشر، والرغبة في زوالها، وهيجان القلب بمحبة نجاة الناس من عذاب جهنم، والاستعانة بالله والاستغاثة به، وامتلاء القلب برحمة الناس.(9/219)
ولا بدَّ من استعمال كل الأوقات للدعوة إلى الله، فكل شيء له وقت محدد إلا الدعوة فهي كل وقت، فالصلاة لها وقت، والصوم له وقت، والحج له وقت، والجهاد له وقت، أما الدعوة والذكر فلهما كل وقت، ولكن لا نترك التجارة، ولا جهد التجارة، لكن نؤخر ذلك حتى يعود الناس إلى الله.
وللداعي حالتان:
الأولى: حالة إدبار الناس عنه وإيذائهم له وسخريتهم منه كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من كفار قريش وأهل الطائف.
وفي هذه الحالة يزداد توجهه إلى ربه فيدعوه فيستجيب له كما نزل ملك الجبال لنصرة الرسول ممن آذاه.
الثانية: حالة إقبال الناس عليه واستجابتهم له وفرحهم بقدومه كما حصل من أهل المدينة في استقبال الرسول والمهاجرين وفي هذه الحالة يجب عليه أمران:
أحدهما: شكر الله الذي هيأ له ذلك، وجمع الناس، وجعله سبباً لهدايتهم، واستغفاره من التقصير.
الثاني: تفقد نيته لئلا يغرَّه الشيطان ويحوله من الدعوة إلى الله إلى الدعوة إلى نفسه، ويعجبه بحسن أسلوبه وغزارة علمه، وينسى الذي علمه وأرسله وأعانه، فالدعوة من المخلوق ولها أجرها، والهداية شيء آخر من الله ولها أجرها.
فالعبادة عمل المسلم، والدعوة وظيفته إلى أن يلقى ربه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يوسف: 108].
6- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 110].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم(1).
المعروف: هو التوحيد والإيمان والطاعات وكل خير.
والمنكر: هو الشرك والكفر والمعاصي وكل شر.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (49).(9/220)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهمان من سهام الإسلام، وهما وظيفة الأنبياء والرسل، وقد شرف الله بهما هذه الأمة، فهم خير الأمم إذا قاموا بذلك.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أصول الدين، وهما وظيفة الأمة، فهما واجبان على كل مسلم ومسلمة كما قال الله عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104].
والمسلم يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذه وظيفته التي شرفه بها ربه، وكلفه بها، ووعده على ذلك الثواب العظيم والأجر الجزيل.
والمسلم يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر امتثالاً لأمر الله ورسوله: إما رجاء الثواب الذي يحصل له عند القيام بهما.. وإما خوف العقاب على تركهما.. وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه.. وتارة النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم وإنقاذهم مما وقعوا فيه من التعرض لعقوبة الله.. وتارة يحمل العبد على القيام بهما إجلال الله وتعظيمه ومحبته، وأنه أهل أن يطاع ويذكر ويشكر.. وتارة لرؤية الشيطان يتلاعب بالعباد، ويسوقهم إلى المعاصي والفواحش فيغار الإنسان عليهم.
والواجب شكر الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والدعاء لهم، وإكرامهم والوقوف معهم، فمن نبهك على وجود عقرب في بدنك، أو أهدى إليك هدية فعليك أن تشكره، وترضى عنه، وتدعو له، لا أن تمتعض منه.
وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يصبر على إهانة الناس له: فإن كانت إهانتهم تعود لكوني مشاركاً في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأحيل ذلك الشخص إلى مُنزل القرآن، الذي استخدمني في هذه المهمة، فهو عزيز حكيم.
وإن كان كلامه من نوع تحقير وإهانة لشخصي بالذات، فهذا أيضاً لا يخصني، وإنما أنا كالأسير، وإهانة الأسير تعود إلى مالكه، فهو الذي يدافع عنه كما قال الرجل الصالح الناصح لقومه: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [غافر: 44، 45].(9/221)
ويجب على من يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أولاً: العلم بالمعروف والمنكر، والتمييز بينهما، والعلم بحال المأمور، وحال المنهي.
ثانياً: الرفق بالناس حال أدائهما، فالله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه، واللين يقطع أعظم مما يقطع السيف.
ثالثاً: الحلم والصبر على الأذى من الناس كما قال سبحانه: (ڑ ک ک ک ک گ گگ) [المزمل: 10].
فلا بدَّ من هذه الثلاثة:
العلم قبل الأمر والنهي.. والرفق معه.. والصبر بعده.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلاهما لازم، لكن الأمر بالمعروف قبل النهي عن المنكر، والأمر بالمعروف هو الأصل، وبه يستقيم الناس على الدين، فإذا ركب الناس الفواحش، وغشوا المحرمات، وتركوا الطاعات، وأقبلوا على المعاصي، وجب تغيير هذه المنكرات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم(1).
ولتغيير المنكر ثلاث درجات:
الأولى: تغيير المنكر باليد، وهذا خاص بولي الأمر، أو من ينيبه عنه، إذ جعل الله له القوة والسلطان والجاه، وخضوع الرعية له.
فكل من مكنه الله في الأرض لزم عليه تغيير المنكر باليد، وذلك يشمل حاكم الدولة، والقاضي في محكمته، والقائد في جيشه، والمدير في مصلحته، والأب في منزله.
الثانية: تغيير المنكر باللسان، وهذا خاص بالعلماء والدعاة، ويكون بالقول الحسن، والكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، لا يخشى في الله لومة لائم.
الثالثة: تغيير المنكر بالقلب، وهذا أضعف الإيمان، وآخر المراتب، وهو في الوقت نفسه مهم جداً، ولذا يجب على كل مسلم ومسلمة من العامة والخاصة، ولا يسقط عن المكلف في كل زمان ومكان.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (49).(9/222)
والإنكار بالقلب يكون كالتالي:
بغض المعصية التي رآها أو سمعها.. التمني وهو أن يتمنى أن لو يستطيع أن يزيل هذا المنكر بيده أو لسانه.. والدعاء بأن يدعو الله أن يزيل هذا المنكر، وأن يهدي قلب صاحبه إلى الصراط المستقيم.
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربعة أحوال:
فتارة يصلح الأمر.. وتارة يصلح النهي.. وتارة يصلح الأمر والنهي.. وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي.
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً، وينهى عن المنكر مطلقاً، وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق.
والمنافع التي يجب على المسلم بذلها نوعان:
منها ما هو حق المال كالزكاة الواجبة في الأموال لحاجة الفقراء والمساكين ونحوهم.
ومنها ما هو واجب لحاجة عامة الناس إليها، فإن بذل منافع البدن تجب عند الحاجة كتعليم العلم، وإفتاء الناس، وأداء الشهادة، والحكم بينهم بالعدل، والجهاد في سيبل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنقاذ الإنسانية من مهلكة ونحو ذلك.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نأمر بالمعروف ونحبه ونرضاه ونحب أهله، وأمرنا أن ننهى عن المنكر ونبغضه ونسخطه ونبغض أهله ونجاهدهم،
ففي المخلوقات والصفات والأعمال ما نبغضه ونسخطه ونكرهه، وفيها ما نحبه ونرضاه، وكل ذلك بقضاء الله وقدره.
وإذا كان الله يبغض السيئ منها ويكرهه وهو المقدر لها فكيف لا يكرهها من أمره الله أن يكرهها ويبغضها؟.
وقد أمر الله عباده بكل ما يحبه ويرضيه، ونهاهم عما يبغضه ويسخطه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الحجرات: 7].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتضي سلطة تأمر وتنهى، والأمر والنهي غير الدعوة، فالدعوة بيان، والأمر والنهي سلطان، وقد جمع الله بينهما في قوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104].
والإصلاح درجات تبدأ:(9/223)
أولاً: بإصلاح النفس وتزكيتها بالأخلاق العالية، لتكون زهرة فواحة بالروائح الطيبة، من لم يقترب منها تأثر برائحتها الطيبة.
ثانياً: ثم إصلاح المجتمع، حتى تنتقل هذه الأخلاق الكريمة إلى المجتمع فرداً فرداً، فتدخل البيوت، وتتجمل بها الأسر، وتتزين بها القبائل.
ثالثاً: ثم إصلاح الدولة، ليكون حكامها ووزراؤها وعمالها وتجارها هم نواة هذا المجتمع الذي آمن بالله ورسوله، وامتثل أوامر الله ورسوله في كل حال.
فإصلاح أحوال المملكة لا يتم إلا بعد إصلاح النفس ثم إصلاح المجتمع، وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم النفوس في مكة، فلما آمنت واستعدت للطاعة نزلت الأحكام وقامت الولاية في المدينة.
وقد بعث الله عزَّ وجلَّ هذه الأمة كما بعث الأنبياء بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتبشير والإنذار، والتعلم والتوجيه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?) [آل عمران: 110].
وكثيراً ما يقع ثناء الناس على البناء والأصباغ دون الأساس؛ لأنه لا يرى، ولا قيمة للبناء لولا الأساس.
وكذلك كثيراً ما يثني الناس على العالم أو الداعية، وينسون الأنبياء والرسل الذين هم سبب الهداية، بل ينسون ربهم الذي أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وهداهم صراطه المستقيم، فلا يذكرونه ولا يحمدونه، فاعتبروا يا أولي الأبصار؟.
وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبين على كل مسلم ومسلمة فهل للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟.
والله يقول: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [البقرة: 44].
ويقول: (? ? ? ں ں ? ? ?? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الصف: 2، 3].
والجواب: نعم.
فإن المسلم مأمور بشيئين:
أحدهما: فعل الطاعات وترك المعاصي.
والثاني: أمر غيره بفعل الطاعات وترك المعاصي.
وكمال العبد بالقيام بهما معاً، والإخلال بأحد الأمرين لا يقتضي الإخلال بالآخر.(9/224)
ومعنى الآيتين تنبيه وتحذير للمسلمين لعدم الجمع بينهما فعل المحرم، ونهي الناس عنه، فهذا لا يليق بالعامل، فضلاً عن المسلم، فضلاً عن العالم أو الداعي إلى الله.
ومن آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التعريف، فإن الجاهل يقدم على الشيء لا يظنه منكراً فإذا عرف أقلع عنه، فيجب تعريفه بلطف.
ومنها ستر العيوب والقبائح: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» أخرجه مسلم (1).
وفي الجهر بذكر العيوب والسيئات مفسدتان كبيرتان:
الأولى: أن ذلك يجلب العداوة والبغضاء بين من يجهرون بالسوء، ومن ينسب إليهم هذا السوء، وقد يفضي إلى جحد الحقوق، وسفك الدماء.
الثانية: أن الجهر بالسوء بين الناس يؤثر في نفوس السامعين، فيقتدي بعضهم بعض، فيجهر بالسوء مثله، أو يقلد فاعل السوء في عمله، والجهر بالسوء مباح للمظلوم للضرورة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 148].
والمعروف قسمان:
ظاهر كالصلاة والزكاة ونحوهما.. وباطن كالإيمان والتوحيد ونحوهما.
والمنكر قسمان:
ظاهر كالقتل والزنا والفواحش.. وباطن كالشرك والكبر والنفاق.
وإنكار المنكر له أربع حالات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزُل بجملته.
الثالثة: أن يزول ويخلفه مثله.
الرابعة: أن يزول ويخلفه ما هو شر منه.
فالأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار المنكر وتغيير المنكر ليحصل بذلك من المعروف ما يحبه الله ورسوله.
فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله منه، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإن ذلك أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2699).(9/225)
وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟. فقال: «لا، مَا أقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، لا مَا أقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ» أخرجه مسلم(1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ رَأى مِنْ أمِيرِهِ شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْراً فَمَاتَ، إِلا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» متفق عليه (2).
ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الصغار والكبار رآها من إضاعة هذا الأصل العظيم، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات وألوان الشرك في أول بعثته ولم يستطع تغييرها بيده مع بغضه لها.
بل لما فتح مكة، وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالجاهلية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم «يا عائشة: لَوْلا أنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ؛ لأمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأدْخَلْتُ فِيهِ مَا أخْرِجَ مِنْهُ، وَألْزَقْتُهُ بِالأرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيّاً وَبَابًا غَربيّاً، فَبَلَغْتُ بِهِ أسَاسَ إِبْرَاهِيمَ» متفق عليه(3).
ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه من سفك الدماء واضطراب الأمن.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1855).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7054) واللفظ له، ومسلم برقم (1849).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1586)، واللفظ له، ومسلم برقم (1333).(9/226)
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كالرماية وسباق الخيل ونحوهما.
وإذا رأيت الكفار المقاتلين يشربون الخمر فلا تنكر عليهم؛ لأن الله عزَّ وجلَّ إنما حرم الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية، وأخذ الأموال، وهكذا.
وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب الحرج والمشقة، وحصول الفتن، وتكليف ما لا سبيل إليه، وما يُعلم أن الشريعة لا تأتي به.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الأنبياء والرسل، ووظيفة هذه الأمة، والقيام بها من أشرف الأعمال، فلا بدَّ لمن يقوم بهما من العلم لئلا يقع فيما حرم الله، ويوقع عباد الله فيما حرم الله، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إفتاء عملي بدون سؤال، تثيره أحوال الناس وفشو المعاصي بينهم.
ولا بدَّ من سلطة في الأرض وجماعة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فالدعوة إلى الله تعود بالناس إلى خالقهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صيانة للمؤمنين لئلا يقعوا فيما حرم الله، وليقبلوا على ما يحبه الله ويعرفونه ويدعون إليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104].
ومنهج الله في الأرض إيمان وعمل، وبناء وتكوين، وأمر ونهي، وليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان فقط فهذا شطر.
والشطر الآخر الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لتستقيم الحياة البشرية على منهج الله، وتصان حياة الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى، وكل ذي شهوة، وكل ذي مصلحة.
والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليف ليس بالهين ولا باليسير إذا نظرنا إلى طبيعته وما يتطلبه من جهد وصبر وبذل، وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم، ومصالح بعضهم ومنافعهم، وغرور بعضهم وكبريائهم.(9/227)
وفيهم الجاهل الغافل.. وفيهم الجبار الغاشم.. وفيهم الحاكم المتسلط.. وفيهم الهابط الذي يكره الصعود.. وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد.. وفيهم المنحل الذي يكره الجد.. وفيهم الظالم الذي يكره العدل.. وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة.. وفيهم من يكره المعروف.. وفيهم من يحب المنكر ويفعله وينشره ويدافع عنه.
ولا يمكن أن تفلح الأمة، بل لا تفلح البشرية قاطبة إلا أن يسود فيها المنهج الإلهي، ويكون المعروف معروفاً، والمنكر منكراً محارباً، وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى وتطاع.
ومن ثم فلا بدَّ من جماعة تتلاقى على الإيمان بالله والأخوة في الله، لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى، ثم بقوة الحب والإلفة، وهؤلاء هم المفلحون كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104].
والله عزَّ وجلَّ بقدر ما كلف هذه الأمة بهذا الواجب العظيم، أكرمها في نفس الوقت ورفع مكانها ومقامها، وأفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه أمة أخرى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 110].
فهذه الأمة أخرجها الله للناس لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة بما أنها خير أمة، والله يريد أن تكون القيادة والإمامة للخير لا للشر في هذه الأرض إلى أن تقوم الساعة، ومن ثم فهي تمثل حياة الأنبياء والرسل، ولا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية، إنما يجب عليها أن تعطي هذه الأمم مما لديها، وأن يكون لديها دائماً ما تعطيه:
من الاعتقاد الصحيح.. والفكر الصحيح.. والنظام الصحيح.. والعلم الصحيح.. والعمل الصحيح.. والخلق المليح.
فهذا الواجب يحتم عليها أن تكون في الطليعة دائماً وفي مركز القيادة دائماً، وفي منبر التوجيه والإرشاد دائماً.(9/228)
وأول متطلبات هذا المكان أن تدعو الناس إلى خالقهم، وأن تقوم على صيانة حياة البشرية من الشر والفساد، وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي خير أمة أخرجت للناس بعملها في حفظ الحياة البشرية من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر، لتتحقق الصورة الحسنة التي يحب الله أن تكون الحياة عليها، ويتحقق مراد الله من خلقه، وتحصل للبشرية السعادة في الدنيا والآخرة.
وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها، وأن تتعاون على البر والتقوى، وأن تتواصى بالحق، وأن تهتدي بهدى الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها، ولا يضرها بعد ذلك أن يضل الناس حولها ما دامت قائمة على الدين والهدى.
وليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى، والهدى هو دينها وشريعتها.
فإذا هي أقامت نظامها في الأرض، بقي عليها أن تدعو الناس كافة إليه، وأن تحاول هدايتهم إليه.
وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة، لتقيم العدل بينهم، ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم.
وكون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت، وذلك لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولاً ثم في الأرض جميعاً.
وأول المعروف وأعظمه الإسلام لله، وتحكيم شرعه في كل شيء، وأول المنكر وأعظمه الكفر بالله، وتحكيم غير شرعه في خلقه.
فعلى المسلم أن يدري ويعلم أن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد، ولا يصلح إلا بعلم وعمل ونصح.
ولا بدَّ لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه، وإقامتهم عليه، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولتقرير ألوهية الله في الأرض، ولإقامة شريعة الله في الأرض، وإقامة الناس عليها.(9/229)
لا بدَّ من جهد بالحسنى حتى تنتشر الهداية في البشرية، وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى، وتعطل دين الله أن يعمل به في ملكه.
وبذلك تبرأ ذمة المؤمنين، وينال الظالم جزاءه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [المائدة: 105].
والمؤمن يفرح دائماً بالإيمان بالله وطاعته وعبادته كما قال سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 58].
وهو كذلك مستعد دائماً لتنبيه الغافل، وتذكير الناس، وهداية الضال، ونصح من زل، في كل زمان ومكان، وعلى أي حال حسب استطاعته، فماذا يبقى من الشر والفساد إذا كان كل مسلم يؤدي هذه الوظيفة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم(1).
إن كمال كل شيء بأمرين:
الأول: أن يبلغ في تلك الصفة شأوه البعيد.
الثاني: أن تستحكم فيه تلك الصفة لحد يجعله يؤثر في غيره، ويطبعه بطابع نفسه.
فالثلج مثلاً كماله الأول ببرودته في ذاته، وكماله الثاني أن يبرد غيره.
والنار كمالها الأول بشدة حرارتها في ذاتها، وكمالها الثاني بإحراق غيرها.
فكذلك الكمال الأول للرجل الصالح أن يبلغ قمة الصلاح في حد ذاته، وكماله الثاني أن يكون مصلحاً لغيره بتأثيره فيه.
فالمؤمن إذا كان راسخاً في إيمانه كاملاً في طاعته للحق فهو على الكمال الأول من حيث اتصافه بصفة الإيمان.
فإذا قويت فيه تلك الصفة واستحكمت لدرجة أنه بدأ يدعو غيره إلى الحق، ويهيب به إلى اتباعه، والسير في طاعة الله من خلال سلوكه المثالي وأخلاقه الكريمة، فإنه يرقى إلى الكمال الثاني بإصلاح غيره.
فللإيمان كمالان:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (49).(9/230)
أولهما: أن يكون المؤمن في حد ذاته متقياً لله، خاشعاً له، مطيعاً لأحكامه وأوامره إلى آخر أنفاس حياته، معتصماً بحبله المتين بكل ما له من قوة كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 102].
الثاني: أن يكون المؤمن داعياً إلى الخير، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104].
وهذا النوع من الكمال على مراتب متفاوتة:
فالشمعة والمصباح، والقمر والشمس، كل هذه أدوات تنوير وإضاءة، فالشمعة لا تنير إلا حجرة صغيرة، بينما المصباح ينير بيتاً كبيراً، ويضيء القمر والأرض وما حولها، وتضيء الشمس عالماً كبيراً.
وكذلك المؤمن إذا جعل قلب غيره يستنير بنور الإيمان، فإنه يدخل في مرتبة الكمال الثاني، ولكن لا يكون ذلك إلا أدنى مراتب هذا الكمال.
ثم هناك مراتب أخرى يختلف بعضها عن بعض باختلاف أبعادها وفق قيامه بالدعوة في نطاق فئة من الفئات، أو شعب من الشعوب، أو قطر من الأقطار، أو أمة من الأمم.
وأعلى مراتب هذا الكمال أن تكون دعوته تشمل العالم بأسره، فلا يسمح بوجود المنكر في ناحية من المعمورة إلا ويتجافى جنبه عن المضجع، ويشمر عن ساق جده لمحوه واستئصال شأفته، ولا يعد نفسه مختصاً بأمة أو قطر أو رقعة من الأرض، أو جنس من الأجناس.
وقد بين الله عزَّ وجلَّ أن غاية المسلم هي عبادة الله وحده لا شريك له، واستفراغ جهده لجعل العالم من أقصاه إلى أقصاه متبعاً للشريعة الإلهية الغراء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 110].
والمعروف: اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع مما يحبه الله ويرضاه.
والمنكر: كل ما قبحه الشرع وحرمه ونهى عنه من الأقوال والأعمال والأعيان وغيرها مما يغضب الله ويسخطه.(9/231)
ومن حق المسلم على أخيه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح دنياه وآخرته وينقذه من مضارها، ولهذا كانت الأنبياء والرسل أولياء المؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها.
وإبليس وذريته أعداء المؤمنين لسعيهم في إفساد إيمانهم وأعمالهم وإضلالهم عن ذلك.
ولا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أحد، ولو كان لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه الأمر والنهي، والهداية والقبول بيد الله: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 99].
ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كان عالماً بما يأمر به وبما ينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الناس والأشياء.
فإن كان من الواجبات الظاهرة كالصلاة والصيام، والمحرمات المشهورة كالزنا والخمر ونحوهما، فكل المسلمين علماء بذلك.
وإن كان من دقائق الأقوال والأفعال والأحكام لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء، ثم العلماء إنما ينكرون ما أُجمع عليه، أما المختلف فيه مما لم يرد فيه دليل فلا إنكار فيه.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة كل مسلم ومسلمة كما قال سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [التوبة: 71].
والمسلم يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في كل حال وفي كل زمان وفي كل مكان، في إقامته وسفره، وفي بيته وسوقه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ». فَقالوا: مَا لَنَا بُدٌّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قال: «فَإِذَا أبَيْتُمْ إِلا الْمَجَالِسَ، فَأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا». قالوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قال: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَأمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2465)، واللفظ له، ومسلم برقم (2121).(9/232)
والمسلم إذا أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، وذكره بما يجب عليه، وأحبه الناس ودعوا له، وإذا نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق، وذكر الغافل، وانبعث له من المؤمنين من يؤازره ويعينه.
ومن أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فليوطن نفسه على الصبر على الأذى، وليثق بالثواب من الله تعالى، وليتيقن أن الله معه، فمتى شعر بذلك لم يجد مس الأذى، واشتغل بإصلاح نفسه وإصلاح غيره، وهذا عمل الأنبياء والرسل وأتباعهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 17].
والناس يختلفون في قبول الإيمان والعمل بالأحكام، وعند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بدَّ من مراعاة ذلك.
فالناس أربعة أقسام:
الأول: قوي الإيمان، عالم بالأحكام.
فهذا ليس له عذر، فإذا وقعت منه معصية ينكر عليه بقوة، ويعامل معاملة أشد، لئلا يكون قدوة لغيره في المعصية، كما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك خمسين ليلة، وأمر الناس بهجرهم لما تركوا الخروج لغزوة تبوك مع كمال إيمانهم وعلمهم.
الثاني: قوي الإيمان، جاهل بالأحكام.
فهذا يدعى مباشرة ببيان الحكم الشرعي، وبيان خطر اقتراف المعاصي، وإزالة المنكر الذي وقع فيه.
عَنْ عبْدِالله ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ ا? صلى الله عليه وسلم رَاَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ في يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: «يَعْمَدُ أَحَدُكُمْ إلى جَمْرَةٍ مِنْ نََارٍ فيجْعَلُهَا في يَدِهِ»، فَقيلَ لِلَّرََجُلِ، بَعْدَمَا ذَهَبَ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم : خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِِهِ، قَالَ لا، وَا?! لا آخُذُهُ أَبَدًا، وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم » أخرجه مسلم(1).
الثالث: ضعيف الإيمان، عالم بالأحكام.
فهذا يدعى بالرفق واللين بالحكمة والموعظة الحسنة، ليزيد إيمانه فيطيع ربه، ويتوب من معصيته.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2090).(9/233)
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ. قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، قَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: «ادْنُهْ» فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ: «أَتُحِبُّهُ لأُِمِّكَ؟» قَالَ: لَا، وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لأُِمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَالله يَا رَسُولَ الله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لأُِخْتِكَ؟» قَالَ: لَا وَالله، جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لأَِخَوَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ»، قَالَ: «أفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟» قَالَ: لَا وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ»، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ». قال: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ. أخرجه أحمد والطبراني(1).
الرابع: ضعيف الإيمان، جاهل بالأحكام.
فهذا نصبر عليه، ونرفق به، ونعرفه بعظمة من يعصيه، ونعلمه الحكم بالرفق واللطف، ولا نوبخه ولا نزجره ولا نعنفه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (22564)، وهذا لفظه.
وأخرجه الطبراني في الكبير (8: 162)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (370).(9/234)
عن أنس - رضي الله عنه - قال: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ ا? صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ أعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أصْحَابُ رَسُولِ ا? صلى الله عليه وسلم : مَهْ مَهْ. قال: قال رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم : «لا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ ا? صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ ا? عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ». أوْ كَمَا قال رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم ، قال: فَأمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ، فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشَنَّهُ عَلَيْهِ. متفق عليه (1).
فالمعاصي آفات تصيب القلوب والجوارح، ولإزالتها لا بدَّ من تخلية وتحلية، ببيان عظمة الله، وعظمة كتابه، وعظمة أوامره، وعظمة اليوم الآخر.
وبيان خطر المعاصي والسيئات على النفس، وعلى المجتمع، وعلى الأمة، وبيان فضل الطاعات والفضائل وحسن التحلي بها، وبيان خطر المعاصي والرذائل وقبح التلوث بها.
فهل نقوم بوظيفة الأنبياء والمرسلين، ونبتعد عن وظيفة الشياطين والملحدين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104، 105].
7- فقه النصيحة
قال الله تعالى عن نوح صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک? ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [الأعراف: 61، 62].
وقال الله تعالى عن هود صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? پ پپ) [الأعراف: 67، 68].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (219)، ومسلم برقم (285)، واللفظ له.(9/235)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» متفق عليه (1).
الواجب على المسلمين كافة التعاون على البر والتقوى، وأن ينصح بعضهم بعضاً؛ لأنهم كالجسد الواحد، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً.
والنصيحة التي ينبغي لكل مسلم أن يؤديها خمسة أنواع:
فالنصيحة إما أن تكون لله.. أو لكتابه.. أو لرسوله.. أو لأئمة المسلمين.. أو لعامتهم.. قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». قُلْنَا: لِمَنْ؟ قال: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» أخرجه مسلم (2).
فالنصيحة لله: هي وصف الله جل جلاله بما هو أهله، والخضوع له ظاهراً وباطناً، والرغبة في محابه بفعل الطاعات، والرهبة من مساخطه بترك المعاصي، وبذل الجهد في رد العاصين إليه، وتقديم حقه على حق غيره.
والنصيحة لكتابه: الإيمان بأن القرآن كلام الله لا يقدر على مثله أحد، وتعظيمه، وتلاوته حق تلاوته، والتصديق بما فيه، وحفظ حدوده، والعمل بموجبه، ونشر علومه، والدفاع عنه، والدعوة إليه.
والنصيحة لرسوله: تكون بالتصديق برسالته، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حياً وميتاً، وإعظام حقه، وتوقيره، وإحياء سنته، وبعث دعوته، ونشر شريعته، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبته ومحبة أهل بيته وأصحابه، والدفاع عن سنته.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6011)، ومسلم برقم (2586)، واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم برقم (55).(9/236)
والنصيحة لأئمة المسلمين: تكون بمعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف بما نسوه، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم ما لم يفعلوا كفراً بواحاً، وتأليف قلوب الناس لطاعتهم في غير معصية الله، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح، وهذا بناء على أن المراد بالأئمة الخلفاء.
وإن فسر الأئمة بالعلماء، فتكون النصيحة لهم بقبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام، وإحسان الظن بهم، ونصحهم فيما أخطأوا فيه، فلا نؤثم ولا نعصم، وتوقيرهم وإكرامهم، والتأدب في حسن التلقي عنهم.
والنصيحة لعامة المسلمين: تكون بإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، وستر عوراتهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، والرفق بهم، والشفقة عليهم، والرحمة لهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتعليمهم أمور دينهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، والإحسان إليهم، وعدم غشهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» متفق عليه(1).
والنصيحة إنما تكون لمن في قلبه بعض حياة يحس بها، فهو مريض غافل أو مغفول عنه.
فأما من مات قلبه وعظمت فتنته فقد سد على نفسه طريق النصيحة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) } [المائدة: 41].
والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم لما فيها من الخير والبركات.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (13)، واللفظ له، ومسلم برقم (45).(9/237)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ». قِيلَ: مَا هُنَّ؟ يَا رَسُولَ ا?! قال: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» أخرجه مسلم(1).
والنصيحة تكون من الفرد إلى الفرد، ومن الفرد إلى المجتمع، ومن المجتمع إلى الفرد، ومن الراعي للرعية، ومن الرعية للراعي، ومن الأعلى إلى الأدنى، ومن الأدنى إلى الأعلى، ومن نبي لقومه كما سبق، ومن نبي إلى نبي كما نصح موسى أخاه هارون: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [الأعراف: 142].
وموسى صلى الله عليه وسلم يعلم أن هارون نبي مرسل من ربه معه، ولكن المسلم للمسلم ناصح، وقد تلقى هارون النصيحة، ولم تثقل على نفسه، فالنصيحة إنما تثقل على نفوس الأشرار؛ لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه، وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار، الذين يحسون في النصيحة تنقصاً لأقدارهم.
إن الصغير حقاً هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده ليظهر أنه كبير.
إن تمكين منهج الله ليسود في الأرض ليس بمجرد الوعظ والإرشاد والبيان فقط، بل هذا شطر.
والشطر الآخر القيام بسلطة الأمر والنهي، لتحقيق المعروف، ونفي المنكر من حياة البشرية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104].
والنصيحة هي الدعاء إلى ما فيه الصلاح، والنهي عما فيه الفساد، وإخلاص المحبة للغير بإظهار ما فيه صلاحه، وأنصح الناس لك من خاف الله فيك.
وأول النصح أن ينصح الإنسان نفسه بحملها على طاعة الله واجتناب معصيته، ومن غش نفسه فقلما ينصح غيره.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2162).(9/238)
وحق على من استنصح أن يبذل غاية النصح وإن كان في ذلك شيء يضره، فلا يترك المعلوم للمظنون والله حافظه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 20].
والتواصي بالحق والصبر واجب على كل مسلم ومسلمة، فصلاح أمر المسلم بالإيمان والعمل الصالح، وصلاح أمر الأمة كلها بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ويتم ذلك بأداء الطاعات وترك المحرمات، وتحمل البلايا والأذى في كل حال، وهذا سبيل الفلاح والنجاة كما قال سبحانه: (?? ? ? ? پپ? پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [العصر: 1-3].
ويجب على الأمة عامة، وعلى حملة الكتاب والسنة خاصة، نصح الأمة فيما ينفعها وتحذيرها مما يضرها، فإن الكتاب لا ينطق حتى ينطق به، والسنة لا تعمل حتى يعمل بها، ولا يليق بالعاقل أن يقول ما لا يفعل.
ولا ينبغي للطبيب أن يداوي المرضى بما يبرئهم ويمرضه، فإنه إذا مرض اشتغل بمرضه عن مداواتهم، ولكن ينبغي أن يلتمس لنفسه الصحة ليقوى بها على علاج المرضى، وخير الناس أنفعهم للناس: (? ? ? ں ں ? ? ??? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الصف: 2، 3].
8- فقه الهداية
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [يونس: 57].
وقال الله تعالى: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 56].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
القرآن الكريم بصائر لجميع الناس، فهو بصيرة وتبصرة، وموعظة وتذكرة، وهدى ورحمة، وبيان وشفاء.
فهو هدى للعالمين، وموعظة للمتقين، وشفاء للعالمين، وهدى للمتقين، وشفاء للمؤمنين، وموعظة للعالمين.
فهو في نفسه هدى ورحمة، وشفاء وموعظة.
فمن اهتدى به واتعظ واشتفى كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصل به الشفاء، فهو دواء له بالفعل.
وإن لم يستعمله فهو دواء له بالقوة لكنه لم يستعمله.
وكذلك الهدى، فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به، والهادي هو الله، والمحل القابل هو قلب العبد، والذي يحصل به الهدى هو القرآن.(9/239)
فالمحل القابل هو قلب العبد المتقي المنيب إلى ربه، فإذا هداه الله فكأنه وصل أثر فعله إلى محل قابل فتأثر به، فصار له هدى وشفاء، ورحمة وموعظة، بالوجود والفعل والقبول.
وإذا لم يكن المحل قابلاً وصل إليه الهدى فلم يؤثر فيه كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء، فإنه لا يؤثر فيه شيئاً، بل لا يزيده إلا ضعفاً وفساداً إلى فساده كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?) [الإسراء: 82].
فتخلف الاهتداء يكون لعدم قبول المحل تارة.. ولعدم آلة الهدى تارة.. ولعدم فعل الفاعل وهو الهادي تارة.
ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الثلاثة.
وقد قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 23].
فقطع الله تبارك وتعالى عنهم مادة الاهتداء وهو إسماع قلوبهم وإفهامها ما ينفعها، لعدم قبول المحل فإنه لا خير فيه، فإن الإنسان إنما ينقاد للحق بالخير الذي فيه، ومحبته له، وحرصه عليه، وهؤلاء ليس في قلوبهم شيء من ذلك.
فوصل الهدى إليها ووقع عليها كما يصل الغيث النازل من السماء على الأرض الغليظة العالية، والتي لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فلا هي قابلة للماء ولا للنبات، فالماء في نفسه رحمة وحياة ولكن ليس فيها قبول له.
وفي هؤلاء مع عدم القبول والفهم آفة أخرى وهي الكبر والإعراض وفساد القصد، فلو فهموا لم ينقادوا ولم يتبعوا الحق ولم يعملوا به.
فالهدى في حق هؤلاء هدى بيان وإقامة حجة لا هدى توفيق وإرشاد، فلم يتصل الهدى في حقهم بالرحمة.
وأما المؤمنون فاتصل الهدى في حقهم بالرحمة فصار القرآن لهم هدى ورحمة، ولأولئك هدى بلا رحمة.
والرحمة المقارنة للهدى في حق المؤمنين نوعان: عاجلة وآجلة.
فأما العاجلة فما يعطيهم الله في الدنيا من محبة الخير والبر، وذوق طعم الإيمان وحلاوته، والفرح والسرور بهذا الهدى، فهم يتقلبون في نور هداه، ويمشون به في الناس.(9/240)
فهم أشد الناس فرحاً بما آتاهم ربهم من الهدى، وقد أمرهم ربهم أن يفرحوا بفضله ورحمته بقوله سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 58].
وفضل الله ورحمته هو العلم والإيمان والقرآن والهدى واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم .
والرحمة التي تحصل لمن حصل له الهدى تكون بحسب هداه، فكلما كان نصيبه من الهدى أتم كان حظه من الرحمة أوفر.
والإنسان كلما اتسع علمه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلماً، فهو سبحانه أرحم من الوالدة بولدها، بل هو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه.
والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرها ويؤلمها، وينقص حظها من كرامته وثوابه، ويبعدها من قربه ورحمته، وهو يظن أنه ينفعها ويكرمها، وهذا غاية الجهل والظلم، والرب تعالى أعلم بالمحل الذي يصلح للهدى والرحمة، فهو الذي يؤتيها العبد كما قال سبحانه عن عبده الخضر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الكهف: 65].
والهداية نور يقذفه الله في قلب من شاء من عباده ممن يصلح لذلك.
وكما أن للصحة علامات.. وللمرض علامات.. فكذلك للهداية علامات.. وللضلالة علامات.
ومن علامات الهداية:
الإقبال على الله.. والتوجه إليه في جميع الأحوال.. والتوكل على الله في جميع الأمور.. والاستعانة به في كل شيء.. والإنابة إلى دار الخلود.. والتجافي عن دار الغرور.. والاستعداد للموت قبل نزوله.. وأن يرى السعادة والمنفعة في امتثال أوامر الله.. والشقاء والمضرة في مخالفتها.. ويرى الخير والنجاة في الإيمان والأعمال الصالحة.. ويرى الشر والهلاك في ترك ذلك.. ويرى الفلاح في الدين.. والخسار في خلاف الدين.
والله عليم حكيم يضع الأشياء في مواضعها لكمال علمه وحكمته، فلا بد للعبد من العلم بأمرين:
أحدهما: أن الله وحده تفرد بالخلق والأمر والهداية والإضلال.(9/241)
الثاني: أن ذلك كله وقع منه سبحانه على وجه الحكمة والعدل لا بالاتفاق، ولا بمحض المشيئة المجردة عن وضع الأشياء مواضعها، بل بحكمة اقتضت هدى من عَلِمَ الله أنه يزكو على الهدى ويقبله، ويشكره عليه، ويثمر عنده، وإضلال من عَلِمَ الله أنه لا يزكو على الهدى ولا يقبله، ولا يشكر عليه، ولا يثمر عنده.
فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلاً وميراثاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 124].
ولم يطرد سبحانه عن بابه ولم يبعد من جنابه من يليق به التقريب والهدى والإكرام، بل طرد من لا يليق به إلا الطرد والإبعاد.
فإن قيل: لم خلق من هو بهذه المثابة؟.
قيل: لأن خلق الأضداد والمتقابلات هو من كمال ربوبيته كالليل والنهار، والحر والبرد، والخير والشر، والنعيم والجحيم، والبر والفاجر.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 53].
والله عزَّ وجلَّ أقام الحجة ومكن من أسباب الهداية ببعثة الرسل، وإنزال الكتب، وإعطاء السمع والبصر والعقل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ??) [الإنسان: 2، 3].
والله سبحانه تفضل على بني آدم بأمرين هما أصل السعادة:
أحدهما: أن كل مولود يولد على الفطرة، فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت محبة لله، تعبده لا تشرك به شيئاً، ولكن يفسدها من يزين لها الفساد من شياطين الإنس والجن.
والنفس سعادتها أن تحيا الحياة الطيبة فتعبد الله، ومتى لم تحيا هذه الحياة الطيبة كانت ميتة، وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجباً لعذابها.
قال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2865).(9/242)
الثاني: أن الله تعالى هدى الناس هداية عامة بما جعل فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من الكتب، وبما أرسل إليهم من الرسل.
ففي كل واحد ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له، وقد هداه الله إلى ما ينفعه، وجعل في فطرته محبة ذلك.
والنفس إن علمت الحق وأرادته فذلك من تمام إنعام الله عليها، وإلا فهي بطبعها لا بدَّ لها من مراد معبود غير الله، ومرادات سيئة تركبت من كونها لم تعرف الله ولم تعبده.
قال الله تعالى: (ں ? ? ??? ? ? ہہ? ہ ہ ھ\ھ) [الأعلى: 1-3].
والهداية إلى الصراط المستقيم أغلى شيء في خزائن الله، ولذلك أمرنا الله عزَّ وجلَّ بطلب الهداية منه في كل صلاة، بل في كل ركعة بقوله سبحانه: (ٹ ٹ ٹ?) [الفاتحة: 6].
وقد بين الله مصدر الهداية بقوله: (? ? ? پ پ پ پ ? ??) [البقرة: 2].
وبين مكان الهداية بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [آل عمران: 96].
وبين طريق الحصول على الهداية بقوله: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
وبين لنا أسوة أهل الهداية وهم الأنبياء والرسل بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 90].
وبين لنا أن مالك الهداية هو الله وحده لا شريك له بقوله: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 56].
فالله يهدي من يعلم أنه يصلح للهداية، ويعرف قدرها، ويعمل بها، ويشكر ربه عليها، ويضل من يعلم أنه لا يصلح للهداية، ولا يعرف قدرها، ولا يقوم بواجبها.
فهو سبحانه العليم الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه، ويعطي العطاء لمن هو أهله، ويعلم أنه يستحقه ويقدره: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [القلم: 7].
والهداية بيد الله، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ولكن الله جعلنا سبباً للهداية كما جعل الشمس سبباً للإنارة، ووكلنا بنشر الدين في العالم كما وكل السحب بحمل المياه وتوزيعها في العالم، والله يفعل ما يشاء بقدرته ينزل المطر حيث شاء، وينزل الهداية على من يشاء.(9/243)
وقد تحصل الأسباب وتتأخر النتائج ليعلم العباد أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الأمور كلها بيده، وأنه لا رب سواه، ولا إله غيره، وأن ما سواه ليس بيده شيء.
فأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم عنده كل أسباب الهداية ولم يهتد؛ لأن عنده العصبية لمحمد لا لدين محمد، وبلال - رضي الله عنه - عنده العصبية لدين محمد لا لمحمد ولذلك قبله الله ولم يقبل أبا طالب، وآسية زوج فرعون عندها كل أسباب الغواية واهتدت، لكمال رغبتها في الدين، وكراهيتها لحياة السلاطين الظالمين.
واليهود عندهم كل أسباب الأمن من الحصون والآلات والأموال فلم تمنعهم، وأتاهم العذاب من حيث لم يحتسبوا.
والنبي صلى الله عليه وسلم عنده كل أسباب الخوف في بيته بمكة، وفي الغار، وفي طريق الهجرة، ومع ذلك لم يخف؛ لأن الله معه، فأنجاه وأعزه وأظهر دينه ومكن له في الأرض، وخذل المعاندين له.
ونصر الله رسوله والمؤمنين معه في بدر مع قلة العدد والعدة.
وخذل المشركين والكفار في بدر مع كثرة العدد والعدة.
فإن قيل: إذا كنا مهتدين فكيف نسأل الله الهداية؟.
فجوابه: أن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم، وما لا نريد فعله تهاوناً وكسلاً مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه كما نريده كذلك، وما نعرف جملته ولا نهتدي إلى تفاصيله فأمر يفوت الحصر، ونحن محتاجون إلى الهداية التامة.
ومن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام، وفوق هذا الإنسان محتاج إلى سؤال الهداية يوم القيامة إلى الصراط المستقيم، الذي هو طريق الجنة، فمن سار عليه في الدنيا، هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى الجنة.
والهدى من الله كثير في الآفاق والأنفس، لكن لا يبصره إلا بصير، ولا يعمل به إلا اليسير.
ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء، ولا يهتدي بها إلا العلماء.(9/244)
والله تبارك وتعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأوضح السبل، وأزاح العلل، ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله.
ووفق من شاء من عباده بمزيد عناية، وأراد سبحانه من نفسه أن يعينه ويوفقه فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله، وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه أن يوفقه، فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله:
إما جزاء منه للعبد على إعراضه عنه، وعدم ذكره وشكره، فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه.
أو لا يشاء له الهداية ابتداء لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية، والله يعلم وأنتم لا تعلمون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 23].
والله سبحانه ذو فضل على العالمين.. خلقنا بمنِّه وكرمه في أحسن تقويم.. وهدانا بإعطاء الحواس الخمس الظاهرة والباطنة.. ثم هدانا بنصب الدلائل الكونية والنفسية الدالة على كمال قدرته وعظمته.. ثم هدانا بإرسال الرسل.. وإنزال الكتب.. وأنعم علينا بآلات العلم من السمع والبصر والعقل.. ثم هدانا أعظم هداية بكشف الحجاب عن الحق والباطل.. فظهر الحق حقاً.. وظهر الباطل باطلاً.. ثم أعاننا ووفقنا للعمل بالحق وترك الباطل.. ثم وفقنا لتعليم الحق والدعوة إليه وأعاننا على ذلك.
فلله المنَّة والفضل، وله الحمد والشكر: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءُ الأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدّ» أخرجه مسلم(1).
وللحصول على الهداية لا بد من الجهد، والجهد في الدين على ثلاثة أقسام:
1- جهد على النفس فقط، وهذا جهد الصالحين.
2- جهد على النفس والقرابة أو العشيرة أو القوم، وهذا جهد المرسلين.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (477)، (478).(9/245)
3- جهد على النفس وعلى عموم البشرية وهذا أعلاها وهو جهد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وهو مطلوب من كل مسلم ومسلمة.
وكل عبد مضطر إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، فعليه أن يطلب الهداية من ربه، فإنه لا نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية.
فمن فاتته فهو إما من المغضوب عليهم، الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به وإما من الضالين الذين عرفوا الحق وضلوا عنه، وهذا الهدى لا يحصل إلا بهدى الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 178].
والصراط المستقيم: أن يفعل العبد في كل وقت ما أُمر به في ذلك الوقت من علم وعمل، ويجتنب ما نهي عنه، فهو محتاج لحصول ذلك له إلى طلب الهداية في كل وقت، والحاجة إلى الهدى أعظم من الحاجة إلى طلب النصر والرزق.
وأعظم نعم الله على عباده نعمة الهداية إلى الدين، والذي يستخدمه الله لدينه والدعوة إليه، هو الذي لم تبق عنده أي عاطفة غير عاطفة الهداية، فلا تكون عاطفته الكبرى إلا للدين وهداية الناس، ولكن هذه العاطفة لا تأتي إلا بالتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله.
وكمال التضحية من أجل الدين يتم بسبعة أمور:
التضحية بالنفس.. والأهل.. والوقت.. والمال.. والجاه.. والدار.. والشهوات.. كما فعل ذلك الأنبياء والصحابة.
فمن ضحى بكل ذلك من أجل الدين هداه الله وجعله سبباً لهداية الناس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
ومن رحمة الله بعباده ولطفه بهم أن جعل طرق الهداية كثيرة متنوعة، لتفاوت عقول الناس وأذهانهم وبصائرهم.
فمنهم من يهتدي فوراً بنفس ما جاء به وما دعا إليه الرسول أو الداعي من غير أن يطلب منه برهاناً خارجاً عن ذلك، كحال الكُمَّل من الصحابة كالصديق - رضي الله عنه -.(9/246)
ومنهم من يهتدي بمعرفته بحال الرسول أو الداعي، وما فطر عليه من كمال الأخلاق والأوصاف والأفعال، وأن عادة الله ألا يخزي من قامت به تلك الأوصاف كما قالت خديجة رضي الله عنها للرسول صلى الله عليه وسلم حين قال لها: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي». فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلا وَا? مَا يُخْزِيكَ اللهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. متفق عليه (1).
وهذه المقامات من الإيمان عجز عنها أكثر الخلق فاحتاجوا إلى الخوارق والآيات المشهودة بالحس فآمن كثير منهم عليها، وأضعف الناس إيماناً من كان إيمانه صادراً عن المظهر أو النصر، وأضعف من هؤلاء إيماناً من إيمانه إيمان العادة والمنشأ فهذا دين العوائد، وهو أضعف شيء.
وخواص الأمة ولبابها لما شهدت عقولهم حسن هذا الدين وكماله وجلالته، وشهدت قبح ما خالفه ونقصه، خالط الإيمان به ومحبته بشاشة قلوبهم، وهذا الضرب من الناس هم الذين استقرت أقدامهم على الإيمان، وهم أبعد الناس عن الارتداد عنه، وأحقهم بالثبات عليه إلى يوم لقاء الله.
والأمانة التي أبت السموات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، هي أمانة الهداية والمعرفة، والإيمان بالله عن قصد وإرادة، وجهد واتجاه.
فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به، والاهتداء إليه، ومعرفته وعبادته وطاعته، بغير جهد منه، ولا قصد، ولا إرادة، ولا اتجاه.
والإنسان وحده هو الذي وكله الله إلى فطرته، وإلى عقله، وإلى معرفته، وإلى إرادته، وإلى إتجاهه، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله بعون من الله.
وهذه أمانة حملها، وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 72].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3) واللفظ له، ومسلم برقم (160).(9/247)
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 58].
والهداية: هي العلم بالحق مع قصده، وإيثاره على غيره، فالمهتدي هو العامل بالحق المريد له، والهداية أعظم نعم الله على العبد، ومن أجل هذا أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نسأله الهداية إلى الصراط المستقيم كل يوم وليلة في صلواتنا الخمس والنوافل.
فالعبد محتاج إلى معرفة الحق الذي يرضي الله في كل حركة ظاهرة وباطنة، فإذا عرفه فهو محتاج إلى من يلهمه قصد الحق، فيجعل إرادته في قلبه، ثم إلى من يقدره ويعينه على فعله.
ومعلوم أن ما يجهله العبد أضعاف ما يعلمه، وأن كل ما يعلمه أنه حق لا تطاوعه نفسه على إرادته، ولولا إرادته لعجز عن كثير منه، فهو مضطر كل وقت إلى هداية تتعلق بالماضي والحال والمستقبل.
أما الماضي: فهو محتاج إلى محاسبة نفسه عليه، إن كان محسناً شكر الله عليه، وإن كان مسيئاً فيتوب إلى الله منه ويستغفره.
وأما الهداية في الحال: فهي مطلوبة منه، فإنه ابن وقته، فيحتاج أن يعلم ما هو متلبس به من الأفعال هل هو صواب؟ أم خطأ؟.
وأما المستقبل: فحاجته إلى الهداية منه أظهر، ليكون سيره على الطريق الصحيح.
ومن أحاط علماً بحقيقة الهداية وحاجة العبد إليها، علم أن الذي لم يحصل له منها أضعاف ما حصل له، وأنه في كل وقت محتاج إلى هداية متجددة لا سيما والله تعالى خالق أفعال القلوب والجوارح، فالإنسان كل وقت محتاج إلى أن يخلق الله له هداية خاصة، وصرف الموانع التي تمنع موجب الهداية.
فالوساوس والخواطر وشهوات الغي في قلبه كل منها مانع من وصول أثر الهداية إليه، فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدىً تاماً.
وحاجة العبد إلى هداية الله له مقرونة بأنفاسه، وهي أعظم حاجة للعبد.
والهداية لها أربع مراتب:
المرتبة الأولى: الهداية العامة، وهي هداية كل مخلوق من الحيوان والآدمي إلى مصالحه التي يقوم بها أمره كما قال سبحانه: (ں ? ? ??? ? ? ہہ? ہ ہ ھھ) [الأعلى: 1-3].(9/248)
وحين قال فرعون لموسى: من ربكما يا موسى؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 50].
فخلق الله المخلوقات ثم هداها إلى ما خلقت له من الأعمال، فخلق الشمس وهداها للإنارة، والأرض للإنبات، وخلق الرجلين وهداهما للمشي، وخلق العينين وهداهما للإبصار، وخلق الأذنين وهداهما للسمع، وخلق اللسان وهداه للكلام.. وهكذا..
المرتبة الثانية: هداية البيان والدلالة والإرشاد إلى الحق، وهي التي أقام الله بها الحجة على العباد، وأرسل بها رسله، وأمر بها عباده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 17].
وقال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : (ٹ ? ? ? ??) [الشورى: 52].
وهذه لا تستلزم الهداية التامة.
المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام، وهي الموجبة للاهتداء كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 56].
المرتبة الرابعة: الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار، كما قال سبحانه عن أهل الجنة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 43].
وقال سبحانه عن أهل النار: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الصافات: 22].
وأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً، وأفرض الجهاد: جهاد النفس.. وجهاد الهوى.. وجهاد الشيطان.. وجهاد الدنيا.
فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك هذا الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد.
ولا يتمكن العبد من جهاد عدوه في الظاهر إلا إذا جاهد هذه الأعداء في الباطن، فمن نُصر عليها نُصر على عدوه، ومن نُصرت عليه نُصر عليه عدوه.
وقد علق سبحانه الهداية بالجهاد الذي لا ينقطع كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].(9/249)
والواجب على الأمة ووظيفتها دعوة الناس إلى الله، وتعليمهم أحكام دينهم، ولكن لا يلزم من ذلك حصول الهداية، فإن ذلك وغيره بيد الله، ولا يلزم من العلم بكون الشيء سبباً لمصلحة العبد وسروره أن يقبله، أو يستجيب له، فقد يمنعه مانع من قبوله والعمل بمقتضاه وذلك لأسباب كثيرة، فللهداية موانع أهمها:
الأول: ضعف معرفة العبد وقلة إدراكه.
الثاني: عدم الأهلية، فقد يعرف الإنسان الشيء، لكن المحل غير قابل للتزكية، فإذا كان القلب قاسياً حجرياً لا يقبل التزكية ولا تؤثر فيه النصائح أو كان مريضاً لم ينتفع بكل علم يعلمه.
الثالث: محبة الأهل والعشيرة، فيرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم، وأخرجوه من بين أظهرهم، وهذا سبب بقاء كثير من الخلق على الكفر بين قومهم وأهلهم.
الرابع: محبة الدار والوطن، فيرى أن في دخوله في الإسلام خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة.
الخامس: من تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراءً وطعناً على آبائه وأجداده وذماً لهم، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام.
السادس: متابعة من يعاديه من الناس للرسول، وسبقه إلى الدخول في دينه، فتحمله هذه العداوة له على معاداة الحق وأهله، وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار، فلما أسلم الأنصار حملتهم معاداتهم لهم على البقاء على كفرهم.
السابع: قيام مانع وهو إما حسد أو كبر، وهو داء الأولين والآخرين، وهو الذي منع إبليس من الانقياد للأمر، وهو الذي منع اليهود ومنع أبا جهل وعبد الله بن أبي من الإسلام، فهؤلاء لم يرتابوا في صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن حملهم الكبر والحسد على الكفر به.
الثامن: مانع الرياسة والملك، فقد لا يكون في قلبه حسد ولا كبر، ولكن يضن بملكه ورياسته كحال هرقل، وملك القبط، وهو داء فرعون.(9/250)
التاسع: مانع الشهوة والمال، وهو الذي منع كثيراً من أهل الكتاب وغيرهم من الإيمان خوفاً من ذهاب أموالهم ومآكلهم التي تصير إليهم من قومهم، كالأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.
العاشر: مانع الإلف والعادة والمنشأ، فإن العادة قد تقوى حتى تغلب على حكم الطبيعة، فيتربى على شيء، ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه وأن يسكنه مكانها فيعسر عليه الانتقال عنه، وهذا هو الغالب على الأمم.
والدعوة إلى الله أقوى سبب لحصول الهداية، فكما نجتهد لكسب المعاش كذلك علينا أن نجتهد لكسب الإيمان، وقد خلقنا الله في دار الأسباب، فجعل الماء سبباً للإرواء، والطعام سبباً للشبع، فكذلك جعل سبحانه الدعوة سبباً لحصول الهداية للداعي والمدعو.
ولكن سببية إرواء الماء ليست يقينية فقد يروي وقد لا يروي، ولكن محال أن يجتهد الإنسان جهد الدعوة ولا تحصل له الهداية، والهداية: هي لزوم الصراط المستقيم، والتأثر من الله وعدم التأثر من غيره، فنعتقد أن المخلوقات كلها صغيرها وكبيرها من النملة حتى جبريل لا تنفع ولا تضر إلا بأمر الله وإذنه وإرادته.
وكما أن النملة لا طاقة لها إلا بأمر الله، فكذلك جبريل لا قوة له إلا بأمر الله.
وقوة فكر الهداية للأمة ثمرة قوة الإيمان، فكلما كان الإيمان قوياً كانت أعمال الدين من عبادة ودعوة قوية.
فإذا زاد الإيمان زادت العبادات وقويت.
وإذا زاد الإيمان تفكرت جميع الأمة لهداية كل فرد من الأمة، فإن نقص تفكرت الأمة للأمة بوجه عام.
فإن نقص تفكر الفرد وحده لهداية الأمة.
فإن نقص لم يتفكر الفرد أو الأمة لهداية الفرد أو الأمة.
وهذه أدنى الدرجات، والأولى أعلاها، وعليها كان الصحابة رضي الله عنهم.(9/251)
وأوسع الخلق فكراً في الهداية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان فكره يدور على ثماني دوائر، فكان يفكر ويسعى في هداية نفسه.. وأهله.. وعشيرته.. وقومه.. وقريته.. وما حولها.. والناس.. والعالم.
ففكره لنفسه وأهله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التحريم: 6].
وفكره لعشيرته كما قال سبحانه: (? ? ??) [الشعراء: 214].
وفكره لقومه كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 3].
وفكره للناس وفكره لقريته وما حولها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الأنعام: 92].
كما قال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [سبأ: 28].
وفكره للعالم كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گگ) [الأنبياء: 107].
وحتى يأتي فينا فكر الرسول صلى الله عليه وسلم وأعماله، لا بدَّ أن نفكر دائماً في كل وقت في هداية أنفسنا.. وأهلنا.. وعشيرتنا.. وقومنا.. وقريتنا.. ومملكتنا.. والناس.. والعالم.. ونقوم بالدعوة.. وندعو الله لنا ولغيرنا بالهداية.
وهذا كما أنه وظيفتنا ومسؤوليتنا فبه يزيد إيماننا، وتزداد أعمالنا، ويزيد أجرنا وثوابنا، وبه تكون عزتنا ونصرتنا: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
فهذه الثمانية تبدأ بالنفس، وتنتهي بالعالم، وعلى قدر النية يكون الثواب والأجر، فإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
وحتى يزداد الفكر والهم والعمل لا ننظر كم عملنا؟ بل ننظر كم لم نعمل مما نستطيع؟.
ولا ننظر كم قام بالدعوة والتعليم والعبادة؟. بل ننظر كم لم يقم بذلك من الناس؟.
ولا ننظر كم اهتدى؟، بل ننظر كم لم يهتدِ؟ كم لم يتب؟.(9/252)
وحتى يقبلنا الله ويستخدمنا لدينه لا بدَّ أن نخرج من مراد النفوس إلى مراد الملك القدوس.. ومن دائرة الأقوال إلى دائرة الأعمال.. ومن اليقين على المخلوق إلى اليقين على الخالق.. ومن العادات والتقاليد إلى السنن والآداب الإسلامية.. ومن حب الأموال والأشياء إلى حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. وحب الإيمان والأعمال الصالحة.. ومن جهد الدنيا إلى جهد الدين وجهد المرسلين.. ومن الدعوة إلى الأموال والأشياء إلى الدعوة إلى الإيمان والأعمال.
وإذا تغير الفكر، تغير العمل، وتغيرت النتائج: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 19،20].
والهداية درجات:
وأعلاها أن يكون الإنسان معرضاً عما سوى الله، مقبلاً بكليته على ربه ممتثلاً لجميع أوامره، راضياً بقدره، مؤمناً به، مستسلماً له، مقبلاً بكلية قلبه وبدنه وفكره على ربه، بحيث يصير لو أمر بذبح ولده لأطاع كما فعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم بابنه إسماعيل.
ولو أمر بأن ينقاد ليذبحه غيره لأطاع كما فعل إسماعيل صلى الله عليه وسلم ، ولو أمر بأن يصبر على القتل والشق نصفين في سبيل الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأطاع كما فعل يحيى وزكريا عليهما الصلاة والسلام.
ويصبر على الإحراق بالنار في سبيل إعلاء كلمة الله كما فعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم .
وهذه مقامات الأنبياء، وهي مقامات عظيمة، وأكثر الناس لا طاقة لهم بذلك، ولا ما دون ذلك، وذلك بسبب ضعف إيمانهم ويقينهم.
ومن اجتهد لإعلاء كلمة الله هداه الله، وهدى به الناس، وبقدر الجهد تنزل الهداية، وإذا قل الجهد أو عدم خرجت الهداية أو ضعفت وقلَّت، فتخرج الهداية أولاً من المعاملات، من التجارة، من المعاشرات، فيتعامل الناس ويتعاشرون بطريقة اليهود والنصارى، ويكتسبون كذلك.(9/253)
ثم تخرج الهداية من العبادات، ثم ينتهي الدين تدريجياً، فلا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، ويتلى ولكن لا يعمل به، وتظهر في الأمة سنن اليهود والنصارى، وتختفي سنن الدين وأحكامه، ولا يثبت على الإسلام إلا طائفة، من الغرباء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الإِسْلامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا» أخرجه مسلم(1).
فإذا جاء جهد الدعوة إلى الله جاءت الهداية أولاً إلى العبادات، ثم ظهرت في المعاملات، ثم ظهرت في شعب الحياة عامة.
وبمقدار جهدنا للدين تأتي الهداية من الله للمسلمين والكفار.
وجهد الأنبياء قسمان:
جهد على الكفار.. وجهد على الأصحاب.
فموسى صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى فرعون، وإلى بني إسرائيل، والدعوة لأنفسنا أولاً، ولكن لكثرة الطلبات الإنسان يغفل وينسى نفسه، ويدعو غيره، فلا يترقى في العمل، فالدعوة للداعي.. والأمر بالمعروف للآمر كما أن التجارة للتاجر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 6].
وبقوة الدعوة والمجاهدة يزيد إيماننا.. وتقوى عباداتنا.. وتصلح معاملاتنا.. وتحسن معاشراتنا وأخلاقنا.. وتنزل الهداية علينا وعلى غيرنا.
ومن رحمة الله أن كل شيء تكون حاجة الناس إليه أشد يكون الحصول عليه سهلاً كالماء والهواء والطعام.
وكذلك البشرية أحوج ما تكون إلى الدعوة إلى الله، ولذلك جعلها الله أسهل شيء في الدين، يستطيعها كل مسلم، أما الأحكام ففيها صعوبة خص الله بها من شاء من العلماء والفقهاء.
فبالدعوة تنزل الهداية، وبالتعليم يصح العمل، وتزول البدع، وبالعبادة تزكو النفوس، وتستقيم على أوامر الله.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (146).(9/254)
وقد سمى الله عزَّ وجلَّ العلم الذي بعث الله به رسوله نوراً وهدى وحياة، وجعله روحاً؛ لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح، ونوراً لما يحصل به من الهدى والرشاد: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الأنعام: 122].
والنور ظاهر وباطن:
فإذا حل النور بظاهر الجسم كساه من الجمال والجلال والمهابة والحسن بحسب ما كسي من النور.
وإذا حل النور بالباطن اكتسى من الخير والعلم والرحمة والهداية وحسن الخلق بحسب ذلك النور.
ولما كان ليوسف الصديق صلى الله عليه وسلم من هذا النور النصيب الوافر ظهر في جماله الظاهر والباطن.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم له من هذا النور أكمل نصيب، فهو أجمل الخلق ظاهراً وباطناً، فكان وجهه يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر، وكان كلامه كله نوراً، وعمله نوراً، ومدخله نوراً، ومخرجه نوراً، فكان أكمل الخلق في نور الظاهر والباطن.
والأنبياء والصحابة لما ضحوا بأموالهم وأنفسهم وأوقاتهم، وتركوا أهلهم وديارهم من أجل إعلاء كلمة الله انتشرت الهداية بين الناس.
والهداية لا تحصل إلا ببذل الجهد من أجل الدين، والفلاح لا يحصل إلا بركوب قطار الإيمان والأعمال الصالحة.
فمن أراد مكة فليركب في السيارة التي تذهب إلى مكة ولا ينزل منها، أما أن يركب إلى الشام وهو يريد مكة فهذا لا يصل إليها أبداً.
وهكذا الإنسان بالإيمان والأعمال الصالحة يصل إلى الجنة، أما أن يركب الكفر والمعاصي والكبائر ويستبدلها بأوامر الله، فهذا لا يصل إلى الجنة أبداً، ومن سلكها فإنما توصله إلى النار.
ولا تحصل الهداية إلا ببذل الجهد ابتغاء مرضاة الله، وإذا جاءت الهداية جاء الإيمان، وإذا جاء الإيمان سهل على العبد امتثال أوامر الله ورسوله، وإذا امتثلنا أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنا، وإذا رضي الله عنا أسعدنا في الدنيا، وأدخلنا الجنة في الآخرة.
والواجب على كل مسلم أمران:(9/255)
أن تكون حياته كحياة النبي.. وأن يكون جهده كجهد النبي صلى الله عليه وسلم .
فعلينا أن نجعل حياتنا كحياة النبي صلى الله عليه وسلم صورة وسريرة، قلباً وقالباً، فمن اتصف بصفات النبي صلى الله عليه وسلم يجعله الله سبباً لهداية البشرية، ومن جعل بيته كبيت النبي صلى الله عليه وسلم جعل الله بيته سبباً لهداية البشرية.
وعلينا أن نقوم بجهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونصح الخلق، والجهاد في سبيل الله فالمطلوب من كل مسلم: حياة النبي.. وجهد النبي.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
وإذا قمنا بالدعوة إلى الله نزلت الهداية علينا وعلى غيرنا من العصاة والكفار.. وزاد إيماننا.. وزادت أعمالنا.. وصلحت أحوالنا.. وزال الباطل من حولنا.
وليست مسؤوليتنا أن نكسر الباطل، بل ذلك على الله سبحانه كما قال سبحانه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [الأنبياء: 18].
لكن علينا امتثال أوامر الله في كل حال، وطاعة الله ورسوله، وإعداد ما نستطيع من قوة، وفعل ما نستطيع، والله يفعل ما يريد، ومن سنته نصر أوليائه.. وخذلان أعدائه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [التوبة: 14].
والله تبارك وتعالى هو الهادي وحده، وهو كما هدى المؤمنين قادر على هداية الضالين كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [الأنعام: 149].
ولكن حكمته سبحانه اقتضت إبقاءهم على ضلالهم عدلاً منه تعالى، وليس ظلماً؛ لأن إعطاء الإيمان والهدى محض فضله، فإذا منعه أحداً لم يعد ظالماً، لا سيما إذا كان المحل غير قابل للنعم.(9/256)
والله عزَّ وجلَّ لا يعطي نعمة الهداية إلا على قدر طلب العبد وجهده، والأنبياء بعثهم الله ليجتهدوا على عباد الله ليأتي فيهم طلب الهداية من الله، وإذا كان جهدنا لله فإن الله يفتح لنا أبواب الهداية، وإذا كان جهدنا لغير الله فإن الله لا يفتح أبواب الهداية أمامنا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
أما الدنيا فإن الله يعطيها الطالب وغير الطالب، والمجتهد وغير المجتهد.
والهداية لها بداية وليس لها نهاية، فكل باب من الهداية وراءه باب آخر، وهكذا تفتح أبواب الهداية حسب الجهد حتى الموت.
والله سبحانه جعل في سنن محمد صلى الله عليه وسلم نور الهدى، وبسبب هذا النور يهتدي الناس إلى الصراط المستقيم، فإذا فقد هذا النور عاش الناس في الظلمات.
فكما أن الإنسان والحيوان والسيارة كل يمشي بسلام بحسب النور الذي عنده، فكذلك المسلم يعيش ويمشي بحسب نور الهداية الذي عنده، فإن لم يكن عنده هذا النور اضطربت حياته، واصطدم مع غيره بسبب فقد النور كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الأنعام: 122].
وللمحافظة على هذا النور لا بدَّ للعبد من بيئة صالحة يزيد فيها إيمانه، وتقوى أعماله، وتتحسن فيها أخلاقه، وتأتي في حياته السنن والآداب الشرعية، وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بلزوم هذا البيئة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?چ) [التوبة: 119].
فالذي يحضر مجالس الذكر والإيمان يكرمه الله بعشر كرامات:
فعلى أهل مجالس الذكر تنزل السكينة.. وتغشاهم الرحمة.. وتحفهم الملائكة.. ويذكرهم الله فيمن عنده.. ويناديهم مناد انصرفوا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات.. ويوقظهم الله من سنة الغفلة.. وتستضيء قلوبهم وتشرق حتى ترى معالم قدرة الله.. ويعطيهم الله القوة لضبط نفوسهم من الانزلاق في طريق النقائص والرذيلة.. ويحبهم الله عزَّ وجلَّ.(9/257)
والناس في الهدى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أقسام:
الأول: مَنْ قَبِل الإسلام ظاهراً وباطناً، وهم الأئمة الذين عقلوا عن الله كتابه، وفهموا مراده، فعملوا به، وبلغوه إلى الأمة.
فهؤلاء كالأرض التي قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فرعى الناس فيه، ودونهم من حفظه وضبطه، وأداه لغيره، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس، فوردوه وشربوا منه.
الثاني: من رده ظاهراً وباطناً وكفر به، وهؤلاء نوعان:
السادة.. وأتباعهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ ا?، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى ا? الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه(1).
الثالث: مَنْ قَبٍل الهدى ظاهراً وكفر به باطناً، وهؤلاء هم المنافقون، وهؤلاء نوعان: من أبصر ثم عمي، وأقر ثم أنكر، وأتباعهم من المقلدين، وهؤلاء أخطر من الكفار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المنافقون: 3].
الرابع: من آمن به باطناً وكتمه ظاهراً، وهم الذين آمنوا بمكة الذين قال الله عنهم: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [الفتح: 25].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (79) واللفظ له، ومسلم برقم (2282).(9/258)
ومنهم النجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه.
والله عزَّ وجلَّ أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة التوحيد فتثمر بالحمد والشكر، من المحل الذي لا يصلح لغرسها، فلو غُرست فيه لم تثمر، فكان غرسها هناك ضائعاً لا يليق بالحكمة، فهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته، وهو أعلم بالشاكرين.
فأعطى سبحانه هذا.. ومنع هذا.. لحكمة يعلمها ولا نعلمها: (? ? ? ? ? ? ? ں) [العنكبوت: 10].
فهو سبحانه ما أعطى إلا بحكمة.. ولا منع إلا بحكمة.. ولا هدى إلا بحكمة ولا أضل إلا بحكمة.. وما عمرت الدنيا والآخرة والجنة والنار إلا بحكمته: (? ? ? ?چ) [التين: 8].
والله عزَّ وجلَّ ما عدل عن موجب العدل والإحسان في هداية من هدى، وإضلال من ضل، ولم يطرد عن بابه، ولم يبعد عن جنابه من يليق به التقريب والهدى والإكرام.
بل طرد من لا يليق به إلا الطرد والإبعاد، وحكمته وحمده تأبى تقريبه وإكرامه، وجعله من أهله وخاصته وأوليائه.
ولو علم سبحانه في الكفار خيراً وقبولاً لنعمة الإيمان، وشكراً له عليها، ومحبة له، واعترافاً بها، لهداهم إلى الإيمان.
ولهذا لما قالوا للمؤمنين: (پ پ پ پ ? ? ?) [الأنعام: 53].
أجابهم بقوله: ( ? ? ? ??) [الأنعام: 53].
وهم الذين يعرفون قدر نعمة الإيمان ويشكرون الله عليها.
فالله عزَّ وجلَّ أعلم بمواقع الفضل، ومحال العطاء، ومحال الحرمان، فبحمده وحكمته أعطى وهدى، وبحمده وحكمته منع وأضل.
فمن رده المنع إلى الافتقار إلى الله، والتذلل له، وتملقه، انقلب المنع في حقه عطاءً، ومن شغله عطاؤه: وقطعه عنه انقلب العطاء في حقه منعاً، فمن أعطاه الله فمحله قابل للعطاء، ومن منعه فلأن محله غير قابل للعطاء، وليس معه إناء يوضع فيه العطاء، ومن جاء بغير إناء رجع بالحرمان، ولا يلومن إلا نفسه.(9/259)
والهادي هو الله تبارك وتعالى.. وكتابه هو الهدى الذي يهدي به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .. والمهتدي هو الذي اهتدى بالهدى بإذن الهادي وتوفيقه.
فها هنا ثلاثة أشياء: فاعل.. وقابل.. وآلة.
فالفاعل هو الله سبحانه، والقابل قلب العبد، والآلة هو الذي يحصل به الهدى وهو الكتاب المنزل.
فالمحل القابل: هو قلب العبد المتقي المنيب إلى ربه، فإذا هداه الله فكأنه وصل أثر فعله إلى محل قابل فتأثر به، فصار له هدى وشفاء ورحمة وموعظة.
وإذا لم يكن المحل قابلاً وصل إليه الهدى فلم يؤثر فيه، كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء، فإنه لا يؤثر فيه شيئاً، بل لا يزيده إلا ضعفاً ومرضاً، وهكذا القرآن شفاء للمؤمنين، وخسارة للكافرين كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الإسراء: 82].
فتخلف الاهتداء يكون إما لعدم قبول المحل تارة.. وإما لعدم آلة الهدى تارة.. وإما لعدم فعل الفاعل وهو الهادي تارة.
ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة.
وإذا أعرض العبد عن ربه جازاه بأن يعرض عنه، فلا يمكِّنه من الإقبال عليه كما قال سبحانه: (گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ) [التوبة: 127].
فلما انصرفوا بفعلهم صرف الله قلوبهم عن القرآن وتدبره؛ لأنهم ليسوا أهلاً له، فالمحل غير صالح ولا قابل.
فانصرافهم الأول كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم؛ لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول، فلم ينلهم القبول والإذعان، فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن، فجازاهم على ذلك صرفاً آخر غير الصرف الأول.
كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 5].
فهؤلاء ليس عندهم قابلية للإيمان، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه الإيمان إلى قلوبهم.(9/260)
ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم، وهو الكبر والتولي والإعراض كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 23].
فالأول مانع عن الفهم، والثاني مانع عن الانقياد والإذعان.
وإبليس لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره، وأصر على ذلك، عاقبه الله بإن جعله داعياً إلى كل معصية، فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعياً إلى كل معصية، وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق.
فمن عقاب السيئة السيئة بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
فإن قيل: فالله هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين؟
قيل: هم دائرون بين عدله وحجته عليهم، فمكنهم، وفتح لهم الباب، ونهج لهم الطريق، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ودعاهم على ألسنة رسله، وجعل لهم عقولاً تميز بين الخير والشر، والنافع والضار، وأسباب الشقاء، وأسباب السعادة، وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً.
فآثروا الهوى على التقوى.. واستحبوا العمى على الهدى.. واشتغلوا بالشهوات عن الأوامر.
وقالوا: الشرك أحب إلينا من توحيدك.. ومعصيتك آثر عندنا من طاعتك.. وعبادة سواك أنفع لنا من عبادتك.. فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم، وانصرفت عن طاعته ومحبته، فهذا عدله فيهم، وتلك حجته عليهم.
فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختياراً، فَسَدَّه الله عليهم اضطراراً، وخلاهم وما اختاروا لأنفسهم، وولاهم ما تولوه، وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه، وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه وهم معرضون، إذ لا طارق يطرقه منهم.
فلا أقبح من فعلهم، ولا أحسن من فعله، ولو شاء ربك لَخَلَقهم على غير هذه الصفة.
ولكنه سبحانه حكيم عليم، خلق العلو والسفل، والنور والظلمة، والطيب والخبيث، والنافع والضار، والملائكة والشياطين.
فسبحان الحكيم العليم، وتبارك الله أحسن الخالقين: (? ? ہہ ہ ہ ھھ) [الأعلى: 2،3].(9/261)
والهداية المسؤولة في قوله سبحانه: (ٹ ٹ ٹ?) [الفاتحة: 6].
هي طلب التعريف والبيان والإرشاد، والتوفيق والإلهام.
فكل عبد لا يحصل له الهدى التام المطلوب إلا بعد ستة أمور، وهو محتاج إليها حاجة لا غنى له عنها، وهي:
الأول: معرفة العبد في جميع ما يأتيه ويذره بكونه محبوباً للرب تعالى مرضياً له فيؤثره، وكونه مبغوضاً له مسخوطاً فيجتنبه، فإن نقص من هذا العلم والمعرفة شيء نقص من الهداية التامة بحسبه.
الثاني: أن يكون مريداً لجميع ما يحب الله منه أن يفعله عازماً عليه، ومريداً لترك جميع ما نهى الله عنه، عازماً على تركه بعد خطوره بالبال مفصلاً أو مجملاً، فإن نقص من إرادته لذلك شيء نقص من الهدى التام بحسب ما نقص من الإرادة.
الثالث: أن يكون قائماً به فعلاً وتركاً، فإن نقص من فعله شيء نقص من هداه بحسبه.
فهذه أصول الهداية، ويتبعها ثلاثة أخرى هي من تمامها وكمالها.
أحدها: أمور هدي إليها جملة، ولم يهتد إلى تفاصيلها، فهو محتاج إلى هداية التفصيل فيها.
الثاني: أمور هدي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها، لتكمل له هدايتها.
الثالث: الأمور التي هدي إليها تفصيلاً من جميع وجوهها، فهو محتاج إلى استمرار الهداية والدوام عليها.
ويتعلق بالماضي أمر سابع، وهو أمور وقعت منه على غير جهة الاستقامة، فهو محتاج إلى الهداية ليتداركها بالتوبة منها، وتبديلها بغيرها.
وإذا كانت هذه المراتب حاصلة به بالفعل، فحينئذ يكون سؤاله الهداية سؤال تثبيت ودوام، لكن أنى يحصل على الكمال وما يجهله العبد أضعاف ما يعلمه، وما لم يفعله أضعاف ما فعله؟.
والعبد مفتقر إلى الهداية في كل نفس في جميع ما يأتيه وما يذره أصلاً وتفصيلاً، وعلماً وعملاً، وثباتاً ودواماً إلى الموت، فليس له أنفع ولا هو إلى شيء أحوج من سؤال الهداية.(9/262)
فنسأل الله عزَّ وجلّ َأن يهدينا وجميع المسلمين صراطه المستقيم، وأن يثبت قلوبنا على دينه، والله لا يخيب من سأله ودعاه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 54].
والله سبحانه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وهو أعلم بمن يصلح لدار كرامته، ومن يصلح لدار إهانته، والهدى والإضلال بيد الله وحده لا بيد العبد، والعبد هو الضال أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله سبحانه، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.
والله سبحانه أمر العباد أن يكونوا مع مراده الديني منهم، لا مع مراد أنفسهم، فأهل طاعته آثروا الله ومراده على مرادهم، فاستحقوا كرامته.
وأهل معصيته آثروا مرادهم على مراده، وعلم الله سبحانه أنهم لا يؤثرون مراده البتة، وإنما يؤثرون أهواءهم ومرادهم، فأمرهم ونهاهم، فظهر بأمره ونهيه ما قدره عليهم، فقامت عليهم بالمعصية حجة عدله فعاقبهم بظلمهم.
فإن قيل: كيف تقوم حجته عليهم وقد منعهم من الهدى وحال بينهم وبينه؟.
قيل: حجته سبحانه قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عياناً، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهراً وباطناً، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب.
ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل، أو صغر سن، أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله، فإنه لا يعذب حتى يقيم عليه حجته.
فلم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه.
وهو سبحانه وإن قطع عنهم توفيقه، ولم يرد من نفسه إعانتهم، والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه، فهذا غير مقدور لهم، وهو الذي منعوه، وحيل بينهم وبينه.
والهداية إلى الصراط المستقيم والتوفيق لذلك بيد الله وحده كما قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [سبأ: 50].
والناس قسمان:(9/263)
حي قابل للانتفاع، يقبل الإنذار، وينتفع به.
وميت لا يقبل الإنذار، ولا ينتفع به؛ لأن أرضه غير زاكية، ولا قابلة لخير البتة، فيحق عليه القول بالعذاب، وتكون عقوبته بعد قيام الحجة عليه، لا بمجرد كونه غير قابل للهدى والإيمان، بل لأنه غير قابل ولا فاعل.
فلما أرسل الله إليه رسوله فأمره ونهاه، فعصى الرسول بكونه غير قابل للهدى، فعوقب بكونه غير فاعل، فحق عليه القول أنه لا يؤمن ولو جاءه الرسول كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 33].
ومن آمن بالله فقد اهتدى، ومن لم يؤمن بالله فهو المشاق للحق المعادي للهدى، فالمؤمن وحده المهتدي، ولا عليه من شقاق من لا يهتدي ولا يؤمن، ولا عليه من كيده ومكره، ولا عليه من جدله ومعارضته، فالله سيتولاهم عنه، وهو كافيه وحسبه: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ??) [البقرة: 137].
وليس في الحياة إلا اتجاهان اثنان:
إما الدخول في السلم كافة.. وإما اتباع خطوات الشيطان.. إما هدى.. وإما ضلال.. إما إسلام.. وإما جاهلية.
فمن لا يدخل في السلم بكليته، ولا يسلم نفسه لربه وشريعته، فهو لا شك داخل في حلف الشيطان، سائر على خطوات الشيطان، وقد دعا الله عباده المؤمنين إلى الدخول في السلم كافة، وحذرهم من اتباع خطوات الشيطان بقوله: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 208].
وليس من سنة الله أن يغفر للكفار الذين يصدون عن سبيل الله بعدما ضلوا ضلالاً بعيداً، وقطعوا على أنفسهم كل طريق للمغفرة.
وليس من شأن الله أن يهديهم طريقاً إلا طريق جهنم، وقد قطعوا على أنفسهم كل طريق للهدى، وصرفوا أنفسهم عن كل طريق إلا طريق جهنم، فأبعدوا فيه وأوغلوا، واستحقوا الخلود المؤبد في جهنم بإصرارهم على الكفر والضلال، والظلم والصد عن سبيل الله، بحيث لا يرجى لهم بعد هذا الإصرار والإبعاد مآب: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 168،169].(9/264)
وسنة الله سبحانه أن يهدي من يجاهد ليبلغ الهدى، وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ?? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ??) [الشمس: 7-10].
وأما من لا يتجه إلى الهدى ولا يطلبه فإن الله لا يهديه، ومن عطل أجهزته الفطرية ابتداءً جعل الله بينهم وبين الهدى حجاباً، فكل شيء بأمر الله، ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد، ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقراً أن يسمعوه.
والهداية بيد الله عزَّ وجلَّ، ولكنها تجيء في موعدها، لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب, ولا أن المجرمين الضالين يؤذون الطيبين.
ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته وشهواته، إنما يرغب في هداية قومه حباً في هدايتهم، ويئس على ما هم فيه من ضلال وشقوة، وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والآخرة، لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله.
فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه، فلنزول المطر أسباب وأوقات، ولنزول الهداية أسباب وأوقات، ولا يعلم ذلك إلا الله وحده، ولا مبدل لكلماته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 35].
فهدى الناس لا يتوقف على أن تأتيهم بآية، فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول، فلو شاء الله لجمعهم على الهدى: إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى كالملائكة، وإما بتوجيه قلوبهم، وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه، وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم، أو بغير ذلك، وكلها يقدر الله عليها.
ولكنه سبحانه لحكمته خلق الإنسان لوظيفة معينة، وأعطاه استعدادات مختلفة يستقبل بها دلائل الهدى، وموجبات الإيمان.(9/265)
ولذلك لم يجمع الله الناس على الهدى بأمر تكويني من عنده، ولكنه أمرهم بالهدى، وترك لهم اختيار الإيمان والطاعات، أو الكفر والمعاصي، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف.
والناس في استقبال الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فريقان:
فريق حي وأجهزة الاستقبال فيه حية عاملة مفتوحة، وهؤلاء يستجيبون للهدى، فهو عندها من القوة والوضوح بحيث يكفي أن تسمعه وتستجيب له فوراً.
وفريق ميت معطل الفطرة، لا يسمع ولا يستقبل، ومن ثم لا يتأثر ولا يستجيب، ليس الذي ينقصه أن هذا الحق لا يحمل دليله، فدليله كامن فيه، إنما الذي ينقص هذا الفريق من الناس هو حياة الفطرة، وقيام أجهزة الاستقبال فيها بمجرد التلقي.
وهؤلاء لا حيلة للرسول فيهم، ولا مجال معهم للبرهان، إنما يتعلق أمرهم بمشيئة الله، إن شاء بعثهم فسمعوا واستجابوا، وإن شاء لم يبعثهم في هذه الدنيا: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [الأنعام: 36].
والله سبحانه هو الهادي، وهدى الله هو الهدى، والإنسان بل البشرية كلها كلما تركت هذا الهدى، أو انحرفت عن شيء منه، أو استبدلت به شيئاً من عند أنفسها، كلما تخبطت في التيه، وركبت الشقاء، وضلت عن سواء السبيل.
وقد وهب الله الإنسان القدرة على التعرف على بعض ما في الكون، وبعض طاقاته وقواه، للانتفاع بها في خلافته في الأرض، وترقية هذه الحياة لنفع البشرية وفق الشرع الإلهي.
لكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على معرفة الحقائق المطلقة في هذا الكون، ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب، ومنها غيب عقله وروحه، بل غيب وظائف جسمه، وما يدفعه للعمل بهذا الانتظام، وهذا الاتجاه.
ومن ثم يحتاج هذا الإنسان إلى هدى الله في كل ما يختص بوجوده وحياته، من عقيدة وخلق، وشعائر وشرائع، تملأ حياته بمنهج ربه وهداه.(9/266)
وكلما فاء هذا الإنسان إلى هدى ربه اهتدى؛ لأن هدى الله هو الهدى كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 71].
وكلما بعد الإنسان كلية عن هداه، أو انحرف بعض الانحراف، واستبدل به شيئاً من عنده ضل، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
لهذا فلا بدَّ لكل إنسان يريد السعادة في الدنيا والآخرة أن يستسلم لرب العالمين، فهو وحده الذي استسلم له العالمون، فالعوالم كلها في العالم العلوي، والعالم السفلي، كلها مستسلمة له، منقادة له، خاضعة له، مطيعة له.
فما الذي يجعل الإنسان يشذ من بين العالمين عن الاستسلام لهذا الرب الذي أسلم له من في السموات ومن في الأرض؟.
والإنسان في تركيبه العضوي مستسلم لربه، فهو مضطر في وجوده وبقائه ورزقه إلى ربه، كما استسلمت لربه كافة المخلوقات فهو الملك: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 83].
فلم يبق للإنسان إلا أن يستسلم في الجانب الذي ترك له الخيار فيه ليبتلى فيه، وهو جانب الاختيار فيه، اختيار الهدى أو الضلال، ولو استسلم فيه استسلام كيانه العضوي لاستقام أمره، وانتظم تكوينه وسلوكه، وسعد جسمه وروحه، وأفلح في دنياه وآخرته.
وكيف لا يستسلم العبد لربه، وهو الذي تحشر إليه الخلائق، فأولى له أن يقدم بين يدي الحشر ما ينجيه، وأن يستسلم له اليوم استسلام العالمين، قبل أن يقف وإياهم أمامه مسؤولين.
وجميع أبواب السعادة في الدنيا والآخرة مقفلة عن جميع البشرية إلا عن أهل الإيمان والتقوى فهي مفتوحة لهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چچ) [فصلت: 30-32].
والله الذي يؤمر الخلق بالاستسلام له، هو الذي خلق السموات والأرض، والذي يخلق يملك ويحكم، فلماذا لا يستجيبون له وهم يعلمون أنه لا شريك له؟.
(ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [النساء: 125].(9/267)
والله سبحانه القادر على كل شيء.. ومشيئته مطلقة في الخلق والإبداع.. وفي التغيير والتبديل.. وفي التصريف والتدبير.. وقوله الحق سواء في القول الذي يقول به للخلق كن فيكون.. أو في القول الذي يأمر به بالاستسلام له وحده.. أو في القول الذي يخبر به عن الماضي والحاضر والمستقبل.. أو القول الذي يخبر به عن الخلق والنشأة.. أو في القول الذي يخبر به عن نفسه وأسمائه وصفاته وأفعاله.
قوله الحق في هذا كله، وهو سبحانه خالق كل شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 73].
فهذا الرب.. وهذا الإله.. وهذا الملك.. وهذا القوي.
أولى أن يستسلم له وحده من يشركون به ما لا ينفع ولا يضر من خلقه، ومن يتبعون قول غيره.
وهو سبحانه عليم بكل شيء، يعلم الغيب المحجوب كما يعلم هذا الكون المشهود، عالم الغيب والشهادة، الذي لا تخفى عليه خافية من أمر العباد، ولا يند عنه شأن من شؤونهم.
فأولى لهم أن يسلموا له، ويعبدوه، ويتقوه.
وهو سبحانه الحكيم الخبير الذي يصرف أمر الكون الذي خلقه، وأمور العباد الذين يملكهم في الدنيا والآخرة بالحكمة والخبرة.
فأولى للعباد أن يسلموا له، ويستسلموا لتوجيهه وشرعه، ويفيئوا إلى هداه وحده، ويخرجوا من التيه والضلال إلى نور الهدى والإيمان: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ ھ ھ ے ے ? ? ??) [لقمان: 22-24].
والله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق الخلق، ولو شاء أن يلزمهم الهدى لألزمهم، ولكنه سبحانه خلق الإنسان بهذا الاستعداد للهدى وللضلال، وتركه يختار طريقه، ويلقى جزاء اختياره في حدود المشيئة المطلقة التي لا يقع في الكون إلا ما تجري به، ولكنها لا ترغم إنساناً على الهدى أو الضلال.
وخلق الله الإنسان على هذا النحو لحكمة يعلمها، وليؤدي دوره في هذا الوجود كما قدره الله له باستعداداته وتصرفاته: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [الأنعام: 149].(9/268)
ولو حشر الله كل شيء في هذا الكون يواجه الناس، ويدعوهم إلى الإيمان، فإنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله، والله سبحانه لم يشأ لبعض الناس؛ لأنهم لا يجاهدون في الله ليهديهم إليه، وهذه هي الحقيقة التي يجهلها أكثر الناس عن طبائع القلوب.
إنه لا ينقص الذين يلجون في الضلال أنه لا توجد أمامهم دلائل وبراهين، إنما الذي ينقصهم آفة في القلب، وعطل في الفطرة، أدى إلى رد الحق.
والهدى جزاء لا يستحقه إلا الذين يتجهون إليه، ويجاهدون في الله من أجل الحصول عليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
والله وحده علام الغيوب، العليم بما في القلوب، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الأنعام: 111].
فالإيمان والكفر.. والهدى والضلال.. لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق.. فالحق هو برهان في ذاته.. وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله، ويطمئن إليه، ويرضخ له.
ولكنها المعوقات الأخرى التي تحول بين القلب والحق، وموجبات الإيمان كامنة في القلب ذاته، وفي الحق كذلك بذاته، فيجب أن تتجه المحاولة إذاً إلى ذلك القلب لعلاجه من آفاته ومعوقاته.
ومشيئة الله سبحانه هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال، فقد اقتضت مشيئة الله أن تبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء.
وجعل الله سبحانه هذا القدر موضع ابتلاء للبشر وامتحان، فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى والتطلع إليه، والرغبة فيه، فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذ بيده ويعينه ويهديه إلى سبيله.
ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى، والصدود عن دلائله وموجباته، فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله، وأن يبعده، وأن ينساه، وأن يدعه يتخبط في الظلمات.
ومرد الأمر كله إلى الله في النهاية: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [الأنعام: 112].(9/269)
فالأمر كله مقيد بمشيئة الله، هو سبحانه الذي شاء ألا يهديهم؛ لأنهم لم يأخذوا بأسباب الهدى، وهو سبحانه الذي شاء أن يدع لهم هذا القدر من الاختيار على سبيل الابتلاء، وهو سبحانه الذي يهديهم إذا جاهدوا للهدى، وهو الذي يضلهم إذا اختاروا الضلال: (? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التكوير: 26-29].
والطائعون والعصاة في قبضة الله سواء، وهم جميعاً تحت قهره وسلطانه سواء، فهم لا يملكون جميعاً أن يحدثوا شيئاً إلا بإذن الله، وفق مشيئته التي جرت بتلك السنن في تصريف العباد، ولكن المؤمنين يطابقون ويجمعون في القدر المتروك لهم للاختيار بين الخضوع القهري، المفروض عليهم في ذوات أنفسهم وفي تكوينهم العضوي، وبين الخضوع الاختياري الذي يلتزمونه بأنفسهم بناء على المعرفة والهدى والاختيار.
وبذلك يعيشون في سلام مع أنفسهم ذاتها؛ لأن الجانب القهري فيها والجانب الاختياري يتبعان ناموساً واحداً ورباً واحداً، فالمؤمنون بالله أعقل العقلاء.
وأما العصاة والكفار فهم مقهورون على اتباع ناموس الله الفطري الذي يقهرهم، ولا يملكون أن يخرجوا عنه في تكوينهم الجسمي، بينما في الجانب الذي ترك لهم الاختيار فيه هم ناشزون على سلطان الله المتمثل في منهجه وشرعه، شاذون عن طاعة الله من بين سائر الخلق.
وهم أشقياء في انفصام شخصيتهم، وهم بعد هذا كله في قبضة الله لا يعجزونه في شيء، ولا يحدثون شيئاً إلا بقدره وإذنه، فالسلطان كله لله، وهم أعجز أن يكون لهم في ذواتهم سلطان، فكيف يكون لهم على المؤمنين سلطان، فلا يؤذون أولياء الله إلا بما شاء الله بإذن الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 102].(9/270)
وحواس بعض الناس وجوارحهم مطموسة الاتصال بعقولهم وقلوبهم، فيسمعون ولا يعقلون ما سمعوا.. وينظرون ولا يميزون ما نظروا.. فهي معطلة لا تؤدي حقيقة وظيفتها، فهؤلاء في النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 179].
والأسماع والأبصار والعقول بيد الله وحده، ولكن الله سن سنة وترك الخلق لمقتضى السنة، وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول ليهتدوا بها، فإذا هم عطلوها حقت عليهم سنته التي لا تتخلف ولا تحابي أحداً، ولقوا جزاءهم عدلاً.
فلا يضيق الداعي إذا كذبه الناس وهو يدعوهم إلى الحق، ولا يتألم من العناد الصفيق بعد تكرار البيان والإعلام، فليس إباؤهم عن تقصير منه في الجهد، ولا قصور فيما معه من الحق.
ولكن هؤلاء كالصم الذين لا يسمعون، والعمي الذين لا يبصرون، وما يفتح العيون والآذان إلا الله، فهو شأن خارج عن طبيعة الدعوة، والداعية داخل في اختصاص الله سبحانه وحده.
فكل عبد من عباد الله لا قدرة له خارج مجال العبودية ولو كان رسولاً، فالأمر كله لله الواحد القهار في الدنيا والآخرة، وفي العالم العلوي وفي العالم السفلي: (? ? ? ? ?) [آل عمران: 154].
والله جل جلاله أعلم بعباده من أنفسهم، فهو الذي يحكم على العباد بأن هذا مهتد وهذا ضال: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [القلم: 7].
وهو سبحانه الهادي الذي أنزل الهدى، وهو صاحب الحق في وزن الناس به، وتقرير من هو المهتدي، ومن هو الضال: (? ? ? ? ? ? ? ??) [النجم: 32].
والهداية إلى الإيمان نعمة كبرى بل هي أجل النعم، لا يعرفها إلا من ذاقها، فهي تنشئ في القلب حياة بعد الموت، وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات.(9/271)
حياة يعيد بها تذوق كل شيء، وتصور كل شيء، بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة، ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته جديداً كما لم يبدُ من قبل قطّ لذلك القلب الحي هو الذي نوره الإيمان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الأنعام: 122].
فالقلوب إذا لم يدخلها الإيمان والهدى فهي ميتة مظلمة، فإذا دخل الإيمان في القلوب اهتزت وتحركت بالذكر والعبادة والطاعة لمولاها، فاطمأنت بذكره، وأنست بقربه، وتلذذت بعبادته، وأشرقت أرواح المؤمنين بهذا النور وأضاءت، وفاض منها النور تمشي به في الناس، تهدي الضال، وتلتقط الشارد، وتطمئن الخائف، وتكشف معالم الطريق للبشر، وتحقق مراد الله في أرضه وعباده.
فهل يستوي هذا الحي الذي أنار الله قلبه بالإيمان، بميت جاثم في الظلمات؟.
والهدى والرشاد هما غاية كمال العبد، وبهما سعادته وفلاحه.
والراشد المهدي هو الذي زكت نفسه بالعلم النافع، والعمل الصالح، وهو صاحب الهدى ودين الحق.
والناس في هذا أربعة أقسام:
الأول: مهتد في علمه، راشد في قصده وعمله، وهؤلاء ورثة الأنبياء، وصفوة الله من عباده، وهم وإن كانوا الأقلين عدداً، فهم الأكثرون عند الله قدراً.
الثاني: ضال في علمه، غاو في قصده وعمله، وهؤلاء أشر الخلق، وهم مخالفو الرسل والأنبياء.
الثالث: مهتد في علمه، غاو في قصده وعمله، وهؤلاء هم الأمة الغضبية اليهود، ومن تشبه بهم ممن عرف الحق ولم يعمل به.
الرابع: ضال في علمه، وقصده الخير، لكنه يتعبد على جهل وهو لا يشعر كالنصارى ومن تشبه بهم ممن ضل عن معرفة الحق.
وأكمل الخلق في الهداية والرشد هم الأنبياء، وأكمل الأنبياء في ذلك سيدهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي زكى الله عقله وقلبه ولسانه وكتابه ودينه كما قال سبحانه: (? ? ?? ? پ پ پ پ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [النجم: 1-4].(9/272)
ولا يمكن أن تحصل الهداية لأحد من البشر إلا بالوحي الذي أرسل الله به رسله، فالناس لا يهتدون إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون نصوص الوحي.
وعقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق، فلو وزن عقله بعقولهم لرجحها، وهو قبل الوحي لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [الشورى: 52].
فإذا كان أعقل الخلق على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [سبأ: 50].
فكيف يحصل لمن دونه الاهتداء إلى حقائق الإيمان بالعقل دون الوحي؟.
ونعم الله على العباد كثيرة، وأجلها وأعظمها نعمة الهداية إلى الحق، وواجب العباد الثناء على ربهم المنعم بها، والثناء نوعان:
عام: وهو وصف ربه بالجود والكرم، والبر والإحسان، وسعة العطاء.
والخاص: التحدث بنعمه، والتحدث بنعمه نوعان:
أحدها: التحدث بذكر نعمه المادية من الأرزاق والأولاد والأموال ونحوها، والإخبار بوصولها من جهته.
الثاني: التحدث بنعمه الروحية وهي الدين، بالدعوة إلى الله، وتبليغ دينه، وتعليم الأمة، وكلاهما نعمة مأمور بشكرها والتحدث بها كما قال سبحانه: (? ? ? ??) [الضحى: 11].
إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية التي لا تفنى، فهو موت، وهو انعزال عن الخالق المالك للوجود كله فهو موت، وهو انطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة فهو موت.
والكفر حجاب للروح عن المعرفة والاطلاع فهو ظلمة، وختم على الجوارح والمشاعر فهو ظلمة، وتيه في أودية الضلال فهو ظلمة.
وما الكافر؟.. وما المشرك؟.
إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور.
وكيف تكون حاله إذا نسيه ربه وأعرض عنه؟.
وما هو مصيره إذا قدم على ربه بمعاصيه؟.
ما الذي يمسك به في الظلمات، والنور حوله يفيض؟.(9/273)
الذي يمسك به أن هناك تزييناً للكفر والظلمة، فقد أودع الله في فطرة هذا الإنسان الاستعداد المزدوج لحب النور، وحب الظلام، وابتلاه باختيار الظلمة أو النور.
فإذا اختار الإنسان الظلمة زينت له، ولج في الظلام حتى لا يخرج منه، ثم إن هناك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ويزينون للكافرين ما كانوا يعملون: (ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الأنعام: 122].
والقلب الذي ينقطع عن الحياة والإيمان والنور يسمع في الظلمة للوسوسة، ولا يحس ولا يميز الهدى من الضلال في ذلك الظلام العميق.
والقلب الطيب كالأرض الطيبة، والقلب الخبيث يشبه الأرض الخبيثة، فكلاهما القلب والتربة منبت زرع، ومأتى ثمر.
القلب ينبت نوايا ومشاعر، واتجاهات وعزائم، وأعمالاً بعد ذلك وآثاراً في واقع الحياة.
والأرض تنبت زرعاً وثمراً مختلفاً أكله وألوانه، ومذاقاته وأنواعه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 58].
فالهدى والآيات، والمواعظ والنصائح، تنزل على القلب كما ينزل الماء على التربة، فإن كان القلب طيباً كالبلد الطيب تفتح واستقبل، وزكا وفاض بالخير والبركات، وإن كان القلب فاسداً شريراً كالذي خبث من البلاد والأماكن استغلق وقسا، وفاض بالشر والنكر والفساد، وإخراج الشوك والأذى كما تخرج الأرض النكدة ذلك.
وإذا انحرف الناس عن التوحيد والإيمان أغواهم الشيطان، وزين لهم ما انحرفوا إليه، فصار وليهم الذي يشرف عليهم ويصرفهم.
ولما ضل أهل الجاهلية عن التوحيد وانحرفوا عنه.. وضل أهل الكتاب عما جاءهم من العلم.. وانحرفوا وبدلوا وكتموا.. واختلفوا في دينهم.. أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لينقذ البشرية من الشرك والكفر.. ويبين لهم الحق من الباطل.. ويفصل فيما وقع بينهم من خلاف في عقائدهم وكتبهم.. وليكون هدى ورحمة لمن يؤمنون به: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ???? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 63،64].(9/274)
فوظيفة الكتاب الأخير والرسالة الأخيرة هي الفصل فيما شجر من خلاف بين أصحاب الكتب السابقة وطوائفهم، إذ الأصل هو التوحيد، وعبادة الله وحده لا شريك له.
وكل ما طرأ على التوحيد من شبهات، وكل ما شابه من شرك في صورة من الصور، كله باطل جاء القرآن ليجلوه وينفيه، وليكون هدى ورحمة لمن استعدت قلوبهم للإيمان وتفتحت لتلقيه.
والهداية إلى الإيمان فضل من الله تبارك وتعالى يمن به على من يعلم أنه يشكر عليه ويقوم بحقه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 17].
وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 24].
فهؤلاء علماء بالشرع وطرق الهداية، مهتدون في أنفسهم، يهدون غيرهم بذلك الهدى، فهم في أرفع الدرجات بعد درجة النبوة والرسالة وهي درجة الصديقين.
وإنما نالوا هذه الدرجة العالية بالصبر على التعلم والتعليم، والدعوة إلى الله، والأذى في سبيله، وكف النفس عن المعاصي والاسترسال في الشهوات.
ووصلوا في الإيمان إلى درجة اليقين، وهو العلم التام الموجب للعمل، وإنما وصلوا إلى اليقين؛ لأنهم تعلموا علماً صحيحاً، وأخذوا المسائل من أدلتها المفيدة لليقين.
والهدى فضل من الله على عبده، فمن اهتدى بهدي الله بأن علم الحق وتفهمه وآثره على غيره فلنفسه، والله تعالى غني عن عباده، ومن ضل عن الهدى فإن أعرض عن العلم بالحق أو عن العمل به، فإنما يضل على نفسه، ولا يضر الله شيئاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 108].
والله عزَّ وجلَّ هو الهادي، وهداه في كتابه المنزل، الذي لا طريق يوصل إلى الله إلا منه؛ لأنه لا طريق يوصل إليه إلا توفيقه، والتوفيق منه للإقبال على كتابه، فإذا لم يحصل هذا فلا سبيل إلى الهدى كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [الزمر: 23].(9/275)
والله سبحانه كما يمد الظالمين في ضلالهم، ويزيدهم حباً للضلالة عقوبة لهم على اختيارهم على الهدى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 5].
كذلك يزيد الله المهتدين هداية من فضله عليهم ورحمته، والهدى يشمل العلم النافع والعمل الصالح، فكل من سلك طريقاً في العلم والإيمان والعمل الصالح زاده الله منه، وسهله عليه، ويسره له، ووهب له أموراً أخر لا تدخل تحت كسبه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [مريم: 76].
وللهداية أسباب وعلامات منها:
الإيمان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 54].
بذل الجهد للدين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
الاعتصام بالله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 101].
اتباع ما يحبه الله ويرضاه كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [المائدة:15،16].
الإنابة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الشورى: 13].
الدعاء كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ?) [الفاتحة: 6].
العلم والعمل كما قال سبحانه: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 18].
اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: (? ? ??) [الأعراف: 158].
طاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: (? ? ? ?) [النور: 54].
توفيق الله وعونه كما قال سبحانه: ( ? ? ? ژ ژڑ) [النور: 46].
وللضلالة أسباب وعلامات منها:
عدم الإيمان كما قال سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [النحل: 104].
الشرك كما قال سبحانه: ( گ گ گ گ ? ? ??) [النساء: 116].
الكفر كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ گگ) [المائدة: 67].
الظلم كما قال سبحانه: (گ گ گ گ ? ??) [الأنعام: 144].
الفسق.. كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [التوبة: 80].
عدم إرادة الله هدايته كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [النحل: 37].
الكذب.. كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [الزمر: 3].(9/276)
الإسراف كما قال سبحانه: (گ ? ? ? ? ? ? ??) [غافر: 28].
الزيغ: كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 5].
كثرة المعاصي كما قال سبحانه: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الأحزاب: 36].
عدم الرغبة في الهدى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 17].
وحياة القلب ونوره مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه، فأهل الإيمان في النور وانشراح الصدر، وأهل الضلال في الظلمة وضيق الصدر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأنعام: 125].
ولما كان القلب محل الإيمان والمحبة والعلم والمعرفة، والإنابة والتوكل، وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها.
فإذا أراد الله هداية عبد وسع صدره، وشرحه، فدخلت فيه وسكنته، وإذا أراد ضلاله ضيَّق صدره، وأحرجه، فإذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه، فلا يجد محلاً يدخل فيه، فيعدل عنه ولا يساكنه ويرتاح بذكر غيره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [الزمر: 45].
وكل إناء فارغ إذا أدخل فيه الشيء ضاق به، وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق إلا القلب اللين فكلما أفرغ فيه الإيمان والعلم اتسع وانفسح، وهذا من آيات قدرة الرب تعالى.
فشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وتضييقه من أهم أسباب الضلال، وشرحه من أجل النعم، وتضييقه من أعظم النقم.
فالمؤمن منشرح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها، وإذا قوي إيمانه كان على مكارهها أشرح صدراً منه على شهواتها ومحابها، فإذا بعثه الله يوم القيامة رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه، فشرح الصدر كما أنه سبب الهداية فهو بلا ريب أصل كل نعمة، وأساس كل خير.(9/277)
وسبب شرح الصدر نور يقذفه الله فيه، فإذا دخله ذلك النور اتسع بحسب قوة النور وضعفه، وإذا فقد ذلك النور أظلم وضاق، والله يعطي هذا ويمنع هذا؛ لأنه الحكيم العليم بما في صدور العالمين، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأدرى بمن يشكر نعمته، فكما أنه ليس كل محل أهلاً لتحمُّل الرسالة عنه وأدائها إلى الخلق، فليس كل محل أهلاً لقبولها والتصديق بها.
ومن تدبر أحوال نفسه وأحوال العالم وجد أن كل طمأنينة في النفس، وكل صلاح في الأرض، فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو فسببه الشرك بالله، ومخالفة أوامر الله، ومعصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
فإن الله أصلح الأرض برسوله صلى الله عليه وسلم ودينه، وبالأمر بتوحيده، ونهى عن إفسادها بالشرك به، ومخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 41].
فحسن الشريعة في العقول كحسن الإحسان والإنعام من الرحمن، بل هو أبلغ أنواع الإحسان والإنعام، ولهذا سماه الله نعمة وفضلاً ورحمة.
بل هو أبلغ أنواع الإحسان والإنعام، ولهذا سماه الله نعمة وفضلاً ورحمة.
وأخبر سبحانه أن الفرح به خير من الفرح بالنعم المشتركة بين الأبرار والفجار، وبين الإنسان والحيوان، كما قال سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 58].
وعاب على الكفار تبديلهم نعمة الإيمان بالكفر، وبين أن جزاء من فعل ذلك النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گگ) [إبراهيم: 28،29].
فالناس قسمان:
أحدها: أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا الحق، واتبعوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء هم أصحاب العلم النافع والعمل الصالح، الذين صدقوا الرسول في أخباره ولم يعارضوها بالشبهات، وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات، أضاء لهم نور الوحي المبين فرأوا في نوره أهل الظلمات في الظلمات.(9/278)
الثاني: أهل الجهل والظلم، الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به، والظلم باتباع أهوائهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النجم: 23].
وهؤلاء قسمان:
أحدهما: الذين يحسبون أنهم على علم وهدى، وهم أهل الجهل والضلال، فهؤلاء أهل الجهل المركب الذين يجهلون الحق ويعادونه، ويعادون أهله، وينصرون الباطل، ويوالون أهله، وهم يحسبون أنهم على شيء، وهؤلاء أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وهم الذين قال الله فيهم: (گ گ گ ? ?? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [الكهف: 103،104].
الثاني: أصحاب الظلمات، وهم المنغمسون في الجهل، بحيث أحاط بهم من كل وجه، فهم بمنزلة الأنعام، بل هم أضل سبيلاً، فهم في ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة الظلم، وظلمة الشك، وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله به رسله، قوله ظلمة، وعمله ظلمة، فهو يتقلب في الظلمات: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [النور: 40].
والهدى هو الصراط المستقيم، فمن سلكه أوصله إلى الله كما قال سبحانه: (گ گ ? ? ??) [الحجر: 41].
فالطريق الهدى، والغاية الوصول إلى الله، وهما أشرف الوسائل والغايات ولا يتم للعبد تحصيل مصالح دنياه وآخرته إلا بتوحيد طلبه والمطلوب منه.
والهدى التام يتضمن توحيد المطلوب.. وتوحيد الطلب.. وتوحيد الطريق الموصلة.
فتوحيد المطلوب يعصم من الشرك.. وتوحيد الطلب يعصم من المعصية.. وتوحيد الطريق يعصم من البدعة، والشيطان إنما ينصب فخه بهذه الطرق الثلاثة ليصطاد ابن آدم.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وقنا برحمتك واصرف عنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم إنا نسألك الهدى والسداد وسلوك سبل الرشاد.(9/279)
اللهم إنا نعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلنا، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 8].
9- فقه الابتلاء
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [محمد: 31].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [الكهف: 7].
الله تبارك وتعالى جرت سنته في عباده المؤمنين أن يبتليهم على حسب إيمانهم، فمن ازداد إيمانه زيد في بلائه.
فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة خفف عنه البلاء.
وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء، فقال: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
وعلى حسب إيمان العبد يكون ابتلاؤه، وذلك يتطلب الصبر، والصبر يقوم على ثلاثة أركان:
صبر على طاعة الله، وصبر عن معاصي الله، وصبر على أقدار الله.
ولا يتم ذلك للعبد إلا بمعرفة الجزاء والثواب والعقاب، وذلك لا يكون إلا بعد معرفة الإيمان واليقين على الله، وعدم الالتفات إلى ما سواه، فهو وحده الكافي.
فمن علم الله منه الصدق والعزيمة والرغبة في إرضاء الله أعانه ووفقه واستخدمه، وقَبِل ما بذل من نفس ومال، وما قدم من عمل، وعوضه بخير من ذلك في الدنيا والآخرة.
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي (1956).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (143).(9/280)
فالأنبياء والرسل لما بذلوا أعراضهم في الله لأعدائهم فنالوا منهم وسبّوهم أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم وملائكته، وجعل لهم أطيب الثناء في السماء والأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [الأحزاب: 56].
ويوسف صلى الله عليه وسلم لما احتمل ضيق السجن لله، شكر الله له ذلك بأن مكن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [يوسف: 56].
وسليمان صلى الله عليه وسلم لما عقر الخيل غضباًَ لله إذ شغلته عن ذكره أعاضه الله عنها متن الريح كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [ص: 36].
ولما بذل الشهداء أبدانهم لله حتى مزقها أعداؤه شكر الله لهم ذلك بأن جعلهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأعاضهم عنها طيراً خضراً ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها كما قال سبحانه: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [آل عمران: 169].
ولما ترك الصحابة رضي الله عنهم ديارهم، وخرجوا منها لإعلاء كلمة الله أعاضهم الله عنها أن ملكهم الدنيا، وفتحها عليهم، وجعلهم ملوكها وأمراءها.
ولما بذلوا أموالهم في سبيل الله، أعاضهم الله عنها بأن أنفقت كنوز كسرى وقيصر تحت أقدامهم وبين أيديهم.
ولما صبروا على غضب أعداء الله وشدة بطشهم أعاضهم الله بأن رضي عنهم ورضوا عنه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
ولما تحملوا الخوف والمرض والجوع من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه أعاضهم الله بالأمن التام في الدنيا والآخرة، فسارت الضعينة من العراق إلى اليمن لا تخاف إلا الله، وهداهم الله إلى ما ينفعهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [الأنعام: 82].
وكل ما يجري في هذا الكون واقع بمشيئة الله وإرادته وإذنه، فما شاء الله كان مهما كان، وما لم يشأ لم يكن مهما يكن.
وإرادة الله تبارك وتعالى تنقسم إلى أربعة أقسام:(9/281)
الأول: ما تعلقت به الإرادتان الكونية والشرعية، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع، فأمر به وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك لما كان.
الثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فأطاع ذلك الأمر المؤمنون، وعصى ذلك الأمر الكفار والفجار.
فهذه الإرادة يحبها الله ويرضاها، وقعت أو لم تقع، وهذه قد يقع مرادها وقد لا يقع.
الثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره الله وشاءه من الحوادث والأحوال التي لم يأمر بها كالمباحات والمعاصي، فإنه لم يأمر بها ولم يحبها، ولولا مشيئة الله وقدرته وخلقه لها لما كانت، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الرابع: ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه الإرادة، فهذا ما لم يكن ولم يقع من أنواع المباحات والمعاصي.
والمؤمن يبتلى على قدر ما يحمله إيمانه من وارد البلاء.
والبلاء الذي يصيب المؤمن نوعان:
أحدهما: بلاء بمخالفة دواعي النفس والطبع كالصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، وهذا من أشد البلاء، فإنه لا يصبر عليه إلا الأنبياء والصديقون، والناس فيه درجات متفاوتة.
الثاني: البلاء الذي يجري على العبد بغير اختياره كالمرض والجوع والعطش، والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات ونحو ذلك كما قال سبحانه:
(? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [البقرة: 155-157].
والصبر هنا لا يتوقف على الإيمان، بل يصبر عليه البر والفاجر، لا سيما إذا علم أنه لا معول له إلا الصبر، فإن لم يصبر اختياراً صبر اضطراراً.(9/282)
ولهذا كان بين ابتلاء نبي الله يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم بما فعل به إخوته من الأذى والإلقاء في الجب، وبيعه بيع العبيد والتفريق بينه وبين أبيه، وبين ابتلائه بمراودة المرأة له وهو شاب عزب غريب بمنزلة العبد لها وهي الداعية إلى ذلك فرق عظيم، لا يعرفه إلا من عرف مراتب البلاء.
فإن يوسف كان شاباً جميلاً، عزباً غريباً، وكانت المرأة جميلة، وذات منصب، وكان في دارها، وتحت حكمها، وأغلقت الأبواب، وهي الطالبة، وكانت شديدة العشق والمحبة للرجل، قد امتلأ قلبها من حبه.
فهذا الابتلاء الذي صبر معه يوسف، ولا ريب أن هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأول، بل هو من جنس ابتلاء الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذبح ولده إسماعيل، إذ كلاهما ابتلاء بمخالفة الطبع، ودواعي النفس والشهوة، ومفارقة حكم طبعه: (? ? ? ٹ ٹٹ) [الصافات: 106].
وهذا بخلاف البلوى التي أصابت يونس في البحر، والمرض الذي أصاب أيوب، فمن له داعية وشهوة وهو يحبسها لله، ولا يطيعهما حباً له، وحياء منه، وخوفاً منه، وتوقيراً له، فهوأفضل ممن لا داعية له ولا شهوة.
ولذا كان صالحو البشر أفضل من الملائكة، وعبادتهم أكمل، وانقيادهم أتم، ودرجاتهم أعلى.
والله تبارك وتعالى يمتحن كل إنسان في ثلاثة مواطن:
في الدنيا.. وفي القبر.. وفي المحشر.
ففي الدنيا: يكون الابتلاء والامتحان بشيئين: بالسراء والضراء، بالخير والشر وذلك ليعلم الله الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، والمؤمن من المنافق: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 2،3].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 35].
فمن صبر وأطاع الله فاز.. ومن جزع وعصى خسر.
وفي القبر: يكون الامتحان بثلاثة أشياء:
من ربك..؟ ما دينك؟... من نبيك؟..(9/283)
فمن عرف ربه في الدنيا، وعرف رسوله، وعمل بدينه أجاب بقوله: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد صلى الله عليه وسلم ، ففاز بالجنة، ومن لم يعرف ذلك أجاب بقوله: هاه، هاه، لا أدري، فله النار.
أما في المحشر فيكون الامتحان والسؤال عن سبعة أشياء:
فيسأل العبد عن عمره فيما أفناه؟.. وعن شبابه فيما أبلاه؟.. وعن ماله من أين اكتسبه؟.. وفيم أنفقه؟.. وعن علمه ماذا عمل به؟.
ويسأل الناس جميعاً عن أمرين:
ماذا كنتم تعبدون؟.. وماذا أجبتم المرسلين؟.
والله عزَّ وجلَّ بعباده خبير بصير، وهو أرحم الراحمين، ورحمته وسعت كل شيء، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
فإذا أصيب الإنسان بمصيبة، فالله يعلم أن مصلحة العبد تتحقق هنا، ولو علم العبد ذلك لحمد الله على ذلك، ولكنه لجهله يشكو ويتسخط، والواجب واللائق بالعبد أن يمشي مع أقدار ربه سواء سرته أو ساءته، فالله أعلم بمصلحته، وسَيُوَفِّه أجره إن صبر أو شكر: (پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [البقرة: 216].
أليس الإنسان إذا أصيب بمرض في بدنه ذهب إلى الطبيب ليجري له عملية، ويستخرج من بدنه الأشياء الفاسدة، لتزول العلة، ويحصل الشفاء، ويدفع للطبيب مقابل ذلك مبلغاً من المال، مع أن الجراحة تؤلمه، ولكنه يتحملها لحسن عاقبتها.
فكذلك المصائب تطهير للعبد من الذنوب، تستحق من العبد الحمد والشكر، ويدرك هذا من حقق معنى لا إله إلا الله.
وفيها تمييز للمؤمنين من المنافقين.. والصادقين من الكاذبين.. وأهل الخير من أهل الشر.
وبالصبر عليها يرفع الله درجات العبد، ويضاعف حسناته، ويكفر سيئاته.
هذه فائدة المحن والمصائب، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، ولا ردهم عن دينهم، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين، والمحن تمحص لا تهلك.(9/284)
وليس الخير للإنسان أن يكثر ماله وولده، ويعظم جاهه، ولكن الخير أن يزيد إيمانه.. ويكثر علمه.. ويزداد عمله.. ويعظم حلمه.. فإن أحسن حمد الله، وإن أساء استغفر الله، وإن أعطي شكر الله.
ولا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين:
رجل أذنب ذنباً فهو يتدارك ذلك بتوبة نصوح.
ورجل يسارع في الخيرات والأعمال الصالحة.
والمؤمن يموت بين حسنتين:
حسنة قدمها.. وحسنة أخرها.
والزينة في كل شيء ليست هي المقصد، فقد جعل الله كل ما على الأرض زينة لها، ولكن المقصود منه الابتلاء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [لكهف: 7].
فالثياب لستر العورة، والألوان زينة، ولباس الجنود ليس فيها زينة؛ لأنها ليست مقصودة، بل المقصود الخشونة والعمل.
وزينة النبات والأشجار من الأوراق والأزهار ليست مقصودة، إنما المقصود الحبوب والثمار.
وكذلك الدنيا ليست مقصودة، إنما المقصود الآخرة، وقد خلق الله الأسباب للابتلاء وهي زينة، وليس فيها النجاة، وإنما يميل إليها الغافلون من الأطفال والرجال والنساء، ومن لم يعرف مقصد حياته.
فالزينة شيء، والمقصد شيء، والمطلوب لباس التقوى:
فإذا بذل الإنسان الأسباب لأجل طاعة الله فاز، ومن نسي الطاعة وتعلق بالأسباب خسر.
لذلك مست الحاجة للدعوة وبيان المقصد الأعلى، فالأنبياء يرشدون أممهم إلى المقصد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فكل نبي قال لقومه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 84].
فالله مقصود.. وأوامره مقصودة.. فيقدم الله على كل مطلوب.. وتقدم أوامره على كل شيء.
ولكن الكفار يجرون الناس إلى التعلق بالزينات، وترك المقصد، فكل من نسي المقصد تعلق بالزينات.؟
فقارون: (? ? ? ? ? ?) [القصص: 79].
وهذه فتنة وشر، فقد خسف الله بقارون وبداره الأرض.
وفتن أهل الدنيا بما يغضب الله فقالوا: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 79].
والأحوال والمصائب تأتي على الأمة بسببين:(9/285)
بسبب المعاصي والذنوب.. وبسبب ضعف الإيمان الذي يؤدي إلى التقصير في الأعمال والأوامر، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 30].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
والله سبحانه يبتلي عباده بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، ويتلقى العباد ذلك كل حسب طبيعته واستعداده وعلمه.
فالابتلاء واحد، ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف الرؤية والمعرفة.
فالشدة مثلاً تسلط على شتى النفوس:
فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاءً إلى الله، وتضرعاً وخشية.
وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعداً، وتخرجه من الصف إخراجاً.
والرخاء يسلط على شتى النفوس:
فأما المؤمن التقي فيزيده الرخاء يقظة وحمداً وشكراً.
وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة، ويتلفه الرخاء، ويضله الابتلاء، فالفاسق أو المنافق كشجرة انفصلت من شجرة الحياة فتعفنت وفسدت وهكذا المثل يضربه الله للناس، يضل به كثيراً ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله، ويهدي به كثيراً ممن يدركون حكمة الله في تدبيره كما قال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [البقرة: 26].
وقد خلق الله الإنسان، واختاره من بين سائر البرية، وجعل قلبه محل كنوزه من الإيمان والتوحيد، والمحبة والتعظيم، والحياء والإخلاص وجعل بدنه محل ظهور العبودية والسنن والآداب والأخلاق التي أمر بها الله عزَّ وجلَّ.
وجعل قلبه محل نظره سبحانه، وجعل ثوابه إذا قدم عليه أكمل الثواب وأعظمه وأفضله، وهو النظر إلى وجهه سبحانه، ورضاه عنه، والفوز بالجنة، والخلود في النعيم المقيم.
ولكنه سبحانه مع ذلك ابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوه إبليس يدخل عليه من هذه الأبواب الثلاثة.
فيتفق الشيطان.. ونفس الإنسان.. وهوى الإنسان على العبد، ثلاثة مسلطون آمرون.(9/286)
فيبعثون الجوارح في قضاء وطرهم، والجوارح آلة منقادة، فلا تزال الجوارح في طاعتهم.
ولكن اقتضت رحمة الله أن أعانه بجند آخر يقاوم هذا الجند الذي يريد إهلاكه.
فأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان، وجعل له مقابل نفسه الأمارة بالسوء نفساً مطمئنة تأمره بالخير، وجعل له مقابل الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمارة نوراً وبصيرة وعقلاً يرده عن الذهاب إلى الهوى المهلك، والمحفوظ من حفظه الله تعالى.
والمصائب التي تحصل للعباد قسمان:
فهي إما ابتلاء وتربية.. وإما عقوبة وعذاب.
فإذا غضب الله على أحد أهلكه بعذاب الغرق أو القذف، أو الخسف أو الصعق كما قال سبحانه عن الأمم التي كذبت رسل الله: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [العنكبوت: 40].
وإذا رضي الله على أحد ابتلاه بما شاء، ثم إن صبر اجتباه وهداه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [البقرة: 155-157].
وكل من عمل عملاً فإنه يستحسنه ويدافع عنه.
فالذي يعمل الصالحات يستحسنها ويدافع عنها، والذي يعمل السيئات يستحسنها ويدافع عنها، وإن كان على الهدى رآه حسناً، وإن كان على الضلال رآه حسناً كذلك، وكل يدعو إلى ما يستحسنه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 108].
والذين يقفون بالعداوة لكل نبي، ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء، هم شياطين الإنس والجن في كل زمان ومكان.
إن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئاً من هذا كله بقدرة ذاتية فيهم، إنما هم في قبضة الله، وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده، من تمحيص هؤلاء الأولياء، وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء.
فإذا اجتازوا الامتحان كف الله عنهم الابتلاء، وكف عنهم هؤلاء الأعداء: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [الأنعام: 112].(9/287)
وحكمة الله تبارك وتعالى اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا ليبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة بعد سماعهم الحق: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ? گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [الكهف: 29،30].
وهؤلاء الشياطين خليق بالمؤمن أن يستهين بهم مهما بلغت قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدعى، فهم في قبضة الله، وتحت قهره وأمره، وعلى بساط ملكه، ولكنه الابتلاء: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 2،3].
والابتلاء ضروري لكل من يحملون دعوة الله، ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض.
وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وجه من قبل الله إلى آدم وحواء فلم يصمدا له: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [طه: 115].
واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 35،36].
وكذلك بنوا إسرائيل حين طلبوا من موسى أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيداً للعبادة، ولا يشتغلون فيه بالكسب، فجعل لهم يوم السبت، ثم كان الابتلاء ليربيهم الله، ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع، وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع.
فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعاً، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، وذلك ابتلاء من الله، ولم يصمد فريق من بني إسرائيل لهذا الابتلاء فمسخهم الله قردة خاسئين: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 166].
وتواجه المسلم في حياته عقبتان:
عقبة داخلية.. وعقبة خارجية..(9/288)
ومواجهة العقبة الداخلية.. والانتصار عليها أهم من اقتحام المعارك، وذلك بالانتصار على هوى النفس، والشح والبخل، والرياء والنفاق، ومن انتصر على العدو الداخلي، سهل عليه الانتصار على العدو الخارجي كما قال سبحانه: (? ? ?ہ ہ ہ ہ ھھ? ھ ھے ے ? ? ? ? ??? ? ? ?? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ??) [البلد: 11-18].
ومن سنة الله عزَّ وجلَّ أن كل من ترك ما ينفعه مع الإمكان ابتلي بالاشتغال بما يضره وحُرم الأول.
فالمشركون لما زهدوا في عبادة الرحمن.. ابتلوا بعبادة الأوثان.
ولما استكبروا عن الانقياد للرسل.. ابتلوا بالانقياد لكل مارج العقل والدين.
ولما استكبروا عن الانقياد للحق.. أذلهم الله بالانقياد لكل مبطل.
ولما تركوا اتباع كتب الله المنزلة لهداية العباد.. ابتلوا باتباع أرذلها وأخسها وأضرها للعقول.
ولما ترك المحاربون لله ورسوله إنفاق أموالهم في طاعة الرحمن.. ابتلاهم بإنفاقها في طاعة الشيطان.
ولما أهانوا آيات الله ورسله.. أهانهم الله بمن يذلهم في الدنيا من أعدائهم، وفي الآخرة بالعذاب المهين.
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
فالمهاجرون الأولون الذين هجروا أوطانهم وتركوا أموالهم وأهلهم من أجل إعلاء كلمة الله.. عوضهم الله الرزق الواسع في الدنيا، والعز والتمكين في الأرض، والجنة في الآخرة.
وإبراهيم صلى الله عليه وسلم لما اعتزل قومه وما يعبدون من دون الله.. وهب الله له إسماعيل وإسحاق ويعقوب، ولم يبعث نبياً من بعده إلا من نسله.
ويوسف صلى الله عليه وسلم لما ابتلي بامرأة العزيز، وصبر وعصم نفسه، وحفظها من الوقوع على امرأة العزيز، وطلب السجن ليبعد عن الفتنة.. عوضه الله بأن مكن له في الأرض، واستمتع بما أحل الله له من الأموال والنساء والسلطان.
وأهل الكهف لما اعتزلوا قومهم وما يعبدون من دون الله.. نشر لهم من رحمته، وجعلهم سبباً للهداية.(9/289)
ومريم ابنة عمران لما أحصنت فرجها.. أكرمها الله، ونفخ فيه من روحه، واصطفاها وطهرها، وجعلها وابنها آية للعالمين.
ومن ترك ما تهواه نفسه من الشهوات لله تعالى.. عوضه الله من محبته وعبادته والإنابة إليه ما يفوق لذات الدنيا كلها.
والله عزَّ وجلَّ خلق العالم العلوي والعالم السفلي، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها للابتلاء والامتحان، ليختبر خلقه أيهم أحسن عملاً.
من يكون عمله موافقاً لمحاب الرب تعالى، فيوافق الغاية التي خلق هو لها، وخلق لأجلها العالم، وهي عبوديته سبحانه المتضمنة لمحبته وطاعته، وامتحن خلقه بين أمره الشرعي وقدره الكوني، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 7].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الملك: 2].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [الكهف: 7].
وهذا الابتلاء هو ابتلاء صبر العباد وشكرهم في حال السراء والضراء، وفي الخير والشر.
والابتلاء بالنعم من الغنى والعافية والجاه والقدرة أعظم الابتلائين، والصبر على طاعة الله أشق الصبرين.
والنعمة بالفقر والمرض وقبض الدنيا وأذى الخلق قد يكون أعظم النعمتين، وفرض الشكر عليها أوجب من الشكر على أضدادها.
فالرب عزَّ وجلَّ يبتلي بنعمه وينعم ببلائه، غير أن الشكر والصبر حالتان لازمتان للعبد في أمر الرب ونهيه، وقضائه وقدره، لا يستغني العبد عنهما طرفة عين.
فالمأمور لا يؤديه العبد إلا بصبر وشكر.. والمحظور لا يترك إلا بصبر وشكر.. وأما المقدور فمتى صبر العبد عليه اندرج شكره في صبره كما يندرج صبر الشاكر في شكره.
والله سبحانه خلق السموات والأرض ليبتلي عباده بأمره ونهيه.
وخلق الموت والحياة ليبتليهم.. فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه.. وقدر عليهم الموت الذي ينالون به عاقبة ذلك الابتلاء من الثواب والعقاب.
وزين لهم ما على الأرض ليبتليهم به، أيهم يقدم شهوات نفسه على محبوبات ربه وأوامره؟.(9/290)
وابتلى بعضهم ببعض، وابتلاهم بالنعم والمصائب، فأظهر هذا الابتلاء علمه السابق فيهم موجوداً عياناً بعد أن كان غيباً في علمه.
فابتلى سبحانه أبوي الإنس والجن كلاً منهما بالآخر، فأظهر ابتلاء آدم - صلى الله عليه وسلم - ما علمه منه، وأظهر ابتلاء إبليس ما علمه منه، واستمر هذا الابتلاء إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 35].
والله عزَّ وجلَّ ابتلى عباده بأمرين:
أمر فيه حيلة.. وأمر لا حيلة فيه.
فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة منه لا يجزع منه.
ونعم الله في البلاء الذي يصيب الناس مستورة لا يراها إلا أولو الألباب، فإذا أصيب الإنسان بمصيبة فليحمد الله إذ لم تكن في دينه.. وإذ لم تكن أعظم منها.. وإذ كانت في الدنيا ولم تكن في الآخرة.. وإذ لم يحرم الرضا بها.. وإذ يرجو الثواب عليها.. وبها تكمل عبودية الصبر.. وينال ثوابها كما قال سبحانه (? ? ? ? ? ??) [الزمر: 10].
وقد ابتلى الله عزَّ وجلَّ الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين، وهو الشيطان وعساكره من شياطين الإنس والجن، فالحرب سجال بينه وبين القلب الذي هو محل معرفة الله ومحبته وعبوديته.
فولاه الله أمر هذه الحرب مع النفس والشيطان، وأمده بجند من الملائكة لا يفارقونه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ) [الرعد: 11].
ثم أيده سبحانه بجند آخر من وحيه وكلامه، فأرسل إليه رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل عليه كتابه، فازداد قوة إلى قوته، وعدة إلى عدته.
وأمده سبحانه بالعقل وزيراً له ومدبراً، وبالمعرفة مشيرة عليه، وناصحة له، وبالإيمان مثبتاً له وناصراً ومؤيداً، وباليقين حتى كأنه يعاين ما وعد الله تعالى أولياءه.
ثم أمده سبحانه بالقوى الظاهرة والباطنة لخوض هذه الحرب.(9/291)
فجعل العين طليعته.. والأذن صاحبة خبره.. واللسان ترجمانه.. واليدين والرجلين أعوانه.. وأقام ملائكته وحملة عرشه يستغفرون له.. ويسألون الله أن يقيه السيئات، ويدخله الجنات، وتولى سبحانه الدفاع عنه.
وحسب قوة الإيمان تكون قوة الابتلاء، فالأنبياء كانوا جبال الإيمان، وجبال اليقين، وجبال الصبر.. ثم يليهم الصحابة، وابتلاؤنا اليوم لا يكون كابتلاء الصحابة فضلاً عن الأنبياء، ولكن لا بدَّ من الابتلاء.
فللأنبياء ابتلاء.. وللصحابة ابتلاء.. ولمن بعدهم ابتلاء حسب قوة الإيمان وضعفه.
والله سبحانه: «حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم (1).
فكل جمال في العالم العلوي وفي العالم السفلي من جماله سبحانه، وكل جمال ونور في المخلوقات لا يساوي ذرة من جمال الخالق ونوره وجلاله.
وإذا كانت سبحات وجهه الأعلى لا يقوم لها شيء من خلقه، ولو كشف حجاب النور عن تلك السبحات لأحرق العالم العلوي والسفلي، فما الظن بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله وجلاله وجماله.
فالرب سبحانه قد احتجب عن مخلوقاته بحجاب من نور مخلوق، جعله سبحانه يحجب نور وجهه الكريم وجلاله وجماله عن وصوله إلى المخلوقات حيث لا تحتمله.
ونعيم الجنة المخلوق بالنسبة إلى نعيم معرفة المعبود ومحبته سبحانه كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة المخلوق، فأكبر نعيم أهل الجنة النظر إلى وجهه سبحانه والفوز برضاه.
وقد احتجب سبحانه عن خلقه في الدنيا ليبلو بذلك إيمانهم، أيهم يؤمن به ويعرفه بالغيب ولم يره.
والله عزَّ وجلَّ يجزي العباد على إيمانهم بالغيب؛ لأن الله عزَّ وجلَّ لو تبدى لخلقه وتجلى لهم في الدنيا لم يكن لإيمان الغيب هناك معنى، كما أنه لم يكفر به عندها كافر، ولا عصاه عاص.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (178).(9/292)
ولكنه تبارك وتعالى احتجب عنهم في الدنيا، ودعاهم إلى الإيمان به بالغيب، وإلى معرفته والإقرار بربوبيته، ليؤمن به من سبقت له منه السعادة، ويحق القول على الكافرين.
ولو تجلى لخلقه سبحانه لآمن به من في الأرض جميعاً بغير رسل ولا كتب ولا دعاة، ولم يعصوه طرفة عين.
فإذا كان يوم القيامة تجلى سبحانه لمن آمن به وصدق رسله وكتبه، وآمن برؤيته، وأقر بصفاته التي وصف بها نفسه حتى يروه عياناً؛ مثوبة منه لهم وإكراماً، ليزدادوا بالنظر إلى من عبدوه بالغيب ولم يروه نعيماً، وبرؤيته فرحاً وسروراً.
وحجب عنه الكفار يومئذ؛ لأنهم لم يؤمنوا به في الدنيا، فحرموا رؤيته في الآخرة كما حرموها في الدنيا ليزدادوا حسرة وثبوراً.
والله عزَّ وجلَّ خلق العالم العلوي والسفلي، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها لابتلاء واختبار العباد أيهم أحسن عملاً، من يكون عمله موافقاً لمحاب الرب تعالى، فيوافق الغاية التي خلق هو لها، وخلق لأجلها العالم، وهي عبوديته المتضمنة لمحبته وطاعته، وهي العمل الأحسن، وهو مواقع محبته ورضاه.
وقدر سبحانه مقادير تخالفها ابتلاء منه، وامتحن خلقه بين أمره وقدره، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 7].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 2].
فانقسم الخلق في هذا الابتلاء إلى قسمين:
قسم داروا مع أوامره ومحابه، ووقفوا حيث وقف بهم الأمر الشرعي، وتحركوا حيث حركهم الأمر، واستعملوا الأمر في القدر، وحكموا الأمر على القدر، ودفعوا القدر بالقدر، امتثالاً لأمر الله، واتباعاً لمرضاته، فهؤلاء هم الناجون.
والقسم الثاني: عارضوا بين الأمر والقدر، وبين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما قدره وقضاه، ثم افترقوا:
ففرقة كذبت بالقدر محافظة على الأمر، والإيمان بالقدر أصل الإيمان بالأمر، فمن كذب بالقدر فقد نقض تكذيبه إيمانه.(9/293)
وفرقة ردت الأمر بالقدر، وهؤلاء من أكفر الخلق، وهم الذين قالوا: (? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 35].
وفرقة دارت مع القدر، فسارت بسيره، ونزلت بنزوله، ودانت به، ولم تبال وافق الأمر الشرعي أو خالفه، بل دينها القدر، فالحلال ما حل بيدها قدراً، والحرام ما حرمته قدراً، وهم مع من غلب من مسلم وكافر، وبر وفاجر، وهؤلاء أيضاً كفار.
وفرقة وقفت مع القدر مع اعترافها بأنه خلاف الأمر، ولم تدن به، ولكنها استرسلت معه، ولم تحكم عليه الأمر، وعجزت عن دفع القدر بالقدر اتباعاً للأمر، فهؤلاء مفرطون.
وهم بين عاجز وعاص لله، وهؤلاء كلهم مؤتمون بشيخهم إبليس فإنه أول من قدم القدر على الأمر الشرعي، وعارضه به، حيث قال: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [الحجر: 39].
فرد إبليس أمر الله بقدره، واحتج على ربه بالقدر.
وانقسم أتباعه أربع فرق كما سبق، فإبليس وجنوده أرسلوا بالقدر إرسالاً كونياً، فالقدر دينهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [مريم: 83].
فدينهم القدر، وبعث الله الرسل بالأمر الشرعي، وأمرهم أن يحاربوا به أهل القدر.
فأصحاب الأمر حرب لأصحاب القدر حتى يردوهم إلى الأمر الشرعي، وأصحاب القدر يحاربون أصحاب الأمر الشرعي حتى يخرجوهم منه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 37].
فالرسل وأتباعهم دينهم الأمر مع إيمانهم بالقدر، وتحكيم الأمر عليه، وإبليس وأتباعه دينهم القدر، ودفع الأمر به.
وحركات العالم العلوي والعالم السفلي وما فيهما موافقة للأمر:
إما الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه.. وإما الأمر الكوني الذي قدره وقضاه، وهو سبحانه قدره لحكمة وغاية حميدة.
فهو سبحانه يحب المغفرة وإن كره معاصي العباد، ويحب التوابين وإن كره معاصيهم التي يتوبون منها، ويحب المقاتلين في سبيله وإن كره أفعال من يجاهدونه كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 4].(9/294)
فهو سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو يحب أسماءه وصفاته، ويحب ظهور آثارها في خلقه، فهو رحيم يحب الرحمة، ويحب الرحماء، وهو عفو عن المذنبين، ويحب العفو، ويحب العافين عن الناس.. وهكذا.
وإذا ابتلى الله عبده ببلاء، فإن رده ذلك الابتلاء إلى ربه وجمعه عليه وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به.
والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه وقد عُوِّض عنها أجَلّ عِوَض وأفضله، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه.
فهذه البلية له عين النعمة وإن ساءته وكرهها طبعه، ونفرت منها نفسه: (پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [البقرة: 216].
وإن لم يرده ذلك البلاء إليه سبحانه، بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق، وأنساه ذكر ربه، والضراعة إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به.
فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته، وسلطان شهوته، ومرحه وفرحه.
وجاءت طبيعته عند القدرة بالأشر والبطر، والإعراض عن شكر الله وعدم التوجه إليه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الحج: 11].
فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل ورفعة كما قال سبحانه: (? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [البقرة: 155-157].
والله تبارك وتعالى عليم بخلقه، خلق النفوس وفيها خبأ كامناً يعلمه سبحانه منها، فلا بدَّ أن يقيم أسباباً يظهر بها خبأ النفوس الذي كان كامناً فيها.
فإذا ظهر للعيان ترتب عليه أثره من السعادة والشقاوة.
وخلق سبحانه السموات والأرض ليعلم العباد كمال عظمته وكمال قدرته وعلمه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 12].
وخلق سبحانه العالم السفلي ليبلو عباده، فيظهر من يطيعه ويحبه ويجله ويعظمه ممن يعصيه ويخالفه.
وهذا الابتلاء والامتحان يستلزم أسباباً يحصل بها، فلا بد من خلق أسبابه.(9/295)
ولهذا لما كان من أسبابه خلق الشهوات وما يدعو إليها وتزيينها فعل ذلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ چ چ ? ? ? ??) [الكهف: 7،8].
والله عليم حكيم خلق الإنسان وجعله قابلاً للإيمان والكفر.. للحق والباطل.. للخير والشر، للطاعات والمعاصي.
وبحسب البيئة التي يعيش فيها، وبحسب المذكر له.. وبحسب العلم والأوامر التي تصل إليه يميل إلى هذا أو ذاك.
والقلوب والجوارح لها مصرفان:
مصرف محمود.. ومصرف مذموم.
فالمحبة مثلاً من أعمال القلوب ولها مصرفان:
الأول: مصرف محمود: وهو محبة الله ورسوله، ومحبة أوامر الله، ومحبة ما يحبه الله.
الثاني: مصرف مذموم: وهو محبة ما يبغضه الله من الأعمال والأقوال، والأشخاص والأماكن، والأخلاق والأحوال.
وكذلك الجوارح لها مصرف محمود.. ومصرف مذموم.
فالمحمود استعمالها في طاعة الله.. والمذموم استعمالها في معصية الله.
فقلوب الناس وجوارحهم تعمل إما في المصرف المحمود الذي يرضي الله عزَّ وجلَّ.. وإما في المصرف المذموم الذي يغضب الله عزَّ وجلَّ فالمحمود لله وصاحبه رابح.. والمذموم للشيطان وصاحبه خاسر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 119].
والدين كله يتمثل في الإيمان بالله والكفر بالطاغوت.. وتقديم الأوامر على الشهوات.. وتقديم الحقوق على كل محبوب.. وتقديم مراد الله على مراد النفس.. وربط العواطف بأوامر الله.
والإنسان ظلوم كفار، وقد ذمه الله باليأس والكفر عند الامتحان بالبلاء، وبالفرح والفخر عند الابتلاء بالنعماء، فقال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 9،10].
وإذا علم الله سبحانه هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه له وتخليه عنه، فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة، وهي نعمة الإسلام.
والله عزَّ وجلَّ عليم بكل شيء: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [الحج: 70].(9/296)
علم سبحانه قبل أن يوجد عباده أحوالهم، وما هم عاملون، وما هم إليه صائرون، ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه، وابتلاهم من الأمر والنهي، والخير والشر، بما أظهر معلومه منهم، فاستحقوا المدح والذم، والثواب والعقاب، بما قام فيهم من الأفعال والصفات المطابقة للعلم الإلهي السابق.
ولم يكونوا يستحقون ذلك وهي في علمه قبل أن يعملوها، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وشرع شرائعه؛ إعذاراً إليهم، وإقامة للحجة عليهم، لئلا يقولوا: كيف تعاقبنا على علمك فينا، وهو لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا؟.
فلما ظهر علمه فيهم بأفعالهم حصل الثواب أو العقاب على معلومه الذي أظهره الابتلاء والاختبار، فهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما سيكون.
وكما ابتلاهم بأمره ونهيه ابتلاهم بما زين لهم من الدنيا، وبما ركب فيهم من الشهوات.
فذلك ابتلاء بشرعه وأمره.. وهذا ابتلاء بقضائه وقدره.
وقد اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن يأكل الظالم الباغي ويتمتع في خفارة ذنوب المظلوم المبني عليه، فذنوبه من أعظم أسباب الرحمة في حق ظالمه.
كما أن المسؤول إذا رد السائل فهو في خفارة كذبه، ولو صدق السائل لما أفلح من رده، وكذلك السارق، وقاطع الطريق، والناصب، والمنتهب، والمختلس في خفارة منع أصحاب الأموال حقوق الله فيها، ولو أدوا ما لله عليهم فيها لحفظها الله عليهم.
وكذلك تسليط العالم بعضهم على بعض، وتمكين الجناة والبغاة، حتى أن الحيوانات العادية على الناس في أموالهم وأرزاقهم وأبدانهم تعيش في خفارة ما كسبت أيديهم، ولولا ذلك لم يسلط عليهم منها شيء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 30].
والله بصير بالعباد، يصرف الهدى والإيمان عن قلوب الذين يصرفون الناس عنه، فصدهم عنه كما صدوا عباده عنه.(9/297)
ويحبس الغيث عن عباده ويبتليهم بالقحط إذا منعوا الزكاة وحرموا المساكين، فلما منعوا المساكين حقهم منع الله عنهم مادة القوت والرزق وهو الغيث.
ويمحق الله أموال المرابين ويتلفها كما فعلوا بأموال الناس وأكلوها بالباطل، ومحقوها عليهم، وأتلفوها بالربا، فعوقبوا إتلافاً بإتلاف كما جوزي المتصدقون بأضعاف كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [البقرة: 276].
ويسلط الله سبحانه العدو على العباد إذا جار قويهم على ضعيفهم، ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه، فيسلط الله عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء بسواء، ولا يظلم ربك أحداً.
هذه سنة الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى أن يطوي الله الأرض ويعيدها كما بدأها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [النساء: 123].
والتربية الإلهية أولها ابتلاء وامتحان.. وأوسطها صبر ويقين وتوكل.. وآخرها هداية ونصر وتمكين.. وعاقبتها الجنة ورضوان رب العالمين كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 72].
والله تبارك وتعالى ابتلى الأنبياء بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته ويتوجهوا إلى ربهم في كشف ما بهم من ضر إذا نزل.. وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وحلفائهم إذا أوذوا من الناس.. فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء.. صبروا ورضوا وتأسوا بهم.. ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد الله لهم من النكال العاجل، والعقوبة الآجلة.. فيمحقهم الله بسبب بغيهم وعداوتهم.. ويعجل تطهير الأرض منهم.
فهذه من بعض حكمة الله في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم لهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 17].
وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه.
كما ابتلى الله جميع الأنبياء، بمعارضة قومهم لهم.(9/298)
وكما ابتلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم بقومه الذين كذبوه وألقوه في النار وكما ابتلاه بذبح ولده إسماعيل.
وكما ابتلى موسى صلى الله عليه وسلم بفرعون وقومه الذين كذبوه، والسحرة الذين بارزوه، وبني إسرائيل الذين اختلفوا عليه.
وكما ابتلى أيوب صلى الله عليه وسلم بالمرض وذهاب الأهل.
وكما ابتلى عيسى صلى الله عليه وسلم باليهود الذين كذبوه، وأرادوا قتله وصلبه.
وكما ابتلى محمداً صلى الله عليه وسلم بأذى الكفار له، وتكذيبهم له، ومطاردته وإرادة قتله، وإخراجه من مكة، وجمع الناس والأموال لقتاله والقضاء على دينه وأتباعه.
وكما ابتلاه باليهود الذين قاتلوه، وكادوا له، ونقضوا عهودهم معه وجمعوا الأحزاب لحربه، وسحروه، ووضعوا السم في اللحم له.
فصبر حتى أظهر الله دينه، وخذل أعداءه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 34].
والبلاء الذي يصيب العبد في الله لا يخرج عن أربعة أقسام:
فهو إما أن يكون في نفس العبد.. أو في ماله.. أو في عرضه.. أو في أهله ومن يحب.
والذي في نفسه إما أن يكون بتلفها تارة، أو بتألمها بدون التلف.
فهذا مجموع ما يبتلى به العبد في الله، وأشد هذه الأقسام المصيبة في النفس.
والمؤمن كلما نقص شيء من ذاته جعله عمارة لقلبه وروحه، وكلما نقص شيء من دنياه جعله زيادة في آخرته.
فنقصان بدنه ودنياه، ولذته وسروره، وجاهه ورياسته، إن زاد في حصول ذلك، وتوفيره عليه في معاده كان رحمة به، وخيراً له، وذخراً له.
وإلا كان حرماناً وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنة، أو ترك واجب ظاهر أو باطن، فإن حرمان خير الدنيا والآخرة مرتب على هذه الأربعة.
والله تبارك وتعالى حكيم عليم يبتلي عباده تارة بالنعم.. وتارة بالمصائب.
فمن وسع الله عليه وإن كان إكراماً له في الدنيا فلا يدل على أنه كريم عنده من أهل كرامته ومحبته.(9/299)
ومن قتر الله عليه فلا يدل على إهانته له وسقوط منزلته عنده، بل يوسع سبحانه ابتلاء وامتحاناً، ويقتر ابتلاء وامتحاناً، ويبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [الفجر: 15،16].
وهو سبحانه يبتلي عبده بنعمة تجلب له نقمة، وبنعمة تجلب له نعمة أخرى، ويبتليه كذلك بنقمة تجلب له نعمة، وبنقمة تجلب له نقمة أخرى.
فهذا شأن نعمه ونقمه سبحانه.
فالكرامات امتحان وابتلاء كالملك والسلطان والمال كما قال سليمان صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [النمل: 40].
فالنعم ابتلاء من الله يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور، كما أن المحن بلوى منه، فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب، فمن شكر زاده الله، ومن كفر سلبه إياه.
وإذا ابتلى الله الإنسان بالفقر، فإن صبر أعطي أضعاف ما فاته من الرزق، وإن سخط فله السخط.
فالصبر والذكر والشكر من أجل مقامات الدين وأعظمها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. اللَّهُمَّ! أَجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلا أجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ. وَأخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْها» أخرجه مسلم (1).
وهذا الحديث يتضمن أصلين عظيمين:
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عزَّ وجلَّ، والملك يتصرف في ملكه كيف شاء، أما العبد فلا يتصرف إلا بإذن مالكه ووفق أمره.
الثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، فليفكر بما يقدم به على ربه من الإيمان والأعمال الصالحة.
ولينظر إلى مقدار الأجر على المصيبة إن صبر، وأنها أخف مما هو أعظم منها، وليعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ومعرفة هذا أبلغ علاج للمصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، وبه يتسلى عما أصابه.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (918).(9/300)
ولله تبارك وتعالى على كل أحد عبودية بحسب مرتبته سوى العبودية العامة التي سَوّى بين عباده.
فعلى العالم من عبودية الله نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه، وحمل الناس عليه، والصبر على ذلك ما ليس على المفتي.
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.
وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير.
وقد غر الشيطان أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات النافعة، فلم يحدثوا أنفسهم بالقيام بها.
وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، وتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالاً عند الله من مرتكب المعاصي.
ومن له دراية ومعرفة بما بعث الله به رسوله، وبما كان عليه هو وأصحابه، رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس ديناً.
وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنن رسوله يرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت اللسان؟
وهؤلاء مع سقوطهم عن عين الله، قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية وهي موت القلوب، فالقلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل.
ولا بدَّ من تربية النفوس بالبلاء، وامتحانها بالمخاوف والشدائد والجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمراث كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [البقرة: 155-157].
لا بدَّ من هذا الابتلاء الظاهر المكشوف لكل الناس، كي يعز الدين على النفوس بمقدار ما أدوا في سبيله من تكاليف وصبر، فكلما تألموا في سبيله كلما بذلوا من أجله، وكلما بذلوا من أجله كان أعز عليهم من كل شيء؟(9/301)
وكذلك لن يدرك الآخرون قيمة الدين وعظمته إلا حين يرون ابتلاء أهله وصبرهم على البلاء من أجله، وحينئذ سيقولون لو لم يكن عند هؤلاء من الخير أكبر وأعظم مما ابتلوا به ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه.
وعندئذ ينقلب المعارضون للدين باحثين عنه، مقدرين له، مندفعين إليه، وعندئذ يجيء نصر الله ويدخل الناس في دين الله أفواجاً.
ولا بدَّ من البلاء ليصلب عود أهل الحق ويقوى ويشتد.
وبحصول الشدائد والمحن يحصل التوجه والالتجاء إلى الله وحده، فحين تهتز الأسناد كلها يتوجه القلب إلى الله وحده، فلا يرى قوة إلا قوته، ولا يرى حولاً إلا حوله، ولا ملجأ إلا إليه، وهذه هي العبودية التي يريدها الله من عبده.
إن لهؤلاء في صلوات الله ورحمته وهدايته جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات.. وجزاء على الخوف والجوع والشدة.. وجزاء على القتل والشهادة.
فهذا العطاء من الله أثقل في الميزان من كل عطاء، أرجح من النصر، وأرجح من التمكين، وأرجح من شفاء غيظ الصدور.
فهذا طريق مَنْ يريد الله استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين.
وسنة الله جارية وفق ما يشاء، ومن سنة الله في المكذبين لرسله أن يأخذهم بالبأساء والضراء، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 94].
لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى، وأن يرقق القلوب التي طال عليها الأمد، وأن يتجه بالبشر الضعاف الغافلين إلى خالقهم القهار، يتضرعون إليه، ويطلبون رحمته وعفوه، ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له.
وليس بالله حاجة لعبادة العباد، فهو الغني وهم الفقراء، وهو القوي وهم الضعفاء، ولكن تضرع العباد وإعلان عبوديتهم لله إنما يصلحهم هم، ويصلح حياتهم ومعاشهم كذلك.(9/302)
فمتى أعلن الناس عبوديتهم لله تحرروا من العبودية لسواه.. تحرروا من العبودية للشيطان الذي يريد أن يغويهم.. وتحرروا من شهواتهم وأهوائهم التي تقعدهم عن طاعة الله.. وتحرروا من العبودية للعبيد أمثالهم.
استحيوا أن يطيعوا خطوات الشيطان.. واستحيوا أن يغضبوا الله بنية أو عمل وهم يتجهون إليه في الشدة ويتضرعون.
لذلك اقتضت سنة الله ومشيئته أن يأخذ أهل كل قرية يرسل إليها نبياً فتكذبه بالبأساء والضراء، استحياء لقلوبهم بالألم، والألم خير مهذِّب، وخير مفجر لينابيع الخير المستكنة، وخير موجه إلى ظلال الرحمة لعلهم يضرعون:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 95].
فإذا الرخاء مكان الشدة.. واليسر مكان العسر.. والعافية مكان الضر.. والأمن مكان الخوف.. وإذا هو متاع ورخاء، وكثرة وامتلاء، إنما هو في الحقيقة اختبار وابتلاء.
والابتلاء بالشدة قد يصبر عليه الكثيرون، فإنه يذكر صاحبه بالله، فيتجه إليه، ويتضرع بين يديه، فيجد في رحابه فسحة.
فأما الابتلاء بالرخاء فالذين يصبرون عليه قليلون، فالرخاء ينسي، والمتاع يلهي، والثراء يطفي.
فالثراء والغنى يولد حالة قلة المبالاة، وحالة الاستخفاف والاستهتار، فلا يجدون في أنفسهم تحرجاً من شيء يعملونه، ولا تخوفاً من أمر يصنعونه، خاصة حين يطول بهم العهد في اليسار والنعمة.
فهم يتنعمون في يسر، ويبطشون كذلك في استهتار، ويقترفون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان، وهم لا يتقون غضب الله، ولا لوم الناس، فكل شيء يصدر منهم عفواً بلا تحرج ولا مبالاة، وهم لا يفطنون لسنة الله في الكون، ومن ثم يحسبونها تمضي هكذا جزافاً بلا سبب معلوم، وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء، وقد أخذنا دورنا في الضراء، وجاء دورنا في السراء، هكذا يظنون.
عندئذ وفي ساعة الغفلة السادرة، وثمرة للنسيان واللهو والطغيان تجيء العاقبة وفق السنة الجارية: (? ? ? ? ??) [الأعراف: 95].(9/303)
هكذا تجري سنة الله أبداً وفق مشيئته في عباده، فتنة الاختبار والابتلاء بالضراء والسراء.
أما الطرف الآخر لسنة الله الجارية فكما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
فأهل القرى لو آمنوا بدل التكذيب، واتقوا بدل الاستهتار، لفتح الله عليهم بركات السماء والأرض، هكذا مفتوحة بلا حساب، من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فيض غامر من كل مكان.
وقد ينظر بعض الناس فيرى من يقول إنهم مسلمون مضيقاً عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق.
ويرى في المقابل أمماً لا يؤمنون بالله ولا يتقونه مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ.
فيتساءل وأين هي السنة الجارية التي لا تتخلف؟
ولكن هذا وذلك وهمٌ تخيله ظواهر الأحوال.
إن أولئك الذين يقولون إنهم مسلمون، لا مؤمنون ولا متقون، إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله، ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
إنهم في الواقع يسلمون رقابهم لعبيد منهم يتألهون عليهم، ويشرِّعون لهم، وما أولئك بالمؤمنين.
فالمؤمن حقاً لا يدع عبداً من العبيد يتأله عليه، ولا يجعل عبداً من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره.
ويوم كان المسلمون مؤمنين حقاً دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات السماء والأرض، وتحقق لهم وعد الله بالنصر والتمكين في الأرض.
وأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق، فهذه هي السنة، وهو الابتلاء بالنعمة، وهو أخطر من الابتلاء بالشدة، وفرق بينه وبين البركات التي يَعِدها الله من يؤمنون ويتقون.
فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، وكان معه الصلاح والأمن والرضا والراحة.
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى بركات في الأشياء.. بركات في النفوس.. بركات في المشاعر.. بركات في طيبات الحياة.. بركات تنمي الحياة وترفعها، وليست مجرد وفرة المال مع الشقوة والتردي والانحلال.
فكم من أمة غنية ولكنها تعيش في شقوة؟.(9/304)
فهي في حاضر نراه، يترقبه مستقبل نكد، وابتلاء يعقبه نكال: (ک ک ک گ گ گ گ ??) [يونس: 101].
فالعطاء ليس دائماً دليل رضى، فقد يكون مقدمة للعقوبة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 44].
إن شعور الإنسان بأنه مبتلى وممتحن بأيامه التي يقضيها على الأرض، وبكل شيء يملكه، وبكل متاع يتاح له، يمنحه مناعة ضد الاغترار والانخداع والغفلة، ويعطيه وقاية من الاستغراق في متاع الحياة الدنيا، ومن التكالب على هذا المتاع الذي هو مسؤول عنه وممتحن فيه.
وهي لمسة قوية للقلب البشري، إذ يدرك أنه مستخلف في ملك أُديل من مالكيه الأوائل، وأجلي عنه أهله الذين سبق لهم أن مكنوا فيه، وأنه هو بدوره زائل عن هذا الملك، ومحاسب على ما كسب فيه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ???? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 13،14].
وشعور الإنسان بالرقابة التي تحيط به يجعله شديد التوقي، شديد الحذر، شديد الرغبة في الإحسان، شديد الرغبة في النجاة من هذا الامتحان.
إن الحياة في الإسلام حياة متكاملة القواعد والأركان:
عقيدة.. وعبادة.. وأخلاق.. وطريقة حياة.
فالذي خلق البشر سبحانه أعلم بما يصلحهم وما يصلح لهم، وما يسعدهم وينجيهم، وما ينفعهم وما يضرهم فأكرمهم به كما قال سبحانه: ( چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 3].
والقرآن يقول لمن يطعمون الحياة الإسلامية والنظام الإسلامي بمنتجات أخرى ونظام آخر من صنع البشر: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [البقرة: 85].
إن هذا الإنسان الذي خلقه الله له في حياته حالتان:
الأولى: أحوال هو مقهور مجبور أن يسلم فيها لله كوجوده، ويوم ولادته، ولونه وشكله، وطوله وعرضه، ومرضه وصحته، وحركة قلبه ومعدته وروحه، ونحو ذلك.(9/305)
وكل ذلك وأمثاله لا تستطيع أن تفعله، بل أنت مكره فيه، ومجبور عليه، أن تسلم لله فيما يريد، ويجري عليك قدر الله في جميع ذلك، سواء أردت أو لم ترد.
الثانية: أحوال هو فيها مختار، وهي ما أعطاه الله فيها إرادة أن يفعل أولا يفعل، يسلم أو لا يسلم.
فهو مختار أن يؤمن أو يكفر.. أو يطيع أو يعصي.. أو يعدل أو يظلم.. أو ينفع أو يضر.. وهو محاسب على اختياره.
فالله عزَّ وجلَّ جعل في حياة بعض مخلوقاته كالإنس والجن مناطق الاختيار، يعطيهم فيه الحرية في أن يختاروا ما شاءوا، ومناطق هم مكرهون فيها، مقهورون عليها، لا اختيار لهم فيها، بل اختارها الله لهم، وتكفل بها، وأنفذها فيهم.
فقد يحدث للإنسان شيء أو يمرض أو يقع له ما يكرهه، ولو كان للإنسان هنا إرادة حرة لمنع حدوثه ما دام يكرهه، ولكنه مقهور لأمر الله فيه، لا يستطيع دفعه.
وما دام يكره شيئاً لا يستطيع دفعه فهو مكره ومجبور أن يسلم لله سبحانه فيما أراد.
ففي مثل هذه الأمور الإنسان مسلم لله كرهاً بلا اختيار.
بينما في أمور الدين الإنسان مسلم لله طوعاً باختياره، فيستطيع أن يصلي ويصوم، ويتصدق ويذكر الله، ويستطيع ألا يفعل ذلك.
وكل ما في السموات والأرض خاضع لله عزَّ وجلَّ مقهور بأمره، مسلم له، عبد له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 83].
فكل من في السموات والأرض أسلم لله جلَّ جلاله، والمطلوب من الإنسان أن ينسجم مع الكون كله في التسليم لله سبحانه، ويسلم حركته الاختيارية فيه لله سبحانه، وهي طاعة أمره وشرعه، كما أسلم لله فيما يكرهه ولا يقدر عليه.
فالمؤمن أسلم لله ربه في كل الأمور، فهو أسلم لله في الأمور التي له اختيار فيها، وهي طاعة الله ورسوله، وأسلم في الأمور التي ليس له فيها اختيار مما قدره الله عليه.
فأسلم قيادته لله طوعاً وكرهاً فيما يقدر عليه، وفيما لا يقدر عليه.(9/306)
أما الكافر الذي رفض أن يسلم قيادته لله في الأمور التي له فيها اختيار، فهو يكفر بالله باختياره الذي منحه الله له، ولكنه يسلم لله قهراً أو كرهاً فيما ليس له فيه اختيار، فهو مقهور ومجبور على الاستسلام لله كباقي المخلوقات، فهو والكون كله في قبضة الله.
وكل من في السموات والأرض عبيد لملك الملوك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [مريم: 93- 95].
فليس للعبد إلا أن يسلم ويذعن لمالكه، ويطيع أمره، فهو أعلم بما ينفعه ويصلحه.
وكل الكون خلقه الله وسخره وقهره على تنفيذ ما يريد، فالسموات والأرض قالتا أتينا طائعين إجلالاً لربها، ولو أنها لم تأت طائعة لجاءت مكرهة مقهورة لأمر ربها.
وكل الخلق راجعون إلى الله، فمن استغل الاختيار الذي أعطاه الله له في الدنيا، وخان الأمانة، وخرج عن الدين، وترك منهج ربه، فلن يفلت، ولن يدفع عن نفسه الموت، ولن يعطي لنفسه الخلود، وستنتهي فترة الاختيار، ويحاسب على ما اختار كما قال سبحانه: (? ? ?? ? ? ? ??) [الغاشية: 25،26].
إن مجامع المؤمنين تختلف عن مجامع الكافرين مادياً ومعنوياً كما قال سبحانه: (? ? ?? ? ? ? ??) [القلم: 35، 36].
مجامع الكفار تقف بمغرياتها الفخمة الضخمة، تقف بمالها وجمالها، وسلطانها وجاهها، تحقق المصالح، وتوفر المغانم، وتقف باللذائذ والمتاع، والكبر والإسراف.
أما مجامع المؤمنين فتقف بمظهرها الفقير المتواضع، تهزأ بالمال والمتاع، وتسخر من الجاه والسلطان، وتدعو الناس إليها، لا باسم لذة تحققها، ولا مصلحة توفرها، ولا قربى من ذي سلطان.
ولكن باسم العقيدة تقدمها إليهم مجردة من كل زخرف، عاطلة من كل زينة، معتزة بعزة الله دون سواه.
لا.. بل تقدمها إليهم ومعها المشقة والجهد والجهاد، لا تملك أن تأجرهم على ذلك كله شيئاً في هذه الأرض.
إنما هو القرب من الله، وجزاؤه الأوفى يوم الحساب فـ: (ے ے ? ? ? ??) [مريم: 73].(9/307)
الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -؟.. أم الفقراء الذين يلتفون حوله؟
إنها لحكمة الله. إنه الابتلاء.. إنه الامتحان.
أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء، عاطلة من عوامل الإغراء، لا أبهة ولا زينة، ولا زخرف ولا فخامة.
ليقبل عليها من يريدها خالصة لله من دون الناس، ومن دون ما تواضعوا عليه، وتعارفوا عليه من قيم ومغريات، وينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع، ومن يشتهي الزينة والزخرف، ومن يطلب المال والمتاع، ومن يركض وراء المنصب والجاه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ??) [مريم: 73].
وإذا غفل الناس عما جاء به الأنبياء من الحق، وأعرضوا عنه إلى غيره، استدرجهم الله من النعم إلى النقم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ??) [الأنعام: 44،45].
فهم يحسبون أن الإملاء لهم بعض الوقت، وإمدادهم بالأموال والبنين في فترة الاختبار، مقصود به المسارعة لهم في الخيرات، وايثارهم بالنعمة والعطاء: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 55،56].
إنما هي الفتنة والابتلاء، ولكنهم لا يشعرون لشدة سكرهم وغفلتهم بما وراء المال والبنين من مصير قادم، وشر مستطير، وعقاب ينتظرهم في النار: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 55].
والمشركون الذين لا يؤمنون بالآخرة، والذين تنكبوا الطريق، لا يفيدهم الابتلاء بالنعمة ولا الابتلاء بالنقمة.
فإن أصابتهم النعمة حسبوها إكراماً لهم على حسن عملهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 55،56].
وإن أصابتهم النقمة لم تلن قلوبهم، ولم تستيقظ ضمائرهم، ولم يرجعوا إلى الله، يتضرعون له، ليكشف عنهم الضر، ويظلون كذلك حتى يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة، فإذا هم حائرون يائسون: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?ٹ) [المؤمنون: 75،76].(9/308)
وإذا كان الإيمان درجات.. والرسل درجات.. والأعمال درجات.. فكذلك الابتلاء درجات.. وأشده ما خص الله به أنبياءه ورسله.. فهم أعظم الناس ابتلاء.. وأكملهم صبراً.. وأوفرهم أجراً.
فالإيمان ليس كلمة تقال باللسان، إنما هو الاستسلام لله بالطاعة والعبودية، وبذل كل شيء، وترك كل شيء من أجل ذلك.
فإبراهيم خليل الرحمن ابتلي بذبح ابنه إسماعيل، فما كاد يأنس به حتى ابتلي بذبحه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصافات: 102].
إنها إشارة وليست وحياً صريحاً، ولا أمراً مباشراً، ولكنها إشارة من ربه، وهذا يكفي، فلبى دون أن يعترض أو يسأل.
ولم يلبِّ في انزعاج ولا جزع، بل استجاب مطمئناً راضياً واثقاً أنه يؤدي واجبه، والذي لا يهوله الأمر فيؤديه في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي.
إن الأمر شاق على النفس جداً، فالله لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى المعركة.. ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته.. إنما يطلب إليه أن يتولى ذبح ابنه بيده.
وهو مع هذا يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض، ويطلب إليه أن يرى فيه رأيه.
إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه وينتهي، إنما يعرض الأمر عليه، كالذي يعرف المألوف من الأمر، فالأمر في حسه هكذا، ربه يريد فليكن ما يريد، وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة واستسلاماً، لا قهراً ولا اضطراراً؛ لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر، ويتذوق حلاوة التسليم لأمر ربه.
إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم يحب لابنه إسماعيل صلى الله عليه وسلم أن يتذوق حلاوة الإيمان، ولذة التطوع التي ذاقها.
فماذا كان من أمر الغلام الذي يعرض عليه الذبح تصديقاً لرؤيا رآها أبوه؟.
( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصافات: 102].
لقد تلقى الأمر لا في طاعة فحسب، ولكن في رضى كذلك ويقين.(9/309)
ثم هو الأدب مع الله بالاستعانة به على ضعفه، ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة.
فلم يأخذها بطولة، ولم يأخذها شجاعة، إنما أرجع الفضل كله لله، إنْ هو أعانه على ما يُطلب إليه، وأصبره على ما يراد به.
ثم يزيد البلاء بدفعه إلى التنفيذ: (? ? ? ??) [الصافات: 103].
ألا ما أعظم هذا الابتلاء، لقد كب إبراهيم ابنه على جبينه ليذبحه، والغلام استسلم للذبح فلا يتحرك اقتناعاً، وقد وصل الأمر إلى أن يكون عياناً.
لقد أسلما، فهذا هو الإسلام في حقيقته، ثقة وطاعة، وطمأنينة ورضى، وتسليم وتنفيذ.
وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي تنبي عن الإيمان العظيم.
إنها ليست الشجاعة ولا الاندفاع، إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل، القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون.
بل هنا الرضا الهادي المتذوق لحلاوة الطاعة.
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أسلما، ولم يبق إلا أن يذبح إبراهيم ابنه إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه.
وهذا أمر لا يعني شيئاً في ميزان الله، بعد ما وضع الأب وابنه في هذا الميزان من روحهما وعز مهما كل ما أراده الله منهما، فالابتلاء قد تم، ولم يبق إلا الألم البدني، وإلا الدم المسفوح، والجسد الذبيح.
والله عزَّ وجلَّ لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء.
فلما علم الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما، فاعتبرهما قد أديا، فأثمر الصدق والنجاة: (پ پ پپ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصافات: 104،105].
فالله عزَّ وجلّ لا يريد إلا الإسلام والاستسلام، بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله، أو تعزه عن أمره، أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد، ولو كانت هي النفس والحياة.(9/310)
فلما بذلا ذلك ولم يبق إلا اللحم والدم، فهذا ينوب عنه ذبح آخر، ذبح من لحم ودم، ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت بذبح عظيم، يذبح بدل إسماعيل، وهذا جزاء المحسنين، ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى تذكيراً بهذا الحادث العظيم.. الذي تجلت فيه حقيقة الإيمان، وجمال الطاعة، وجمال التسليم، وجمال الرحمة، وجمال البذل، وكمال التضحية.
وليعرف العباد أن الله لا يريد أن يعذبهم بالبلاء، إنما يريد أن تأتيه نفوسهم طائعة ملبية وافية، مؤدية مستسلمة، لا تقدم بين يديه، ولا تتألى عليه.
فإذا علم الله منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام، واحتسبها لها وفاءً وأداءً، وقَبِل منها، وفداها وأكرمها، فهي تذكر بالخير على توالي الأجيال والقرون: (? ? ? ٹ ٹٹٹ ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ?? ? ? ?? چ چ چ چ?) [الصافات: 106-111].
وقد ابتلى الله عزَّ وجلّ نبيه أيوب صلى الله عليه وسلم ليمتحن صبره، فكان يعيش في نعمة من المال والأهل والصحة.
فسلبه الله المال حتى لم يبق لديه شيء.. وسلبه الأهل والأولاد حتى لم يبق له إلا زوجه.. ثم سلبه الله الصحة، وابتلاه بالمرض حتى أصبح لا يخدم نفسه، ونفخ الشيطان في جسده حتى تقرح ثم تقيح.
والشيطان يأتي إليه في كل حال، ويذكره بالمال والأهل والعافية، ولكنه لا يبالي به صابراً لله كما قال الله عنه: ( ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [ص: 44].
ثم جاء الشيطان إلى زوجة أيوب، وذكرها بحالها الأولى، فاعترضت مرة على أيوب، فعلم أن الشيطان سوَّل لها، وحلف ليضربنها مائة سوط، فلما شفاه الله، وكانت امرأته صالحة محسنة إليه أفتاه الله أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة ليبر بيمينه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [ص: 44].(9/311)
فكان ما أصاب أيوب بسبب الشيطان، فشكاه إلى ربه، وصبر على هذا البلاء كله، فشفاه الله لأنه كمل مراتب العبودية لربه، فأمره أن يضرب الأرض برجله لينبع منها ماء يغتسل منه ويشرب، فيذهب عنه الضر، ففعل وذهب عنه الضر، وشفاه الله عزَّ وجلَّ.
ووهب له أهله ومثلهم معهم، وأغناه وأعطاه مالاً عظيماً، وعافاه في بدنه لكمال صبره على البلاء، وقوة يقينه على ربه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ??) [ص: 41-43].
فليتذكر أولو العقول بحالة أيوب ويعتبروا، فيعلموا أن من صبر على الضر أن الله تعالى يثيبه عاجلاً وآجلاً، ويستجيب دعاءه إذا دعاه، كما صبر أيوب صلى الله عليه وسلم على البلاء لوجه الله تعالى، وشكا إلى ربه وأناب إليه، فاستجاب له، وشفاه وأغناه فنعم العبد، ونعم الصابر، ونعم الرسول: ( ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [ص: 44].
والأنبياء فعلوا الأسباب، وأكلوا الطعام، وتزوجوا النساء؛ لأنهم قدوة للناس، وأكثر الأمة تركوا سنن العادة، وقاموا بسنن العبادة، وقد جعل الله لكل شيء سبباً.
وجهد الدعوة له ثلاث مراتب:
البداية.. التربية.. الثمرة..
فالبداية بالدعوة.. والتربية بالأحوال والابتلاء.. والثمرة بالنصرة ونزول الهداية.
فكل بلاء يصيب العباد لا كاشف له إلا الله الكافي الشافي.
وكل بلاء يصيب العبد يحتاج إلى صبر، وبحسب قوة البلاء تكون قوة الصبر، وبحسب قوة الصبر تكون كثرة الأجر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الزمر: 10].
وقوة الصبر على البلاء تنشأ من عدة أسباب:
أحدها: شهود جزاء المصيبة وثوابها.
الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.
الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة مسطورة في أم الكتاب قبل أن يخلق، فجزعه لا يزيده إلا عذاباً.
الرابع: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى وهو الصبر، أو الصبر والرضا وهذا أكمل، أو الصبر والشكر وهذا أعلى.(9/312)
الخامس: علمه أن المصيبة أصابته بسبب ذنبه، فشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة.
السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له، واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه.
السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع له، ساقه إليه العليم بمصلحته، الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه، الرحيم به، فليصبر على تجرعه.
الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لم تحصل بدونه، فلا ينظر إلى مرارة الدواء، بل ينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره.
التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أولياء الله وحزبه أم لا؟.
فإن ثبت اصطفاه واجتباه، وخلع عليه خلع الإكرام، وألبسه ملابس الفضل، وجعل أولياءه وحزبه خدماً له وعونا له.
وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طرد، وصفع قفاه، وتضاعفت عليه المصيبة وهو لا يشعر.
العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال، فإن العبد حقاً من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال.
وأما عبد السراء والعافية، الذي يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، ولو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه ولسانه بشكره.
فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر و(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].(9/313)
والله جل جلاله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، قدر جميع ما يجري في الكون من الأرزاق والآجال، والأقوال والأعمال، والمصائب، والأحوال كما قال سبحانه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 22،23].
فالله سبحانه قدر ما يصيب العباد من المصائب قبل أن يخلق ويبرأ الأنفس والمصائب والأرض.
وأخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه، وأنه يسير عليه، وحكمته البالغة التي منها ألا يحزن عباده على ما فاتهم إذا علموا أن المصيبة فيه بقدره وكتابته، وقد كتبت قبل خلقهم.
فإذا علموا ذلك هان عليهم الفائت فلم يأسوا عليه، ولم يفرحوا بالحاصل لعلمهم أن المصيبة مقدرة في كل ما يقع على الأرض، فكيف يفرح بشيء قد قدرت المصيبة فيه قبل خلقه؟.
ولما كانت المصيبة تتضمن فوات محبوب أو خوف فواته.. أو حصول مكروه أو خوف حصوله، نبه بالأسى على الفائت على مفارقة المحبوب بعد حصوله، وعلى فوته حيث لم يحصل، ونبه بعدم الفرح به إذا وجد على توطين النفس لمفارقته قبل وقوعها، وعلى الصبر على مرارتها بعد الوقوع.
وهذه هي أنواع المصائب، فإذا تيقن العبد أنها مكتوبة مقدرة، وأن ما أصابه منها لم يكن ليخطئه، وإنَّ ما أخطأه منها لم يكن ليصيبه هانت عليه، وخف حملها، وأنزلها منزلة الحر والبرد.
والجزع ضعف في النفس، وخوف في القلب.. يمده شدة الطمع والحرص.. ويتولد من ضعف الإيمان بالقدر.
ومتى آمن العبد بالقدر علم أن المقدر كائن ولا بدَّ، وعلم أن المصيبة مقدرة في الحاضر والغائب، فلم يجزع ولم يفرح، وإلا فالجزع عناء محض، ومصيبة ثانية.
أما رقة القلب فإنها ناشئة من صفة الرحمة التي هي كمال، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، وكان رسول الله أرق الناس قلباً، وأغزرهم دمعاً، وأبعدهم من الجزع؛ لكمال معرفته ورحمته، وأقرب الخلق إلى الله أعظمهم رأفة ورحمة.(9/314)
فالقلب إذا أشرق فيه نور الإيمان، واليقين بالوعد، وامتلأ من محبة الله وإجلاله رق، وسكنت فيه الرحمة والرأفة، فتراه رقيق القلب رحيماً بكل مخلوق: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 128].
ولا يجوز للعباد أن يرضوا بكل مقضي مقدر من أفعال العباد كالكفر والمعاصي، ولكن على الناس أن يرضوا بكل ما أمر الله به وشرعه، فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به وشرعه.
وينبغي للإنسان أن يرضى بما قدره الله عليه من المصائب التي ليست ذنوباً، مثل أن يبتليه بفقر أو مرض، أو ذل أو أذى الخلق له، فإن الصبر على المصائب واجب، والرضا بها مشروع: (? ? ??) [المعارج: 5].
وعلى المسلم في جميع الأحوال في السراء والضراء لزوم الأوامر الشرعية، وعدم التأثر بالأحوال، وبسبب الأوامر نتحمل الأحوال، وبسبب الأحوال لا نغير الأوامر ليكون الله معنا، ويكشف ما حل بنا: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 120].
وكل ما قدره الله وقضاه من أنواع الابتلاء والامتحان والآلام للأطفال والحيوانات، ومن هو خارج عن التكليف، ومن لا ثواب ولا عقاب عليه، كله جار على مقتضى الحكمة.
فالرب سبحانه أسماؤه حسنى، وصفاته كاملة، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة، وله على ذلك كل حمد ومدح وثناء، وكل خير فمنه وله وبيده، وهو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.
والشر ليس إليه بوجه من الوجوه، وإن كان في مفعولاته فهو خير بإضافته إليه، وشر بإضافته إلى من صدر منه أو وقع به.
والأمر قسمة بين فضل الله وعدله، فيختص برحمته من يشاء، ويقصد بعذابه من يشاء، وهو المحمود على هذا وهذا.
فالطيبون من خلقه مخصوصون بفضله ورحمته، والخبيثون مقصودون بعذابه، ولكل واحد قسطه من الحكمة والابتلاء والامتحان، وكلٌّ مستعمل فيما هو مهيأ له، وله مخلوق، وكل ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين، فإنه تعالى خلقهم للخيرات فهم لها عاملون.(9/315)
فإذا واقعوا معصية عاد ذلك عليهم رحمة، وانقلب في حقهم دواء، وبُدِّل حسنة بالتوبة النصوح، والحسنات الماحية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الفرقان: 68-70].
لأنه سبحانه عرفهم بنفسه وبفضله، وأن قلوبهم بيده، وعصمتهم إليه، وأراهم عزته في قضائه، وبره وإحسانه في عفوه ومغفرته، وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم والجهل.
وأشهدهم حاجتهم إليه، وافتقارهم وذلهم بين يديه، وأنه إن لم يغفر لهم، ويعف عنهم، فليس لهم سبيل إلى النجاة أبداً.
فإنهم لما عزموا ألا يعصوه، ثم عصوه بمشيئته وقدرته، عرفوا بذلك عظيم قدرته، وجميل ستره إياهم وكريم حلمه عنهم، وسنة مغفرته لهم، فدعوه فأجابهم وتاب عليهم.
فلما تابوا إليه واستغفروه عرفهم رحمته وسعة مغفرته، وأشهدهم حمده العظيم، وبره العميم، وكرمه في أن خلى بينهم وبين المعصية فنالوها بنعمته وإعانته، ثم لم يخل بينهم وبين ما توجبه من الهلاك والفساد، بل تداركهم بالدواء الثاني الشافي فرحمهم، وجعل تلك الآثار التي توجبها المعصية من المحن والبلاء والشدائد رحمة لهم، وسبباً إلى علو درجاتهم، ونيل الزلفى والكرامة عنده سبحانه.
فأشهدهم العزيز الحكيم بالجناية عزة الربوبية وذل العبودية، ورقاهم بآثارها إلى منازل قربه ونيل كرامته.
والله تبارك وتعالى أرحم بعباده من أنفسهم وأعلم بما يصلحهم، وهو الذي يربيهم بما ينفعهم، فمتى مال قلب العبد إلى ما سوى الله جعل الله ذلك الشيء منشأ للآفات، فحينئذ ينصرف وجه القلب عن المخلوق إلى الخالق، وفي ذلك سعادته ونجاته وفلاحه.
فآدم - صلى الله عليه وسلم - لما تعلق قلبه بالجنة جعلها الله محنة عليه حتى زالت الجنة، فبقي آدم مع ذكر الله سبحانه.
ولما استأنس يعقوب صلى الله عليه وسلم بيوسف - صلى الله عليه وسلم - أوقع الفراق بينهما، حتى بقي يعقوب مع ذكر الحق سبحانه.(9/316)
ولما طمع محمد صلى الله عليه وسلم من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس عليه، فما أوذي نبي مثل ما أوذي، حتى صار اعتماده وتوكله باليقين على ربه وحده، ولم يلتفت إلى ما سواه.
والله تبارك وتعالى خلق السموات والأرض ليبتلي عباده بأمره ونهيه، وهذا الحق الذي خلق به خلقه.
وخلق الموت والحياة ليبتليهم أيضاً، فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه، وقدر عليهم الموت الذي ينالون به عاقبة ذلك الابتلاء من الثواب والعقاب.
وزين لهم ما على الأرض من أشياء وشهوات ليبتليهم به، أيهم يؤثر ذلك عليه سبحانه.
وابتلى بعضهم ببعض، وابتلاهم بالنعم والمصائب.
فأظهر هذا الابتلاء علمه السابق فيهم موجوداً عياناً، بعد أن كان غيباً في علمه لا يعلمه إلا هو.
فابتلى سبحانه أبوي الإنس والجن كلاً منهما بالآخر، فأظهر ابتلاء آدم ما علمه منه، وأظهر ابتلاء إبليس ما علمه الله منه، فلهذا قال سبحانه للملائكة: (? ? ? ? ??) [البقرة: 30].
واستمر هذا الابتلاء في الذرية، ولا زال ماضياً إلى يوم القيامة، فابتلى الأنبياء والرسل بأممهم، وابتلى أممهم بهم.
وبهذا الابتلاء والامتحان تظهر الحقائق، ويظهر ما كان كامناً في النفوس ولذا قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 20].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 35].
وأكثر الناس لا يعترف بما كان عليه أولاً من نقص وجهل وفقر وذنوب، وأن الله سبحانه نقله من ذلك إلى ضد ما كان عليه، وأنعم عليه بذلك ظاهراً وباطناً.
ولذا ينبه الله سبحانه الإنسان على مبدأ خلقه الضعيف من الماء المهين، ثم نقله في أطباق خلقه وأطواره من حال إلى حال، حتى جعله بشراً سوياً يسمع ويبصر، وينطق ويبطش، ويعلم ويتحرك، ويأمر وينهى، ويصول ويجول، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [المعارج: 38،39].(9/317)
فهو سبحانه الرب الإله الذي خلقهم مما يعلمون، لا يحسن به مع ذلك أن يتركهم سدى، لا يرسل إليهم رسولاً، ولا ينزل عليهم كتاباً، ولا يعجز سبحانه مع ذلك أن يخلقهم بعد ما أماتهم خلقاً جديداً، ويبعثهم إلى دار يوفيهم فيها أعمالهم من خير أو شر.
فكيف يطمع هؤلاء الكفار في دخول الجنة وهم يكذبون الله، ويكذبون رسله، ويعدلون به خلقه، وهم يعلمون من أي شيء خلقهم؟.
وسبب الخذلان لهم عدم صلاحية المحل وأهليته، وعدم قبوله للنعمة، بحيث لو وافته النعم لقال هذا لي، وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه، كما قال سبحانه عن قارون حين: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [القصص: 78].
وسليمان - صلى الله عليه وسلم - رأى ما أوتيه من الملك من فضل الله عليه ومنته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [النمل: 40].
أما قارون فرأى ذلك من نفسه واستحقاقه وأنه أهله وحقيق به، وإذا علم الله هذا من قلب العبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه وتخليه عنه، فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة.
فأسباب الخذلان من النفس.. وأسباب التوفيق مِن جَعْل الله لها قابلة للنعمة، فأسباب التوفيق منه ومن فضله.. وهو الخالق لهذه وهذه.. كما خلق أجزاء الأرض هذه قابلة للنبات.. وهذه غير قابلة له.. وخلق الشجر هذه تقبل الثمرة.. وهذه لا تقبلها.
وخلق الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره، وإجلاله وتعظيمه، وتوحيده ونصح عباده.. وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك، بل لضده، وهو الحكيم العليم.
والإنسان لا يصل إلى أسمى الغايات وأكمل النهايات إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وهذا الجسر لكماله يشبه الجسر الذي لا سبيل إلى دخول الجنة إلا بعبوره.
وكم لله من نعمة ورحمة ومنحة فيما يبتلي به عباده، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه رحمة ونعمة، فكم لله من نعمة جسيمة ومنَّة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان.(9/318)
فتأمل حال أبينا آدم - صلى الله عليه وسلم -، وما آلت إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء، والتوبة والهداية، ورفعة المنزلة، فلولا تلك المحنة التي جرت عليه، وهي إخراجه من الجنة وتوابع ذلك، لما وصل إلى ما وصل إليه من التكريم، وبعث الأنبياء والرسل والمؤمنين والمجاهدين من نسله.
وتأمل حال أبينا الثاني نوح صلى الله عليه وسلم ، وما آلت إليه محنته وصبره على قومه تلك القرون كلها، حتى أقر الله عينه، وأغرق أهل الأرض من الكفار بدعوته، وجعل العالم من بعده كلهم من ذريته، وجعله من أولي العزم الذين هم أفضل الرسل.
ثم تأمل حال أبينا الثالث إبراهيم صلى الله عليه وسلم إمام الحنفاء، وأبو الأنبياء، وخليل رب العالمين، لما بذل نفسه وما يملك لله ونصرة دينه اتخذه الله خليلاً لنفسه، وأمر سيد الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملته.
وجازاه سبحانه على تسليمه ولده لأمر الله أن بارك في نسله، وكثَّره حتى ملأ السهل والجبل.
فالله سبحانه جواد كريم من ترك لوجهه أمراً أو فعله لوجهه بذل الله له أضعاف ما تركه من ذلك الأمر أضعافاً مضاعفة، وجازاه بأضعاف ما فعله لأجله أضعافاً مضاعفة.
فلما أمر الله إبراهيم بذبح ولده فبادر لأمر الله، ووافق عليه الولد أباه، وكلاهما رضي وسلم لأمر لله، وعلم الله منهما الصدق والوفاء، فداه بذبح عظيم، وأعطاهما الملك والنبوة، وبارك في نسلهما حتى ملؤوا الأرض.
وجعل من نسلهما هاتين الأمتين العظيمتين: (بنو إسرائيل).. و(بنو إسماعيل).
مع ما أكرمه الله به من رفع ذكره، والثناء الجميل عليه على ألسنة جميع الرسل والأمم من بعده، وفي السموات بين الملائكة: (? ? ?? ? ? ?? چ چ چ چ?) [الصافات: 109-111].(9/319)
ثم تأمل حال الكليم موسى صلى الله عليه وسلم ، وما آلت إليه محنته وفتونه من أول ولادته إلى منتهى أمره، حتى كلمه الله تكليماً، وقربه منه، واصطنعه لنفسه، وكتب له التوراة بيده، ورفعه إلى أعلى السموات، واحتمل له ما لا يحتمل لغيره، لتحمله الشدائد والمحن العظام في الله، ومقاساة الأمر الشديد مع فرعون وقومه، ثم مع بني إسرائيل.
ثم تأمل حال المسيح صلى الله عليه وسلم وصبره على قومه، واحتماله في الله ما تحمله منهم، حتى رفعه الله إليه، وطهره من الذين كفروا، وانتقم من أعدائه، وقطعهم في الأرض، ومزقهم كل ممزق، وسلب ملكهم وفخرهم إلى آخر الدهر.
ثم تأمل حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته مع قومه، وصبره في الله، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله، وتلون الأحوال عليه، من سلم وحرب، وغنى وفقر، وإقامة وظعن، وخوف وأمن، وتركه من أجل الله كل شيء، وقتل أحبابه وأوليائه وأصحابه بين يديه كما حصل في أُحُد وغيرها.
وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل، والسحر والكذب، والافتراء عليه، والاستهزاء به، والسخرية منه ومن دينه وأتباعه، وهو في ذلك كله صابر على أمر الله، يدعو إلى الله، ويرحم عباد الله، ويستعطفهم ليؤمنوا بالله.
فلم يؤذَ نبي ما أوذي كما قال صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ أُخِفْتُ فِي ا? وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي ا? وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ» أخرجه الترمذي وابن ماجه(1).
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2472)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي (2012).
وأخرجه ابن ماجه برقم (151)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (123).(9/320)
فرفع الله ذكره.. وقرن اسمه باسمه.. وجعله سيد الناس كلهم في الدنيا والآخرة.. وجعله أقرب الخلق وسيلة.. وأعظمهم جاهاً.. وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته.. وهو مما زاده الله بها شرفاً وفضلاً.. وساقه بها إلى أعلى المقامات.
وهذا حال ورثته من بعده الأمثل فالأمثل، كل له نصيب من المحنة والابتلاء، يسوقه الله بها إلى كماله بحسب متابعته له.
فكم لله من الحكم في ابتلائه أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، ما تتقاصر عقول العالمين عن معرفته، وهل وصل من وصل إلى المقامات المحمودة والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء.
ونصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى، وأكمل المؤمنين إيماناً أعظمهم رحمة، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [الفتح: 29].
والمؤمن كلما اتسع علمه بالله ودينه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلماً، وهو سبحانه أرحم بالعبد من نفسه، وأعلم بمصلحة العبد من نفسه، ومن تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [البقرة: 216].
10- فقه الشورى
قال الله تعالى: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [آل عمران: 159].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [الشورى: 38].
الشورى: هي استلهام الرأي السديد لمصلحة الدين.
والشورى جزء من الدين، وسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي شعار هذه الأمة، والدين يحتاج إلى الشورى، لينتشر في العالم، وتظهر سننه وآدابه في الناس.
ومهمة الشورى: تقليب أوجه الرأي، واختيار الاتجاه السليم من الآراء والاتجاهات المعروضة.(9/321)
فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد انتهى دور الشورى، وجاء دور التنفيذ، التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله يصل الأمر بقدر الله، ويكل أمر العواقب إليه.
فللشورى وقتها، ولا مجال بعدها للتأرجح والتردد، ومعاودة تقليب الرأي من جديد، فهذا مآله الشلل والسلبية وتوهين العزائم، والتأرجح الذي لا ينتهي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [آل عمران: 159].
وإذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة، فلا ينبغي أن يقع الاعتماد عليه، بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته في جميع الأمور.
والشورى في أمور الدين والدعوة والجهاد من العبادات المتقرب بها إلى الله، وفي الشورى من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره:
فمشاورة الرسول أو الداعي للمؤمنين توجب علو شأنهم، ورفعة درجتهم، وذلك يقتضي شدة محبتهم له، وحسن انقيادهم إليه، وخلوصهم في طاعته.
وبالشورى تُعلم مقادير عقول الناس وأفهامهم، ومقدار حبهم للدين، ومقدار استعدادهم للقيام بالدين، فيستخدمهم للدين كل حسب منزلته.
ومشاورة المسلمين في أمور الدين تشعرهم بأن لهم قدراً عند الله، وعند الخلق، وأنهم مسؤولون عن الدين، والملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده، وبذلك تجود عقولهم بأنفس الآراء وأصوبها.
وفي الشورى تسميح لخواطر المؤمنين، وإزالة لما يصير في النفوس من آثار سوء الفهم، فإن من له الأمر على الناس إذا جمع أهل الرأي والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح المسلمين.
وفي الاستشارة تنور الأفكار بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.
ومنها ما تنتجه الشورى من الرأي المصيب، فإن المشاوِر لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب فليس بملوم؛ لأنه فعل ما يمكنه، وما ندم من استخار، ولا خاب من استشار.(9/322)
وللشورى آداب:
فأساس الشورى الأمانة والنصيحة، والرحمة والشفقة، واللين والمحبة، والعفو والصفح عن الإساءة، وجمع القلوب على الهدى، وخفض الجناح للمؤمنين.
فنعطي الرأي بأمانة وصدق لمصلحة الدين.. ونحب الخير للجميع.. ونحترمهم ونوقرهم حتى نستفيد من استعداد الناس لخدمة الدين ونشره وتعليمه.. ونلين لهم حتى تجتمع القلوب على الإيمان ولا تنفر من العمل، وحتى لا يضيع الاستعداد الموجود في الأمة.. والناس معادن كمعادن الذهب والفضة فنستفيد من كل واحد بحسبه: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [آل عمران: 159].
ونعفو ونستغفر لأهل الشورى كما قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : (ٹ ? ? ?) [آل عمران: 159].
فالعفو عن منصب النبوة الذي قصروا فيه، فلهذا المنصب حق عليهم، فإن قصروا فيه فاعف عنهم تأليفاً لقلوبهم.
والاستغفار لهم عن تقصيرهم في حق الله، لعل الله سبحانه أن يغفر لهم بدعائك لهم.
فأنت تعفو عن حقك يا محمد.. والله يعفو عن حقه.. حتى يصير الأمر نقياً.. فإذا عفوت عنهم، والله غفر لهم، فالآن: (? ? ??) [آل عمران: 159].
لأن الدين كله مسؤوليتهم.. وهم سيتحملونه بعدك.
ونستخدم أسلوب التأليف في الشورى:
كيف ترون؟..، ماذا ترون؟.. ماذا تقول يا فلان؟..
تعظيماً للدين.. وإجلالاً لحملته.. وتأليفاً لقلوبهم.. لتخدم الدين.. وتشعر بالمسؤولية.. وتنهض بأعبائها على الدوام.(9/323)
والله عزَّ وجلَّ يريد منا الاجتماع وعدم التفرق، فلا نشذ عن أهل الشورى ونخالفهم، وإذا انقطع أحد تبعه غيره يلتمس له العذر، ويؤلف قلبه حتى يعود إلى الجماعة، ولما بويع لأبي بكر - رضي الله عنه - بالخلافة تأخر علي - رضي الله عنه - وغيره عن البيعة، فذهب أبو بكر - رضي الله عنه - إليهم ورغبهم ليبايعوا؛ لأنه صار خليفة فرضوا، فطلب منهم أبو بكر أن تكون البيعة في المسجد لئلا يكون في قلوب الناس عليهم شيء، ليكون المجتمع سوياً مستقيماً كأسنان المشط، لا طمعاً في الولاية والتسلط، فحضروا وبايعوا.
وفي الشورى نشاور جميع من حضر، من عنده القدرة، ومن ليس عنده القدرة؛ للتأليف، ولكن لا يؤخذ الرأي إلا من أهل الرأي، فنأخذ رأيهم لوجود الاستعداد عندهم.
ويكون عندنا الاستغناء عن أموال الناس، ولكننا بحاجة إلى استعدادهم لخدمة الدين، فنبين مناقبهم وفضائلهم في خدمة الدين، لينشطوا ويرغبوا غيرهم في ذلك كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم مناقب أصحابه أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والزبير وسعد ومعاذ وأبي عبيدة وغيرهم رضوان الله عليهم، وفي ذلك إظهار لمحاسن أصحابه ليقتدى بهم.
فنظهر محاسن أصحابنا ونجمعها ونعلنها لخدمة الدين.
ونوقر ونحترم أهل الشورى، ونقدمهم في الرأي والمكان، خاصة ممن لهم قدم صدق في الدين، ممن بذلوا أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم لخدمة الدين، ونعرف لهم فضلهم، ونعتني بهم أكثر من غيرهم؛ لأنهم يحملون المسؤولية وهم تحت الشورى، وهؤلاء يفيدون جميع الأمة، وبسببهم ينتشر الإيمان وتنتشر الأعمال في العالم، فحقهم كبير، وأجرهم عند الله عظيم.
ونجتنب في جميع الأحوال الطعن واللمز، والسب والشتم، فليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء.
ونقدم الرأي ونشير به على أساس الأمانة لمصلحة الدين، ومصلحة المسلمين، ومصلحة الإنسانية، نقدمه ونحن مستعدون للقيام به.(9/324)
ونجلس في الشورى ونحن مستعدون للقيام بأي عمل من أعمال الدين نكلف به، وذلك ليحصل لنا أجر ذلك العمل وإن لم نكلف به، فإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
ونحترم الآراء في الشورى، ونسمعها كلها، ولا نحقر أحداً، ولا رأيه، ولا نكتم الرأي، بل نقدمه خدمة للدين، وبقدر صفاء القلب، وشدة الحب، وقوة الهم، تكون قوة الرأي، وقوة العمل، وقوة التضحية.
ونتجنب الإصرار على آرائنا والاستكبار على غيرنا، فالإصرار والاستكبار مرضان في قوم نوح الذين أهلكهم الله بعدما شكاهم نوح إلى ربه: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [نوح: 5-7].
فقوم نوح أصروا على رأيهم الباطل، واستكبروا عن الحق الذي جاء من الله، فنقول رأينا بصدق، ونسمع من الآخرين، والله يلهمنا الصواب منهما.
ومن الآداب: عدم الإعجاب بالنفس أو الرأي بل يكون عنده الاستعداد إن أخذ منه الرأي، وكان علي - رضي الله عنه - يجلس خلف المجلس ويسأله عمر - رضي الله عنه - أخيراً.. ماذا ترى يا أبا الحسن؟.
فإن أخذ أهل الشورى برأي أحدنا استغفرَ الله؛ لأنه قد يكون خطأ، وإن لم يأخذوا برأيه جزم بأن رأي غيره أصوب منه، وبذلك يسلم ويطرد العجب عن نفسه.
ونقدم الآراء في الشورى لمصلحة الدين بحرية كاملة مع احترام آراء الآخرين.
وتارة نسمع الآراء ثم يأتي الفصل كما سمع النبي صلى الله عليه وسلم الآراء في أسارى بدر ثم فصل بأخذ الفدية وإطلاقهم، وكما سمع الآراء في الخروج إلى قريش في أحد ثم فصل بالخروج إليهم.
وتارة يفصل النبي صلى الله عليه وسلم برأي واحد كما أخذ برأي سلمان - رضي الله عنه - في حفر الخندق، وفصل به؛ لأنه لا يعرفه غيره.
ونتوجه إلى الله في جميع أمورنا، نتوجه إليه وحده في الشورى، ونستلهمه الرأي السديد لخدمة الدين، فالدين يحتاج إلى رأي كل فرد، كالبدن يحتاج إلى كل الجوارح.
فنطلب الجميع في الدعوة والجهاد.. والتعليم والشورى، فالجميع عليهم مسؤولية الدين.(9/325)
وينبغي توحيد الفكر، واجتماع القلوب في الشورى، فنجتمع، ثم نتفكر، ثم نتفق، ثم نقوم بالعمل.
فالماكينة تؤدي وظيفتها وهي مكونة من مجموعة قطع وأجهزة، فهكذا أعمال الدين من عبادة ودعوة، وتعليم وجهاد، لا تزيد إلا بالاجتماع، وإذا حصلت الفرقة جاء الخلل والنقص كما حصل في أُحد، كما أن الآلة بفقد جزء منها يحصل الخلل، ويتغير الصوت، ويقل الإنتاج.
ونقبل المسؤولية مهما كانت، ولا نفزع منها، ولا نتأخر عنها، نقبلها تحملاً للأمانة، وأداء لها، ولا نقبلها من باب الحرص عليها فنوكل إليها ونعجز عنها، فنحن لا نطلبها ولكن لمصلحة الدين نتحملها، فالله يعيننا عليها، ونتحملها بنية نفع المسلمين، ولنكون سبباً لدخولهم الجنة.
والمستشار مؤتمن، والدين النصيحة، والأحوال والمسائل التي تظهر بسبب الجهد والدعوة لا بد من إظهارها في الشورى ليتم حلها، ولا تكتم المسائل، بل تُظهر ليعلم بها أهل الشورى، فيأتي عندهم الفكر في حلها، وتزول من النفوس، وتبقى مطمئنة مستعدة لأي عمل.
وكتمان المسائل والأحوال عن أهل الشورى يؤدي إلى سوء الظن، وسوء الفهم، وسوء العمل.
فتأتي الغيبة.. ثم تأتي الفرقة.. ثم يأتي الانقطاع والحرمان.
وإذا حصل سوء الفهم بسبب النسيان نعتذر ونقول: نسينا أن نخبرك فسامحنا.
والتفكر من أجل الدين، والشورى من أجل الدين، من أهم الأعمال وأجلها، فنجلس من أجل الدين يومياً، ونتشاور في مجال الدعوة كيف تنشر الهداية في العالم؟.
وبعد سماع الآراء يكون الفصل وأخذ الرأي السديد، ثم يكون بعد ذلك التنفيذ فوراً، وبذلك ينتشر العمل في العالم.
وبعد الشورى ننفق ما عندنا من الجهد والمال والوقت لتنفيذ ما فصل به في هذه المشورة: (? ? ??) [البقرة: 3].
فإذا اتفقوا أنفقوا على ما اتفقوا عليه مما رزقهم الله.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم مع كبار الصحابة رضي الله عنهم يتفكرون ويتشاورون كل يوم من أجل الدين ونشر الهداية في العالم.(9/326)
وكان ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتشاورون مع عمر - رضي الله عنه - أثناء خلافته في المسجد النبوي من أجل الدين ونشره والجهاد من أجله، وما يقارب من ثلاثين ألفاً من المسلمين كانوا في الحركة في العالم، فكانت المسائل والأحوال تأتي من الخارج، من الميدان في أنحاء الأرض، وعمر - رضي الله عنه - يحملها لأهل الشورى، تارة للمهاجرين والأنصار كلهم، وتارة لبعضهم، حسب أهمية الأمر.
وبذلك انتشر الإسلام، واتسعت الفتوحات، ودخل الناس في دين الله أفواجاً؛ لأن في الصحابة كلهم ثلاثة أشياء:
فكر محمد... وحياة محمد.. وجهد محمد صلى الله عليه وسلم .
فانتشر التوحيد والإيمان.. والعلم والعمل.. والأخلاق والآداب.. والسنن والأحكام.. كلها في وقت واحد.. لأنهم تيقنوا أنه كما أن العبادة على جميع الأمة.. فكذلك الدعوة على جميع الأمة.
والمجالس بالأمانة، فكل ما يجري في الشورى مما لا يصلح نشره ولا يليق إظهاره، فلا نظهره للناس، ونبشر ولا ننفر، ونتطاوع ولا نختلف، ونيسر الأمور، ونتوجه إلى الله بالدعاء في حل جميع المسائل.
ونقوم بالعمل، ونستمر فيه، حتى يحيا الدين كله في العالم كله.
ونستغفر من التقصير، فالعمل عظيم، والرب له حقوق.
والعبد عليه واجبات فيما يخص نفسه، وفيما يخص غيره، والتقصير حاصل في هذا وهذا.
فالاستغفار لازم، والتوبة واجبة، ونعفو ونصفح عن بعضنا، وندعو لبعضنا بالإعانة والتوفيق، ونتوجه إلى الله، ونكل أمورنا إليه، ونبادر إلى ما أمرنا به: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 15].
والمؤمنون لاجتماعهم وتآلفهم وتوادهم، وتراحمهم وتحابهم وكمال عقولهم لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم.(9/327)
فإذا أرادوا أمراً من الأمور التي تحتاج إلى إعمال فكر ورأي، اجتمعوا لها وتشاوروا، حتى إذا تبين لهم الرأي السديد أخذوا به، وبادروا إلى تنفيذه كما أخبر الله عنهم بقوله: (ں ں ?) [الشورى: 38].
ويجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من مسائل الدين، ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلق بالحروب والغزوات، ومشاورة وجوه الناس فيما يتعلق بمصالح المسلمين.
وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أهل الرأي من أصحابه في أمور عامة وخاصة.
فاستشارهم في شأن المنبر.. وفي النداء للصلاة..
واستشار صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أربع مرات:
شاور صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم في الخروج إلى عير قريش.. وشاورهم لما علم بخروج قريش لقتاله.
وشاورهم صلى الله عليه وسلم في المنزل يوم بدر.
وشاورهم صلى الله عليه وسلم الرابعة في أسارى بدر.
وشاور صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج إلى أحد لقتال قريش، وشاور أصحابه في غزوة الخندق مرتين:
الأولى: في كف كيد الأحزاب، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق فحفره.
الثانية: استشارهم في مصالحة المشركين على ثلث ثمار المدينة، ويرجعوا فأبى المسلمون إلا قتالهم.
وشاور أصحابه عام الحديبية.. وشاورهم في حصار الطائف..
وشاور علياً وأسامة في أمر عائشة في قصة الإفك.. وغير ذلك كما ورد في السنة.
والشورى مجالها فيما لم ينزل فيه وحي، أما ما ورد فيه نص من الكتاب أو السنة فلا مجال للشورى فيه، فإنه واجب الاتباع كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الأحزاب: 36].
والأمة فيها الاستعداد لنشر الدين، بل الواحد منا عنده استعداد لكافة الأمة، ولكن ضاع الاستعداد في الغفلات والشهوات وحب الدنيا.
والآراء في الدين تلهم في القلوب حسب صفاء القلوب، وكم كان صفاء قلب عمر فينزل الوحي حسب رأيه.(9/328)
والكبير يستشير الصغير؛ لأن الأمر يعود إلى الكبير، وتؤخذ الشورى ممن يقوم بالعمل لا ممن لا يقوم بالعمل ولا يعرفه، ونأخذ الرأي من الجميع، فمن لم نستشره كيف نستخدمه.
ولا نجتهد في العمل بل نعمل بالسنن كما وردت، ولا نحدث شيئاً لأنه يشوش الآخرين، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة أن يذهب إلى عسكر المشركين في غزوة الأحزاب ولا يحدث شيئاً، فذهب وجاء بالخبر، وفي صلح الحديبية أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بأشياء وصبروا على ما جاء في الصلح فكان بعدها الفتح الأعظم ودخول الناس في دين الله، والعواطف ولو كانت حسنة فإنها لا تقدم على الأوامر، ولا بد من اتحاد الفكر، واجتماع القلوب على المنهج الصحيح.
ونحن أدلاء، والله هو المربي، والتربية تكون بالصحبة، والصحبة لا تنفع إلا مع سلامة الصدر، وكذلك المشورة.
والمشورة عمل اجتماعي لمصلحة الدين، والمشورة تجمع القلوب، وتنشط الأفكار في قلوب الدعاة.
ونجعل الشورى عملاً اجتماعياً بأمرين:
الأول: أن نضحي بأوقاتنا، ونؤخر أشغالنا، ونحضر في الشورى، فالذي لا يحضر في الشورى كالذي لا يحضر الصلاة، والذي يحضر ويجتهد الله يلهمه المراشد لهداية الأمة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
فالأمة تجتمع في العبادات في الصلاة، وتجتمع على الدعوة بالشورى، فنحضر في الشورى كما نحضر في الصلاة.
الثاني: أن نتشاور في الدعوة جميعاً؛ لئلا تكون الأحزاب، ويتصرف كل واحد حسب هواه.
ففي أي عمل اجتماعي الحوائج تقضى.. والمانع يزول.. والبركة تنزل.. وأعمال الدين فيها نور النبوة، دعوة وتعليم، عبادة وشورى، والدعوة لا تمشي إلا بمزاج النبوة.
ونتجنب الإصرار على الرأي؛ لأن الذي يصر على رأيه يجد في نفسه أنه هو الأحق بالعمل، والرأي حق العمل لا حق الإنسان.(9/329)
والله عزَّ وجلَّ يريد لهذا العمل استعداد الرأي السديد، واستعداد الإنفاق، واستعداد الدعوة، واستعداد التعليم، لينتشر الخير في العالم كله.
ولا بدَّ من الحيطة في العمل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 19، 20].
وبعض الناس جعل الاحتياط تجاوز الأمور، وبعضهم جعله ترك العمل بالكلية، وهذا خروج عن الاعتدال.
فالأعمال الاجتماعية كالدعوة والجهاد والتعليم لا بدَّ فيها من الاعتدال والتلطف، وفي مزاج الأنبياء اللين والرحمة والشفقة على الخلق وجهد الدعوة إلى الله ليس إحساناً للبشرية، بل هو حقهم الذي يجب إيصاله إليهم.
وإذا تفرغنا لجهد الدين الله يغنينا بفضله عمن سواه، كما أن الإنسان إذا تفرغ لخدمة السلطان فهو يغنيه.
وسبب ترك الأعمال فساد اليقين، وضعف الإيمان، وقلة الاحتساب، فنقوم بكل عمل باليقين التام على أن الأمور كلها بيد الله وحده.
والإيمان لا نهاية له، والإيمان بالغيب هو الأصل، فنتعلم الإيمان بالنظر في الآيات الكونية والآيات القرآنية التي تبين عظمة الله وقدرته.
والمقصود من تقوية الإيمان امتثال أوامر الله عزَّ وجلَّ، والاستفادة من خزائنه، وبقدر قوة الإيمان تأتي شعب الإيمان من التقوى والتوكل والخوف والرجاء والمحبة.
وبقوة الإيمان يتمتع الإنسان بكثرة الأعمال الصالحة، وبكثرة المال يتمتع بكثرة الأشياء التي تعقب الحسرة والتعب.
والعمل الاجتماعي أقوى من العمل الانفرادي، فالدعوة الانفرادية يكون معها التكذيب والرد والاستهزاء غالباً.
والدعوة الاجتماعية تنزل معها الهداية والنصرة.
وطلب العلم لغير الله يولد الفتنة، ويمزق الأمة، ويورث الكبر والجدل والفرقة.
11- فقه الإنفاق في سبيل الله
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [البقرة: 262].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 274].(9/330)
الكرم والإنفاق من أسمى الصفات المحمودة، فالنفوس الشريفة طبعها البذل والإنفاق والعطاء.
فهي تعطي الله الطاعة والتقوى، وللرسول صلى الله عليه وسلم دوام الاقتداء، وتنفق أجود المال، وأجمل الأخلاق، وأحسن القول.
وقد مدح الله المؤمنين بأنهم: (? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 3]
والله تبارك وتعالى له ملك السموات والأرض، وله خزائن السموات والأرض، وميراث السموات والأرض ملكه وراجع إليه.
وقد استخلف الله عباده فيما أعطاهم من الأموال، ووجههم لصرفها في سبيل الله فيما يرضيه وفيما يحبه.
وقد بذل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أموالهم في سبيل الله، وأنفقوها من أجل إعلاء كلمة الله، كما بذلوا أنفسهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [التوبة: 88، 89].
فالإنفاق في سبيل الله والجهاد في سبيل الله من أعظم علامات الإيمان، وهؤلاء بذلوا أموالهم وأنفسهم في ساعة العسرة في فترة الشدة قبل فتح مكة، حين كان الإسلام غريباً محاصراً من كل جانب، مطارداً من كل عدو، قليل الأنصار والأعوان.
وكان هذا البذل خالصاً لله، لا تشوبه شائبة من طمع في عوض من الأرض ولا رياء.
لقد كان بذلاً يرجون ثوابه حمية ونصرة لهذه العقيدة التي اعتنقوها وآثروها على كل شيء، وما بذلوه من ناحية الكم كان قليلاً بالقياس إلى ما أصبح الذين جاءوا بعد الفتح يملكون أن يبذلوه.
ولكن الكم ليس هو الذي يرجح بالميزان، ولكنه الباعث وما يمثله من حقيقة الإيمان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 10].
إن الذي ينفق ويقاتل في سبيل الله والعقيدة مطاردة، والأنصار قلة، وليس في الأفق ظل منفعة، ولا رحمة سلطان، ولا رخاء ولا أمن، غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة، والأنصار كثرة، والنصر والغلبة قريبة المنال.(9/331)
ذلك متعلق بالله مباشرة، عميق الثقة والطمأنينة بالله وحده، لا يجد على الخير أعواناً، وهذا له على الخير أنصار، فدرجات هؤلاء متفاوتة: (? ? ? ??) [الحديد: 10].
فقد أحسنوا جميعاً على تفاوت ما بينهم في الدرجات، ورد ذلك التفاوت وهذا الجزاء بالحسنى للجميع إلى ما يعلمه الله من تقدير أحوالهم، وما وراء أعمالهم من قوة عزائمهم، وحسن نواياهم، ومعرفته تعالى بحقيقة ما يعملون.
وتلك لمسة موقظة للقلوب في عالم النوايا المضمرة، وراء الأعمال الظاهرة، وهي التي تناط بها القيم، وترجح بها الموازين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُم وَأَعْمَالِكُمْ» رواه مسلم(1).
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم أول من اعتنق الدين، وعمل بالدين، وعلَّم الدين، ودعا إلى الدين، وأنفق على الدين، وجاهد من أجل الدين، ففضلهم على الأمة عظيم، وحقهم عليها كبير، ومكانتهم عند الله عظيمة، وجزاؤهم عند الله عظيم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [التوبة: 100].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَسُبُّوا أصْحَابِي، فَلَوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أحُدٍ ذَهَبًا، مَا بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ» متفق عليه(2).
والله جل جلاله يحرك القلوب للإحسان والبذل بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 245].
إنه هتاف مؤثر آسر، إن الله الغني الحميد يقول للعباد الفقراء المحاويج: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 245].
إن تصور المسلم أنه وهو الفقير الضئيل يقرض ربه كفيل بأن يطير به إلى البذل طيراناً.
__________
(1) رواه مسلم برقم (2564).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم(3673)، واللفظ له، ومسلم برقم (2541).(9/332)
إن الناس يتسابقون عادة إلى إقراض الثري الملي منهم؛ لأن السداد مضمون، ولهم الاعتزاز بأن أقرضوا ذلك الثري الملي.
فكيف إذا كانوا يقرضون الغني الحميد، الذي له ما في السموات وما في الأرض؟.
ولا يكلهم الله سبحانه إلى هذا الشعور وحده، ولكنه يعدهم عليه الأضعاف الكثيرة، والأجور الكبيرة، والنعيم المقيم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الحديد: 12].
ولعظم أجر الإحسان إلى الخلق والإنفاق عليهم، الله تبارك وتعالى يوجه عباده دائماً إلى الإحسان والإنفاق في سبيل الله كما قال سبحانه لعباده المؤمنين: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 16].
فالله سبحانه يأمرهم أن ينفقوا الخير لأنفسهم، فيجعل ما ينفقونه كأنه نفقة مباشرة لذواتهم، ويعدها الخير لهم حين يفعلون، ويريهم شح النفس بلاء ملازماً، السعيد من يخلص منه ويوقاه، والوقاية منه فضل من الله يعقبه فلاح.
وترغيباً للمؤمنين في البذل، وتحبيباً لهم في الإنفاق، يسمي إنفاقهم قرضاً له يضاعفه لهم، ويغفر به ذنوبهم، ويشكر المقرض ويحلم عليه حين يقصر في شكره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 17].
وتبارك الله الغني الحميد القوي العزيز ما أكرمه.. وما أعظمه، وهو ينشئ العبد، ثم يرزقه، ثم يسأله فضل ما أعطاه قرضاً حسناً يضاعفه له، ثم يشكر لعبده الذي أنشأه وأعطاه، ويعامله بالحلم في تقصيره هو عن شكر مولاه الذي خلقه ورزقه وهداه.
إن هذه الآفاق العليا من الإيمان والصلاة والزكاة، والجهاد والإنفاق والإحسان، مفتوحة دائماً لكل مسلم، ليتطلع هذا المخلوق ويدرج إلى الكمال المستطاع، ويحاول الارتفاع درجة بعد درجة حتى يحقق كمال العبودية لمولاه، ويلقاه بما يحبه ويرضاه، فيجازيه بما يحبه ويتمناه: (? ? ? ? ?) [المطففين: 26].(9/333)
وكثيراً ما يجمع الله تعالى في القرآن بين الصلاة والإنفاق؛ لأن الصلاة متضمنة للقيام بحق المعبود، والنفقة متضمنة للإحسان إلى المخلوق، كما قال سبحانه في وصف المتقين: (? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 3].
فعنوان سعادة العبد طاعته وإخلاصه للمعبود، وسعيه في نفع المخلوق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص ولا إحسان كما قال سبحانه: (? ?? ? چ چ چ چ? ? ? ?? ? ??) [الماعون: 4-7].
وكل ما أنفقه المسلم من نفقة واجبة أو مستحبة، مع قريب أو جار أو مسكين أو يتيم أو محتاج أو غير ذلك، فالله تعالى يخلفه على من أنفقه، فالإنفاق لا ينقص الرزق، بل يزيده، وقد وعد بالخلف للمنفق الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 39].
والله غفور رحيم جواد كريم، ومن مغفرته وبرحمته عفا عن العاجزين، وأثابهم بنيتهم الجازمة ثواب القادرين الفاعلين كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [التوبة: 91].
والمسلم إذا أنفق ماله في سبيل الله جعل شهواته في العبادة والأعمال الصالحة.
وإذا قام المسلم بالدعوة إلى الله أكرمه الله بثلاثة أشياء:
الحصول على المال بغير تعب.. والحصول على الأشياء بدون المال.. والراحة بدون الأسباب.
وكل من أنفق ماله ومحبوباته لله، الله يرزقه حسن امتثال أوامر الله، ومحبة كل ما يحبه الله.
وأهل الإحسان المتعدي هم:
العلماء والدعاة إلى الله.. وأئمة العدل.. وأهل الجهاد في سبيل الله.. وأهل الصدقة وبذل الأموال في مرضاة الله.
فهؤلاء هم الملوك في الدنيا والآخرة، وصحائف حسناتهم متزايدة، تكتب فيها الحسنات وهم في بطون الأرض ما دامت آثارهم في الدنيا.
والأيدي ثلاث:
فيد الله العليا.. ويد المعطي التي تليها.. ويد السائل السفلى.
واليد العليا خير من اليد السفلى، والعليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة.(9/334)
وأشرف المال وأجله وأفضله ما اختاره الله لرسوله، وهو ما أخذه العبد في الجهاد في سبيل الله برمحه وسيفه من أعداء الله الذين كان مال الله بأيديهم ظلماً وعدواناً.
فإن الله خلق المال ليستعان به على طاعته وعبادته وفعل ما يحب، فإذا رجع إلى أوليائه وأهل طاعته فاء إليهم ما خلق لهم؛ لأنهم هم أهله الذين يتعبدون الله به، ويشكرونه عليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 6].
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يتصرف في ملكه تصرف العبد الذي لا يتصرف إلا بأمر سيده كما قال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإنَّمَا أنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي» متفق عليه(1).
وذلك من كمال مرتبة عبوديته صلى الله عليه وسلم ، ولأجل ذلك لم يورث، فإنه عبد محض من كل وجه لربه عزَّ وجلَّ، والعبد لا مال له فيورث عنه.
وقد جمع الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بين أعلى أنواع الغنى، وأشرف أنواع الفقر، فهو أغنى الناس بربه، وأعظمهم افتقاراً إليه، وبهذا أكمل الله له مراتب الكمال فصلوات الله وسلامه عليه عدد كل ذرة في الكون.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالإنفاق من الطيب من الأموال والأشياء والثمار، شكراً لله على سهولة تحصيله، وتطهيراً للأموال، وتزكية للنفوس، وأداء لحقوق العباد، ومواساة للفقراء والمساكين، ونهانا من الإنفاق من الرديء ومن الخبيث من الأموال والمطاعم؛ لأنه غني عنا وعن صدقاتنا وأعمالنا، ونفع ذلك عائد علينا كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [البقرة: 267].
ومع هذا فهو حميد على ما يأمر به من الأوامر الحميدة والأخلاق الكريمة، فعلينا أن نمتثل أوامره؛ لأنها قوت القلوب، وحياة النفوس، ونعيم الأرواح.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71) واللفظ له، ومسلم برقم (1037).(9/335)
والله عزَّ وجلَّ عليم بكل شيء، يعلم بجميع نفقات العباد واجبها ومستحبها، قليلها وكثيرها، طيبها ورديئها، فلا يخفى عليه شيء منها، ويعلم ما صدرت عنه هل هو الإخلاص أم غيره؟.
فإن صدرت عن إخلاص وطلب لمرضاة الله، جازى عبده عليها بالثواب العظيم، وإن لم ينفق العبد ما وجب عليه من النفقات، أو قصد بذلك رضى المخلوق، فإنه ظالم قد وضع الشيء في غير موضعه، واستحق العقوبة البليغة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 270].
وصدقة السر على الفقير أفضل من صدقة العلانية، وأما إذا لم تؤت الصدقات الفقراء فالسر ليس خيراً من العلانية، فيرجع في ذلك إلى المصلحة، فإن كان في إظهارها إظهار شعائر الدين، وحصول الاقتداء ونحوه فهو أفضل، وإلا فالسر أفضل؛ لحماية الإخلاص كما قال سبحانه: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 271].
وفي الصدقات دفع للعقاب، وتكفير للسيئات، ومضاعفة الأجر إذا كانت طيبة، وابتغى بها وجه الله.
ومن صفات عباد الرحمن أنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 67].
فإذا أنفقوا النفقات الواجبة والمستحبة لم يسرفوا فيدخلوا في قسم التبذير، وإهمال الحقوق الواجبة، ولم يقتروا فيدخلوا في باب البخل والشح، فإنفاقهم وسط بين الإسراف والتقتير.
يبذلون في الواجبات من الزكوات، والكفارات، والنفقات الواجبة، وفيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من غير ضرر ولا ضرار.
والإنفاق ينفع المؤمن، ولا ينفع الكافر البتة، وقد بين الله الإنفاق الذي يحبه والذي ينتفع به العبد في الآخرة بقوله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 92].
فلا يبلغ العباد مقام البر الموصل إلى الجنة إلا إذا قدموا محبة الله على محبة الأموال فبذلوها في مرضاته، وذلك علامة إيمانهم الصادق، وبر قلوبهم، وحسن تقواهم.(9/336)
ويدخل في ذلك إنفاق نفائس الأموال، والإنفاق في حال حاجة المنفِق إلى ما أنفقه، والإنفاق في حال الصحة.
وبحسب إنفاق الإنسان للمحبوبات يكون بره، وينقص من بره بحسب ما نقص من ذلك.
والإنفاق في مرضاة الله يثاب عليه العبد سواء كان قليلاً أو كثيراً، محبوباً للنفس أم غير محبوب، لكن الكثير المحبوب أكثر أجراً، وأعظم ثواباً.
والله يثيب على الكل حسب النية والنفع، وهو بكل شيء عليم.
والمنفقون قسمان:
الأول: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وطاعته، ويحفظونها مما يبطلها أو يفسدها أو ينقصها وهؤلاء: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [البقرة: 262].
الثاني: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ولكن يبطلونها بالمن والأذى وإليهم الإشارة بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 264].
والمؤمنون ينفقون أموالهم في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، منشرحة له صدورهم، سخية به نفوسهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [البقرة: 265].
أما الكفار فينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، ليبطلوا الحق وينصروا الباطل، وتخف عليهم هذه النفقة لشدة تمسكهم بالباطل، وتكون عليهم حسرة، ويغلبون في الدنيا، ويعذبون في الآخرة بأشد العذاب كما قال سبحانه: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [الأنفال: 36].
والله سبحانه يريد من المؤمنين أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله ابتغاء وجه الله، وأجر ذلك عائد على المنفق بركة وزيادة في ماله في الدنيا، وأجراً وثواباً في الآخرة في الجنة.
والناس قسمان:
منهم من ينفق ماله في سبيل الله.. ومنهم من يبخل بماله.(9/337)
فالمؤمن حقاً يبذل ماله، وينفقه في سبيل الله، ومرضاته عن سرور وفرح بالبذل والعطاء، ومن الناس من يبخل بماله لشدة حرصه على الدنيا، وهذا إنما يبخل على نفسه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 38].
فما يبذله الناس إنما هو رصيد مذخور لهم في الآخرة، يجدونه أحوج ما كانوا إليه، يوم يحشرون مجردون من كل ما يملكون، فلا يجدون إلا ما أنفقوه.
فإذا بخلوا بالبذل فإنما يبخلون على أنفسهم، وإنما يقللون من رصيدهم، وإنما يحرمون أنفسهم بأيديهم.
فالله عزَّ وجلَّ لا يطلب منهم البذل إلا وهو يريد لهم الخير، ويريد لهم الوفر، ويريد لهم الكنز والذخر، وما يناله شيء مما يبذلون، وما هو في حاجة إلى ما ينفقون، فالله الغني وهم الفقراء.
فهو الذي أعطاكم أموالكم، وهو الذي يدخر لكم عنده ما تنفقون منها، وهو الغني عما أعطاكم في الدنيا، الغني عن أجوركم المذخورة في الآخرة، وأنتم الفقراء في الدارين وفي الحالين.
أنتم الفقراء إلى رزقه في الدنيا.. فما لكم من قدرة على شيء من الرزق إلا أن يهبكم إياه.. وأنتم الفقراء إلى أجره في الآخرة، فهو الذي يتفضل به عليكم.. وما أنتم بموفين شيئاً مما عليكم.. ففيم البخل إذاً؟.. وفيم الشح؟.
وكل ما في أيديكم، وكل ما ينالكم من أجر على ما تنفقون، هو من عند الله، ومن فضل الله عزَّ وجلَّ.
ومن بخل عن الإنفاق في سبيل الله، فإنما يمنع عن نفسه الأجر والثواب ببخله، وإذا بخل المسلمون بالإنفاق في سبيل الله تغلب العدو عليهم، وقهرهم أهل الباطل، وذهب عزهم وأموالهم وربما أنفسهم.
أما عقوبة التولي عن الإيمان والتقوى وترك الإنفاق في سبيل الله فهي: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 38].
وأولى الناس بالإنفاق عليه وأحقهم بالتقديم، أعظمهم حقاً عليك، وهم الوالدان الواجب برهما والمحرم عقوقهما.(9/338)
ومن بعد الوالدين الأقربون على اختلاف درجاتهم الأقرب فالأقرب، على حسب القرب والحاجة، فالإنفاق عليهم صدقة وصلة.
واليتامى وهم الصغار الذين لا كاسب لهم، فهم في مظنة الحاجة.
والمساكين وهم أهل الحاجات وأرباب الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة، فينفق عليهم لدفع حاجاتهم وإغنائهم.
وابن السبيل وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، فيعان بالنفقة التي توصله إلى مقصده.
وكذلك الإنفاق في جميع أنوع الطاعات والقربات، والله يجازي كل منفق على حسب نيته وإخلاصه، وكثرة نفقته وقلتها، وشدة الحاجة إليها، وعظم وقعها ونفعها، وفي ذلك يقول سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 215].
وكما لا يستوي من أنفق قبل فتح مكة وقاتل في سبيل الله بمن أنفق بعد ذلك وقاتل، فكذلك لا يستوي العبد المملوك الذي لا يملك من المال والدنيا شيئاً بالحر الغني الذي رزقه الله رزقاً حسناً، فهو ينفق منه سراً وجهراً: (?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [النحل: 75].
والإنفاق في السراء والضراء من أعظم صفات المتقين كما قال سبحانه: (?? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [آل عمران: 133-134].
وقد أمر الله رسوله أن يأمر المؤمنين ويرغبهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم، وهو طاعة ربهم بإقامة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والإحسان إلى الخلق والإنفاق في سبيل الله قبل الموت كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 31].
وانحراف الإنسان في ماله يكون بأحد أمرين أو بهما معاً:
الأول: إنفاقه في الباطل الذي لا يجدي عليه نفعاً، بل لا يناله منه إلا الضرر المحض كإنفاقه في المعاصي والشهوات التي لا تعين على طاعة الله، وإخراجها للصد عن سبيل الله.(9/339)
الثاني: إمساك ماله وكنزه وعدم بذله وإنفاقه في سبيل الله كمن يمنع الزكاة والنفقات الواجبة للزوجات والأقارب والنفقة في سبيل الله.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [التوبة: 34-35].
وأفضل جهات الإنفاق في سبيل الله:
الإنفاق من أجل الدين ونشره والجهاد في سبيل الله، ثم الإنفاق على النفس والأهل والأولاد، والأقارب المحتاجين.. ثم مواساة الفقراء والمساكين من عموم المسلمين بما يحتاجونه من المال.
والمسلم إذا أنفق ماله في سبيل الله، في طاعة الله ومرضاته كالدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، وسائر القربات والطاعات فالله يخلف عليه ما أنفق، ويضاعف له الأجر والمثوبة، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فالله واسع العطاء، لا ينقصه نائل، ولا يحفيه سائل، وهو عليم بمن يستحق هذه المضاعفة ممن لا يستحقها كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [البقرة: 261].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ، إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ! أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» متفق عليه(1).
12- فقه الهجرة والنصرة
قال الله تعالى: (?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 100].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 74].
الهجرة في سبيل الله ضربان:
هجرة إلى الله ورسوله بالقلب.. وهجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالبدن، فالله عزَّ وجلَّ غرس شجرة محبته ومعرفته وتوحيده في قلوب من اختارهم لعبوديته، واختصهم بنعمه، وفضلهم على سائر خلقه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1442)، ومسلم برقم (1010)، واللفظ له.(9/340)
ولا تزال هذه الشجرة تخرج ثمرها كل وقت بإذن ربها من طيب القول، وصالح العمل.
فلكل واحد من هؤلاء في كل وقت هجرتان:
هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية، والتوكل والإنابة والتسليم، والتفويض والافتقار، والخوف والرجاء.
وهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون جميع حركات العبد وسكناته موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته.
واتخذ رسوله صلى الله عليه وسلم وحده دليله، وإمامه، وقدوته، وقائده، وسائقه.
فوحد الله بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه، وأفرد رسوله بمتابعته والاقتداء به، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، فهذه الهجرة بالقلوب.
«فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى ا? وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى ا? وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» متفق عليه(1).
أما الهجرة بالأبدان، فهي الهجرة في سبيل الله من بلد إلى بلد، ومن مكان إلى مكان، ومن قوم إلى قوم، حين يشتد عليه الأذى، ويحيط به الظلم، ولا يتمكن من إظهار دينه، فيهاجر إلى بلد يأمن فيه على نفسه، ويتمكن من إظهار دينه، والعمل بشرعه.
فالهجرة في سبيل الله ليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة لتكميل اللذات والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الدنيا الفانية.
ومن يهاجر هذه الهجرة في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً لأعداء الله، حيث يتمكن من إقامة دين الله، وجهاد أعداء الله ومراغمتهم.
كما يجد سعة وفسحة، فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة للنجاة والرزق والحياة.
ولكن ضعف النفس وحرصها وشحها يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلاً.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (54)، ومسلم برقم (1907)، واللفظ له.(9/341)
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق، وأسباب الحياة، وأسباب النجاة، هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين، ثم تتعرض لذلك المصير البائس، مصير الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 97-99].
فالهجرة عند حصول الأذى والظلم من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر؛ لما في تركها من تكثير سواد الكفار، وفتنة المؤمنين وظلمهم، وتفويت الجهاد مع المؤمنين، وربما ظاهر الكفار على المؤمنين، ولا يستثنى من ذلك إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين لا قدرة لهم على الهجرة، ولا يهتدون سبيلاً، فهؤلاء عسى الله أن يعفو عنهم ويعذرهم لعدم قدرتهم، والله تبارك وتعالى يعد كل من يهاجر في سبيل الله أنه سيجد في الأرض منطلقاً، وسيجد فيها سعة، وسيجد الله معه في كل مكان يذهب إليه، يحييه، ويرزقه، وينجيه، ويحفظه.
وقد ضمن الله الأجر لكل من هاجر إلى الله ورسوله ثم أدركه الموت قبل الوصول إلى غايته بقتل أو غيره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 100].
يوفيه الله أجره كله:
أجر الهجرة.. وأجر الوصول إلى دار الإسلام.. وأجر الحياة في دار الإسلام.. فماذا بعد ضمان الله من ضمان؟.
ومع ضمان الأجر كاملاً التلويح بالمغفرة للذنوب، والرحمة في الحساب، وكان الله غفوراً رحيماً.
إنها صفقة رابحة دون شك، يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى في الهجرة.
والموت هو الموت لا يتقدم ولا يتأخر، ولا علاقة له بهجرة أو إقامة، ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده، ولخسر الصفقة الرابحة فلا أجر، ولا مغفرة، ولا رحمة، بل هناك الملائكة تتوفاه ظالماً لنفسه.(9/342)
والذين هاجروا من ديارهم وأموالهم، وتعروا عما يملكون، وعما يحبون من أجل الله، وتركوا الأوطان والخلان، وانتقلوا عنها لأجل طاعة الرحمن.
هؤلاء يرجون في الآخرة عوضاً عن كل ما خلفوا.. وكل ما تركوا... وقد عانوا الظلم وفارقوه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [النحل: 41-42].
فذكر لهم سبحانه ثوابين:
ثواباً عاجلاً في الدنيا من الرزق الواسع والعيش الهني الذي رأوه عياناً بعدما هاجروا وانتصروا على أعدائهم وفتحوا البلدان.
والأجر الآخر أكبر وأعظم وأدوم، ويحصل عليه المؤمنون في الجنة في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 20-22].
إن الهجرة في سبيل الله تجرد من كل ما تهفو إليه النفس، ومن كل ما تعتز به وتحرص عليه من الأهل والأولاد، والأموال والديار، وسائر أعراض الحياة الدنيا، وإيثار العقيدة على هذا كله، ابتغاء رضوان الله، وتطلعاً إلى ما عنده، هو خير مما في الأرض جميعاً.
فالذين جمعوا بين الإيمان والهجرة، ومفارقة المحبوبات من الأهل والأموال والأوطان، طلباً لمرضاة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله، فماذا أعد الله لهؤلاء؟.. وبماذا وعدهم؟.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [آل عمران: 195].
والإيمان والهجرة والجهاد، هذه الثلاثة هي عنوان سعادة العبد، وقطب رحي العبودية، وبها يُعرف ما مع العبد من الربح والخسران.
فأما الإيمان فلا تسأل عن فضيلته، وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأهل الجنة وأهل النار.
وهو الذي إذا كان مع العبد قبلت أعمال الخير منه، وإذا عدم منه لم يقبل منه صرف ولا عدل، ولا فرض ولا نفل.
وأما الهجرة فهي مفارقة المحبوب المألوف من أجل رضا الله تعالى.
فيترك المهاجر وطنه وأمواله، وأهله وخلانه تقرباً إلى الله، ونصرة لدينه.(9/343)
وأما الجهاد فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله، وقمع دين الشيطان وعبدة الأوثان، وهو ذروة الأعمال الصالحة، وجزاؤه أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر لتوسيع دائرة الإسلام، وخذلان عباد الأصنام، وأمن المسلمين، ويكون باللسان والسنان.
فمن قام بهذه الثلاثة على مشقتها كان بغيرها أشد قياماً، فجدير بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله؛ لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة كما قال سبحانه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 218].
والهجرة كانت قبل فتح مكة، أما بعد فتح مكة فلم تعد هجرة من مكة إلى المدينة؛ لأنها صارت دار إسلام، فمن جاهد في سبيل الله وعمل بدينه كان له حكم الهجرة وكان له ثوابها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» متفق عليه(1).
ويبقى حكم الهجرة سارياً من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ چ چ ? ? ? ? ? ??) [الحج: 58، 59].
فقد خرج هؤلاء من ديارهم وأموالهم في سبيل الله، مستعدين لكل مصير، وضحوا بكل أعراض الحياة ابتغاء رضوان الله، ونصر دينه، فتكفل سبحانه لهم بالعوض الكريم عما فقدوه، وهو الرزق الحسن، وهو رزق أكرم وأجزل من كل ما تركوا.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم(2783)، واللفظ له، ومسلم برقم (1353).(9/344)
وقد خرجوا مخرجاً يرضي الله، فتعهد لهم بأن يدخلهم مدخلاً يرضونه، فييسر لهم دخول الديار التي قصدوها، ويفتح لهم البلدان، ويمكنهم من الاستيلاء على أموالها وخيراتها عوضاً عما فقدوه، وهذا ما حصل للمهاجرين السابقين، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فلهم الجنة، والله سبحانه العليم بما وقع عليهم من ظلم ومن أذى، وبما يرضي نفوسهم ويعوضها، العليم بجميع الأمور ظاهرها وباطنها، الحليم الذي يعصيه الخلائق ويبارزونه بالعظائم، وهو لا يعاجلهم بالعقوبة مع كمال قدرته وعلمه، بل يواصل لهم رزقه، ويسدي إليهم فضله، حليم يمهل ثم يوفي الظالم والمظلوم الجزاء الأوفى.
إنه إذا اشتد الأذى على المؤمنين، وفُتنوا في دينهم، ولم يملكوا أن يعبدوا الله، فعليهم أن ينجوا بدينهم بالهجرة إلى أرض الله الواسعة.
وما دامت الأرض كلها لله فأحب بقعة منها هي التي يجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه، وإظهار شعائر دينه، فليهاجروا إليها: (? ? ? ? ? ? چ چچ) [العنكبوت: 56].
وكل نفس ذائقة الموت، والله لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، فلا داعي للخوف من خطر الهجرة، فالآجال مقدرة: (چ ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 57].
وهؤلاء المهاجرون في سبيل الله فراراً بدينهم مهاجرون إلى الله في أرضه الواسعة، من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، وهم عائدون إليه في يوم القيامة، وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة، فلماذا الخوف والقلق؟.
ومع هذا فالله الكريم لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده، فإذا فارقوا وطنهم فلهم في الأرض سعة، وإذا فارقوا الدنيا فلهم في الجنة عوض أعظم وأدوم، فليصبروا على ما ينالهم، وليتوكلوا على الله، ويحسنوا الظن به، فهو مولاهم الذي سيحقق لهم ما وعدهم به في الدنيا والآخرة: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?? ? ? ? ? ?ں) [العنكبوت: 58، 59].(9/345)
ولا داعي كذلك لقلق المهاجرين على الرزق بعد مغادرة الوطن والمال ومجال العمل، وأسباب الرزق المعلومة، فإن رزق الإنسان يطلبه كما يطلبه أجله: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [العنكبوت: 60].
فالله تبارك وتعالى قد تكفل بأرزاق الخلائق كلهم قويهم وضعيفهم، قادرهم وعاجزهم، فكم من دابة في الأرض، وعلى ظهر الأرض، ضعيفة القوى، ضعيفة العقل، لا تحمل رزقها ولا تدخره، ولا يزال الله يسخر لها الرزق في كل وقت بوقته.
فالله يرزق هؤلاء الدواب وإياكم، فكلكم عيال الله، القائم برزقكم كما قام بخلقكم وتدبيركم، وهو السميع لأقوالكم، ودعائكم، العليم بأحوالكم، فلا تخفى عليه خافية، ولا تهلك دابة من عدم الرزق بسبب أنها خافية عليه.
وكيف يقلق المؤمن على الرزق عند الهجرة، وهو يرى مليارات الدواب تدب على وجه الأرض، وهي لا تحصل رزقها، ولا تجمعه، ولا تحمله، ولا تهتم به، ولا تعرف كيف توفره لنفسها، ولا كيف تحتفظ به لنفسها، ومع هذا فإن الله يرزقها ولا يدعها تموت جوعاً سواء كانت على ظهر الأرض، أو في قعر البحار، أو في أعالي الجبال.
فكذلك الله هو الذي يرزق الناس حيثما كانوا، وإن خيل إليهم أنهم يخلقون رزقهم ويجمعونه، فالله الذي وهبهم وسيلة الرزق وأسبابه، وهذه الهبة ذاتها رزق من الله.
فلا مجال للقلق على الرزق عند الهجرة، فهم عباد الله مهاجرون إلى أرض الله الواسعة من أجل الله، والله يرزقهم حيث كانوا كما يرزق كل دابة وهي لا تحمل رزقها، ولكن الله يرزقها ولا يدعها.
ولا هجرة بعد الفتح من مكة إلى المدينة لأنها صارت دار إسلام، ولا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة.
وقد وقع في صدر الإسلام هجرتان:
الأولى: هجرة المسلمين إلى الحبشة فراراً من أذى قريش، وفي الحبشة كان لهم إيواء بلا نصرة، فلم ينتشر الدين هناك.(9/346)
الثانية: هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مكة إلى المدينة، وفي المدينة كان الإيواء والنصرة بتهيئة الفرصة للدعوة فانتشر الدين.
والهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه، وإتيان ما يحبه ويرضاه، وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد.
ومن العجيب أن الإنسان يوسع الكلام في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي الهجرة من مكة التي انقطعت بالفتح، وهذه هجرة عارضة، وبما لا تتعلق به في العمر أصلاً.
وأما الهجرة إلى الله ورسوله بالإيمان والأعمال الصالحة، والتي هي واجبة على مدى الأنفاس والأزمان لا يحصل فيها علماً ولا إرادة، وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له، والاشتغال بما لا ينجيه وحده عما لا ينجيه غيره.
وهذه حال من ضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال، وغشيت بصيرته، وانتكس قلبه، فقدم الأدنى على الأعلى، وآثر الفاني الرخيص على الباقي النفيس.
وهذه الحياة الدنيا ليست إلا لهو ولعب.. حين لا ينظر المرء فيها إلى الآخرة.. حين تكون هي الغاية العليا للناس.. حين يصبح المتاع فيها هو الغاية من الحياة.. فلا ينخدع العبد بزينتها ويلهو بلعبها.. وليعمل للحياة الآخرة.. فهي الحياة الفائضة بالحيوية والرضا، والبقاء والخلود، وبكل ألوان النعيم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 64].
فلو كان الخلق يعلمون ذلك لما آثروا الدنيا على الآخرة، ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان إلى دار اللهو واللعب.
أما الذين يعلمون حال الدارين فلا بدَّ أن يؤثروا الآخرة على الدنيا بالإيمان بالله وطاعته، وبذل كل شيء في سبيل مرضاته.(9/347)
والهجرة في سبيل الله هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية، والهجرة البدنية مبنية على الهجرة القلبية، فمن هاجر إلى الله ورسوله بالإيمان والعبودية لله، والاقتداء برسوله ولم يتمكن من القيام بذلك هانت عليه الهجرة البدنية، وسهل عليه فراق الأهل والدار والمال، وما يهاجر أحد إلا من أجل هدف.
وهجرة الأنبياء وأتباعهم كانت من أجل إعلاء كلمة الله، وعبادته، والعمل بشرعه، وهم يسيرون في رعاية الله، يحفظهم ويرزقهم، ويوفقهم ويهديهم كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [العنكبوت: 26].
فلما لم يستجب له قومه هاجر من العراق إلى الأرض المباركة في الشام: (? ? ? ? ? ??) [الصافات: 99].
فهاجر صلى الله عليه وسلم وترك كل شيء وراءه، ترك أباه وقومه، وأهل بيته ووطنه، وترك وراءه كل عائق وكل شاغل، وهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيء، طارحاً وراءه كل شيء، مسلماً نفسه لربه، موقناً أن ربه سيهديه، وسيرعى خطاه.
إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن يقين إلى يقين، إنها الهجرة الكبرى التي يختار الله لها الكُمَّل من الناس.
فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه، اتجه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح: (? ? ? ? ? ?) [الصافات: 100].
واستجاب الله دعاء عبده الصالح الذي ترك كل شيء وراءه، وجاء إلى ربه بقلب سليم: (? ? ??) [الصافات: 101].
ولما رزق الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالغلام الحليم وهو إسماعيل صلى الله عليه وسلم ابتلاه الله به، ليتبين صفاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وكمال محبته لربه وخلته.
فإن إسماعيل لما وهبه الله لإبراهيم أحبه حباً شديداً، وهو خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة.(9/348)
فلما تعلقت شعبة من شعب قلب إبراهيم بابنه إسماعيل، أراد الله أن يصفي وده، ويختبر خلته، فأمره أن يذبح ويقطع بالسكين من زاحم حبه حب ربه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصافات: 100-102].
فأمْرُ الله تعالى لا بدَّ من تنفيذه، فقال إسماعيل صابراً محتسباً مرضياً لربه، وباراً بوالده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصافات: 102].
فقام إبراهيم ليضجع ابنه إسماعيل للذبح، وسلما لأمر الله، الأب جازم على قتل ابنه وثمرة فؤاده، امتثالاً لأمر ربه، وخوفاً من عقابه.
والابن إسماعيل قد وطن نفسه على الصبر، وهانت عليه نفسه في طاعة ربه، ورضا والده.
وحان وقت التنفيذ، فَتَلَّ إبراهيم ابنه إسماعيل على جبينه ليضجعه فيذبحه، وقد انكب لوجهه لئلا ينظر إبراهيم إلى وجه إسماعيل وقت الذبح فيرحمه ويشفق عليه فلا ينفذ أمر ربه.
وفي تلك الحال الشديدة نادى الله إبراهيم وأخبره بصدقه، وفعل ما أمر به جازماً، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه كما قال سبحانه: (? ? ? ?? پ پ پپ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الصافات: 103-106].
فلما قدَّم إبراهيم حب الله، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه، وزال ما في القلب من المزاحم بقي الذبح لا فائدة فيه، فلهذا قال سبحانه: (? ? ? ٹ ٹٹ ٹ ? ??) [الصافات: 106، 107].
فلكمال إيمان إبراهيم وكمال يقينه، وكمال طاعته ومحبته لربه، وسرعته لتنفيذ أمره بذبح أحب شيء إليه، حفظ الله له ابنه، ورضي عنه، وفداه بذبح عظيم، فهو عظيم من جهة أنه كان فداء لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قرباناً وسنة إلى يوم القيامة، بذبح كل حب يزاحم حب الله ويشغل عنه.(9/349)
وبعد هذا البلاء وحسن الطاعة والانقياد من إبراهيم صلى الله عليه وسلم أثنى الله على إبراهيم، وأبقى له الذكر الحسن إلى يوم القيامة، وهذا جزاء الكريم للمحسنين في عبادة الله ومعاملة خلقه أن يفرج عنهم الشدائد، ويجعل لهم العاقبة والثناء الحسن؛ لكمال إيمانهم بربهم كما قال سبحانه: (? ? ? ?? ? ? ?? ? ? ?? چ چ چ چ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [الصافات: 108-113].
والمؤمن حقاً لا يقعد به حب الوطن، وإلف المكان، وأواصر النسب، والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها إذا ضاقت به في دينه، وعجز فيها عن الإحسان والعبادة، فالالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان، ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان، وذلك مدخل من مداخل الشرك الخفية في قلب الإنسان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 10].
والله تبارك وتعالى يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس، وأن ترك مألوف الحياة، ووسائل الرزق، واستقبال الحياة في أرض جديدة، تكليف صعب على الناس، ومن ثم يفتح الله على الصابر على ذلك أبواب العوض عن الوطن والأرض، والأهل والإلف، عطاء من عنده بغير حساب.
والإيمان ليس كلمة تقال باللسان فقط، وإنما هو نور وحركة دافعة في القلب، يتولد منها أحسن الأقوال والأعمال والأخلاق.
وهذا الإيمان لا يأتي ولا يتم ولا يقوى إلا بالتضحية بكل شيء من أجله، والتضحية مركبة من أمرين: بذل كل شيء.. وترك كل شيء، من أجل إعلاء كلمة الله.
فالمهاجرون هجروا وتركوا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان، والأموال والشهوات، والأحباب والأهل، وبذلوا الأنفس والأموال والأوقات رغبة في الله، ومحبة لرسول الله، ونصرة لدين الله، وإعلاء لكلمة الله.(9/350)
فهؤلاء هم الصادقون الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، والعبادات الشاقة، وهم أسبق الناس إلى الإيمان، وأحقهم بكل فضيلة؛ لأنهم جمعوا بين الهجرة والنصرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 8].
والأنصار: وهم الأوس والخزرج الذين آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم طوعاً ومحبة واختياراً، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوؤا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلاً ومرجعاً يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المهاجرون، إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر، فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، والأنصار يحبون من هاجر إليهم، ويؤوونهم في المدينة ويطعمونهم ويستقبلونهم بالمحبة والإيثار، ويعلمونهم الدين، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئاً فشيئاً، وينمو قليلاً قليلاً، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.
فما أجمل هذه الصفات في الأنصار، وما أحسن أخلاقهم، إيمان ومحبة، وإيثار مع الحاجة، وبذل بلا بخل ولا شح كما قال الله عنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 9].
فهم يحبون من هاجر إليهم من أجل إعلاء كلمة الله، ونصر دينه، وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه.
وهؤلاء الأنصار لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، لسلامة صدور الأنصار، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها.
ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة.
وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى ودينه مقدمة على شهوات النفس ولذاتها.(9/351)
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه -، أنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ بَاتَ بِهِ ضَيْفٌ، فلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلا قُوتُهُ وَقوتُ صِبْيَانِهِ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: نَوِّمِي الصّبيَةَ وَاطفِئي السِّراجً، وَقَرِّبي لِلضَيْفِ ما عنْدَكِ، قَالَ: فَنزلَتْ هذِهِ الآَيَةَ: (? ? ? ? ? ? ??)» [الحشر: 9] متفق عليه(1).
ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه، ومن وقي شح نفسه سمحت نفسه بامتثال أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ففعلها طائعاً منقاداً، منشرحاً بها صدره.
وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوباً للنفس.
وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته.
وبذلك يحصل للعبد الفوز والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام من المهاجرين والأنصار، الذين حازوا من السوابق والمناقب والفضائل ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقدوة المتقين، وأفضلهم المهاجرون ثم الأنصار.
وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم، ويأتم بهداهم، ويتخلق بأخلاقهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الحشر: 10].
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، هم الذين سبقوا هذه الأمة، وبدروها إلى الإيمان والهجرة، والنصرة، والجهاد، والدعوة والأعمال الصالحة، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة، إذا اتبعوهم بإحسان في الأفعال والأقوال اقتداءً منهم بالسابقين الأولين.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم(3798)، ومسلم برقم (2054) واللفظ له.(9/352)
فهؤلاء هم المؤمنون حقاً؛ لأنهم صدَّقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة، والموالاة بعضهم لبعض، وجهاد أعدائهم من الكفار والمنافقين من أجل إعلاء كلمة الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 74].
فهؤلاء الأصناف الثلاثة:
المهاجرون.. والأنصار.. والذين اتبعوهم بإحسان.
هم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم الجنات في الآخرة، وقد ذكرهم الله بصفاتهم وأعمالهم لا بأنسابهم ومناصبهم فقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
فالهجرة والنصرة من أجل إعلاء كلمة الله وإقامة دين الله أصل من أصول الدين، وعمل الأنبياء والمرسلين، ومن سار على هديهم إلى يوم القيامة، وبذلك يقوم الدين في العالم، وتنتشر الهداية في أنحاء الأرض، وتظهر السنن والآداب الشرعية في الأمة، ويزول الباطل، ويظهر الحق، ويُعبد الله وحده لا شريك له.
فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة المجتباة، وهؤلاء هم أهل الإسلام الذين هم أهله، جعلنا الله وإياكم منهم.
وإبلاغ هذا الدين إلى العالم يحتاج من كل مسلم إلى التضحية بكل شيء من أجل الدين:
تضحية بالمال.. وتضحية بالنفس.. وتضحية بالأهل.. وتضحية بالوقت.. وتضحية بالديار.. وتضحية بالشهوات.. وتضحية بالجاه.
فأهل مكة كانوا تجاراً فتركوا كل شيء وهاجروا إلى المدينة من أجل الدين.
وأهل المدينة كانوا مزارعين فتركوا كل شيء وقاموا بنصرة دين الله، فَنَشْرُ هذا الدين قائم على الهجرة والنصرة من أجل إعلاء كلمة الله، والمهاجرون والأنصار لما صدقوا وعملوا نشر الله بسببهم هذا الدين في العالم، ورضي الله عنهم ورضوا عنه.
ونحن خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان والأعمال الصالحة والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وواجبنا في هذا الزمان:
إحياء الدين.. وإحياء جهد الدين.
فالمطلوب من كل مسلم ومسلمة جهدان:(9/353)
جهد لإحياء الدين كله في العالم كله.
وجهد لإحياء جهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، ليكون كل إنسان في العالم عابداً لربه.. معلماً لدينه.. داعياً إليه.
وذلك يتطلب منا التضحية بالوقت والنفس، والمال والشهوات كما فعل الأنبياء صلوات الله عليهم، والصحابة رضي الله عنهم.
وكثير من المسلمين اليوم بدؤوا يخرجون من الدين إلى حياة اليهود والنصارى، فكيف نحفظ الدين في هؤلاء؟.
أبو بكر - رضي الله عنه - لم يتحمل نقص عقال من الدين، واليوم كم نقص من الدين في حياة كثير من المسلمين؟.
لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وارتدت القبائل عن الدين، اجتهد عليهم أبو بكر - رضي الله عنه - لردهم إلى الدين، وحفظ الدين في حياة المسلمين، وكان فكره وفكر المهاجرين والأنصار لحفظ الدين في الأمة كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
ولما رجع الناس إلى الدين الكامل، وتاب من ارتد من المسلمين، انطلق هؤلاء وهؤلاء لنشر الدين في بلاد الكفر، ثم جاء عهد عمر - رضي الله عنه -، وكان فكر الأمة لنشر الدين، فكانت الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق ومصر وغيرها.
وهكذا وقتنا الآن يشبه زمن أبي بكر فنقوم بالدعوة إلى الله، ونجتهد على المسلمين حتى يعودوا إلى الدين والصفات التي كانت في القرن الأول، وبذلك يرى الكفار الإسلام قائماً في حياة المسلمين فيسهل دخولهم فيه، ويأتي اليوم الذي يدخل الناس في الدين أفواجاً كما دخلوه أفواجاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين.
والأصل في دين الله أن يكون السيف تابعاً للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة، وكان السيف تابعاً لذلك، كان أمر الإسلام قائماً، فقوام الدين بكتاب يهدي، وسيف ينصر، وذلك شرع الله، وكفى بربك هادياً ونصيراً.
وأما إذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير، وكان السيف تارة يوافق الكتاب وتارة يخالفه، جاء من الاضطراب والمصائب بحسب ذلك، وفسدت أحوال الناس.(9/354)
ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو اتباع القرآن والسنة، والاقتداء بخير القرون، وهو القرن الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
العبادة موعودها الجنة.. والدعوة موعودها النصرة.. وبسبب ترك الدعوة رفع الله النصرة.. وبقيت العبادة صورة بلا روح.
فالعمل الذي أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم كل الوقت هو الدعوة، نحن تركناه أو أعطيناه أقل الوقت، والعمل الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أقل الوقت هو نوافل العبادات نحن أعطيناه أكثر الوقت.
والمسلمون يأتون إلى مكة للعبادة، ولكنهم لا يرجعون بالمقصد وهو الدعوة.
13- فقه الجهاد في سبيل الله
قال الله تعالى: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 15].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 52].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 74].
لفظ الجهاد له معنيان:
أحدهما: بمعنى بذل الجهد لإعلاء كلمة الله، ونشر دينه، بالدعوة إلى الله، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله سبحانه في الآيات المكية: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [العنكبوت: 69].
وقال سبحانه: (ھ ھ ھ ھ ے ے ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 51، 52].
فهذا كله وما في معناه كله بمعنى الدعوة إلى الله، وبذل الجهد في نشر دينه.
الثاني: الجهاد بمعنى القتال كما هو غالب الآيات المدنية كقوله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 41].
وقوله سبحانه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 218].
فالجهاد بمعنى الدعوة حسن لذاته.. والجهاد بمعنى القتال حسن لغيره.
فالله خلق الخلق لعبادته وطاعته، وأرسل رسله لإبلاغ شرعه إلى عباده، وأنزل كتبه ليهتدي بها الناس إلى ربهم.(9/355)
فمن استجاب فآمن بالله وعمل بشرعه فهو من المؤمنين.. ومن أبى الإسلام فعليه أن يدفع الجزية مقابل رعايته في المجتمع الإسلامي.. فإن أبى الإسلام وأبى دفع الجزية فهذا مستكبر معاند، مؤذ ظالم كافر غير شاكر، عاص غير مطيع، يجب قتاله حتى يكون الدين كله لله.
فالقتال في سبيل الله له أسباب.. وله أوامر.. وله أوقات.. وله أحوال.
والدعوة إلى الله مشروعة ومفتوحة كل وقت لكل مسلم ومسلمة، والإسلام جاء لهداية الناس ورحمتهم ودعوتهم لعبادة الله وحده لا شريك له.
فالدعوة إلى الله واجبة على المسلمين في جميع الأوقات والأحوال ليلاً ونهاراً.. سراً وجهاراً.. حال الأمن وحال الخوف.. حال الإقامة وحال السفر، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطاها أكثر الوقت، وهي مسؤولية الأمة بعده.
أما الجهاد في سبيل الله فيشرع عند اللزوم، بل هو واجب لدفع عدو عن المسلمين، وقتال معاند، ونصر مظلوم، وحماية المسلمين، ورفع الظلم عنهم، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
فنوح صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله ولم يقاتل، وهود وصالح، وإبراهيم ولوط، وإسماعيل وإسحاق، وموسى وعيسى، جميع هؤلاء الأنبياء دعوا إلى الله، ولم يؤمروا بقتال، وقاتل داود من أنبياء بني إسرائيل.
ثم مَنَّ الله على هذه الأمة بخاتم الأنبياء والمرسلين فدعا إلى الله، ولما أوذي والمؤمنون معه أذن الله لهم بالقتال بعد الهجرة إلى المدينة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الحج: 39، 40].
ولما أظهر الله دينه، وأعز أهله، وصارت لهم دار في المدينة، وقويت شوكتهم، عظم ذلك على الكفار، فزاد شرهم وظلمهم، وعظم كيدهم وطغيانهم، فحملوا سيوفهم وركبوا خيلهم للقضاء على الإسلام وأهله والدعاة إليه، واجتمع المشركون كافة لإبادة المسلمين كافة، فحينئذ شرع الله للمسلمين قتالهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 36].(9/356)
وكلما احتاج المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى القتال بسبب ظلم الكفار لهم، وصدهم عن سبيل الله، شرعه الله لهم، وأمرهم به ورغبهم فيه لإعلاء كلمة الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 74].
وقد جاهد المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم لرد كيد الكفار، وصد عدوانهم، ومنعهم من الصد عن سبيل الله كما حصل في بدر وأحد، والأحزاب، والحديبية وخيبر، وفتح مكة والطائف وغيرها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [التوبة: 88، 89].
وقد فرض الله الجهاد في سبيل الله على المسلمين كافة كما فرض عليهم الصلاة والزكاة، فلا يحل لأحد أن يتخلف عنه إلا من عذر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 190].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [البقرة: 216].
والدعوة إلى الله كالمطر للنبات، فإذا لم يوجد مطر لا يوجد نبات ولا حيوان، وكذلك إذا لم توجد الدعوة لا يعرف الناس الإيمان، ولا العبادات كالصلاة والزكاة، والصيام والحج وغيرها، ولا يعرفون المعاملات والآداب والأخلاق والسنن والأحكام.
فالصلاة لها وقت.. والصيام له وقت.. والحج له وقت، والجهاد له وقت.. والدعوة إلى الله لها كل الوقت لأنها أم الأعمال، وهي وظيفة كل فرد من الأمة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يوسف: 108].
والجهاد نوعان:
جهاد داخلي.. وجهاد خارجي.
فالجهاد الداخلي:
جهاد النفس.. وجهاد الهوى.. وجهاد الشيطان.. وجهاد الدنيا.
أما الجهاد الخارجي: فهو جهاد الأعداء والكفار من شياطين الإنس والجن باللسان والسيف، والجهاد الداخلي مقدم على الجهاد الخارجي.
فإذا انتصر المسلم على عدوه الداخلي نصره الله على عدوه الخارجي، وإذا انتصر عليه عدوه الداخلي انتصر عليه عدوه الخارجي.(9/357)
فيجب علينا الاعتماد على الله، والتوكل عليه، والتوجه إليه في جميع الأمور، وامتثال أوامره، وفعل ما يرضيه ويحبه، واجتناب ما يكره، كما يجب علينا ألا نتأثر من الأشكال والأموال، والأشياء، والقوات وغيرها من المخلوقات والأسباب، فالكل في قبضة الله.
وإنما نتفكر ماذا يريد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟.. وماذا يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟.
وماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند لقاء أعدائه فنفعله ليرضى الله عنا، وينصرنا على أعدائنا؛ لأنه تكفل بنصر رسله وأتباعهم.
والجهاد ذروة سنام الإٍسلام، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ ا?، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ - أُرَاهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري(1).
وأهل الجهاد في سبيل الله هم الأعلون في الدنيا والآخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه، واستولى صلى الله عليه وسلم على أنواعه كلها.. فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان.. والدعوة والبيان.. والسيف والسنان، فلهذا كان أرفع العالمين ذكراً، وأعظمهم عند الله قدراً، وأمره الله عزَّ وجلَّ بالجهاد من حين بعثه فقال: (? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 52].
فهذه آية مكية أمره الله فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان، وإبلاغ القرآن.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2790).(9/358)
ثم لما استمر في الدعوة إلى الله، وآذاه الكفار، وظلموه وسبوه، وأرادوا قتله، وكفروا به، وصدوا عن سبيل الله، وصدوه عن المسجد الحرام، وبالغوا في ظلمهم وطغيانهم، وأصروا على كفرهم وشركهم، أذن الله له بالقتال بعد أن مُنع منه ثلاثة عشر عاماً في مكة، فلما بلغ الأذى والظلم أشده: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [الحج: 39].
فجاهد عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة إلى المدينة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ويعبد الله وحده لا شريك له، امتثالاً لأمر ربه الذي قال له: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [التحريم: 9].
والجهاد بالقلب واللسان، وبالسيف والسنان، كله لإعلاء كلمة الله ونشر دين الله، ليحصل الخير لجميع البشرية، ويكف عنهم الشر، وذلك يتطلب بذل النفس والمال والوقت، والتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله.
وحقيقة المجاهدة تكون بثلاثة أشياء:
الأول: أن نكمل العمل من أوله إلى آخره، عبادة ودعوة، وشرطه أن يكون خالصاً لله، موافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني: التضحية بالبذل والترك من أجل الدين، فنقدم حاجات الدين على حاجات النفس، والدعوة على جميع الأعمال، والأهم على المهم.
الثالث: الاستقامة على هذا العمل، والاستمرار فيه، وإقامة الناس عليه، وبذلك تحصل لنا السعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چچ) [فصلت: 30-32].
وبهذه المجاهدة الله يرزقنا الإخلاص، وحسن العمل، وتحصل الهداية لنا ولجميع الناس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
والنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم حين واجهوا الكفار في بدر لم يتفكروا من سيكون معهم الفرس أو الروم؟.(9/359)
بل هم اجتهدوا كيف يكون الله معنا، وما زالوا يدعون الله ويبكون حتى نزلت عليهم نصرة الله مع قلتهم وقلة ما معهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [آل عمران: 123].
فالإيمان والدعاء والأعمال الصالحة عدة المجاهدين في سبيل الله، وهي سبب نصرهم سواء كان جهادهم بالسيف وهو القتال، أو باللسان وهو الدعوة إلى الله كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ے ے?) [الروم: 47].
وقد أمر الله عباده المجاهدين في سبيله بالشجاعة الإيمانية وإعداد القوة، والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب والأبدان، والتخلص من قيد الشهوات وسيئ الأخلاق، والثبات والصبر، ليواجهوا الأعداء بكمال الإيمان، وكمال التقوى، وكمال الصبر فيحصل لهم النصر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 45، 46].
وفي ذلك كله نصرة لدين الله.. وقوة لقلوب المؤمنين.. وإرهاب للكافرين.. وإعلاء لكلمة الله.. وإظهار لدينه.
وقد بين الله في القرآن الكريم أن المجاهدين في سبيل الله إذا تخلصوا من ثلاث آفات حصلوا على كمال الإيمان والتقوى فحصل لهم النصر من الله وقهر بهم الأعداء، وهدى بهم من شاء من عباده.
وهذه الآفات هي:
آفة الأخلاق السيئة.. وآفة الشهوات.. وآفة اليقين على المشاهدات، فلا بدَّ أن ينقوا ويهذبوا وينخلوا، لتخرج منهم هذه الآفات، ويحصلوا على كمال الإيمان والتقوى الذي يحصل به النصر.
فإذا تمت التنقية بقي ما يحب الله وينصر به، وخرج ما يبغض الله ويخذل به.
فالأول: منخل الصفات، فلا بدَّ من التحلي بالأخلاق الحسنة من الإيمان والتقوى، والتخلص من الأخلاق السيئة من الكفر والكبر والحسد والعجب والغرور.(9/360)
فطالوت كان فقيراً يسقي الماء بالقِرَب، فاختاره الله وبعثه ملكاً على قومه من بني إسرائيل، ولكنهم لم يقبلوه بسبب كبرهم وحسدهم: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 247].
فأنى يُنصر هؤلاء وقد ردوا بسبب أخلاقهم السيئة ما اختار الله لهم واصطفاه عليهم؟.
فلا بدَّ أن يتخلقوا بالأخلاق الطيبة التي يحبها الله، ويتخلصوا من الأخلاق السيئة التي يبغضها الله، ولكن هذا لا يكفي، فلا بدَّ أن يمروا بمنخل آخر وهو:
الثاني: منخل الشهوات، فالله له محبوبات وأوامر، والنفس لها محبوبات وأوامر، فلا بد من تقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس، فالنصر ينزل والهداية تحصل بامتثال أوامر الله، فمن قدم أوامر الله على شهواته فاز ونُصر، ومن قدم شهواته على أوامر الله خسر وحُرِم كما شرب أكثر جيش طالوت من النهر الشرب المنهي عنه فحُرموا الخير، ورجعوا على أعقابهم، ونكصوا عن قتال عدوهم، وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول، وتحصل به المشقة الكبيرة، وكان في رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكلاً على الله وثباتاً وتضرعاً إليه، فقعد من شرب كثيراً، وسار مع طالوت من اغترف غرفة بيده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [البقرة: 249].
وحسن الأخلاق، وتقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس لا يكفي، فلا بدَّ من منخل آخر وهو:
الثالث: منخل المشاهدات، فالله سبحانه بيده كل شيء، وغيره ليس بيده شيء، فمن كان يقينه على الله نصره، وجعله سبباً لهداية الناس، ومن كان يقينه على المشاهدات والمصنوعات والأعداد أذله الله بها وهزم بسببها كما قال سبحانه عن طالوت وجيشه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [البقرة: 249].(9/361)
فالمؤمنون الذين أطاعوا أمر الله، ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه وساروا مع طالوت لحرب عدوه صاروا فريقين:
فريق لما رأوا قلتهم وكثرة عدوهم قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده؛ لأنهم تأثروا بالمشاهدات من كثرة العدو، وكثرة عددهم وسلاحهم.
أما الفريق الآخر فهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ فقالوا مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم، وآمرين لهم بالصبر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 249-251].
فالتصفية الأولى: للتحلي بالأخلاق الحسنة، والتخلي عن الصفات السيئة.
والتصفية الثانية: لتقديم أوامر الله على شهوات النفس.
والتصفية الثالثة: لتحصيل اليقين على الله، والتوكل عليه وحده في جميع الأمور، وعدم الالتفات مطلقاً إلى الأشياء والمشاهدات.
فمن نجح في هذه الابتلاءات الثلاثة نصره الله عزَّ وجلَّ، وجعله سبباً لهداية الناس.
والتقوى والصبر سبب لحفظ المؤمنين من كيد الأعداء، وإذا كادنا الأعداء وغلبونا علمنا أن حقيقة التقوى والصبر لم تكن في قلوبنا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 120].
وإذا تقابلت طائفتان من الناس في ميدان الجهاد، فإن كان يقينهما معاً على الأسلحة والرجال غلبت الطائفة التي معها الأشياء الأكثر، والرأي الأصوب، والصبر الأدوم.
وإن كان يقين إحداهما على الله، ويقين الأخرى على الأسباب والأشياء نزلت نصرة الله على من توجه إليه، وهلكت الأخرى ودمرت كما حصل في بدر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?) [آل عمران: 123].
والجهاد نوعان:
الأول: جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير.
الثاني: جهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين، لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه، وطول مدته.(9/362)
وفي ميدان الجهاد في سبيل الله كلما تركزت الأنظار على الأسباب رفع الله النصرة كما حصل للمؤمنين في بداية غزوة حنين كما قال سبحانه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 25، 26].
ومقدار النصرة تكون على مقدار الاعتماد على الله، وحسن التوجه إليه في جميع الأمور، والتفويض إليه، والتسليم له، وعدم الالتفات إلى ما سواه: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 3].
وتواجه المسلم في حياته قوتان:
قوى إنسانية.. وقوى طبيعية.
وموقف المسلم من القوى الإنسانية، أن القوى الإنسانية نوعان:
الأولى: قوة إنسانية مهتدية:
وهذه يجب أن يؤازرها ويتعاون معها على نشر الخير، وإقامة الحق.
الثانية: قوة إنسانية ضالة:
وهذه يجب عليه دعوتها إلى الإسلام، فإن أبت ألزمت بدفع الجزية، فإن استكبرت ولم تذعن ولم تستجب فعليه أن يكافحها ويحاربها حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ولا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية، فهي بضلالها عن مصدر قوتها الأول، قوة الله عزَّ وجلَّ، تفقد قوتها الحقيقية، كما ينفصل جرم ضخم من جرم ملتهب، فما يلبث أن ينطفئ ويبرد، ويفقد ناره ونوره، على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها، ومن كان الله معه فمعه كل شيء، ومن لم يكن الله معه فليس معه شيء.
أما القوى الطبيعية التي يرسلها الله عقوبة أحياناً، وابتلاء أحياناً كالخسوف والزلازل والبراكين، فموقفه منها الاتعاظ والاعتبار والتضرع إلى الله، والتوبة إليه.
والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس، وكلاهما مطلوب من العبد، والجهاد باللسان مقدم على الجهاد بالسيف، وكلاهما مطلوب من العبد.
فمن كان له مال وهو يقدر على الجهاد بنفسه وجب عليه الجميع، وإن كان لا يقدر بنفسه وله مال وجب عليه الجهاد بماله.(9/363)
فإن كان لا يقدر بالمال ولا بالنفس فالحرج عنه مرفوع كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [التوبة: 91].
والجهاد فريضة من فرائض الله إذا قامت أسبابه، فإذا تركته الأمة وأقبلت على الدنيا هلكت كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [البقرة: 195].
ويجب على المسلمين أن يقوموا بما أمرهم الله به من جهاد أعدائهم بحسب استطاعتهم، وأن يتوكلوا على الله وحده ولا ينظروا إلى قوتهم وكثرتهم ولا يركنوا إليها، فإن ذلك من الشرك الخفي، ومن أسباب إدالة العدو عليهم، ووهنهم عن لقاء العدو؛ لأن الله أمرنا بفعل الأسباب، ولكن لا نركن إليها، بل نتوكل على الله وحده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [المائدة: 23].
وعلينا ألا نغتر بأهل الكفر، ولا بما أعطوه من القوة والعدة، فإن المسلمين يقاتلون بأعمالهم، فإن أصلحوها وصلحت وعلم الله منهم الصدق والإخلاص أعانهم ونصرهم على عدوهم وأذل أعداءهم وخذلهم، فالخلق كلهم عبيده، ونواصيهم بيده، وهو القوي الذي لا يقهر، والعزيز الذي لا يغلب، ينصر أولياءه، ويخذل أعداءه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [آل عمران: 160].
ومن كفر سلط الله عليه العذاب والشقاء، وعذبه في دنياه بالأموال والأولاد، وفي الآخرة بالنار: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 55].
والله عزَّ وجلَّ أمر المؤمنين أن يجاهدوا الكفار لا طمعاً في أرضهم وأموالهم، إنما يجاهدونهم لأجل إنقاذهم من النار إن أسلموا، ولأجل كف ظلمهم وإراحة المسلمين من شرهم وتطهير الأرض من شركهم وكفرهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 39، 40].
وقد شرع الله القتال في الإسلام وأذن به لتحقيق أهداف كثيرة:
أحدها: الدفاع عن المؤمنين، وحفظهم من الأذى والفتنة التي كانوا يسامونها، وليكفل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم ودينهم.(9/364)
الثاني: تقرير حرية الدعوة بعد تقرير حرية العقيدة، فقد جاء الإسلام بهذا الخير ليهديه للبشرية كلها، ويبلغه إلى أسماعها وقلوبها، ثم من شاء بعد البيان أن يؤمن أو يكفر.
فمن وقف في وجه من يقوم بذلك، ومنع الناس من الاستماع للدين والحق، أو صدهم عنه، فهذا يجب قتاله لأنه منع الناس من قول الحق، وسماع الحق، والعمل بالحق.
الثالث: إقامة خلافة الله في أرضه، ليعبد الله وحده لا شريك له، وتمتثل أوامره وحده، وتقرير ذلك وحمايته.
فالإسلام هو نظام الحياة المنزل من عند الله، وهو الذي يقرر حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان، فيقرر عبودية الله، ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر.
وهذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد، فلا بدَّ له من أهل يبذلون جهدهم لتعريف الناس به، وتعليمهم إياه، وردهم إليه.
لا بدَّ من جهد بالحسنى حين يكون الضالون أفراداً ضالين يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة.
وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى، وتعطيل دين الله أن يوجد، وتعوق شريعة الله أن تقوم.
وعدة الإنسان في الحياة والجهاد والقتال هي الإيمان، فالإيمان زاده وهو الذي يحركه، وهو الذي يحفظه، وبه يحصل له النصر والأمن، سواء كانت معه الأسباب أو لم تكن.
فالأنبياء والمؤمنون معهم قوة الله، فهم أقوى الخلق؛ لأن الله معهم يحفظهم وينصرهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الغار: (? ? ? ? ??) [التوبة: 40].
والطواغيت والكفار أضعف خلق الله وأخوفهم؛ لأن الله ليس معهم، فهم كالفأرة أمام الأسد.. بل كالحشرات.. بل هم صم بكم عمي.. بل هم أموات أمام الأحياء.. وأنى يفعل الميت بالحي شيئاً: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الأنعام: 122].
فلما خفناهم ولم نخف الله أذلنا الله بهم، وخوفنا الشيطان منهم: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [آل عمران: 175].
فالمؤمنون لقوتهم كالأسود.. والكفار بسبب كفرهم كالفأر.(9/365)
ففرعون أمام موسى كالفأرة أمام الأسد.. ونمرود أمام إبراهيم صلى الله عليه وسلم كالفأرة أمام الأسد.. وأبو جهل وجيشه أمام محمد صلى الله عليه وسلم وجيشه كالفأرة أمام الأسد.. واليهود في المدينة وخيبر أمام الرسول صلى الله عليه وسلم كالفأرة أمام الأسد.
وكسرى وجيشه.. وقيصر وجيشه.. أمام المسلمين كالفأرة، فآلاف من الفئران لا تقف لأسد واحد حي.. فكيف إذا كانت الأرض مملوءة بالأسود؟.
ونحن اليوم فأرة مسنة معتلة تتحكم في ألف مليون أسد فما السبب؟.
السبب: أن أسود اليوم صور، وأسود الأمس حقائق، وإذا كان الأسد صورة جاءت إليه الحشرات والفئران، وأكلت أنفه ومزقت بدنه، وركبت عليه، ثم بالت عليه؛ لأنه صورة لا يخاف منه.
ويوم كانت الأسود حقائق كما في عهد النبوة والصحابة، فصيحة واحدة من أسد حي يفزع لها جميع من في الغابة: (گ گ ? ? ? ? ? ??) [المنافقون: 8].
ولا بدَّ للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض، وأهم ما تصنعه هذه القوة، أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها، فلا يصدون عنها، ولا يفتنون بعد اعتناقها، وأن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكرون في الاعتداء على دار الإسلام، وأن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، وتظلم العباد، وتحكم الناس بغير ما أنزل الله وتصد عن سبيل الله: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 193].
أما الكفار الذين لم يقاتلوا المسلمين، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يؤذوهم، فالله عزَّ وجلَّ لا ينهى عن برهم وصلتهم والإحسان إليهم من أقاربهم كما قال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [الممتحنة: 8، 9].
وبسبب ترك الدعوة والجهاد في سبيل الله تسلط الأعداء على المسلمين، وأهانوهم وأذلوهم في ديارهم، فإلى الله المشتكى من عَالَمٍ القوي فيه متحكم بهواه، والضعيف فيه لاهٍ عن خالقه، والمصلح غافل عن وظيفته.(9/366)
والمسلمون الذين لم يقوموا بالدعوة إلى الله ظالمون؛ لأنهم لم يؤدوا الحق الذي للبشرية عليهم، وهو دعوتهم إلى الله، والكفار ظالمون؛ لأنهم لم يقبلوا الحق الذي أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم .
فكانت النتيجة انتشار الباطل مكان الحق، والظلم مكان العدل، فلا الدعاء يستجاب من ظالم، ولا الهداية تنزل، والظلم يزداد، والدماء تسفك، والديار تستباح، والعقوبات تنزل، وهذا كله من فعل البشر: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [يونس: 44].
وما هو جزاء الظالمين؟.. وما هي عقوبتهم؟.
أما في الدنيا فجزاؤهم:
عدم الهداية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ??) [التوبة: 19].
عدم الفلاح كما قال سبحانه: (? ? ? ??) [الأنعام: 21].
الهلاك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 59].
الأخذ بالعذاب كما قال سبحانه: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [هود: 102].
عدم محبة الله لهم كما قال سبحانه: (? ? ? ??) [آل عمران: 140].
لعنة الله لهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ??) [هود: 18].
وأما في الآخرة فلهم عذاب جهنم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [الكهف: 29].
والعالم الإنساني قسمان:
أولياء الرحمن.. وأولياء الشيطان.. وأنصار الحق.. وأنصار الباطل.
والجهاد في الإسلام رحمة من الله لعباده، فلم يشرع الله جهاداً ولا قتالاً إلا ضد أولياء الشيطان، وأنصار الباطل، أينما كانوا، ومن كانوا؟.
فغزوات النبي صلى الله عليه وسلم كانت مصدر سعادة البشرية، ورحمة الإنسانية إلى يوم القيامة؛ لأنها إما في نشر حق، أو دفع صائل، أو قمع معتد، أو صد ظالم، أو حماية آمن: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [البقرة: 216].
غزوات معدودة، بنفقات محدودة، أعز الله بها الإسلام وأهله، ورد الله بها كيد الظالمين، وحصل بها من المنافع ما سعدت به البشرية إلى يوم القيامة.(9/367)
أما الحروب المدمرة التي يشنها الكفار المتسلطون، فهي حروب إبادة وإهانة، وظلم وإذلال، للضعفاء والفقراء، يأكل فيها القوي الضعيف ظلماً وعدواناً.
ولذلك تأكل الأخضر واليابس، ووقودها دماء البشر وأموالهم، وعاقبتها الهلاك والدمار، والرعب والخوف، وهذه الحروب عقوبات للكفار، وابتلاء للمسلمين: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [محمد: 4].
والعدو إنما يدال على المسلمين بسبب ذنوبهم، والشيطان يستزلهم ويهزمهم بها، وهي نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد.
والنصر منوط بالطاعة، والتوكل على الله، وطلب النصر ممن يملكه وهو الله عزَّ وجلَّ، فلذلك بين الله صفة أوليائه بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 147، 148].
فبسبب الذنوب والمعاصي يحصل التولي، وتقع العقوبة، وترتفع النصرة، وتحصل الهزيمة، فالذنوب أشد على المسلمين من أعدائهم، فتكون تلك الذنوب جنداً على المسلمين يزداد بها عدوهم قوة عليهم كما قال سبحانه للمؤمنين في أحد: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [آل عمران: 152].
فإن أعمال العبد جند له.. أو جند عليه.
فالطاعة معها النصر، والمعصية معها الخذلان، ولا بدَّ للعبد في كل وقت من سَرِيَّة من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها، ويبعث إليه سَرِيَّة تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه، ولو فهم الناس هذا ما أقدموا على المعاصي، فهي تهلكهم في الدنيا قبل الآخرة.
فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى.
ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله، بعثه له الشيطان واستزله به كما قال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 155].(9/368)
والله سبحانه سنته جارية بنصر المؤمنين وخذلان الكافرين، لكن الله أحياناً يبتلي المؤمنين بغلبة عدوهم عليهم، وقهره لهم، وفي ذلك منافع ومصالح وحكم وأسرار منها:
استخراج عبوديتهم لله.. وذلهم له.. وانكسارهم له.. واستغاثتهم به.. وسؤالهم له النصر على عدوهم.. وعدم الالتفات إلى ما سواه.
ولو كان المسلمون منصورين دائماً، قاهرين غالبين، لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين، لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة.
فاقتضت حكمة العزيز الحكيم أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غلبوا عدوهم أقاموا دين ربهم وشعائره، وإذا غلبهم عدوهم تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه، واستغفروه وتابوا إليه.
وكذلك لو كانوا منصورين دائماً لدخل معهم من ليس مقصده الدين، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد.
فاقتضت حكمته سبحانه أن تكون لهم الدولة تارة، وعليهم تارة، ليتميز بذلك من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
وكذلك الله عزَّ وجلَّ يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، فلا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان ولا تصح إلا بالحر والبرد، والراحة والتعب، والجوع والعطش.
وكذلك الله عزَّ وجلَّ يمحصهم بذلك، ويطهرهم من الذنوب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پپ) [آل عمران: 140، 141].
وجهاد النفس أعظم من جهاد الغير، وجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل، والقائمون به وإن كانوا الأقلين عدداً فهم الأعظمون عند الله قدراً، وأعظم الجهاد كلمة الحق عند من تخاف سطوته وأذاه كالسلطان الجائر.
ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له.(9/369)
فإن العبد ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويجاهدها في الله لتستقيم على أوامر الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، إذ كيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له، متسلط عليه، لم يجاهده ولم يحاربه في الله، وهو نفسه الأمارة بالسوء.
فلا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج، فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذله ويرجف به وهو الشيطان، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ، وفوات اللذات والمشتهيات، حتى يقعده عن الجهاد في سبيل الله، ثم يشغله بالمباحات والشهوات، ثم يوقعه في الكبائر والمحرمات.
والذين يخرجون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ويضحون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، هم عادة أكرم الناس قلوباً، وأزكاهم أرواحاً، وأطهرهم نفوساً، وأحسنهم طاعة واستقامة، وهم وإن ماتوا أو قتلوا في سبيل الله فهم أحياء عند ربهم يرزقون كما قال سبحانه: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 169-171].
والإسلام هو الدين الكامل العظيم الشامل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه إلى كافة العالمين، ولا يقبل الله من أحد ديناً سواه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [آل عمران: 85].
وقد شرع الله هذا الدين ليكون قاعدة للحياة الإنسانية في الأرض كلها، وليكون منهجاً عاماً للبشرية بأجمعها، ولتقوم الأمة المسلمة بدعوة البشرية وقيادتها إلى ربها وفق النهج الإلهي الذي فيه كل خير، ورفعها إلى هذا المستوى العالي من الحياة الذي لا تبلغه إلا في ظل هذا الدين، وتمتيعها بهذه النعمة التي لا تعدلها نعمة.(9/370)
والتي تفقد البشرية كل فلاح ونجاح حين تحرم منها، ولا يعتدي عليها معتد بأكثر من حرمانها من هذا الخير، والحيلولة بينها وبين ما أراده لها خالقها من الرفعة والسعادة في الدنيا والآخرة.
ومن ثم كان من حق البشرية جمعاء أن تُبَلَّغ إليها الدعوة إلى هذا الدين الإلهي الشامل، وأن لا تقف عقبة أو سلطة في وجه تبليغ هذا الدين الشامل لكافة الناس إلا حطمت.
وأيضاً من حق البشرية أن يُترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحراراً في اعتناق هذا الدين، لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة.
فإذا أبى فريق منهم أن يعتنقه بعد الدعوة والبيان لم يكن له أن يصد الدعوة عن المضي في طريقها.
فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها كان من حقهم ألا يفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة، لا بالأذى، ولا بالإغراء، ولا بصد الناس عن الهدى.
وعلى إمام المسلمين أن يدفع عنهم بالقوة كل من يتعرض لهم بالأذى والفتنة ضماناً لحرية العقيدة، وكفالة لأمن الذين هداهم الله، وإقراراً لمنهج الله في الحياة، وحماية للبشرية من الحرمان من ذلك الخير العام.
وعلى المسلمين تحطيم كل قوة تعترض سبيل الدعوة إلى الله وإبلاغها للناس في حرية، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة، وتفتن الناس عنها، وأن يستمروا في الجهاد حتى تصبح الفتنة للمؤمنين غير ممكنة لقوة في الأرض، ويكون الدين لله، لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان، ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول، ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يدين به أو يبلغه، وبحيث لا يكون في الأرض وضع أو نظام يحجب نور الله وهداه عن أهله، ويضلهم عن سبيل الله، ويفتنهم عنه بكل باطل كما قال سبحانه: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 193].
والله عزَّ وجلَّ يريد لعباده أن يعيشوا في ظل الإسلام في أمن وسلام:(9/371)
فقد جعل الله البيت الحرام واحة للأمن والسلام في المكان.. وجعل الأشهر الحرم واحة للأمن والسلام في الزمان.. تصان فيها الدماء والحرمات والأموال.. ولا يمس فيها حي بسوء.. ومن أبى أن يستظل بهذه الخيمة، وينعم بتلك الواحة، وأراد أن يحرم المسلمين منها، فجزاؤه أن يحرم هو منها، ويكف شره عن البشرية.
والجهاد في سبيل الله فريضة شاقة، ولكنها فريضة واجبة الأداء؛ لأن فيها خيراً كثيراً للمسلمين كافة، بل للبشرية كلها.
والفرائض والأوامر منها ما هو سهل محبوب للنفس كالنكاح وأكل الطيبات والصيد، ومنها ما هو شاق مبغوض للنفس وكريه المذاق كالقتال في سبيل الله، ولكن وراءه حكم ومصالح تهون مشقته، وتسيغ مرارته، وتحقق به خيراً مخبوءاً قد لا يراه النظر الإنساني القصير.
فمن يدري فلعل وراء المكروه خيراً، ووراء المحبوب شراً، وهذا يفتح لقلب الإنسان عالماً آخر غير العالم المحدود المشهود الذي تبصره عيناه تترتب العواقب فيه على غير ما كان يظنه ويتمناه.
فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله، وأن الخير في طاعة الله، فالقتال ليس إلا مثلاً لما تكرهه النفس، ويكون من ورائه الخير الكثير.
فالإنسان ضعيف محدود العلم والقدرة والرؤية، لا يدري أين يكون الخير، وأين يكون الشر؟.
لقد كان المؤمنون الذين خرجوا في بدر يطلبون عير قريش وتجارتها، ولا يودون ذات الشوكة والقتال، ولكن الله جعل القافلة تفلت، ولقاهم بلا استعداد وجهاً لوجه بالمقاتلين من قريش، فكان النصر الذي دوى بالجزيرة العربية، ورفع راية الإسلام والمسلمين، وهشم رأس الباطل الذي حاد الله ورسوله، وفرح المؤمنون بنصر الله، ونزول الملائكة، وهلاك أهل الباطل، وزاد إيمانهم بربهم الذي مكنهم من القتل والأسر والظفر بالغنائم: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 7].(9/372)
فأين تكون القافلة من هذه الخيرات والبركات التي حققها الله في بدر وأكرم بها المسلمين؟.
وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم؟.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [البقرة: 216].
والكافرون هم الظالمون حقاً:
ظلموا الحق فأنكروه.. وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك.. وظلموا الناس فصدوهم عن الهدى.. وفتنوهم عن الإيمان.. وموهوا عليهم الطريق.. وخدعوهم بالباطل.. وحرموهم الخير الذي لا خير مثله، خير الإيمان والسلم والرحمة والطمأنينة.
فما أشد ظلمهم.. وما أعظم كيدهم.. وماذا ينتظرهم من عذاب الله الأليم: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 36].
إن الذين يحاربون حقيقة الإيمان أن تستقر في القلوب.. ويحاربون منهج الإيمان أن يستقر في الحياة.. ويحاربون شريعة الإيمان أن تستقر في المجتمع وتظهر على الجوارح، هؤلاء هم أعدى أعداء البشرية، وأظلم الظالمين لها، وأخطر المفسدين لحياتها، لسعيهم في غش الخلق، وإفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، وكفرهم بالله ورسوله.
فهؤلاء من آمن منهم وتاب وأصلح فالله يتوب عليه، ومن استمر منهم على كفره ومات ولم يرجع إلى ربه ولم يؤمن به فهو جدير بلعنة الله ولعنة خلقه وعذابه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 161، 162].
ومن واجب البشرية لو رشدت أن تطاردهم حتى يصبحوا عاجزين عن هذا الظلم الذي يزاولونه، وأن ترصد لحربهم كل ما تملك من الأنفس والأموال ليستريح الناس من شرهم وطغيانهم.
وهذا هو واجب الأمة المسلمة الذي يندبها إليه ربها، ويأمرها به لرفع ظلمهم للبشرية، وصد عدوانهم على المسلمين، والله ناصرهم عليهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 123].(9/373)
وإلى أن ترشد البشرية وتعقل يجب على أهل الإيمان الذين اختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان أن يطاردوا الباطل في كل مكان، ليحل الحق مكان الباطل، والإيمان مكان الكفر، والعدل مكان الظلم.
فلا بدَّ من الجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي، فلم يجن أحد على البشرية جناية أعظم ممن يحرمها من هذا الدين الذي فيه كل خير، ويحول بينها وبينه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 12].
والجهاد في الإسلام شريعة لازمة، به يدفع الله عن المؤمنين الأذى والفتنة والظلم، وبه يتم تقرير حرية الدعوة.
فقد جاء الإسلام بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها، ويبلغه إلى أسماعها وقلوبها، ويزين به حياتها وأخلاقها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [المائدة: 15، 16].
فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن، ومن شاء فليكفر ويدفع الجزية ولا إكراه في الدين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 256].
لكن يجب أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة كما جاء من عند الله للناس كافة، وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا ويقتنعوا، وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا.
وجاء الإسلام كذلك ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه، وفوق هذا يقوم نظام أخلاقي كريم تكفل فيه الحرية لكل إنسان، حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام، وتصان فيه حرمات كل أحد، حتى الذين لا يعتنقون الإسلام، وتحفظ فيه حقوق كل إنسان من مسلم وغيره، ولا يكره فيه أحد على الإسلام، إنما هو البلاغ والبيان.
فهذا الدين العظيم الذي أكرم الله به خلقه، وأنزله عليهم، وبعث به رسوله إليهم، وارتضاه للبشرية جمعاء، من حقه أن يجاهد ليحطم قوة الباطل التي تناصبه العداء، وتكيد له بغير حق، وتحرم الناس منه، وتصد الناس عنه، وتنفرهم منه.(9/374)
فليسحقها الإسلام سحقاً، ويبيد هذه الحشرة السامة، ليعلن نظامه الإلهي الرفيع في الأرض، ويدعو الناس إليه، ثم يدع الناس في ظله أحراراً، لا يلزم أحداً إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية، والمالية والسياسية التي تتضمن العدل والإحسان لكل البشر.
أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار، فهو وإن كان يحب لهم الإيمان فهو لا يلزمهم به ولا يكرههم عليه، وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار، يزاولونها وفق عقائدهم، والإسلام يكفل لهم حقوقهم، ويصون لهم حرماتهم.
والمجاهدون في سبيل الله كثير، وليس كل مجاهد في سبيل الله يرزق الشهادة، فالشهداء مختارون، يختارهم الله من بين المجاهدين ويتخذهم لنفسه سبحانه.
فليست رزية ولا هوان أن يستشهد المسلم، إنما هو تكريم وانتقاء وتشريف، وتكريم من الرب لعبده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پپ) [آل عمران: 140، 141].
وهؤلاء شهداء يتخذهم الله، فيؤدون الشهادة بجهادهم حتى الموت في سبيل إعلاء كلمة الله، وإحقاق الحق وتقريره في حياة البشرية بهؤلاء الذين تجردوا للحق.. وبذلوا أموالهم وأنفسهم من أجله.. وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء من أجله.. لعلمهم أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق والنور.
يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون، وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 15].
والمجاهدون في سبيل الله ليس لهم هَمّ إلا إعلاء كلمة الله في الأرض كلها، وهم يشعرون بمعية الله معهم، وهدايته لهم، ونصرهم على عدوهم.
فلا تضعف نفوسهم حينما يصيبهم البلاء والكرب، والشدة والجراح، ولا تضعف قواهم عن الاستمرار في الكفاح.(9/375)
وهم حين يواجهون الأعداء، ويواجهون الهول الذي يذهل النفوس، يتوجهون إلى الله لا لطلب النصر أول ما تطلب، ولكن لتطلب العفو والمغفرة عن التقصير، ولتعترف بالذنب والخطيئة، قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء.
فيا لها من نفوس مطمئنة إلى وعد ربها واثقة بنصره، عارفة بحقه متوكلة عليه وحده، وذلك لكمال الإيمان والتقوى في قلوبهم: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 146، 147].
إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء، بل لم يطلبوا جزاء ولا ثواباً، لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة.
فما أجمل هذا الأدب مع ربهم، وما أزكى تلك النفوس والقلوب، بينما هم يقاتلون في سبيله لم يطلبوا منه سبحانه إلا غفران الذنوب وتثبيت الأقدام، والنصر على الكفار.
ولما لم يطلبوا لأنفسهم شيئاً أعطاهم الله كل شيء يتمناه طلاب الدنيا وطلاب الآخرة، وشهد لهم بالإحسان، فقد أحسنوا الأدب، وأحسنوا العمل، وأحسنوا الجهاد، وأعلن حبه لهم، وهو أكبر من النعمة، وأكبر من الثواب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 148].
فهل فوق هذا الأدب من المجاهدين في سبيل الله شيء؟.
وهل فوق هذا الإكرام لهم من رب العالمين شيء؟.
إن المسلم حين يخرج للجهاد في سبيل الله إنما يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله في الأرض، ولتمكين منهجه من تصريف الحياة البشرية، ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج، وعرضه عليهم، وصد عدوان المعتدين، فالإسلام لا يعرف قتالاً إلا في هذا السبيل.
ليس في الإسلام قتال من أجل الغنيمة، ولا يعرف الإسلام القتال للمجد والفخر، ولا يعرف القتال للسيطرة والقهر.(9/376)
إن المسلم في الإسلام لا يقاتل للاستيلاء على الأرض.. ولا للاستيلاء على السكان.. ولا للاستيلاء على الثروات.. ولا يقاتل لمجد شخص.. ولا لمجد بيت.. ولا لمجد طبقة.. ولا لمجد جنس.. ولا لمجد دولة.. إنما يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وتمكين منهجه في الحياة، وحماية المؤمنين، وصد عدوان الظالمين، فمن قتل في هذا السبيل فهو شهيد في سبيل الله، ينال بذلك مقام الشهداء عند الله.
فليقاتل في سبيل الله من يريد أن يبيع الدنيا ويشتري بها الآخرة، ولهم على ذلك فضل وأجر من الله عظيم، سواء من يقتل في سبيل الله، ومن يغلب في سبيل الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 74].
فأين الدنيا من الآخرة؟.. وأين غنيمة المال من فضل الله، وهو يحوي المال وما سواه؟.
إن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته.. ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام فيه شريعة الله.. وأرضه التي يدافع عنها هي دار الإسلام التي تتخذ الإسلام منهجاً للحياة.. وكل تصور آخر للوطن غير هذا هو تصور غير إسلامي.. تنضح به الجاهليات ولا يعرفه الإسلام.
والمقاتلون في ساحات القتال فريقان يقاتلون تحت رايتين مختلفتين:
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله لتحقيق منهجه، وإقرار شريعته في الأرض، وإقامة العدل بين الناس.
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، لتحقيق مناهج شتى غير منهج الله، وإقرار شرائع شتى غير شريعة الله.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 76].
ويقف الذين آمنوا مستندين إلى ولاية الله وحمايته ورعايته.
ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم وشتى مناهجهم.
فعلينا مقاتلة أولياء الشيطان، متوكلين على الله الذي تكفل بنصر من ينصر دينه، ويقيم شرعه كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ??? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الحج: 40، 41].
فالجهاد في سبيل الله رحمة للبشرية كلها:(9/377)
فبه يتم إقرار منهج الله في الأرض.. وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم.. وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان.. تمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله.. وتمنع أن يحال بين الناس وبين الاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض.. وتمنع أن يفتن أحد عن دينه، والكف عن مطاردته في رزقه أو نشاطه حيث هو.
وحرب الله ورسوله التي يقوم بها أعداء الدين متحققة بالحرب لشريعة الله ورسوله، وللجماعة التي ارتضت شريعة الله ورسوله، وللدار التي تنفذ فيها شريعة الله ورسوله.
والإسلام دين العدل والرحمة، لا يعاقب العاصي والمجرم بالسيف وحده، إنما يرفع سيف العقوبة ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلا السيف.
فأما اعتماده الأول فعلى دعوة الناس إلى الخير، وتربية القلوب وتزكيتها، فإذا ردع بالعقوبة التي تزجر عن الفساد، أخذ طريقه إلى القلوب يستجيش فيها مشاعر التقوى، ويحثها على الإيمان والجهاد في سبيله كما قال سبحانه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 35].
والإسلام لا بدَّ له أن ينطلق في الأرض لإزالة الواقع المخالف لمنهج الله بالبيان والجهاد مجتمعين:
جهاد باللسان لتقرير منهج الله في الأرض، وتنفيذ شرعه في عباده.
وجهاد بالسيف لإزالة حكم الطواغيت الذين يحكمون الناس بغير شريعة الله، والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى البيان واعتناق الدين الذي مَنَّ الله به على عباده، وإقامة منهج الله في الأرض كلها.
وإذا كان البيان باللسان يواجه العقائد والتصورات والمذاهب الضالة، فإن الجهاد بالسيف كذلك يواجه القوى المادية الشرسة، وهما معاً يواجهان الواقع البشري بجملته لرده إلى ربه، وانتزاعه من العبودية لغيره.
والجهاد في الإسلام له بابان:(9/378)
الأول: باب يخرج منه ليدافع المهاجمين له؛ لأن مجرد وجود الدين كمجتمع إسلامي مستقل، الحاكمية فيه لله وحده، لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله لسحقه، دفاعاً عن وجودها ذاته، وهنا لا بد له أن يدافع عن نفسه، إذ لا يمكن التعايش بين الحق والباطل.
الثاني: أن الإسلام ذاته لا بدَّ أن يتحرك إلى الأمام ابتداءً لنشر الدين في العالم، ولإنقاذ الإنسان في العالم من العبودية لغير الله، ولا يترك البشرية في الأرض للشر والفساد والعبودية لغير الله.
إن الإسلام جاء ليقرر ألوهية الله في الأرض، وعبودية البشر جميعاً لإله واحد، فمن حقه أن يزيل العقبات كلها من طريقه، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم، دون حواجز ولا موانع مصطنعة.
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء في كل اتجاه، فالإسلام ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله، ونظام للعالم كله يحقق لهم الأمن والسعادة والطمأنينة، ويقضي على منابع الشر والعدوان، ويقطع دابر الجور والفساد في الأرض، والاستغلال الممقوت، ويقوم بذلك رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
وبالجهاد في سبيل الله يحق الله الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، ويقطع دابر الكافرين، ويخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام، وتعلو معها كلمة الله، وتظهر قوة الأمة، وتقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها، وتعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة، إنما هو بقدر اتصال القلوب بالله، وبقوته التي لا تقف لها قوة العباد، وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي.
لتوقن كل عصبة مؤمنة أن الله معها، وأنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة، ومهما يكن عدوها من الكثرة، ومهما تكن هي من ضعف العدة، ومهما يكن عدوها من كثرة العدة؛ لأن النصر من عند الله وحده، وهم مؤمنون يجاهدون في سبيل الله.(9/379)
ولا تستقر هذه الحقيقة في القلوب كما تستقر بالمعركة العملية المرئية الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان، كما تجلى ذلك كله في غزوة بدر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [آل عمران: 123].
إن غزوة بدر لتمضي مثلاً للأمة، تتمثل فيها أصول النصر والهزيمة، وتكشف عن أسباب النصر والهزيمة، الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرية المادية.
ظهرت فيها قوة لا إله إلا الله كما ظهرت في أُحد قوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي بدر أظهر الله قدرته، وفي أحد أظهر الله سنته، فلما عصى الرماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم رفع الله النصر، فالمعاصي سبب كل هزيمة.
إن غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان ومكان، فهي آية من آيات الله، وسنةٌ من سننه الجارية في خلقه ما دامت السموات والأرض.
وحسب المسلمين أن يبذلوا ما في طوقهم فلا يستبقوا منه بقية، وأن يمضوا في طاعة أمر الله واثقين بنصر الله في أي معركة مع الباطل، حسبهم هذا لينتهي دورهم، ويجيء دور القدرة التي تصرفهم وتدبرهم وتملك الكون كله.
وحسب العصبة المؤمنة أن تشعر أن جند الله معها لتطمئن قلوبها، وتثبت في المعركة، ثم يجيء النصر كما يجيء المطر من الله وحده، حيث لا يملك النصر غيره: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 9، 10].
إن خروج العصبة المؤمنة لإعلاء كلمة الله أمر هائل عظيم، أمر يستحق معية الله لملائكته والمؤمنين في المعركة، ليحق الحق ويبطل الباطل، وينصر أولياءه ويخذل أعداءه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الأنفال: 12، 13].
إنها سنة الله ليست فلتة عارضة ولا مصادفة عابرة أن ينصر الله المؤمنين، وأن يسلط على أعدائهم الرعب والملائكة وعباده المؤمنين.(9/380)
إنما ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله، يصدون عن سبيل الله، ويحولون دون منهج الله للحياة، فلهم في الدنيا الرعب والهزيمة، وفي الآخرة عذاب النار: (? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 14].
وقد وعد الله المؤمنين بالنصر على أعدائهم، ومن يكن الله معه فمن ذا يقف له؟.
(? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المجادلة: 20، 21].
والذي وقع بالفعل أن الإيمان والتوحيد قد غلبا على الكفر والشرك، واستقرت هذه العقيدة في الأرض، ودانت لها البشرية في كثير من أنحاء الأرض، بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية، وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد.
وإذا كانت هناك فترات عاد فيها الشرك والإلحاد في بعض بقاع الأرض، فإن العقيدة في الله ظلت هي المسيطرة، فضلاً على أن فترات الإلحاد إلى زوال مؤكد؛ لأنها غير صالحة للبقاء.
ولله الأمر من قبل ومن بعد، فليست الغلبة والنصر بمجرد وجود الأسباب، بل لا بد أن يقترن بها القضاء والقدر، فـ: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [البقرة: 249].
والله تبارك وتعالى خالق كل شيء ومالك كل شيء، ولكن من فضله وجوده وإحسانه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فاستخلص سبحانه لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم فلم يعد لهم منها شيء.
لم يعد لهم خيار أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيل الله.
لم يعد لهم خيار أن يبذلوا أو يمسكوا، إنها صفقة مشتراة، ولمشتريها أن يتصرف بها كما يشاء، وليس للبائع فيها من شيء، سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يلتفت ولا يتخير ولا يجادل، فهو عبد مملوك، وليس للعبد إلا الطاعة والعمل والاستسلام والانقياد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 111].
فالثمن هو الجنة.. والطريق هو الجهاد والقتل والقتال لإعلاء كلمة الله، وكف العدوان، وإزالة الفساد.. والنهاية هي النصر أو الشهادة التي بعدها الجنة.(9/381)
والمؤمنون هم الذين اشترى الله منهم فباعوا، فمن بايع هذه البيعة، ووفى بها فهو المؤمن الحق.
ومن رحمة الله أن جعل للصفقة ثمناً، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال، وهو مالك الأنفس والأموال وكل ما في الكون.
وهي بيعة رهيبة لازمة في عنق كل مؤمن، لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه، وقد جعل الله مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء بهذه البيعة، كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 34].
وقد تحولت هذه البيعة من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع مشهود، وقد قبلها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتلقوها للعمل المباشر بها، وحولوها إلى صورة منظورة عجيبة، لا إلى صورة متأملة تحكي ولا ترى.
فكم بذلوا من أجلها من نفس؟.. وكم أنفقوا من مال؟.. وكم هجروا من أجلها من دار؟.. وكم تركوا من شهوات؟.. وكم تركوا من أهل وأولاد؟.. وكم بذلوا من أوقات؟.. وكم جاعوا وأوذوا؟.
وكم قاتلوا وقتلوا؟.. فلله درهم، لقد وفّوا وصدقوا: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 23].
خَرَجَ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأنصار يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ، قال: «اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ»، فَقالوا: مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا، عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أبَدَا. متفق عليه(1).
فالجهاد في سبيل الله بيعة معقودة في عنق كل مؤمن، منذ كان دين الله، فهي سنة جارية لا تستقيم الحياة بدونها كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 251].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2834)، واللفظ له، ومسلم برقم (1805)(9/382)
إن الحق الذي أرسل الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لا بدَّ أن ينطلق في طريقه في جميع الأرض، لتحرير البشر من العبودية للعباد، وردهم إلى العبودية لله وحده.
والحق إذا سار في الأرض فلا بدَّ أن يقف له الباطل في الطريق، بل لا بدَّ أن يقطع عليه الطريق، بل لا بدَّ أن يهاجمه في عقر داره كما قال سبحانه: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [الأنفال: 36].
فأهل الباطل يقاتلون أهل الحق حسداً وبغياً من عند أنفسهم ليردوهم إلى الكفر والضلال كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [البقرة: 217].
فما دام في الأرض كفر.. وما دام في الأرض باطل.. وما دام في الأرض عبودية لغير الله.. تذل كرامة الإنسان.. وتصرفه عن ربه.. فالجهاد في سبيل الله ماض.. والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء.. وإلا فأين الإيمان والوفاء والبيعة؟.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُّحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاق» أخرجه مسلم(1).
فليستبشر من بذل نفسه وماله في سبيل الله، وأخذ الجنة عوضاً وثمناً كما وعد الله في كتبه المنزلة.
وما الذي فات المؤمن الذي يسلم لله نفسه وماله، ويستعيض الجنة؟.
والله ما فاته شيء، بل ربح كل شيء، فالنفس إلى موت، والمال إلى فوت، والغبن يوم التغابن.
ألا ما أعظم هذا الإنسان المؤمن وهو يعيش لله، حسب أمر الله، وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يجاهد في سبيل الله، وينتصر إذا انتصر لإعلاء كلمة الله، وتقرير دينه، وتحرير عباده من العبودية لسواه.
ويستشهد إذا استشهد في سبيله، ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة وجميع ما فيها.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1910).(9/383)
فإذا أضيف إلى ذلك كله الدرجات العالية في الجنة، ورضوان ربه عليه، فهو بيع يدعو إلى الاستبشار، وفوز لا ريب فيه ولا جدال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 111].
إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن، ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال، إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر، وأخلاق عالية، وأعمال صالحة.
والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان، هم قوم يحملون أفضل الصفات الإيمانية وأحسنها وأعلاها، وهؤلاء المؤمنون هم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 112].
إن أهل هذه البيعة عليهم أن يفوا بها ليدخلوا الجنة، وعليهم أن يتقوا الله فيما عاهدوا الله عليه، ولا يتخلفوا عن الجهاد مع المجاهدين الصادقين: (? ? ? ? ? ? ? ?چ) [التوبة: 119].
ولا يليق بأهل هذه الدعوة، وحماة هذا الدين، وهم في عهده صلى الله عليه وسلم أهل المدينة الذين آووا ونصروا، وبايعوا واستعدوا، ومن حولهم من القبائل التي أسلمت.
لا يليق بهؤلاء.. وهؤلاء أن يتخلفوا عن رسول الله، وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [التوبة: 120].
فالخروج في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ورد كيد الأعداء، في الحر أو البرد، وفي الشدة أو الرخاء، وفي العسر أو اليسر، أمر مطلوب من كل مسلم، ولا يحل لأحد التأخر عنه في كل زمان أو مكان لمن يريد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهو واجب يوجبه الحياء من رسول الله والمؤمنين المجاهدين، فضلاً عن الأمر الصادر من الله بقوله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 41].
ومع ذلك فالجزاء على هذا الخروج في سبيل الله ما أسخاه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 120، 121].(9/384)
إن الله عزَّ وجلَّ كريم يعطي المجاهدين على الظمأ جزاء.. وعلى النصب جزاء.. وعلى الجوع جزاء.. وعلى الخطى جزاء.. وعلى كل نيل من العدو جزاء.. يكتب به للمجاهد عمل صالح.. ويحسب به من المحسنين.
وكذلك على النفقة الصغيرة والكبيرة أجر.. وعلى الخطوات لقطع الوديان أجر.. أجر كأحسن ما يعمل المجاهد في الحياة.
ألا ما أجزل هذا العطاء من رب العالمين.. وما أوسع رحمته لعباده.. وما أعظم فضله عليهم.
خلقنا.. ورزقنا.. وهدانا.. واشترانا.. ووفقنا للعمل الصالح.. ويسره لنا.. وأعاننا عليه.. وحببه إلينا.. وأكرمنا بالإسلام.. وشرفنا بالدعوة إليه.. وضاعف لنا الأجر.. ووعدنا على ذلك الجنة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
إن العبادة أمانة.. وإن دعوة الناس إلى الله أمانة.. وإن تعليم الناس أمانة، وإن الجهاد في سبيل الله أمانة.. ونحن فيها خلفاء.. وعليها بعد النبي صلى الله عليه وسلم أمناء.. ونحن مسئولون عنها.
فعلينا جميعاً أن نقوم بأداء هذه الأمانات حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وإذا اتسعت رقعة الأرض الإسلامية، وكثر عدد الرجال المستعدين للجهاد في سبيل الله، فقد آن أن توزع الجهود في الجهاد، وعمارة الأرض، والتجارة، وغيرها مما يحتاجه المجتمع المسلم، فهذه مرحلة أخرى، يصار إليها إذا صار الواقع كذلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 122].(9/385)
فالمؤمنون لا ينفرون كافة، ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة على التناوب، لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة، وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الخروج والجهاد من ثمرات الإيمان، كنصر الله لأوليائه، وخذلانه لأعدائه، ونزول الهداية على الخلق، وظهور الآيات، وتسخير المخلوقات كنزول الملائكة في بدر، وانفلاق البحر لموسى صلى الله عليه وسلم ، وانبجاس الحجر بالماء لموسى، والتقاء ماء الأرض والسماء لنصرة نوح صلى الله عليه وسلم وإهلاك أعدائه، وغير ذلك من الآيات.
فهذا الدين كله جهد وعمل، لا يفقهه إلا من يتحرك به، فالذين يخرجون للجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله هم أولى الناس بفقهه، بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه، وبما يتجلى لهم به من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به.
فهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس لها عمل وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ولها أخلاق تتزين بها بين الناس وهي أوامر الدين، وعليها مسئولية وهي الدعوة إلى الله وإعلاء كلمة الله في الأرض.
لذلك وصف الله المؤمنين بأعمالهم، وأثنى عليهم بأفعالهم المطلوبة منهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 74، 75].
فالمؤمنون صنفان:
مهاجرون يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ويدعون إلى الله في أرضه.
وأنصار يؤوون ويناصرون المهاجرين والخارجين في سبيل الله.
وبهذين الصنفين من المؤمنين أظهر الله دينه، وأعلى كلمته حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً.
وهذا عمل الأمة إلى يوم القيامة لمن كان يرجو رحمة الله، دعوة وجهاد، وهجرة ونصرة، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 218].(9/386)
وبالهجرة والنصرة من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه تنتشر الهداية في العالم، ويزول الباطل من الأرض، وتنزل رحمة الله على عباده، ويحصل لهم رضوانه، والفوز بجنته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
أما الذين يقعدون عن الجهاد في سبيل الله فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن خرجوا؛ لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا، ولا فقهوا فقههم، ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه هؤلاء الخارجون من أجله.
ولعله يتبادر إلى الذهن أن الذين يتخلفون عن الغزو والجهاد والدعوة والحركة هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين، ولكن هذا وهم، فإن الجهد والجهاد والمجاهدة قوام هذا الدين، ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به، ويضحون من أجله بكل شيء، ويجاهدون لتقريره في حياة الناس.
والجهاد في سبيل الله ماض إلى يوم القيامة، وخطة الجهاد ومداه بينها الله ورسوله وخلفاؤه من بعده، وقد سارت عليها الفتوحات الإسلامية، بالدعوة إلى الله، وقتال الظالمين من المستكبربن والمعاندين والطغاة، بداية بمن يلون دار الإسلام ويجاورونها مرحلة مرحلة كما أمر الله المؤمنين بذلك بقوله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 123].
فلما أسلمت الجزيرة العربية أو كادت، كانت غزوة تبوك على أطراف الروم، ثم كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم، وفي بلاد الفرس، فاتسعت رقعة الإسلام، فإذا هي كتلة ضخمة شاسعة الأرجاء، متماسكة الأطراف.
ثم كان فتح مصر وشمال أفريقية، وبلاد ما وراء النهر، ثم فتح الأندلس وما جاورها.
وهكذا صارت دولة الإسلام بهذا الحجم الكبير تحت راية واحدة، وقيادة واحدة، تقول كلمة التوحيد، وتعمل بها، وتدعو إليها.(9/387)
فلما ضعف الإيمان.. ضعف الهم والعمل.. وأعرض كثير من الناس عن الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله.. واشتغلوا بحاجات دنياهم عن حاجات دينهم.. وقدموا شهوات النفس على أوامر الرب، هانوا على الله وعلى خلقه، ونزلت بهم العقوبات جزاء مخالفتهم لأوامر الله.
وعمل الأعداء بتدبير خبيث ماكر على تمزيق وحدتهم، وتقويض هذا البنيان الكبير وتمزيقه، ففرقوا أهل التوحيد، وأقاموا الحدود المصطنعة فيما بينهم على أساس تلك البيوت، أو على أساس القوميات، أو على أساس بيع الحكم مقابل ضرب الإسلام وأهله.
وستظل هذه الشعوب التي جعل منها الإسلام أمة واحدة في دار الإسلام وراء فواصل الأجناس واللغات والأنساب والألوان، ستظل ضعيفة مهينة مقهورة إلا أن تثوب إلى دينها، وتعمل بشرع خالقها، وتتبع خطى رسول الله في حياتها، وبذلك يحصل لها العز والنصر والتمكين.
إن الأمر بقتال الذين يلون المسلمين من الكفار هو الأمر الأخير الذي يجعل الإنطلاق بهذا الدين، ليشمل الأرض كلها هو الأصل الذي ينبثق منه الجهاد، وليس هو مجرد الدفاع كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد.
فالجهاد في الإسلام جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض، وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله، جهاد لتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، ومن فتنته بالقوة عن أن يدين بالتوحيد لله وحده، وجهاد لتغليب منهج الله الهادي على مناهج العبيد الظالمة، وإخراج البشرية من الظلمات إلى النور بإذن ربهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [البقرة: 257].
ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في الأرض كلها لتحرير البشرية كلها من عبادة العبيد إلى عبادة الله وحده لا شريك له.(9/388)
والجهاد في سبيل الله ليس لإكراه الناس على العقيدة، بل لضمان حرية الاعتقاد التي انتهكها أعداء هذا الدين، وفرضوا على الناس من العقائد والمذاهب ما لا يقبله عقل، وفتنوهم بشتى الوسائل عن سماع الحق، وعن العمل به، وعن تعليمه، وعن الدعوة إليه.
ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف ليحطم هذه الأنظمة التي قهرت العباد، وأضلتهم وأفسدت حياتهم، ويدمر هذه القوى التي تحميها.. ثم ماذا؟.
ثم يترك الناس بعد ذلك أحراراً حقاً في اختيار العقيدة التي يريدونها إذا كانوا أهل كتاب، إن شاءوا دخلوا في الإسلام ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية مقابل حمايتهم، وكفالة عاجزهم ومريضهم في حضن الإسلام، ولا إكراه في الدين.
إن المسلمين اليوم هم هذا الغثاء الذي تتقاسمه المذاهب والأهواء، وتحكمه الرايات القومية والجنسية والعنصرية، وإن المسلمين لن يستطيعوا أن يفقهوا أحكام هذا الدين وهم في مثل ما هم فيه من الهزال.
إنه لا يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم من أجله، ليُعبد الله وحده لا شريك له في الأرض.
وحفظ ما في بطون الكتب، والتعامل مع النصوص في غير حركة تغير طريقة الحياة، لا يؤهل لفقه هذا الدين، والتضحية من أجله.
وهذا ما خدع به الكفار كثيراً من المسلمين، فشغلوهم به عن الخروج إلى ساحات الجهاد، وميادين الدعوة في العالم، فأثمر ذلك ذل المسلمين وهوانهم.. وزيادة الظلم والجهل والضلال في العالم.. وردة كثير من المسلمين عن دينهم.
فلله كم خسر العالم؟.. وكم ضل في العالم؟.. وذلك بسبب ترك المسلمين للدعوة والجهاد في سبيل الله.
فهل يكفي أن تسكب العبرات على هذه الجراحات الدامية الأليمة؟..
أم لا بد من حركة قوية لإنقاذ البشرية من هذا الدمار الشامل الذي يأكل الأخضر واليابس في كل حين؟.(9/389)
والغلظة التي أمر الله بها المجاهدين في سبيله تكون على الذين من شأنهم أن يحاربوا وحدهم، وفي حدود الآداب العامة لهذا الدين.
إنه قتال يسبقه إعلان وتخيير بين قبول الإسلام، أو دفع الجزية، أو القتال، ويسبقه نبذ العهد إن كان هناك عهد في حالة الخوف من الخيانة، فمن أبى أن يجيب دعوة الله وينقاد لحكمه فهذا يجاهد ويغلظ له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [التحريم: 9].
عن بريدة - رضي الله عنه - قال: كَانَ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم ، إِذَا أمَّرَ أمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أوْ سَرِيَّةٍ، أوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى ا? وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قال: «اغْزُوا بِاسْمِ ا?، فِي سَبِيلِ ا?، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِا?، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا وَلا تَغْدِرُوا وَلا تَمْثُلُوا وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ (أوْ خِلالٍ)، فَأيَّتُهُنَّ مَا أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلامِ، فَإِنْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أبَوْا أنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ ا? الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلا أنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أبَوْا فَاسْتَعِنْ بِا? وَقَاتِلْهُمْ» أخرجه مسلم(1)
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1731).(9/390)
.
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن فأوصاه بقوله: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنِّي رَسُولُ ا?، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ا? حِجَابٌ» متفق عليه(1).
إن العبادات والشعائر والشرائع الإلهية التي تنظم حياة البشرية، لا بدَّ لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله، وتمنعهم من الاعتداء على حرية العقيدة، وحرية العبادة، وأماكن العبادة، وحرمة الشعائر، وتمكن المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائمة على العقيدة، المتصل بالله، الكفيل بتحقيق الخير للبشرية كافة في الدنيا والآخرة.
ومن ثم أذن الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء المعتدين بعد أن بلغ أقصاه، وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة، وحرية العبادة، وحرية الدعوة في ظل دين الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [الحج: 39].
إن قوى الشر والباطل والضلال تعمل في هذه الأرض، والمعركة مستمرة بين الخير والشر، والهدى والضلال، والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ خلق الله الإنسان.
والشر جامح، والباطل مسلح، وهو يبطش غير متحرج، ويضرب غير متورع، ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه، وعن الحق إن تفتحت له قلوبهم.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1395)، ومسلم برقم (19) واللفظ له.(9/391)
فلا بدَّ للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش، وتقيها من الفتن، وتحرسها من الأشرار والبغاة والطغاة، وقد أمرنا الله بذلك في قوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 60].
ولم يشأ الله عزَّ وجلّ أن يترك أهل الإيمان والخير والحق عزلاً تكافح قوى الطغيان والباطل والشر اعتماداً على قوة الإيمان في النفوس، وتغلغل الحق في الفطر، وعمق الخير في القلوب.
فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب، وتفتن النفوس، وتزيغ الفطر، وللصبر حد، وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه، والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم.
ومن ثم لم يشأ الله أن يترك المؤمنين للفتنة إلا ريثما يستعدون للمقاومة، ويتهيأون للدفاع، ويتمكنون من وسائل الجهاد، وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان، والله سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 38].
والله سبحانه يكره أعداء المؤمنين لكفرهم، فهم مخذولون حتماً، والمؤمنون مظلومون غير معتدين، فليطمئنوا على حماية الله لهم، ونصره إياهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [الحج: 39].
فلا بدَّ للمسلمين من الجهاد في سبيل الله لحماية العقيدة، وأماكن العبادة، والدفع عنها؛ لئلا تنتهك حرماتها، فما أرحم الله بعباده إذ شرع لهم الجهاد في سبيل الله: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 40].
والصوامع أماكن العبادة المنعزلة للرهبان.. والبِيَع للنصارى عامة.. والصلوات أماكن العبادة لليهود.. والمساجد أماكن العبادة للمسلمين.
وهذه الأماكن كلها معرضة للهدم، لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها، ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض، أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرماتها، ويعتدون على أهلها.(9/392)
فالباطل متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان ما وجد حق، إلا أن يدفعه الحق بمثل القوة التي يصول بها ويجول، ولا يكفي الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه، بل لا بدَّ له من القوة تحميه، وتدافع عنه، وترهب أعداءه، وهي سنة شرعية مأمور بها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 60].
إن هذا الدين لا يقوم بغير حراسة، ولا يتحقق في الأرض بغير جهاد، ولا ينتشر بغير دعوة، ولا يبقى عزيزاً منيعاً بغير جهاد.
جهاد لتأمين العقيدة.. وتأمين الدعوة.. وحماية أهله من الفتنة.. وحماية شريعته من الفساد.
ومن ثم كان للشهداء في سبيل الله مقامهم، وكان لهم قربهم من ربهم كما قال سبحانه: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [آل عمران: 169].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهداء في سبيل الله: «أرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمِ اطِّلاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي؟ وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأوْا أنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أنْ يُسْألُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ! نُرِيدُ أنْ تَرُدَّ أرْوَاحَنَا فِي أجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أخْرَى، فَلَمَّا رَأى أنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا» أخرجه مسلم(1).
وأصناف الخلق خمسة:
المتصدقون.. والصديقون.. والشهداء.. والمقتصدون.. والكفار.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1887).(9/393)
فالمتصدقون هم المؤمنون الذين أكثروا من الصدقات الشرعية، وبذلوا أموالهم في طرق الخيرات، وجلّ عملهم الإحسان إلى الخلق، وبذل النفع إليهم بغاية ما يمكنهم، خاصة بذل المال في سبيل الله، فهؤلاء يضاعف لهم الأجر، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ولهم الجنة يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 18].
والصديقون هم الذين كملوا مراتب الإيمان، والعمل الصالح، والعلم النافع، واليقين الصادق، فمرتبتهم دون مرتبة الأنبياء، وفوق مرتبة عموم المؤمنين.
والشهداء هم الذين قاتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، فاستشهدوا في سبيل الله.
والمقتصدون هم الذين أدوا الواجبات، وتركوا المحرمات، إلا أنه حصل منهم تقصير ببعض حقوق الله، وحقوق عباده، فهؤلاء مآلهم إلى الجنة، وإن حصل لهم عقوبة على التقصير.
والكفار: هم الذين كفروا بالله، وكذبوا برسله وآياته، ومآلهم النار.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الحديد: 19].
والجهاد في أول الإسلام كان للدعوة إلى الله حيث لا قتال، بل دعوة إلى الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 52].
ففي مكة قيل للمسلمين في أول الإسلام كفوا أيديكم كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [النساء: 77].
وفي المدينة بعد الهجرة كان جهاد المنافقين باللسان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [التحريم: 9].
ثم كان الجهاد بالسيف لما عز الإسلام وأوذي المسلمون كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [الحج: 39].
وكان الإذن بالقتال أولاً لمن آذى المسلمين وقاتلهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 190].
ثم أذن الله للمسلمين بقتال المشركين كافة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 36].(9/394)
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 39].
والسلام الذي يدعو إليه الإسلام يقوم على أمرين:
الأول: أن تنقطع الفتن التي تلاحق المسلمين في كل أرض.
الثاني: أن يكون الدين كله لله.
وإذا قوي الإيمان سهل على العبد امتثال أوامر الله كلها، وتلذذ بمباشرتها.
فإذا اجتمع للعبد قوة الإيمان مع قوة البدن فذلك الذي يحبه الله في ميدان الجهاد.
فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير.
والرجل الشجاع يفتك بالعدو ويمزق صفوفه، فإن جرح فإنه لا يقوم له شيء فتراه بعدها هائجاً مقداماً كالأسد إذا جرح فإنه لا يطاق، ولا يقف له شيء.
أما الرجل الضعيف في إيمانه وبدنه فلا إقدام له، فإن جرح ولى هارباً والجراحات في أكتافه، فلا هو في الصف مستقيماً، ولا عند الجراحة صابراً، وذلك ما لا يحبه الله بل يبغضه ويسخطه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 15، 16].
والمجاهد في سبيل الله له حالات:
فإما أن يقصد دفع العدو.. وذلك إذا كان المجاهد مطلوباً والعدو طالباً.. وقد يقصد الظفر بالعدو ابتداء إذا كان طالباً والعدو مطلوباً.. وقد يقصد كلا الأمرين.
والأقسام الثلاثة المؤمن مأمور فيها بالجهاد في سبيل الله.
وجهاد الدفع أشد وأصعب من جهاد الطلب، فإن جهاد الدفع يشبه دفع الصائل، ولهذا أبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه، لكن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة، ودفع الصائل على النفس والمال مباح ورخصة، فإن قتل فيه فهو شهيد.
فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعم وجوباً، ولهذا يتعين على كل أحد فلا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً.
وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين الذين يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، وأما الجهاد الذي يكون فيه المسلم طالباً مطلوباً، فهذا يقصده خيار الناس لإعلاء كلمة الله ودينه، ويقصده أواسطهم للدفع ومحبة الظفر.(9/395)
وقد بعث الله عزَّ وجلَّ رسوله بالهدى ودين الحق فدعا إلى الله، وأمره الله سبحانه بجدال الكفار بالتي هي أحسن، وأمره أن يدعوهم بعد ظهور الحجة إلى المباهلة، وبهذا قام الدين، وإنما جعل السيف ناصراً للحجة.
وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته، وهو سيف رسوله وأتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جدال الكفار على اختلاف مللهم إلى أن توفي، وأصحابه قاموا بذلك من بعده، وكل ذلك من أجل إعلاء كلمة الله كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 125].
وقد أقام الله سبحانه سوق الجهاد في هذه الدار بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان، واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فيقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون، وأخبر أن ذلك وعد مؤكد عليه في أشرف كتبه وهي التوراة والإنجيل والقرآن كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 111].
وقد وصف الله هؤلاء المجاهدين الذين اشتراهم بأحسن الصفات فقال: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 112].
ولم يسلط الله عزَّ وجلَّ هذا العدو وهو الشيطان على عبده المؤمن الذي هو أحب المخلوقات إليه إلا لأن الجهاد أحب شيء إليه، وأهله أرفع الخلق عنده درجات، وأقربهم إليه وسيلة.
والجهاد بذل الجهد في قتال الكفار، والدعوة إلى الدين الحق، ومجاهدة النفس والشيطان والفساق.
فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم على تعليمها.
وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات.
وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب.
وأما مجاهدة الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب.
وحق الجهاد: هو استفراغ الطاقة فيه، وألا يخاف في الله لومة لائم.
وأقسام الجهاد أربعة:(9/396)
جهاد النفس.. وجهاد الشيطان.. وجهاد الكفار.. وجهاد المنافقين.
وعدو الإنسان الداخلي هو النفس، وعدو الإنسان الخارجي الكفار والمنافقون، ولا يمكن جهادهما إلا بجهاد الشيطان والتصدي له، وذلك بدفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات.
وجهاد الكفار والمنافقين مراتبه أربع:
بالقلب.. واللسان.. والمال.. والنفس.
وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
وجهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات على ثلاث مراتب:
جهاد باليد إذا قدر.. فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم(1).
ومن جاهد نفسه وشيطانه وعدوه الكافر والمنافق فإنما يجاهد نفسه؛ لأن نفعه راجع إليه، وثمرته عائدة إليه، والله غني عن العالمين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 6].
وجميع الأوامر والنواهي يحتاج فيها العبد إلى جهاد؛ لأن نفسه تتثاقل بطبعها عن الخير، وشيطانه ينهاه عنه، وعدوه الكافر يمنعه من إقامة دينه كما ينبغي.
فعلى المسلمين أن يتقوا الله، ويحذروا من سخطه وغضبه، ويبتغوا إليه الوسيلة بطاعته، وحسن عبادته، والتقرب إليه، ويجاهدوا في سبيله لنصرة دينه، وإعلاء كلمته، وابتغاء مرضاته لتحصل لهم السعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 35].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (49).(9/397)
وللمجاهدين في سبيل الله أجر عظيم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ ا?، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -أُرَاهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري(1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ ا? خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ ا?، أوِ الْغَدْوَةُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» أخرجه البخاري(2).
فالجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، وهم الأعلون في الدنيا والآخرة.
وجهاد أعداء الله في الخارج فرع على جهاد العبد نفسه في ذات الله، فجهاد النفس مقدم على جهاد العدو في الخارج وأصل له.
فما لم يجاهد العبد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج.
إذ كيف يمكنه جهاد عدوه وكسره، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه.
فالنفس والكفار عدوان امتحن الله العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده وهو الشيطان، فهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذل ويرجف به، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ، وفوت اللذات والمشتهيات.
وجنس الجهاد فرض عين:
إما بالقلب.. وإما باللسان.. وإما بالمال.. وإما باليد.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2790).
(2) أخرجه البخاري برقم (2892).(9/398)
فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع، كل أحد بحسبه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 52].
فهذا أعظم الجهاد، وهو جهاد الدعوة وتبليغ الدين إلى الناس.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بأن نجاهد في الله حق جهاده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 78].
وأمرنا كذلك أن نتقيه حق تقاته كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 102].
وحق تقاته، وحق جهاده، هو ما يطيقه كل عبد في نفسه.
وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة والعجز، والعلم والجهل، والغنى والفقر.
فحق التقوى، وحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيء، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيء آخر.
فما جعل الله على أحد في الدين من حرج، بل جعله واسعاً يسع كل أحد، كما جعل رزقه يسع كل حي، فكلف العبد بما يسعه، ورزقه ما يحتاجه، وأغناه من فضله، وما جعل على عبده في الدين من حرج بوجه ما.
فاتقوا الله حق تقاته، وجاهدوا في الله حق جهاده: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 78].
وإذا ترك المسلمون الجهاد في سبيل الله ابتلاهم الله بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع بينهم الفتنة كما هو واقع، فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم، وألَّف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم.
وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض كما قال سبحانه (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [التوبة: 38،39].
والعذاب قد يكون من عند الله مباشرة، وقد يكون بأيدي العباد كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 65].
وأعظم ميادين الإصلاح والتوجيه ثلاثة:
ميدان الدعوة.. وميدان التعليم.. وميدان الجهاد في سبيل الله.(9/399)
والكفار والشياطين والطغاة أشد ما تكون عليهم إذا كنت فيها، أو في واحد منها؛ لأنه بالدعوة تنزل الهداية، وبالعلم يزول الجهل، وبالجهاد يزول الباطل.
وبهذه الثلاثة يكون الدين كله لله، ويُعبد الله الذي يستحق العبادة، ويزول حكم أهل الباطل من الأرض.
14- فقه النصر
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 7].
وقال الله تعالى: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [غافر: 51].
الله تبارك وتعالى من سنته الجارية أن من آمن به، وامتثل أوامره، حسب ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه ينصره ويؤيده ويعزه في الدنيا، ويرزقه الجنة في الآخرة.
ومن كفر به، ولم يستجب له، وكذب رسله، فإنه يخذله ويشقيه في الدنيا، وينساه كما نسيه، ويجعل معيشته ضنكاً، وله في الآخرة عذاب النار، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 56، 57].
فإن قيل: إذا كان الحق يعلو.. فلم ينتصر الكفار على المسلمين، وتغلب القوة الحق؟.
فيقال: إنه لا يلزم أن تكون كل وسيلة من وسائل كل حق حقاً، كما لا يلزم أن تكون كل وسيلة من وسائل كل باطل باطلاً، فكل حق مغلوب لباطل مغلوب بوسيلته الباطلة لا مغلوب بذاته.
وثانياً: يجب أن تكون كل صفة من صفات المسلم مسلمة مثله، إلا أن هذا ليس أمراً واقعاً ولا دائماً، وكذا الكافر أو الفاسق لا يشترط أن تكون جميع صفاته كافرة أو فاسقة.
وصفة مسلم يتصف بها كافر تتغلب على صفة غير مشروعة لدى المسلم، وبهذه الوسيلة يتغلب الكافر على المسلم الذي يحمل صفة غير مشروعة.
وثالثاً: أن مطيع الأوامر الشرعية والعاصي لها يرى ثوابه وعقابه غالباً في الدار الآخرة، ومطيع السنن الكونية والعاصي لها غالباً ما يرى ثوابه وعقابه في دار الدنيا.
فكما أن ثواب الصبر النصر، فكذلك ثواب السعي الغنى، وكل حق أصبح وسيلة لباطل فسينتصر على باطل أصبح وسيلة لحق.(9/400)
ورابعاً: أن الحق إذا كان مشوباً بشيء آخر أو مغشوشاً، فإن الله يسلط عليه الباطل مؤقتاً، حتى يصفو الحق نتيجة التدافع، ولتظهر مدى قيمة سبيكة الحق الثمينة جداً.
والله عزَّ وجلَّ يبتلي عباده المؤمنين أحياناً بغلبة عدوهم عليهم، وفي ذلك منافع وحكم عظيمة:
منها استخراج عبوديتهم لله، وذلهم له، فلو كانوا منصورين دائماً لبطروا وأشروا، ولو كانوا مغلوبين دائماً لما قامت للدين قائمة.
فاقتضت حكمة الله أن صرفهم بين الغلبة لهم وعليهم، فإذا غلب عليهم عدوهم تضرعوا إلى ربهم واستغفروه، وإذا غلبوه أقاموا شعائره ودينه، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر.
ومنها: أنهم لو كانوا منصورين دائماً لدخل معهم من ليس قصده الدين، ولو كانوا مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد.
فاقتضت حكمة العليم الخبير أن تكون لهم الدولة تارة، وعليهم تارة؛ ليتميز بذلك من يريد الله ورسوله، ومن يريد الدنيا والجاه.
ومنها: أن الله سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، ولكل حالة عبودية، فكما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، فكذلك لا تستقيم القلوب إلا بالسراء والضراء.
والله بذلك يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم، ويتخذ منهم شهداء، ويعلم المؤمنين من الكافرين، والصادقين من الكاذبين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پپ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 140-142].
وبمقدار التضحية للدين تكون نصرة الله، فلو كان لدينا ماء في مكان عال وفتحناه على الآخر، فإنه يملأ الخزان في ساعة، أما لو فتحناه قليلاً فيعبئ الخزان في يومين، فليس الخلل في حجم الخزان، إنما في مقدار الفتحة.
وهكذا ولله المثل الأعلى نصرة الله تنزل بمقدار التضحية، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ضحوا بخمسة أشياء:
بأموالهم.. وأنفسهم.. وأوقاتهم.. وشهواتهم.. وديارهم.(9/401)
ومع ذلك لم تنزل عليهم نصرة الله إلا بعد خمس عشرة سنة، ونحن الآن نضحي قليلاً ونطلب النصرة كالصحابة، بل نطلبها فوراً.
فإذا أردنا الخزان يمتلئ نزيد الفتحة قليلاً.
وهكذا إذا أردنا الإسلام ينتشر نضحي قليلاً بالنفس والمال والوقت، وإذا أردنا أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم تظهر في العالم نضحي بكل ما نملك، وإذا أردنا الصفات والأخلاق العالية تنتشر نضحي كما ضحى الأنبياء والصحابة من أجل إعلاء كلمة الله:
عبادة بإخلاص.. ودعوة باللسان.. وجهاد بالسنان.. ورحمة وشفقة على الخلق.. واستغفار وبكاء.. وتضحية بالأنفس والأموال.. والأوقات والشهوات، والمناصب والديار.. مع الاستقامة على أوامر الله، والدعاء والبكاء.
وموسى صلى الله عليه وسلم لما رأى أحوال فرعون، وشدة بطشه وإسرافه، وشدة أذاه لبني إسرائيل، أمره الله أن يصلح نفسه ومن معه بامتثال أوامر الله، والاستقامة عليها، ثم تأتي النصرة من الله بعد ذلك، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 87].
فلما رأى موسى القسوة والإعراض من فرعون وملئه دعا عليهم، وأمَّن هارون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 88].
فأجاب الله دعوتهما، وأمرهما بالاستقامة على الدين، والاستمرار في الدعوة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [يونس: 89].
وإذا اجتمع في المؤمنين المجاهدين في سبيل الله سبع صفات، حصل لهم النصر، وإن قلوا وكثر عدوهم، وهذه الصفات هي:
الثبات.. ذكر الله.. طاعة الله ورسوله.. عدم الاختلاف والتنازع.. الصبر.. التواضع.. الإخلاص.. دعوة الناس إلى سبيل الله، وإعلاء كلمة الله، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 45-47].
فهذه سبع صفات يحصل بها النصر، ومتى فُقدت أو فُقد بعضها زال من النصر بحسب ما نقص منها.(9/402)
وإذا اجتمعت قَوَّى بعضها بعضاً، وصار لها أثر عظيم في النصر كما حصل في غزوة بدر وغيرها.
ولما اجتمعت هذه الصفات في الصحابة رضي الله عنهم لم تقم لهم أمة من الأمم، وفتحوا الدنيا، ودانت لهم البلاد والعباد.
ولما تفرقت فيمن بعدهم وضعفت، وضعف الإيمان، آل الأمر إلى ما آل من الذلة والهوان، فنسأله المغفرة، والله المستعان، وعليه التكلان.
فهذه عوامل النصر على الأعداء إلى يوم القيامة.
فأما الثبات عند لقاء العدو فهو بدء الطريق إلى النصر، فأثبت الفريقين أغلبهما، وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون، فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه، وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار.
فلا يليق بالمؤمنين أن يفروا وقد وعدهم الله إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [التوبة: 52].
فالثبات في ميدان القتال أمام الكفار فيه نصرة لدين الله، وقوة لقلوب المؤمنين، وإرهاب للكافرين، والفرار من غير عذر من أكبر الكبائر يوجب غضب الله، ودخول النار، لما فيه من خذلان الدين، وتقوية قلوب الكافرين، وإحباط نفوس المؤمنين، ولهذا حذر الله منه بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 15، 16].
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء، فهو التوجيه الدائم للمؤمن، وهو يؤدي وظائف شتى في ميدان الجهاد، إنه الاتصال بالقوي الذي لا يُغلب، والقدير الذي لا يعجزه شيء، والثقة بالناصر الذي ينصر أولياءه.(9/403)
وهو في الوقت ذاته استحضار لحقيقة المعركة وبواعثها، فهي معركة لله لتقرير ألوهية الله، وتحطيم الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية، فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا، لا للسيطرة، ولا للمغنم، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي، وأما طاعة الله ورسوله فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء، فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة.
فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه، وإلا حين يكون الهوى هو الذي يوجه الآراء والأفكار.
فإذا استسلم الناس لله ورسوله سلموا من أعداء الله ورسوله، وإذا عصى الناس الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نزلت بهم الهزيمة، وحلت بهم العقوبة.
فالطاعة من أقوى أسلحة النصر على الأعداء، وهي طاعة قلبية عميقة سببها الإيمان بالله، والغيرة لدينه، لا مجرد الطاعة القسرية في الجيوش التي لا تجاهد لله.
ولما كانت الطاعة لله ورسوله تامة في بدر نصر الله المؤمنين وخذل أعداءهم، ولما نقصت الطاعة في أُحد وعصى الرماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ارتفعت النصرة، ونزل بالمسلمين ما نزل، فالنصر نزل في أول القتال، ثم لما حصل من بعض المسلمين ما حصل ارتفعت النصرة كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [آل عمران: 152].
وأما الصبر فهو الصفة التي لا بدَّ منها لخوض المعركة مع العدو الداخلي والعدو الخارجي، في ميدان النفس وفي ميدان القتال، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 46].
وهذه المعية من الله، هي الضمان للصابرين بالفوز والفلاح.
أما الخروج للقتال بطراً ورئاء الناس فقد خرجت به قريش، بفخرها وكبريائها تحاد الله ورسوله في بدر، فعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة، والانكسار والهزيمة، فنهى الله المؤمنين أن يخرجوا كذلك بقوله: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 47].(9/404)
أما المؤمنون فيخرجون للجهاد في سبيل الله متواضعين لله، مخلصين أعمالهم له وحده، متوكلين عليه وحده.. لتقرير ألوهية الله سبحانه في حياة البشر.. وتقرير عبودية العباد لله وحده.. وتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله.. وتستعبد الناس.. وتحرير كل إنسان من العبودية لغير الله.. وحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم.
فهذه مقاصد الإسلام من خروج المسلمين للجهاد في سبيل الله، لا يخرجون للاستعلاء على العباد واستعبادهم، والتبطر بنعمة القوة، باستخدامها هذا الاستخدام المنكر، والفخر والكبر والخيلاء.
فليس للإسلام هدف من النصر إلا تحقيق طاعة الله ورسوله.. وإقامة منهج الله في الحياة.. وإعلاء كلمته في الأرض.. ورفع الظلم عن الخلق.. واقتلاع جذور الفساد في الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 193].
إن بروز قوة الإسلام ليستهوي قلوباً كثيرة تصد عن الإسلام الضعيف، أو الإسلام المجهول القوة والنفوذ.
وإن الدعوة إلى الإسلام لتسير بقوة في الأرض حين تكون الأمة المسلمة بادية القوة، مرهوبة الجانب، عزيزة الجناب.
على أن الله سبحانه وهو يرى الجماعة المسلمة لم يكن يعدها وهي في مكة قلة قليلة مستضعفة مطاردة إلا وعداً واحداً وهو الجنة، ولم يكن يأمرها إلا أمراً واحداً وهو الصبر.
فلما أن صبرت وطلبت الجنة وحدها دون الغلب آتاها الله النصر والعزة والغلب والتمكين في الدنيا مع الجنة في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الفتح: 29].
وقد وعد الله عباده المؤمنين أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوسهم، وتمثلت في واقع حياتهم عبادة لله في جميع أحوالهم، منهجاً للحياة، ونظاماً للحكم، وتجرداً لله في كل خاطرة وحركة، فسيجعل الله لهم العز والنصر والتمكين، ويدفع عنهم تسلط الكفار، فسنته سبحانه نصر أوليائه، وخذلان أعدائه، ودفع الباطل بالحق فإذا هو زاهق: (? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 141].(9/405)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإنَّمَا أنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أمْرِ ا?، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أمْرُ ا?» متفق عليه(1).
ولا تلحق الهزيمة بالمؤمنين إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان، إما في الشعور، وإما في العمل، ومن الإيمان أخذ العدة، وإعداد القوة في كل حين، بنية الجهاد في سبيل الله.
ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء، وألا نطلب العزة إلا من الله، فالإيمان صلة بالله القوي العزيز، والكفر انقطاع عن تلك القوة، وانعزال عنها.
ولن تستطيع قوة محدودة مقطوعة أن تغلب قوة موصولة بمن يملك بقوته هذا الكون جميعاً.
والفرق بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان:
أن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ذات أثر في النفس، وفيما يصدر عنها من القول والعمل، وهي كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المقطوعة عن الله أن تقهرها، ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر، فإن حقيقة الكفر تغلبه إذا هي صدقت مع طبيعتها، وعملت في مجالها؛ لأن حقيقة أي شيء أقوى من مظهر أي شيء.
إن انتصار المسلمين قد يرد بعض المشركين إلى الإيمان، ويفتح بصيرتهم على الهدى، حين يرون المسلمين ينصرون، ويرون أن قوةً غير قوة البشر تؤيدهم، ويرون آثار الإيمان في مواقفهم، وهذا ما حصل ويحصل فعلاً.
وعندئذ ينال المجاهدون أجر جهادهم، وأجر هداية الضالين بأيديهم، وينال الإسلام قوة جديدة تضاف إلى قوته، بهؤلاء المهتدين التائبين: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [التوبة: 14، 15].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، واللفظ له، ومسلم برقم (1037).(9/406)
والله جلَّ جلاله كتب النصر لأوليائه إذا توفرت فيهم شروط النصر، ولكن قد يبتلى أهل الحق، وينجو أهل الباطل، وقد تكون للباطل صولة تكون فتنة لقلوب المؤمنين، وهزة لمعرفة مقدار إيمانهم.
وقد وقع بالفعل في غزوة أُحد، حتى قال المسلمون: أنى هذا؟.. أي فما وجه هذا؟ فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ?) [آل عمران: 165، 166].
إن ذهاب الباطل ناجياً في معركة من المعارك.. وبقاءه منتفشاً فترة من الزمان.. ليس معناه أن الله تاركه.. أو أنه من القوة بحيث لا يغلب.. أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً.
وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك.. وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان.. ليس معناه أن الله مجافيه أو ناسيه.. أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه.. كلا.
إنما هي حكمة وتدبير من العزيز الحكيم، يملي للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق، وليرتكب أبشع الآثام، وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد العذاب باستحقاق.
ويبتلى الحق ليميز الخبيث من الطيب، ويعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت.. وينقي الصف من المنافقين المندسين.
وهؤلاء الكفار كان الإيمان في متناول أيديهم، وكان مبذولاً لهم فباعوه واشتروا به الكفر على علم وعن بينة.
ومن هنا استحقوا أن يتركهم الله يسارعون في الكفر ليستنفدوا رصيدهم كله، ولا يستبقوا لهم حظاً من ثواب الآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 176].
فالله ناصر دينه، ومؤيد أهله، ومنفذ أمره من دونهم، فلا تبال بهم، ولا تحفل بهم، وهم إنما يضرون أنفسهم بفوات الإيمان في الدنيا، وحصول العذاب الأليم في الآخرة، ومن هوانهم على الله وسقوطهم من عينه، لم يجعل لهم حظاً في الدنيا بالإيمان، ولا حظاً في الآخرة بالثواب، فخذلهم ولم يوفقهم لِمَا وفق إليه أولياءه؛ لعلمه بأنهم غير زاكين على الهدى، ولا قابلين للرشاد.(9/407)
والذين اختاروا الكفر على الإيمان لن يضروا الله شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم، والله غني عنهم، وقد قيض لدينه من عباده الأبرار الأزكياء سواهم، وأعد له ممن ارتضاه لنصرته من الرجال الصادقين: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ) [آل عمران: 177].
والعيون قد ترى أعداء الله وأعداء الحق متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتعين في ظاهر الأمر بالقوة والسلطة، والمال والجاه، مما يوقع الفتنة في قلوب هؤلاء.. وقلوب الناس من حولهم، مما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يحسبون أن الله سبحانه يرضى عن الشر والباطل فيملي له، ويرخي له العنان، أو يحسبون أن الباطل حق، وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب؟.
أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض بقوته، وليس هناك من قوة تغلبه.
وهذا وَهْمٌ باطل، وظنٌّ بالله غير الحق، والأمر ليس كذلك قطعاً، فإنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه، وإذا كان الله يعطيهم حظاً في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه، إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء فإنما هي الفتنة.. وإنما هو الكيد المتين.. وإنما هو الاستدراج البعيد: (گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [آل عمران: 178].
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة بالابتلاء الموقظ لابتلاهم، ولكنه لا يريد بهم خيراً لخبث نفوسهم، فاشتروا الكفر بالإيمان، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه، وقدموا بأعمالهم السيئة إلى مساكنهم في النار.
ولقد نصر الله رسله وأتباعهم وخذل أعداءهم، واستقرت جذور العقيدة في الأرض، وقام بناء الإيمان وظهر نوره في العالم على الرغم من جميع العوائق، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمجاهدين: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [التوبة: 33].
ولقد ذهبت عقائد الكفار والمشركين، وذهبت سطوتهم ودولتهم، وبقيت العقيدة التي جاء بها الرسل تسيطر على قلوب الناس وعقولهم.(9/408)
وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى، وأحسن وأنقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض.
وكل المحاولات التي بذلت لمحو الإسلام الذي جاء به الرسل، وتغليب فكر غيره عليه، وكل كيد، وكل مكر، قد باء كل ذلك بالفشل، سواء في دار الإسلام، أو في الأرض التي نبع منها، وحقت كلمة الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين، ولدينه بالبقاء: (ے ے ? ? ?? ? ? ?? ? ? ? ??) [الصافات: 171-173].
هذا بصفة عامة.. وهي كذلك متحققة في كل دعوة، يخلص فيها الجند، ويتجرد لها الدعاة.
إن هذه العقيدة غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق، ومهما قامت في طريقها العراقيل، ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار، وقوى الدعاية والافتراء، وقوى الحرب والمقاومة.
وإنْ هي إلا معارك تختلف نتائجها، ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله رسله، والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه.
إنه الوعد بالنصر والغلبة والتمكين للمؤمنين، هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية، سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دورتها المنتظمة.
وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان.. وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة التي ينزل عليها الماء، ولكنها مرهونة بتقدير الله، يحققها حين يشاء، وقد تبطئ ولكنها لا تخلَّف أبداً، وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر.
وقد يُهزم جند الله في معركة من المعارك، وتدور عليهم الدائرة؛ لأن الله يعدهم لنصر في معركة أكبر، ليؤدي النصر ثماره في مجال أوسع، والله حكيم عليم.
إن الإيمان كنز عظيم، وجوهر ثمين، إذا استقر في القلوب واستنارت به نشطت للعبادة، وهانت عليها التضحية.
فإذا اكتملت حقيقة الإيمان في نفوس الذين لا يملكون قوة سواها، فإن الإيمان يستعلن في وجه الطغيان، لا يخشاه ولا يرجوه ولا يرهب وعيده، ولا يرغب في شيء مما في يده.
فإذا قال الطغيان: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [طه: 71].(9/409)
قال الإيمان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 72، 73].
والله مع المؤمنين ضد أعدائهم، فهو الناصر، وهو الحفيظ.
فالكفار لما: (ے ے ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 68].
فماذا فعل الله به، وبهم، وبالنار؟.
(? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 69-71].
وما ذنب الرسل والدعاة إلى الله حتى يخرجهم الكفار من ديارهم؟.
أو يكرهوهم على اتباع ملتهم؟.
(? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [إبراهيم: 13].
فماذا قال الله لرسله؟، وماذا فعل بأعدائه؟.
(ک گ گ گ گ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [إبراهيم: 13، 14].
وعندما بلغت المعركة بين الإيمان والطغيان في عالم القلب إلى هذا الحد العالي، تولت يد القدرة راية الحق لترفعها عالية، وتنكس راية الباطل بلا جهد من أهل الإيمان، فلم يتكلف أصحاب الإيمان سوى اتباع الحق، والسري ليلاً: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ???? ? ? ? ??) [طه: 77-79].
ذلك أن القوتين لم تكونا متكافئتين ولا متقاربتين في عالم الواقع، موسى وقومه ضعاف مجردون من القوة، وفرعون وجنوده يملكون القوة المادية كلها، فلا سبيل إلى خوض معركة مادية أصلاً.
هنا تولت يد القدرة إدارة المعركة، فأنجى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وجنوده بأمر واحد، وبماء واحد، في آن واحد، ولكن تم ذلك بعد كمال الإيمان في القلب.
وحين كان بنو إسرائيل يؤدون ضريبة الذل لفرعون وهو يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، لم تنزل عليهم نصرة الله؛ لنقضهم عهد الله.
ولكن لما استعلن الإيمان في قلوب الذين آمنوا بموسى، واستعدوا لاحتمال التعذيب جهروا بكلمة الإيمان في وجه فرعون دون تحرج، ودون اتقاء للتعذيب، أيدهم الله بنصره، وأعلن النصر الذي تم قبل ذلك في الأرواح والقلوب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پپ ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?? ? ? ?? ? ? ? ? ?چ چ چ چ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [الشعراء: 61-68].(9/410)
إنه بكمال الإيمان يكون كمال النصر، فليرتقب الدعاة النصر من الله بهذا الإيمان، ولو كانوا مجردين من عدة الأرض، والطغاة يملكون المال والجند والسلاح: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الروم: 47].
والنصر قد يبطئ على المؤمنين أحياناً؛ لأن بُنْيَة الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها المطلوب، ولم يتم بعدُ تمامها وكمالها، ولم تحشد بعدُ طاقتها، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً؛ لعدم قدرتها على حمايته طويلاً.
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله.
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، بل إنما ينزل النصر بعد بذل كل الطاقة، وتفويض الأمر كله إلى الله.
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه.. أو حمية لذاتها.. أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها.. والله يريد أن يكون الجهاد له وحده، وفي سبيله.
وقد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصاً، ويذهب وحده هالكاً.
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيغه للناس تماماً، ولم يقتنعوا بعدُ بفساده، وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة.
فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى ينكشف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من أحد.
وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار، فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه.(9/411)
من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا، وتحقيق النصر لهم في النهاية، فهم أهل دينه، وحماة شريعته، والمجاهدون لإعلاء كلمته: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الحج: 40، 41].
وقد دعا نوح صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكذبوه وما آمن معه إلا قليل، ولما لم يجد منفذاً إلى تلك القلوب الجامدة المتحجرة، وسخروا منه وآذوه، وأوحي إليه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، عندئذ توجه بالدعاء إلى ربه وحده، يشكو إليه ما لقيه من تكذيب: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?? ? ? ? ? ???? ? ? ? ?چ چ چ چ ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ژ? ژ ڑ ڑ ک ک کک? گ گ گ گ ? ??) [القمر: 9-15].
إنه عندما يتجمد الأحياء على هذا النحو، وتقسوا قلوبهم إلى هذا الحد، وتهم الحياة بالحركة إلى الأمام في طريق الكمال المرسوم فتجدهم عقبة في الطريق، عندئذ إما أن تتحطم هذه المتحجرات، وإما أن تدعها الحياة في مكانها وتمضي، والأمر الأول هو الذي حدث لقوم نوح.
ذلك أنهم كانوا في فجر البشرية، وفي أول الطريق، فشاءت إرادة الله أن تطيح بهم من أول الطريق: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 27].
وهكذا شاءت إرادة الله، ومضت سنة الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة، لتمضي الحياة في طريقها المرسوم، وأراد الله أن يكون العلاج هو الطوفان الذي يجتث كل شيء، ويجرف كل شيء، ويغسل التربة، لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد، وجعل الله الفلك وسيلة للنجاة من الطوفان، وحفظ بذور الحياة السليمة كيما يعاد بذرها من جديد.(9/412)
وقد شاء الله عزَّ وجلَّ أن يصنع نوح الفلك بيده؛ لأنه لا بد للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل، وبذل آخر ما في طوقه ليستحق المدد من ربه، فالمدد والنصر لا يأتي القاعدين المسترخين، الذين ينتظرون ولا يزيدون على الانتظار والأماني.
وجعل الله لنوح علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض من هؤلاء، وهي خروج الماء من التنور، ليسارع نوح فيحمل في السفينة بذور الحياة من كلٍ زوجين اثنين من أنواع الحيوان والطيور والنبات، وأهله إلا من سبق عليه القول منهم، وهم الذين كفروا وكذبوا، فاستحقوا كلمة الله وسنته النافذة، وهي إهلاك المكذبين بآيات الله بالغرق الذي ابتلعهم.
وأمر الله نوحاً ألا يجادل في أمر واحد، ولا يحاول إنقاذ أحد، فسنة الله ماضية لا تحابي أحداً، ولا تنحرف عن طريقها من أجل خاطر ولي ولا قريب.
وتنفيذاً لما طلبه نوح صلى الله عليه وسلم من ربه جاء أمر الله بإغراق المكذبين ونصر المؤمنين: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الأنبياء: 76، 77].
وإنها لنعمة كبرى أن ينصر الله أولياءه ويخذل أعداءه، فأمر الله نوحاً أن يشكر ربه على هذه النعمة، وأن يستهديه لسلوك الصراط المستقيم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 28].
وابتلاء الله لعباده أنواع وألوان:
ابتلاء للصبر.. وابتلاء للشكر.. وابتلاء للأجر.. وابتلاء للتوجيه.. وابتلاء للتأديب.. وابتلاء للتمحيص.. وابتلاء للتقويم.
وفي قصة نوح صلى الله عليه وسلم ألوان من الابتلاء له ولقومه ولأبنائه القادمين.
وسنة الله أن الشر حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته، والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر.
فحين بغى فرعون على بني إسرائيل، واستطال بجبروت الحكم والسلطان، وحين بغى قارون عليهم، واستطال بجبروت العلم والمال، فكانت النهاية واحدة.(9/413)
هذا خسف الله به وبداره الأرض، وذلك أخذه اليم هو وجنوده، فلما لم تكن هناك قوة تعارضها من قوى الأرض الظاهرة فحينذاك نصر الله أولياءه مباشرة فوضع حداً للبغي والفساد، حينما عجز الناس عن الوقوف للبغي والفساد.
فدل هذا على أنه حين يتمحض الشر ويسفر الفساد، ويقف الخير عاجزاً حسيراً ويخشى من الفتنة بالبأس والفتنة بالمال، عندئذ تنزل نصرة الله صريحة متحدية بلا ستار من الخلق، ولا سبب من قوى الأرض، لتضع حداً للشر والفساد، وتضرب الظلم والطغيان والبغي ضربة مباشرة عندما يعجز عن ضربها البشر، وتنصر المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة، وتمكن للمعذبين الذين لا حيلة لهم ولا وقاية: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [الحج: 38، 39].
إن هذا ما يجب أن يعلمه كل مجاهد في سبيل الله وكل داع إليه، وهو ما تجهله الكثرة المشركة الباغية الطاغية.
ففرعون طغى: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ) [القصص: 39، 40].
أما قارون فقد جاء أمر الله مباشرة في إهلاكه، فخسف الله به وبداره الأرض، ولم يغن عنه ماله ولا علمه، كما أغرق الله فرعون، فألقاه في اليم هو وجنوده: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [القصص: 81].
وهكذا انتهى سلطان العلم والمال مع البغي والبطر والاستكبار بالبوار، كما انتهى سلطان الحكم والجبروت والعلو في الأرض.
هذا ابتلعه الماء، وذلك ابتلعته الأرض، وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين، فبعداً لقوم لا يؤمنون.
فأخذ الله كل أمة من الأمم المكذبة بذنبها، وعاقبها على قدر جرمها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [العنكبوت: 40].(9/414)
وما كان وما ينبغي وما يليق بالله تعالى أن يظلم أحداً؛ لكمال عدله، وغناه التام عن جميع الخلق، ولكن هؤلاء ظلموا أنفسهم فمنعوها حقها التي خلقها الله من أجله، فهي مخلوقة لعبادة الله وحده، وهؤلاء وضعوها في غير موضعها، وأشغلوها بالشهوات والمعاصي عن الإيمان والطاعات، فضروها أعظم الضرر من حيث ظنوا أنهم ينفعونها.
فهذه نصرة الله لأوليائه حين يتمحض الشر، ويقف الخير عاجزاً.
أما حين يقف الإيمان القوي في وجه الطغيان الباغي فإن الله جل جلاله ينصر أهل الإيمان، ويخذل أهل الطغيان، ويظهر قدرته، ولكن تحت ستار من الخلق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [التوبة: 14].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ) [الأنفال: 17].
إن في هذا الكون إله واحد لا شريك له وهو الله وحده.. وفيه قوة واحدة هي قوة الله وحده.. وفيه قيمة واحدة للإنسان هي قيمة الإيمان بالله.
فمن كان الله وحده هو إلهه ومعبوده فهو أسعد الناس في الدنيا والآخرة، ومن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه ولو كان مجرداً من كل مظاهر القوة، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى في الكون كله.
فمن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله، ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شيء أصلاً.
ومن هنا تقعد قيمة الحكم والسلطان عن قيمة الإيمان والأعمال الصالحة، كما تقعد قيمة العلم والمال عن قيمة الإيمان والأعمال الصالحة: (ے ے ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 18-20].
وقد جعل الله سبحانه انتصار الحق سنة كونية كخلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، سنة لا تتخلف، قد تبطئ لحكمة يعلمها الله، وقد تأتي في موعدها حسب سنة الله.(9/415)
والله تبارك وتعالى هو القوي العزيز وحده، وقوة الرب هي القوة، وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن، من تعلق به أو احتمى به خذله الله به، فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهنة واهية، فهي وما تحتمي به سواء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ) [العنكبوت: 41].
إنه لا بدَّ للبشر من معرفة حقيقة القوى في هذا الوجود، ليعرف الناس أين يتوجهون؟، وعلى من يتوكلون؟، ومن يعبدون؟.
فلا تخدعهم قوة الحكم والسلطان، ويحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها.
ولا تخدعهم قوة المال، فيحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس، وأقدار الحياة، فيسعون للحصول عليها، ليستطيلوا بها، ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون، ولا تخدعهم قوة العلم الإنساني، فيحسبونها أصل القوة، وأصل سائر القوى التي يصول ويجول بها من يملكها.
فلا تخدعهم هذه القوى الظاهرة، سواء كانت في أيدي الأفراد أو الجماعات أو الدول، فيدورون حولها ويتهافتون عليها كما يتهافت الفراش على النار.
إن المؤمن لا بدَّ أن يعلم أن القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة والكبيرة، وتملكها وتوجهها، وتسخرها حيثما تريد كما تريد، إنما هي قوة الله وحده: (? ? ? ? ??) [هود: 66].
ولا بدَّ كذلك أن يتيقن المؤمن أن الالتجاء إلى تلك القوى مهما كانت كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت.
فالعنكبوت حشرة ضعيفة رخوة واهنة، لا حماية لها من تكوينها الرخو، ولا وقاية لها من بيتها الواهن، وليس هناك إلا حماية الله، وإلا ركنه القوي، فهو سبحانه القوي، وكل قوة في العالم العلوي والعالم السفلي من قوته.(9/416)
وبهذه الحقيقة الإيمانية العظمى، والتي رسخت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها، وداست بها على كبرياء الجبابرة والطغاة في الأرض، ودكت بها المعاقل والحصون.
لقد استقرت هذه الحقيقة في كل نفس، وعمرت كل قلب مؤمن، قوة الله وحدها هي القوة، وولاية الله وحدها هي الولاية، وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل مهما علا واستطال، ومهما تجبر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل والإرهاب، إنها أضعف من العنكبوت وبيتها الواهن: (ژ ڑ ڑ ک ک ک) [العنكبوت: 41].
وإن المؤمنين عامة، والعلماء والدعاة والمجاهدين خاصة، الذين يتعرضون في كل وقت للفتنة والأذى، وللإغراء والإغواء، لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة، ولا ينسوها لحظة وهم يواجهون القوى المختلفة من بين أيديهم ومن خلفهم:
هذه تضربهم وتحاول أن تسحقهم.. وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم، وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله، والقوة كلها لله جميعاً: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?ں) [البقرة: 165].
والمؤمن دائماً يسأل ربه ألا يجعله فتنة للكفار، ويسأله مغفرة ذنوبه كما قال خليل الرحمن: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الممتحنة: 5].
أي لا تسلط الكفار علينا فيكون في ذلك فتنة لهم، إذ يقولون لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم، وفتنة لنا بتسلطهم علينا.
وهي شبهة كثيراً ما تحيك في الصدور حين يتمكن الباطل من الحق، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان لحكمة يعلمها الله في فترة من الفترات.
والمؤمن يصبر للابتلاء، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو الله ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور.(9/417)
ثم يقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم : واغفر لنا، إدراكاً منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه، وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوى الذي يكافئ به نعم الله وآلاءه، ويمجد جلاله وكبرياءه، فيطلب المغفرة من ربه، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه، ولمن يأتي بعده: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ) [الممتحنة: 4].
والله سبحانه يطمئن رسله وأولياءه أنه سبحانه سيتولى حرب هؤلاء الكفار، ويحذر أعداءه وهم كالهباءة المنثورة التي لا تعني شيئاً أمام جبروت الجبار العظيم القهار قائلاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ ? ? ? ? ? ??) [القلم: 44، 45].
إن الجبار القهار يكشف عن خطة الحرب مع هذا المخلوق المعاند الهزيل، الضعيف الصغير.
فالله سبحانه يملي لهؤلاء المغترين بالمال والبنين والجاه والسلطان، ويجعل هذه النعمة فخهم.
فهذه سنة الله في الحرب بينه وبين أعدائه المخدوعين، فهو سبحانه يستدرجهم إلى العقوبة، ويمهلهم ويكيد لهم بما شاء.
وبهذا وذلك يخلي الله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه من المعركة بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل، فهي معركته سبحانه، وهي حربه مع أعدائه التي يتولاها بذاته وتدبيره.
والأمر كذلك في حقيقته مهما بدا أن للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين دوراً في هذه الحرب أصلاً، إن دورهم حين ييسره الله لهم هو طرف من قدر الله في حربه مع أعدائه.
فهم أداة يفعل الله بها أو لا يفعل، وهو في الحالين فعال لما يريد، وهو في الحالين يتولى المعركة بذاته وفق سنته التي يريد، فنعم المولى ونعم النصير.
وهذا النص نزل والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمؤمنون معه قلة لا تقدر على شيء، فكانت فيه الطمأنينة للمستضعفين، والفزع والخوف للمغترين بالقوة والجاه، والمال والبنين.
ثم تغيرت الأحوال والأوضاع في المدينة، وشاء الله أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين دور ظاهر في المعركة.(9/418)
ولكنه سبحانه هنالك أكد لهم كذلك ذلك القول الذي قاله لهم، وهم في مكة قلة مستضعفون.
فقال لهم وهم منتصرون في بدر: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ) [الأنفال: 17].
وقال بعد أن أمدهم بالملائكة في بدر: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 126].
وذلك كله ليقر في قلوب المؤمنين هذه الحقيقة، حقيقة أن المعركة معركته سبحانه، وأنه حين يجعل للمؤمنين فيها دوراً، فإنما ذلك ليبليهم منه بلاء حسناً، وليكتب لهم بهذا البلاء أجراً.
أما حقيقة الحرب فهو سبحانه الذي يتولاها، وأما حقيقة النصر فهو الذي يكتبه، وهو سبحانه يجريها بهم وبدونهم، وهم حين يخوضونها أداة لقدرته، ليست هي الأداة الوحيدة في يده.
وهذه حقيقة تسكب الطمأنينة في قلب المؤمن في حالتي قوته وضعفه على السواء، ما دام يخلص قلبه لله، ويتوكل في جهاده على الله.
فقوته ليست هي التي تنصره في معركة الإيمان والكفر، والحق والباطل، إنما هو الله الذي يكفل له النصر بعد قيام العبد بأسبابه التي أمره الله بها.
وضعف العبد لا يهزمه كذلك؛ لأن قوة الله من ورائه، وهي التي تتولى المعركة، وتكفل له النصر، ولكن الله يملي ويستدرج، ويقدر الأمور في مواقيتها وفق مشيئته وحكمته، ووفق عدله ورحمته.
كما أنها حقيقة تفزع قلب العبد الكافر وتخيفه سواء كان المؤمن أمامه في حالة ضعف أم في حالة قوة، فليس المؤمن هو الذي ينازله ويحاربه، إنما هو الله الذي يتولى المعركة بقوته وجبروته.
فما هذا البائس المتعوس، وما هذه الهباءة المنثورة أمام قدرة الله وجبروته؟.
إن الله يملي له ويستدرجه من حيث لا يعلم، فهو في الفخ الرهيب المفزع المخيف، ولو كان في أوج قوته وعدته، فهذه القوة هي ذاتها الفخ، وهذه العدة هي ذاتها المصيدة: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ ? ? ? ? ? ??) [القلم: 44، 45].
أما متى يكون النصر؟.. ومتى تتوفر أسبابه؟.. فذلك في علم الله المكنون.(9/419)
فعلينا الدعاء، وعلى الله الإجابة.. وعلينا الجهاد، وعلى الله النصر.. وعلينا العمل، وعلى الله الأجر.. وعلينا الدعوة، وعلى الله الهداية.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
وأمام هذه الحقيقة يوجهنا الله إلى الصبر والتقوى، الصبر على الدعوة، والصبر على الجهاد، والصبر على أوامر الله، والصبر على أقدار الله، والصبر عن معاصي الله، والصبر على التواءات النفوس، والصبر على الأذى والتكذيب.. والصبر على السخرية والاستهزاء.
الصبر في هذا كله حتى يحكم الله في الوقت المقدر كما يريد، فيحصل للمؤمنين الفوز والفلاح: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 200].
وقد وعد الله المؤمنين إذا نصروا الله بالقيام بدينه والدعوة إليه وجهاد أعدائه أن ينصرهم على عدوهم ويثبت أقدامهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 7-9].
فعلى المؤمنين بالله أن يقوموا بنصرة دينه، وإعلاء كلمته، والدعوة إليه، وجهاد من عانده ونابذه بالأنفس والأموال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 14].
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم كونوا أنصار الله، ودعاة دينه، ينصركم على عدوكم كما نصر من قبلكم، ويظهركم على عدوكم كما أظهر من كان قبلكم.
إن جميع الأنبياء دعوا أممهم إلى ثلاثة أشياء:
التوحيد.. والإخلاص.. والنصيحة.
وضحوا بكل ما يملكون من أجل الدين تضحية كاملة، فالاستقامة الكاملة والتضحية الكاملة معها نصرة كاملة من الله، وذلك خاص بالأنبياء وأتباعهم من المؤمنين، وهي سنة جارية لا تتبدل.
فنصرة الله دائماً إلى يوم القيامة لأهل الإيمان والتقوى، سواء كان نبياً أو خليفة أو من سائر الناس، فرداً أو جماعة أو أمة.
وبعد بذل كل شيء، وكمال الاستقامة، وكمال التضحية، الله يفصل بأمرين:
نصر أوليائه المؤمنين.. وخذلان أعدائه الكافرين.(9/420)
فنوح صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لله، ونصحهم بطاعة الله ورسوله، فلما لم يستجيبوا ولم يؤمنوا جاء أمر الله بنجاة المؤمنين، وإهلاك الكافرين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [هود: 40].
وهود صلى الله عليه وسلم دعا قومه عاداً كذلك، ولما لم يستجيبوا له جاء أمر الله بإهلاكهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 58-60].
وصالح صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى الله، ولما لم يستجيبوا له أهلكهم الله كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?? ? ? ں ں ? ? ? ??) [هود: 66، 67].
وإبراهيم صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى الله فأبوا وأشعلوا النار لإحراقه فأنجاه الله من النار، وجعلها برداً وسلاماً عليه كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 68-71].
ولوط صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى الله، ولما لم يستجيبوا رفع الله ديارهم إلى السماء وقلبها عليهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [هود: 82، 83].
وشعيب صلى الله عليه وسلم قال لقومه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 84].
ولما لم يستجيبوا له وسخروا منه نزل بهم أمر الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 94، 95].
وموسى صلى الله عليه وسلم دعا فرعون وملأه إلى الله، ولما لم يستجب أغرقه الله وقومه في البحر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پپ ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?? ? ? ?? ? ? ? ? ?چ چ چ چ?) [الشعراء: 61-66].(9/421)
وعيسى صلى الله عليه وسلم دعا بني إسرائيل إلى الله والاستقامة على الدين، فلما لم يستجيبوا له أظهر الله من آمن به على من خالفه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 14].
ومحمد صلى الله عليه وسلم دعا قومه قريشاً إلى الله فلم يؤمن منهم إلا القليل، ولما أعرضوا عنه وسبوه، ثم آذوه وأرادوا قتله حفظه الله وهاجر إلى المدينة فأعز الله دينه ورسوله والمؤمنين، ثم أظهره الله على جميع أعدائه ودخل مكة فاتحاً معه المهاجرون والأنصار، ودخل الناس في دين الله أفواجاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?? ? ? ? چ چ چ چ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النصر: 1-3].
ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم وانشغل الناس بموته، ومن يكون خليفة بعده، وقف جهد الدعوة فنقص الدين، وحصلت في الإسلام خمس مصائب:
اشرأب النفاق.. ومنع قوم الزكاة.. وترك قوم الصلاة.. وارتد كثير من قبائل العرب.. واجتمع الأعداء لغزو المدينة.
ونزل بأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها.
ولكن لكمال إيمانه ويقينه على ربه وكمال تضحيته ثبته الله، فوقف لهذه الفتن العظام موقف المؤمن الواثق من نصر الله.
فأمر الخليفة أبو بكر - رضي الله عنه - بإنفاذ جيش أسامة - رضي الله عنه -، على الرغم من مخالفته الأحوال الظاهرة.
وأمر جميع الصحابة رضي الله عنهم أن يخرجوا لحرب المرتدين ومانعي الزكاة، وإقناعهم بالرجوع إلى دينهم، فخرجوا جميعاً ولم يبق في المدينة إلا الأطفال، والنساء، وأمهات المؤمنين.
إن حراسة أمهات المؤمنين مهمة، لكن حفظ الدين من النقصان أهم وأعظم.(9/422)
وشرح الله صدر أبي بكر - رضي الله عنه - لجهاد المرتدين فعقد الألوية، وجهز الجيوش إلى كل ناحية، وخرج الصحابة لإكمال ما نقص من الدين بسبب الردة، وبعد ثلاثة أشهر تم القضاء على هذه الفتن، ورجع الناس إلى الدين عابدين لله، ممتثلين لأوامره، مجاهدين في سبيل الله، وبعد توبتهم ورجوعهم إلى حظيرة الإسلام جاءت في نفوسهم الرغبة في الجهاد في سبيل الله؛ تكفيراً لما سلف منهم من المعاصي، فأرسلهم أبو بكر فوراً لفتح العراق والشام، فسارعوا لامتثال أمره، وكانت في صحائفهم مع بقية الصحابة جميع فتوحات العراق والشام وخراسان والسند وغيرها من بلاد ما وراء النهر.
فبسبب تضحية أبي بكر - رضي الله عنه - وكمال إيمانه أكمل الله به ما نقص من الدين، ورد به المرتدين إلى المؤمنين، وجعلهم من المجاهدين في سبيل الله.
وهكذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لكمال إيمانه وتقواه، وكمال تضحيته فتح الله به الفتوح، ومَصَّر الأمصار، وجعله سبباً للهداية وإقامة العدل.
وهكذا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله بسبب استقامته، وصدق تضحيته، ورغبته في أن يطاع الله، أصلح الله به أحوال الأمة، فعم الأمن في البلاد، واستقام الناس، واستغنى الفقراء والأغنياء، وامتلأت الخزائن بالأموال من صدقة وزكاة حتى لم يجد من يأخذها.
بل أصلح الله به ما بين السباع والبهائم، وتمت النصرة الكاملة مع التضحية الكاملة مع أن حكمه كان سنتين تقريباً، فلما مات تغيرت أحوال الأمة، وعدت السباع على البهائم.
وكل رجل ذو همة يحيي الله به أمة.
والإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ضحى بنفسه من أجل الدين، وإحياء السنة، فحفظه الله، ونشر به السنة، وقمع البدعة.(9/423)
وهكذا الغلام الذي تعلم الإيمان على يد الراهب، ثم ضحى بنفسه من أجل الدين تضحية كاملة، فجعله الله سبباً لهداية الناس، وترك دين الملك الضال، وبكمال تضحية من آمن به وأطاعه أزال الله الباطل وأحق الحق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلامًا أعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ، إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلامَهُ، فَأعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أعْلَمُ آلسَّاحِرُ أفْضَلُ أمِ الرَّاهِبُ أفْضَلُ؟ فَأخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ! إِنْ كَانَ أمْرُ الرَّاهِبِ أحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأتَى الرَّاهِبَ فَأخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أيْ بُنَيَّ، أنْتَ الْيَوْمَ أفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أمْرِكَ مَا أرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الْغُلامُ يُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أجْمَعُ، إِنْ أنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لا أشْفِي أحَدًا،(9/424)
إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أنْتَ آمَنْتَ بِا? دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِا?، فَشَفَاهُ اللهُ، فَأتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلامِ، فَجِيءَ بِالْغُلامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أيْ بُنَيَّ! قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لا أشْفِي أحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأبَى، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلامِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأبَى، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ! اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ(9/425)
عَنْ دِينِهِ وَإِلا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ! اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ ا?، رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ ا?، رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ، فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، فَأتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أرَأيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَا?! نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ فَأمَرَ بِالأخْدُودِ فِي أفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأحْمُوهُ فِيهَا، أوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلامُ: يَا أمَّهِ اصْبِرِي، فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» أخرجه مسلم(1).
فحتى تحصل الأمة على النصرة والعزة لا بدَّ من التضحية الكاملة لتحصل النصرة للأمة، والهداية للبشرية.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (3005).(9/426)
والشيء الذي لا يكمل لا يثمر، والذي لا يثمر لا خير فيه، فالشجرة لا تثمر إلا بعد كمالها، والبنت لا تنكح وهي بنت سنتين.
فإذا كمل إيمان العبد كانت معه نصرة الله.
والعابد والقاعد قد يُقتل من قِبَل الكفار، ولكن الداعي لا يُقتل حتى يُجري الله على يديه شيئاً يبقى بعده كما آمن الناس بعد مقتل الغلام، فهو وإن مات فصحائفه تملأ بحسنات هؤلاء.
ونصرة الله تكون لمن نصر الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 7].
والمؤمنون ينصرون الله بأمرين:
الأول: أن تتجرد نفوسهم لله وحده، فلا تشرك به شيئاً ظاهراً أو خفياً، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى، وأن تحكمه في رغباتها وشهواتها، وحركاتها وسكناتها، وسرها وعلانيتها فهذا نصر الله في ذوات النفوس.
الثاني: أن لله عزَّ وجلَّ شريعة ومنهاجاً للحياة، ونصر الله يتحقق بنصر شريعته ومنهاجه، وتحكيم أمره في كل شيء.
فهذا نصر الله في واقع الحياة.
وغزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده، وإنما كانت كذلك معركة في ميدان النفس البشرية.
والمعارك الحربية في الإسلام ليست معركة أسلحة وخيل ورجال فحسب، فتلك معركة جزئية، إنما المعركة الكبرى في عالم القلب، عالم الإيمان، عالم السلوك، عالم الأخلاق، لتتعلق القلوب والنفوس بالله وحده، وتتلقى منه ومن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتُؤْثر طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على كل شيء مهما كان.
والنفوس لا تنتصر في المعارك الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية، وتُؤْثر طاعة ربها على كل ما سواه.
والذين تولوا يوم التقى الجمعان في أُحد إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب، والذين انتصروا في معارك العقيدة مع الأنبياء هم الذين بدؤوا المعركة بالدعاء والاستغفار من الذنوب، وصدق اللجوء إلى الله وطاعته فتلك عُدَّة النصر.(9/427)
وقدر الله وراء أفعال البشر، ففي غزوة أحد نصر الله المؤمنين في البداية، وما أن ضعف المسلمون وتنازعوا وعصوا وانصرفوا لجمع الغنائم إلا وصرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل، وصرف المقاتلين عن الميدان فلاذوا بالفرار، ووقع كل هذا مرتباً على ما صدر منهم كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [آل عمران: 152].
وما حدث لهم مدبَّر من الله ليبتليهم لتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف فصرفهم عنهم ليبتليهم، ولقد عفا الله عن المؤمنين لضعفهم وعدم إصرارهم على الخطيئة، وحسن نيتهم، وثباتهم على دينهم، والله ذو فضل على المؤمنين.
والصحابة رضي الله عنهم وإن كانوا خير أمة أخرجت للناس إلا أنهم بشر فيهم الضعف والنقص، ولذلك حصل منهم ما حصل في أُُحد؛ لأنهم في دور التربية والتكوين، وفي أوائل الطريق، ولكنهم جادون في أخذ هذا الأمر، مسلمون أمرهم لله مولاهم.
ومن ثم رحمهم الله وعفا عنهم ولم يطردهم، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنهم ويستغفر لهم، ويشاورهم في الأمر؛ تربية لهم.
فعاد إليهم الإيمان في اليوم الثاني، وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد متعقبين كفار مكة فزادهم إيماناً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 172-174].
ولما كبروا واكتملت تربيتهم تغيرت معاملتهم، وحوسبوا كما يحاسب الرجال الكبار كما في مؤاخذة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم للنفر الثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك، فالقوم في أُحد غير القوم في تبوك، حيث بلغت فيهم التربية شأواً بعيداً.
وهم مع ذلك فيهم الضعف والنقص والخطأ والنسيان، ولكن كان فيهم دائماً الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله.(9/428)
والله عزَّ وجلَّ في مواطن التربية والابتلاء لا يعد المؤمنين بالنصر في الدنيا.. ولا يعدهم بقهر الأعداء.. ولا يعدهم بالتمكين في الأرض، ولا يعدهم بشيء من الأشياء في هذه الحياة، إنما يعدهم شيئاً واحداً هو الجنة كما قال سبحانه: (?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 111].
وهذا هو الأصل في الدعوة، التجرد المطلق من كل هدف، ومن كل غاية، ومن كل مطمع، فهذه العقيدة عطاء ووفاء وأداء فقط، وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض.
ثم يقع النصر والتمكين والعزة والغنائم، ولكن كل هذا ليس داخلاً في البيعة، ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا، ليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء والابتلاء.
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة، وعلى هذا كان البيع والشراء، وعلى هذا يسير الدعاة إلى الله إلى يوم القيامة.
فإذا كانت قلوب المؤمنين متوجهة إلى الله.. وأجسادهم مزينة بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وفعلوا ما أمروا به من الأسباب.. جاءتهم نصرة الله الغيبية.
فالصحابة رضي الله عنهم في بدر نصرهم الله مع أنهم قلة أذلة، لا أسباب معهم تذكر؛ لأن قلوبهم متوجهة إلى الله بكمال الإيمان والتقوى.
وفي حنين مع كثرتهم هزمهم الله وسلط عليهم الأعداء؛ لأن قلوب بعضهم متوجهة إلى الأسباب حين أُعجبوا بكثرتهم.. ففي بدر اتباع كامل للدين، فجاء النصر كاملاً، وفي حنين اتباع ناقص، وبسببه ارتفعت النصرة، ثم جاء الاتباع، ثم جاء النصر كاملاً.
كما قال سبحانه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 25، 26].
والنصر له أسباب.. والهزيمة لها أسباب.. والعزة لها أسباب.. والذلة لها أسباب.. والنجاة لها أسباب.. والهلاك له أسباب.(9/429)
فالنصر الكامل.. والعزة الكاملة.. والنجاة الكاملة.. تكون بالإيمان الكامل.. والاتباع الكامل.. والتضحية الكاملة كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ??? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الحج: 40، 41].
ومدار ذلك كله على الصبر واليقين.
والصبر منصور أبداً، فإن كان صاحبه محقاً كان منصوراً له العاقبة، وإن كان مبطلاً لم يكن له عاقبة.
وإذا قام العبد في الحق لله، ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعيناً به متوكلاً عليه مفوضاً إليه، بريئاً من الحول والقوة إلا به، فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك.
فتجريد التوحيد، وصدق اليقين، وكمال الصبر، إذا مَنَّ الله بها على عبده فلا يقوم له شيء البتة، وهو مؤيد منصور ولو توالت عليه زمر الأعداء؛ لأن الله معه، وقد تكفل بنصره، والتمكين له، ومن قام لله حتى أوذي في الله فعليه الصبر ولا ينبغي له الانتقام كما قال لقمان لابنه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 17].
اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين.
اللهم.. (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 147].
15- فقه الخلافة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [البقرة: 30].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 165].
الله تبارك وتعالى هو الملك، والملك الحق هو الذي يملك الكون كله خلقاً وتدبيراً، فهو الذي يخلق ويرزق، ويعطي ويمنع، ويأمر وينهى، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويعز ويذل.
أنزل سبحانه الثقلين الإنس والجن إلى دار تجري عليهم فيها هذه الأحكام، وأٌنزلوا كذلك إلى دار يكون إيمانهم فيها تاماً، فإن الإيمان قول وعمل، وجهاد وصبر، وبذل وترك.
وهذا كله إنما يكون في دار الامتحان لا في دار النعيم.
والله سبحانه قضى بحكمته أن يجعل في الأرض خليفة، وأعلم بذلك ملائكته، وله في ذلك حكم وغايات حميدة.(9/430)
فلم يكن بدٌّ من إخراجه من الجنة إلى دار قَدَّر سكناهم فيها قبل أن يخلقه، وكان ذلك التقدير والخروج بأسباب وحكم.
فمن أسبابه النهي عن الأكل من تلك الشجرة، وتخليته بينه وبين عدوه حتى وسوس إليه بالأكل، وتخليته بينه وبين نفسه حتى وقع في المعصية.
وكانت تلك الأسباب موصلة إلى غايات محمودة مطلوبة ترتبت على خروجه من الجنة.
ثم ترتب على خروجه أسباب أخر جعلت غايات لحكم أخر، ومن تلك الغايات عَودهِ إليها على أكمل الوجوه.
فذلك التقدير وتلك الأسباب وغاياتها صادرة عن محض الحكمة البالغة التي يحمده عليها أهل السموات والأرض، وأهل الدنيا والآخرة، فما خلق الله ذلك باطلاً، ولا دبره عبثاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [البقرة: 30].
ثم أظهر الله عزَّ وجلَّ من علمه وحكمته ما خفي على الملائكة من أمر هذا الخليفة ما لم يكونوا يعلمونه:
فجعل سبحانه من نسل هذا الخليفة من رسله وأنبيائه وأوليائه وأحبائه من يتقرب إليه بأنواع التقرب، ويبذل نفسه في محبته ومرضاته، ويسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار، ويذكره قائماً وقاعداً وعلى جنبه، ويعبده ويذكره ويشكره في السراء والضراء، والعافية والبلاء، والشدة والرخاء.
يعبده سبحانه مع معارضة الشهوة، وغلبات الهوى، ومعاداة بني جنسه وغيرهم له، فلا يصده ذلك عن عبادته وشكره والتقرب إليه، والجهاد في سبيله.
فعبادة الملائكة بلا معارض ولا ممانع، وعبادة البشر مع المعارض والممانع.
وأراد الله سبحانه كذلك أن يظهر للملائكة ما خفي عليهم من شأن ما كانوا يعظمونه ويجلونه ولا يعرفون ما في نفسه من الكبر والحسد والشر وهو إبليس.
فذلك الخير وذلك الشر كامن في النفوس لا يعلمونهما، فلا بد من إخراج ذلك وإبرازه، لكي تُعلم حكمة أحكم الحاكمين في مقابلة كل منهما بما يليق به.(9/431)
والله عزَّ وجلَّ لما خلق خلقه أطواراً وأصنافاً، وسبق في حكمه وحكمته تفضيل آدم وذريته على كثير ممن خلق تفضيلاً، جعل عبوديتهم أفضل وأكمل من عبودية غيرهم، فكانت العبودية أفضل أحوالهم.
ولما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله، وكان لها لوازم وأسباب مشروطة لا تحصل إلا بها، كان من أعظم الحكمة أن أُخرجوا إلى دار تجري عليهم فيها أحكام العبودية وموجباتها.
فكان إخراجهم من الجنة تكميلاً لهم، وإتماماً لنعمته عليهم، مع ما في ذلك من تحقيق محبوبات الرب تعالى:
فإنه سبحانه يحب إجابة الدعوات.. وتفريج الكربات.. وإغاثة اللهفات.. ومغفرة الزلات.. وتكفير السيئات.. ودفع البليات.. وإعزاز من يستحق العز.. وإذلال من يستحق الذل.. ونصر المظلوم.. وجبر الكسير.. ورفع خلقه على بعض.. وجعلهم درجات.. ليُعرف قدر فضله وتخصيصه من شاء.
فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار تحصل فيها تلك المحبوبات، وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها كالذنب الذي يصلح بعده الاستغفار، والتوبة التي يحبها الله.
لقد استخلف الله آدم وذريته في الأرض لعمارتها وإصلاحها، واستخدام الكنوز والطاقات المودعة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة فيها، والبلوغ بها إلى الكمال المقدر لها في علم الله.
وقد وضع الله للبشر منهجاً متكاملاً يعملون على وفقه في هذه الأرض، منهجاً يقوم على الإيمان والعمل الصالح، وفي الرسالة الأخيرة للبشر فصَّل الله هذا المنهج.
وفي هذا المنهج ليست عمارة الأرض، واستغلال ثرواتها، والانتفاع بطاقاتها، هو وحده المقصود، ولكن المقصود هو هذا مع العناية بقلب الإنسان ليبلغ الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة.
فلا ينتكس حيواناً في وسط الحضارة المادية الزاهرة، ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو يرتفع إلى الأوج في استغلال موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة.(9/432)
وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة.. وقد يغلب عليها همج وغزاة.. وقد يغلب عليها كفار فجار يحسنون استغلال الأرض وطاقاتها استغلالاً مادياً، ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق، والوراثة الأخيرة هي لعباد الله الصالحين، الذين يجمعون في حياتهم بين الإيمان، والعمل الصالح، فلا يفترق في كيانهم ولا في حياتهم هذان العنصران، وهذه سنة الله في وراثة الأرض: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الأنبياء: 105، 106].
وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أي أمة من الأمم، فهي الوارثة للأرض في أي مكان وفي أي زمان، ولكن حين يفترق هذان الأمران، فالميزان يتأرجح، والحياة تختل.
وقد تقع الغلبة للآخذين بالوسائل المادية حين يهمل الأخذ بها من يتظاهرون بالإيمان، وحين تفرغ قلوب المؤمنين من الإيمان الصحيح الدافع إلى العمل الصالح، وإلى عمارة الأرض، والقيام بتكاليف الخلافة التي وكلها الله إلى هذا الإنسان.
وجدير بمن كان شأنه أن ينتهي ويمضي، لا يخلد ولا يبقى، ومن سيصير في النهاية إلى من يحاسبه على ما قال وفعل، من كان هذا شأنه جدير به أن يحسن ثواءه القليل، ويترك وراءه الذكر الجميل، ويقدم بين يديه ما ينفعه في مثواه الأخير.
فلن يحمل أحد عن أحد شيئاً، ولا يدفع أحد عن أحد شيئاً: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [فاطر: 39].
والأموال والأولاد ملهاة ومشغلة للعبد إذا لم يستيقظ القلب، ويدرك غاية وجوده، ويشعر أن له هدفاً أعلى يليق بالمخلوق الذي كرمه الله، ونفخ فيه من روحه، فأودع في روحه الشوق إلى تحقيق كمال العبودية لربه في حدود طاقته البشرية.
وقد منحه الأموال والأولاد ليقوم بالخلافة في الأرض، لا لتلهيه عن ذكر الله، والاتصال بالمصدر الذي تلقى منه ما هو به إنسان: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [المنافقون: 9].(9/433)
فمن يغفل عن الاتصال بذلك المصدر، ويلهه ذلك عن ذكر الله، فهو الخاسر حقاً، وأول ما يخسره هو هذه السمة، سمة الإنسان الذي كرمه الله، واستخلفه في الأرض، فهي موقوفة على الاتصال بالمصدر الذي صار به الإنسان إنساناً.
ومن يخسر نفسه فقد خسر كل شيء مهما يملك من مال ومن أولاد.
وقد بين الله عزَّ وجلَّ أن وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة، لكنها خلافة مقيدة محددة بالتلقي عن الله، وطاعته وإخلاص العبادة له.
كما بشر الله تعالى داود بقوله: (? ? ? ? ? ?) [ص: 26].
وأمره بقوله: (? ? ? ?) [ص: 26].
ونهاه بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 26].
وأنذره بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [ص: 26].
ثم هي خلافة مسئولة كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ ??) [الأعراف: 6، 7].
والمسؤولية تشمل الصغير والكبير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». قال: وَحَسِبْتُ أنْ قَدْ قال: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أبِيه وَمَسْئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفق عليه(1).
وما أعظم عناية الله بالإنسان، وما أحسن احتفاءه به، وما أعظم إكرامه له، وإحسانه إليه، وتشريفه على ما سواه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (893)، واللفظ له، ومسلم برقم (1829).(9/434)
فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وعلمه البيان، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وهي نعم لا تعد ولا تحصى، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وفضله على كثير من خلقه، وأسكنه الأرض: (کک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [الإسراء: 70].
لم يخلق الله الإنسان عبثاً وسدى.. لا أمر ولا نهي.. يعيش كيف شاء.. ويفعل كل ما يشاء.. كلا بل عليه واجبات.. وله حقوق.. وأمامه حساب وعقاب وثواب: (ے ے ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 115].
فما هي واجباته؟.. وما هي وظيفته؟.. وما المطلوب منه؟.
لقد خلق الله الإنسان لعبادته وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ژژ) [الذاريات: 56-58].
وخلقه ليكون خليفة في الأرض ينفذ أوامر الله حسب مرضاته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 165].
وقد جمع الله بين الغايتين الاستخلاف والعبادة في قوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ) [النور: 55].
وشأن الخلفاء أن يعمروا الأرض لا أن يخربوها.. وأن يصلحوها لا أن يفسدوها.. وأن يجعلوها وسيلة للبناء وفعل الخير، لا سبباً للفساد والبغي كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 77].
وخلقه ليكون داعياً إلى الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يوسف: 108].
وخلقه ليكون معلماً للبشرية أوامر ربها، وبيان ما يحبه الله ويرضاه، وبيان ما يكرهه ويسخطه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [آل عمران: 79].
وخلقه ليكون صالحاً ومصلحاً لغيره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?) [آل عمران: 110].(9/435)
وخلقه ليكون ملكاً يتحلى بأحسن الصفات، وأحسن الأقوال، وأحسن الأعمال، ويؤدي أعظم الوظائف، وأعطاه أحسن المناصب في الدنيا، وأفضل المنازل في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چچ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فصلت: 30-33].
ولا بدَّ لهؤلاء الخلفاء في الأرض من خليفة يحكم بينهم، ويسعى في مصالح دينهم ودنياهم، ويرعى شئونهم، ويقضي حوائجهم.
وللخليفة على الأمة حقوق، وللأمة على الخليفة حقوق، ولو أن الأمة إذا ابتليت من السلطان بشيء صبروا واستقاموا ودعوا الله ونصحوا لم يلبثوا أن يرفع الله ذلك عنهم، ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه، فتحصل الفرقة والفتنة، وتسفك الدماء، ويأكل بعضهم بعضاً.
فبالإيمان والصبر والتقوى تنزل نصرة الله، ويحصل للمستضعفين والمظلومين التمكين في الأرض وتدمير أعدائهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 137].
فشأن الخلفاء الراشدين أربعة أمور:
إقامة الحق.. والعمل به.. والدعوة إليه.. والدفاع عنه.
أما من كان غاية مطلوبه غير الله وعبوديته من المشركين، وأهل الشهوات، وأصحاب الرياسات، الذين لا غاية لهم وراءها.
بل هو فهم إقامة رياستهم، وتحقيق شهواتهم بأي طريق كان، من حق أو باطل، أو عدل أو ظلم، أو رحمة أو قسوة.
فهؤلاء إذا جاء الحق معارضاً في طريق شهواتهم ورياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم، وحاربوه بأموالهم وألسنتهم، وذبحوه بأيديهم.
فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل.. فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق.. وحادوا عنه إلى طريق أخرى.
وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان، فإذا لم يجدوا منه بداً أعطوه السكة والخطبة، وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ.
وإن جاء الحق ناصراً لهم وكان في مصلحتهم صالوا به وجالوا، وأتوا إليه مذعنين لا لأنه حق، بل لموافقته أغراضهم وأهواءهم، وانتصارهم به.(9/436)
فما أظلم هؤلاء.. وما أجهلهم بربهم ودينه وشرعه، وما أولئك بالمؤمنين:
(ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 48-51].
وهؤلاء هم أعظم الناس ندامة وتحسراً إذا حق الحق وبطل الباطل، ويظهر هذا في الدنيا.. ثم يقوى عند رحيلهم منها والقدوم على الله.. ثم يشتد ظهوره وتحققه في البرزخ.. وينكشف كل الانكشاف يوم اللقاء إذا فاز المتقون، وخسر المبطلون، وعلموا أنهم كانوا كاذبين.
فإذا كشف الغطاء تبين لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حشروا في صور الذر، يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم إهانة لهم وتحقيراً وتصغيراً، كما صغروا أمر الله، وحقروا عباده في الدنيا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يُّحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَال» أخرجه أحمد والترمذي(1).
والإمامة في الدين من الرتب العالية، بل هي أعلى مرتبة يعطاها العبد في الدين، ولذلك كان جزاؤه عليها الغرف العالية في الجنة، كما قال سبحانه:
(? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 74، 75].
فالناصح لله.. المعظم له.. المحب له.. يحب أن يطاع ربه فلا يعصى.. وأن تكون كلمته هي العليا.. وأن يكون الدين كله لله.. وأن يكون العباد ممتثلين أوامره.. مجتنبين نواهيه، مسلمين له.
__________
(1) حسن: أخرجه أحمد برقم (6677).
وأخرجه الترمذي برقم (2492)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2045).(9/437)
فهو يحب الإمامة في الدين، بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إماماً يقتدي به المتقون، كما اقتدى هو بالمتقين الذين جعلهم الله أئمة في الدين، لصبرهم وكمال يقينهم كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 24].
ويجب على ولي الأمر أن يتحلى بمكارم الأخلاق، فيعامل الخلق بحسن الخلق، ويتقي شر الجاهلين بالإعراض عنهم، ويتقي شر الشياطين بالاستعاذة منهم.
ولولي الأمر مع الرعية ثلاثة أحوال:
فإنه لا بدَّ له من حق عليهم يلزمهم القيام به، ومن أمر يأمرهم به.. ولا بدَّ من تفريط وعدوان يقع منهم في حقه.
فأمر أن يأخذ من الحق الذي له عليهم ما سمحت به نفوسهم وسهل عليهم بذله، وهو العفو الذي لا يلحقهم ببذله ضرر ولا مشقة.
وأمر أن يأمرهم بالعرف، وهو المعروف الذي تعرفه العقول السليمة، وتقر بحسنه ونفعه من أمور الدين والدنيا.
وأمر أن يقابل جهل الجاهلين منهم بالإعراض عنه دون أن يقابله بمثله، فبذلك يكتفى شرهم.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? چ چچ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأعراف: 199، 200].
والشياطين على نوعين:
نوع يُرى عياناً وهو شيطان الإنس.. ونوع لا يُرى وهو شيطان الجن.
ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكتفى من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو والدفع بالتي هي أحسن، وأن يكتفى من شر شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه، كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [فصلت: 34، 36].
والله سبحانه يهب الإمامة لمن يستحقها بالإيمان والعمل الصالح، وليست وراثة أصلاب وأنساب، ودعوى القرابة والدم والجنس والقوم.
إنْ هي إلا دعوى الجاهلية إذا كانت عارية من الإيمان الذي يحقق الأمن والعدالة والرحمة في جميع الأمة.
وكل ظالم سواء ظلم نفسه بالشرك، أو ظلم الناس بالبغي فهو ممنوع من الإمامة، والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة:(9/438)
إمامة الرسالة.. وإمامة الخلافة.. وإمامة الصلاة.. وإمامة الاقتداء.. وإمامة الدعوة والتوجيه.. وإمامة العلم والعمل.
وقد أبعد الله اليهود ونحاهم عن القيادة والإمامة لما ظلموا وفسقوا، وانحرفوا عن منهج الله.
فلما نبذوا شريعة الله وأقصوها عن الحياة أقصاهم الله وطردهم ولعنهم، وأبعدهم عن الإمامة والقيادة: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 124].
والمُلك يُطغي ويُبطر من لا يقدرون نعمة الله، ولا يدركون مصدر الإنعام، ومن ثم يضعون الكفر موضع الشكر، ويضلون عن السبب الذي كان ينبغي أن يكونوا به مهتدين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [البقرة: 258].
فكان ينبغي لهذا الملك أن يعترف بالله، ويشكر نعمة الله، ويؤمن بربه الذي جعل في يده السلطان، ولكنه ركب هواه وتعنت وأنكر وطغى بسبب أن آتاه الله الملك، فبسبب النعمة والعطاء جاء الجدل والمراء، وادعى العبد لنفسه ما هو من اختصاص الرب.
والله عزَّ وجلَّ أكرم هذه الأمة بهذا الدين العظيم، ورفع حياة الجاهلية البهيمية إلى الحياة الإنسانية الكريمة، ونقلها من مواطن الذل والهوان إلى مدارج العز والعلياء.
هذا التكريم جاءهم هدية ومنَّة من لدن ربهم الكريم، والذي هم أفاضوه على البشرية بعد ذلك: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 164].
والله وحده والإسلام وحده هو الذي جعل للعرب رسالة قيمة يقدمونها للعالم، وهم الذين عَلَّموا البشرية كيف تحترم الإنسان؟.
وهم الذين قدموا لها نظاماً للحياة الإنسانية الراقية.
وكان هذا الإسلام بشعائره وشرائعه.. وآدابه وأخلاقه.. هو بطاقة الشخصية التي تَقدَّم بها العرب للعالم فعرفهم واحترمهم وسلمهم القيادة والإمامة.
وهم اليوم وغداً لا يحملون إلا هذه البطاقة، ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها على العالم البشري.(9/439)
وهم إما أن يحملوها كما استلموها بجلالها وجمالها فتعرفهم البشرية وتكرمهم، وإما أن ينبذوها فيعودوا هملاً كما كانوا من قبل لا يعرفهم أحد، ولا يعترف بهم أحد، ولا يقدرهم أحد.
إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة.. والمسلمون أكبر أمة تحمل أكبر رسالة.. وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة.. وهي التي تقدم أكبر منهج.. وهي التي تنفرد في الأرض بأرفع مذهب في الحياة وأحسنه.
وقد سعدت البشرية أيما سعادة حين قبلت هذه الرسالة في عهد النبوة، وعهد الخلفاء الراشدين، وعهد التابعين لهم بإحسان.
فما بال أكثر المسلمين اليوم لا يحسنون عرض الرسالة لا بالقول ولا بالفعل، ولا يرغبون في ذلك، ولعلهم زهدوا فيه فذلوا وهانوا على الله وعلى خلقه: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ??) [النساء: 66-68].
ومقصود جميع الولايات في الإسلام أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يحكم بشرع الله في كل أمر وحالة.
ويحصل ذلك بطاعة الله ورسوله.. والدعوة إلى الله.. والجهاد في سبيله.. والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.. واستعمال أهل الخير والصدق والعدل في جميع الولايات، والحكم بما أنزل الله.
وجميع الولايات الكبرى والصغرى في الإسلام هي ولايات شرعية ومناصب دينية لها أوامر من رب العالمين كالعبادات، من عمل فيها بعلم وعدل، مخلصاً عمله لله، مقتدياً فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الأبرار الصالحين.
ومن عمل فيها بجهل وظلم، متبعاً لهواه ومعرضاً عن مولاه، فهو من الفجار الظالمين.
فالأول مأجور والثاني مأزور كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑک ک ک ک گگ) [الانفطار: 13، 14].
ويجب على كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين أن يستعمل في كل موضع أصلح من يقدر عليه من أهل التقى والقوة والأمانة.
واجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، والواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها:(9/440)
فيقدم في إمارة الجيش الرجل المسلم القوي الشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل العاجز الضعيف وإن كان أميناً.
والخليفة أو الإمام أو المسئول أيا كان إذا كان خلقه يميل إلى اللين مثلاً، فينبغي أن يكون خُلق نائبه يميل إلى الشدة ليعتدل الأمر.
وإذا كانت الحاجة إلى الأمانة أشد، قٌدم الأمين لحفظ الأموال، ويقدم في القضاء الأعلم الأكفأ ذو الورع.. وهكذا.
ومعرفة الأصلح تتم بمعرفة مقصود الولاية ووسيلة ذلك.
فالوالي الذي قصده الدين دون الدنيا يقدم في ولايته من يعينه على ذلك حتى يقوم الدين.
ويصلح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم وهو نوعان:
قَسْم المال بين مستحقيه.. وعقوبة المعتدين.
وليس لولاة الأمر أن يقسموا الأموال بحسب أهوائهم كما يقسم المالك، فإنما هم أمناء الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه ووكلاؤه ليسوا ملاَّكاً، بل عليهم أن يضعوها ويقسموها حسب أمر الله ورسوله.
وأعظم ما يستعين به ولاة الأمور في قضاء حوائجهم عدة أمور أهمها:
الإخلاص لله، والتوكل عليه، والتوجه إليه في قضاء الحوائج.. والإحسان إلى الخلق بالمال كالهدية والصدقة وإغاثة الملهوف.. والصبر على الأذى.. وغيره من النوائب.. والعفو عن الناس.. وكظم الغيظ.. ومخالفة الهوى.. وترك الأشر والبطر.
والناس في هذه الحياة أربعة أقسام:
الأول: الذين يريدون العلو على الناس، والفساد في الأرض، وهؤلاء الرؤساء والملوك المفسدون في الأرض كفرعون وحزبه، فهؤلاء شرار الخلق كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 4].
الثاني: الذين يريدون الفساد في الأرض بلا علو كالسراق والمجرمين من سفلة الناس.
الثالث: الذين يريدون العلو بلا فساد كالذين عندهم دين أو مال أو جاه يريدون أن يعلو به على الناس.(9/441)
الرابع: الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، وهؤلاء هم خيار الخلق، وهم أهل الجنة، أعلى الله منزلتهم كما أعلوا أوامر الله ودينه في حياتهم، وأذل غيرهم ممن يريدون العلو والفساد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 83].
وكل خليفة أو إمام أو أمير أو مسئول فهو مسئول أمام الله عن أقواله وأفعاله، ومحاسب على تصرفاته.
فكل من أخذ ما لا يستحقه شرعاً من الولاة والرؤساء، والأمراء والعمال، والعامة والخاصة فهو غالّ، والغلول من المحرمات والكبائر التي حرمها الله ورسوله: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [آل عمران: 161].
ويجب على الخلفاء والأمراء من كانوا وحيث كانوا لزوم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين في جميع أعمالهم وأمورهم، والتمسك بها.
والاقتداء بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة فيما فعلاه، ولزوم السنة التي سار عليها الخلفاء الأربعة كلهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وذلك أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ساسا الأمة بالرغبة والرهبة، وسلما من التأويل في الدماء والأموال.
وعثمان - رضي الله عنه - غلَّب الرغبة، وتأول في الأموال، وعلي - رضي الله عنه - غلَّب الرهبة، وتأول في الدماء.
وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما كمل زهدهما في الرياسة والأموال، وعثمان كمل زهده في الرياسة، وعلي كمل زهده في الأموال.
ومعاوية - رضي الله عنه - أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله (أبو بكر وعمر وعثمان وعلي) كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، وكان ملكه ملكاً ورحمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ يُؤْتِي اللهُ الْمُلْكَ أَوْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ» أخرجه أبو داود والترمذي(1)
__________
(1) حسن صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4646)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (3882).
وأخرجه الترمذي برقم (2226)، صحيح سنن الترمذي رقم (1813).(9/442)
والمسلم في جميع أحواله يسلم وجهه لله، لا لقومه ولا لهواه، ولا لماله، ولا لشهواته، ويقتدي برسوله في جميع أحواله، فالذي يسلم نفسه لربه يكون في راحة وطمأنينة كما قال الله لإبراهيم: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ??ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 131، 132].
فلما أمره الله بذبح ابنه سلم وامتثل، فجاءت له حينذاك نصرة الله.
وليست الخلافة كلها محمودة، بل الخلافة الراشدة ما كانت على منهاج النبوة، وليست الخلافة فقط امتثال أوامر الله في منطقة معينة، بل الخلافة مع ذلك أن يأمر الله الكائنات كلها أن تطيع من أطاعه، فيقول لها: عبدي كان لي فكوني له، عبدي أطاعني فأطيعوه، فتطيعه المياه والبحار، والجبال والرياح، والإنسان والحيوان، هذه هي الخلافة كما حصل للأنبياء والصحابة وسادة المتقين.
وهذه الخلافة لا يسلمها الله لأي أحد، بل يسلمها للذي يسلم نفسه لله تعالى، فمن سلم نفسه لله حقاً سلم له ما شاء من الكائنات، فالله لا يسلم كائناته لغير المسلم، لكنه لا يحرمه الرزق بسبب كفره، بل يرزقه ما كتب له، ثم يحاسبه عليه يوم القيامة.
فكل شيء بقدر، فلا عبث ولا ظلم ولا حسد: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [النساء: 54-55].
والحاكم المسلم هو الذي يؤمن بالله، ويحكم بين الناس بما أنزل الله وبما شرعه رسول الله.
ومن لم يحكم بما أنزل الله فتارة يكون كافراً.. وتارة يكون ظالماً.. وتارة يكون فاسقاً.
والكافر ظالم؛ لأنه جحد حق الله.. وهو فاسق؛ لأنه خرج عن طاعة الله فيكون كافراً، إذا اعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله، أو اعتقد أن حكم غير الله مثل حكم الله، أو اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [المائدة: 44].(9/443)
ويكون ظالماً إذا اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام، وأنه أنفع للبلاد والعباد، وأن الواجب تطبيقه، ولكن حمله البغض أو الحسد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله، فهذا ظالم لنفسه وغيره: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 45].
ويكون الحاكم فاسقاً إذا حكم لهوى في نفسه كأن يحكم لشخص لأنه أعطاه رشوة، أو لكونه قريباً أو صديقاً ونحو ذلك، مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه، فهذا فاسق: (? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [المائدة: 47].
وقد جعل الله سبحانه ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظهرت في صورة ملوكهم وولاتهم.
فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم ملوكهم، وإن جاروا جارت عليهم ملوكهم، وإن ظهرت فيهم صفات المكر والخديعة والاحتيال فولاتهم كذلك.
وإن منعوا حقوق الله لديهم من زكاة وصدقات وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق، وبخلوا به عليهم.
وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه أخذت منهم ملوكهم ما لا يستحقونه، وضربت عليهم المكوس والضرائب.
وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فعمالهم ظهرت في صورة أعمالهم.
وليس في الحكمة الإلهية أن يولي على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم فحيثما تكونوا يولَّ عليكم.
ولما كان الصدر الأول من هذه الأمة خير القرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك، فلما شابوا شابت لهم الولاة.
وحكمة الله جلَّ جلاله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبدالعزيز فضلاً عن أبي بكر وعمر، بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين موجب للحكمة، وإذا غيرنا ما بأنفسنا غير الله بنا وغير ما حولنا: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 11].(9/444)
ويجب على الأمة طاعة الله ورسوله في كل شيء، وأولو الأمر هم العلماء والأمراء، والأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، وصلاح العالم وفساده بصلاحهما أو فسادهما، والناس كلهم تبع لهم، ولهذا أمرنا الله بطاعتهم بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 59].
إن قضية التلقي والاتباع في شعائر الدين وشرائعه، وفي أمور الحياة كلها بأحوالها وأوضاعها، لذلك كله جهة واحدة فقط، إنها جهة الرسل المبلغين عن ربهم، وعلى أساس الاستجابة للرسل أو عدمها يكون الحساب والجزاء بالجنة أو النار كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 35].
هذا هو عهد الله وميثاقه لآدم وبنيه، وهذا هو شرطه في الخلافة عنه في أرضه التي خلقها وقدر فيها أقواتها، واستخلف فيها هذا الجنس من الخلق، ومكنه فيها ليؤدي دوره وفق هذا الشرط وذلك العهد، وإلا فإن عمله رد في الدنيا لا يقبله الله، وفي الآخرة وزر جزاؤه جهنم.
إن الملك والخلق والأمر في هذا الكون لله وحده لا شريك له، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة لمن يتقون الله، ولا يخشون أحداً سواه كما قال موسى لقومه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 128].
إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى الله إلا ملاذ واحد وولي واحد، وهو الله الذي بيده ملكوت السموات والأرض، فعليهم أن يصبروا ويتقوا حتى يأذن الولي بالنصرة، في الوقت الذي يقدره بحكمته وعدله.
وعليهم ألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير.
وإن الأرض كلها لله، وما فرعون وقومه وغيرهم إلا نزلاء فيها، والله يورثها من يشاء من عباده، وفق سنته وحكمته، كما قال الله سبحانه: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [آل عمران: 26].(9/445)
فلا يظن المؤمن أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها، فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم عنها.
والعاقبة لا ريب للمتقين، طال الزمن أم قصر، فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير، ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد فيحسبون أنهم باقون: (? ? ? ? ? ? ?? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [آل عمران: 196، 197].
والخلافة في الأرض عبادة كغيرها من الأعمال، ولها أحكام وأوامر، يبتلي الله بها من شاء من عباده، لينظر كيف يعملون؟.
هل يؤدون حقها؟.. ويقيمون أوامرها.. أم يتسلطون بها على العباد؟.
كما قال موسى صلى الله عليه وسلم لقومه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 129].
وسنة الله تبارك وتعالى تجري وفق وعده للصابرين وللجاحدين، فله سبحانه سنة في إهلاك الطاغوت وأهله.. وله سنة في استخلاف المؤمنين الصابرين المستعينين بالله وحده، ويدفع هذا إلى هذا لتجري بهم سنة الله إلى ما يريد.
ولا بدَّ من الابتلاء والاختبار قبل الاستخلاف في الأرض، وهو ضروري لكل من يحملون دعوة الله، ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض.
وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وُجِّه من قَبْل إلى آدم وزوجه فلم يصمدا له، واستمعا لإغراء الشيطان لهما بشجرة الخلد وملك لا يبلى، ثم تابا وتاب الله عليهما.
ثم ظل هو الاختبار الذي لا بدَّ أن يجتازه كل مسلم، وتجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض.
فقد ابتلى الله عزَّ وجلَّ جند طالوت بعدم الشرب من النهر لتقوى إرادتهم على المغريات والأطماع والشهوات فتصمد للعدو.(9/446)
وابتلى سبحانه أهل التوبة من بني إسرائيل بظهور الحيتان يوم السبت الذي هو راحة لهم ليتفرغوا للعبادة، ولا يشتغلوا بشيء من شئون المعاش، فجاءتهم الحيتان يوم السبت قريبة المأخذ، سهلة الصيد، فغلبت شهواتهم إرادتهم فاحتالوا عليها، وحبسوها يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، فجعلهم الله قردة خاسئين كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 166].
وما أكثر الحيل عندما تلتوي القلوب، وتقل التقوى، ويراد التفلت من ظاهر النصوص.
إن الحكم لا تحرسه نصوصه، إنما تحرسه القلوب النقية التي تستقر فيها تقوى الله وخشيته، ومراقبته في السِّر والعلن.
وقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يستخلفهم في الأرض ويمكن لهم فيها، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً، ووعد الله حق، ووعد الله واقع، ولن يخلف الله وعده، وقد قال سبحانه وفعل ومكن للمؤمنين في الأرض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعهد أصحابه رضي الله عنهم، وعهد من اقتفى أثرهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ) [النور: 55].
إن حقيقة الإيمان الذي يتحقق به وعد الله للمؤمنين حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله، وتوجه النشاط الإنساني كله.
فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط، وبناء وإنشاء كله موجه إلى الله، لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله.
وهي طاعة لله، واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس، ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة، إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، خواطر نفسه، وخلجات قلبه، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس، يتوجه بهذا كله إلى ربه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 162، 163].(9/447)
والشرك مداخل وألوان، وأقوال وأفعال، فالتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله.
ذلك أن الإيمان منهج حياة كامل يتضمن كل ما أمر الله به، وتلك حقيقة الإيمان.
أما حقيقة الاستخلاف في الأرض فليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم، إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء، وتحقيق المنهج الذي أنزل الله للبشرية كي تسير عليه، وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، وترضي الله بالاستقامة عليه.
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح لا على الهدم والإفساد.. وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة لا على الظلم والقهر.. وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان.
هذا هو الاستخلاف الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليحققوا مراد الله من عباده وفي عباده.
أما الذين يملكون فيفسدون في الأرض، وينشرون فيها البغي والجور والفجور، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان، فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض، إنما هم مبتلون بما هم فيه، أو مبتلى بهم غيرهم، ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله.
وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها وفق منهج الله.
وقد تحقق وعد الله عزَّ وجلَّ للمؤمنين، فأظهر الله رسوله صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا بعد الخوف، ووضعوا السلاح، ثم قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة.
إنما يبطئ النصر والاستخلاف والتمكين والأمن لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة، أو في تكليف من تكاليفه الضخمة.(9/448)
فمن أراد الوصول إلى حقيقة وعد الله بالاستخلاف فعليه بالاستقامة على أوامر الله، وإذا استقام فما عليه من قوة الكافرين، فما هم بمعجزين في الأرض: (گ ? ? ? ? ? ? ?? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ) [النور: 56، 57].
إن شريعة الله للناس طرف من ناموسه في خلق الكون الذي يسير بأوامره سامعاً مطيعاً، وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يجب أن يسير عليه البشر.
وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض، والحكام بين الناس، إنما هو طرف من الحق الكلي، لا يستقيم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف بالطاعة والاستقامة.
وإن الانحراف عن شريعة الله إنما هو انحراف عن الحق الذي قامت عليه وبه السموات والأرض، وهو أمر عظيم وشر كبير، واصطدام مع القوى الكونية الهائلة، ولا بدَّ أن يتحطم في النهاية ويزهق، وينال أهله عقوبة انحرافهم، وخيانتهم للأمانة، وتضييع أمر الخلافة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [ص: 26].
فيما يمكن أن يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة الله أمام قوة الله، وكيف يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة، ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة التي خلقها الله سبحانه، وهي مستعدة لمن أمرها الله بتدميره من الكفار والظلمة: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [هود: 102].
وسنة الله جارية في الظالمين: (? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 19].
ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر؛ لأنه رفض ألوهية الله، واختصاصه بالتشريع لعباده وحده، وادعائه حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس من دون الله.
وهو ظالم يحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم، وظالم لنفسه بإيرادها موارد الهلكة، وتعريضها لعقاب الكفر، وتعريض حياة الناس للفساد، وهذه صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله.
وهو فاسق لخروجه عن منهج الله الحق، إلى منهج غيره الباطل.
فهذه صفة ثالثة لمن لم يحكم بما أنزل الله.(9/449)
والله سبحانه لما خلق آدم أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، فأهبط الله آدم إلى الأرض، وسلَّم إليه خلافة الأرض، وليس معنى الخلافة الملك بأن يطيعه البشر فقط، بل المقصود أنه خليفة في تنفيذ أوامر الله، وتطيعه المخلوقات إذا أطاع الله.
فأمره الله عزَّ وجلَّ أن يطيع الله، ويقيم أوامر الله في الأرض.
فالجوع والعطش من أمر الله، ولهما أوامر من الله، فلا نأكل ونشرب بغية اللذة، ولا لإزالة الجوع والعطش، هذه خلافة حيوانية، والحيوان يفعلها، بل نأكل ونشرب لأن الله أمر بالأكل والشرب، وننفذ أوامر الله في الأكل والشرب، هذه هي الخلافة.
وكذلك اللباس، نلبس لأن الله أمر بذلك، وننفذ أوامر الله في اللباس، هذه هي الخلافة.
وكذلك النوم والكسب، نقوم بذلك لأن الله أمر بذلك، وننفذ أوامر الله عند النوم والكسب، لا لأن النوم يأتي بالراحة، والكسب يأتي بالمال، بل الراحة والأموال والأرزاق تأتي من الله وحده.
وهكذا في باقي أحكام الدين، وسائر أحوال الإنسان، لكل حالة أمر وحكم أمر الله بامتثاله.
فالخلافة التي كلف الله بها آدم وبنيه هي امتثال أوامر الله في جميع الأحوال على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات.. والمعاملات.. والمعاشرات.. والأخلاق.
والله عزَّ وجلَّ يريد منا أن نشتغل بأوامر الله كما فعل الأنبياء والرسل، والشيطان يريد أن يشغل الناس عن ذلك بشهواتهم وأهوائهم وقد فعل وأطاعه أكثرهم كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 20].
فمن استقام على الدين، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ودعا إلى الله فهو خليفة الله في أرضه.. وخليفة رسوله.. وخليفة كتابه.
ومقصود جميع الولايات الإسلامية إصلاح دين الخلق، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمور دنياهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الحج: 40، 41].
والحكام صنفان:(9/450)
حاكم بما أنزل الله.. وحاكم بغير ما أنزل الله.
فالأول: حكم إسلامي، وهو الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
والثاني: حكم جاهلي، وهو ما خالف ذلك.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 50].
وليست الجاهلية فترة محددة من الزمان والمكان انتهت، إنما هي كل مجتمع يحكم فيه بغير ما أنزل الله فهو مجتمع جاهلي مهما أوتي من قوة مادية، ومن كشوفات علمية باهرة.
ولا بدَّ للمسلمين من خليفة يقوم برعاية شئون المسلمين في الدين والدنيا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولتولية الخلافة شرعاً طريقان:
الأول: الاختيار، فالأمة مسؤولة عن اختيار من تنيبه عنها، وتسلِّم له زمام الإذعان والطاعة، وحيث أن الأمة متفرقة في الأصقاع والأمصار، مختلفة العقول والصفات، مما يصعب معه تمييز الصالح من الطالح، لذا تكون المسئولية في هذا المجال على عقلاء الأمة وعلمائها وفضلائها من أهل الحل والعقد، فهم الذين يختارون من يرونه أهلاً للقيام بهذا الواجب الشرعي الذي أوجبه الله عليهم، وهو إقامة شرع الله في أرضه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع المعمورة.
وبهذه الطريقة تم اختيار الصحابة لأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهذا الطريق هو الأصل لاختيار الخليفة في الشريعة الإسلامية.
وأهل الحل والعقد: هم فئة من الناس على درجة عالية من الدين والخلق والعلم بأحوال الناس، وحسن تدبير الأمور، ويسمَّون أهل الاختيار، وأهل الشورى، وأهل الرأي والتدبير.
وهذه الفئة تقوم باختيار الإمام نيابة عن الأمة جميعاً، فمن رأوه صالحاً بايعوه على كتاب الله وسنة رسوله، ولزوم طاعته في غير معصية الله.
الثاني: طريق العهد والاستخلاف.(9/451)
فإذا أحس الخليفة بقرب أجله، وأراد أن يستخلف على الناس أحدهم شاور أهل الحل والعقد فيمن يختار، فإذا وقع رأيه على شخص معين يصلح للخلافة من بعده، ووافقه أهل الحل والعقد، فإنه يعهد إليه من بعده كما هَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يعهد لأبي بكر - رضي الله عنه - ثم تركه؛ لعلمه أن الناس لن يختاروا غير أبي بكر - رضي الله عنه -.
وكما عهد أبو بكر - رضي الله عنه - بالخلافة من بعده لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وعهد عمر - رضي الله عنه - بالأمر من بعده للستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فيختاروا واحداً منهم، وذلك كله بعد مشاورات مع كبار المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
ولا بدَّ في المعهود له أن يكون مستكملاً لشروط الإمامة، ولا تنعقد له الخلافة بمجرد العهد من الإمام السابق، بل لا بدَّ من البيعة للمعهود له من قِبَل أهل الحل والعقد كما فعل الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.
والخلافة والإمامة للرجال دون النساء؛ لأن الولايات يحتاج فيها إلى الدخول في محافل الرجال وهذا محظور على النساء، ولأنه يحتاج فيها إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، والنساء ناقصات عقل ودين، لذلك لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن كسرى خلفته ابنته قال: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأةً» أخرجه البخاري(1).
ولذلك لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعده من الخلفاء امرأة ولاية بلد ولا قضاء قط، صيانة للمرأة من السوء والفتن.
ولا ينبغي للمسلم طلب الإمارة أو الحرص عليها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَا عبدَ الرّحمنِ بنَ سَمرةَ، لا تسْأل الإِمارةَ، فإنْ أُعطيتَها عَن مسْألةٍ وُكلتَ إليهَا، وإنْ أُعطيتَها عَنْ غيِر مسْألةٍ أُعنتَ علَيها» متفق عليه(2).
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (4425).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7147)، واللفظ له، ومسلم برقم (1652).(9/452)
وعلى خليفة المسلمين أن لا يولي هذا الأمر أحداً سأله أو حرص عليه.
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَا وَرَجُلانِ مِنْ قَوْمِي، فَقَالَ أحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أمِّرْنَا يَا رَسُولَ الله، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَهُ، فَقَالَ: «إِنَّا لا نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَألَهُ، وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ» متفق عليه(1).
ومن أخبر عن نفسه إظهاراً لنعمة الله عليه، وليس فخراً على من دونه، وطلب العمل ليكثر به ما يحبه الله ورسوله من الخير، فهو محمود كما طلب يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم من عزيز مصر بقوله: (? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [يوسف: 55].
ومن أثنى على نفسه افتخاراً به على من دونه، ليتكثر به عند الناس ويتعظم، فهذا يجازيه الله بمقت الناس له، وصغره في عيونهم، والأول يكبره في عيونهم وقلوبهم، وإنما الأعمال بالنيات.
ولا صلاح للكائنات والمخلوقات إلا بأن تكون حركاتها وفق أمر فاطرها وخالقها وحده لا شريك له.
فلو كان للعالم إلهان لفسد نظامه غاية الفساد، فإن كل إله يطلب مغالبة الآخر والعلو عليه وقهره، وفي ذلك فساد أمر السموات والأرض ومن فيهما كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 22].
وأصل فساد العالم إنما هو من فساد اختلاف الملوك والخلفاء، وبغي بعضهم على بعض.
ولهذا لم يطمع أعداء الإسلام في المسلمين في زمن من الأزمنة إلا في زمن تعدد الملوك من المسلمين واختلافهم، وانفراد كل واحد منهم ببلاد، وطلب بعضهم العلو على بعض، وانتظام حركة الحياة لا تتم إلا إذا كان الآمر واحداً.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7149)، واللفظ له، ومسلم برقم (1733).(9/453)
فصلاح أمر السموات والأرض واستقامتهما، وانتظام أمر المخلوقات على أتم نظام وأحسنه من أظهر الأدلة على أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه باطل، وأنه وحده الغني عن كل ما سواه: (پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 91، 92].
اللهم وفق جميع المسلمين لما تحب وترضاه.. وأصلح حكامهم ورعاياهم.. واهد ضالهم.. واستعمل الجميع في طاعتك وحسن عبادتك ونشر دينك.
- - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب العاشر ... 2
فقه النبوة والرسالة ... 2
1- فقه الاصطفاء والاختيار ... 2
2- فقه النبوة والرسالة ... 13
3- حكمة تعدد بعث الرسل ... 75
4- حكمة موت الرسل ... 120
5- فقه الدعوة إلى الله ... 123
6- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 210
7- فقه النصيحة ... 224
8- فقه الهداية ... 228
9- فقه الابتلاء ... 266
10- فقه الشورى ... 305
11- فقه الإنفاق في سبيل الله ... 315
12- فقه الهجرة والنصرة ... 325
13- فقه الجهاد في سبيل الله ... 338
14- فقه النصر ... 380
15- فقه الخلافة ... 408(9/454)
موسوعة فقه القلوب ( 11)
الباب الحادي عشر
فقه الأخلاق
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الحادي عشر
فقه الأخلاق
1- فقه الخُلق
قال الله تعالى: (? ? ? ںں) [القلم: 4].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? چ چچ) [الأعراف: 199].
الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين.
والخلق: هو بذل المعروف، وكف الأذى، واحتمال الأذى.
وإنما يدرك العبد ذلك بثلاثة أشياء:
بالعلم.. والجود.. والصبر.
فالعلم يرشد الإنسان إلى مواقع بذل المعروف، والفرق بينه وبين المنكر، ووضع الشيء في موضعه، فلا يضع الغضب موضع الحلم ولا العكس، ولا يضع الإمساك موضع البذل ولا العكس.
بل يعرف مواقع الخير والشر ومراتبها، وموضع كل خلق أين يضعه؟، وأين يحسن استعماله؟.
والجود يبعث الإنسان على المسامحة بحقوق نفسه، ودفع المزيد عند أداء حقوق غيره، فالجود قائد جيوش الخير كلها.
والصبر يحفظ عليه استدامة ذلك، ويحمله على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، وعدم مقابلة الإساءة بمثلها، وهو أكبر العون على كل مطلوب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 45].
فبهذه الثلاثة تحصل تزكية النفوس وتهذيبها، لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى، ومعية من تحبه، فإن المرء مع من أحب.
وحسن الخلق بذل الجميل، وكف القبيح، والتخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل.
وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان:
الصبر.. والعفة.. والشجاعة.. والعدل.
فالصبر يحمل الإنسان على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم والأناة، والرفق، وعدم الطيش والعجلة.
والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من الأقوال والأفعال، وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء والمنكر من البخل والكذب والغيبة والنميمة.(10/1)
والشجاعة تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، وتحمله على كظم الغيظ والحلم.
فبالشجاعة يمسك عنان نفسه، ويمسك بلجامها عن النزغ والبطش.
والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه فلا إفراط ولا تفريط.
فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو وسط بين الإمساك والإسراف والتبذير.
ويحمله على خلق الحياء الذي هو وسط بين الذل والقِحَة.
ويحمله على خلق الشجاعة الذي هو وسط بين الجبن والتهور.
ويحمله على خلق الحلم الذي هو وسط بين الغضب والمهانة.
ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة.
أما الأخلاق السافلة فمنشؤها وبناؤها يقوم على أربعة أركان:
الجهل.. والظلم.. والشهوة.. والغضب.
فالجهل يُري الإنسان الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، والنقص كمالاً، والكمال نقصاً، والحق باطلاً، والباطل حقاً، نعوذ بالله من الجهل وأهله.
والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضا، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويبذل في موضع الإمساك، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام وهكذا.
ويلين في موضع الشدة، ويقسو في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع.
والشهوة تحمله على الحرص والطمع، والبخل والشح، والنهمة والجشع، والذل وعدم العفة، والدناءات كلها.
والغضب يحمله على الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه.
وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين، وهو وسط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان كالجود الذي هو وسط بين خلق البخل والتبذير، والتواضع الذي هو وسط بين خلق الذل والمهانة، والكبر والعلو.
والنفس إذا انحرفت عن التوسط انحرفت ولا بدَّ إلى أحد الخلقين الذميمين، فإن انحرفت عن خلق التواضع انحرفت إما إلى كبر وعلو، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة.
وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة.(10/2)
وإذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة.
وإذا انحرفت عن خلق الصبر انحرفت إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط، وإما إلى غلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجر طبع.
وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة، وإما إلى الذلة والمهانة والعجز والحقارة.
وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين انحرفت إما إلى كبر وإما إلى ذل، والعزة المحمودة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة انحرفت إما إلى تهور وإقدام غير محمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم.
وإذا انحرفت عن خلق القناعة انحرفت إما إلى حرص وطمع، وإما إلى خسة ومهانة وإضاعة.
وإذا انحرفت عن خلق الرحمة انحرفت إما إلى قسوة وغلظة، وإما إلى ضعف القلب، وجبن النفس كمن لا يقدم على ذبح شاة ولا إقامة حد، أو تأديب ولد.
وصاحب الخلق الوسط مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه، غزيرة منافعه.
ولا ينبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان:
العفة عما في أيدي الناس.. والتجاوز عما يكون منهم.
ومعاشرات النبي صلى الله عليه وسلم قامت على أصلين:
البساطة، والحياء.. ومعاشرات الكفار قامت على الإسراف، والفحشاء.
والخلق ملكة تصدر بها عن النفس الأفعال بسهولة ويسر من غير تقدم فكر أو رويَّة أو تكلف.
والأخلاق نوعان:
أخلاق حسنة ممدوحة.. وأخلاق سيئة مذمومة.
فالخلق الحسن: هو الأدب والفضيلة، وينتج عنه أقوال وأفعال جميلة عقلاً وشرعاً كالصدق والصبر، والحلم والإحسان، والعفو والإيثار ونحوها.
والخلق السيئ: هو سوء الأدب والرذيلة، وينتج عنه أقوال وأفعال قبيحة عقلاً وشرعاً كالكذب والعجلة، والجهل والبخل، والرياء والحسد، والظلم والحرص ونحوها.
وعلم الأخلاق في الإسلام يدور حول تنظيم سلوك الإنسان، وتنبيهه إلى الخير ليسعى إليه، وإلى الشر ليجتنبه أو يتركه.(10/3)
فهو علم يبحث في الأحكام التي تعرف بها الفضائل ليتحلى بها الإنسان، والرذائل ليجتنبها، بهدف تزكية النفس على أساس من الوحي الإلهي.
2- درجات الأخلاق
قال الله تعالى: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [النحل: 90].
وقال الله تعالى: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [فصلت: 34-35].
الأخلاق في الإسلام ربانية المصدر، فكلها مستمدة من الشرع، وهي ربانية الهدف، فكلها يبتغي بها المسلم وجه الله ورضاه.
منها ما هو مأمور به كالصدق والإحسان، ومنها ما هو منهي عنه كالكذب والبخل، والمأمور به درجات، والمنهي عنه درجات.
ومهما تخلق الإنسان بالأخلاق الحسنة فإنها ستبقى صورة بلا روح طالما لم يُرِد بها صاحبها وجه الله ورضاه.
فليس الغرض من الأخلاق وجود صورتها الخارجية، وإنما هذه آثارها، فمصدرها قلبي، وأصلها صلاح الباطن، تملك على المسلم قلبه، ويدفعه إليها إيمانه، ويزيده الالتزام بها إيماناً؛ لأنها عبادة.
فالعدل عبادة مأمور بها، والإحسان عبادة، وترك الفحشاء عبادة، وترك المنكرات عبادة كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [النحل: 90].
والعدل مع العدو أقرب إلى التقوى؛ لأنها مسألة عبادية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 8].
ومهما حسنت أخلاق الكافر فهي هباء منثور؛ لأنها لم تكن خالصة لوجه الله، وإذا لم تكن خالصة لله، فإنها ستظهر نفاقاً أو لمصلحة ثم تزول، ويظهر ما وراءها من سوء الخلق كما قال سبحانه عن الكفار: (? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [الفرقان: 23].
والإسلام يدعو إلى مكارم الأخلاق، والسمو إلى أعلى الدرجات، ولكنه يراعي نفسية البشر وحاجاتهم كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 16].(10/4)
ولا يعتبر الخائف أو المكره ناقضاً للصدق إن كذب لينجو حين لا ينجيه من البطش إلا الكذب كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النحل: 106].
كما لا يعد الجائع المضطر خائناً للأمانة إن سرق ليأكل، ولا يعد طيشاً وخروجاً عن خلق الحلم إن غضب وثار من استُفِز واستُغْضِب.
والأخلاق الإسلامية أصيلة في نفس صاحبها، لا تفارقه في جميع أحواله، فليست قميصاً يلبسه إذا شاء، وينزعه إذا شاء، بل هي لازمة له لزوم النور للشمس؛ لأنها تعبدية، يدور صاحبها مع الحق حيث دار، ويثبت عليها في كل حال.
فلا يتغير خلقه مع الضعفاء والأقوياء.. ولا مع الفقراء والأغنياء.. ولا يتغير خلقه في حال رضاه وغضبه.. ولا في حال فقره وغناه.. ولا في حال خلوته وجلوته.. ولا في حال سفره وإقامته.. ولا فيما له ولا فيما عليه.
ولا تختلف أخلاقه حين يكون أميراً أو مأموراً، أو مكرماً أو مظلوماً.
فالمسلم ثابت على أخلاقه التي أمره الله بها، أما أخلاق الكفار فهي متقلبة تدور مع المصالح والأهواء، وتدير صاحبها على حسب تقلبها: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الحج: 11].
والأخلاق التي جاء بها الإسلام شاملة كاملة تغطي جميع جوانب حياة الإنسان، وتشمل كافة أحواله، وسائر علاقاته:
مع ربه ومع الناس.. في بيته وفي عمله.. في بيعه وشرائه.. في أكله وشربه، وفي صحوه ونومه.. وفي صحته وسقمه.. وفي ظاهره وباطنه.. وفي قلبه وجوارحه.
وكل الأخلاق الإسلامية مطلوبة، العدل والإحسان، والرحمة والشدة، فلا يغلب بعضها على بعض، ولكل خلق حالة ومكان.
فإن غلبت على الإنسان صفات القوة والشجاعة والعزة فسيجأر الناس إلى الله من عدوانه وجبروته وتكبره.. وإن غلبت عليه صفات العفو والسماحة والسكينة ربما رأى فيه الناس الذلة والمسكنة.. وإن غلبت عليه صفات الجرأة والصراحة والنصيحة ربما شَكَوا من سوء أدبه، وقلة احترامه.(10/5)
فالأخلاق الإسلامية مع كمالها متوازنة تدعو إلى العزة والتواضع كما تدعو إلى الانتصار والعفو.
والأخلاق نوعان:
منها ما هو طبيعة وجبلة يتفضل الله بها على بعض خلقه، فيجبلهم عليها من غير كسب منهم ولا جهد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُّحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ» أخرجه مسلم(1).
فمثل هذا فضل من الله ومنة على من أوتيها، ومن لم يؤتها مكلف بمجاهدة نفسه حتى يحصل عليها، وتصبح له خلقاً مكتسباً بعد الترويض والمجاهدة، وتنقلب مع الزمن إلى طبع ثابت وخلق أصيل، فهذا هو النوع الثاني وهو المكتسب الذي يحصل بالتخلق والتكلف حتى يصير ملكة وسجية، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ وَمَا أعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» متفق عليه(2).
فبالتسامح يصبح سمحاً، وبالتورع يصبح ورعاً.. وهكذا في باقي الأخلاق اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
والأخلاق الإسلامية تؤخذ بالتأسي والاقتداء بأهل الأخلاق الفاضلة، وهكذا تتوارث الأجيال الأخلاق العالية بالنظر إلى أخلاق القرون الأولى، ويتوارث الأفراد مكارم الأخلاق بالاقتداء والتأسي بأحاسنهم أخلاقاً.
ولذلك فإن الله لم ينزل كتبه إلا وأرسل معها العامل بها، القائم عليها من رسله، المتمثل لأوامرها، والمتخلق بأخلاقها، ليقتدي به الناس، ويتأسون به، خاصة أحسن الناس خَلْقاً وخُلُقاً، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن، وأثنى عليه ربه بكمال خلقه فقال: (? ? ? ںں) [القلم: 4].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (18).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1469)، واللفظ له، ومسلم برقم (1053).(10/6)
وشرع لنا الاقتداء به، والتأسي به في جميع الأحوال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
والأخلاق الإسلامية لا تطلب من الناس بكمها الكبير، وكليتها الشاملة من أول يوم يلج فيه الإنسان باب الهداية، بل لا بدَّ من التدرج بتقديم الأهم والأوجب في الأوامر، واجتناب الأفحش الأخطر في باب المناهي.
فيطالب ابتداء بالصدقة بما تجود به نفسه، ولا يطالب بالتنازل عن كل ماله كما فعل أبو بكر - رضي الله عنه -.
وكذلك لا ننتظر منه أكثر من العفو عمن أساء إليه، أما أن يحسن إلى المسيء فتلك مرتبة أعلى، ومقام أرفع، يمكن أن يرتقي إليها بالتربية تدريجياً.
والقفز إلى معالي الأخلاق من العزيمة التي يوفق إليها أهل الهمم الكبيرة، ولكن أغلب النفوس يربيها التدرج.
والأخلاق درجات متفاوتة، وبحار واسعة، والناس فيها متفاوتون، وأحسن الأخلاق ما حسن به صاحبه، وشرف به حامله.
والخُلق على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: أن يعرف العبد مقام الناس، ومقاديرهم، وجريان الأحكام القدرية عليهم، وإنهم مقيدون بالقدر لا خروج لهم عنه البتة، وأنهم محبوسون في قدرتهم وطاقتهم لا يمكنهم تجاوزها إلى غيرها، وأنهم موقوفون على الحكم الكوني القدري لا يتعدونه، فيحسن خلقه معهم.
وبهذه المعرفة يستفيد العبد ثلاثة أشياء:
أمن الخلق منه.. ومحبة الخلق له.. ونجاة الخلق به.
فالعبد العارف إذا نظر إلى الخلق بعين الحقيقة لم يطالبهم بما لا يقدرون عليه فيعفو عنهم، ويأمنوا من تكليفه إياهم بما لا يقدرون عليه، وأمنوا لائمته، فإنه في هذه الحال عاذر لهم فيما يجري عليهم من الأحكام فيما لم يأمر الشرع بإقامته فيهم.
لأنهم إذا كانوا محبوسين في طاقاتهم، فينبغي مطالبتهم بما يطالب به المحبوس، وعذرهم بما يعذر به المحبوس.(10/7)
وإذا بدا منهم في حقك تقصير أو إساءة أو تفريط فلا تقابلهم به، ولا تخاصمهم، بل اغفر لهم ذلك واعذرهم، نظراً إلى جريان الأحكام عليهم وأنهم آلة.
وهذا ما يجلب محبتهم له، ويرشدهم إلى القبول منه، وتلقي ما يأمرهم به، وما ينهاهم عنه أحسن التلقي.
الدرجة الثانية: تحسين خلقك مع الحق سبحانه.
وتحسينه منك أن تعلم أن كل ما يأتي منك يوجب عذراً، وأن كل ما يأتي من الحق يوجب شكراً، وأن لا ترى له من الوفاء بداً.
فتعلم أنك ناقص، وكل ما يأتي من الناقص ناقص يوجب اعتذار العبد منه لا محالة، فعلى العبد أن يعتذر إلى ربه من كل ما يأتي به من خير وشر.
أما الشر فظاهر، وأما الخير فيعتذر من نقصانه أو تأخيره، ولا يراه صالحا لربه، فهو مع إحسانه معتذر وَجِل.
ولذلك مدح الله أولياءه بالوجل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ??) [المؤمنون: 60].
والحامل للعبد على هذا الاعتذار أمران:
أحدهما: شهود تقصيره في العمل ونقصانه.
الثاني: صدق محبته لربه، فإن المحب الصادق يتقرب إلى محبوبه بغاية إمكانه وهو معتذر إليه، مستح منه، يرى أن قدره فوقه وأجل منه.
ويعلم أن كل ما يصدر منه سبحانه إلى عبده نافع عظيم، وأنه يوجب عليه الشكر، وأنه عاجز عن شكره، ولا يتبين هذا إلا في المحبة الصادقة، فإن المحب يستكثر من محبوبه كل ما يناله منه.
ويعامل الحق سبحانه بمقتضى الاعتذار من كل ما منه، والشكر على كل ما من ربه، وهذا عقد لازم لك أبداً، لا ترى من الوفاء به بداً.
الدرجة الثالثة: الاشتغال بالله عزَّ وجلَّ عن كل ما سواه، فيتقرب إليه بما يحب من الأقوال والأعمال، ويستأنس به، ويستوحش من غيره، ويتلذذ بعبادته ومناجاته، ويقف أمام ربه وقوف العبد العاجز المقصر المحتاج:
معظماً لربه.. حامداً له.. مستعيناً به.. مستغفراً له.. سائلاً له.. معتذراً إليه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 162،163].
وأصول الأخلاق:(10/8)
الإخلاص لله في السر والعلانية.. والعدل في الغضب والرضا.. والقصد في الفقر والغنى.
وأن يكون صمتي فكراً.. ونطقي ذكراً.. ونظري عِبراً.
هذا بالنسبة للنفس أما بالنسبة للغير فأصول الأخلاق أربعة:
أن أعفو عمن ظلمني.. وأعطي من حرمني.. وأصل من قطعني.. وأحسن إلى من أساء إلي.
ومكانة المسلم عند الله عظيمة، وحقه كبير، فإن في قلبه لا إله إلا الله التي لو وضعت السموات والأرض ومن فيهن في كفة، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن، ومن بدنه وجوارحه تصدر الأقوال والأعمال التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكم وزنه عند الله؟.. وكم قيمته عند مولاه؟
فلهذا المسلم حقوق على أخيه المسلم لا بدَّ من معرفتها أولاً، وأدائها ثانياً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ». قِيلَ: مَا هُنَّ؟ يَا رَسُولَ ا?! قال: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ. وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» أخرجه مسلم(1).
فيجب على كل مسلم إكرام كل مسلم، ولإكرام المسلم أربع درجات:
الأولى: أداء الحقوق حسب ما أمر الله ورسوله به، وكيفية أدائها بإعطاء كل ذي حق حقه حسب مكانته:
فمنها حقوق الوالدين والأقربين والجيران.. وحقوق الزوج على زوجته، والزوجة على زوجها، وحقوق الحكام على الرعية.. وحقوق الرعية على الحكام.. وحقوق الفقراء على الأغنياء.. وحقوق الأغنياء على الفقراء.. وحقوق العلماء على المؤمنين.. وحقوق المؤمنين على العلماء.. وحقوق الكبار على الصغار.. وحقوق الصغار على الكبار.. وهكذا.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2162).(10/9)
الثانية: حسن الخلق، فعلى المسلم أن يتخلق بالأخلاق التي تخلق بها النبي صلى الله عليه وسلم سواء كانت لأداء الواجب نحو خالقه بالإيمان به وطاعته وعبادته، أو كانت تتعلق بالمخلوق نفسه، أو تتعلق بغيره؛ لتكون هذه الأخلاق سبباً لمحبة الله له، ومحبة الناس له.
الثالثة: الإيثار، وهو درجة الكمال للأخلاق، وهو أن يفضل الإنسان غيره، ويقدم حاجة أخيه على حاجته، وأن يحسن إلى من لا يحسن إليه.
فالله عزَّ وجلَّ مع كونه غنياً قادراً يغفر للعاصين، ويرزق المؤمنين والعاصين والكافرين على حد سواء؛ لأنه لا رازق غيره، ولا رب سواه، ولا أكرم منه.
فعلى الإنسان أن يقضي حوائج الآخرين قبل أن يقضي حوائجه، ويخدم خلق الله قبل أن يخدم نفسه؛ لينال الأجر، ويكسب محبة الله ومحبة خلق الله، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحبون كل مؤمن: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 9].
الرابعة: الإكرام، ودرجة الإكرام درجة خاصة لا يستحقها غير أهل التقوى من المسلمين.
فالدرجات الثلاث الأُوَل لجميع الناس، أما الدرجة الرابعة فهي تخص المؤمنين فقط.
فالمسلم مهما بلغ من الضعف والتقصير لا يمكن إهماله وتركه، بل نبذل الجهود في إرشاده وتعليمه بالرفق واللين، والترغيب والترهيب.
فهو كالمريض تجب مداواته، والعناية به، حتى يعود إلى صحته.
فالله قد اختاره وزينه بالإيمان، وأكرمه بالإسلام، وأدخله إلى بيته:
فإذا تغيرت أحواله وساءت أخلاقه لزم إكرامه ونصحه، وترغيبه وإرشاده حتى يعود إلى ربه، وبالإكرام والتذكير تتغير القلوب، ثم يتغير عمل الجوارح كما يحي الله بالماء الأرض بعد موتها كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 16،17].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ??) [الذاريات: 55].(10/10)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كَانَ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم أجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم أجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. متفق عليه(1).
3- تغيير الأخلاق
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 186].
وقال الله تعالى: (ٹ ٹ ?? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ??) [الشمس: 7-10].
التغيير سنة كونية جارية.. فيها آيات وعبر.. لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والله يغير في ملكه ما شاء متى شاء: ليلاً ونهاراً.. وصيفاً وشتاءً.. وحراًّ وبرداً.. وصحة ومرضاً.. وراحةً وتعباً.. وحركةً وسكوناً.. وأمناً وخوفاً.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [النور: 44].
وقد حمل الله الإنسان أمانة تغيير أخلاقه من بين سائر المخلوقات، ومكنه من اختيار ما يريد من إيمان وكفر، وعدل وظلم، وحق وباطل: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [الكهف: 29].
والإنسان يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، ويكتسب أخلاقه من خلالها، فإن كانت طيبة تذكر بالله واليوم الآخر طابت أخلاقه وأعماله، وإن كانت سيئة فيها الفواحش والفجور والشهوات ساءت أخلاقه، وفسدت أعماله.
ولذلك أمرنا الله عزَّ وجلَّ بلزوم البيئة الصالحة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?چ) [التوبة: 119].
وحذرنا من البيئة الفاسدة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 68].
وأصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها، فهي كالنهر المنحدر الذي إن ترك أغرق الأرض والعمران، فسكره وحبسه لا يجدي؛ لأنه سيمتلئ فيكون إفساده وتخريبه أعظم.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6)، واللفظ له، ومسلم برقم (2308).(10/11)
وقطعه من أصل الينبوع متعذر؛ لأنه كلما سدّ من موضع نبع من موضع آخر فلم يزل خطره.
لكن الأجدى والأنفع صرفه عن مجراه المنتهي إلى العمران إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه، ولا يتضررون به، فصرفه إلى أرض قابلة للنبات وسقيها به أجدى وأنفع وأسلم.
إذا تبين هذا فالله العليم الحكيم اقتضت حكمته أن ركب الإنسان والحيوان على طبيعة محمولة على قوتين:
قوة غضبية.. وقوة شهوانية.
وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها، وهما مركوزتان في جبلة كل حيوان برحمة العزيز العليم.
فبقوة الشهوة يجذب الإنسان المنافع إلى نفسه، وبقوة الغضب يدفع المضار عن نفسه.
فإذا استعمل الإنسان الشهوة في طلب ما يحتاج تولد منها الحرص، وإذا استعمل الغضب في دفع المضرة عن نفسه تولد منه القوة والغيرة.
فإذا عجز عن ذلك الضار أورثه قوة الحقد، وإن عجز عن وصول ما يحتاج إليه ورأى غيره مستبداً به أورثه الحسد.
فإن ظفر بما يحب ويحتاج أورثته شدة شهوته خلق البخل والشح، وإن اشتد حرصه على الشيء، واشتدت شهوته له، ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية فاستعملها فيه، أورثه ذلك العدوان والبغي والظلم، ومنه يتولد الكبر والفخر والخيلاء.
فالنهر مثال هاتين القوتين: الغضبية والشهوانية، وهو منصب في جدول الطبيعة ومجراها إلى دور القلب وعمرانه، يخربها ويتلفها ولا بدَّ.
فالنفوس الجاهلة الظالمة تركته ومجراه فخرب ديار الإيمان، وهدم عمران الإسلام، وقلع أشجاره، وأنبت موضعها كل شجرة خبيثة.
وأما النفوس الزكية الفاضلة فإنها رأت ما يؤول إليه أمر هذا النهر فافترقوا ثلاث فرق:
فأصحاب المجاهدات والخلوات والتمرينات راموا قطعه من ينبوعه فأبت عليهم حكمة الله، وما طبع الله عليه الجبلة البشرية، ولم تنقد له الطبيعة البشرية فاشتد القتال، وحمى الوطيس فانقطعوا ولم يصلوا.(10/12)
وفرقة أعرضوا عنه، وشغلوا أنفسهم بالأعمال، ولم يجيبوا دواعي تلك الصفات، مع تخليتهم إياها على مجراها، واشتغلوا بتحصين العمران، وأحكام بنائه وأساسه.
فهؤلاء صرفوا قوتهم وإرادتهم في العمارة والتحصين، وأولئك صرفوها في قطع المادة الفاسدة من أصلها خوفاً من هدم البناء.
والفرقة الثالثة: رأت أن هذه الصفات ما خلقت عبثاً ولا سدىً، وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد والشوك، وأن ما خاف منه أولئك هو سبب الفلاح والنجاة.
فرأوا أن الكبر نهر يسقى به العلو والفخر، والبطر والظلم، والشر والعدوان.. ويسقي به علو الهمة.. والأنفة والحمية، والمراغمة لأعداء الله وقهرهم، فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس.
فأبقوه على حاله في نفوسهم، لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع، كالخيلاء فهي مبغوضة للرب، لكنها في الحرب أمام الأعداء، وعند الصدقة محبوبة للرب.
وكذلك خلق الحسد مذموم، لكن صرفه إلى الحسد المحمود الذي يوصل إلى المنافسة في الخير الذي يحبه الله أمر محمود.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» متفق عليه(1).
وكذلك خلق الحرص، فإنه من أنفع الأخلاق وأوصلها إلى كل خير، وشدة الطلب بحسب قوة الحرص، فلا نقطعها ولكن نوجهها إلى ما ينفع النفس في معادها، ويزكيها بالإيمان والعبادات والطاعات.
فقوة الحرص لا تذم، وإنما يذم صرفها إلى ما يضر الحرص عليه من الشهوات والمعاصي، أو لا ينفع وغيره أنفع للعبد منه.
وكذلك قوة الشهوة من أنفع القوى للعبد، وأوصلها إلى كماله وسعادته، فإنها تثمر المحبة، وبحسب شهوة العبد للكمال والاستقامة يكون طلبه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (73)، ومسلم برقم (816). واللفظ له.(10/13)
وصدق الشهوة وقوتها وكمالها يحمل الإنسان على بيع مشتهى دنيء خسيس بمشتهى أعلى منه، وأجل، وأرفع من الطاعات والحسنات والجنات.
وكذلك خلق الشح والبخل لهما مصرفان:
مصرف محمود نافع للعبد، يحمله على بخله وشحه بزمانه ووقته وأنفاسه أن يضيعها ويسمح بها لمن لا يساوي.
ويشح غايه الشح بحظه ونصيبه من الله أن يبيعه أو يهبه لأحد من الخلق.. ويشح بماله ألا يكون في ميزانه.. وأن يتركه لغيره يتنعم به ويفوته هو أجره وثوابه.
فالشحيح بماله المحب له هو الذي يقدمه بين يديه زاداً لمعاده، أما المصرف المذموم فهو من يشح ويبخل بماله ووقته أن يصرفه فيما يحب الله ورسوله.
وهذه قاعدة مطردة في جميع الصفات والأخلاق.
فالرسل عليهم الصلاة والسلام جاءوا بصرفها عن مجاريها المذمومة، وإلى مجاريها المحمودة.
فجاءوا بصرف قوة الشهوة إلى النكاح والتسري بدلاً من الزنا والسفاح، فصرفوا قوة الشهوة ومجرى الحرام إلى مجرى الحلال الذي يحبه الله عزَّ وجلَّ.
وجاءوا بصرف قوة الغضب من الظلم والبغي إلى جهاد أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والغلظة عليهم، والانتقام منهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [التحريم: 9].
وجاءوا بصرف قوة اللهو والركوب، إلى اللهو والرمي والمسابقة على الخيل وركوبها في سبيل الله واللهو في العرس والعيد.
وكذلك شهوة استماع الأصوات المطربة اللذيذة لا يذم بل يحمد، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إلى قراءة أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - للقرآن، وأمر ابن مسعود - رضي الله عنه - أن يقرأ عليه القرآن، فقرأ عليه وسمع وتأثر بما سمع وبكى.
وهذا سماع خواص الأولياء، فلا بدَّ للروح من سماع طيب تتغذى به، ولذا قال سبحانه: (? ? ??) [المزمل: 4].(10/14)
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال لِي رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم : «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ»، قال فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ ا?! أقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قال: «إِنِّي أشْتَهِي أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [النساء: 41]. رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيل. متفق عليه(1).
والسماع المذموم سماع المكاء والتصدية، وألفاظ الخنا، وآلات المعازف.
فهذا غذاء.. وهذا غذاء.. ولكن لا يستوي من غذاؤه الحلوى، والطيبات، والعسل.. ومن غذاؤه الرجيع، والميتة، والدم، وما أُهلَّ به لغير الله.
وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجيء بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه ويترك الطبيب.
فالأنبياء والرسل هم أطباء القلوب والأبدان، وتزكية النفوس مسلَّم إليهم، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم.
والله عزَّ وجلَّ إنما بعثهم لهذه التزكية، وولاهم إياها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجمعة: 2].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ صَالِحَ الأَْخْلَاقِ» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد(2).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4582)، ومسلم برقم (800). واللفظ له.
(2) حسن: أخرجه أحمد برقم (8952).
وأخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (276)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (45).(10/15)
والنفس آية من آيات الله العظيمة، وهي موجودة في كل حيوان، وهي في غاية اللطف والخفة، موجودة في البدن ولكنها لا ترى، سريعة التنقل والحركة، سريعة التغير والتأثر والانفعالات النفسية من الهم والإرادة، والقصد والحب والبغض، ولولاها لكان البدن مجرد تمثال لا حركة فيه، وتسويتها على هذا الوجه آية من آيات الله العظيمة كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ?? ? ? ??) [الشمس: 7،8].
وللإنسان مع نفسه حالتان:
الأولى: إما أن يطهر نفسه من الذنوب، وينقيها من العيوب، ويرقيها بطاعة الله، ويعليها بالعلم النافع، ويرفعها بالعمل الصالح، فهذا قد زكى نفسه بما يحبه الله، فهو من المفلحين كما قال سبحانه: (? ? ? ??) [الشمس: 10].
والناس متفاوتون في الأعمال والأخلاق تفاوتاً كبيراً، وذلك بحسب تفاوت الإيمان والأعمال والأخلاق، ومقدارها والنشاط فيها، وبحسب الغاية المقصودة بتلك الأعمال، هل هي خالصة لله فتقبل وتبقى وتنفع صاحبها؟
أم هي غير خالصة لله فترد وتبطل وتفني، وتضر صاحبها؟
فالناس مختلفون، وأعمالهم وأخلاقهم متفاوتة كما قال سبحانه: (? ? ?ہ) [الليل: 4].
ولهذا بين الله عزَّ وجلَّ أن العاملين قسمان، ولكل قسم عمل وحكم وجزاء في الدنيا والآخرة:
فالقسم الأول: من قام بما أمره الله به من التوحيد والإيمان، وأدى ما أمر الله به من العبادات المالية كالزكوات والصدقات والنفقات والكفارات، والعبادات البدنية كالصلاة والصوم، والمركبة منهما كالعمرة والحج ونحوهما، واتقى ما نهى الله عنه من المحرمات والمعاصي، وصدق بلا إله إلا الله وما دلت عليه، وما ترتب عليها من الجزاء الأخروي.
فهذا يسهل الله عليه أمره، ويجعله ميسراً له كل خير، ميسراً له ترك كل شر؛ لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ھھ ھ ھے ے ??) [الليل: 5-7].(10/16)
وأما القسم الثاني: فهو من بخل بما أمره الله به، فترك الإنفاق الواجب والمستحب، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب لله، واستغنى عن الله، فترك عبادته وطاعته، ولم ير نفسه محتاجة إلى ربه الذي لا نجاة له إلا بعبادته وطاعته.
وكذب بما أوجب الله على العباد التصديق به من الإيمان، وما يترتب عليه من الأعمال والثواب والجزاء.
فهذا ييسره الله للحالات العسرة، والخصال الذميمة، بأن يكون ميسراً للشر أينما كان، مقيضاً له فعل المعاصي؛ لأنه أتى بأسباب التعسير والهلاك، نسأل الله العافية كما قال سبحانه: (? ? ? ?? ? ?? ? ??) [الليل: 8-10].
وأخلاق البشر يمكن تغييرها وجرها إلى أن تكون حسنة أو قبيحة، حسب التذكير والوعظ، وحسب الإيمان والكفر، إلا أن بعض النفوس والطباع سريعة القبول والتأثر والتأثير، وبعضها صعب يحتاج إلى معالجة، وبعضها غير قابل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلأ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ ا?، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى ا? الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (79)، واللفظ له، ومسلم برقم (2282).(10/17)
ومن سنة الله عزَّ وجلَّ في عباده أن الناس إذا غيروا ما بأنفسهم فانتقلوا من الكفر إلى الإيمان، ومن معصية الله إلى طاعة الله، غيَّر الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء والذلة والشدة، إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة، وكذلك الله عزَّ وجلَّ لا يغير ما بقوم من النعمة والإحسان ورغد العيش حتى يغيروا ما بأنفسهم، فينتقلوا من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعات إلى المعاصي، ومن شكر النعم إلى البطر بها، فيسلبهم الله عند ذلك إياها: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 11].
والإسلام كله تغيير العواطف من الأدنى إلى الأعلى:
من المخلوق العاجز إلى الخالق القادر.. ومن الدنيا إلى الدين.. ومن الاشتغال بالأموال والأشياء إلى المسارعة للإيمان والأعمال الصالحة.. ومن العادات والتقاليد إلى السنن والآداب الإسلامية.. ومن الدعوة إلى الأشياء إلى الدعوة إلى الله.
وجزاء ذلك كله العزة في الدنيا والجنة في الآخرة كما قال سبحانه: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 10-13].
4- فقه حسن الخلق
قال الله تعالى: (? ? ? ںں) [القلم: 4].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلاقًا» متفق عليه(1).
خلق الله عزَّ وجلَّ هذا الإنسان في أحسن تقويم، وجعله مركباً من جسد وروح، فالجسد مدرك بالبصر، والروح مدركة بالبصيرة، ولكل واحد منهما هيأه وصورة، إما جميلة أو قبيحة.
وخَلْق الإنسان: صورته الظاهرة.. وخُلُق الإنسان: صورته الباطنة.
والنفس المدركة بالبصيرة: أعظم قدراً من الجسد المدرك بالبصر، ولذلك عظم الله أمره فقال: (? ? ? ں ں ? ? ? ?? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [ص: 71-72].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3559)، واللفظ له، ومسلم برقم (232).(10/18)
فنبه سبحانه على أن الجسد منسوب إلى الطين والروح منسوبة إليه سبحانه.
فالخلق: هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال بيسر وسهولة، فإن كانت الأفعال جميلة سميت خلقاً حسناً.. وإن كانت الأفعال قبيحة سميت خلقاً سيئاً.
والخلق الحسن صفة الأنبياء والصديقين.. والخلق السيء صفة الشياطين والمجرمين.
والأخلاق السيئة سموم قاتلة، تهوي بصاحبها إلى القاع، وتنظم صاحبها في سلك الشياطين.
وحسن الخلق هو الاعتدال، فإذا مال عنه العبد وقع في ضده من سوء الخلق، وهذا الاعتدال تارة يحصل بكمال الفطرة منحة من الخالق عزَّ وجلَّ، وكرامة منه لمن شاء من عباده.
فكم من صبي يخلقه الله صادقاً سخياً كريماً حليماً.
وتارة يحصل حسن الخلق بالاكتساب، وذلك بحمل النفس على الأعمال الجالبة للخلق المطلوب.
فمن أراد تحصيل خلق الجود، فليفعل فعل الجواد من البذل، ليصير بذلك طبعاً له، كما أن من أراد أن يكون كاتباً تعاطى فعل الكتابة، إلا أن ذلك يحتاج إلى تكرار ومداومة، كما أن نمو القامة والبدن يحتاج إلى وقت.
وكما أن تعاطي أسباب الفضائل يؤثر في النفس ويغير طباعها، فكذلك مساكنة الكسل والكسالى يصير عادة، فيحرم بسببه كل خير.
وكما لا ينبغي أن يستهان بقليل الطاعات، فإن دوامها يؤثر خيراً، فكذلك لا يستهان بقليل الذنوب، فإن دوامها يؤثر شراً.
وكذلك تكتسب الأخلاق الحسنة بمصاحبة أهل الإيمان والخير، وإنما المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل.
والاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس، والميل عن الاعتدال سقم لها ومرض، والنفس في علاجها كالبدن في علاجه، فكما أن البدن لا يخلق كاملاً وإنما يكمل بالتربية بالغذاء، كذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تكمل بالتزكية، وتهذيب الأخلاق بالعلم.
وكما أن البدن إذا كان صحيحاً فشأن الطبيب العمل على حفظ الصحة، وإن كان مريضاً فشأنه جلب الصحة إليه.(10/19)
كذلك النفس إذا كانت زكية طاهرة مهذبة الأخلاق فينبغي للعبد أن يسعى لحفظها، وجلب مزيد القوة إليها.
وإن كانت عديمة الكمال سعى في جلب الكمال إليها.
وكما أن أمراض البدن تعالج بضدها، إن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الأخلاق السيئة التي هي من مرض القلب علاجها بضدها من الأخلاق الحسنة.
فيعالج مرض الكبر بالتواضع.. ومرض الجهل بالعلم.. ومرض البخل بالكرم.. ومرضى السفه بالحلم.. ومرض الظلم بالعدل والإحسان.. وهكذا.
وكما أنه لا بدَّ من احتمال مرارة الدواء، وشدة الصبر عما يشتهي من أجل صلاح البدن، فكذلك لا بدَّ من احتمال مرارة المجاهدة، والصبر على مداومة مرض القلب، بل هو أولى، فإن ألم مرض البدن يخلص منه بالموت، وألم مرض القلب يؤلمه قبل الموت وبعد الموت.
وكل عضو في الإنسان خلقه الله لفعل خاص، فعلامة مرضه أن يتعذر منه ذلك الفعل، فمرض العين تعذر الإبصار.. ومرض الأذن تعذر السماع، ومرض القلب أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلقه الله من أجله وهو الإيمان والعلم، والحكمة والمعرفة، وحب الله تعالى وتعظيمه، وعبادته وشكره، وإيثار ذلك على كل شهوة.
ولو أن الإنسان عرف كل شيء ولم يعرف الله سبحانه فكأنه لم يعرف شيئاً.
وعلامة المعرفة: الحب، فمن عرف الله أحبه.
وعلامة المحبة: أن لا يؤثر عليه شيئاً من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئاً من المحبوبات فقلبه مريض، كما أن المعدة التي تؤثر أكل الطين على أكل الخبز مريضة.
وأمراض القلوب خفية لا يعلمها أكثر الناس فلذلك يغفلون عنها، وإذا عرف الإنسان مرض قلبه، صعب عليه الصبر على مرارة دوائه؛ لأن دواءه مخالفة الهوى.
وإن وجد الصبر لم يجد طبيباً حاذقاً يعالجه، والأطباء هم العلماء بالله وأسمائه وصفاته ودينه وشرعه وأكثرهم مرضى، والطبيب إذا كان مريضاً.. فلما يلتفت إلى علاجه وإلى غيره.(10/20)
فلما قل العلماء الربانيون صار الداء عضالاً، واندرس هذا العلم، وأنكر أكثر الناس طب القلوب، ومرضها بالكلية، وأقبل الناس على أعمال ظاهرها عبادات، وباطنها عادات، لا تزيد إيماناً، ولا تحجز عن محرم، فهذا علامة أصل المرض.
وأما عافية القلب، وعوده إلى الصحة بعد المعالجة، فهو أن ينظر إلى العلة:
فإن كان المرض مثلاً داء البخل فعلاجه بذل المال، ولكن لا يسرف ويصير إلى حد التبذير، فيحصل به داء آخر، بل المطلوب الاعتدال.
وإذا أراد الإنسان أن يعرف الوسط فلينظر إلى نفسه:
فإن كان جمع المال وإمساكه ألذ عنده وأيسر عليه من بذله لمستحقه فليعلم أن الغالب عليه خلق البخل، وهو مرض فليعالجه بالبذل.
وإن كان البذل ألذ عنده وأخف عليه من الإمساك فقد غلب عليه التبذير، وهو مرض، فليرجع إلى المواظبة على الإمساك.. وهكذا ولا يزال الإنسان يراقب نفسه حتى تنقطع علاقة قلبه عن المال، فلا يميل إلى بذله ولا إمساكه.
بل يصير عنده كالماء، فكل قلب صار كذلك فقد جاء الله سليماً في المقام.. وهكذا بقية الصفات.
ويجب أن يكون القلب سليماً من سائر الأخلاق السافلة، مزيناً بالأخلاق العالية، حتى لا تكون له علاقة بشيء من الدنيا، حتى ترتحل النفس عن الدنيا منقطعة العلائق منها، غير ملتفتة إليها، ولا متشوفة إلى أسبابها، فحينئذ ترجع إلى ربها رجوع النفس المطمئنة كما قال سبحانه: (? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ?? ? ??) [الفجر: 27-30].
ولما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض فلا جرم من استوى على هذا الصراط المستقيم في الدنيا، حاز على مثل هذا الصراط في الآخرة.
ولأجل عسر الاستقامة ودوامها أمر الله العبد أن يقول في كل يوم مرات عديدة: (ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفاتحة: 6،7].
ومن لم يقدر على الاستقامة فليجتهد على القرب منها، فإن النجاة بالعمل الصالح، فسددوا وقاربوا، واستقيموا ولن تحصوا..(10/21)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لا يُدْخِلُ أحَداً الْجَنَّةَ عَمَلُهُ». قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه(1).
والأعمال الصالحة كالأخلاق الحسنة يصيبها الخلل والنقص، فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه وأعماله وأقواله، وليشتغل بعلاجها تدريجياً، وليصبر على ذلك وشدته ومرارته فإنه سيحلو كما يحلو الفطام للطفل بعد كراهته له، فلو رد إلى الثدي لكرهه.
وإذا أراد الله عزَّ وجلَّ بعبد خيراً بصَّره بعيوب نفسه، فمن كملت بصيرته لم تخف عليه عيوبه، وإذا عرف العبد عيوبه أمكنه العلاج، ولكن أكثر الناس جاهلون بعيوبهم، يرون الصغائر في غيرهم، ولا يرون الكبائر في أنفسهم.
ولا بدَّ لكل مسلم مع الإيمان والإخلاص والعمل الصالح من الأخلاق الحسنة، فهي التي تحفظ الأعمال الصالحة.
فيأتي العبد يوم القيامة بأعمال صالحة كالجبال، وهي من الأعمال المقبولة، ولكن إذا كانت أخلاقه سيئة أكلت هذه الأعمال.
يأتي وقد شتم هذا.. وسب هذا.. وقذف هذا.. وسرق هذا.. وظلم هذا، وغدر بهذا.. وقتل هذا..
فماذا يبقى له من الأجر والحسنات إذا أخذ هؤلاء حقوقهم منه؟
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6467)، واللفظ له، ومسلم برقم (2818).(10/22)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أمَّتِي، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار» أخرجه مسلم(1).
فالإيمان فريضة، وتعلمه فريضة.. والإخلاص فريضة، وتعلمه فريضة.. والعمل فريضة، وتعلمه فريضة.. والأخلاق فريضة، وتعلمها فريضة: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [فصلت: 34-36].
وأكمل الناس إيماناً أكملهم خلقاً.. ولذلك وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (? ? ? ںں) [القلم: 4].
وأحسن الناس أخلاقاً هم الأنبياء والرسل، ثم يليهم من آمن بهم، فقد فرق الله الأخلاق الحسنة في الأنبياء والرسل، ثم جمعها في محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم فرقها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي خير أمة أخرجت للناس، والناس معادن فيجب الاستفادة من هذه المعادن النفيسة فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير القرون؛ لأنهم أخذوا الدين والأخلاق عن النبي مباشرة، فكانت فيهم حياة محمد صلى الله عليه وسلم ، وجهد محمد صلى الله عليه وسلم .
فظهرت في حياتهم أحسن الأخلاق كالإيمان والتقوى، والصدق والإخلاص، واليقين والتوكل، والرحمة والشفقة، والجود والكرم، والحياء والتواضع، والعدل والإحسان، والمحبة والإيثار.
وغير ذلك من الصفات والأخلاق التي كانت سبباً في هداية الناس للدين، وجذبهم إليه، ومحبتهم له.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2581).(10/23)
وكانت فيهم صفات مشتركة بينهم لا يخلو منها أحد منهم أهمها:
الإيمان بالله.. وطاعة الله ورسوله.. والعبادات التي تزكي النفوس وأعظمها الصلاة.. وتعلم العلم الذي تصح به العبادات والمعاملات وتعليمه.. والدعوة التي بسببها تنتشر الهداية.. والكرم الذي بسببه تُقبل النفوس إلى الدين.. والرحمة التي بسببها تنزل الرحمة عليهم وعلى الناس.. والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله.. والإخلاص الذي يُقبل به العمل.. ثم مضى زمن فصار الجهاد من أجل الملك والمال فتركه الناس، واشتغلوا بطلب العلم وتعليمه، ثم دخلت الدنيا على طلبة العلم، ودخل فيهم من يطلب العلم لا لله، بل لأمر يريده من جاه أو مال.
ثم اشتغل أناس من أهل الإيمان بالتزكية فلازموا المساجد، وتركوا الساحة للشيطان، يعيث في الخلق فساداً.
ثم دخل فيهم ونافسهم أهل البدع والأهواء، فاشتغلوا بالتزكية الإبليسية، وتبعهم أناس على ذلك، وبذلك انتشرت البدع، وصارت ديناً يعبد الله به، ويتقرب إليه به.
ثم ذهبت حقيقة العبادة وروحها، وبقيت في أكثر الأمة صورة العبادة ثم خرجت الأخلاق من المعاملات والمعاشرات، وترك أكثرهم الدعوة إلى الإيمان والأعمال، وأقاموا مكانها الدعوة إلى الأموال والأشياء..
فقامت الدنيا.. وقعد الدين.. وزاد المال.. وقل الإيمان.. وكثرت الأشياء.. وقلت الأعمال.. وقعد أكثر الناس على موائد الدنيا.. وقاموا عن موائد الآخرة؟.. وتسابق أكثر الناس إلى سنن اليهود والنصارى.. وتركوا سنن الأنبياء والمرسلين..
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لاتَّبَعْتُمُوهُمْ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ ا?! آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3456)، ومسلم برقم (2669). واللفظ له.(10/24)
فخير القرون قرن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، الذين فيهم الإيمان، والعبادة، والدعوة، والتعليم، والجهاد، ومكارم الأخلاق، ثم يليهم من بعدهم.. ثم من بعدهم.. ثم خيرهم مِنْ بعدهم من اتصف بصفاتهم، وعمل كأعمالهم، وتخلق بأخلاقهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» متفق عليه(1).
ومن فوائد مكارم الأخلاق:
محبة الله ورسوله للعبد.. وكثرة الأجر والثواب.. وحفظ الأعمال الصالحة.. ومعية الله للعبد.. ومحبة الناس له.. وجذب الناس إلى الدين.. ومحبتهم له.. ودخولهم فيه.
وكما أن للمؤمنين علامات.. وللكفار علامات.. وللحي علامات.. وللميت علامات، فكذلك أهل الأخلاق الحسنة لهم علامات.. وأهل الأخلاق السيئة لهم علامات:
أما علامات حسن الخلق، فقد يجاهد الإنسان نفسه حتى يترك الفواحش والمعاصي، ثم يظن أنه قد هذب نفسه، واستغنى عن المجاهدة، وليس كذلك.
فإن حسن الخلق: هو مجموع صفات المؤمنين التي وصفهم الله بها حين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم فقال: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 112].
وقال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [الأنفال: 2-4].
وقال سبحانه: (? ? ?? ? پ پ پ پ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? چ چ چچ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ ک ک ک ک گ گگ) [المؤمنون: 1-11].
ومن صفاتهم التي وصفهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2652)، واللفظ له، ومسلم برقم (2533).(10/25)
محبة الله ورسوله.. ومحبة دينه.. ومحبة المؤمنين.. وإكرام الجار.. وإكرام الضيف.. والقول الحسن.. والعفو.. وكف الأذى.. والصبر.. واحتمال الأذى.. وصلة الرحم.. والحلم والأناة.. والرفق والسماحة.. والعدل والإحسان.. والرحمة والشفقة.. وحفظ اللسان والسمع والبصر.
ومن لم يجد في نفسه هذه الصفات، أو بعض هذه العلامات، فليجاهد نفسه حتى تصير صفة له.
وقد بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم متمماً لمكارم الأخلاق، فكان خلقه القرآن، وكان أحسن الناس خَلْقاً وخُلُقاً، يأمر بكل خير، ويكون أسبق الناس إليه، وينهى عن كل شر ويكون أبعد الناس منه، جمع مع جمال الباطن جمال الظاهر، فكان قدوة للناس، وأسوة للبشرية إلى يوم القيامة:
في الإيمان.. والعبادات.. والمعاملات.. والمعاشرات.. والأخلاق.
وأمرنا الله عزَّ وجلَّ بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم في سائر أحواله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
فكل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها له أدب:
مع الله.. ومع كتابه.. ومع رسوله.. ومع نفسه.. ومع غيره..
فأدبه مع الله: يكون بالإيمان بالله، وتوحيده، وتعظيمه، ومحبته، وطاعته، وعبادته وشكره، والتوكل عليه، والحياء منه.
وأدبه مع كتاب الله: يكون بحسن تلاوته، وسماعه، والعمل بما فيه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره، وإبلاغه للناس، والإعراض عما سواه.
وأدبه مع رسول الله: يكون بطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
وأدبه مع نفسه: يكون بحملها على طاعة الله ورسوله، وامتثال جميع أوامر الله على طريقة رسول الله، وفعل الخيرات، واجتناب المنكرات.(10/26)
وأدبه مع غيره: يكون بالعدل والإحسان، وحسن الخلق، والتوقير والإكرام، والإحسان إلى إخوانه المسلمين، وجيرانه، ووالديه، وأقاربه، وسائر الناس، وسائر المخلوقات، فالمؤمن كالغيث أينما حل نفع، وكالشمس حيث سار أنار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» متفق عليه(1).
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: «تَقْوَى ا? وَحُسْنُ الْخُلُقِ» وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالََ: «الْفَمُ وَالْفَرْج» أخرجه الترمذي وابن ماجه(2).
فكل عبد عليه حقان:
حق الله عزَّ وجلَّ.. وحق لعباده.
فالحق الذي عليه لا بدَّ أن يخل ببعضه أحياناً إما جهلاً، أو نسياناً، أو تهاوناً، إما بترك مأمور، أو فعل محظور، فأمره بتقوى الله.
والمسلم يعمل ويخطئ عمداً وسهواً، فأمره بفعل الحسنات التي تزيل السيئات وتمحوها.
وبهذا وذاك يكون قد قضى حق الله من العمل الصالح، وإصلاح الفاسد.
ثم قال: وخالق الناس بخلق حسن، فهذا حق الناس.
وجماع ذلك:
أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام والدعاء له.. وتعطي من حرمك من العلم والمال.. وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض.. وتحسن إلى من أساء إليك.
ومعية الله ونصرته ومحبته تكون لمن اتصف بالصفات الإيمانية كالتقوى والتوكل، والصبر والإحسان، والإيمان وغيرها.
فمن اتصف بهذه الصفات أحبه الله، وكانت معه نصرة الله ومعيته، واستفاد من قدرة الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 128].
فهنا نوعان:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (481)، ومسلم برقم (2585). واللفظ له.
(2) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2004) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1630).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4246)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3424).(10/27)
الأول: الصفات الإيمانية، ومن اتصف بها حصلت له نصرة الله ومعيته ومحبته كالإيمان واليقين والتوكل ونحوها.
الثاني: الأعمال الإيمانية كالصلاة والصوم والحج ونحوها، فهذه على قسمين:
الأول: أعمال مقبولة، وهي المقرونة بالصفات الإيمانية كما قال سبحانه: (? ? ?? ? پ پ پ پ?) [المؤمنون: 1،2].
الثاني: أعمال غير مقبولة، وهي الخالية من الصفات الإيمانية كما قال سبحانه: (? ?? ? چ چ چ چ?) [الماعون: 4،5].
والأعمال التي فيها شرك أو رياء، والرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ومن يجاهد ليقال جريء، أو يقرأ ليقال قارئ، أو ينفق ليقال جواد، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 54].
والصفات الإيمانية محلها القلب.. والأعمال محلها الجوارح.. وأعمال الجوارح مبنية على ما في القلوب من الإيمان أو عدمه.
وأصل الأخلاق المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة.
وأصل الأخلاق المذمومة كلها:
الكبر.. والمهانة.. والدناءة.
فالفخر والبطر والأشر، والظلم والبغي والتجبر، والعجب والخيلاء والحسد، وإباء قبول النصيحة، وطلب العلم، وحب الرئاسة والجاه، كلها أمراض قلبية ناشئة من الكبر.
والكذب والمكر، والخسة والخيانة، والرياء والحرص، والخديعة والطمع، والجبن والبخل، والعجز والكسل، والفزع والذل لغير الله، ونحوها، كلها أمراض قلبية ناشئة من المهانة والدناءة وصغر النفس.
فما أجمل مكارم الأخلاق.. وما أحسن التحلي بها.. وما أعظم أجرها وثوابها.. وما أخفها على نفوس الكرام.. وما أثقلها على نفوس اللئام.. وهي بحار مختلفة لا يقدر عليها كل أحد:
بحر الصبر.. وبحر التقوى.. وبحر الحلم.. وبحر العفو.. وبحر الإيثار.. وبحر الإحسان.. وبحر الصدق.. وبحر العلم.. وبحر العدل.
فلهذا قل واردها، وندر من أبحر فيها، وهي تقسم كما تقسم الأرزاق والآجال، ولها أهل، ولضدها أهل، والله أعلم حيث يجعل رسالته.(10/28)
إن العاقل حقاً من أرضى ربه قبل أن يلقاه.. وبنى قبره قبل أن يدخله.. وترك الدنيا قبل أن تتركه.
ومن استطاع أن يتحلى بمكارم الأخلاق، ويترقى فيها حتى يكون إماماً لحيه، وإماماً للناس، فليفعل، فإن له من عمل كل مقتد به نصيب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم(1).
وحسن الخلق قسمان:
حسن الخلق مع الله.. وحسن الخلق مع الناس.
حسن الخلق مع الله أن يكون العبد منشرح الصدر بأوامر الله تعالى ونواهيه، يفعل ما أمره الله به، راضياً به، فرحاً بأدائه، مستبشراً بطاعة ربه، مجتنباً ما نهى الله عنه، وأن يعلم أن كل ما يكون من نفسه يوجب عذراً، وأن كل ما يأتي من الله يوجب شكراً، فلا يزال شاكراً لربه، معتذراً إليه من تقصيره، سائراً إليه بين مطالعة منة الله، وشهود عيب نفسه.
وحسن الخلق مع الناس جماعه أمران:
بذل المعروف قولاً وفعلاً.. وكف الأذى قولاً وفعلاً.
ففي المعاملات مع الناس يكون سمحاً لحقوقه، لا يطالب بها غيره، ويوفي ما يجب عليه لغيره منها:
فإن مرض ولم يعد.. أو قدم من سفر فلم يزر.. أو ضاف فلم يكرم.. أو أحسن فلم يشكر.. أو تكلم فلم ينصت له.. أو استأذن فلم يؤذن له.. أو خطب فلم يزوج.. وما أشبه ذلك لم يغضب ولم يعاقب، ولم يتنكر من حاله حال، ولا يقابل ذلك بمثله.
بل يضمر أنه لا يعتد بشيء من ذلك، ويقابل كلاً منه بما هو أحسن وأفضل، واقرب منه إلى البر والتقوى.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2674).(10/29)
ثم يكون في إيفاء ما يكون عليه أفضل وأحسن وأجمل، فإذا مرض أخوه المسلم عاده.. وإن استمهله في قضاء دين أمهله.. وإن جاء في شفاعة شفعه.. وإن احتاج منه إلى معونة أعانه.. وإن استسمحه في بيع سمح.. ولا ينظر ولا يلتفت إلى سوء معاملته له فيما خلا.
إنما يتخذ الأحسن إماماً لنفسه، ويسبق إلى كل فضيلة، ويأنف من كل رذيلة، ويتجاوز لإخوانه عن كل سيئة، ويعفو ويصفح، ويتبع السيئة الحسنة: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [فصلت: 34،35].
وبحسب قوة إيمان العبد، وكمال تصديقه بالجزاء، ومعرفة حسن موعود الله وثوابه، يسهل على العبد تحمل ذلك، والقيام به، ويلذ له الاتصاف به.
وحسن السمت من أخلاق الأنبياء والصالحين، وهو دليل على كمال الإيمان ورجاحة العقل، وهو حسن المظهر الخارجي للإنسان من طريقة الكلام والصمت، والحركة والسكون، والدخول والخروج، وحسن الهيئة، وحسن السيرة العملية بين الناس، وحسن المعاشرة مع الأهل.
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم مَرْبُوعاً، وَقَدْ رَأيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مَا رَأيْتُ شَيْئاً أحْسَنَ مِنْهُ. متفق عليه(1).
وحسن الظن بالله تعالى من حسن العبادة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَمُوتَنَّ أحَدُكُمْ إِلا وَهُوَ يُّحْسِنُ الظَّنَّ بِا? عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه مسلم(2).
وعن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأبْصَرَنَا، فَقال: «مَا ظَنُّكَ يَا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا» متفق عليه(3).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5848)، واللفظ له، ومسلم برقم (2337).
(2) أخرجه مسلم برقم (2877).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3653)، واللفظ له، ومسلم برقم (2381).(10/30)
والأخلاق غرائز كامنة، وحسن الخلق ميل النفس نحو الأرفق الأحمد من الأقوال والأفعال، والتخلق بأخلاق الشريعة، والتأدب بآداب الله التي ذكرها في كتابه.
وإذا حسنت أخلاق الإنسان كثر محبوه وقلّ معادوه، فسهلت عليه الأمور الصعاب، ولانت له القلوب الغضاب، ونبتت على جوارحه المحاب، وسال لسانه بكل ما لذ وطاب.
فحسن الخلق ذهب بخيري الدنيا بالآخرة، وخيار الناس أحاسنهم أخلاقاً.
وأحسن البشرية أخلاقاً على الإطلاق سيد الأولين والآخرين، وسيد ولد آدم، وسيد الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه ربه: (? ? ? ںں) [القلم: 4].
ولحسن خلقه صلى الله عليه وسلم وكمال أدبه، فهو محمود عند الله.. ومحمود عند ملائكته.. ومحمود عند إخوانه المرسلين.. ومحمود عند أهل الأرض كلهم.. وما فيه من صفات الكمال محمود عند كل عاقل.. وهو أحمد الخلق لربه.
وهو محمود بما يملأ به الأرض من الهدى والإيمان، والعلم النافع والعمل الصالح.. فتح الله به القلوب.. وكشف به الظلمة عن أهل الأرض.. واستنقذهم من أسر الشياطين.. ومن الشرك بالله والكفر به والجهل به.. ونال أتباعه شرف الدنيا والآخرة.
أغاث الله به البلاد والعباد.. وأحيا به الخليقة بعد الموت.. فهدى به من الضلالة.. وعلَّم به من الجهالة.. فعرف الناس ربهم ومعبودهم.
عرَّفهم بربهم.. وعرَّفهم بالطريق الموصل إليه.. وعرَّفهم بمالهم بعد القدوم عليه.
لم يدع حسناً إلا أمرهم به.. ولا قبيحاً إلا نهاهم عنه.. ولم يدع باباً من أبواب العلم النافع المقرب إلى الله إلا فتحه.. ولا مشكلاً إلا بيَّنه وشرحه.. ولا خيراً إلا رغَّب به.. ولا شراً إلا حذر منه.
حتى هدى الله به القلوب من ضلالها.. أرسله الله رحمة للعالمين.
فأي بشر أحق بأن يحمد منه صلى الله عليه وسلم ؟.(10/31)
فمحمد صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق، وأعظمهم أمانة، وأصدقهم حديثاً، وأجودهم، وأسخاهم، وأصبرهم، وأعظمهم عفواً ومغفرة ورحمة، وأعظم الخلق نفعاً للعباد في دينهم ودنياهم، وأشدهم تواضعاً، وأعظمهم إيثاراً على نفسه، وأقوم الخلق بما يأمر به، وأتركهم لما ينهى عنه.
ولما كانت هذه صفاته، وهذه أخلاقه، أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نقتدي به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
5- فقه الأدب
قال الله تعالى: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 102].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 11].
الأدب: هو اجتماع خصال الخير في الإنسان.
وأكمل الخلق أدباً هم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم من سار على هديهم من المؤمنين والصديقين.
والأدب ثلاثة أنواع:
أدب مع الله.. وأدب مع رسوله.. وأدب مع خلقه.
فالأدب مع الله يكون بصيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة، وصيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره، وصيانة إرادته أن تتعلق بما يمقته الله عليه.
فالعبد يصل بطاعة الله إلى الجنة.. ويصل بأدبه في طاعته إلى الله، وترك الأدب يوجب الطرد.
وأنفع الأدب: الفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك.
وحسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن.
والأدب مع الله حسن الصحبة معه، بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء، كحال مجالس الملوك كما قال سبحانه عن الأنبياء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 90].
والناس في الأدب ثلاث طبقات:
فأهل الدنيا: أكبر آدابهم في الفصاحة والبلاغة، وحفظ العلوم.
وأهل الدين: أكثر آدابهم في مخالفة النفوس، وتأديب الجوارح، وحفظ الحدود، وترك الشهوات.(10/32)
وأما أهل الخصوص: فأكبر آدابهم في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت، وحسن الأدب في مواقف الطلب ومقامات القرب.
والكمال لزوم الأدب ظاهراً وباطناً، فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهراً، وما أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب باطناً.
ومن تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة.
وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل، ولهذا كان الأدب استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القول إلى الفعل، ومن الباطن إلى الظاهر.
والأدب هو الدين كله.
فإن ستر العورة من الأدب.. والوضوء والغسل من الأدب.. والتطهر من الخبث من الأدب.. حتى يقف العبد بين يدي الله طاهراً.. والتجمل والتزين بين يدي الله في الصلاة من الأدب.. وخفض العبد بصره في الصلاة من الأدب.. وعدم قراءة القرآن في حال الركوع والسجود من الأدب، فإن القرآن كلام الله، وكلامه أشرف الكلام، وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام الله ألا يقرأ في هاتين الحالتين.
ومن الأدب مع الله ألا يستقبل بيته ولا يستدبره حال قضاء الحاجة.
ومن الأدب مع الله وضع اليد اليمنى على اليسرى عند الوقوف بين يديه في الصلاة.
فالأدب مع الله عزَّ وجلَّ هو القيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهراً وباطناً.
ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء:
معرفة الله بأسمائه وصفاته.. ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب وما يكره.. ونفس مستعدة قابلة لينة.. متهيئة لقبول الحق علماً وعملاً وحالاً.
وأما الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فالقرآن مملوء به:
فرأس الأدب معه الإيمان به.. وكمال التسليم له.. والانقياد لأمره.. وتلقي خبره بالقبول والتصديق، فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والقصد والخضوع والذل، والإنابة والتوكل.(10/33)
فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما:
توحيد المرسل.. وتوحيد متابعة الرسول..
فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف، حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 65].
وقال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [الحجرات: 1].
والتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته.
ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم ألا ترفع الأصوات فوق صوته، فإنه سبب لحبوط الأعمال، فما الرأي برفع الأراء على سنته وما جاء به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 2].
ومن الأدب معه ألا يجعل دعاءه كدعاء غيره، كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ??) [النور: 63].
وأما الأدب مع الخلق: فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم.
فلكل مرتبة أدب خاص.
فمع الوالدين أدب خاص، وللأب منهما أدب هو أخص به، وللأم أدب هي أخص به.
وللعالم أدب آخر يليق به.. ومع السلطان أدب يليق به.. وله مع الأفراد أدب يليق بهم.. ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه.. ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته.
ولكل حال من أحوال الإنسان آداب:
فللأكل آداب.. وللشراب آداب.. وللركوب آداب.. وللسفر آداب.. وللدخول والخروج آداب.. وللكلام آداب.. وللنوم آداب.. وللصحة آداب.. وللمرض آداب.. وللمجالس آداب.. وللنكاح آداب.. وهكذا.
وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره.
والأدب حفظ الحد بين الغلو والجفا، فالانحراف إلى أحد طرفي الغلو، والجفا هو قلة الأدب.
والأدب الوقوف في الوسط بين الطرفين، فلا يقصر بحدود الشرع عن تمامها، ولا يتجاوز بها ما جعلت حداً له، فكلاهما عدوان، والله لا يحب المعتدين، والعدوان سوء الأدب.(10/34)
فإضاعة الأدب بالجفاء كمن لا يكمل أعضاء الوضوء، ولم يوف الصلاة آدابها، وإضاعته بالغلو كالوسوسة في عقد النية، ورفع الصوت بها.
وفي حق الأنبياء:
لا يغلو فيهم كما غلت النصارى.. ولا يجفو عنهم كما جفت اليهود.
فالنصارى عبدوهم، واليهود قتلوهم وكذبوهم، والأمة الوسط المسلمون آمنوا بهم، وعزروهم، ونصروهم واتبعوا ما جاءوا به، كما قال سبحانه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ??) [الأعراف: 157].
وأما الأدب في حق الخلق، فلا يفرط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها بحيث يشتغل بها عن حقوق الله، أو عن تكليمها، أو عن مصلحة دينه وقلبه، ولا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية، فإن الطرفين من العدوان الضار، وحقيقة الأدب العدل، وكمال الأدب وحسنه من أعلى درجات العبودية.
والأدب على ثلاث درجات:
الأولى: منع الخوف ألا يتعدى إلى اليأس، وحبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن، وضبط السرور أن يضاهي الجرأة.
فلا يدع العبد الخوف من الله يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله، فهذا خوف مذموم، فالخوف الموقع في الإياس إساءة أدب على رحمة الله التي سبقت غضبه، والتي وسعت كل شيء كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 156].
وحد الخوف ما حجز الإنسان عن معاصي الله، فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه.
ولا يبلغ به الرجاء إلى حد يأمن معه العقوبة، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 99].
وحد الرجاء ما طيب لك العبادة، وحملك على السير.
وأما ضبط السرور فلا يقدر عليه إلا الأقوياء الذين لا تستفزهم السراء فتغلب شكرهم، ولا تضعفهم الضراء فتغلب صبرهم.(10/35)
الدرجة الثانية: الخروج عن الخوف إلى ميدان القبض، والصعود من الرجاء إلى ميدان البسط، ومن السرور إلى المشاهدة، فيقبض نفسه عن كل ما يسبب له العقوبة، ويطمئن إلى رحمة ربه، ويأنس به ويناجيه كأنه يراه بجلاله وجماله وكماله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
الدرجة الثالثة: معرفة الأدب، فإذا عرفه وصار له حالاً نسبه إلى ربه دون نفسه، ويغني عن نفسه وقيامها بالأدب بشهود الفضل لمن أقامها فيه، وشهود منته، وهو الله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 53،54].
والانبساط: إرسال سجية النفس مع الغير، وإزالة الوحشة الواقعة بين العبد ومن يحب بالانبساط إليه.
والانبساط إلى الخلق يكون بألا يعتزلهم ضناً على نفسه، أو شحاً على حظه، بل تحمله السماحة والجود على ترك العزلة، ومجالسة إخوانه، وانتفاعهم بمجالسته، ويؤثرهم على نفسه، فينالون من فضله.
وليسعهم بخلقه باحتمال ما يبدو منهم من سوء العشرة، ويوقرهم بلينه وتواضعه، ويخفض لهم جناحه، بحيث لا يترك لنفسه بينهم مرتبة يحترمونه من أجلها، مع حفظ حاله وقلبه مع الله.
والانبساط مع الحق سبحانه هو ألا يمنعك عن الانبساط إليه خوف، والبسط يأتي من مشاهدة أوصاف الجمال والإحسان، والتودد والرحمة.
والقبض يأتي من مشاهدة أوصاف الجلال والعظمة والكبرياء والعدل والانتقام.
ولا يحجبك رجاء، فإن الراجي يحجبه رجاؤه وطمعه فيما يناله من المعظم عن انبساطه إليه، فينبسط إلى ربه انبساط فرح وسرور، ويأنس به، ويتملقه ويبتهج به.
اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، غيرضالين ولا مضلين.
6- فقه مكارم الأخلاق(10/36)
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الحجرات: 13].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 133-135].
الأدب: هو استعمال ما يحمد وما يحسن من الأقوال والأعمال ومكارم الأخلاق.
ومكارم الأخلاق: هي مجموع الصفات الحسنة التي يتزين بها الإنسان ابتغاء وجه ربه، ويتميز بها عن غيره، فيحبه الله ويحبه الناس بسببها كالإيمان بالله، وكمال الطاعة لله ورسوله، والعمل بشرعه، والإحسان إلى الناس، وكف الأذى عنهم، واحتمال أذاهم، واستعمال الأخلاق الكريمة معهم، والصفح عن عثراتهم، وحسن الخلق معهم، وبذل الندى، وترك ما تهوى لما تخشى.
وأن لا يشهد العبد لنفسه فضلاً، ولا يرى له حقاً، يعم الناس بفضله ونصحه وبره كما تعم الشمس بنورها سائر الخلق، فهم يحبونها لنورها ونفعها، ومن لا نور فيه ولا نفع فمن ذا يحبه؟.
ومكارم الأخلاق على ثلاث درجات:
الأولى: ترك خصومة الخلق، والتغافل عن زلاتهم، ونسيان أذاهم، فلا ينصب نفسه خصماً لأحد غير نفسه، فلا يخاصم بلسانه ولا بقلبه، ولا يخطر على باله، هذا في حق نفسه.
وأما في حق ربه فيخاصم بالله وفي الله، ويحاكم إلى الله، وإذا رأى من أحد زلة أظهر أنه لم يرها؛ لئلا يعرض صاحبها للوحشة، ويريحه من تحمل العذر أمامه، ومن أحوج عدوه إلى الشفاعة، ولم يخجل من قيامه بين يديه معتذراً، لم يكن له في الفتوة نصيب.
والتغافل عن الزلات: أكمل وأرفع من الكتمان مع الرؤية، وينسى أذية من ناله بأذى ليصفو قلبه له، ولا يستوحش منه من آذاه.
ومن مكارم الأخلاق نسيان إحسانك إلى من أحسنت إليه، حتى كأنه لم يصدر منك، وهذا النسيان أكمل من الأول.(10/37)
الثانية: أن تكرم من يؤذيك، وتقرب من يقصيك، وتعتذر إلى من يجني عليك، وتعطي من حرمك سماحة لا كظماً، ومودة لا مصابرة، فتحسن إلى من أساء إليك، وتعامله بضد ما عاملك به، فتنقلب عداوته لك صداقة، وبغضه محبة، وأذاه إحساناً كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [فصلت: 34،35].
ومن أراد فهم هذه الدرجة فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس، يجدها هذه بعينها، ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه، ثم للناس منها بحسب إيمانهم ومجاهدتهم.
ومن مكارم الأخلاق أن ينزل العبد نفسه مع الناس منزلة الجاني لا المجني عليه، والجاني خليق بالعذر، والله سلطه عليك بذنبك.
وإذا علمت أنك بدأت بالجناية، فانتقم الله منك على يده كنت في الحقيقة أولى بالاعتذار، وتفعل هذا كله عن سماحة نفس، وانشراح صدر، لا عن كظم وضيق ومصابرة، فإن هذا دليل على أن هذا ليس في خلقك، وإنما هو تكلف يوشك أن يزول إذا فقد سببه.
الدرجة الثالثة: أن يسير العبد إلى الله على قدم اليقين، وطريق البصيرة والمشاهدة، ولا يتعلق في سيره بدليل، فهو لا يفتقر إلى دليل على وجود المطلوب سبحانه.
ولا يستغني طرفة عين عن الدليل الذي يوصله إلى المطلوب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيقتدي بسننه وآدابه في جميع أحواله، لتحصل له محبة الله له، ومغفرة ذنوبه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [آل عمران: 31].
وأحسن أحوال العبد أن يكون ذاكراً لربه في كل حال، مقدماً لمحبته على كل محبوب، ويرجوه ويخافه وحده لا شريك له، ويتقيه ويخشاه والله عزَّ وجلَّ لا يدخل حبه في قلب العبد حتى يخرج العبد حب غيره من قلبه، ولا يدخل عظمته في قلبه حتى يخرج العبد عظمة غيره من قلبه.
وخشية الله تحصل بأمرين:
العبادة.. والدعوة.
فالدعوة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 39].(10/38)
والعبادة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [التوبة: 18].
ومن مكارم الأخلاق حسن ظن العبد بربه، وحسن الظن إنما يكون مع الإحسان، فإن المحسن حَسَّن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه، ويقبل توبته، وأما المسيء المصر على الكبائر والمعاصي والظلم، فإن وحشة ذلك تمنعه من حسن الظن بربه، فالمسيء مستوحش بقدر إساءته، وأحسن الناس ظناً بربه أطوعهم له.
فالمؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، والفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [فصلت: 23].
7- فقه المروءة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? چ چچ) [الأعراف: 199].
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «السَّاعِي عَلَى الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله». وَأحْسِبُهُ قَالَ: «كَالْقَائِمِ لا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لا يُفْطِرُ» متفق عليه(1).
المروءة: استعمال كل خلق حسن، واجتناب كل خلق قبيح، واستعمال ما يجمل العبد ويزينه، وترك ما يدنسه ويشينه.
وفي نفس كل إنسان ثلاثة دواع متجاذبة:
داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشياطين من الكبر والحسد، والبطر والعلو، والبغي والشر، والظلم والفساد، والغش والأذى.
وداع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الحيوان، وهو داعي الشهوة والحرص والطمع.
وداع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الملائكة من الإحسان والنصح، والبر والعلم، وحسن الطاعة، وكمال الاستقامة.
فحقيقة المروءة: بغض الداعيين الأولين، وإجابة الداعي الثالث.
وقلة المروءة: إجابة ذينك الداعيين، وترك الثالث.
والمروءة لها ثلاث مراتب:
المروءة مع النفس.. والمروءة مع الخلق.. والمروءة مع الحق.
فالمروءة مع النفس، تكون بحملها قسراً على ما يجمل ويزين، وترك ما يدنس ويشين، ليصير لها ملكة في العلانية.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6007)، واللفظ له، ومسلم برقم (2982).(10/39)
فمن أراد شيئاً في سره وخلوته ملكه في جهره وعلانيته، فلا يفعل خالياً ما يستحي من فعله في الملأ إلا ما يحضره الشرع والعقل كالجماع والتخلي ونحو ذلك.
الثانية: المروءة مع الخلق، بأن يستعمل معهم الحياء والخلق الجميل، وحسن الأدب، ومكارم الأخلاق، ولا يظهر لهم ما يكرهه هو من غيره.
الثالثة: المروءة مع الحق سبحانه، بالاستحياء من نظره إليك، وإصلاح عيوب النفس قدر الإمكان، فإن الله قد اشتراها منك، وليس من المروءة تسليم المبيع على ما فيه من العيوب، وتقاضي الثمن كاملاً.
وحقوق المروءة كثيرة، وشروطها في نفس الإنسان مع الاستقامة ثلاثة:
الأول: العفة: وهي نوعان: العفة عن المحارم.. والعفة عن المآثم.
الثاني: النزاهة: وهي نوعان: النزاهة عن المطامع الدنيوية.. والنزاهة عن مواقف الريبة.
الثالث: الصيانة: وهي نوعان: صيانة النفس بالتزام كفايتها.. وصيانتها عن تحمل المنن من الناس؛ لأن المنَّة تحدث ذلة.
أما شروط المروءة في الغير فهي ثلاثة:
المؤازرة: وهي نوعان: الإسعاف بالجاه، ويكون من الأعلى قدراً، وربما كان أعظم من المال نفعاً، ومن بخل به فهو أسوأ من البخيل بماله، والإسعاف في النوائب.
الثانية: المياسرة، وهي نوعان:
العفو عن الهفوات.. والمسامحة في الحقوق.
الثالثة: الإفضال، وهو نوعان:
إفضال اصطناع، وهو ما أسداه إلى غيره جوداً وكرماً.
وإفضال استكفاف، وهو الكف عن السفهاء؛ لأن ذا الفضل لا يعدم حاسد نعمة يبعثه اللؤم على البداء بسفهه.
والفرق بين العقل والمروءة، أن العقل يأمرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأجمل.
والمروءة صدور الأفعال الجميلة الممدوحة شرعاً وعقلاً وعزماً من الإنسان لكافة المخلوقات.(10/40)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ» متفق عليه(1).
8- فقه الإيثار
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 9].
وقال الله تعالى: (? ? ? ?? پ پ پپ) [الأعلى: 16،17].
الإيثار: أن يؤثر الإنسان غيره بالشيء المحبوب مع حاجته إليه.
وعكسه الأثرة: وهي استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه.
والفرق بين الإيثار والأثرة:
إن الإيثار تخصيص الغير بما تريده لنفسك، والأثرة اختصاصك به على الغير.
والإيثار له حالتان:
فهو إما أن يتعلق بالخلق.. وإما أن يتعلق بالخالق.
فإن تعلق بالخلق فكماله أن تؤثرهم على نفسك، بما لا يضيع على الإنسان وقتاً، ولا يفسد عليه حالاً، ولا يهضم له ديناً، ولا يسد عليه طريقاً، ولا يمنع له وارداً.
فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك فإيثار نفسك عليهم أولى، فإن المؤمن حقاً من لا يؤثر بنصيبه من الله أحداً كائناً من كان.
فإن الإيثار المحمود الذي أثنى الله على أهله الإيثار بالدنيا من طعام ومال، ومسكن ومركب ونحو ذلك، لا بالوقت والدين، وما يعود بصلاح القلب كما وصف الله الأنصار بذلك ومدحهم به بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 9].
والله عزَّ وجلَّ أمر المسلمين بالمسابقة في أعمال البر والخير، والمسارعة إليها، والمنافسة فيها، والقرعة عند التزاحم عليها، وهذا ضد الإيثار بها.
فلم يجعل الله الطاعات والقربات محلاً للإيثار، بل محلاً للتنافس والمسابقة، فلا يستحب الإيثار بالقربات؛ لأن الإيثار بها قد يشعر بالزهد فيها، والاستغناء عنها، وعدم الحاجة إليها.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3467)، واللفظ له، ومسلم برقم (2245).(10/41)
كما أن الإيثار إنما يكون بالشيء الذي يضيق عن الاشتراك فيه كالطعام والشراب، واللباس والمركب، والمجلس ونحو ذلك.
أما أعمال البر والطاعات فلا ضيق على العباد فيها، فلو اشتركت الألوف المؤلفة في الطاعة الواحدة كالصلاة والصوم لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم، ووسعتهم كلهم، وأن قدر التزاحم في عمل واحد، فإن في العزم والنية الجازمة على فعله من الثواب ما لفاعله.
وأيضاً فالمقصود رغبة العبد في التقرب إلى الله، والمنافسة في محابه، والإيثار بهذا التقرب يدل على رغبته عنه، وعدم المنافسة فيه، وهذا غير مناسب.
وإيثار المحبوب نوعان:
إيثار معاوضة ومتاجرة.. وإيثار حب وإرادة.
فالأول: يؤثر محبوبه على غيره طلباً لحظه منه.
والثاني: يؤثره إجابة لداعي محبته، فإن المحبة الصادقة تدعوه دائماً إلى إيثار محبوبه بكل ما يحب، فإيثاره هو أجل حظوظه، فحظه في نفس الإيثار، لا في العوض المطلوب بالإيثار.
وهذا مطلب عال لا تفهمه إلا النفس اللطيفة المشرقة الورعة، وأما النفس الكثيفة فلا خبر عندها من هذا، وما هو بعشها فلتدرج.. والدين كله.. والمعاملة كلها في الإيثار، فإنه تقديم وتخصيص لمن تؤثره بما تؤثره به على نفسك، ومن آثر الله على غيره آثره الله على غيره.
والنفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار، ولكن الذي يسهل على النفس هذا الإيثار أمور:
أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق، ومعاليها، فإن من أفضل أخلاق الإنسان وأشرفها وأعلاها الإيثار، وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله.
الثاني: النفرة من خلق اللئام، ومقت الشح وكراهته له.(10/42)
الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله لبعض المسلمين على بعض، فهو يرعاها حق رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف على حده، بل لا بدَّ من مجاوزته إلى الفضل، أو التقصير عنه إلى الظلم، فهو لخوفه من تضييع الحق والدخول في الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره، ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا، وجزيل الأجر في الآخرة، مع ما يجلبه من البركة، وفيضان الخير عليه.
والأخلاق ثلاثة:
خلق الإيثار: وهو خلق الفضل.
وخلق التسوية: وهو خلق العدل.
وخلق الاستئثار والاستبداد: وهو خلق الظلم.
فصاحب الإيثار محبوب مطاع مهيب، وصاحب العدل لا سبيل للنفوس إلى أذاه والتسلط عليه، ولكنها لا تنقاد إليه انقيادها لمن يؤثرها.
وصاحب الاستئثار، النفوس إلى أذاه والتسلط عليه أسرع من السيل في حدوره، وهل أزال الممالك وقلعها من جذورها إلا الظلم والاستئثار والاستبداد، فإن أصعب شيء على النفوس هذه الصفات، فإنه لا صبر لها عليها.
والإيثار ضد الشح، ومراتبه ثلاثة:
أحدها: أن يعطي غيره الأكثر، ويبقى له شيئاً، فهو الجود.
الثاني: أن لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه، فهو سخاء.
الثالث: أن يؤثر غيره بالشيء المحبوب مع حاجته إليه، فهو الإيثار وهو أعلى المراتب.
فهذا الإيثار المتعلق بالخلق.
وأما الإيثار المتعلق بالخالق فهو أجلّ من هذا وأفضل، وهو إيثار حب الله على حب غيره، وإيثار رضاه على رضا غيره، وإيثار خوفه على خوف غيره، وإيثار رجائه على رجاء غيره، وإيثار الذل له سبحانه، والخضوع له، والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره، وإيثار الطلب منه، والسؤال له، وإنزال الفاقات به وحده دون غيره.
فالأول آثر بعض العبيد على نفسه فيما هو محبوب له، وهذا آثر الله على نفسه وغيره من أعظم الأغيار، فآثر الله عليها، وترك محبوبها لمحبوب الله عزَّ وجلَّ.
وعلامة هذا الإيثار شيئان:(10/43)
الأول: فعل ما يحب الله إذا كانت النفس تكرهه وتهرب منه.
الثاني: ترك ما يكرهه الله إذا كانت النفس تحبه وتهواه.
فبهذين الأمرين يصح مقام الإيثار.
ومؤنه هذا الإيثار شديدة؛ لغلبة الأغيار، وقوة داعي العادة والطبع، ولا تتم سعادة العبد وفلاحه إلا به، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
فحقيق بالعبد أن يسمو إليه وإن صعب المرتقى، والذي يسهله على العبد أمور:
أحدها: أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة.
الثاني: أن يكون إيمانه راسخاًَ، ويقينه قوياً، فإن الإيثار ثمرة الإيمان.
الثالث: قوة صبره وثباته.
والإيثار ضد الشح، فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شيء شح به، وبخل بإخراجه.
فالبخل ثمرة الشح، والشح يأمر بالبخل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» أخرجه مسلم(1).
وقد وصف الله عزَّ وجلَّ الأنصار بالإيثار، وأخبرهم أنهم سيلقون بعده أثرة فليصبروا كما قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي، وَمَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ» متفق عليه(2).
وقد وقع ما قال صلى الله عليه وسلم من استئثار الناس على الأنصار في الدنيا، وهم أهل الإيثار، ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس.
فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته، ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة.
فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك مع كونك من أهل الإيثار، فاعلم أنه لخير يراد بك.
والإيثار على ثلاث درجات:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2578).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3793)، واللفظ له، ومسلم برقم (1845).(10/44)
الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك ديناً، ولا يقطع عليك طريقاً، ولا يفسد عليك وقتاً، كأن تطعمهم وتجوع، وتسقيهم وتظمأ، وتريحهم وتتعب، بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب ما لا يجوز في الدين، ولا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك لربك، ومثل أن يؤثر بوقته غير ربه.
فكل سبب يعود على الإنسان بصلاح قلبه ووقته وحاله مع الله فلا يؤثر به أحداً من الناس، فإن آثر به فإنما يؤثر الشيطان على الله، وهو لا يعلم.
الثانية: إيثار رضا الله على رضا غيره، ولو غضب الخلق كلهم، وهي درجة الأنبياء والمرسلين، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا صلى الله عليه وسلم فإنه قاوم العالم كله، وتجرد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة القريب والبعيد في الله.
وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه، ولم يأخذه في إيثار رضا ربه لومة لائم حتى أظهر الله دينه.
وقد جرت سنة الله التي لا تتبدل أن من آثر مرضاة الله على مرضاة الخلق، أن يرضى الله عنه، ويرضى عنه الخلق، فتنقلب مخاوفه أماناً، وتعبه راحة، وبليته نعمة.
ومن آثر مرضاة الخلق على مرضاة ربه أن يسخط الله عليه، ويسخط عليه الناس، خاصة من آثر رضاه من الناس، ويخذله من جهته، ويجعل محنته على يديه.
فيعود حامده ذاماً، ومن آثر مرضاته مساخطاً، وتلك سنة الله.
ورضا الخلق لا مقدور ولا مأمور ولا مأثور فهو مستحيل، فلأن يسخطوا عليك وتفوز برضا الله عنك أحسن لك من أن يرضوا عنك، والله غير راض عنك، وكل من آثر رضا الله فلا بدَّ أن يعاديه أراذل العالم وجهالهم، وأهل البدع والفجور منهم، وأهل الرياسات الباطلة، وكل من يخالف هديُه هديَه.
الثالثة: أن ينسب العبد إيثاره إلى الله دون نفسه، وأنه سبحانه هو الذي تفرد بالإيثار دون الإنسان، فهو المؤثر حقيقة، إذ هو المعطي حقيقة، والمالك لكل شيء، والمعين لكل أحد.
والناس صنفان:(10/45)
منهم من يؤثر الدنيا على الآخرة، ويختار نعيمها المنغص المكدر على نعيم الآخرة، وهم الكفار.
ومن يؤثر الآخرة على الدنيا، ويؤثر نعيمها وسرورها الدائم الكامل على نعيم الدنيا الناقص الزائل، وهم المؤمنون.
والمؤمن العاقل يختار الآخرة؛ لأنها خير من الدنيا في كل وصف مطلوب، وأبقى لكونها دار خلد وبقاء وصفاء، والدنيا دار فناء.
وحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل خطيئة، وذلك ثمرة فساد العقل والقلب: (? ? ? ??پ پ پپ) [الأعلى: 16،17].
9- فقه الحكمة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 269].
وقال الله تعالى: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 125].
الحكمة: هي العلم النافع، والعمل الصالح.
وكمال العبد متوقف على الحكمة، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية:
فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق، ومعرفة المقصود به.
وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير، وترك الشر.
وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل، وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك.
فالحكمة: معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل.
والحكمة نوعان: علمية، وعملية.
فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقاً وأمراً، وقدراً وشرعاً.
والعملية: هي وضع الشيء في موضعه.
والحكمة على ثلاث درجات:
الأولى: أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعديه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه، وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعاً وقدراً.
فإضاعتها تعطيل للحكمة، بمنزلة إضاعة البذر، وسقي الأرض، وتعدي الحق، كسقيها فوق حاجتها، بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد.
وتعجيلها عن وقتها كحصاد الزرع قبل إدراكه وكماله، وترك الغذاء والشراب واللباس إخلال بالحكمة، وتعدي الحد المحتاج إليه خروج عنها.
وتعجيل الشيء قبل وقته إخلال بالحكمة، وتأخيره عن وقته إخلال بها كذلك.(10/46)
فالحكمة إذاً.. فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.
والله تبارك وتعالى أورث الحكمة آدم وبنيه، فالرجل الكامل من له إرث كامل من أبيه، والناس فيه درجات، والتفاوت في ذلك لا يحصيه إلا الله تعالى.
وأكمل الخلق في ذلك الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأكملهم أولو العزم، وأكمل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم .
ولهذا امتن الله عليه وعلى أمته بما آتاهم من الحكمة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 151].
فكل خلق، وكل أمر، وكل حركة، وكل سكون، وكل موجود، مرتبط بهذه الصفة، وكل نظام في الوجود قائم على هذه الصفة، وكل خلل في الوجود والتصرفات فسببه الإخلال بها.
فأكمل الناس أوفرهم منها نصيباً.. وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلهم منها ميراثاً.
والحكمة لها ثلاثة أركان:
العلم.. والحلم.. والأناة.
وآفاتها وأضدادها: الجهل والطيش والعجلة، فلا حكمة لجاهل، ولا طائش، ولا عجول.
الدرجة الثانية: أن تشهد نظر الله في وعده، وتعرف عدله في حكمه، وتلحظ بره في منعه، فتعرف عدله في وعيده، وإحسانه في وعده.
وكل قائم بحكمته كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [الأنعام: 160].
وكذلك تعرف عدل الله في أحكامه الشرعية، وأحكامه الكونية الجارية على الخلائق، فإنه لا ظلم فيها ولا حيف ولا جور، وإن أجراها على أيدي الظلمة فهو أعدل العادلين، ومن جرت على يديه فهو الظالم كما قال سبحانه: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 40].
وكذلك تعرف بره في منعه، فإنه سبحانه هو الجواد الذي لا ينقص خزائنه الإنفاق، وما منع من منعه فضله إلا لحكمة كاملة في ذلك.
فإنه الجواد الحكيم، وحكمته لا تناقض جوده.
فهو سبحانه حكيم خبير، لا يضع بره وفضله إلا في موضعه ووقته، بقدر ما تقتضيه حكمته: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 27].(10/47)
ولو علم الله في الكفار خيراً وقبولاً لنعمة الإيمان، وشكراً له عليها، ومحبة لها، واعترافاً بها، لهداهم إلى الإيمان.
ولهذا لما قالوا للمؤمنين: أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا؟. فأجابهم الله بقوله: (? ? ? ? ?) [الأنعام: 53].
فالله سبحانه ما أعطى إلا بحكمته، ولا منع إلا بحكمته، ولا هدى إلا بحكمته، ولا أضل إلا بحكمته.
الثالثة: أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم، وهي البصيرة التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر واضحاً جلياً.
والفراسة: نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن، يفرق به بين الحق والباطل، والمؤمن والمنافق، والصادق والكاذب.
والفراسة على حسب الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحدُّ فراسة، ومن غضّ بصره عن الحرام، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بالمراقبة، وظاهره باتباع السنة، ولسانه بدوام ذكر الله، وتعود أكل الحلال، واجتنب الحرام، لم تكد تخطئ له فراسة.
وللفراسة سببان:
أحدهما: جودة ذهن المتفرس، وحدة قلبه، وحسن فطنته.
الثاني: ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه.
فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطئ للعبد فراسة، وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة، وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر، كانت فراسته بين بين.
والحكمة في القرآن وردت على عدة أوجه:
الأول: صفة من صفات الله عزَّ وجلَّ، والمراد بها إيجاد الأشياء على غاية الأحكام والدقة كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 18].
الثاني: القرآن الكريم كما قال سبحانه: (?? ? ??) [يس: 1،2].
الثالث: السنة النبوية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 129].
الرابع: الموعظة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [القمر: 5].
الخامس: العلم والفقه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 269].(10/48)
السادس: النبوة كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 63].
السابع: الفهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 12].
فسبحان الحكيم العليم الذي فتق الأرض بالنبات، وفتق الحبة عن الشجرة، وفلق ظلمة الليل عن ضوء النهار، وفلق ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنبوة.
الذي كما اقتضت رحمته وحكمته أن لا يترك عباده في ظلمة الليل سرمداً، بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم، كذلك اقتضت رحمته وحكمته أن لا يتركهم في ظلمة الجهل والغي، بل هداهم بنور الوحي والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم.
فما أسعد النفوس التي تأخذ به، وما أشقى النفوس التي تعرض عنه إلى حكم الجاهلية: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 50].
والله سبحانه جعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم بالدين، فياسعادة من عرف ربه، وعرف الطريق الموصل إليه، وعرف حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه، وعمل بموجب ذلك.
فالله عزَّ وجلَّ حكيم عليم، كما أنه البر الرحيم الودود المحسن، فهو الملك الحكيم العدل، فلا تناقض حكمته رحمته، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته.
وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته كما قال سبحانه: (? ? ??) [القلم: 35].
وقد فطر الله قلوب العباد على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان، وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام موضع العقوبة والانتقام.
فما بال بعض العقول والفطر لا تشهد حكمة الرب البالغة، وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها، وأحقها بالعقوبة، وهم الكفار الذين كفروا بالله ونعمه ودينه، والمشركون الذين أشركوا مع الله غيره من خلقه.
فهذه المحال لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق، ولظهرت مناقضة الحكمة.(10/49)
فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن ولا تجمل بأعداء الله الصادين عن سبيله.. الساعين في خلاف مرضاته.. الذين يعطلون ما حكم به.. ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره.. والحكم لغيره.. والطاعة لغيره.
والذين يحبون ما يبغض الله ويدعون إليه.. ويبغضون ما يحب الله، وينفِّرون الناس عنه.. ويوالون أعداءه وأبغض الخلق ويظاهرونهم على الله وعلى رسوله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 55].
10- فقه العزة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 10].
وقال الله تعالى: (گ گ ? ? ? ? ? ??) [المنافقون: 8].
العزة كلها لله تبارك وتعالى، فهو العزيز الذي لا يغلب، وليس شيء منها عند أحد سواه.
فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره وهو الله جل جلاله.
إن القبائل والعشائر، والجاه والسلطان، والأموال والعلوم، كل هذه ليست مصدراً للعزة، فإن العزة لله جميعاً، وإذا كانت لهؤلاء قوة، فمصدرها الأول هو الله.
وإذا كانت لهم منعة فواهبها الله، فمن كان يريد العزة فليأخذها من المصدر الأول، لا إلى الآخذ المستمد من هذا المصدر.
ليأخذ من الأصل الذي يملك وحده كل العزة: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [يونس: 65].
إن هذه الحقيقة إذا استقرت في القلب، استطاع هذا القلب أن يقف أمام الدنيا كلها عزيزاً كريماً ثابتاً شامخاً متكلاً على ربه:
إنه لن يحني رأسه لمخلوق متجبر.. ولا لعاصفة طاغية.. ولا لقوة من قوى الأرض جميعاً: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 3].
والعزة لا تنال إلا بطاعة الله، وتكون بالقول الطيب والعمل الصالح.
القول الطيب الذي يصعد إلى الله في علاه، والعمل الصالح الذي يرفعه الله إليه، ويكرمه بهذا الارتفاع، ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والاستعلاء كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ??) [آل عمران: 139].(10/50)
والعزة العليا حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس، حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها المسلم على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله:
حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي.. يستعلي بها على شهواته المذلة، ورغائبه القاهرة.. ومخاوفه ومطامعه من الناس.
ومتى استعلى على هذه فلن يملك أحد وسيلة لإذلاله وإخضاعه، فإنما تُذل الناس شهواتهم ورغباتهم، ومخاوفهم ومطامعهم، ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع، وعلى كل شيء، وعلى كل إنسان مهما كان وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان.
إن العزة ليست عناداً جامحاً يستكبر على الحق، ويتشامخ بالباطل.
وليست طغياناً فاجراً يضرب في عتو وتجبر وإصرار.
وليست اندفاعاً باغياً يخضع للنزوة، ويذل للشهوة.
وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا صلاح.
كلا.. إنما العزة التي يتحلى بها المسلم هي:
استعلاء على شهوات النفس.. واستعلاء على القيد والذل..
واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله.. ثم هي خضوع لله وخشوع.. وخشية لله وتقوى.. ومراقبة الله في السراء والضراء.
ومن هذا الخضوع ترتفع الجباه، ومن هذه الخشية تصمد لكل ما يأباه، ومن هذه المراقبة لا تعني إلا برضاه.
هذه هي العزة وذاك طريقها.
والذين يمكرون السيئات طلباً للعزة الكاذبة، والغلبة الموهومة، وقد يبدو في الظاهر أنهم أعلياء، وأنهم أعزاء، وأنهم أقوياء، ولكن القول الطيب هو الذي يصعد إلى الله، والعمل الصالح هو الذي يرفعه إلى الله، وبهما تكون العزة حقاً.
فأما المكر السيئ قولاً وعملاً فليس سبيلاً إلى العزة، ولو حقق القوة الطاغية الباغية في بعض الأحيان، إلا أن نهايته إلى البوار، وإلى العذاب الشديد، وعد الله لا يخلف الله وعده، وإن أمهل الكافرين بالسوء، حتى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله المرسوم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 10].(10/51)
والعزة كلها في عبادة الله وحده لا شريك له؛ لأنها تذكرني دائماً بأنني متساو أمام الله مع أكبر خلقه في الدنيا وأعلاهم شأناً.
وأنني أنا وهو نصلي معاً، ونصوم معاً، ونحج معاً، ونذكر الله معاً، ونتلو القرآن معاً، ونؤدي الطاعات كلها لله معاً، سواء بسواء.
هذا من جانب.
ومن جانب آخر فأنا عبد الله الذي لا يتركني أبداً، إذا أردت أن أقف بين يديه تطهرت واتجهت إلى القبلة، وقلت: الله أكبر، فأعظمه وأحمده، وأسأله وأستغفره، ثم أقدم التحية له وأنصرف.
وعظماء الدنيا إذا أردت من أحدهم شيئاً فدون ذلك عقبات وعقبات، فإذا تجاوزت تلك العقبات، وتمت المقابلة، وأردت أن تشرح ما جئت لأجله فقد لا يستمع إليك، ويقوم واقفاً لينهي المقابلة والمناقشة.
انظر إلى هذا كله ترى حجم الذلة والإهانات التي تمر بها في مقابلة واحدة، لمخلوق واحد.
ثم انظر إلى عبوديتك لله سبحانه، وأنت الذي تحدد الزمان والمكان، فالله موجود دائماً لتدعوه بما تريد، في أي وقت تريد، والله يستمع إليك، ويجيب دعوتك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 186].
والله سبحانه الغني عن كل ما سواه، لا يمل حتى تمل أنت، فلو ظللت طول الليل تناجي مولاك وتدعوه فالله معك يستمع إليك حتى تمل أنت، وتتوقف عن الدعاء.
إذاً فحسب نفسي عزاً أنني عبد الله يحتفي بي بلا مواعيد، ويضاعف لي أجور عملي، ويكرمني بالدخول عليه، والوقوف بين يديه كل وقت، وفي أي مكان، أطلب ما أريد، واستغفره من كل ذنب، وأسأله كل خير.
فأي عزة للمؤمن فوق هذا في الدنيا؟
والعزة في الآخرة أعظم وأكبر، حيث النعيم المقيم في الجنات، ورضوان رب الأرض والسموات: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 72].
والله تبارك وتعالى هو العزيز الكامل في عزته، له عزة القوة وعزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة لكل الكائنات.
فهو العزيز الذي يهب العزة لمن يشاء من عباده.(10/52)
والعزيز من العباد من يحتاج إليه الناس في أهم أمورهم، وهي الحياة الأخروية والسيادة الأبدية، وهذه رتبة الأنبياء والرسل، ويشاركهم في العز من ينفرد بالقرب من درجتهم كالخلفاء والعلماء، وعزة كل واحد منهم بقدر علو مرتبته في الاستقامة، وبقدر عنائه في إرشاد الخلق.
والعزة نوعان:
عزة محمودة... وعزة مذمومة.
ووجه ذلك أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين هي الدائمة الباقية، وهي العزة الحقيقية كما قال سبحانه: (گ گ ? ? ? ? ? ??) [المنافقون: 8].
فالله سبحانه هو العزيز، وعزه سبحانه هو المصدر لكل عزة، وعز الرسل والمؤمنين مستمد من عِزِّ الله عزَّ وجلَّ، وعلى هذا فالعز كله لله، والعزة التي عند الإنسان لا تكون فضيلة محمودة إلا إذا استظلت بظل الله، واحتمت بحماه، أما عزة الكفار المذكورة في قوله سبحانه: (پ پ پ ? ? ??) [ص: 2]، فهذه العزة هي التعزز، وهو في الحقيقة ذل؛ لأنه تَشَبُّعٌ من الإنسان بما لم يعطه؛ لأن كل عز ليس بالله فهو ذل، كما يتعزز الكفار بالآلهة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چچ چ چ ? ? ? ? ??) [مريم: 81،82].
اللهم أنت العزيز الذي لا يغلب، القوي الذي لا يعجزه شيء، القاهر الذي قهر كل شيء، أعز الإسلام والمسلمين، وأخذل من خذل الدين، وانصر عبادك الموحدين، يا قوي يا عزيز نعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تذلنا أو تضلنا.
11- فقه المحبة
قال الله تعالى: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?ں) [البقرة: 165].
وقال الله تعالى: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 24].
المحبة: ميل النفس إلى ما تراه وتظنه خيراً.
وحقيقتها: ابتهاج القلب وسروره بربه لكماله وجلاله، وجماله وإحسانه.
وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فرض، والناس فيه متفاوتون، وتفاوتهم بحسب معرفتهم بربهم وأسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه وإحسانه.(10/53)
وأسعد الخلق في الدنيا والآخرة أقواهم وأشدهم حباً لله تعالى:
أما في الدنيا: فأنسهم به، ولذتهم بمناجاته وعبادته.
وأما في الآخرة: فبالقدوم عليه، والأنس برؤيته، ودوام رضاه، وسماع كلامه.
وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه، ودوام مشاهدته من غير منغص ولا مكدر، ومن غير رقيب ولا مزاحم، ومن غير خوف انقطاع.
إلا أن هذا النعيم على قدر قوة الحب، فكلما ازدادت المحبة ازداد العمل، ثم ازدادت اللذة.
وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن؛ لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة، لكنه يختلف قوة وضعفاً بحسب المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وقوة الحب لله تحصل بأمرين:
أحدهما: قطع علائق الدنيا، وإخراج حب غير الله من القلب، فإن القلب مثل الإناء، إذا امتلأ بشيء لم يتسع لغيره: (? ? ? ? ? ??) [البقرة: 222].
الثاني: معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة آلائه وإحسانه.
والمحبة ضربان:
أحدهما: محبة طبيعية، وذلك يكون من الإنسان والحيوان كحب الطعام والشراب.
الثاني: محبة اختيارية، وذلك مختص بالإنسان.
والمحبة الاختيارية ضروب كثيرة، وأفضلها حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ودينه وشرعه، والمؤمنين والمتحابين في الله.
والعبودية معقودة بالمحبة، بحيث متى انحلت المحبة لله انحلت العبودية.
والمرء مع من أحب، وإذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص والمتابعة للمصطفى صلى الله عليه وسلم ، أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها.
ولا يزال سعي المحب صاعداً إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 10].
والأسباب الجالبة للمحبة:(10/54)
قراءة القرآن بالتدبر.. التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.. دوام ذكر الله على كل حال باللسان والقلب والعمل.. إيثار محاب الله على محاب العبد.. مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته وأفعاله، فمن عرف الله أحبه لا محالة.. مشاهدة بر الله وإحسانه، ونعمه الباطنة والظاهرة، فكل ذلك داع إلى محبته.. انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى.. الخلوة بالله وقت النزول الإلهي لمناجاته، وتلاوة كلامه وذكره، وتعظيمه وحمده واستغفاره.. مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطيب ثمرات كلامهم.. ومباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عزَّ وجلَّ.
وعلامة صحة محبة الله:
الذل للمؤمنين.. الشدة على الكافرين.. الجهاد في سبيل الله.. عدم الخوف إلا من الله.
قال الله تعالى: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 54].
والناس قبيل واحد تجمعهم الإنسانية، وهم إما أن يكونوا فضلاء أو نقصاء.
فالفضلاء تجب محبتهم لموضع فضلهم وحسن تقواهم، والنقصاء تجب رحمتهم لأجل نقصهم، فينبغي لمحب الكمال أن يكون رحيماً لجميع الناس، متحنناً عليهم، رؤوفاً لهم، متودداً إليهم، خاصة الملك والراعي، فإن الملك لا يكون ملكاً ما لم يكن محباً لرعيته رؤوفاً بهم؛ لأنه بمنزلة رب الدار.
والمحبة والعدل من أسباب نظام الناس، ولو تحاب الناس وتعاملوا بالمحبة؛ لأستغنوا بها عن العدل، فالعدل خليفة المحبة، يستعمل حيث لا توجد المحبة، ولهذا عظَّم الله المنة بإيقاع المحبة بين المسلمين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 62،63].
ومحبة العبد لله يدعيها كل أحد، لكن ينبغي ألا يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان وخداع النفس مهما ادعت محبة الله، ما لم يمتحنها بعلامات تدل عليها.(10/55)
فالمحبة شجرة طيبة في القلب، أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح، وتدل تلك الآثار عليها كدلالة الدخان على النار، ودلالة النور على الشمس.
ومن علامات محبة العبد لله:
حب لقاء الله، فلا يتصور أن يحب القلب محبوباً إلا ويحب مشاهدته ولقاءه.
وأن يكون العبد مؤثراً ما يحبه الله على ما يحبه هو في ظاهره وباطنه، فلا يزال مواظباً على طاعة الله، ومتقرباً إليه بالنوافل، وطالباً عنده مزايا الدرجات كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه:
وأن يكون مولعاً بذكر الله تعالى، لا يفتر عنه لسانه، ولا يخلو عنه قلبه، فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره.
فعلامة حب الله حب ذكره وحب كلامه، وحب رسله، وحب كل ما ينسب إليه، وكل ما يحبه.
ومنها أنسه بالخلوة ومناجاته لله تعالى، وتلاوة كتابه، والمواظبة على التهجد.
ومنها ألا يتأسف على ما يفوته مما سوى الله عزَّ وجلَّ، ويعظم تأسفه على فوت كل ساعة خلت عن ذكر الله تعالى وطاعته.
ومنها أن يتلذذ بطاعة الله تعالى ويتنعم بها، ولا يستثقلها؛ بل يفرح بها.
ومنها أن يكون مشفقاً على جميع عباد الله، رحيماً بهم، شديداً على جميع أعداء الله، وعلى كل من يفارق شيئاً مما يكرهه الله كما وصف الله ورسوله والمؤمنين بقوله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [الفتح: 29].
ومنها أن يكون في حبه خائفاً متضائلاً تحت الهيبة والتعظيم.
والمحبة نوعان:
محبة نافعة.. ومحبة ضارة.
فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع:
محبة الله.. ومحبة في الله.. ومحبة ما يعين على طاعة الله، واجتناب معصيته.
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع:
المحبة مع الله.. ومحبة ما يبغضه الله.. ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله أو تنقصها.
فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق:
فمحبة الله تعالى أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.(10/56)
والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها، ولا عيب على الإنسان في محبة زوجته وعشقه لها، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له، من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه حب الله ورسوله.
فكل محبة زاحمت حب الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة.
وإن أعانت على محبة الله ورسوله وطاعته، وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة كالطعام الطيب، والشراب الحلو البارد، والحلواء والعسل، ونحو ذلك، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه.
فإن نوى الإنسان به القوة على أمر الله تعالى، والاستعانة به على طاعته، كان ذلك قربة إلى الله.
وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يثب، ولم يعاقب.
فالمحبة النافعة: هي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه من السعادة والنعيم.
والمحبة الضارة: هي التي تجلب لصاحبها ما يضره من الشقاء والعذاب.
وكل حي فله إرادة وعمل بحسبه، وكل متحرك فله غاية يتحرك إليها، ولا صلاح له إلا أن تكون غاية حركته، ونهاية مطلبه هو الله وحده.
والحركة الطبيعية سببها ما في المتحرك من الميل، والطلب لكماله وانتهائه، كحركة النار للعلو، وحركة النبات للنمو.
والحركات الإرادية كلها تابعة للإرادة والمحبة التي تحرك المريد إلى فعل ما يفعله.
فالمحبة هي التي تحرك المحب في طلب محبوبه الذي يكمل بحصوله له:
فتحرك محب الرحمن.. ومحب القرآن.. ومحب العلم والإيمان.. وهي نفسها التي تحرك محب الأوثان.. ومحب الصلبان.. ومحب النسوان والمردان.. ومحب المتاع والأثمان.. ومحب الأوطان.. ومحب الإخوان.
فالمحبة تثير من كل قلب حركة إلى محبوبه من هذه الأشياء، فيتحرك عند ذكر محبوبه دون غيره.(10/57)
والنفس لا تترك محبوباً إلا لمحبوب أحسن منه، ولا تتحمل مكروهاً إلا لتحصيل محبوب، أو للتخلص من مكروه أشد منه، فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه مع قدرته إلا لما يحبه ويهواه، ولا يرتكب ما يكرهه ويخشاه إلا حذار من وقوعه فيما يكرهه ويخشاه.
وخاصية العقل التمييز بين مراتب المحبوبات والمكروهات بقوة العلم والتمييز، وإيثار أعلى المحبوبين على أدناهما، واحتمال أدنى المكروهين للتخلص من أعلاهما بقوة الصبر والثبات واليقين.
فأصل كل حركة في العالم من الحب والإرادة، فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات في العالم، كما أن البغض والكراهية مبدأ كل ترك وكف.
وقلوب البشر مفطورة على حب إلهها وفاطرها، وتأليهه وعبادته وطاعته، وصرف هذا التأله والمحبة والطاعة إلى غير الله تغيير للفطرة وكلما تغيرت فطر الناس بعث الله الرسل بصلاحها، وردها إلى حالتها التي خلقت عليها:
فمن استجاب لهم وآمن بما جاءوا به رجع إلى أصل الفطرة.
ومن لم يستجب لهم استمر على تغيير الفطرة وفسادها.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 30].
فنفس خلق الله لا تبديل له، فلا يخلق الخلق إلا على الفطرة، كما أن خلقه للأعضاء على السلامة من الشق والقطع، لا تبديل لنفس هذا الخلق، ولكن يقع التغيير في المخلوق بعد خلقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أو يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟». ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1359)، واللفظ له، ومسلم برقم (2658).(10/58)
وخلو القلب مما خُلق له من عبادة الله تعالى التي تجمع محبته وتعظيمه، والخضوع له، والذل له، والوقوف مع أمره ونهيه، وما يحبه وما يسخطه، هذا أكبر خطر عليه، فإن ذلك يسبب له الشقاء في الدنيا والآخرة.
وإذا كان في القلب وجدان حلاوة الإيمان، وذوق طعمه، أغناه ذلك عن محبة الأنداد، وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه، ويتخذه إلهه.
والحب في الله من كمال الإيمان.. والحب مع الله هو عين الشرك.
والدين كله يدور على أربع قواعد:
حب وبغض.. وفعل وترك.
فمن كان حبه وبغضه وفعله وتركه لله فقد استكمل الإيمان، وما نقص من إضافة هذه الأربعة إلى الله نقص من إيمانه بحسبه.
أما الحب مع الله فنوعان:
أحدهما: ما يقدح في أصل التوحيد وهو شرك، كمحبة المشركين لأصنامهم وأندادهم كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?ں) [البقرة: 165].
وهذه محبة تأله وموالاة يتبعها الخوف والرجاء والدعاء، وهذه المحبة محض الشرك الذي لا يغفره الله.
الثاني: محبة ما زينه الله للنفوس من النساء والبنين، والذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث، وهذه ثلاثة أنواع، ولها ثلاثة أحكام:
فإن أحبها توصلاً إلى طاعة الله، واستعانة بها على مرضاته، فهذه يثاب عليها.
وإن أحبها موافقة لطبعه وهواه، ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه، كانت من المباح الذي لا يعاقب عليه، ولكنه ينقص من كمال محبة الله.
وإن كانت هي المقصودة، وقدمها على ما يحب الله، كان ظالماً لنفسه، متبعاً لهواه، فهذه تقدح في كمال الإخلاص ومحبة الله، ولا تخرج من الإسلام.
والمحبة إذا كانت صادقة أوجبت للمحب تعظيماً لمحبوبه يمنعه من الانقياد إلى غيره، فالتعظيم إذا كان مجرداً عن الحب لم يمنع انقياد القلب إلى غير المعظم، وكذلك إذا كان الحب خالياً من التعظيم لم يمنع المحب أن ينقاد إلى غير محبوبه.(10/59)
فإذا اقترن الحب بالتعظيم، وامتلأ القلب بهما، امتنع انقياده إلى غير المحبوب.
والمحبة نوعان:
أحدهما: محبة خاصة، وهي المحبة المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره، وهذه المحبة لا يجوز تعليقها بغير الله أصلاً، ولا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحب بها غير الله كان شركاً لا يغفره الله.
والمقصود من الخلق والأمر إنما هو هذه المحبة، وهي أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دخل الجنة، اعترافه وإقراره بهذه المحبة، وإفراد الرب بها.
فهو أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله، وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها، فهي روح الإيمان، وساق شجرة الإسلام، وروح الإيمان والأعمال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد، فالكتاب هاد إليها، ودال عليها، ومفصل لها، والحديد لمن خرج عنها، وأشرك فيها مع الله غيره.
ولأجلها خلقت الجنة والنار، فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده فأخلصهم الله لها.
والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره، وسوى بينه وبين الله فيها.
الثاني: محبة مشتركة، وهي ثلاثة أنواع:
أحدهما: محبة طبيعية مشتركة كمحبة الجائع للطعام، ومحبة الظمآن للماء ونحو ذلك، وهذه المحبة لا تستلزم التعظيم.
الثاني: محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده الطفل ونحوها، وهذه أيضاً لا تستلزم التعظيم.
الثالث: محبة أنس وإلف، وهذه محبة المشتركين في صناعة أو علم أو تجارة أو سفر، بعضهم بعضاً، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضاً.
فهذه الأنواع الثلاثة هي المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركاً في محبة الله سبحانه.(10/60)
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان يحب نساءه، وكان أحبهن إليه عائشة رضي الله عنها، وكان يحب أصحابه رضي الله عنهم، وأحبهم إليه الصديق رضي الله عنه.
وإذا استقرت محبة الله في القلب، استدعت من المحب إيثار محبوبه على غيره، وهذا الإيثار علامة ثبوتها وصحتها وصدقها.
فإن آثر غير المحبوب عليه لم يكن محباً له، وإنما هو محب لحظه ممن يحبه.
والمحبة الخالصة أن يحب المحبوب لكماله.. وأنه أهل أن يحب لذاته وصفاته.. وأن الذي يوجب هذه المحبة فناء العبد عن إرادته لمراد محبوبه.. فيكون عاملاً على مراد محبوبه منه.. لا على مراده هو من محبوبه.
وحب الله ورسوله يكون بالإيمان بالله، وإحياء سنة رسول الله في شعب الحياة كلها في العبادات والمعاملات، وفي المعاشرات والأخلاق.
فهذا الذي يحب الله ورسوله بقلبه، وتظهر آثار هذه المحبة على بدنه وجوارحه، وصدق اعتقاده وقوله بفعله.
أما من يقول بلسانه أنا أحب الله ورسوله وهو يأكل الحرام، ويلبس لباس الكفار، ويتشبه باليهود والنصارى في لباسه وأكله، ومعاملاته ومعاشراته، فإنما يوبخ نفسه، ويشهد الله وخلقه على سوء فعله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [آل عمران: 31].
12- فقه الرحمة
قال الله تعالى: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [آل عمران: 159].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [الفتح: 29].
الله تبارك وتعالى أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وقد منَّ الله على رسوله بالرحمة، فألان جانبه لأصحابه، وخفض لهم جناحه، ورقق لهم قلبه، وحسَّن لهم أخلاقه، فاجتمعوا عليه، وأحبوه، وامتثلوا أمره.(10/61)
فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والمحبة، والثواب الخاص.
والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص.
فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول فكيف بغيره؟.
أليس من أوجب الواجبات وأهم المهمات الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم من اللين وحسن الخلق، وتأليف القلوب امتثالاً لأمر الله، واقتداءً برسول الله، وجذباً لعباد الله إلى دين الله.
والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فاقوا البشرية كلها بأحسن الصفات، وأجمل الأحوال والأقوال والأعمال.
فهم أشداء على الكفار، جادون ومجتهدون في عداوتهم، ولذلك ذلوا لهم، وانكسروا أمامهم، وقهرهم المسلمون.
وهم كذلك رحماء فيما بينهم، متحابون، متراحمون، متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب الواحد منهم لأخيه ما يحبه لنفسه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ: فِي تَرَاحُمِهِمْ، وَتَوَادِّهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْواً، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» متفق عليه(1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» متفق عليه(2).
هذه معاملتهم مع الخلق.
وأما معاملتهم مع الخالق فإنك: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [الفتح: 29].
فهذا دأبهم مع الخالق والمخلوق: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [السجدة: 16،17].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6011)، واللفظ له، ومسلم برقم (2586).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (481)، ومسلم برقم (2585) واللفظ له.(10/62)
قد أثرت العبادة من كثرتها وحسنها في وجوههم حتى استنارت، ولما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت بالجلال ظواهرهم.
والقلب إذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد، وامتلأ من محبة الله وإجلاله، رق وصارت فيه الرأفة والرحمة.
فتراه رحيماً رقيق القلب بكل ذي قربى، وبكل مسلم، وبكل مخلوق، يرحم الطير في وكره، والنملة في جحرها، فضلاً عن بني جنسه، فهذا أقرب القلوب من الله.
والله عزَّ وجلَّ إذا أراد أن يرحم عبداً أسكن في قلبه الرأفة والرحمة، وإذا أراد أن يعذبه نزع من قلبه الرحمة والرأفة، فَتَخَلَّق بالغلظة والقسوة، ولا تنزع الرحمة إلا من شقي.
فالدين كله رحمة للعالمين، والرسل إنما بعثوا بالرحمة، وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إنما فضل الأمة بما كان في قلبه من الرحمة العامة زيادة على الصديقية.
ولهذا أظهر أثرها في جميع مقاماته حتى في فداء الأسرى يوم بدر، واستقر الأمر على ما أشار به، وفي بذل ماله كله في سبيل الله، وفي هجرته مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي جهاده معه، ويوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأثناء خلافته، والله يجازي من هذه صفاته، وهذه رحمته، بالرضوان التام المؤكد يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ٹ ٹٹ ٹ ? ? ? ?? ? ??) [الليل: 17-21].
والله عزَّ وجلَّ هو الرب الرؤوف الرحيم، وأقرب الخلق إليه أعظمهم رأفة ورحمة، وأبعدهم منه من اتصف بضد ذلك.
ومن رحمته سبحانه أنه يفرح بتوبة العبد إذا تاب أعظم فرح وأكمله.
ومن كمال رحمته أنه يدعو من كفر به، وفتن أولياءه، وأحرقهم بالنار إلى التوبة كما قال سبحانه: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [البروج: 10].
فلا ييأس العبد من عفوه ومغفرته ورحمته، ولو كان فيه ما كان، فلا أكفر بمن حرق بالنار من آمن بالله وحده، ومع هذا لو تابوا لم يعذبهم، وألحقهم بأوليائه.(10/63)
والرحمة صفة وجدانية تعرض غالباً لمن به رقة القلب، وتكون مبدأً للانعطاف معه، والإحسان إليه، وهي محبة للمرحوم مع جزع من الحال التي من أجلها رحم.
ورحمة البشر لا تخلو عن رقة مؤلمة تعتري الرحيم فتحركه إلى قضاء حاجة المرحوم.
والرحمة التامة: إفاضة الخير على المحتاجين وإرادته لهم عناية بهم.
والرحمة العامة: هي التي تتناول المستحق وغير المستحق.
ورحمة الله عزَّ وجلَّ تامة وعامة.
أما تمامها، فمن حيث أنه أراد قضاء حاجات المحتاجين وقضاها.
وأما عمومها فمن حيث شمولها المستحق وغير المستحق، والدنيا والآخرة.
فهو سبحانه الرحيم مطلقاً، ورحمته وسعت كل شيء كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 156].
والرحمة سبب واصل بين الله وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله.. وأنزل عليهم كتبه.. وبها هداهم.. وبها يسكنهم دار ثوابه.. وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم.
والله تبارك وتعالى هو الرحمن وحده، العطوف على العباد بالإيجاد أولاً، وبالإمداد ثانياً، وبالهداية إلى الإيمان ثالثاً، وبالإسعاد في الآخرة رابعاً، وبالإنعام بالنظر إلى وجهه خامساً، وبسماع كلامه سادساً، وبرضوانه سابعاً.
والرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية.
فأرحم الناس من شق عليك في إيصال المصالح إليك، ودفع المضار عنك، فمن رحمة الأب بولده أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، وحسن الخلق، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل الأب ذلك كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه، فهذه رحمة مقرونة بجهل.
ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على الإنسان خاصة المؤمن، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فابتلاء الله له، وامتحانه، ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من كمال رحمته به.(10/64)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه(1).
ومن رحمته بعباده أن نغص عليهم الدنيا وكدرها عليهم لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا عن النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إليها بسياط الابتلاء والامتحان.
ومن رحمته بهم أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به.
وجميع المسلمين يرجون رحمة الله في جميع أعمالهم.
فالعابد يرجو بعبادته رحمة الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 9].
والمجاهد والمهاجر في سبيل الله والداعي إلى الله كلهم يرجون رحمة الله كما قال سبحانه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 218].
والرحمة صفة الأنبياء والصالحين كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 128].
والله تبارك وتعالى أرحم الراحمين، خلق مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، وجعل منها في الأرض واحدة، فيها يتراحم الخلق كلهم، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة.
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (143).(10/65)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَأنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أنْ تُصِيبَهُ» متفق عليه(1).
والراحمون يرحمهم الرحمن، ومن رحم أهل الأرض رحمه الذي في السماء، والرحمة حلية المؤمن، ولا تنزع الرحمة إلا من شقى، ومن رحم الناس رحمه الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَرْحَمُ الله مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ» متفق عليه(2).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» متفق عليه(3).
والدين عشرة أجزاء:
جزء فيما بين العبد وربه وهو عبادته وحده لا شريك له، والانقياد لأوامره ونواهيه محبة وذلاً وإخلاصاً له في جميع العبادات الظاهرة والباطنة، فهذا حق الله على العبد.
وتسعة أجزاء فيما بين العبد والخلق، وهي حقوق العباد الأقرب فالأقرب كما قال سبحانه: (?? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 36].
فمن رحم الخلق رحمه الله.. ومن أحسن إليهم أحسن الله إليه.. ومن عفا عنهم عفا الله عنه.
فمن قام بهذه الحقوق فهو الخاضع لربه، المتواضع لعباده، المنقاد لأمر الله وشرعه، الذي يستحق الثواب الجزيل، وذلك هو المؤمن.
ومن لم يقم بذلك فهو العبد المعرض عن ربه، غير منقاد لأوامره، ولا متواضع لخلقه، بل هو متكبر معجب بنفسه، فخور يثني على نفسه ويمدحها، والله لا يحب من كان مختالاً فخوراً.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6000)، ومسلم برقم (2752) واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7376)، واللفظ له، ومسلم برقم (2319).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1284)، واللفظ له، ومسلم برقم (923).(10/66)
فهؤلاء ما بهم من الاختيال والفخر يمنعهم من القيام بحقوق الله وعباده، ولهذا ذمهم الله بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 37].
فجمعوا بين البخل بالمال، والبخل بالعلم، وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم، وهذه هي صفات الكافرين.
فكما كفروا بالله، ومنعوا حقوق عباده، وتكبروا على خلق الله أهانهم الله بالعذاب الأليم والخزي الدائم.
ومن أصول هذا الدين الرحمة والشفقة على الخلق عموماً، فما تراحم قوم إلا اجتمع أمرهم، وارتفعت بين الأمم مكانتهم، ورضي الله عنهم.
وما نزعت الرحمة من قوم، واستعملوا الغلظة والقسوة إلا دارت عليهم دائرة السوء.
والرحمة عاطفة شريفة، وخليقة محمودة، مدح الله بها عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:(ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 128].
فالرحمة من أسمى الفضائل الإنسانية:
تكون من الآباء للأبناء تقبيلاً، ومعانقة، وتأديباً، وإحساناً إليهم.
وتكون الرحمة من الأبناء للآباء والأمهات قولاً كريماً، وصنعاً جميلاً، وطاعة في غير معصية الله، وخدمة صادقة، ودعاء لهم بالخير، واستغفاراً لهم، ووفاء لديونهم، وإكراماً لأصدقائهم.
وتكون الرحمة بين الأقارب صلة ومواساة ومودة، وسعياً في مصلحة، ودفعاً لمضرة.
وتكون بين الزوجين معاشرة بالمعروف، وإحساناً وعفواً متبادلاً.
وتكون الرحمة بين أهل الدين الواحد إرشاداً إلى الخير، وتحذيراً من كل شر.
وتكون بين جميع الأفراد بأن يحب أحدهم للآخر ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فيسعى إلى ما فيه منفعتهم، يواسي محتاجهم، ويداوي جريحهم، ويعود مريضهم، ويجبر كسيرهم، ولا يكلف أحداً بأمر عسير، ولا يحمله من الأمر ما لا يطيق.
وتكون الرحمة بالكفار والضالين بدعوتهم إلى الله، والإحسان إليهم، والدعاء لهم بالهداية، وإعطائهم من المال ما يفتح قلوبهم لفهم هذا الدين، والدخول فيه ونحو ذلك مما يؤلف قلوبهم.(10/67)
والله تبارك وتعالى توَّج هذه الأمة بتاج الإيمان والأعمال الصالحة، والدعوة إلى الله، وكثير من الناس توَّج نفسه بتاج اليهود والنصارى، تاج الدنيا وجمع الحطام، والانهماك في الشهوات، وأعرض عن كثير من أوامر الله.
فما أجدر هؤلاء بالعقوبة إن لم يتوبوا كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [مريم: 59،60].
ومن تمام رحمة الله بعباده أن أرسل إليهم رسله بما يسعدهم في الدنيا والآخرة.
فمن رسل الله من كلَّمه الله من وراء حجاب بلا واسطة كموسى صلى الله عليه وسلم .. ومنهم من كلمه الله على لسان رسوله الملكي جبريل وهم الأنبياء.. وكلم الله سائر الناس على ألسنة رسله، فأنزل عليهم كلامه الذي بلَّغته رسله عنه إليهم، وقالوا هذا كلام الله الذي تكلم به إلى عباده، وأمرنا بتبليغه إليكم كما قال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 67،68].
وكلام الله هدى ورحمة للبشرية فهل قمنا بإبلاغه إليهم؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
وإذا أراد الله بأهل الأرض خيراً نثر عليهم أثراً من آثار اسمه الرحمن، فعمر به البلاد، وأحيا به الموات، وأصلح به العباد.
وإذا أريد بهم شراً أمسك عنهم أثر ذلك الاسم، فحل بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن.
ورحمة الله وسعت كل شيء، وقد خلق الله مائة رحمة، وأنزل على أهل الأرض رحمة واحدة منها، فبها يتراحم الخلق ويتعاطفون، فكل رحمة في كل مخلوق فهي من آثار رحمة الله هذه.(10/68)
والعالم كله مملوء بهذه الرحمة الواحدة كامتلاء البحر بمائه، والجو بهوائه، وما فيه من ضد ذلك فهو من مقتضى سبقت رحمتي غضبي، والمسبوق لا بدَّ لاحق وإن أبطأ، وفيه حكمة لا تناقضها الرحمة، فإذا كان يوم القيامة كمل الله بهذه الرحمة لتكون مائة رحمة، يرحم بها أهل الإيمان به وطاعته وتوحيده.
وإذا كان الله قد ملأ هذا الكون برحمته.. فهلا نملؤه بدوام ذكره وحمده؟
فسبحان العزيز الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، وأحاط علمه بكل شيء.
- - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الحادي عشر ... 2
فقه الأخلاق ... 2
1- فقه الخُلق ... 2
2- درجات الأخلاق ... 6
3- تغيير الأخلاق ... 13
4- فقه حسن الخلق ... 20
5- فقه الأدب ... 33
6- فقه مكارم الأخلاق ... 38
7- فقه المروءة ... 41
8- فقه الإيثار ... 43
10- فقه العزة ... 53
11- فقه المحبة ... 57
12- فقه الرحمة ... 65(10/69)
موسوعة فقه القلوب (12)
الباب الثاني عشر
فقه الشريعة
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثاني عشر
فقه الشريعة
1- فقه الحق والباطل
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [التوبة: 33].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الإسراء: 81].
وقال الله تعالى: (?? ? ? ? پپ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [العصر: 1-3].
العلم نوعان:
العلم بالله.. والعلم بدينه.
فأما العلم بالله فهو العلم بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وأما العلم بدينه فمرتبتان:
الأولى: العلم بدينه الأمري الشرعي، المتضمن أمره ونهيه، وما أحله وما حرمه، وهو الصراط المستقيم الموصل إليه.
الثانية: العلم بدينه الجزائي، المتضمن ثوابه وعقابه، ويدخل فيه العلم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
والحق: هو الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وهو يتضمن: معرفة الحق، وإيثاره، وتقديمه على غيره، ومحبته، والانقياد له، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد أعدائه، وما سواه فهو صراط أهل الباطل، أهل الغضب والضلال، كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفاتحة: 6،7].
فالطرق ثلاثة:
الأول: طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وهي طريق من عرف الحق وعمل به.
الثاني: طريق أهل الغضب، وهي طريق من عرف الحق وعانده كاليهود.
الثالث: طريق أهل الضلال، وهي طريق من عرف الحق وضل عنه.
وسنة الله عزَّ وجلَّ سير الحق تدريجياً شيئاً فشيئاً، يظهر ويرتفع مستواه كالنبات ينمو شيئاً فشيئاً.
فلا نستعجل ظهوره، بل نصبر ونستمر حتى ينتشر الحق ويرتفع مستواه بما يشاء، كما أيد الأنبياء والرسل، وأظهر دينهم، وخذل أعداءهم.(11/1)
وإذا اشتدت الأمور والأحوال نثبت على الحق، ولا نخالف الأوامر ولا نغير الترتيب، فالله يسمع ويرى ويعلم ما يفعله أهل الحق، وما يفعله أهل الباطل.
فأبو بكر - رضي الله عنه - لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب، لم يغير شيئاً أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنفذ جيش أسامة مع شدة الأحوال، وبعث الجيوش لحرب المرتدين مع شدة الأحوال، فكان نصر الله، وعاد الناس إلى الدين.
والنصر والتأييد يأتي تدريجياً، وأحياناً يتأخر لحكمة حتى يقول الناس متى نصر الله؟.
فلا نيأس ولا نمل، بل نستمر وندعو الله وننتظر الفرج، فتلك سنة الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 214].
فلا بدَّ مع الدعوة والعمل من الدعاء.
ولكن الأمة لما تركت الجهد والعمل لم تجد لذة الدعاء والمناجاة، وجاء الشك في الدعاء، وهذا مرض كبير، وإذا قمنا بجهد الدعوة فالله عزَّ وجلَّ يعطينا قوة الدعاء، ولذة المناجاة.
وقد عرض الله عزَّ وجلَّ الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبت حملها، وأشفقت منها، وحملها الإنسان فيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين الخلق، فإن قام بها أثابه الله، وإن فرط فيها عاقبه الله.
فكل إنسان متحمل أمانة نفسه بأن يحملها على طاعة الله، واجتناب معصيته، ومتحمل أمانة أهله، ومتحمل أمانة الأمة بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد انقسم الناس في تحمل الأمانة إلى ثلاثة أصناف:
الأول: الذين تحملوا الأمانة ظاهراً وباطناً، وهم المؤمنون والمؤمنات، وهم درجات.
الثاني: الذين تحملوا الأمانة ظاهراً، وضيعوها باطناً، وهم المنافقون والمنافقات.
الثالث: الذين فرطوا في الأمانة، فلم يتحملوها لا ظاهراً ولا باطناً، وهم المشركون والمشركات.
فهؤلاء والمنافقون والمنافقات ضيعوا الأمانة؛ لأنهم كفروا بالله وأشركوا به.(11/2)
وقد وعد الله الصنف الأول الذين تحملوا الأمانة بالتوبة والمغفرة، وتوعد الصنفين بعدهم، الذين ضيعوا الأمانة بالعذاب الأليم فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 72،73].
ومن رحمة الله بالخلق وعنايته بهم أن بعث إليهم الرسل تبين الحق وتميزه من الباطل، بحيث يصير مشهوداً للقلب كشهود العين للمرئيات، وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه، والتي لا يعذب أحداً ولا يضله إلا بعد وصوله إليها كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [التوبة: 115].
فهذا الإضلال عقوبة من الله لهم حين بين لهم الحق فلم يقبلوه، فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى، وما أضل الله أحداً قط إلا بعد هذا البيان، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 5].
وهذا البيان نوعان:
بيان بالآيات المسموعة المتلوة.. وبيان بالآيات المشهودة المرئية.
وكلاهما أدلة على توحيد الله، وصدق ما أخبرت به رسله عنه.
وهذا البيان الذي بعث الله به رسله، وجعله إليهم وإلى العلماء من بعدهم، وبعد ذلك يضل الله من يشاء، ويهدي من يشاء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ) [إبراهيم: 4].
فالرسل تبين الحق.. والله يضل من يشاء.. ويهدي من يشاء.
والكلام له لفظ ومعنى، وله نسبة إلى الأذن والقلب.
والسماع له ثلاث مراتب:
فسماع لفظه حظ الأذن.. وسماع حقيقة معناه حظ القلب.. وسماع القبول والإجابة حظ العقل.
فالكفار يسمعون الألفاظ التي هي حظ الأذن فقط كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 16،17].
فهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه.
وسماع الحق لفظه ومعناه وقبوله خاص بمن أراد الله هدايته كما قال سبحانه: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 17،18].(11/3)
وسنة الله التي لا تتبدل أن الحق إذا جاء زهق الباطل، فالباطل لا يمكن أن يثبت للحق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الإسراء: 81].
وإن ظهور الباطل وبقاءه منتفشاً فترة من الزمن.. ليس معناه أن الله تاركه.. أو أنه من القوة بحيث لا يغلب.. أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً.
وإن ذهاب الحق مبتلى.. وبقاءه ضعيف الحول والقوة فترة من الزمن.. ليس معناه أن الله جافيه أو ناسيه.. أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه.
كلا.. إنما هي حكمة وتدبير من الحكيم الخبير هنا وهناك.
يملي سبحانه للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق، وليرتكب أبشع الآثام وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد العذاب باستحقاق: (گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [آل عمران: 178].
فالله عزَّ وجلَّ يملي للظالم حتى يزداد طغيانه، ويترادف كفرانه، حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر، فليحذر الظالمون من الإمهال، ولا يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال كما قال سبحانه: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [هود: 102].
ويبتلي سبحانه الحق؛ ليميز الخبيث من الطيب، ويعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 74].
والإيمان والكفر.. والهدى والضلال.. لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق.. فالحق برهان ذاته.. وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله، ويخضع له، ويؤثره، ولكن المعوقات الأخرى هي التي تحول بين القلب والحق من الهوى والشهوات، والشبهات، وحب الدنيا، والعادات ونحو ذلك.
وقد ركب الله سبحانه في كل إنسان نفسين:
نفساً أمارة.. ونفساً مطمئنة.
وهما متعاديتان، فكل ما خف على هذه ثقل على الأخرى، وكل ما التذت به هذه تألمت به الأخرى.
فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله.. وليس على النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله.
والملك مع هذه عن يمنة القلب، والشيطان مع تلك يسرة القلب.(11/4)
فالباطل كله مع الشيطان والأمارة.. والحق كله مع الملك والمطمئنة، والحروب مستمرة دول وسجال، والنصر مع الصبر.
والباطل ضد الحق، فكل ما سوى الحق باطل.
وللباطل صور وألوان وشعب:
فمنها باطل الكبر، فالكبر عادة يحول دون قبول الحق، وأخطر ما يواجه الداعي إلى الله من صنوف الناس المتكبرون، فهم شر من يدعي إلى الحق فيأباه.
ودعوتهم ومعالجة كبريائهم تكون بالقول اللين، ومن ذلك دعوة موسى لفرعون، ودعوة نوح لقومه، ودعوة شعيب لقومه.
ومنها باطل التقليد، تقليد الأبناء للآباء، والخلف للسلف فيما يعتقدون ويعملون، فهذا التقليد من أكبر الحوائل التي تقف دون قبول المقلدين للحق ومعرفته، بل كثيراً ما يدفع المقلد إلى مناهضة الحق وأهله.
فالتقليد من أخطر ما يواجه الداعي إلى الحق.
وعلاج هذا الداء:
هو الدليل المنطقي.. والحجة الشرعية.. والبرهان العقلي، كما فعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع أبيه وقومه، حتى كسر أغلال التقليد، وحطم أصنامه، ورفع راية التوحيد.
ومنها باطل الحسد، فالحسد من الصوارف عن الحق، وهو أخطر من الكبر والتقليد؛ لأن الحاسد يحمله الحسد على الكيد للداعي والمكر به.
وقد حسد اليهود النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه من أولاد إسماعيل، وناصبوه العداوة، وحاولوا قتله، وسموه وسحروه، وحاربوه وألَّبوا عليه القبائل، كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [البقرة: 109].
وظل الرسول واقفاً في وجوههم يدعوهم إلى الحق ويرغبهم فيه، وصبر على كيدهم ومكرهم حتى حكم الله بينه وبينهم، ونصره الله عليهم.
وعلاج هذا الداء يكون بعرض الدعوة بصدق وصراحة وشجاعة، وما هم بضاريه شيئاً إلا بإذن الله.
ومنها أهل المنافع والمصالح، وهم شخص أو أشخاص ينتفعون بوضعٍ ما من الأوضاع الفاسدة، فيعز عليهم تغيير ذلك الوضع كبائع صور، أو تاجر خمر، أو سادن قبر، أو حاكم مستبد، أو شريف مستغل.(11/5)
فكل واحد من هؤلاء المستفيدين لا يرضى بتغيير وضعه حفاظاً على الذي يحصل له منه من الكسب المحرم.
ودعوة هؤلاء تكون بأمرين:
أحدهما: وعدهم بالخير، وبشارتهم بحال أحسن.
الثاني: أن يقدم لهم من النفع والخير ما يعوضهم عما فاتهم.
ومن هؤلاء أحبار اليهود الذين كتموا صفات الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لئلا يسلم قومهم فيفقدون رئاستهم بينهم.
وكعبد الله بن أبي سلول، طمعه في الرئاسة جعله ينافق ويكيد للإسلام.
ومن هؤلاء أهل الهوى، فاتباع الهوى أخطر ما يحول بين المرء وقبوله دعوة الحق والخير.
وعلى الداعي أن يمضي في إبلاغ دعوته، معرضاً عن أصحاب الهوى، غير ملتفت إليهم، ولا مبال بهم.
والحق حق لكل أحد، وهو يمشي بقوتين:
قوة محركة وهي الإيمان.. وقوة ضابطة وهي الاتباع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذين مدار سعادة العبد في الدنيا والآخرة.
والحق يغلب على الباطل بأربعة أشياء ذكرها الله في قصة موسى صلى الله عليه وسلم مع فرعون:
الأول: التضحية بالنفس، ففرعون يريد قتل موسى، وموسى ضحى بنفسه من أجل الدين فلم يبال به وبملكه.
الثاني: التضحية بالزوجة والأولاد والأموال، فذهب موسى إلى فرعون وتركهم من أجل إعلاء كلمة الله.
الثالث: أن يجعل العبد حياته لله كما قال سبحانه: (? ??) [طه: 41].
فليس له همّ إلا الدعوة إلى الله سبحانه.
الرابع: امتثال أوامر الله فوراً، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ??) [طه: 24].
فذهب إلى فرعون مباشرة ودعاه إلى الله، فلما أبى واستكبر خذله الله بين حاشيته.. وأمام الناس يوم الزينة.. وفي البحر أمام المؤمنين غرقاً: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک ک گ گ گ گ ? ??) [الذاريات: 38-40].
والله تبارك وتعالى خلق مخلوقاته كلها بسبب الحق، ولأجل الحق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الدخان: 38،39].
والحق هو الحكم والغايات التي لأجلها خلق ذلك كله، وهو أنواع كثيرة:(11/6)
منها: أن يعرف الله بأسمائه وصفاته، وأفعاله وآياته.
ومنها: أن يُّحَب ويُعبد، ويُذكر ويُشكر، ويُطاع فلا يُعصى.
ومنها: أن يأمر وينهى، ويشرع الشرائع، ويدبر الأمر، ويتصرف في ملكه بما يشاء.
ومنها: أن يثيب ويعاقب، فيجازي المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، فيظهر أثر عدله وفضله لعباده، فيُّحمد على ذلك ويُشكر.
ومنها: أن يعلم خلقه أنه لا إله لغيره، ولا رب سواه.
ومنها: ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها جلية في مخلوقاته.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يجود وينعم، ويعفو ويغفر، ويسامح ويصفح، ولا بد من لوازم ذلك عقلاً وشرعاً.
ومنها: أنه يحب أن يثنى عليه، ويُمدح ويُمجَّد، ويُسبَّح ويُعظَّم، وغير ذلك من الحكم التي تضمنها الخلق.
وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو أكمل ما جاءت به شريعة، وأمر أن يقبل من الناس ظواهرهم، ولم يؤمر أن ينقب عن قلوبهم.
بل تجري عليهم أحكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه، وتجري عليهم أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونياتهم.
فأحكام الدنيا تجري على الإسلام.. وأحكام الآخرة على الإيمان.
ولهذا قبل الله عزَّ وجلَّ إسلام الأعراب، ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين كما قال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 14،15].
وقَبِل إسلام المنافقين ظاهراً، وأخبرهم أنه لا ينفعهم يوم القيامة شيئاً، وأنهم في الدرك الأسفل من النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 145].
فأحكام الرب عزَّ وجلَّ في الدنيا جارية على ما يظهر للعباد، ويوم القيامة يجري الحساب على ما في البواطن والقلوب.
وكل من عُرض عليه الحق فرده ولم يقبله عوقب بفساد قلبه وعقله ورأيه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصف: 5].(11/7)
ومن كفر بالحق بعد أن عمله كان سبباً لطبع الله على قلبه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [النساء: 155].
وإن الحق لا يحق والباطل لا يبطل في أي مجتمع بمجرد البيان النظري للحق والباطل، ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حق وهذا باطل، وإن كانت الهداية تنزل على من شاء الله من عباده، ولكن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس، والباطل لا يبطل ولا يذهب من واقع الناس إلا بالتضحية وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله، وتحطيم سلطان الباطل حتى يعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 74].
وإذا كان ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه.. فما علة إصرار قوم على التكذيب؟.
العلة هي: أن كلمة الله وسنته اقتضت أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدي، ومن لا يفتح بصيرته على النور لا يراه، ومن يعطل مداركه لا ينتفع بوظيفتها، فتكون نهايته إلى الضلال مهما تكن الآيات والبينات، وعندئذ تكون كلمة الله وسنته قد حقت عليهم بعدم الإيمان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 96،97].
والإيمان لا ينفع عند معاينة العذاب؛ لأنه لم يجئ عن اختيار، ولم تعد هناك فرصة لتحقيق مدلوله، كما آمن فرعون حين أدركه الغرق كما قال الله عنه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ) [يونس: 90].
لكن لو عاد المكذبون للحق عن تكذيبهم قبيل نزول العذاب كشفه الله عنهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?ٹ) [يونس: 98].
فأغلب القرى لم تؤمن، ولذلك نزل بها العذاب، أما قوم يونس فكان عذاب مخزٍ يتهددهم، فلما آمنوا في اللحظة الأخيرة قبل وقوعه كشف الله عنهم العذاب، وتركهم يتمتعون بالحياة إلى أجل.(11/8)
ولو لم يؤمنوا لحل بهم العذاب وفقاً لسنة الله المترتبة آثارها على تصرفات خلقه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 19].
وفي هذا إيحاء للمكذبين من هذه الأمة أن يتعلقوا بخيوط النجاة الأخيرة، فيتوبون إلى الله لعلهم ينجون كما نجى قوم يونس.
إن الحق شأنه كبير، وما تقف له أي قوة مهما كانت إلا ويدفعها؛ لأن الله هو الحق، وهو الذي أنزل الحق، ولكن الحق لا يتحقق في عالم الواقع إلا بعد تمامه في عالم الضمير.
وما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد أن يستعلوا بالحق في الباطن.
إن للحق والإيمان والتوحيد حقيقة متى تجسمت في المشاعر أخذت طريقها، فاستعلنت ليراها الناس في صورتها الواقعية.
فأما إذا ظل الإيمان مظهراً لم يتجسم في القلب، وظل الحق شعاراً لا ينبع من القلب، فإن الطغيان والباطل قد يغلبان؛ لأنهما يملكان قوة مادية حقيقة لا مقابل لها ولا كفاء في مظهر الحق والإيمان.
فإذا استقرت حقيقة الحق والإيمان في القلب أصبحتا أقوى من حقيقة القوى المادية التي يستعلي بها الباطل، ويصول بها الطغيان.
وبهذا وقف الأنبياء لكل قوة غاشمة تواجههم في الأرض، فنصر الله أولياءه، وخذل أعداءه.
كما وقف نوح صلى الله عليه وسلم أمام الكثرة.. ووقف هود صلى الله عليه وسلم أمام أهل القوة.. ووقف صالح صلى الله عليه وسلم أمام أهل الصناعة.. ووقف إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمام عباد الأصنام.. ووقف موسى صلى الله عليه وسلم أمام فرعون.. ووقف أمام السحرة.. ووقف محمد صلى الله عليه وسلم أمام كفار قريش.. وأمام يهود المدينة.. وأمام قبائل العرب، فنصره الله عليهم وخذلهم.
وتحقق وعد الله لأنبيائه ورسله وأتباعهم بالنصر على أعدائهم كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ?? ? ? ?? ? ? ? ??) [الصافات: 171-173].(11/9)
إن منطق الباطل هو الطغيان الغليظ كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان، وخاف أن يستعلي الحق بما فيه من قوة وفصاحة، وهو يخاطب الفطرة فتصغي له وتستجيب، كما آمن السحرة الذين جاء بهم فرعون ليغلبوا موسى صلى الله عليه وسلم ومن معه، فانقلبوا أول المؤمنين بالحق في مواجهة فرعون الجبار، فما موقف فرعون وملئه من الحق الذي جاء به موسى؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [غافر: 25،26].
هكذا قال فرعون الطاغية الوثني الضال عن النبي المصطفى المؤمن الهادي، وهي الكلمة التي يقولها كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح.
إنها كلمة الباطل الطالح في وجه الحق الجميل، وكلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه أهل الإيمان والهدى، وهي تتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان، في كل زمان، وفي كل مكان: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 26].
فما أظلم هؤلاء الطغاة؟.. وما أجهلهم بالحق؟.. وما أضرهم على أنفسهم وعلى من تحت أيديهم؟.
فلماذا قَتْلُ الدعاة المصلحين بغير حق؟.. ولماذا ترويعهم ومطاردتهم؟..
(چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [غافر: 28].
هل الداعي إذا قال ربي الله الذي بيده كل شيء، هل هذه الكلمة البريئة تستحق القتل، ويرد عليها بإزهاق الروح؟.
وهل من جاء بالحق الذي يصل المخلوق بخالقه ضال مفسد يستحق القتل والطرد؟.
أليس من الإنصاف أن يترك، فإن كان هذا النبي أو الداعي كاذباً فعليه كذبه، وهو يتحمل تبعة عمله ويلقى جزاءه، وإن كان صادقاً فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال؛ لئلا يصيبهم ما يكرهون؟.
هذه رسالة الأنبياء.. رحمة الخلق.. ودعوتهم إلى الله.. وتوجيههم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ليسعدوا في الدنيا والآخرة.
ولكن هل يقبل الطغاة هذه الدعوة؟.(11/10)
إن فرعون يأخذه ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة، تأخذه العزة بالإثم، ويرى في النصح الخالص افتياتاً على سلطانه، واقتحاماً لمنزلته، ونقصاً من نفوذه، ومشاركة له في النفوذ والسلطان.
(ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [غافر: 29].
هذه مقالة فرعون، وهي مقالة كل طاغية يقف في وجه الحق، لا أقول لكم إلا ما أراه صواباً، وأعتقده نافعاً، وإنه لهو الصواب بلا شك.
وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟.
وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟.
وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأياً، وإلا لم كانوا طغاة؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 256].
وأكثر الناس للحق كارهون؛ لأنه يسلبهم القيم الباطلة التي بها يعيشون، ويصدم أهواءهم المتأصلة التي بها يعتزون.
فكل ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حق، لا يملك من يتدبره أن يظل معرضاً عنه، ففيه من الجمال والكمال وموافقة الفطرة ما يحرك الوجدان للإيمان والطاعة والعبادة، وكل ما سواه باطل: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [البقرة: 257].
وفيه من غذاء القلوب، ومظاهر الآلاء والنعماء، والرحمة والإحسان، وآثار القدرة والقوة، وقويم المناهج، ومحكم التشريع، ما يستجيش عناصر الفطرة ويغذيها، ويبهر العقول والأفهام.
فأين أولو العقول والتدبر؟: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ ے ے ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 68،69].
لقد أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 70].
والحق لا يمكن أن يدور مع الهوى، وبالحق قامت السموات والأرض، فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة.
وبالحق الواحد يدبر الله الكون كله فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة.(11/11)
ولو خضع الكون للأهواء العارضة والرغبات الطارئة لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين وتأرجحت كلها بين الغضب والرضا، والكره والحب، والرغبة والرهبة، وسائر ما يعرض من الأهواء بالانفعالات: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 71].
ومن هذه القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره بأمر الله جعل الله التشريع للحياة البشرية جزءاً من الناموس الكوني تتولاه اليد التي تدبر الكون كله، والبشر جزء من هذا الكون، خاضع لناموسه الكبير.
فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله، وبذلك لا يخضع نظام البشر للأهواء فيفسد ويختل، إنما يخضع للحق الكلي، ولتدبير صاحب التدبير الذي له ملك السموات والأرض، وله الخلق والأمر في الكون كله.
والله تبارك وتعالى فطر قلوب العباد على قبول الحق والانقياد له، والطمأنينة به، والسكون إليه، ومحبته، وفطرها كذلك على بغض الباطل والكذب، والنفور عنه، وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره.
ومن تدبر القرآن أيقن أنه حق وصدق، بل أحق كل حق، وأن الذي جاء به أصدق خلق الله، وأبرهم، وأتقاهم، وأعلمهم.
ولهذا ندب الله عباده إلى تدبر القرآن كما قال سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ??) [محمد: 24].
فلو رفعت الأثقال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الهدى والإيمان، وعلمت أنه الحق، وما سواه باطل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 6].
فالقلوب السليمة لا تطمئن إلا به، ولا تسكن إلا إليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
فهذه القلوب هي التي تنقاد لحكم الله، وتسلم لأمره.
وقد نفى الله الإيمان عن كل من لم ينقد لحكم الله، ولم يسلم لأمره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 65].
والتسليم نوعان:(11/12)
تسليم لحكم الله الديني الأمري.. وتسليم لحكمه الكوني القدري.
فالأول تسليم المؤمنين العارفين، وأما التسليم للحكم الكوني فيحمد إذا لم يؤمر العبد بمنازعته ودفعه، ولم يقدر على ذلك كالمصائب التي لا قدرة له على دفعها، وأما الأحكام التي أُمر بدفعها، فلا يجوز له التسليم إليها، بل العبودية مدافعتها بأحكام أُخًر أحب إلى الله منها كما يدفع قَدَر الجوع بالأكل، وقَدَر المرض بالدواء.
والقلوب عند ورود الحق عليها لها أربعة أحوال:
قلب يفتتن به كفراً وجحوداً.. وقلب يزداد به إيماناً وتصديقاً.. وقلب يتيقنه فتقوم عليه به الحجة.. وقلب يوجب له حيرة وعمى فلا يدري ما يراد به كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المدثر: 31].
وهذه الأمة أولى الأمم باتباع الحق، ففوق أنه الحق هو كذلك مجد لها، وذكر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 10].
وما كان لها لولاه من ذكر في العالمين، وقد ظلت أمة العرب لا ذكر لها في تاريخ العالم حتى جاءها الإسلام وصعد بها إلى القمة الساحقة.
وقد ظل ذكرها ومجدها وعزها يدوي في آذان القرون حينما كانت مستمسكة به، إيمان وأمان، وعدل وإحسان، ورحمة وشفقة، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، فوا أسفاه وقد تضاءل ذكرها الآن عندما تخلت عنه في كثير من ديار الإسلام، فأصبحت تؤمر ولا تأمر، وتنصت ولا تتكلم، وترقد في آخر مواطن الذل والهوان، فما لها لا تعود إلى ربها، وقد ملكها الله الدين الذي تصل به إلى مدارج العز والعلا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 71].
ومنهج البحث عن الحق سهل، ومعرفة الافتراء من الصدق لازم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 46].(11/13)
إنها دعوة إلى القيام لله بعيداً عن الهوى، بعيداً عن المصلحة، معتمداً على مراقبة الله وتقواه، متجرداً من الرواسب والمؤثرات.
القيام لله وحده مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي، بعيداً عن انفعالات العامة، فيأخذ الحجة والدليل من صاحبه في هدوء، وفرادى مع النفس وجها لوجه في تمحيص هادئ عميق، ثم التفكر فيمن يحمل الحق؟.. وما الحق الذي يحمل؟.. ومن أين جاء به؟.
ثم التفكر ثانياً فيمن جاء بهذا الحق؟.. ما مصلحته؟.. وما بواعثه؟.. وماذا يعود عليه منه؟.
إنه لا يريد عوضاً من أحد، بل يرجو ثوابه ممن كلفه، ولا يتطلع أبداً إلى أجر من أحد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 47].
ثم التفكر ثالثاً في هذا الحق، فهو الحق الذي يقذف به الله، فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله؟.
لا أحد، فالطريق أمامه مكشوف: (? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 48].
ورابعاً: إذا جاء الحق بقوته فقد انتهى أمر الباطل، وما عادت له حياة: (? ? ? ? ? پ پ پپ) [سبأ: 49].
وإنه لكذلك، فمنذ جاء القرآن استقر منهج الحق واتضح، ولم يعد للباطل إلا مماحكة ومماحلة أمام الحق الواضح الحاسم.
ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف، إلا أنها ليست غلبة على الحق، إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق، غلبة الناس لا غلبة المبادئ، وهذه موقوتة ثم تزول.
وأخيراً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [سبأ: 50].
وقد وعد الله عباده أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون، ومن خفايا أنفسهم على السواء، حتى يتبين لهم أنه الحق، هذا الدين، وهذا الكتاب، وهذا المنهج.
ولقد صدقهم الله وعده، فكشف لهم عن آياته في الآفاق وفي الأنفس، ووَعْد الله ما يزال قائماً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 53].(11/14)
وإنها لرحمة من الله، فكلما ابتعد الناس عن زمن النبوة، وعن منهج النبوة، فتح الله لهم من أبواب العلم ما يردهم إلى الله، ويذكرهم به، ويسهل عليهم أمور معاشهم.
فالبشرية بعد الضلال والشرود من جراء العلم أخذت عن طريق العلم تثوب إلى الدين، وتعرف أنه الحق عن هذا الطريق.
ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في أغوار النفس بأقل منها في جسم الكون، فقد أطلع الله البشر على أسرار وخصائص في الجسم البشري، وعرفوا تركيبه وتكوينه ووظائفه وغذاءه، وأمراضه وعلاجه، وعرفوا من أسرار حركته ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله الباري.
إن الله وحده الذي خلق هذا الكون، له الحق وحده أن يشرع لعباده ما يشاء، وليس لأحد من خلق الله أن يعتدي على خلقه، فيشرع لهم غير ما شرعه الله وأذن به كائناً من كان.
فالله مبدع هذا الكون، ومدبره بالأوامر الكلية التي اختارها له، والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع أوامر الكون الأخرى، ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها محيط بالكون وما يجري فيه.
وكل ما سوى الله قاصر وعاجز عن تلك الإحاطة بلا جدال، فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور، وكيف يرضى الناس بمخلوق مثلهم أن يشرع لهم: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 21].
لقد شرع الله عزَّ وجلَّ للبشرية من الدين ما يوافق طبيعتها وفطرتها، ووضع الأصول لذلك، وترك للبشر استنباط التشريعات الجزئية التي تتجدد مع تجدد الحياة في حدود المنهج الكلي للدين، فإذا اختلفوا في شيء، رجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها الله للناس، لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريع جزئي، وكل تطبيق حادث على مدار الزمن.
وبذلك يتوحد مصدر التشريع، ويكون الحكم لله وحده وهو خير الحاكمين.(11/15)
وما عدا هذا المنهج فهو خروج على شريعة الله، وعلى دين الله، وعلى ما وصى الله به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام.
ومع وضوح هذا إلا أن بعض الناس يجادلون في هذا، ويجرأون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله، زاعمين أنهم يختارون لشعوبهم ما يسعدهم، كأنما هم أعلم من الله، وأحكم من الله، ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم.
لقد قضى الله عزَّ وجلَّ بإمهالهم إلى يوم الفصل، ولولا ذلك لقضى الله بينهم، فأخذ المخالفين لما شرعه الله، المتبعين لشرع من عداه بالجزاء العاجل، ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء، وهناك ينتظرهم جزاء الظلم، وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه؟.
إن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، وكل ما في السموات والأرض متوجه إلى ربه، مسبح بحمده، ذاكر له، مطيع له، وكل شيء شاعر بهذه الحقيقة، والله محمود بذاته، ممجد في مخلوقاته: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 1].
فإذا وقف الإنسان وحده في خضم هذا الوجود الكبير كافر القلب، جامد الروح، متمرداً عاصياً، لا يسبح الله، ولا يمجد خالقه، ولا يتجه إلى مولاه، فإنه يكون شاذاً بارز الشذوذ، كما يكون في موقف المنبوذ من كل ما في الوجود.
والإنسان وحده هو الذي يقف في خضم الوجود المؤمن المسبح بحمد ربه مؤمناً تارة.. وكافراً تارة، كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 2].
فإيمان العباد وكفرهم كله بقضاء الله وقدره، وهو سبحانه الذي جعل لهم القدرة والإرادة على اختيار ما يريدون.
فعن إرادة الله ومشيئته صدر هذا الإنسان، وأودع إمكان الاتجاه على الكفر، وإمكان الاتجاه إلى الإيمان، وتميز بهذا الاستعداد المزدوج من بين خلق الله، وأنيطت به أمانة الإيمان بحكم هذا الاستعداد.
وهي أمانة ضخمة، وتبعة هائلة.(11/16)
ولكن الله كرم هذا المخلوق فأودعه القدرة على التمييز، والقدرة على الاختيار، وأمده بعد ذلك بالميزان الذي يزن به عمله، ويقيس به اتجاهه، وهو الدين الذي نزله على رسله، فأعانه بهذا كله على حمل هذه الأمانة، ولم يظلمه شيئاً، والله رقيب على هذا الإنسان فيما يعمل، بصير بحقيقة نيته واتجاهه، فيجازيه بما عمل من خير أو شر.
فسبحان الذي لا يخرج مخلوق عن ملكه.. وله الحمد كله.. حمد على ماله من صفات الكمال.. وحمد على ما خلقه من الأشياء.. وحمد على ما شرعه من الأحكام.. وحمد على ما أسداه من النعم، وحمد على ما صرفه من النقم.
والله تبارك وتعالى هو الحق الذي يحب الحق ويدعو إليه، ويكره الباطل ويحذر منه، وما ترك أحد الحق إلا جرته الشياطين إلى الباطل.
فاليهود لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم جرتهم الشياطين إلى الكفر والكذب كما قال سبحانه عنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [البقرة: 101،102].
والحق: هو ما أوصاه الله إلى رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، المتضمن للعلم النافع، والعمل الصالح، والخلق الفاضل، فإذا جاء هذا الحق زهق الباطل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الإسراء: 81].
فكما لا يجتمع النور مع الظلام، ولا الليل مع النهار، ولا الحر مع البرد، كذلك لا يجتمع الحق مع الباطل؛ لأن كل واحد منهما يطرد الآخر.
والباطل زهوق، ولكنه قد يكون له صولة ورواج إذا لم يقابله الحق، فعند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك.
ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمنة والأمكنة الخالية من العلم بالله وأسمائه وصفاته، والعلم بآياته وبيناته، والعلم بدينه وشرعه.(11/17)
ودين الله هو الحكم بما أنزل الله في كل حالة دون سواه، وليس معنى دين الله أن ما أنزل الله من خير ودين هو خير مما يختاره البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع فحسب، فهذا سبب، ولكن السبب الأصل أن الحكم بما أنزل الله والدينونة له إقرار بربوبية الله وألوهيته، ونفي لذلك عما سواه.
وقد أكمل الله الدين وحفظه، فهو دين البشرية إلى يوم القيامة، ومن رحمة الله أنه أنزله وتكفل بحفظه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?ں) [الحجر: 9].
وقد يغلب الكفار على المسلمين في موقعة أو في فترة، ولكنهم لا يتغلبون على هذا الدين ولا على كتابه، فلن يبطلوه أو ينقصوه، أو يحرفوه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 3].
لكن الله جلّ جلاله لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة تحفظ الدين، وتقوم به ويبقى فيها كاملاً محفوظاً حتى تسلمه إلى من يليها من أهل العلم والإيمان والتقوى وصدق الله وعده، فما كان للكفار أن ينالوا من ذات الدين أبداً، وما كان لهم أن ينالوا من أهله إلا أن ينحرف أهله عنه.
والناس صنفان:
عالم.. وأعمى.
فما ثم إلا عالم أو أعمى، فأهل الجهل بمنزلة العميان الذين لا يبصرون، وأهل الجهل صم بكم عمي، وكما لا يستوي الأعمى والبصير كذلك لا يستوي العالم والجاهل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 19].
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
والله عزَّ وجلَّ خلق نورين في هذا العالم للتمييز بين الأشياء كالسماء والأرض وأشكال النبات والحيوان.
وخلق هذين النورين لاستفادتنا، النور الخارجي كنور الشمس والقمر، والنور الداخلي وهو نور العين.
ولكن بهذين النورين لا نستطيع أن نميز بين الكفر والإيمان، وبين الحق والباطل، فالإيمان والأعمال والصفات لا تظهر بهذين النورين.
فجعل الله لمعرفة ذلك نورين آخرين وهما:(11/18)
نور أنزله الله من السماء، وهو القرآن هدى ونور، والنور الآخر أمرنا الله أن نجتهد حتى يأتي في قلوبنا وهو نور الإيمان الذي يقذفه الله في قلب من يعلم أنه يزكو عليه، فمن ليس عنده نور الإيمان لا يستفيد من نور القرآن.
ولمعرفة الحق، والاستفادة منه، والعمل به، وقبوله، لا بدَّ من النور الخارجي وهو القرآن الذي فيه تبيان كل شيء، والنور الداخلي وهو الإيمان ومحله القلب، وإذا امتلأ القلب بالإيمان وتزين به فرَّق بين الحق والباطل، وأحب الطاعات، وأبغض المعاصي.
ولما جاء الإيمان في حياة الصحابة رضي الله عنهم جاء أمران:
الاستعداد لامتثال الأوامر.. وتقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس، ثم جاء أمران: الرضا عن المؤمنين.. والنصرة من الله عزَّ وجلَّ.
قال الله تعالى: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ) [الفتح: 18،19].
فبجهد التجارة نحصل على المال.. وبجهد الزراعة نحصل على الثمار.. وبجهد الدعوة نحصل على مرضاة الله في الدنيا والآخرة.. (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فصلت: 33].
والحق نوعان:
حق موجود، فالواجب معرفته.. وحق مقصود، فالواجب إرادته والعمل به.
وقد فطر الله النفوس على محبة الإيمان دون الكفر، ومحبة العلم دون الجهل، ومحبة الصدق دون الكذب، ومحبة النافع دون الضار، ومتى حصل للعبد ضد ذلك فلمعارض من كبر أو هوى أو حسد ونحو ذلك.
كما أن الله عز وجل لصالح الجسد خلق فيه محبة الطعام والشراب الملائم له دون الضار، فإذا اشتهى ما يضره، أو كره ما ينفعه فلمرض في الجسد، وكذلك إذا اندفع عن النفس المعارض من الكبر والهوى والحسد ونحو ذلك أحب القلب ما ينفعه من العلم النافع، والعمل الصالح.
كما أن الجسد إذا اندفع عنه المرض أحب ما ينفعه من الطعام والشراب، وتلذذ به.
فإذا ضعف العلم غلب الهوى، وإن وجد العلم والهوى فالحكم للغالب منهما.
وإذا كان كذلك فصلاح البشرية بأمرين:(11/19)
بالإيمان.. والعمل الصالح.. ولا يخرجهم عن ذلك إلا شيئان: الجهل المضاد للعلم، واتباع الهوى والشهوات، فبالأول يكونون ضلالاً، ويالثاني يكونون غواة، مغضوباً عليهم.
فاللهم (ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفاتحة: 6،7].
2- فقه العدل والظلم
قال الله تعالى: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [النحل: 90].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الصف: 7].
العدل أحد قواعد الدين والدنيا، الذي لا انتظام لهما إلا به، ولا صلاح لهما إلا معه، وهو الداعي إلى الإلفة، والباعث على الطاعة.
وبالعدل تنمو الأموال، وتعمر البلاد، وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الظلم والجور؛ لأنه لا يقف على حد، ولكل جزء من الظلم قسط من الفساد حتى يستكمل.
والعدل باب واسع، ومرجعه إلى عدل الإنسان في نفسه.. ثم عدله في غيره..
فأما عدله في نفسه:
فيكون بحملها على المصالح والمحاسن.. وكفها عن المساوئ والقبائح.. والوقوف بها على أعدل الأمرين، فإن التجاوز فيها جور، والتقصير فيها ظلم.. ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم.
وأما عدل الإنسان في غيره فهو أقسام:
منها عدل الإنسان فيمن دونه كالسلطان في رعيته، والرجل مع أهل بيته، والمعلم مع طلابه ونحو ذلك، والعدل هنا يكون بإعطاء كل ذي حق حقه، واتباع الأسهل الميسور، وترك الأشد المعسور، وعدم التسلط بالقوة.
ومنها عدل الإنسان مع من فوقه كالرعية مع السلطان، والولد مع والده، وأهل الرجل معه ونحو ذلك، والعدل هنا يكون بإخلاص الطاعة، وحسن الأدب، وصدق الولاء، وبذل النصرة، ودوام المناصحة.
ومنها عدل الإنسان مع أمثاله وأكفائه من الرجال والنساء، والعلماء والدعاة ونحوهم، والعدل هنا يكون بالإكرام والتوقير، وعدم الاستطالة عليهم، وتجنب الإدلاء، وكف الأذى عنهم، وبذل النصح لهم.
ولا يملك الإنسان الناس إلا بأمرين:
العمل فيهم بالشرع.. والتحبب إليهم بالإحسان.(11/20)
(چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [النحل: 90].
وكل ما في الكون من رحمة ونفع ونعمة ومصلحة فهو من فضله تعالى، وما في الوجود من غير لك فهو من عدله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 60].
فكل نعمة من الله فضل، وكل نقمة منه عدل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 30].
يد الله اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق، ويده الأخرى فيها العدل والميزان، الذي به يخفض ويرفع، فخفضه ورفعه من عدله، وإحسانه إلى خلقه من فضله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَدُ الله مَلأى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ: أرَأيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ» متفق عليه(1).
وهو سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وأفعال الله عزَّ وجلَّ دائرة بين العدل والإحسان.. ولا يمكن أن يظلم أحداً مثقال ذرة ولا أقل من ذلك.
فهو سبحانه إما أن يعامل عباده بالعدل.. وإما أن يعاملهم بالإحسان فالمسيء يعامل بالعدل كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 40].
والمحسن يعامله بالفضل كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [الأنعام: 160].
ويضاعف إلى سبعمائة حسنة إلى أضعاف كثيرة لمن يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ومن كان فعله دائراً بين العدل والإحسان فهو محمود على أفعاله كما هو محمود على صفاته: (? ? ? ? ? ? ? ?? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [الجاثية: 36،37].
أما الظلم فهو وضع الشيء في غير موضعه، أو التصرف في ملك الغير بدون إذنه، ومجاوزة حد الشارع بالتعدي من الحق إلى الباطل.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4684)، واللفظ له، ومسلم برقم (993).(11/21)
ومن عاقب ظالماً بسيئاته، وانتصف للمظلوم من الظالم، لم يكن ذلك ظلماً منه، بل ذلك أمر محمود منه، وليس الظالم معذوراً من أجل القدر.
ورب العالمين إذا أنصف بعض عباده من بعض، وأخذ للمظلوم حقه من الظالم، لم يكن ذلك ظلماً منه لأجل القدر.
والواحد من الناس إذا وضع كل شيء في موضعه، فجعل الطيب مع الطيب في دار طيبة، وجعل الخبيث مع الخبيث في دار خبيثة، كان ذلك عدلاً منه وحكمة ورحمة.
فكذلك الله عزَّ وجلَّ وهو الحكيم العليم لا يجعل المسلمين كالمجرمين، ولا المتقين كالفجار كما قال سبحانه: (? ? ??? ? ? ??) [القلم: 35،36].
ولا أحد من البشر أعظم ظلماً ولا أكبر جرماً من عبد ذُكِّر بآيات الله، وبُيِّن له الحق من الباطل، والهدى من الضلال، ورُهِّب ورُغِّب فظل على شركه، ولم يتذكر بما ذكر به، ولم يرجع عما كان عليه من الشرك، ونسي ما قدمت يداه من الذنوب كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [الكهف: 57].
فهذا أعظم ظلماً من المعرض الذي لم تأته آيات الله ولم يذكر بها، فهما وإن كان كل منهما ظالماً، إلا أن من عصى على بصيرة وعلم، أعظم ممن ليس كذلك.
فهذا الظالم لما ذكر بآيات الله ثم أعرض عنها، عاقبه الله بأن سد عليه أبواب الهداية.. وجعل على قلبه أكنة تمنعه أن يفقه الآيات وإن سمعها.. وجعل في أذنه وقراً يمنعه من سماع الآيات على وجه الانتفاع كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 45،46].
فالحجاب يمنع رؤية الحق.. والأكنة تمنع من فهمه.. والوقر يمنع من سماعه.
والظلم ثلاثة أنواع:
الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 13].(11/22)
وهو المقصود بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 18،19].
الثاني: ظلم بين الإنسان وبين الناس كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 40].
الثالث: ظلم بين الإنسان ونفسه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 1].
وجميع هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس، فإن الإنسان في أول ما يهم بالظلم فقد ظلم نفسه.
والظلم عند الله عزَّ وجلَّ له ثلاثة دواوين:
ديوان لا يغفر الله منه شيئاً وهو الشرك بالله، فإن الله لا يغفر أن يشرك به.
وديوان لا يترك الله تعالى منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، فإن الله تعالى يستوفيه كله.
وديوان لا يعبأ الله به وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عزَّ وجلَّ، فإن هذا الديوان أخف الدواوين، وأسرعها محواً، فإنه يمحى بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة ونحو ذلك، بخلاف ديوان الشرك، فإنه لا يمحى إلا بالتوحيد، وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها، واستحلال أهلها.
وظلم العباد يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير إذنه، ومبارزة الرب بالمخالفة والمعصية فيه أشد من غيرها؛ لأنه لا يقع غالباً إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار.
وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة في القلب، ولو استنار بنور الهدى لطلب العدل والإحسان.
والظلم أنواع:
فأظلم الظلم الشرك بالله: وهو وضع العبادة في غير موضعها، وصرفها لغير مستحقها، كما قال سبحانه: (? ? ? ??) [لقمان: 13].
فالشرك أظلم الظلم واشده وأكبره؛ لأن فيه صرف العبادة لغير مستحقها، ووضعها في غير مكانها.
وأكثر الناس لا يعرفون إلا ظلم الأموال، وأما ظلم الشرك فلا يعرفونه، فالله عزَّ وجلَّ أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين، وأكرم المحسنين: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 40].(11/23)
وظلم الإنسان نفسه: ألا يعطيها حقها، كمنعها من الطعام والشراب، أو يحملها ما لا تطيق كأن يصوم فلا يفطر، أو يحملها على الكفر والمعاصي، ولا يمكنها من الطاعات ونحو ذلك.
وظلم الإنسان غيره: كأن يتعدى على غيره بالضرب أو القتل، أو أخذ ماله بغير حق، أو يمنعه حقه، أو يؤخره ونحو ذلك.
والظالمون الذين كفروا بنعمة الله، وصدوا عن سبيله، لهم عذاب في الحياة الدنيا، وعذاب في الآخرة أشد وأبقى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 34].
والله عزيز ذو انتقام، لا يدع الظالم يفلت، ولا يدع الماكر ينجو، ولا يدع الكافر يفر، إنهم حاضرون مكشوفون أمام الله، لا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واق، الله يسمع كلامهم، ويرى أفعالهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 42].
ووعد الله آت لا محالة، يكرم فيه المؤمنين، وينتقم الجبار من الظالمين: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [إبراهيم: 47].
إن الإسلام دين الله الذي ارتضاه للبشرية إلى يوم القيامة، وأرسل به أفضل رسله، وأنزل من أجله أحسن كتبه، وشرع فيه أحسن شرائعه، ودعا فيه إلى أحسن مكارم الأخلاق.
وجاء بالمبادئ والقواعد التي تكفل تماسك وسعادة الأفراد والأمم والشعوب.
جاء بالعدل الذي يكفل لكل فرد، ولكل جماعة، ولكل قوم، قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالحب والبغض، ولا تتبدل مجاراة للغنى والفقر، ولا تلوي من أجل الصهر والنسب، ولا تتغير من أجل القوة والضعف.
إنما هي ثابتة تمضي في طريقها، تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [النحل: 90].
وجاء إلى جوار العدل بالإحسان يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحاً لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه، إيثاراً لود القلوب، وشفاء لغل الصدور، وتهيئة الفرصة لمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه، ليداوي جرحاً، أو يكسب فضلاً.
والإحسان شعب واسعة:(11/24)
فكل عمل طيب إحسان.. وكل كلمة طيبة إحسان.. وكل بذل وإكرام إحسان.
والأمر بالإحسان يشمل كل عمل.. وكل تعامل.. فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه في العبادات.. وفي علاقات العبد بأسرته بحسن المعاشرات.. وفي علاقات العبد بغيره بحسن المعاملات.. وفي علاقات العبد بالبشرية جمعاء بحسن الأخلاق: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [النساء: 125].
وفي المقابل ينهى الله عزَّ وجلَّ عن الظلم بكل صوره وألوانه، فينهى عن الفحشاء: وهي كل أمر يفحش ويتجاوز الحد، خاصة فاحشة الاعتداء على العرض؛ لأنه فعلٌ فاحش فيه اعتداء، وفيه تجاوز للحد.
وينهى عن المنكر: وهو كل فعل تنكره الفطرة السليمة، ومن ثم تنكره الشريعة، فهي شريعة الفطرة.
وينهى عن البغي: وهو الظلم وتجاوز الحق والعدل في كل شيء.
وكل أمة إنما تسعد بالعدل والإحسان، وتشقى بالظلم والفحشاء والمنكر والبغي، وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي.
والفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة مهما تبلغ قوتها، ومهما يستخدم الطغاة من الوسائل لحمايتها.
وتاريخ البشرية كله انتفاضات ضد الفحشاء والمنكر والبغي، وهذه عناصر غريبة على جسم الحياة، تنتفض لها الفطرة السليمة كما ينتفض الحي ضد أي جسم غريب يدخل إليه.
إن قضاء الله لا يرد، ومشيئته لا معقب لها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 44].
فالله عزَّ وجلَّ إذا علم من العبد أنه مستحق للضلال، فحقت عليه كلمة الله أن يكون من أهل الضلال، لم يكن له بعد ذلك من ولي يهديه من ضلاله، أو ينصره من جراء الضلال الذي قدره الله.
والظالمون بغاة طغاة، فناسب أن يكون الذل هو مظهرهم البارز يوم القيامة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [الشورى: 45].(11/25)
وعدل الله مطلق بين العباد في كل شيء، في العقول وسائر النعم، وفي البشر العاقل والمجنون، والغني والمحروم، والصحيح والكسير.
فإن قال قائل: ما ذنب هؤلاء المجانين والفقراء وأهل الابتلاء أن يكونوا وسيلة إيضاح لغيرهم؟.
قيل: لا شك أن الإنسان حين يرى الأعمى يتذكر فضل الله عليه في أنه أعطاه النظر، وإذا رأى إنساناً أعرج أحس بنعمة الله عليه في رجليه.
إن الله عزَّ وجلَّ جعل هذه الأحوال الشاذة في قلة من البشر، لا تكاد تذكر بالنسبة لعدد البشرية الهائل، إلا أنه سبحانه عوض هؤلاء عما فقدوه، ولا بدَّ أن لكل واحد منهم ميزة عن غيره من الخلق تعوضه عما فقد.
فهؤلاء ينالون من عطف الناس ومعاونتهم ورحمتهم بما لا يناله غيرهم، ولكل منهم نبوغاً لا يتوافر لغيره.
فأكثر الناس حفظاً لما يسمعون هم الذين فقدوا أبصارهم، والدين يحتاج إلى هؤلاء في حفظ القرآن والسنة وأحكام الدين.
والله سبحانه عندما وضع مثل هذا الشذوذ في الكون وضعه بنسبة ضئيلة جداً، ليلتفت الناس على نعمة الله عليهم، ثم بعد ذلك يأتي عون الله فيعوضه من الخير والنبوغ، والعطف الإنساني، ما ييسر له كثيراً من أمور حياته، ويمنحه فرصاً مميزة.
فعموم الناس كلهم في فضل الله ونعمته، ولكن أكثر الناس لا يدركه فيقطع الشكر، فَيُّحرم الطمأنينة والثواب: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 59، 60].
وإذا كان الله عزَّ وجلَّ أنعم على الإنسان بالعقل، ثم سلبه ذلك العقل، فله سبحانه حكمة في ذلك، كما أن لكل شيء في هذا الكون حكمة في الخروج عن المألوف.
وإذا كان عدد قليل من الناس قد فقد عقله، فقد رفع الله سبحانه وتعالى عنه التكليف في الدنيا، والحساب في الآخرة.
فهو يقول في الدنيا ما يشاء ولا يحاسبه المجتمع، وفي الآخرة كذلك لا يحاسبه الله، وفي هذا تعويض كبير عن نعمة العقل.(11/26)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ» أخرجه أبو داود والنسائي(1).
فعدل الله مطلق فيما أعطاه للإنسان، ولكل واحد من البشر ميزة يتميز بها عن غيره من البشر، تعوضه عما يعتقد أنه فقده، قد يعلمها وقد لا يعلمها، وقد يعلمها الناس وقد لا يرونها، لكن الله يعلمها، ولا يظلم ربك أحداً.
فالذي لا يملك المال من الناس يملك البركة، فيبارك الله له في القليل.
والذي لا يملك المنصب يملك الصحة التي تعوضه عن هذا كله، أو يملك البركة في أولاده، فيسر الله له سبل العلم والحياة والرزق لهم.
والذي لا يملك هذا كله يملك الستر ونعمة القناعة، إلى آخر نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، والتي لا يعلم دقيقها وجليلها إلا اللطيف الخبير.
فالأحداث العظام كالخسوف والزلازل والبراكين إذا خرجت عن طبيعتها، فالله أراد تذكرة الخلق بالخالق الذي خلقهم وخلقها ليعبدوه ويطيعوه، ويتوبوا إليه ويخافوه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الإسراء: 59].
فإذا خرج عن السنة العامة في الخلق قلة من البشر، فإنما يحصل ذلك ليذكر الناس أن هذا الكون هو من خلق الله، وأن كل شيء فيه يمضي بأمر الله، وكل شيء يمكن أن يخرج عن مهمته، ومن رحمة الله أنه يخرج بنسبة قليلة لا تذكر، تنبيهاً للغافل ليشكر، وتذكيراً للعباد بأن هذا الكون خاضع أبداً لخالقه وحده، فليتقوه لينالوا رضاه ورحمته.
والله سبحانه أوضح السبل، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، مكَّن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول وهذا عدله.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4398)، صحيح سنن أبي داود رقم (3698).
وأخرجه النسائي برقم (3432)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (3210).(11/27)
ووفق من شاء بمزيد عناية؛ لأنه أهل للهداية، وأراد من نفسه أن يعينه ويوفقه وهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله، وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه أن يوفقه فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله، وهذا نوعان:
أحدهما: ما يكون جزاء منه للعبد على إعراضه عنه، فهو أهل أن يخذله.
الثاني: أن لا يشاء له ذلك ابتداء لما يعرف عنه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية.
والشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، ومصالح كلها.
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور.. وعن الرحمة إلى الشدة.. وعن المصلحة إلى المفسدة.. وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وهداه الذي اهتدى به المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل.
والإسلام دين العدل والإحسان، ومن المبادئ الكلية للعدل، والتي يعامل الله بها عباده، والتي يملك العباد أن يعاملوا بعضهم بعضاً بها، ويعاملوا الله على أساسها فلا يصيبهم السوء ما ذكر الله سبحانه قوله: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھےے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 110-112].
فالآية الأولى تفتح باب التوبة على مصراعيه، وباب المغفرة على سعته.
والثانية تحمل كل فرد تبعة عمله، وعندئذ تنطلق كل نفس حذرة مما تكسب، مطمئنة إلى أنها لا تحاسب إلا على ما تكسب.
والثالثة تقرر تبعة من يكسب الخطيئة ثم يرمي بها البريء.
وبهذه القواعد الثلاث يرسم القرآن ميزان العدالة الذي يحاسب كل فرد على ما اجترح، ولا يدع المجرم يمضي ناجياً إذا ألقى جرمه على من سواه، وفي الوقت ذاته يفتح باب التوبة والمغفرة على مصراعيه لمن أراد.(11/28)
وميزان الثواب والعقاب ليس موكولاً إلى الأماني، إنه يرجع إلى أصل ثابت وسنة لا تتخلف، تستوي أمامه الأمم والأفراد، ولا يخرق لأحد من الناس مهما كان شأنه، فصاحب الحسنة يجزى بالحسنة، وصاحب السوء يجزى بالسوء، ولا محاباة، في هذا ولا مماراة: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [النساء: 123،124].
وجميع أوامر الله عزَّ وجلَّ كلها عدل وإحسان إلى الخلق، ولا بدَّ من تعليق قلوب الناس وأنظارهم بهذا العدل، وبذلك الجزاء، لتتعامل مع الله متجردة من كل النوازع المعوقة.
فلا بدَّ من جزاء للمؤمنين من الله على إيمانهم وأعمالهم يشجع ويقوي الإنسان على النهوض بأحكام الدين وأوامره، وعلى الوفاء بالميثاق.
ولا بدَّ أن يختلف مصير الذين كفروا وكذبوا عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله، وهذا هو العدل الإلهي الذي يجازي كل إنسان بعمله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پپ) [المائدة: 9،10].
والله عزَّ وجلَّ يعلم من طبيعة الإنسان حاجته إلى الوعد بالمغفرة، والأجر العظيم، وحاجته كذلك إلى معرفة جزاء الكافرين المكذبين.
إن هذا وذاك يرضي هذه الطبيعة، ويطمئنها على جزائها ومصيرها، ويحركها للطاعة، وينفرها من المعصية، وبذلك تتلذذ بالعبادة، وتعلم أن المغفرة والأجر العظيم دليل رضى الله الكريم، وفيها مذاق الرضا فوق مذاق النعيم.
ودين الإسلام قائم على العدل المطلق؛ لأن الله الذي شرعه يعلم حق العلم بم يتحقق العدل المطلق؟، وكيف يتحقق؟.
ولأنه سبحانه رب الجميع، فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع، وأن يجيء منهجه وشرعه مبرءاً من الهوى والميل والضعف والجور.
كما أنه مبرأ من الجهل والقصور، ومن الغلو والتفريط.(11/29)
ومنهج الإسلام متوافق مع ناموس الكون كله؛ لأن الذي شرعه هو خالق هذا الكون كله وخالق الإنسان، فإذا شرع سبحانه للإنسان شرع له كمخلوق من مخلوقاته، لكن تطيعه مخلوقات مسخرة له بأمر خالقه، لكن بشرط السير على هداه.
والله عزَّ وجلَّ أمر عباده بالعدل والإحسان، والعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، والعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفورة، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية، والمركبة منهما في حقه وحق عباده كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [النحل: 90].
ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل مسلم وكل والٍ ما عليه تحت ولايته، سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى، أو الولاية الصغرى.
ومن العدل في حق الله أداء ما أمر الله به من الإيمان والتوحيد، وطاعته وعبادته وحبه لا شريك له.
ومن العدل في حق الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان به وطاعته، وتوقيره، وتصديق ما جاء به من ربه، واجتناب ما نهى عنه، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
ومن العدل في المعاملات مع الناس أن تعاملهم بما شرع الله ورسوله في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات، وتوفي لهم حقوقهم فلا نبخس لهم حقاً، ولا نغشهم، ولا نخدعهم، ولا نظلمهم.
فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحبة، وذلك كنفع الناس بالمال والبدن والجاه والعلم، وغير ذلك من أنواع النفع، خاصة أولي القربى، فكل من كان أقرب كان أحق بالبر.
3- فقه الأمر والنهي
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [البينة: 5].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الحشر: 7].
كمال الإنسان بالإيمان والتقوى، وكمال التقوى بفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه.
وترك الأمر أعظم عند الله من ارتكاب النهي؛ لأن الله نهى آدم عن الأكل من الشجرة فأكل منها فتاب، فتاب الله عليه.(11/30)
وإبليس أُمر أن يسجد لآدم مع الملائكة فلم يسجد واستكبر، فطرده الله ولعنه.
وارتكاب النهي غالباً مصدره الشهوة والحاجة، وذنب ترك الأمر في الغالب الكبر والعزة.
والجنة لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ويدخلها من مات على التوحيد وإن زنى وسرق.
وفعل المأمورات أحب إلى الله من ترك المنهيات كما قال صلى الله عليه وسلم حين سئل أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا». قال: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ». قال: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ ا?» أخرجه البخاري(1).
وفعل ما يحبه الله من الطاعات والمأمورات مقصود بالذات، وترك المنهي مقصود لتكميل فعل المأمور، فهو منهي عنه لأجل كونه يخل بفعل المأمور أو يضعفه أو ينقصه، كما نهى الله عزَّ وجلَّ عن الخمر والميسر لكونهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة.
فالمنهيات قواطع وموانع صادة عن فعل المأمورات التي يحبها الله.
إذا عُرف هذا.. ففعل ما يحبه الله مقصود بالذات، ولهذا يُقدِّر ما يكرهه ويسخطه لإفضائه إلى ما يحب، كما قدر المعاصي والكفر والفسوق لما ترتب على تقديرها مما يحبه الله من لوازمها من الجهاد والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحصول التوبة من العبد، والتضرع إليه والاستكانة، واتخاذ الشهداء، وإظهار عدل الله وعفوه وانتقامه وعزته، وحصول الموالاة والمعاداة لأجله.
وفي فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه، وزينته وسروره، وقرة عينه، ولذته ونعيمه، وترك المنهيات بدون ذلك لا يحصِّل له شيئاً من ذلك.
وللعباد أربع حالات:
فمن فعل المأمورات وترك المنهيات فهذا ناج مطلقاً.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 256].
ومن فعل المأمورات، وفعل المنهيات، فهو إما ناجٍ مطلقاً إن غلبت حسناته على سيئاته، وإما ناج بعد عقوبته على سيئاته وتمحيصه.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (527).(11/31)
ومن ترك المأمورات وترك المنهيات، فهو هالك غير ناج، ولا ينجو إلا بفعل المأمور وهو التوحيد، فمتى خلا قلبه من التوحيد رأساً فهو هالك، وإن لم يعبد مع الله غيره.
فإن عبد معه غيره عذب على ترك التوحيد المأمور به، وفعل الشرك المنهي عنه.
والطاعات والمعاصي إنما تتعلق بالأمر أصلاً، وبالنهي تبعاً.
فالمطيع ممتثل المأمور، والعاصي تارك المأمور، واجتناب المناهي من تمام امتثال الأوامر ولوازمه.
فلو أن العبد اجتنب المنهي عنه، ولم يفعل ما أمر به، لم يكن مطيعاً، وكان عاصياً، بخلاف ما لو أتى بالأمر، وارتكب النهي، فإنه وإن عد عاصياً مذنباً، فهو مطيع بامتثال الأمر، عاصٍ بارتكاب النهي.
وامتثال الأمر عبودية وتقرب وخدمة، وتلك العبادة التي خلق الله لأجلها الخلق، بخلاف النهي فإنه أمر عدمي لا كمال فيه من حيث هو عدم، بخلاف الأمر فإنه أمر وجودي مطلوب الحصول.
والله عزَّ وجلَّ جعل جزاء المأمورات عشرة أمثالها، وجزاء المنهيات مثلاً واحداً كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [الأنعام: 160].
وهذا يدل على أن فعل ما أمر الله به أحب إليه من ترك ما نهى عنه، وإن كان كلاً منهما مقصود ومطلوب.
والله سبحانه قدر ما يبغضه ويكرهه من المنهيات؛ لما يترتب عليها مما يحبه ويفرح به من المأمورات، وهذا الفرح إنما كان بفعل المأمور به وهو التوبة.
فقدر الذنب لما يترتب عليه من هذا الفرح العظيم، الذي وجوده أحب إليه من فواته، ووجوده بدون لازمه ممتنع، وليس ذلك مطلقاً، وإنما المراد أن جنس فعل المأمورات أفضل من جنس ترك المنهيات، وكلاهما مطلوب، فالمأمورات تغذية.. والمنهيات وقاية.
والمأمور به محبوب الله سبحانه، والمنهي عنه مكروهه، ووقوع محبوبه أحب إليه من فوات مكروهه، وفوات محبوبه أكره إليه من وقوع مكروهه.
وما أمر الله عزَّ وجلَّ بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان:
فإما إلى غلو ومجاوزة.. وإما إلى تفريط وتقصير.(11/32)
وهاتان الآفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً وترك ما سواه.
وهذان المرضان الخطيران قد استوليا على أكثر بني آدم، ودين الله بين الغالي فيه، والجافي عنه.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتضي سلطة تأمر وتنهى، والأمر والنهي غير الدعوة، فالدعوة بيان وإرشاد، والأمر والنهي سلطان.
وكلاهما مما شرف الله به هذه الأمة بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104].
وذنوب العباد قسمان:
ترك مأمور به.. وفعل منهي عنه.
فالمأمور به إذا تركه العبد متعمداً، فإما أن يكون مؤمناً بوجوبه أولا يكون:
فإن كان مؤمناً بوجوبه، تاركاً لأدائه، فلم يترك الواجب كله، بل أدى بعضه وهو الإيمان به، وترك بعضه وهو العمل به.
وكذلك المحرم إذا فعله، فإما أن يكون مؤمناً بتحريمه أو لا يكون:
فإن كان مؤمناً بتحريمه، فاعلاً له، فقد جمع بين أداء الواجب، وفعل المحرم، فصار له حسنة وسيئة.
ومقصود الأمر تحصيل المصلحة، ومقصود النهي دفع المفسدة.
وقوة فعل الأوامر، واجتناب النواهي، مبنية على ما في القلوب من قوة الإيمان وضعفه، وزيادته ونقصانه.
فالإيمان هو المحرك، والأعمال منه ومن ثمراته، وهو يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
والله سبحانه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فمن شاء سلك طريق الهدى ونال ثوابه، ومن شاء تركه وتحمل عقوبته: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 35،36].
وإذا تبين الحق من الباطل، والنور من الظلام، والرشد من الغي، زال اللبس، وانكشف الأمر، وظهر ما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويسخطه:
(ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [الأنفال: 42].(11/33)
والله عزَّ وجلَّ أعطى هذه الأمة وظيفة الأنبياء والرسل، وهي الدعوة إلى الله، والأنبياء لم يبعثوا بالعبادات فقط، بل بعثهم الله بالتوحيد والإيمان، وحل جميع المشاكل الإنسانية في الدنيا والآخرة:
في العبادات، والمعاملات، والمعاشرات، والأخلاق.
فالصلاة أمر من أوامر الله، لا بدَّ أن تكون على هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فكذلك المعاملات كلها لها أوامر من الله، فلا بدَّ أن تكون على هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا المعاشرات والأخلاق، فالله أرسل الأنبياء بالدين الكامل، ومن ظن أن الدين عبادات فقط، أما باقي شعب الحياة فالناس أحرار يفعلون ما يشاءون فقد أخطأ وضل وأضل، وقال على الله ما لا يعلم.
فلا يجوز أن تكون العبادات على طريقة محمد صلى الله عليه وسلم .. والتصرف في الأموال على طريقة قارون.. ومزاولة الملك على طريقة فرعون.. والتجارة على طريقة اليهود.. وتناول الشهوات على طريقة النصارى: ( ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [البقرة: 85، 86].
إن الله عزَّ وجلَّ له أوامر في كل شيء، من أطاع الله فيها فهو رابح، ومن عصى الله فيها فهو خاسر، والأنبياء بينوا هذه الأوامر في شعب الحياة كلها، وذلك لتدخل حياة الأنبياء في حياة الناس.
فمقصدنا في التجارة ليس جمع المال، بل مقصدنا الاستعانة به على طاعة الله، وإفادة الناس منه، وامتثال أوامر الله فيه، والاستغناء به عن سؤال الناس.
وإذا طلب التاجر الدنيا مرائياً مفاخراً غضب الله عليه، وعذبه بماله في الدنيا وفي الآخرة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 55].
والمسلمون في مكة في بداية الدعوة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم، ولذلك لم ينزل الله في تلك الفترة تنظيمات وشرائع وشعائر، وإنما أنزل لهم أوامر التوحيد والإيمان وحسن الأخلاق.(11/34)
ولما اطمأنت قلوبهم بالإيمان، وسلموا أنفسهم لله، فلا يختارون إلا ما اختار الله وأمر به، حينذاك نزلت الشرائع والشعائر في المدينة متوالية كالمطر في جميع شعب الحياة، وفي جميع الأوقات والأحوال، فقبلوها وفرحوا بها وقالوا سمعنا وأطعنا.
والله حكيم عليم، فحين يتعلق الأمر أو النهي بالتوحيد والشرك، أو بالإيمان والكفر، فإن الله يقضي فيه قضاءً حاسماً منذ اللحظة الأولى، ويمضي أمره في ضربة حازمة جازمة صريحة لا غموض فيها، لا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة ولا مساومة، ولا تأجيل فيها ولا تأخير، فمن أول يوم قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : (? ? ?? ? پ پ پپ) [الكافرون: 1، 2].
وعندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة أو تقليد أو سلوك، أو وضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به، ويأخذ الأمر باليسر والرفق والتدرج، ويهيئ الفرصة والظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة عن قناعة كمسألة الرق، ومسألة تحريم الخمر والميسر، فقد كان الأمر أمر عادة وإلف، والعادة تحتاج إلى علاج لقلعها من النفوس، والعلاج يحتاج إلى وقت.
فبدأ الله عزَّ وجلَّ بتحريك الوجدان الديني في نفوس المسلمين بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، وفي هذا إيحاء بأن تركه هو الأولى.
ثم نهاهم عن أداء الصلاة وهم سكارى، وفي هذا تضييق لوقت شرب الخمر.
فلما تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر، مقروناً بالتنفير عنه، فلما اطمأنت القلوب انقادت الجوارح وأطاعت، وكسرت دنان الخمر امتثالاً لأوامر الله عزَّ وجلَّ بقوله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 90، 91].
وإذا استقام القلب بالإيمان، استقامت الجوارح بالطاعة والانقياد، وإنما يستقيم القلب بأمرين:(11/35)
تقديم ما يحبه الله تعالى على ما تحبه النفس بكمال الإيمان.. وتعظيم الأمر والنهي وهو الشريعة، وذلك ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، وهو الله عزَّ وجلَّ: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 32].
فالإنسان قد يفعل الأمر لنظر الخلق إليه، وقد يترك المناهي خشية سقوطه من أعين الناس، أو خوفاً من العقوبات الشرعية، فهذا ليس فعله وتركه صادراً عن تعظيم الأمر والنهي، ولا عن تعظيم الآمر الناهي.
وأوامر الله عزَّ وجلَّ نوعان:
أوامر كونية يدبر الله بها الكون.. وأوامر شرعية خاصة بالإنس والجن.
والأوامر الشرعية قسمان:
الأول: أوامر شرعية محبوبة للنفس كالأمر بالأكل من الطيبات، ونكاح ما طاب من النساء إلى أربع، وصيد البر والبحر ونحو ذلك.
الثاني: أوامر شرعية مكروهة للنفس وهي نوعان:
الأول: أوامر خفيفة سهلة كالأدعية والأذكار، وتلاوة القرآن، والنوافل والصلوات ونحوها.
الثاني: أوامر ثقيلة كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.
والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، يزيد بامتثال الأوامر الخفيفة والثقيلة معاً، فإذا زاد الإيمان صار المبغوض محبوباً، وصار الثقيل خفيفاً، وتحقق مراد الله من عبادة بالدعوة والعبادة، وتحركت بذلك الجوارح.
وعلامات تعظيم أوامر الله:
أن يذكر العبد الآمر بها.. ويراعي أوقاتها وحدودها.. ويأتي بأركانها وواجباتها وسننها وآدابها.. ويحرص على كمالها.. ويسارع إلى أدائها.. ويفرح بها.. ويحزن عند فواتها، كمن فاتته صلاة الجماعة ونحوها.
وأن يفرح بالطاعات.. ويسر برؤية الطائعين، وأن يغضب لله إذا انتهكت محارمه.. ويحزن عند معصيته.. ولا يسترسل مع الرخص.. ولا يكون دأبه البحث عن علل الأحكام.. بل يفعل الطاعات، ويجتنب المعاصي؛ لأن الله أمره بذلك.. فإن ظهرت له الحكمة حمله ذلك على مزيد الانقياد والعمل.(11/36)
وكل ما أمر الله ورسوله به فيجب على المسلم القيام به حسب الاستطاعة كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ھ) [التغابن: 16].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» متفق عليه(1).
وأما المنهيات فيجب اجتنابها مطلقاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الحشر: 7].
والله وحده هو عالم الغيب والشهادة، وهو الذي يقلب الليل والنهار، ويقلب القلوب والأبصار، ويحيي الأرض بعد موتها.
وهو سبحانه الحاكم في حياة العباد، وليس لغيره أمر ولا نهي، ولا شرع ولا حكم، ولا تحليل ولا تحريم، ولا خلق ولا تدبير.
فهذا كله اختص به ملك الملوك وحده لا شريك له.
وكل مسلم مأمور بفعل ما أمره الله ورسوله به، واجتناب ما نهى الله ورسوله عنه، وإذا فعل المسلم المنهي عنه متعمداً فهو آثم، إلا إذا كان مضطراً فيباح له بقدر الضرورة كالأكل من الميتة أو الخنزير بقدر الحاجة ونحو ذلك وإذا فعل المنهي عنه ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 286].
فقال الله: قد فعلت.
وقوله عزَّ وجلَّ: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?) [الأحزاب: 5].
أما ترك المأمور به فلا يعذر بجهله ولا نسيانه، فلا بدَّ من الإتيان به، لكن الله رفع عنه الإثم كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته أن يعيدها، فمن نسي الوضوء وصلى فلا إثم عليه، لكن عليه إعادة الصلاة بعد الوضوء.. وهكذا.
والحكمة في التشديد أول الأمر ثم التيسير في آخره توطين النفس على العزم والامتثال، فيحصل للعبد الأمران:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7288)، واللفظ له، ومسلم برقم (1337).(11/37)
الأجر على عزمه.. وتوطين نفسه على الامتثال.. والتيسير والسهولة بما خفف الله عنه، ومثاله: فرض الله الصلاة خمسين ليلة الإسراء، ثم خففها وتصدق بجعلها خمساً في العمل وخمسين في الأجر.
وقد يقع في الأمر والقضاء والقدر ضد هذا، فينقل الله عباده بالتدريج من اليسير إلى ما هو أشد منه؛ لئلا يفجأ هذا التشديد بغتة، فلا تتحمله النفوس ولا تنقاد إليه.
ومثاله: تدريجهم في الشرائع شيئاً فشيئاً كالتدرج في تحريم الخمر مثلاً، ومن هذا أنهم أمروا بالصلاة ركعتين، فلما ألفوها زيد فيها.
ومن هذا الصيام كان على التخيير، فلما ألفوه فرض عليهم رمضان، ومنه الإذن بالجهاد، فلما ألفوه أمروا به.
وذلك كله للتربية على قبول الأحكام والإذعان لها.
والله عزَّ وجلَّ أنزل من السماء ماءً فأخرج بسببه الثمار اليانعة، والزروع والأزهار، وكذلك أنزل الوحي من السماء إلى عباده فأخرج بسببه الأعمال الصالحة، والأخلاق الحسنة، إلا أن من الأرض ما لا يقبل الماء كالحجارة، ومن البشر من لا يقبل الهدى كالقاسية قلوبهم.
لكن الله عزَّ وجلَّ أقام الحجة على جميع العباد بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ومنحهم السمع والبصر والعقل.
والأوامر الشرعية تلزم من يعلمها، وتمكن من فعلها، ومن لا يعلمها أو لم يتمكن من فعلها فلا تلزمه؛ لأن الوجوب مشروط بالعلم والقدرة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور، أو فعل محظور بعد قيام الحجة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 15].
والله تبارك وتعالى له سنة في أمره وشرعه، وله سنة في خلقه، وله سنة في قضائه وقدره.
وحكم الله القدري يمضي في الناس على غير إرادة منهم ولا اختيار، وإلى جانبه حكم الله الشرعي الذي ينفذه الناس عن رضى منهم واختيار، وهو الحكم الشرعي المتمثل في الأوامر والنواهي، وهو كذلك من الله ولله، شأنه شأن الحكم القدري.(11/38)
لكن القدري الناس فيه مقهورون، والثاني الناس فيه مختارون: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يوسف: 40].
فسبحان الذي خلق السموات والأرض بالحق، ليأمر عباده وينهاهم، ويثيبهم ويعاقبهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجاثية: 22].
وأحكام الشريعة إنما تثبت في حق العبد بعد بلوغه هو، وبلوغها إليه، فكما لا يترتب في حقه قبل بلوغه هو، فكذلك لا يترتب في حقه قبل بلوغها إليه في العبادات والمعاملات والحدود وغيرها، ففي العبادات لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته بإعادة ما تقدم من الصلوات التي لم تكن صحيحة.. ولم يأمر معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - حين تكلم في الصلاة بالإعادة؛ لأنه لم يبلغه الحكم.. ولم يأمر من أكل في نهار رمضان بالإعادة لما ربط الخيطين؛ لأجل التأويل.. ولم يأمر المستحاضة حين تركت الصلاة أن تعيد ما تركت.. ولم يأمر المتمعك في التراب لأجل التيمم بالإعادة مع أنه لم يصب فرض التيمم، وأهل قباء صلوا إلى القبلة المنسوخة بعد بطلانها ولم يعيدوا ما صلوا، بل استداروا في صلاتهم وأتموها؛ لأن الحكم لم يثبت في حقهم إلا بعد بلوغه إليهم.
أما في المعاملات فإن الله تعالى أمر المؤمنين بترك ما بقي من الربا بعد الإسلام وهو ما لم يقبض، ولم يأمرهم برد المقبوض؛ لأنهم قبضوه قبل التحريم كما قال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [البقرة: 278].
وفي القصاص لم يضمن النبي صلى الله عليه وسلم أسامة قتيله بعد إسلامه بقصاص ولا دية ولا كفارة.
ولله عزَّ وجلَّ على كل عبد نوعان من الحقوق:
أحدها: أمره ونهيه الذي هو محض حقه عليه.
الثاني: شكر نعمه التي أنعم بها عليه.
فالله سبحانه يطالب العباد بشكر نعمه، وبالقيام بأمره، فمشهد الواجب عليه لا يزال يشهده تقصيره وتفريطه، وأنه محتاج إلى عفو الله ومغفرته.(11/39)
وكلما كان العبد أفقه في دين الله كان شهوده للواجب عليه أتم، وشهوده لتقصيره أعظم، فليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وأقل الناس ديناً وأمقتهم عند الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا بأجمعها.
والله سبحانه يتصرف في خلقه بملكه وحمده وعدله وإحسانه، فهو سبحانه على صراط مستقيم:
في قوله وفعله.. وشرعه وقدره.. وأمره ونهيه.. وعطائه ومنعه.. ونفعه وضره.. وعافيته وبلائه.. وإغنائه وإفقاره.. وإعزازه وإذلاله.. وإنعامه وانتقامه.. وإحيائه وإماتته.. وتحليله وتحريمه.. وثوابه وعقابه وفي كل ما يخلق.. وفي كل ما يقدر.. وفي كل ما يأمر: (چ چ چ ? ??) [هود: 56].
وأوامر الله التي كلفنا بها نوعان:
أحدها: ما نعرف وجه الحكمة فيه بعقولنا كالصلاة والزكاة والصيام وأكل الطيبات، وجلّ الشريعة من هذا النوع.
الثاني: ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كرمي الجمار في الحج، والوضوء من أكل لحم الجزور، ونحو ذلك.
وكما يحسن من الله أن يأمر عباده بالنوع الأول، فكذلك يحسن الأمر منه بالنوع الثاني؛ لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد؛ لأحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله وجه الحكمة والمصلحة فيه، أما الطاعة في النوع الثاني فإنها تدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم.
وإذا كان هذا في الأفعال ففي الأقوال مثله، وهو أن يأمرنا الله أن نتكلم بما نقف على معناه كالآيات، وتارة بما لا نقف على معناه كالحروف المقطعة في أوائل السور.
والمقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر، وظهور العبودية في هذا وهذا: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 7].(11/40)
وإذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً، فإن كان مطلقاً كان حكمنا كحكمه كترك الأكل متكئاً، وأنه لم ينتقم لنفسه، وأنه لا يصافح النساء في البيعة ونحو ذلك.
وإن تركه لسبب كان حكمنا كحكمه صلى الله عليه وسلم حال وجود السبب، فإذا زال السبب زال الحكم ورجع إلى الأصل.
وأسباب الترك أنواع:
منها تركه صلى الله عليه وسلم الفعل المستحب خشية أن يفرض على الأمة، ومنه ترك قيام رمضان جماعة خشية أن يفرض عليهم، فلما زالت الخشية بوفاته وانقطاع الوحي أعاد الصحابة رضي الله عنهم فعلها في المسجد زمن عمر - رضي الله عنه -.
ومنها ترك الفعل المستحب خشية أن يظن البعض أنه واجب، ومنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة استحباباً، وقد ترك ذلك يوم فتح مكة لبيان الجواز.
ومنها الترك لأجل المشقة التي تلحق الأمة في الاقتداء بالفعل، ومنه ترك الرمل في الأشواط الأربعة الأخيرة من الطواف، فلم يمنعه من أن يرمل في الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
ومنها ترك المطلوب خشية من حدوث مفسدة أعظم من بقائه، وهذا من السياسة الشرعية المقررة، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم نقض الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ؛ لأن قريشاً حديثو عهد بكفر.
ومنها الترك على سبيل العقوبة كتركه الصلاة على المدين، فلما وسع الله عليه كان يصلي ولا يسأل عن الدين.
ومنها الترك لمانع شرعي كقصة نومه عن صلاة الفجر في السفر، فلم يبادر للقضاء لكون الشمس في أول طلوعها، ويحتمل لأن بالوادي شيطان، ثم تحول بالناس وصلى بهم في مكان آخر.
والله تعالى إذا أمر عبده بأمر وجب عليه أن يعرف حده، وما هو الذي أمر به، ليتمكن بذلك من امتثاله، فإذا عرف ذلك اجتهد واستعان بالله على امتثاله في نفسه وفي غيره بحسب قدرته وإمكانه.
وكذلك إذا نهى عن أمر عرف حده، وما يدخل فيه وما لا يدخل، ثم اجتهد واستعان بالله على تركه.(11/41)
وينهى الله عزَّ وجلَّ عن الفحشاء، وهو كل ذنب عظيم استفحشته الشرائع والفطر كالشرك بالله، والقتل بغير حق، والزنا والسرقة، والعجب والكبر، واحتقار الخلق، ونحو ذلك.
وينهى كذلك عن المنكر، وهو كل ذنب ومعصية تتعلق بحق الله تعالى.
وينهى عن البغي، وهو كل عدوان على الخلق في الدماء والأموال والأعراض ونحوها.
فهذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات ولم يبق شيء إلا دخل فيها، فكل مسألة مشتملة على عدل، أو إحسان، أو إيتاء ذي القربى فهي مما أمر الله به، وكل مسألة مشتملة على فحشاء، أو منكر، أو بغي فهي مما نهى الله عنه.
وما جاءت به الشريعة من المأمورات والكفارات والعقوبات ونحوها فإنه يُفعل منه حسب الاستطاعة، فإذا لم يقدر المسلم على جهاد جميع المشركين فإنه يجاهد على من يقدر على جهادهم.
فالشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فالقليل من الخير خير من تركه، ودفع بعض الشر خير من تركه كله.
وقد أمر الله المؤمنين باتباع ما أنزل إليهم من ربهم كما قال سبحانه(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 55].
فالقرآن هو أحسن الحديث وأعظمه وأكمله بالنسبة لغيره.
وأخباره وأوامره فيه الحَسًن والأحسن فالخبر عن الأبرار والمقربين يتضمن أن اتباع الصنفين حسن، واتباع المقربين أحسن.
والأمر يتضمن الأمر بالواجبات والمستحبات، والاقتصار على فعل الواجبات حسن، وفعل المستحبات معها أحسن.
والله سبحانه أمر بالعدل والإحسان، ولا ريب أن العدل حسن، والإحسان مع العدل أحسن.
ومن اتبع الأحسن فاقتدى بالمقربين، وتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وأحسن في عبادة ربه ومعاملة خلقه، فهو أحق بالبشرى كما قال سبحانه: (ہ ہہہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 17،18].(11/42)
والأمر بالمعروف وفعل الخيرات والعبادة والتعليم كلها اعمال حسنة، وفي كل منها الحسن والأحسن كما قال سبحانه (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 10].
4- فقه النفع والضر
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 188].
وقال الله تعالى: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 71].
كل ما سوى الله عزَّ وجلَّ مملوك لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع إلا بإذن الله، فالأمر كله لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.
وهو سبحانه الذي يقلب الليل والنهار، ويقلب القلوب والأبصار، المتفرد بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، ما من دابة إلا وهو آخذ بناصيتها: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].
وذلك كله يقتضي تعظيمه ومحبته سبحانه، وعبادته وطاعته؛ لإحسانه إلى عباده، وإسباغ نعمه عليهم.
وكتاب الله عزَّ وجلَّ مملوء من ذكر حاجة العبيد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم به في الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا.
فعلى العبد التوكل على ربه وحده، والشكر له ومحبته على إحسانه، وفي تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة على عبودية الله وتفريغ قلبه له.
والله سبحانه غني حميد، كريم رحيم، فهو المحسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه سبحانه، ولا يدفع مضرة، بل رحمة منه وإحساناً.
فالله تبارك وتعالى كامل الذات والأسماء والصفات، محسن لذاته، رحيم لذاته، جواد لذاته، كريم لذاته، كما أنه غني لذاته، قادر لذاته، حي لذاته.
فإحسانه وجوده، وبره ورحمته من لوازم ذاته، لا يكون إلا كذلك، كما أن قدرته وغناه، وعلمه وحلمه من لوازم ذاته، لا يكون إلا كذلك.(11/43)
وأما العباد فلا يتصور أن يحسنوا إلا لمصالحهم:
فإنهم إذا أحبوا أحداً طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواء أحبوه لجماله أو شجاعته أو رياسته أو كرمه.
وإن جلبوا له منفعة أو دفعوا عنه مضرة فهم يطلبون العوض، إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وأجراء المستأجر، كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم.
فكل واحد من الخلق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وقد يكون عليك في ذلك ضرر إذا لم يراع المحب العدل، فإن دعوته فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه.
وأما الرب سبحانه فهو يريدك لك ولمنفعتك، لا لينتفع بك، فهي منفعة محضة لك لا ضرر فيها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 6].
فليتدبر العاقل ذلك حق التدبر، فملاحظته تمنعه أن يرجو المخلوق، أو يطلب منه منفعة له، فإنه لا يريد ذلك البتة بالقصد الأول، بل إنما يريد انتفاعه بك عاجلاً أو آجلاً، فهو يريد نفسه لا يريدك، ويريد نفع نفسه بك، لا نفعك بنفسه.
وتأمل ذلك وتدبره فيه منفعة عظيمة وراحة، ويأس من المخلوقين، سداً لباب عبوديتهم، وفتحاً لباب عبودية الله وحده.
لكن لا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، وعدم احتمال أذاهم، بل أحسن إليهم لا لرجائهم، فكما لا تخافهم لا ترجوهم.
فأغلب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك، وإن كان ذلك ضرراً عليك، فإن صاحب الحاجة لا يرى إلا قضاءها، فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك.
فما أشد ضلال من تعلق بالخلق من دون الله، حيث أعرض عن عبادة الغني المغني، الذي يملك النفع والضر، وأقبل على عبادة مخلوق مثله ليس بيده من الأمر شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 12].(11/44)
وماذا بيد المخلوق؟.. وماذا يملك المخلوق؟.. وهو فقير محتاج لا يملك إلا ما أعطاه الله إياه، فهو قاسم لا معطي، وضره أقرب من نفعه، فهل هناك أجهل وأضل ممن تعلق بمخلوق مثله، أو دونه، أو أكبر منه، وخافه ورجاه؟ وهل يليق بالمخلوق أن:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 13].
إن السعيد الرابح من أرضى الله بسخط الناس، ولم يرضهم بسخط الله، وأمات خوفهم ورجاءهم وحبهم من قلبه، وأحيا حب الله وخوفه ورجاءه فيه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 105، 106].
فالخلق كلهم لا يقدر أحد منهم أن يدفع عنك مضرة البتة، ولا يجلب لك منفعة البتة إلا بإذن الله ومشيئته وقضائه وقدره، فهو سبحانه الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [يونس: 107].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِا?، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» أخرجه أحمد والترمذي(1).
فالمنفعة والمضرة لا تكون إلا من الله وحده، فإن المرء إذا كان غير عالم بمصلحته، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغي، فغيره أولى ألا يكون عالماً بمصلحته، ولا قادراً عليها، ولا مريداً لها.
والله سبحانه هو الذي يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعاوضة ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا ليتكثر بك، ولا يتعزز بك.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (2669).
وأخرجه الترمذي برقم (2516)، صحيح سنن الترمذي رقم (2043).(11/45)
وهو سبحانه يحب الجود والبذل، والعطاء والإحسان، أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته.
فإذا حبس الله عنك فضله ونعمته فلأمرين لا ثالث لهما:
أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك، وأنت المعوق لوصول فضله إليك، فإن الله قضى أن ما عنده لا ينال إلا بطاعته، ولا يزيد ويدوم بغير شكره، ولا منعت نعمة بغير معصيته.
وكذلك إذا أنعم الله عليك بنعمة ثم سلبها منك، فإنه لم يسلبها لبخل منه، ولا استئثار بها عليك، وإنما العبد هو المتسبب في سلبها عنه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 53].
فما أعجب حال الإنسان؟.
يشكو المحسن البريء عن الشكاية، ويتهم أقداره ويلومها، والإنسان هو الذي ضيع وفرط، وقصر وعصى، وجهل وأساء، ثم قعد يعاتب ويحاسب القدر بلسان الحال أو المقال.
وهذه حال أكثر الخلق، فإن الفطرة إذا فسدت، وأطفأ الهوى نور العلم والإيمان حل الظلام، فضل المرء عمن أصل بلائه ومصيبته فيه، وأقبل يشكو الذي كل إحسان دقيق أو جليل وصل إليه منه، فإذا شكوته فإنما تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك.
وإذا عرف العبد ذلك، وعرف سبب بلائه ومصيبته، استحى من نفسه إن لم يستح من الله أن يشكو أحداً من خلقه، أو يرى مصيبته وآفته من غيره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 30].
وجميع المخلوقات كبيرها وصغيرها كالعرش والكرسي، والسموات والأرض، والطعام والشراب، والنملة والذرة، والهباءة والخردلة وغيرها.
كل هذه المخلوقات لإظهار ذاتها محتاجة إلى أمر الله في وجودها.. ومحتاجة لأمر الله في بقائها.. فكذلك لإظهار صفاتها من النفع والضر محتاجة إلى أمر الله.
فهي كالأواني الفارغة إن جاءها أمر الله بالنفع نفعت، وإن جاءها أمر الله بالضر ضرت بإذن الله، وكالعبيد ينتظرون أوامر سيدهم ليقوموا بالخدمة.(11/46)
فجميع المخلوقات في العالم العلوي والعالم السفلي إنما تعمل وتتحرك بأوامر الله الكونية، وأوامره الشرعية، فالخلق خلقه، والأمر أمره وحده لا شريك له: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأعراف: 54].
وجميع الأنبياء والرسل استعملوا الأشياء باليقين على الله عزَّ وجلَّ، وعلى أوامره، لا على ذات الأشياء كما قال هود صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [هود: 56].
فالأمر كله بيد الله، وليس بأيدي الرسل وللأنبياء ولا لغيرهم من المخلوقات شيء من الأمر والنفع والضر، فكل مخلوق، وكل رسول، وكل عبد، فقير مدبر لا يأتيه خير إلا من الله، ولا يدفع عنه الشر إلا الله، ولا يحصل على شيء من العلم إلا ما علمه الله، ولا يأخذ شيئاً من الرزق إلا ما رزقه الله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 188].
فيا جهالة من يقصد نبياً أو ولياً ويدعوه لحصول نفع أو دفع ضر، فإنه ليس بيده شيء من الأمر، ولا ينفع من لم ينفعه الله، ولا يدفع الضر عمن لم يدفعه الله عنه، ولا يعلم الغيب، ولا يعلم إلا ما علمه الله.
وإنما ينفع الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل ما أرسل به من البشارة والنذارة وعمل بذلك، فقد أنذر صلى الله عليه وسلم بالعقوبات الدينية والدنيوية والأخروية، وبين الأعمال المفضية إلى ذلك وحذر منها، وبشر بالثواب العاجل والآجل، وبين الأعمال الموصلة إليه، ورغب فيها.
فهذا نفعه صلى الله عليه وسلم الذي نفع به البشرية، والذي فاق به نفع الآباء والأمهات، والأخلاء والإخوان، بما حث العباد على كل خير، وبما حذرهم من كل شر، وبينه لهم غاية البيان: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 128].
والله تبارك وتعالى هو الواحد لا شريك له في ذاته، ولا شريك له في أسمائه وصفاته بيده الملك وهو على كل شيء قدير.(11/47)
الخلق والأمر بيده وحده.. والعطاء والمنع بيده وحده.. والنفع والضر بيده وحده.. والشفاء والمرض بيده وحده.
وكتابه القرآن فيه الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، ولكن ما كل أحد يوفق للاستشفاء به.
وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان ويقين، لم يقاومه الداء أبداً.
وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟.
فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه، وبيان سببه، وكيفية الحمية منه كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الإسراء: 82].
فالقرآن شفاء لجميع المؤمنين، وإنما ينتفع به من آمن به وتلقاه بالقبول، واعتقد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآن إن لم يتلق هذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور من أسقامها، بل لا يزيد الكفار والمنافقين إلا رجساً إلى رجسهم ومرضاً إلى مرضهم.
فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة، وإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وليس ذلك لقصور في الدواء، ولكن لخبث الطبيعة، وفساد المحل، وعدم قبوله.
فالقرآن شفاء لجميع الخلق لكن المؤمنين انتفعوا به، والكفار أعرضوا عنه فزادت أسقامهم: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [يونس: 57].
وإذا علمنا هذا فعلينا التوجه إلى الهادي الكافي الشافي الرازق في جميع حوائجنا، وتقديم الشكوى فقط للغني الذي له ما في السموات وما في الأرض، وقد تكفل سبحانه بإجابة الداعين، وإعطاء السائلين، والمغفرة للمستغفرين.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 186].(11/48)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي، فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه(1).
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
5- فقه الحلال والحرام
قال الله تعالى: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [يونس: 59].
وقال الله تعالى: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [النحل: 116، 117].
الله تبارك وتعالى له ملك السموات والأرض، وله خزائن السموات والأرض، أحل لنا ما فيه مصلحة، وحرم علينا ما فيه مضرة.
والله عزَّ وجلَّ يغار، ومن غيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه، ولأجل غيرته سبحانه حرم أشياء، وأباح أشياء؛ لأن الخلق عبيده وإماؤه، فهو يغار على إمائه كما يغار السيد على جواريه، ولله المثل الأعلى.
ويغار على عبيده أن تكون محبتهم لغيره، بحيث تحملهم تلك المحبة على عشق الصور، وفعل الفاحشة.
ويغار على خلقه جميعاً أن يتركوا ما ينفعهم، ويأكلوا ما يضرهم، أو يفعلوا السيئ والقبيح من الفواحش والآثام، ويتركوا الحسن والجميل من الأقوال والأعمال والأخلاق.
والله سبحانه خلق الإنسان وأكرمه وهيأ له ما يحتاجه من الطعام والشراب وأحل له أشياء، وحرم عليه أشياء، وأمره بأشياء، ونهاه عن أشياء، رحمة به وإحساناً إليه وحماية له.
فأمره الله بعبادته وطاعته وكل ما يصلحه وينفعه، ونهاه عن الشرك به ومعصيته وكل ما يضره ويفسده.
والمحرمات في الشرع قسمان:
الأول: محرم لعينه كالنجاسات من الخبائث، والنجاسات من الدم والميتة والخنزير ونحوها.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145)، واللفظ له، ومسلم برقم (758).(11/49)
الثاني: محرم لحق الغير، وهو ما جنسه مباح من المطاعم والمشارب والملابس والمراكب والمساكن والأموال ونحوها.
وهذه إنما تحرم لسببين:
أحدهما: أخذها بغير طيب نفس صاحبها، ولا إذن الشارع فيها، كمن يأخذها بطريق السرقة أو الغصب أو الخيانة، وهذا هو الظلم المحض.
الثاني: أخذها بغير إذن الشارع وإن أذن صاحبها، وهي العقود والقبوض المحرمة كالربا والميسر ونحوهما.
ومن حصلت بيده هذه الأموال فعليه التوبة، وردها إلى أهلها، فإن لم يعلم صاحبها فإتلافها إضاعة لها وهو محرم، وحبسها مع أنه لا يرجى معرفة صاحبها أشد حرمة من إتلافها، فتعين إنفاقها في جهات البر والقرب التي يتقرب بها إلى الله للتخلص منها، ونفع خلق الله بها، وأجرها يعود لمالكها الحقيقي، فإن الله خلق الخلق لعبادته، وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على طاعة الله وعبادته، فتصرف في سبيل الله بهذه النية.
والله سبحانه وتعالى أحل للمؤمنين الأكل من الطيبات؛ ليستعينوا بها على طاعة الله، وحرم عليهم الخبائث؛ لئلا تضرهم.
وأما الكفار فلم يأذن الله لهم في أكل شيء، ولا أحل لهم شيئاً من الطيبات، وإنما هي حلال للمؤمنين بالله فقط كما قال سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [الأعراف: 32].
والكفار معتدون على الطيبات التي أحلها الله للمؤمنين، ومحاسبون يوم القيامة على النعم التي تنعموا بها، ولم يشكروا الله عليها.
والله عزَّ وجلَّ لم يبح إعانة العاصي على معصيته، ولا أباح له ما يستعين به على المعصية، فلا تكون مباحات لهم إلا إذا استعانوا بها على الطاعات.
فالله عزَّ وجلَّ أباح للمؤمنين الطيبات؛ لأنهم ينتفعون بها، ويشكرون الله عليها كما أمرهم ربهم بقوله: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [البقرة: 172].(11/50)
والله عزَّ وجلَّ إذا حرم شيئاً حرم كل شيء يوصل إليه، ويستحيل على الحكيم العليم أن يحرم الشيء ويتوعد على فعله بأعظم أنواع العقوبات، ثم يبيح التوصل إليه بنفسه بأنواع الحيل.
وقد حرم الله على اليهود الشحوم فجملوها وباعوها حيلة، وحرم عليهم صيد السمك يوم السبت فحبسوه يوم السبت وأخذوه يوم الأحد حيلة فعاقبهم الله وجعلهم قردة خاسئين كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [البقرة: 65].
وحرم الله على اليهود طيبات أحلت لهم عقوبة لهم على بغيهم وظلمهم وصدهم عن سبيل الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 160، 161].
فهذا كله تحريم عقوبة على اليهود البغاة الظالمين.
أما ما حرمه الله على هذه الأمة من الأشياء فهو صيانة لهم وحماية.
فهو سبحانه أمر عباده بما أمرهم به رحمة منه وإحساناً وإنعاماً عليهم؛ لأن صلاحهم في معاشهم وأبدانهم وأرواحهم بفعل ما أمروا به، فهو بمنزلة الغذاء الذي لا قوام للبدن إلا به بل أعظم، وليس مجرد تكليف وابتلاء كما يظنه كثير من الناس، ونهاهم عما نهاهم عنه صيانة لهم وحمية عما يضرهم.
فلم يأمرهم حاجة منه إليهم وهو الغني الحميد، ولا حرم عليهم ما حرم بخلاً منه عليهم وهو الجواد الكريم.
وما حرمه الله عزَّ وجلَّ نوعان:
الأول: محرم لذاته لا يباح بحال كالمذكور في قوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 33].
الثاني: محرم تحريماً عارضاً، فيباح في حال دون حال كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، والخمر، فهذه محرمات أبداً، لكنها تباح للمضطر بقدر الحاجة كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [النحل: 115].
والمحرمات بالنسبة للإنسان قسمان:
أحدها: محرمات تعافها النفوس كالميتة والدم والنجاسات، فهذه اكتفى الشرع بتحريمها دون عقوبة.(11/51)
الثاني: محرمات تشتهيها النفوس كالزنا والسرقة والخمر، وهذه جعل الله لها عقوبات مقدرة، تطهر من ارتكبها، وتزجر من همّ بها.
والمحرمات لها أربع مراتب:
فأدناها الفواحش.. وأشد منها تحريماً الإثم والظلم.. وأشد منهما تحريماً الشرك بالله سبحانه.. وأشد تحريماً من كل ما سبق القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 33].
فالقول على الله بلا علم أشد هذه المحرمات تحريماً، وأعظمها إثماً عند الله، فهو يتضمن الكذب على الله، ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته، وإثبات ما نفاه، وإحقاق ما أبطله، وإبطال ما أحقه، وعداوة من والاه، وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه، وبغض ما أحبه.
ووصف الله بما لا يليق به في ذاته وأسمائه وصفاته، وأقواله وأفعاله، فليس في جنس المحرمات أعظم عند الله منه، ولا أشد إثماً، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم.
فلا يجوز لأحد أن يقول على الله بلا علم، ويكذب على الله ورسوله.
قال الله تعالى: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ??) [النحل: 116، 117].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» متفق عليه(1).
وإذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم، فإما أن يكون عالماً بالحق فيها.. أو غالباً على ظنه.. أو لا يعلم.
فإن لم يكن عالماً بالحق فيها، ولا غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بما لا يعلم، ومتى أقدم على ذلك فقد تعرض لعقوبة الله.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (110)، ومسلم برقم (3).(11/52)
وإن كان عالماً بالحق فيها أو غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بغيره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 18].
والحلال ما أحله الله ورسوله من الأقوال والأعمال والأشياء، والحرام ما حرمه الله ورسوله، وأمر العباد ونهيهم عين حظهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ومصدر أمره ونهيه رحمته الواسعة، وبره وجوده، وإحسانه وإنعامه، فله الحمد والشكر على ما شرعه وأمر به.
وليس لأحد من الخلق أن يحل أو يحرم من عند نفسه: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [النحل: 116، 117].
والله تبارك وتعالى هو الخالق لعباده، وهو الرازق لهم، والجهة التي تخلق وترزق هي التي تشرع فتحل وتحرم، وتأمر وتنهى.
وقد أباح الله للناس جميعاً أن يأكلوا مما رزقهم الله في الأرض حلالاً طيباً إلا ما شرع لهم حرمته لمضرته، وحذرهم من عدوهم الشيطان الذي غرَّ أباهم آدم فأوقعه فيما حرم الله فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 168].
وينادي الله المؤمنين بالصفة التي تربطهم به سبحانه، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع، وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام، ويذكرهم بما رزقهم، فهو وحده الرازق، الذي أحل لهم الطيبات التي تنفعهم وحرم عليهم الخبائث التي تضرهم فيقول: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [البقرة: 172].
والله عزَّ وجلَّ مالك الملك، ومالك كل موجود؛ لأنه موجده، وقد استخلف الإنسان في هذه الأرض، ومكنه مما ادخره له فيها من أرزاق وأقوات، وقوى وطاقات، على عهد منه وشرط.
ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى يصنع فيه الإنسان ما يشاء، كيف شاء.
إنما استخلفه على أن يقوم بالخلافة وفق منهج من استخلفه، وحسب شريعته.
فما وقع منه من عقود وأعمال، وعبادات ومعاملات، ومعاشرات وأخلاق، وفق التعاقد فهو صحيح نافذ، وما وقع منه مخالفاً للعقد فهو باطل موقوف.(11/53)
فإن أنفذه قوة وقسراً فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله، ولا يقره المؤمنون بالله.
فالخلق والأمر والحكم في الكون كله لله وحده، والناس كلهم ليس لهم أن يخرجوا عن منهج الله وشريعته؛ لأنهم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد، ولهم حقوق وعليهم واجبات، وليسوا ملاكاً خالقين لما في أيديهم من أرزاق، ولا مدبرين بملك غيرهم إلا حسب أمره.
ومن بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم كإخوة.
فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه، مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده، فلا يكون أحدهم كلاًّ على أخيه أو على الأمة وهو قادر على العمل.
وجعل سبحانه الزكاة فريضة في المال محددة، والصدقة تطوعاً غير محدد، وأمرهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال، وأن يتجنبوا الإسراف والتبذير فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم، وفيما يستمتعون به من الطيبات التي أحلها لهم.
وشرط عليهم في تنمية أموالهم أن يلتزموا وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد كالربا والغش والغصب والاحتكار، وغير ذلك ما يضر بحياة المسلمين، ويسبب العداوة والحروب، ويسحق البشرية سحقاً، ويشقيها أفراداً وشعوباً لمصلحة حفنة من المرابين، ويحطمها أخلاقياً، ويحدث الخلل في دورة المال بين الناس.
فالربا كله ظلم.. والغش ظلم.. والغصب ظلم.. والاحتكار ظلم، وقد لعن الله كل ظالم، وتوعده بالعذاب الأليم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [النساء: 10].
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ» أخرجه مسلم(1).
وإخراج المال له وجهان:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1598).(11/54)
الأول: وجه طيب سمح جميل طاهر، وهو إخراج المال زكاة، أو هدية أو صدقة، والصدقة: نزول عن المال بلا عوض، ولا رد، ابتغاء وجه الله.
والهدية بذل المال لكسب الإخوان، وتأليف القلوب، وإكرام أهل الفضل.
والزكاة حق معلوم من المال بقدر معلوم، لطائفة مخصوصة.
الثاني: وجه كالح طالح محرم، وهو إخراجه من أجل الحصول على الربا.
والربا: إخراج المال ثم استرداده، ومعه زيادة محرمة مقتطعة من جهد المدين أو لحمه.
فالزكاة والصدقات مقابل للنظام الربوي الذي يمحق الأموال.
فالأول أمر به الرحمن الرحيم، والثاني أمر به الشيطان الرجيم.
ولما قام سوق الربا اختفى سوق الزكاة إلا ما شاء الله، وبهتت صورة الزكاة حتى ظنها بعض الناس إحساناً فردياً هزيلاً، فمن شاء أخرجها ومن شاء منعها، وحظ البشرية التي حرمت نفسها الدين أنها خسرت الدنيا والآخرة، وحرمت نفسها الطمأنينة والرضا، فوق حرمانهم من الأجر والثواب، وحرموا من الخير الذي يبشر الله به عباده وأولياءه بقوله: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [البقرة: 277].
إن الذي يملك حق التحليل والتحريم في هذا الكون هو الذي خلقه، وهو الله وحده لا شريك له، وليس ذلك لأحد من البشر، لا فرد، ولا طبقة، ولا أمة.
وكل جهة أخرى تحلل أو تحرم شيئاً في حياة البشر فإنما تصدر أحكاماً باطلة بطلاناً أصلياً، فليس لأحد غير الله أن يحلل أو يحرم في طعام أو شراب أو نكاح، ولا في لباس، ولا في حركة، ولا في عمل، ولا في عقد، إلا أن يستمد سلطانه من الله حسب شريعة الله.
وكل ما يشرعه البشر للبشر بغير سلطان من الله فهو من حكم الجاهلية، وهو اعتداء على حق الله في خلقه، ومن ثم فهو باطل بطلاناً أصلياً فما أعظم جرم هؤلاء الذين يشرعون للناس من دون الله: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 21].(11/55)
وكل ما أحله الله عزَّ وجلَّ فهو الطيب، وكل ما حرمه فهو الخبيث، وليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له لأمرين:
أحدهما: أن التحليل والتحريم من خصائص الله الرازق، فمن اختار لنفسه غير ما اختار الله فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله، ولا يستقيم معه إيمان.
الثاني: أن الله يحل الطيبات، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات التي بها صلاحه وصلاح الحياة، فإن بصره بنفسه، وبصره بالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات، وليس هذا من الإيمان: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الأحزاب: 36].
فالإسلام دين العدل والرحمة والعمل، لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية، ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان تعمل عملاً نافعاً سوياً، ومن ثم حارب الرهبانية؛ لأنها كبت للفطرة، وتعطيل للطاقة، وتعويق عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء.
كما نهى عن تحريم الطيبات كلها؛ لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها، وتحقيق مراد الله في الحياة.
وزوال الكفر والكبائر، والفواحش والمنكرات يبدأ من العقيدة، من شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وقد طالت فترة إنشاء لا إله إلا الله في القلوب في العهد المكي حتى بلغت ثلاثة عشر عاماً، وكانت غايتها تعريف الناس بإلههم الحق، وتعبيدهم له، وتطويعهم لأمره.
حتى إذا خلصت نفوسهم لله، وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله، عندئذ بدأت التكاليف بما فيها الشعائر التعبدية.
وبدأت كذلك عملية تنقية رواسب الجاهلية الأخلاقية والمالية والاجتماعية، بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال، بدأت الأوامر والنواهي بعد الاستسلام لله، بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء، بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب أمر الله رأي أو اختيار.
فلما انحلت العقدة الكبرى عقدة الكفر والشرك انحلت العقد كلها.(11/56)
ولما انتصر الإسلام على الجاهلية من أول يوم، وذلك بدخول الإيمان في القلوب، لم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي، ودخل الناس في السلم كافة بقلوبهم وأرواحهم وجوارحهم.
والعمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية لله، على الطاعة لله، إظهاراً لكمال العبودية لله سبحانه، وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يلتمس حكمة الله بقدر ما يستطيع فيما أمر الله به أو نهى عنه.
فإن عرف الحكمة فذلك من فضل الله، وإن لم يعرف فمقتضى العبودية الطاعة والانقياد والتسليم لله.
والحلال كله طيب.. والحرام كله خبيث.. فلا يستويان أبداً: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [المائدة: 100].
وإذا كانت كثرة الخبيث تغر وتعجب ففي الطيب متاع بلا معقبات من ندم أو تلف، وبلا عقابيل من ألم أو مرض، وما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيب مثلها، بل أحسن منها على اعتدال وأمن من العاقبة في الدنيا والاخرة.
والعقل كلما تخلص من الهوى بمخالطة التقوى له، ومراقبة القلب له، يختار الطيب على الخبيث، فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة والله سبحانه جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وأكرمها بأفضل الكتب والرسل والشرائع، وأعدها لحمل منهج الله في الأرض، لتستقيم عليه، وتقيم الناس عليه.
وحينئذ تكون ربانية حقاً، وترتفع بشريتها إلى أحسن تقويم.
وعندئذ لا يستوي في ميزانها الخبيث والطيب ولو أعجبها كثرة الخبيث، فترفض الخبيث مع كثرته، وتأخذ الحق ولو جفاه الناس.
فحين ينتفش الباطل، فتراه النفوس رابياً، وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته، ثم ينظر المؤمن الذي ينظر ويزن بميزان الله إلى هذا الباطل المنتفش فلا تضطرب يده، ولا يزوغ بصره، ولا يختل ميزانه، ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له، ولا عدة حوله ولا عدد، إنما هو الحق المجرد إلا من صفته وذاته، وإلا من ثقله في ميزان الله.(11/57)
والتحليل والتحريم بغير شرع الله هو والشرك سواء، فهو شرك مثله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 31].
قال عدي بن حاتم - رضي الله عنه - إنهم ما عبدوهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» أخرجه الترمذي(1).
فمن أطاع بشراً في شريعة من عند نفسه، ولو في جزئية واحدة، فإنما هو مشرك، خرج من الإسلام لله إلى الشرك بالله، ما دام أنه يتلقى من غير الله، ويطيع غير الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الأنعام: 121].
إن هذا الدين شريعته كعقيدته في تقرير صفة الإسلام أو الشرك.. بل إن شريعته من عقيدته في هذه الدلالة.. بل إن شريعته هي عقيدته.. إذ هي الترجمة الواقعية لها:
تظهر في العبادات التي بين العبد وربه.. وفي المعاملات التي بين العبد وغيره.
فكل ما جاء به الإسلام فنحن مأمورون باتباعه وعدم الخروج عنه كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الأنعام: 153].
والإيمان بالله يقتضي فعل جميع أوامر الدين، واجتناب نواهيه، ومن عمل ببعض أوامره، وترك البعض الآخر، فما أجدره بالخزي في الدنيا، والعذاب الشديد على جرمه في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [البقرة: 85].
ولا يفعل ذلك إلا من زهد في الدين فأخذ ما يروق له، وترك ما لا تحب نفسه، واشترى الحياة الدنيا بالآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [البقرة: 86].
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (3095)، صحيح سنن الترمذي رقم (2471).(11/58)
إنه لمن المؤسف حقاً أن كثيراً من المتحمسين لهذا الدين ضلوا الطريق، فجعلوا قضية الحكم بغير ما أنزل الله في شئون الحياة قضية منفصلة عن قضية العقيدة، لا تجيش لها نفوسهم كما تجيش للعقيدة، ولا يعدون المروق منها مروقاً من الدين كالذي يمرق من عقيدة أو عبادة.
وهذا الدين هو مجموعة أوامر الله التي أنزلها في كتابه، وأمر بها جميع عباده، فلا يعرف الفصل بين العقيدة والعبادة والشريعة، إنما هي الزحزحة التي زاولتها أجهزة مدربة قروناً طويلة، حتى انتهت مسألة الحكم بغير ما أنزل الله إلى هذه الصورة الباهتة، وانفصلت أوامر الساحة والسوق عن أوامر المسجد، وظل الدين محبوساً في النفس وداخل المسجد، وحكم الطاغوت في بلاد المسلمين بغير ما أنزل الله، وتركهم يصلون صلاة لا روح فيها، لا تذكر بالله، ولا تزجر عن منكر.
وهذا بلاء عظيم.. وشر مستطير.. ومنكر أكبر.. ألا وهو قيام الحياة على غير التوحيد.
إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك، ولا يحكمون على المتحاكم إلى الطاغوت بالشرك، ويتحرجون من هذه، ولا يتحرجون من تلك، إن هؤلاء لا يقرؤون القرآن كما أنزل، ولا يفقهون نصوصه، ولا يدركون كلياته، فليقرؤوا القرآن فهو مملوء بتقرير ذلك كما قال سبحانه: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الأنعام: 121].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 31].
وكثير من المتحمسين لهذا الدين يشغلون بالهم وبال الناس، ويصرفون أوقاتاً طويلة وجهوداً كثيرة لبيان أن هذا القانون الصادر من الطاغوت منطبق على شريعة الله أو غير منطبق، وتأخذهم الغيرة على بعض المخالفات هنا وهناك، كأن الإسلام كله قائم لا ينقصه إلا زوال هذه المخالفات.
هؤلاء وأمثالهم يؤذون الدين من حيث لا يشعرون، بل يطعنونه الطعنة النجلاء بمثل هذا التصرف.(11/59)
إنهم يغرفون الطاقة الإيمانية الباقية في نفوس الناس في هذه الاهتمامات الجزئية، وإن كانت مطلوبة من كل أحد، لكنهم يتركون الأهم والأولى وهو التحاكم إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به.
إنهم يؤدون بهذا شهادة ضمنية لهذه الأوضاع الجاهلية، بأن هذا الدين قائم فيها، لا ينقصه إلا أن تصحح هذه المخالفات، بينما الدين كله متوقف عن الوجود أصلاً، ما دام لا يتمثل في نظام وأوضاع الحكم فيها لله وحده لا لغيره من العباد والطواغيت الذين جعلوا لأنفسهم حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد.
إن الله تبارك وتعالى يقرر في كتابه، بل غالباً في كل آية، أن الله وحده له الخلق والأمر، وله الحكم وحده لا شريك له، وأنه الذي يستحق الطاعة والعبادة وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأعراف: 54].
فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس المسلمين في مكة، واطمأنت لها قلوبهم، يسر الله لهم مزاولتها الواقعية في المدينة بنزول أحكام العبادات والمعاملات، فهم داخل المسجد وخارج المسجد يمتثلون كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، فيما بينهم وبين ربهم، وفيما بينهم وبين الناس، وقدموا أوامر الله على كل ما سواه فرضي الله عنهم ورضوا عنه، وفازوا بدار كرامته: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
إن كل تصرف في الحياة بما لم يأذن به الله فهو شرك، وفاعله مشرك أشرك مع الله غيره في طاعته، كما أشرك عابد الوثن مع الله غيره في عبادته، هذا شرك في الطاعة، وهذا شرك في العبادة، والشرك كله وألوانه وأشكاله وأهله في النار كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [المائدة: 72].(11/60)
إن الخالق المالك الرازق هو الله وحده لا شريك له، وهو الحقيق بأن تكون له الربوبية والألوهية والعبودية بلا جدال، وأن يفرد سبحانه بتحكيم شرعه فيما خلق، وفيما رزق، وفيما أعطى، وفي كل شئون الحياة.
فالله وحده هو الذي له الحكم، إذا حرم الشيء فهو حرام، وإذا أحله فهو حلال، وإذا أمر فيجب أن يطاع أمره، وإذا نهى فيجب الكف عما نهى عنه.
وهو سبحانه وحده المشرع للناس، كما أنه وحده المشرع للكون: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [الحج: 34، 35].
إن كفر مزاولة التشريع بالتحليل والتحريم ككفر الاعتقاد وإشراك أحد مع الله في العبادة كلاهما شرك، هذا شرك في العبادة، وذاك شرك في التشريع، وكلاهما من وحي الشيطان لا من وحي الرحمن: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 21].
فكل من شرع للناس ما لم يأذن به الله من الشرك والبدع، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله ونحو ذلك فهو مشرك، ومن أطاعه واتبعه فهو مشرك:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 110].
وقد أقام الله سبحانه الخلق بين الأمر والنهي.. والعطاء والمنع، فافترقوا فرقتين:
فرقة قابلت أمره بالترك، ونهيه بالارتكاب، وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط، وهؤلاء أعداؤه.
وفرقة قالوا: إنما نحن عبيدك إن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا كففنا عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك.
فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة، فإذا ماتوا صاروا إلى النعيم المقيم.
كما أنه ليس بين أولئك وبين النار إلا ستر الحياة، فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم.
فلينظر الإنسان مع أي الفريقين هو؟ وإلى أي الدارين يسير؟.
(ے ے ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 18-20].(11/61)
ومن ذات الله تبارك وتعالى تنزل في كل لحظة مليارات الأوامر الكونية التي لا يحصيها إلا الله على كافة المخلوقات في العالم العلوي والعالم السفلي:
أوامر بالإيجاد.. وأوامر بالبقاء.. وأوامر بالنفع والضر.. والحياة والموت.. والتحريك والتسكين.. والتصريف والتدبير.
فسبحان العليم الذي أحاط علمه بكل شيء، ووسعت رحمته كل شيء: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الزخرف: 84].
ومنه تبارك وتعالى تنزل الأوامر الشرعية على الناس بواسطة الرسل، فإذا تطابقت أفعال الناس مع أوامر الله الشرعية سعدوا في الدنيا والآخرة، وإذا عصى الناس أوامر الله الشرعية شقوا في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 123- 125].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لأمته الحلال والحرام من الأقوال والأعمال والأشياء، فأحل لهم الطيبات وكل ما فيه منفعة، وحرم عليهم الخبائث وكل ما فيه مضرة.
والمغالبات في الشرع تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: محبوب مرضي لله ورسوله، معين على تحصيل محاب الله، وذلك مثل السباق بالخيل والإبل، والرمي بالسهام ونحوهما مما فيه إعانة على الجهاد فهذا يشرع فيه بذل الرهن، وأكل المال به أكل بحق.
الثاني: مبغوض مسخوط لله ورسوله، موصل إلى ما يكرهه الله ورسوله كسائر المغالبات التي توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة كالنرد والشطرنج ونحوهما.
فهذا محرم وحده ومع الرهان، إذ مفسدته راجحة على مصلحته، وأكل المال به ميسر وقمار، وذلك رجس من عمل الشيطان، أمر الله باجتنابها وأخبر أنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وتهدد من لم ينته عنها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 90].
ومن لعب بالنرد فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه، والشطرنج أشد تحريماً من النرد؛ لأنه أشد شغلاً للقلب، وصداً عن ذكر الله وعن الصلاة.(11/62)
فهذه المغالبات وأمثالها محرمة؛ لأنها تلهي بلا منفعة، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، لشدة التهاء النفوس بها، وإيقاعها للعداوة والبغضاء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 91].
وجميع المعاصي يجتمع فيها هذان الوصفان:
العداوة والبغضاء.. والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
الثالث: ما ليس بمحبوب لله ولا مسخوط له، بل هو مباح لعدم المضرة الراجحة كالسباق على الأقدام، والسباحة، والمصارعة، ورفع الأثقال ونحو ذلك، وهذا يكون بالنية الصالحة عملاً صالحاً.
فهذا القسم رخص فيه الشارع بلا عوض؛ لما فيه من المصلحة الراجحة، ولما فيه من إجمام واستراحة للنفس، واقتضت حكمة الشارع تحريم العوض فيه؛ لئلا تتخذه النفوس صناعة ومكسباً، وتلتهي به عن مصالح دينها ودنياها.
وأصول هذه المغالبات كالخمر، قليلها يدعو إلى كثيرها، وكثيرها يصد عن ما يحبه الله ورسوله، ويوقع فيما يبغضه الله ورسوله.
6- فقه السنن والبدع
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [آل عمران: 85].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه مسلم(1).
السنة: هي ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بقوله أو فعله أو تقريره أو صفته.
والبدعة: نقيض السنة، مشتقة من ابتدع الشيء إذا أوجده على غير مثال سابق، وهي كل ما لم يشرعه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من معتقد أو قول أو فعل.
وجميع العبادات لا تكون مقبولة ولا تصح إلا بثلاثة شروط:
الأول: أن تكون مشروعة بالوحي الإلهي لقوله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أحْدَثَ فِي أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» متفق عليه(2).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1718).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718).(11/63)
الثاني: أن تكون خالصة لله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [البينة: 5].
الثالث: المتابعة، وتحصل المتابعة بتحقيق ستة أمور:
الأول: السبب: فقيام الليل مشروع، لكن من أحيا ليلة المعراج، أو ليلة النصف من شعبان، معتقداً مشروعية ذلك فهو بدعة.
الثاني: الجنس: فالأضحية مشروعة، لكن لو ضحى بفرس فهذا الجنس لا يجوز.
الثالث: القدر: فلو زاد ركعة خامسة في صلاة العصر لم يقبل منه.
الرابع: الكيفية: فلو غسل رجليه في الوضوء قبل يديه لم يصح لمخالفته الشرع.
الخامس: الزمان: فلو حج أو صام رمضان في غير وقته لم يصح.
السادس: المكان: فلو اعتكف في غير المسجد لم يصح.
والبدع ثلاثة أنواع:
بدع اعتقادية.. وبدع قولية.. وبدع فعلية.
فالبدع الاعتقادية: كاعتقاد أن الأولياء والأبدال يدبرون العالم، واعتقاد أن أرواح الأولياء على أفنية القبور تشفع لمن زارهم، وتقضي حاجته، واعتقاد أنهم يعلمون الغيب، وأن الأولياء ينظرون في اللوح المحفوظ أحياءً وأمواتاً، وغير ذلك مما يقوله أهل الباطل ويعتقدونه.
والبدع القولية: كسؤال الله تعالى بجاه فلان، أو بحق فلان، والاستغاثة بالأولياء، ودعائهم، وسؤالهم الشفاء، والأذكار المخالفة، والأذكار الجماعية ونحوها.
والبدع الفعلية: وهي قسمان:
بدع عملية في العبادات.. وبدع عملية في المعاملات.
فالبدع العملية في العبادات أنواع:
أحدها: ما يكون في أصل العبادة، بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع كأن يحدث صلاة غير مشروعة، أو صياماً غير مشروع أو أعياداً غير مشروعة ونحو ذلك.
الثاني: ما يكون في الزيادة على العبادة المشروعة كمن زاد ركعة رابعة في صلاة المغرب مثلاً، أو زاد على الأذان المشروع، أو زاد على الوضوء المشروع، أو زاد في الصيام المشروع ونحو ذلك.(11/64)
الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة، أو الإسراع في الصلاة ونحو ذلك.
الرابع: ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع كتخصيص ليلة النصف من شعبان بالقيام، ويومها بالصيام، أو تخصيص ليلة المولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج بصلاة وأذكار ونحو ذلك.
والبدع العملية في المعاملات كسجن الزاني بدل إقامة الحد عليه، وسجن السارق بدل إقامة الحد عليه، وسجن القاتل بدل إقامة الحد عليه ونحو ذلك.
فهذا كله مردود على من عمله، وغير مقبول منه لقوله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه مسلم(1).
وكل بدعة في الدين فهي محرمة وضلالة، ومردودة على من أحدثها، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
والبدع لها أحكام:
فمنها ما هو كفر صراح كالطواف بالقبور، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم قضاء الحاجات، وكشف الكربات.
ومنها ما هو من وسائل الشرك كالبناء على القبور، ودعاء الله عندها، والصلاة عندها ونحو ذلك.
ومنها ما هو معصية لله كبدعة التبتل والاختصار بقصد قطع شهوة الجماع، والصيام قائماً في الشمس ونحو ذلك.
والمصلحة: هي ما جلبت خيراً أو دفعت شراً، ولم يوجد في الشريعة ما يدل على ثبوتها أو نفيها.
والشريعة قائمة على أساس جلب المنافع ودفع المفاسد، فما حقق للمسلم خيراً، أو دفع عنه شراً جاز للمسلم استعماله والانتفاع به بشرط ألا يكون الشرع قد ألغاه.
فليس للمرأة أن تزني لما يحصل لها من المنفعة المادية؛ لأن هذه الوسيلة كالمنفعة المتوسل إليها قد ألغاها الشارع وأبطلها، لمنافاتها مقاصد الشرع.
والمصالح المرسلة تكون في ثلاثة أشياء:
في الضروريات.. والحاجيات.. والتحسينات.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1718).(11/65)
فالضروريات: كجمع المصحف وكتابته في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما، فليس هذا من باب البدعة الحسنة، وإنما هو من باب المصالح المرسلة، لحفظ القرآن من الضياع.
فهذا العمل مصلحة ظاهرة، لم يشهد لها الشرع باعتبار ولا إلغاء.
والحاجيات والتحسينات:
كالحاجة إلى اتخاذ المحاريب في القبلة في المساجد، وزيادة عثمان الأذان الثاني للجمعة، تذكيراً للناس بقرب الوقت، وتحقق مصلحة حضور الناس، ولم يشهد الشرع لهما باعتبار ولا إلغاء.
فالأولى من قبيل الحاجة.. والثانية من قبيل التحسينات والكمالات، ومثلها اتخاذ المنارات ومكبرات الصوت لسماع الخطبة والأذان والتكبير والقراءة.
فهذه كلها من المصالح المرسلة التي لم يشهد لها الشارع باعتبار ولا إلغاء.
والمصالح المرسلة لا تراد لذاتها، وإنما تراد لحفظ واجب أو أدائه، أو درء مفسدة أو جلب منفعة.
أما البدع المحدثة فهي تراد لذاتها، وهي تشريع يضاهى به شرع الله مقصود لذاته، لا وسيلة إلى غيره من جلب منفعة أو دفع مفسدة.
والتشريع المقصود بذاته من حق الله تعالى وحده، وغير الله لا يقدر على وضع عبادة تؤثر في النفس البشرية بالتطهير والتزكية، والإنسان ليس أهلاً لذلك أبداً.
وأسباب ظهور البدع في الأمة أمور:
الأول: الجهل بأحكام الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُْمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» أخرجه أبو داود والترمذي(1).
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4607)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (3851).
وأخرجه الترمذي برقم (2676)، صحيح سنن الترمذي رقم (2157).(11/66)
الثاني: اتباع الهوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 50].
الثالث: التشبه بالكفار كما قال بنو إسرائيل لموسى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الأعراف: 138].
الرابع: التعصب للآراء والأقوام كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [البقرة: 170].
وقد خلق الله الخلق لعبادته وحده لا شريك له بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله كالشرك وتحريم الطيبات، أو خالفوا ما شرعه الله من أمور دينهم كإبليس ومن أطاعه من الإنس والجن، والذين بدلوا الكتاب من أهل الكتاب من اليهود والنصارى كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 21].
فذنوب المشركين نوعان:
أحدها: أمر بما لم يأمر الله به كالشرك والبدع والمعاصي.
والثاني: نهي عما لم ينه الله عنه كتحريم الطيبات.
فالأول شرع من الدين ما لم يأذن به الله، والثاني تحريم لما لم يحرمه.
فابتداع العبادات الباطلة من الشرك ونحوه هو الغالب على النصارى ومن ضاهاهم من منحرفة المتعبدة.
وابتداع التحريمات الباطل هو الغالب على اليهود ومن ضاهاهم من منحرفة المتفقهة.
فإخلاص الدين لله أصل العدل.. والشرك بالله أصل الظلم وأعظمه.
وقد فطر الله عباده على التوحيد، فاجتالتهم الشياطين فحرمت عليهم ما أحل الله، وأمرتهم بالشرك بالله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2865).(11/67)
والعبادات لا تكون إلا واجبة أو مستحبة، ولا يجوز أن يكون الشيء واجباً أو مستحباً إلا بدليل شرعي يقتضي وجوبه أو استحبابه، وكل ما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة.
وليس لغير النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرع أو يسن، وما سنه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم فإنما سنوه بأمره صلى الله عليه وسلم فهو من سنته.
فلا يكون في الدين واجباً إلا ما أوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ولا حراماً إلا ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ولا مستحباً إلا ما استحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ولا مكروهاً إلا ما كرهه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ولا مباحاً إلا ما أباحه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وكل ما سوى ذلك لا يكون سنة ولا قربة ولا طاعة.
والله عزَّ وجلَّ يقسم بما شاء من مخلوقاته؛ لأنها آياته ومخلوقاته الدالة على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وقدرته وعظمته، فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه.
ونحن المخلوقين لا نقسم إلا بالله عزَّ وجلَّ، وليس لنا أن نقسم بشيء من المخلوقات، ولا نسأله بها؛ لأن ذلك يلزم منه سؤاله بالمخلوقات التي عبدت من دون الله كالشمس والقمر والمسيح والعزير، ومعلوم أن سؤال الله بهذه المخلوقات أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في الإسلام.
فالبدعة: هي الزيادة في الدين بعد كماله، وهي ما فعل الإنسان على سبيل القربة بما لم يكن له أصل في الشرع كالاحتفال بالمولد النبوي، والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج.. والاحتفال بالنعم.. والاحتفال بعيد الميلاد، ونحو ذلك مما لم يكن له أصل في الشرع.
ومن طبيعة البدعة التمدد والتفجر والانتشار، ثم تنتقل من شخص إلى شخص.. ومن بلد إلى بلد آخر على سبيل العدوى والتقليد.
تبدأ بالأفراد على سبيل الاستحسان.. ثم تنتقل إلى الجماعات.. ثم تقود إلى ما هو شر منها.(11/68)
وأكثر من يشيدها وينشرها وينشطها هم العلماء القاصرة أفهامهم، والناقصة عقولهم وعلومهم، والقليل ورعهم، مما يجعل العامة يغترون بهم، وينبعثون على أثرهم.
وباستمرار فعلهم يستقر في نفوس العامة فضلها أو فرضها حتى تصبح ديناً.
والبدع بريد الشرك، وأول ما دخل الشرك على الناس هو بسبب الغلو في الأنبياء والصالحين، حتى صيروا قبورهم أوثاناً يعبدونها من دون الله.
وليس في الدين بدعة حسنة، بل البدع كلها سيئة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
والبدعة الحسنة إنما تكون في العادات لا في العبادات، وحسن المقاصد لا يبيح فعل البدع، وما أحدث قوم بدعة إلا رفع مكانها سنة.
وبدعة الاحتفال بالمولد النبوي أول من ابتدعها هم الفاطميون في مصر لما رأوا النصارى يعظمون المسيح، ويجعلون لهم عيداً يعطلون فيه المتاجر والأعمال، أخذوا يقتدون بهم في تعظيم المولد النبوي، ثم اشتهر وانتشر في البلدان على سبيل العدوى والتقليد الأعمى.
وقد نشأ عن هذه البدعة ما هو شر منها من الغلو والإطراء، والنياحة والبكاء، والقيام والقعود، وضرب الدفوف، وشرب الخمور، واختلاط الرجال بالنساء، وتقبيل الغلمان والمردان.
وقد قام سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفعله، ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم، ولو كان الاحتفال محموداً أو مسنوناً لكان الاحتفال ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي بنبوته وبعثته أعلى وأجل، وأعظم وأفضل من مقام ولادته، فالله امتنَّ على المؤمنين بنبوته وبعثته، لا بمجرد ولادته فقال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 164].
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم كراهيته الغلو والإطراء بقوله: «لا تُطْرُونِي، كَمَا أطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ ا? وَرَسُولُهُ» أخرجه البخاري(1).
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3445).(11/69)
فلا يحل لأحد أن يحتفل بمولده صلى الله عليه وسلم ولا ببعثته ولا بهجرته؛ لأن كل ذلك لم يرد عنه، ولا عن أصحابه أنهم فعلوه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [النساء: 115].
ومنشأ البدع كلها، وسبب انتشارها، أن البدع لو كانت باطلاً محضاً لما قبلت، ولبادر كل أحد إلى ردها وإنكارها، ولو كانت حقاً محضاً لم تكن بدعة، وكانت موافقة للسنة.
ولكنها تشتمل على حق وباطل، ويلتبس فيها الحق بالباطل، فيغتر بها العامة، وينخدع بها الجهال؛ لأنهم يتأثرون بما فيها من الحق، ويغفلون عن كونها محدثة، وعن الضلال الذي تسببه، فكل مؤمن مثلاً يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويوقره، لكن الاحتفال بذلك في يوم خاص، والغلو في الإطراء والمدح له مذموم نهى عنه صلى الله عليه وسلم كما سبق.
والذين عملوا على نشر البدع فريقان:
الأول: فرقة روجت للبدع من غير علم، غلب عليهم الصلاح، ولم يعتنوا بدراسة الأحاديث والسنن، وغفلوا عن أصول العبادات، فاخترعوا رسوماً وهيئات ما أنزل الله بها من سلطان، وجعلوها ديناً يعملون به، ويدعون الناس إليه، وهذا اعتداء على حق الله في التشريع، وإدخال ما ليس من الدين فيه، وانتقاص لحق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بيَّن كل شيء، وترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وفيها إضلال للعباد وظلم لها، بأمرهم بعبادات لم يشرعها الله ولا رسوله: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ??) [الأنعام: 144].
الثاني: فرقة انطوت على الحقد على الإسلام وأهله، فأرادوا عن قصد خبيث ضرب هذا الدين: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الصف: 8].(11/70)
فعمدوا إلى الابتداع في الدين، فكذبوا على الله ورسوله في القواعد والأصول، وفي العبادات والمعاملات، ومع كثرة الجهل، وموت العلماء، وتقصير الدعاة، والإعراض عن طلب العلم، والانشغال بالدنيا، اندرست معالم السنن في كثير من البلاد، وصارت السنة بدعة، والبدعة سنة، وعاد الإسلام في بعض البلاد غريباً كما بدأ.
فأقام الله عزَّ وجلَّ الطائفة المنصورة تنطق بالحق، وتدفع الباطل، وتنشر السنن، وتطهر البلاد من المعاصي والمنكرات والبدع.
فكم هدى الله بهم من ضال؟.. وكم علم بهم من جاهل؟.. وكم رد بهم من تائه؟.. وكم تاب على عاصٍ؟.. وكم أنقذ بهم من هالك؟.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أمَّتِي قَائِمَةً بِأمْرِ ا?، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أمْرُ ا? وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» متفق عليه(1).
وكل من دعا إلى بدعة وضلالة فعليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه؛ لأن اتباعهم له تولد من فعله، ولذلك كان على ابن آدم الأول القاتل لأخيه كفل من ذنب كل قاتل إلى يوم القيامة، كما قال سبحانه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 24، 25].
والتوبة من هذه الذنوب المتولدة بالندم عليها، والاستغفار منها، وعدم إجابة دواعيها، وحبس النفس عن ذلك.
فإن كان المتولد متعلقاً بالغير، فتوبته مع ذلك برفعه عن الغير بحسب الإمكان، ولهذا كان من تمام توبة الداعي إلى البدعة أن يبين أن ما كان يدعو إليه بدعة وضلالة، وأن الهدى في ضده، وأن يصلح العمل في نفسه، وأن يبين للناس ما أخفاه عنهم ليضلهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 159، 160].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3641)، ومسلم برقم (1037) واللفظ له.(11/71)
وقد أكمل الله عزَّ وجل لهذه الأمة دينها، وتركها رسولها على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، ودلها على كل خير، وحذرها من كل شر.
وبناء على ذلك فكل بدعة في الدين مردودة لأمور:
أحدها: أن العقل الإنساني لا يستقل بمعرفة الحسن والقبح.. وما ينفع وما يضر..؛ لقصور فهمه من جهة.. وعدم قدرته من جهة.. ولما ينازعه من هوى وشهوات من جهة أخرى.
ومن هنا كان لا بدَّ من الوحي الإلهي، المنزه عن القصور والغفلة، والجهل والنسيان، فالعقل بمنزلة العين المبصرة، إن كان هناك ضوء أو نور أبصرت الأشياء بحسب قوتها أو ضعفها.
وكذلك العقل إن كان هناك وحي إلهي من كتاب أو سنة أدرك الأشياء على حقيقتها، وعرف مضارها ومنافعها.
الثاني: أن الله تبارك وتعالى قد أكمل لهذه الأمة المسلمة دينها، ولم يحوجها إلى طلب زيادة فيه كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 3].
الثالث: أن الله تعالى وضع سنناً لا تتبدل، وهي منفعلة لكل أحد، فالطعام يشبع بإذن الله، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، وهذه لا تختلف نتائجها التي وضعت من أجلها.
وكذلك ما شرعه الله من عبادات قلبية أو قولية أو فعلية، إذا أداها المؤمن على الوجه المطلوب لأدائها، فإنها لا تختلف نتائجها من تزكية النفس، وتهذيب الخلق، وإصلاح الروح، بخلاف القوانين والبدع التي يضعها الإنسان.
فالقوانين التي وضعها الإنسان لحفظ الأنفس والأموال والأعراض لم تحقق شيئاً يذكر، فالدماء مسفوكة، والأعراض منتهكة، والأموال مسروقة، والأنساب مختلطة.
والبدع الدينية ما زادت أصحابها إلا خبثاً في أرواحهم، وظلمة في نفوسهم، وفساداً في أخلاقهم.(11/72)
ولا فرق بين المبتدع الذي يضع للمؤمنين أنواعاً من الطاعات، ويدعوهم إلى العمل بها لتزكو نفوسهم بها وتطهر، ويرضى عنهم ربهم ويقربهم كما يزعم، وبين المبتدع الذي يسمى الآن بالمشرع القانوني الذي يضع للناس قوانين تحفظ دماءهم وأعراضهم وأموالهم، وتنشر الرحمة، وتشيع الإخاء والمودة بينهم.
فمثلاً يشرع السجن المؤبد بدل القتل.. والسجن المؤقت للزاني بدل الحد.. والسجن للسارق بدل القطع، ونحو ذلك.
لا فرق بين المبتدع الذي يشرع للروح ما يزكيها ويطهرها بزعمه، وبين من شرع للجسم ما يحفظ به نامياً صالحاً، يؤدي وظائفه على الوجه المطلوب.
الكل مبتدع، أدخل في دين الله ما ليس منه، وتكلف ما ليس له بحق، منازع لله في حق التشريع الذي هو من الرب وحده، إذ لا يعرف ما يصلح المخلوق إلا خالقه.
فالذي خلق مخلوقاً هو الذي يشرع له من العبادات ما يزكي به روحه، ومن السنن والحدود ما يربي به جسده، وليس ذلك إلا لله وحده: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 102].
وكل عمل بغير إخلاص ولا اقتداء غير مقبول، بل يضر صاحبه ولا ينفعه كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110].
والمراد من العبودية لله عزَّ وجلَّ تفريغ القلب من المحبوب المزاحم الدخيل الطارئ، ليبقى القلب عل الفطرة، وهي محبة الله بلا مشارك.
فما أسعد من أشرق في قلبه نور الشريعة وضياؤها، وباشر قلبه بشاشة أحكامها، وما اشتملت عليه من المصالح في القلوب والأبدان، وتلقاها صافية من مشكاة النبوة، وأحكم العقد بينها وبين الأسماء والصفات، وتعبد بذلك لربه.
7- فقه العبادات
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [النحل: 36].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ) [يس: 60، 61].(11/73)
حاجة العباد إلى الله أعظم من حاجة الجسد للطعام والشراب، ذلك أن الإيمان بالله وعبادته ومحبته هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه.
فليست عبادة الله تكليفاً ومشقة لأجل الابتلاء فقط، أو لأجل التعويض بالأجرة، فليس ذلك المقصد الأول بالأوامر الشرعية، وإنما يقع ذلك إن وجد ضمناً، وإنما المقصود الأول بالعبادات إرادة وجه الله عزَّ وجلَّ، والتوجه إليه، والإنابة إليه وحده؛ لأنه الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب وحده.
فأوامر الله عزَّ وجلَّ فيها قرة العيون، وسرور القلوب، ولذة الأرواح، وكمال النعيم.
فكل حي وكل مخلوق وكل موجود سوى الله فهو فقير محتاج إلى الله في جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، فيجب أن يكون الله مقصوده، فيعبده محبة وإنابة، وإجلالاً وإكراماً.
والله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم.
أعطاهم في الدنيا أعظم شيء وهو معرفته والإيمان به، ويعطيهم في الآخرة أعظم شيء وهو النظر إليه عزَّ وجلَّ.
وليس في الكائنات كلها ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله وحده، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة ولذة وسرور في الدنيا فهو مفسدة لصاحبه، فضلاً عن أنه لا يدوم.
وكل من أحب غير الله عذب به ولو اجتمع فيه الكمال والجمال.
فكل مخلوق ليس بيده شيء، وليس عنده لنفسه ولا لغيره نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان.
بل ذلك كله بيد الله الذي خلقه ورزقه وهداه، وأسبغ عليه نعمه، فلا يليق بالإنسان أن يتوجه إلى غيره، بل يجب عليه أن يتوكل على الله الذي بيده كل شيء، ويستعين به، ويحبه ويعبده وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ??) [الزمر: 65، 66].(11/74)
وتعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، وإن أحب غير الله حباً تاماً فلا بدَّ أن يسأمه أو يفارقه، ومن أحب شيئاً لغير الله فلا بدَّ أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سبباً لعذابه في الدنيا والآخرة، والضرر حاصل له إن وجد أو إن فقد، فإن وجد حصل له من الألم أكثر من اللذة، وإن فقد تعذب بالفراق وتألم.
وصلاح العبد في عبادة ربه والاستعانة به، ومضرته وهلاكه في عبادة ما سواه، والاستعانة بما سواه.
فكل من توكل على غير الله خاب، وخذل من جهته، وكل من استنصر بغير الله خذل: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [الإسراء: 22].
والله تبارك وتعالى غني حميد، يحسن إلى عباده مع غناه عنهم، يريد بهم الخير، ويحسن إليهم، ويكشف الضر عنهم، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحساناً.
والعباد لا ينفعون إلا لحظوظهم، وكل عبد لا يقصد منفعتك دون نفسه، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان في هذا ضرر عليك.
والرب عزَّ وجلَّ يريدك لك ولمنفعتك بك لا ينتفع بك، فلا ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، وتدعو وتسأل من ضره أقرب من نفعه، وليس له من الأمر شيء كمن: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 12، 13].
لكن أَحْسِن إلى الناس لله لا لرجائهم، وكما لا تخافهم فلا ترجوهم، وارجُ الله ولا ترجُ الناس.
والخلق كلهم لو اجتهدوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا على أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، ولن ينفعوك أو يضروك إلا بإذن الله، فلا تعلق بهم رجاءك.
ولو أصابتك مضرة كالخوف والجوع والمرض لم يقدر جميع الخلق على دفعها إلا بإذن الله، وهم لا يدفعونها إلا لغرض لهم في ذلك.
والإنسان كلما كان أذل لله، وأعظم افتقاراً إليه، وخضوعاً له، كان أقرب إليه، وأعزَّ له، وأعظم لقدره، وأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله عزَّ وجلَّ.(11/75)
والرب سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه، والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم، وأعظم ما يكون العبد قدراً عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه.
فإن أحسن إليهم مع الاستغناء عنهم كان أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتاج إليهم ولو في شربة ماء نقص قدره عندهم بقدر حاجته إليهم.
وهذا من حكمة الله ورحمته ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شيئاً.
والعابد حقاً من جمع بين أمرين:
الأمر الشرعي.. والأمر الكوني.
وعلى هذين الأمرين مدار الدين.
فإن العبد إذا شهد عبوديته لربه، ولم يكن مستيقظاً لأمر سيده، لا يغيب بعبادته عن معبوده، ولا بمعبوده عن عبادته.
بل يكون له عينان ينظر بأحدهما إلى المعبود كأنه يراه، وينظر بالأخرى إلى أمر سيده ليوقعه على الأمر الشرعي الذي يحبه مولاه ويرضاه.
والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وهي حق الله على خلقه، وفائدتها وثمرتها تعود إليهم:
فمن عبد الله وحده بما شرع فهو مؤمن، وثوابه الجنة، ورضوان الله.
ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو مشرك، وجزاؤه النار، وسخط الله عليه.
ومن أبى أن يعبد الله، أو عبد غير الله فهو كافر مستكبر جزاؤه جهنم خالداً فيها، ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110].
فلا بدَّ في العبادة من أصلين:
إخلاص الدين لله.. وموافقة أمره الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم .
وعبادة الله عزَّ وجلَّ مبنية على أصول عظيمة:
أحدها: أن يشرعها الله عزَّ وجلّ كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [الجاثية: 18].
الثاني: أن تكون العبادة خالصة لله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [البينة: 5].(11/76)
الثالث: أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنفعل ما أمر به، ونجتنب ما نهى عنه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الحشر: 7].
الرابع: أن تكون العبادة قائمة على محبة الله وتعظيمه والذل له، وخوفه ورجائه وحده دون سواه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 90].
الخامس: أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير لا يجوز مخالفتها ومجاوزتها كما قال الله في الصلاة: (? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [النساء: 103].
وقال في الحج: (? ? ? ?) [البقرة: 197].
السادس: أن يقوم بالعبادة من البلوغ إلى الوفاة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ??) [الحجر: 99].
السابع: أن يقوم بالعبادات حسب استطاعته كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 16].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» متفق عليه(1).
والإنسان عبد فقير إلى الله من جميع الوجوه:
من جهة خلقه.. ومن جهة رزقه.. ومن جهة بقائه.. ومن جهة عبادته له.. ومن جهة استعانته به.. ومن جهة هدايته له.
والعبادة لها معنيان:
أحدهما: بمعنى الطاعة والاستسلام، ويشمل ذلك كل ما في الكون كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 83].
الثاني: بمعنى العابد طوعاً، وهو المؤمن الذي يعبد الله، ويستعين به.
وهذه العبودية قد يخلو منها الإنسان تارة، وأما الأولى فهي وصف لازم له، إذا أريد بها جريان القدر عليه، وتصريف الخالق له، والاستسلام له.
والذل لازم لكل عبد، وإن كان أحياناً يعرض عن ربه ويستكبر، إلا أنه عند الاضطرار لا بدَّ من الخضوع له، والاستسلام لأمره.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7288)، ومسلم برقم (1337) واللفظ له.(11/77)
لكن المؤمن يسلم له طوعاً فيحبه ويطيع أمره، والكافر إنما يخضع لله عند رغبة أو رهبة، فإذا زال ذلك عنه أعرض عنه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 67].
والأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب كغيرها من الأسباب، فالأعمال الصالحة كلها من توفيق الله ومَنِّه وفضله، وصدقته على عبده، فقد وفقه الله لها، وأقدره عليها، وأعانه عليها، وحببها إليه، وزينها في قلبه، وكره إليه أضدادها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 17].
ومع هذا فالأعمال ليست ثمناً لجزائه وثوابه، ولا هي على قدره سبحانه، بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده وأوقعها على أكمل الوجوه أن تقع شكراً لله على بعض نعمه عليه.
فلو طالبه ربه بحقه لبقي عليه من الشكر على ما يعلمه وما لا يعلمه ما لم يخطر بباله.
والعبد له في المأمور ثلاثة أحوال:
الأول: حال قبل الفعل، وهو العزم على الامتثال، والاستعانة بالله على ذلك.
الثاني: حال أثناء الفعل، وهو أن يؤديه أداءً حسناً كما جاء في السنة يبتغي به وجه الله عزَّ وجلَّ.
الثالث: حال بعد الفعل، وهو الاستغفار من التقصير، وشكر الله على ما أنعم به من الخير.
والناس في العبادة والاستعانة أربعة أصناف:
الأول: أهل العبادة لله والاستعانة به، وهؤلاء خيار الناس وأفضلهم، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها، فإن أنفع الدعاء طلب العون على مرضاة الله كما قال سبحانه: (? ? ? ?ٹ) [الفاتحة: 5].
الثاني: المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فإن سأله أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربه وحقوقه، وهؤلاء شر الناس.
الثالث: من لهم نوع عبادة بلا استعانة.
الرابع: من شهد تفرد الله بالنفع والضر، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولم يدر مع ما يحبه الله ويرضاه، فتوكل عليه واستعان به على حظوظه وشهواته فقضيت له ولكن لا عاقبة له.(11/78)
فهذه لا تستلزم الإسلام فضلاً عن الولاية والقرب من الله.
فالأموال يعطيها الله المؤمن والكافر.. والبر والفاجر.. فلا تدل على محبة الله للعبد.
والله سبحانه يسأله من في السموات والأرض.. يسأله أولياؤه وأعداؤه.. ويمد هؤلاء وهؤلاء، وأبغض خلقه إليه عدوه إبليس سأله حاجة وهي طلب الإنظار إلى يوم البعث فأعطاه الله إياها، ولكن لما لم تكن عوناً له على مرضاته كانت زيادة له في شقوته، وهكذا بنو آدم.
وإجابة الله لسائليه ليست لكرامة كل سائل، بل يسأله العبد الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينه، ويكون منعه لكرامته عليه ومحبته له، فيمنعه حماية وصيانة لا بخلاً.
يفعل الله هذا بمن يحب فيظن بجهله أن الله لا يحبه، فعطاؤه ومنعه ابتلاءً واختباراً، أيشكرني إذا أعطيته فأعطيه فوق ذلك؟، أم يكفرني فأسلبه إياه؟.
وإذا ضيقت عليه أيصبر فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق؟، أم يتسخط فيكون حظه السخط؟.
والله سبحانه إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته، ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته.
فله الحمد على هذا.. وعلى هذا.. وهو الغني الحميد.
وحب الله ورسوله وطاعة الله ورسوله لا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما.
فكل من قدم طاعة أحد على طاعة الله ورسوله.. أو قدم قول أحد على قول الله ورسوله.. أو قدم مرضاة أحد على مرضاة الله ورسوله.. أو قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله.. فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
والعبودية تقوم على أصلين عظيمين:
كمال الحب لله.. وكمال التعظيم لله والذل له.
وذل العبودية له أربع مراتب:
الأولى: ذل الفقر والحاجة إلى الله، ويدخل في هذه جميع الخلق، فجميع أهل السموات والأرض محتاجون إلى الله فقراء إليه، وهو وحده الغني عنهم.
الثانية: ذل الطاعة والعبودية، وهو ذل الاختيار، وهذا خاص بأهل طاعته، وهو سر العبودية.(11/79)
الثالثة: ذل المحبة، فالمحب ذليل لمحبوبه، وعلى قدر جماله وجلاله وكماله وإحسانه تكون محبته، وعلى قدر محبته له يكون ذله له.
الرابعة: ذل المعصية والجناية، فإذا وقع العبد في الجناية والمعصية أوجب له ذلك ذلاً وانكساراً بين يدي ربه.
فإذا اجتمعت هذه الأربع كان الذل لله والخضوع له أتم وأكمل، فيذل له خوفاً وخشية، ومحبة وإنابة، وطاعة وعبودية، وفقراً وفاقة.. وهذا لب العبودية وسرها.
وحصولها للعبد أنفع شيء له، وأحب شيء إلى الله.
والعبادات الواردة في الشرع أربعة أقسام:
الأول: ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سن كل واحد من الأمرين، واتفقت الأمة على أن من فعل أحدهما لم يأثم بذلك، لكن اختلفوا في الأفضل كالدعاء في آخر التشهد، وأدعية الاستفتاح في الصلاة، فهذه ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلها سائغة.
الثاني: ما اتفق العلماء على أنه إذا فعل كلاً من الأمرين كانت عبادته صحيحة ولا إثم عليه، لكن تنازعوا في الأفضل، وفيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله كالقنوت في الفجر والوتر، والجهر بالبسملة، وصفة الاستعاذة ونحوها من المسائل.
الثالث: ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سن فيه الأمرين، لكن بعض أهل العلم حرم أحد النوعين أو كرهه لكونه لم يبلغه أو تأول الحديث.
والصواب أن ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو مسنون لا ينهى عن شيء منه كأنواع التشهدات في الصلاة، وألفاظ الأذان والإقامة، وأنواع صلاة الخوف، والصوم والفطر في السفر.
الرابع: ما تنازع فيه العلماء، فأوجبه أحدهم أو استحبه، وحرمه الآخر، والسنة لا تدل إلا على أحد القولين.
فهذا أشكل الأقسام كالنزاع في قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر، وتحية المسجد في أوقات النهي ونحوهما.
والصواب عدم قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر، وأداء تحية المسجد وإن كان وقت نهي لثبوت الأدلة على ذلك.(11/80)
ودين الإسلام يقوم على خمسة أركان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ ا?، وَإقَامِ الصَّلاةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» متفق عليه(1).
وإذا كان الإسلام لا يقوم بلا أركان، فإن الإسلام وأركانه الأربعة لا يقوم بلا شهادتين، بل لا يكون موجوداً أصلاً.
فالشهادتان بالنسبة للإسلام كله كالروح بالنسبة للجسد، فكما أن كل ذرة من ذرات الجسد لا تكون بها حياة إلا بالروح فكذلك (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) هي حياة كل جزء من أجزاء الإسلام.
فأي عمل يعمله الإنسان من الإسلام لا يكون نابعاً من هذا الأصل يعتبر ميتاً، وهو في ميزان الله معدوم، ولذلك فإن الكافرين لا قيمة لأعمالهم عند الله ولو كانت صالحة؛ لأنها ميتة لا روح فيها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [الفرقان: 23].
وكذلك المسلم إذا عمل عملاً صالحاً ولم يكن في عمله روح الشهادتين فإنه يكون غير مقبول لفقده الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110].
وهاتان الشهادتان لا تنفصل إحداهما عن الأخرى، فشهادة أن لا إله إلا الله تتمها شهادة أن محمداً رسول الله.
فإذا قال المسلم (لا إله إلا الله) فإنه يعتقد جازماً أنه لا معبود بحق إلا الله.. ولا مطمأن إليه، ولا مستجار به إلا الله.. ولا محبوب ولا معبود بحق إلا الله.. ولا ملك ولا مطاع إلا الله.. ولا معظم ولا معتصم به إلا الله.. ولا سيد ولا حاكم ولا خالق إلا الله.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (8) واللفظ له، ومسلم برقم (16).(11/81)
فالإيمان به واجب.. والتوكل عليه واجب.. ومحبته واجبة.. والاستجارة بغيره باطلة.. ومحبته فريضة.. ومعاني العبودية وأنواع العبادة لا تقدم إلا له.. وهو مالكي وحده فلا أطيع غيره إلا بإذنه.. وهو المستحق للتعظيم فبه أعتصم.. وهو الذي له حق السيادة المطلقة على البشر.
فهو صاحب الحق في الأمر والنهي، وهو صاحب الحق في التحليل والتحريم، وهو صاحب الحق في التشريع.
وشهادة أن لا إله إلا الله لا تنجي صاحبها من الكفر والإثم إلا إذا شهد أنه لا إله إلا الله بالعقل والقلب.. وشهد على هذا بلسانه.. وأن تكون شهادته جازمة لا شك فيها.
ولا يقوم الإنسان بلوازم لا إله إلا الله إلا إذا عرف رسوله، وتعرف بواسطة رسوله على الطريق الذي ينبغي أن يسلكه ليحقق مراد الله منه، باتباع ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم .
لذلك كانت معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم تعدل معرفة الله سبحانه، إذ لا يقوم أحد بحق الله إلا إذا عرف رسوله الذي أرسل بدينه، وفوز الإنسان وفلاحه مرهون بطاعة الله ورسوله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 71].
والإيمان بالرسول يقتضي طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
ولذلك كان شعار الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولا تغني واحدة منهما عن الأخرى.
وقد أمر الله كل مسلم بعد إقراره بالشهادتين أن يقيد حياته بأربعة أشياء:
الصلاة.. والزكاة.. والصيام.. والحج.
وهذه هي أركان الإسلام مع الشهادتين، وهي تتعلق:
بنفس الإنسان.. ومال الإنسان.. وشهوة الإنسان.. وطبيعة الإنسان.
وفي كل منها تمرين لتنفيذ أوامر الله على نفس الإنسان، وماله، وشهوته، وطبيعته حسب ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .(11/82)
فلا يقضي الإنسان حياته حسب هوى نفسه، بل حسب أمر الله ورسوله، ولا يتصرف في ماله حسب هواه، بل حسب أمر الله ورسوله، ولا يقضي شهوته حسب هواه، بل حسب أمر الله ورسوله، ولا يقضي حياته حسب طبيعته ومزاجه كالحيوان، بل حسب أمر الله ورسوله.. وهكذا.
والمطلوب من المسلم أن ينفذ أوامر الله ورسوله في جميع الأحوال، فكما ينفذ أوامر الله في الصلاة على كل عضو من أعضائه من القراءة والركوع والسجود ويصلي بقلبه ولسانه وجوارحه، ويصلي كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حسب مزاجه وهواه، بل حسب أمر الله ورسوله.
فكذلك مطلوب من هذا المصلي أن يكون خارج الصلاة مطيعاً لربه في شئون الحياة كلها كما هو مطيع لربه داخل الصلاة، فيكون كأنه في الصلاة مطيعاً لربه في جميع أحواله في نفسه، في بيته، في معاشرته، في أخلاقه.
وفي الزكاة تطهير وتزكية لأصحاب الأموال من البخل والحرص، وتطهير لأموالهم مما يفسدها وإنقاذ للفئات المحتاجة من هوان الفقر والحاجة.
وفي الصيام تمرين للعبد على تقديم أوامر الله على شهوات النفس، وكلما اصطدمت شهوات النفس مع أوامر الله قدم أوامر الله في الصيام، وهكذا في سائر شئون حياته المختلفة.
وكما يلتزم في رمضان بكيفية الصيام كذلك يلتزم في غير رمضان بأوامر الله ورسوله في طعامه وشرابه، وحركته ونومه، وفي سائر أحواله طيلة العام.
والحج يرمز لاستسلام الإنسان لله إذا بلغه أمر الله بواسطة رسوله، إذ ينفذ الأمر بصرف النظر عن المعنى العملي لهذا الأمر، وما الطواف والسعي والوقوف والحلق والرمي وغيرها من أعمال الحج إلا رمز لاستسلام المسلم لأمر الله دون نقاش.
وهو رمز لوحدة الأمة الإسلامية، ومظهر عملي للأخوة الإسلامية، والمسابقة إلى الأعمال الصالحة، وخضوع المسلمين لربهم.(11/83)
والحج مدرسة يتعود فيها المسلم، ويرتفع بها إلى آفاق أعلى، يتعلم بها على بذل الجهد مع الصبر، وأن يعيش في عبادة دائمة، أن يكون لطيفاً مع المؤمنين ويتعلم بها دروس العبودية، وكيف ينفق في سبيل الله دون مقابل، وكيف يعظم ما عظمه الله، وكيف يحقِّر ما حقَّره الله، وكيف يوالي من والى الله، ويعادي من عادى الله.
ويتعلم مشاعر الولاء لله والرسول والمؤمنين، ومشاعر التوجه الخالص لله، ومشاعر التجرد عن الدنيا، والإقبال على الآخرة، ومشاعر العزم على فتح صفحة جديدة مع الله، وغير ذلك من العبر والمعاني والعظات.
والعبادات على أربعة أقسام:
منها ما يتعلق بالمكان والزمان كالحج.
ومنها ما يتعلق بالمكان دون الزمان كالعمرة.
ومنها ما يتعلق بالزمان دون المكان كالصيام.
وغالبها لا يتعلق بزمان ولا مكان كالصلاة والزكاة والصدقة والذكر وتلاوة القرآن ونحو ذلك.
فما أعظم هذه الشريعة، وما أعدل أحكامها.
وهذه إشارة مختصرة إلى فقه الصلاة والزكاة والصيام والحج والذكر والدعاء.
1- فقه الصلاة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پپ) [البقرة: 238].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 45].
الله عزَّ وجلَّ له الخلق والأمر، وله العبادة، وبه الاستعانة، ومنه النعم والثواب والعقاب، وإليه المرجع والمآب.
والمخلوقات بالنسبة للطاعة والعبادة قسمان:
الأول: من خلقه الله للطاعة والعبادة، فهم مسخرون لذلك منقادون له، وقد أعلمهم الله وألهمهم كيف يعبدونه، ونحن لا نعلم كيفية ذلك، وهم درجات، وهؤلاء جميع الخلائق في العالم العلوي، وفي العالم السفلي سوى الثقلين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 41].
وقال سبحانه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [الإسراء: 44].
فهذه عبادة، وصلاة، وتسبيح حقيقة يعلمها الله وإن جحدها الجاهلون المكذبون.(11/84)
الثاني: الإنس والجن وهؤلاء قسمان:
فمنهم الجاحد الكافر الذي لا يصلي، فهو شاذ ناشز عن جميع المخلوقات التي أسلمت لربها وأطاعته.
ومنهم المؤمن المطيع، فهذا خير البرية، أكرمه الله بالإيمان، وعلمه كيف يتقرب إلى ربه ويناجيه، ويعظمه ويحمده، ويسأله ويستغفره، بما شرع له من الصلاة التي يتصل فيها المخلوق بخالقه، ويقرب منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ» أخرجه مسلم(1).
وإقامة الصلاة معناها توجه الإنسان بكليته إلى ربه ظاهراً وباطناً، جسماً وعقلاً وروحاً.
والصلاة هي العبادة الكبرى في الإسلام، وهي مظهر لنشاط قوى الإنسان الثلاث، وتوجهها جميعاً إلى خالقها في آن واحد:
فالقيام والركوع والسجود تحقيقاً لحركة الجسد.
والقراءة والتدبر والتفكر تحقيقاً لنشاط العقل.
والتوجه والاستسلام والخشوع تحقيقاً لنشاط الروح.
كل ذلك في آن واحد، ومن أجل هذه المنافع فرضها الله خمس مرات يومياً على جميع المسلمين كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [النساء: 103].
والصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي صلة بين العبد وربه، وهي معراج المؤمن إلى ربه.
والصلاة لها جسد وروح.. وأقوال وأفعال.. وسنن وأحكام.. وبدء وختام.. ولها أحكام على البدن.. وأحكام على العقل.. وأحكام على الروح.
والصلاة تشتمل على أمور عظيمة من:
تعظيم الله وتكبيره.. وحمده والثناء عليه.. وسؤاله.. واستغفاره.. والصلاة على أفضل من عبده ودعا إليه.
فالتعظيم بقولنا: (الله أكبر) في مواضعها، والقيام والركوع والسجود، وقولنا: (سبحان ربي العظيم) في الركوع، و(سبحان ربي الأعلى) في السجود. وقولنا في دعاء الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك) وقولنا في الفاتحة: (? ? ? ?? پ پ پ پ? ? ?? ? ? ??) [الفاتحة: 1-4].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (482).(11/85)
والحمد بقولنا: (پ پ پ پ?) [الفاتحة: 2].
وقولنا بعد الركوع: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد).
وقولنا في التشهد: (التحيات لله والصلوات والطيبات).
والسؤال بقولنا في الفاتحة: (ٹ ٹ ٹ?) [الفاتحة: 6].
وقولنا بين السجدتين: (رب اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، واجبرني وعافني).
وقولنا في التشهد الأخير: «اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» أخرجه مسلم(1).
والاستغفار بقولنا بين السجدتين: (اللهم اغفر لي).
وفي التشهد الأخير: «اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، وَمَا أسْرَفْتُ، وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إِلَهَ إِلا أنْتَ» أخرجه مسلم(2).
وقولنا بعد السلام: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله.
وفي ختام الصلاة بعد التشهد الأخير ثناء ودعاء لمن بذل نفسه وماله ووقته في سبيل إعلاء كلمة الله، وأحسن عبادة ربه، وهما الخليلان محمد وإبراهيم عليهما أفضل الصلاة والسلام، لنذكر عبادتهما وأعمالهما وأخلاقهما ونقتدي بهما: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» متفق عليه(3).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (588).
(2) أخرجه مسلم برقم (771).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3370) واللفظ له، ومسلم برقم (406).(11/86)
والله عزَّ وجلَّ بحكمته جعل الدخول عليه في الصلاة موقوفاً على الطهارة، فلا يدخل المصلي عليه حتى يتطهر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفاً على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا طيب طاهر، فهما طهارتان:
طهارة القلب بالتوبة.. وطهارة البدن بالماء.
فإذا اجتمع للعبد هذان الطهران صلح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته في الصلاة.
فالجنة طيبة لا يدخلها من في قلبه نجاسة وخبث؛ لأنها دار الطيبين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 73].
فمن تطهر في الدنيا بالإيمان والتوحيد والتوبة والأعمال الصالحة، ولقي الله طاهراً من نجاساته دخلها بغير معوق.
ومن لم يتطهر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينية كالكافر والمشرك لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر من النار من تلك النجاسة، أو يغفر الله له.
والطاعات والحسنات تكسب القلب حياة ونوراً، والمعاصي والخطايا توجب للقلب حرارة وظلمة، ونجاسة وضعفاً، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة، فالخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها.
ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب، واشتد ضعفه، والماء يغسل الخبث، ويطفئ النار.
فإن كان بارداً أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم، فكان أذهب لأثر الذنوب والخطايا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ! نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ! اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ» متفق عليه(1).
فالنجاسة تزول بالماء.. والخطايا تزول بالتوبة.. وصلاح القلب ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، ومسلم برقم (598) واللفظ له.(11/87)
وكما أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، فكذلك الذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه، فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، يزول الأول بالتخلص منه، ويزول الثاني بالتوبة والاستغفار.
ولله المنَّة والفضل في كل عمل صالح، وكلما عظمت طاعة العبد كانت منَّة الله عليه أعظم، فهو المانُّ بفضله، ولو أتى الناس بكل طاعة، وكانت أنفاسهم كلها طاعات لله لكانوا في محض منَّته وفضله، وكانت له المنَّة عليهم.
ولمنافع الصلاة العظيمة ولحاجة المسلم لهذه الصلاة كل وقت، شرعها الله خمسين صلاة على المسلم، ثم خففها إلى خمس في العمل، وخمسين في الأجر رحمة منه وفضلاً.
والصلاة غذاء للمسلم لا يستغنى عنه كما لا يستغني عن الطعام والشراب؛ لما فيها من ذكر الله ومناجاته، والتلذذ بتلاوة كتابه، وتعظيمه وتكبيره، وحمده وشكره، وسؤاله من خيري الدنيا والآخرة، والاستغفار من الذنوب التي يقع فيها المسلم كل يوم.
وما أعظم افتتاح الصلاة باسم الله (الله أكبر)، وختامها باسم الله (السلام عليكم ورحمة الله).
فإن المصلي لما تخلى عن الشواغل، وقطع جميع العلائق، وتطهر وأخذ زينته، وتهيأ للدخول على ربه ومناجاته، شرع له أن يدخل عليه دخول العبيد على الملوك، فيدخل بالتعظيم والإجلال، فشرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى وهو قول: (الله أكبر).
فإذا استشعر المصلي بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيا منه أن يشغل قلبه في الصلاة بغيره.
فإذا حضر القلب في الصلاة انتقل إلى فهم المعنى، ثم ارتحل وأناخ بباب المناجاة فعظم ربه وحمده، وسأله واستغفره، ثم انصرف بأنواع التحف والخيرات.
وما دام المصلي في صلاته بين يدي ربه، فهو في حماه الذي لا يستطيع أحد أن يخفره بل هو في حمىً من جميع الآفات والشرور.
فإذا انصرف من بين يدي ربه تبارك وتعالى ابتدرته الآفات والبلايا والمحن، وتعرضت له من كل جانب، وجاء الشيطان بمصائده وجنده، فهو معرض لأنواع البلايا والمحن.(11/88)
فإذا انصرف من بين يدي الله مصحوباً بالسلام لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقت الصلاة الأخرى، فكان من تمام النعمة انصرافه من بين يدي ربه بسلام يستصحبه ويدوم له ويبقى معه.
والصلاة تشتمل على عبودية القلب، وعبودية الجوارح والأعضاء، فلكل عضو منها نصيب من العبودية، فجميع أعضاء المصلي وجوارحه متحركة في الصلاة عبودية لله، وذلاً له وخضوعاً.
فإذا أكمل المصلي هذه العبودية، وانتهت حركاته، ختمت بالجلوس بين يدي الرب تعالى جلوس تذلل وانكسار وخضوع لعظمة الله عزَّ وجلَّ، كما يجلس العبد الذليل بين يدي سيده.
ولما كان جلوس الصلاة أخشع ما يكون من الجلوس، وأعظمه خضوعاً وتذللاً لله، أذن الله تبارك وتعالى لعبده في هذه الحال بالثناء على الله أبلغ أنواع الثناء وهو: التحيات لله والصلوات والطيبات، كعادتهم إذا دخلوا على ملوكهم أن يحيوهم يما يليق بهم.
والله جل جلاله أحق بالتعظيم والثناء من كل أحد، فالثناء كله لله، والتحيات كلها لله، والصلوات كلها لله، والطيبات من الكلمات والأقوال والأفعال كلها لله.
فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإليه يصعد الكلم الطيب، والصلاة مشتملة على عمل صالح، وكلم طيب، والسلام من أسماء الله الحسنى، فهو السلام الحق بكل اعتبار.
وقبول الصلاة يتوقف على تحقيق ستة أشياء:
الإيمان بالله.. وصفة الإحسان.. وصفة الإخلاص.. وصفة العلم.. واستحضار عظمة الله.. وأداء حقوق الناس.
وإذا أقيمت الصلاة هكذا جاءت المعاملات طيبة، والمعاشرات طيبة والأخلاق طيبة.
وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتصفون بخمس صفات جذبت قلوب الكفار إلى الإسلام وهي:
الإيمان.. والعبادات.. وحسن المعاملات.. وحسن المعاشرات.. وحسن الأخلاق.
ففي الأسواق جذبهم إلى الإسلام حسن الأخلاق، وحسن المعاملات، وفي البيوت جذبتهم حسن المعاشرات.
وفي المساجد جذبتهم صفات الإيمان، وحسن العبادات، فتأثروا بذلك ودخلوا في دين الله أفواجاً.(11/89)